المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم القرآن والحديث والدعاء
التوضيح
هو العليم
ترك حجّ التمتّع سُنّةُ من؟
مناقشة العلامة الطهراني لتحريم عُمَر
"حجّ التمتع"
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى االله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم
تعريف الحجّ، العمرة، وحجّ التمتّع.
لا بدّ بداية من التنبيه على أنّ الحجّ والعمرة كانا عملين مستقلّين قبل الإعلان عن تشريع حجّ التمتّع ضمن حجّة الوداع. فقد كان الحجّ عبارة عن: الإحرام من الميقات، والوقوف في عرفات، والمشعر، ومناسك منى، والطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة. وكانت تجري هذه الأعمال في أشهر خاصّة: الْحَجُّ أشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ .۱ ومن أحرم للحجّ في غير هذه الأشهر فحجّه باطل.
وكانت العُمْرَة عبارة عن: الإحرام من الميقات، والطواف حول بيت الله الحرام، والصلاة، والسعي بين الصفا والمروة، والحَلْق أو التقصير، ولم يكن لهذه الأعمال وقت معيّن، بل كانت تؤدّى في أيّ يوم أو ليلة في السنة.
وأمّا بعد تشريع حجّ التمتّع فقد صار الحجّ على قسمين قسم لأهل مكّة وجوارها وآخر لغيرهم. فأما أهل مكّة وجوارها فقد بقي حجّهم كما كان، وأما غيرهم فأدخلت فيه العمرة وصار الحاجّ يحرم من الميقات للعمرة، وبعد الفراغ منها يحلّ من إحرامه وتحلّ له محرّمات الإحرام، فيستمتع بها إلى اليوم الثامن من ذي الحجّة حيث يشرع بأعمال الحجّ ويحرم له من مكّة، ويؤدّي سائر أعماله. ولدخول العمرة في الحجّ والتمتّع بما يحرم على المحرم بينهما سمّي هذا الحجّ بحجّ التمتّع وعمرته بعمرة التمتّع.
وتجدر الإشارة إلى أنّ غير حجّ التمتّع ـ والذي هو تكليف حاضري المسجد الحرام ومجاوريه ـ إن قرن فيه الحاجّ الهدي معه وساق الأضحية سمّي حجّ قران، وإلا سمّي حجّ إفراد، وهما لا يختلفان في أعمالهما بغير ذلك.
بيان الخلاف بين السنّة والشيعة حول حجّ التمتّع والدافع إلى البحث
يتّفق الجميع دون أدنى شكّ على تشريع حجّ التمتّع للبعيدين عن المسجد الحرام، وأنّ ذلك كان في حجّة الوداع حيث أحلّ جميع الناس من إحرامهم بأمر رسول الله، وتمتّعوا، ثمّ أحرموا ثانية للحجّ. وكذلك يتّفقون على بقاء هذا الحكم في عصر أبي بكر، ومدّة من حكومة عمر.
ولا خلاف بين الشيعة والسنّة في هذه المسألة، إلاّ أنّ الشيعة تقول: إنّ الحكم باق إلى يوم القيامة كما شرّعه الله و رسوله. وأمّا العامّة فيقولون: إنّه نسخ في عصر عمر، و إنّ عمر رفعه، وسنّته واجبة التطبيق كسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
هذا هو أصل الموضوع الذي يستفاد من المناقشات القائمة بين الطرفين و ردودهما و مؤاخذاتهما. ولسنا هنا في حاجة إلى نقل الروايات المتواترة عن الشيعة وأئمّتهم حول المسألة، حيث لا شبهة في دعواهم بعد تصريح القرآن و إعلان الرسول المتكرّر في مكّة. وسنكتفي بالبحث عن مواطن إعلان رسول الله لذلك التشريع، وبالبحث القرآني الذي يبيّن الآية التي تناولت حجّ التمتّع، وبالبحث الروائي الخاص بالروايات المعتبرة عند إخواننا من أهل السنّة، حفظاً لروح الأخوّة، والتزاماً بمبدأ الرفق في الجدال، يتلو ذلك بحث وجيز حول موقف الخليفة الثاني من هذا الحجّ والجهات المدّعاة على رفضه، واقفين عندها وقفة تأمّل ونظر.
ولا يدفعنا إلى ذلك سوى لفت النظر والتعاون مع إخواننا على الوصول إلى الحقّ، آملين أن يكون البحث مفيداً لهم أجمعين، وذلك إذا لم تتّخذ منه مواقف المخاصمة والمعاداة، وإذا سرنا فيه معاً خطوة تلو خطوة من منطلق البحث عن الحقيقة والرؤية الأصيلة.
إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَي لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.۱
مواطن الإعلان عن تشريع حج التمتع ودخول العمرة في الحجّ
هناك موطنان أعلن فيهما رسول الله تشريع حجّ التمتّع، فقد ذكر كلّ من ابن الأثير وابن هشام في حديثهما عن حجّة الوداع أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم "لمّا كان بسَرِف٢ أمر الناس أن يحلّوا بعمرة ويلبّوا بنيّة العمرة، ويعتمروا إذا دخلوا مكّة إلاّ من ساق الهدي، وكان رسول الله صلّى الله عليه [ وآله وسلّم] قد ساق الهدي وناس معه".٣
والموطن الثاني هو بعدما دخل النبيّ صلّى الله عليه وآله مكّة وطاف وصلّى وأحيى السعي بعد أن كان العرب قد استنكفوا عنه في الجاهليّة. فلمّا فرغ من سعيه ووقف على جبل الْمَرْوَة قال: أيها الناس، نزل عليّ الساعة جبرائيل ٤، و هو يأمر كلّ من لم يقرن هدياً أن يحلّ من إحرامه، أراد بذلك الذين عصوه في سرف، أمّا الذين قرنوا الهدي، فأمرهم أن يبقوا على إحرامهم حتّى ينحروا هديهم في محلّه من منى.٥
وجاء في “ السيرة الحلبيّة “ : قال السُهَيليّ : ولم يكن ساق الهدي معه من أصحابه إلاّ طلحة بن عبد الله، وكذا [ أمير المؤمنين ] عليّ [ بن أبي طالب عليه السلام] جاء من اليمن وقد ساق الهدي معه.۱
البحث القرآني
قال تعالى:
فَإذَا أمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ في الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ٢
تصرّح الآية الكريمة بأنّ على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ـ وهم ما عدا أهل مكّة والقرى والضواحي القريبة منها ـ أن يحجّ حجّ التمتّع، ثمّ ينحر ما استيسر من الهدي، من الإبل والبقر والضأن في مِنى. وأمّا من كان أهله مجاورين للمسجد الحرام، فعليه أن يحجّ حجّ الإفراد وحجّ القِران من غير تمتّع.
فإنّ قوله تعالى : ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. يحدّد التكليف اللازم الذي يخصّ الناس البعيدين عن المسجد الحرام على نحو الوجوب. و هذا الحكم باق إلى يوم القيامة بإطلاق الآية، و بنصّ رسول الله الصريح عندما شبك أصابعه في جواب سُراقة بن مالك وقال: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ هَكَذَا ـ مَرَّتَيْنِ ـ بَلْ لأبَدِ الأبَدِ .٣
والسبب في ذلك : أنّ الشريعة الإسلاميّة السهلة السمحاء رفعت عن الحجّاج التكليف المتمثّل بشهرين أو أكثر من الإحرام الإلزاميّ، وذلك أنّ لمن نوى الحجّ أن يحرم من الميقات في الأوّل من شوّال وهو عيد الفطر، ثمّ يأتي مكّة، ولم يكن له أن يحلق ويقصّر بعد دخولها وقيامه بالطواف فيها وصلاته، والسعي، بل كان عليه أن يبقى في لباس الإحرام، مبتعداً عن النساء، وعن كلّ مُحَرَّم على المحرم، منتظراً أن تنقضي أيام عرفة والمشعر، وأن يَحلَّ يوم الأضحى ليحلّ من إحرامه، ويتمّ حلّه بالطواف في مكّة. وعلى هذا ربّما دام إحرام الحاجّ سبعين يوماً. فقد كانت نفس أعمال الحجّ شاقّة من وجهة نظر الدين الإسلاميّ المقدّس ومن جهة أخرى يشقّ الإحرام إذا دام سبعين يوماً، سيّما على الشباب الذين تتّقد فيهم الغريزة الجنسيّة إثر الأجواء الحارّة، فيشعرون بالميل إلى النساء، ولعلّهم لا يطيقون تركهنّ تلك المدّة فينفد صبرهم. وربّما اضطرّ إلى مواقعة زوجاتهم أولئك الحجّاج الذين يصطحبونهنّ معهم إلى الحجّ؛ فيبطل حجّهم بذلك وتجب عليهم الكفّارة. وربّما كان الحجّاج وحدهم فلجأوا إلى الزنا لا سمح الله، وعندئذٍ ينقلب هذا العمل الروحيّ وهذه الفريضة التي تمتّع الروح وتفيض بالنور إلى عمل شيطانيّ، حيث يبتلى خلاله الإنسان بعفريت الظلمة الشهوانيّة، ممّا يدعو إلى الكآبة والبؤس والظلمة.
كما من المتحمل أن تكون هناك أسباب أخرى لا نعلمها نحن الجاهلون، والله ورسوله أعلم بها. والنتيجة أنّ الله جلّ وعلا كلّف رسوله صلى الله عليه وآله في رحلته الأخيرة إلى الحجّ، بأن يُدخل حجّ غير أهل الحرم و القرى القريبة من مكّة في العمرة، بحيث يصيران عملاً واحداً، فلا يعود هؤلاء المحرمون من الميقات يحرمون ويلبّون للحجّ، بل يحرمون ويلبّون للعمرة، ثمّ يأتون إلى مكّة، ويؤدّون عمرتهم التي لا تستغرق بضع ساعات، يبقون بعدها بغير إحرام حتّى اليوم الثامن من ذي الحجّة، وهو يوم التحرّك إلى منى وعرفات. أما إحرامهم للحجّ حينئذ وتلبيتهم به فيصيران من مكّة، ليمضوا بعدهما إلى عرفات، والمشعر، ومنى، ويؤدّوا مناسكهم، وبذلك هم يعتمرون و يحجّون في آن معاً. و في الوقت نفسه فإنّ مدّة الإحرام التي كانت تسبّب حرجاً، لم تعد تستغرق مدّة طويلة؛ ذلك لأنّها في العمرة هي مدّة السير من الميقات إلى مكّة إضافة إلى أعمال العمرة التي لا تستغرق غير وقت يسير. وكذا زمان الحجّ فهو من اليوم التاسع إلى اليوم الثاني عشر الذي تنتهي فيه المناسك، وليس هذا بوقت طويل أيضاً، فقد رفعت المشقّة في الحجّ الواجب بشكل إلزاميّ، وصار بإمكان أولئكم الاستراحة في الوسط العائليّ خلال الفترة الكائنة بين العمرة والحجّ، وصار لهم التمتّع باللذائذ التي أحلّها الله لهم.
والإشارة اللطيفة في قوله تعالى : لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. هي أنّ المسافر يحتاج إلى السكينة والهدوء والأهل. ومن كان معه أهله فإنّه يتمتّع بنعمة الحضور كحاضري المسجد الحرام. و من لم يكن أهله حاضري المسجد، وهو بحاجة إلى السكينة والهدوء، فإنّ السماح له بالتمتّع بما يحرم عليه هو بمنزلة حضور الأهل و وجود السكينة والهدوء في مقابل ذلك. و التمتّع بالنساء والجواري بديل عن حضور الأهل و العائلة.
ولمّا كانت أرضيّة الاعتراض على هذا التشريع السماويّ موجودة بين الناس من قبل، لذلك أمر الله بالتقوى في تتمّة الآية مؤكّداً على ذلك، وتَرك المخالفين في دهشة وخوف من العذاب الشديد. قال جلّ من قائل : وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
البحث الروائي: حجّ التمتّع في روايات العامّة المعتبرة
فقد جاء في “ الدرّ المنثور “ قوله : أخْرَجَ البُخَارِيّ وَ البَيْهَقِيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَاجِّ ؛ فَقَالَ : أهَلَّ المُهَاجِرُونَ وَ الأنصَارُ وَ أزْوَاجُ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [ وآلِهِ ] وَسَلَّمَ في حِجَّةِ الوَدَاعِ وَ أهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ : اجْعَلُوا إهْلاَلَكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي. فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ وَ أتَيْنَا النِّسَاءَ وَ لَبِسْنَا الثِّيَابَ.
وَ قَالَ : مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإنَّهُ لاَ يُحِلُّ حتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. ثُمَّ أمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أنْ نُهِلَّ بِالحَجِّ ؛ فَإذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ، وَ قَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَ عَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللهُ : “ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ في الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ” إلَى أمْصَارِكُمْ، وَ الشَّاةُ تُجْزِئُ، فَجَمَعُوا نُسْكَيْنِ في عَامٍ بَيْنَ الحَجِّ وَ العُمْرَةِ، فَإنَّ اللهَ أنْزَلَهُ في كِتَابِهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَ أبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرِ أهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ اللهُ تعالى : ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَ أشْهُرُ الحَجِّ التي ذَكَرَ اللهُ : شَوَّالٌ وَ ذُوالقَعْدَةِ وَ ذُوالحِجَّةِ ؛ فَمَنْ تَمَتَّعَ في هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أوْ صَوْمٌ. وَ الرَّفَثُ : الجمَاعُ، وَ الفُسُوقُ : المَعَاصِي، وَ الجِدَالُ : المِراءُ. ۱
وذكر في تفسير “ الدرّ المنثور “ أيضاً : أخْرَجَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ : تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ، في حِجَّةِ الوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ، وَ أهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَ بَدَأ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ، فَأهَلَّ بِالعُمْرَةِ، ثُمَّ أهَلَّ بِالحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَسَّلَمَ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ ؛ فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أهْدَى، فَسَاقَ الهَدْيَ، وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ.
فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أهْدَى فَإنَّهُ لاَ يُحِلُّ لِشَيءٍ حُرِّمَ مِنْهُ حتّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَ مَنْ لَمْ يَكُنْ أهْدَى فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ وَ لْيُقَصِّرْ وَ لْيحللْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالحَجِّ، فَمَن لَمْ يَجِدْ هَدْيَاً فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِهِ. ۱
لا يخلو هذا الحديث من اضطراب وتشويش عند ملاحظة صدره الذي يدلّ على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أدّى حجّ التمتّع، ولكن عندما نلاحظ ذيله، الذي ينصّ على أنّ الذين لم يسوقوا معهم الهدي يجب أن يحُلّوا ثمّ يُلبّوا للحجّ، فإنّه صريح في استبدال التمتّع بحجّ الإفراد.
و جاء في “ الدرّ المنثور “ أيضاً : أخْرَجَ الحَاكِمُ وَ صَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ : قَالَ : كَثُرَتِ القَالَةُ مِنَ النَّاسِ، فَخَرَجْنَا حُجَّاجاً حتّى إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ أنْ نُحِلَّ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ أمَرَنَا بِالإحلاَلِ.
قُلْنَا : أيَرُوحُ أحَدُنَا إلَى عَرَفَةَ وَ فَرْجُهُ يَقْطُرُ مَنِيَّاً ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ فَقَامَ خَطِيبَاً فَقَالَ : أبِاللهِ تُعَلِّمُونِي أيُّهَا النَّاسُ ؟ ! فَأنَا وَ اللهِ أعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَ أتْقَاكُمْ لَهُ. وَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ هَدْيَاً وَ لَحَلَلْتُ كَمَا أحَلُّوا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِهِ ؛ وَ مَنْ وَجَدَ هَدْيَاً فَلْيَنحَرْ. فَكُنَّا نَنْحَرُ الجَزُورَ عَنْ سَبْعَةٍ.
قَالَ عَطَاءٌ : قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : إنَّ رَسُولُ اللهَ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ قَسَّمَ يَومَئِذٍ في أصحَابِهِ غَنَماً ؛ فَأصَابَ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقّاصٍ تَيْسٌ ؛ فَذَبَحَهُ عَنْ نَفْسَهِ. ٢
وجاء في “ الدرّ المنثور “ أيضاً : أخْرَجَ ابنُ أبي شَيْبَةَ وَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : نَزَلَتْ آيَةُ المُتعَةِ في كِتَابِ اللهِ ؛ وَ فَعَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الحَجِّ ؛ وَ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا حتّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأيِهِ مَا شَاءَ. ٣
قال الأستاذ الأكرم العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في ذيل هذا الحديث بعد نقله لتلك الأحاديث في " تفسير الميزان" : وقد رُوِيَت الرواية بألفاظ أخرى قريبة المعنى ممّا نقله في “ الدرّ المنثور “.
و في “ صحيح مسلم “ و “ مسند أحمد “ و “ سنن النسائيّ “ عن مطرف، قال : بعث إليّ عِمران بن حصين في مرضه الذي توفّى فيه، فقال : إنّي كنت محدّثك بأحاديث لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشتُ، فاكتُم عَلَيّ ! وإن مُتُّ، فحدّث بها عنّي ! إنّي قد سُلِّمَ عَلَيّ.
واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قد جمع بين حجّ و عمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله و لم ينه عنه نبيّ الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء .۱
وفي “ صحيح الترمذيّ “ أيضاً و “ زاد المعاد “ لابن القيّم : سُئِلَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ، قَالَ : هي حَلاَلٌ. فَقَالَ السَّائِلُ : إنَّ أبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا !
فَقَالَ : أرَأيْتَ إنْ كَانَ أبي نَهَى وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ ؛ أأمْرُ أبِي مُتَّبَع أمْ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ.
فَقَالَ : لَقَدْ صَنَعَها رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ. ٢
وفي “ صحيح الترمذيّ “ و “ سنن النسائيّ “ و “ سنن البيهقيّ “ و “ موطَّأ مالك “ وكتاب “ الاُمّ “ للشافعيّ، عن محمّد بن عبد الله أنّه سمع سعد بن أبي وقَّاص، والضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحّاك : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله.
فقال سعد : بئسما قلت يا بن أخي !
قال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك.
قال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه. ٣
[ قال : ] وفي “ الدرّ المنثور “ : أخرَجَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ وَ النسَائِيّ عَنْ أبي موسى، قَالَ : قَدِمْتُ على رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ وَ هُوَ بِالبَطْحَاءِ، فَقَالَ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ :
أهَلَلْتَ ؟ قُلْتُ : أهْلَلْتُ بِإهْلاَلِ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ.
قَالَ : هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْي ؟ ! قُلْتُ : لاَ. قَالَ : طُفْ بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ ثُمَّ حِلّ. فَطُفْتُ بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ، ثُمَّ أتَيْتُ امْرَأةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي رَأسِي وَ غَسَلَتْ رَأسِي، فَكُنْتُ اُفْتِي النَّاسَ في إمَارَةِ أبِي بَكْرٍ وَ إمَارَةِ عُمَرَ، فإنّي لَقَائِمٌ بِالمَوسِمِ إذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أحْدَثَ أمير المؤمنين في شَأنِ النُّسْكِ ؟
فَقُلْتُ : يَا أيُّهَا النَّاسُ ! مَنْ كُنَّا أفْتَيْنَاهُ بِشَيءٍ فَلْيَتَّئِدَّ ! فَهَذَا أمير المؤمنين قَادِمٌ عَلَيْكُمْ ؛ فِبِهِ فَائتَمُّوا !
فَلَمَّا قَدِمَ، قُلْتُ يا أميرَ المُؤْمِنِينَ ! مَا هَذَا الذي أحْدَثْتَ في شَأنِ النَّسْكِ ؟ ! قَالَ : أنْ نَأخُذْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإنَّ اللهَ قَالَ : “ وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ”، وَ أنْ نَأخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ، لَمْ يُحِلَّ حتّى نَحَرَ الهَدْيَ. ۱
وقال في السيرة الحلبية: واعترض بعض الصحابة قائلين : نَنْطَلِقُ إلَى مِنَى وَ ذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ ؟ و في لفظ : وَ فَرجُهُ يَقْطُرُ مَنيَّاً ؟ أي : قَدْ جَامَعَ النِّسَاءَ .٢
وعن عائشة، قالت : دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم و هو غضبان. فقلت : من أغضبك يا رسول الله ؟! أدخله الله النار !
فَقَالَ : أوَ مَا شَعرْتِ أني أمَرْتُ النَّاسَ بِأمْرٍ فَإذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ. ٣
و يروى أنه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عندما بلغته تلك المقالة، قام خطيباً فَحَمِدَ اللهَ تَعَالى، فَقَالَ : أمَّا بَعْدُ ؛ فَتَعْلَمُونَ أيُّهَا النَّاسُ ؟ ! لأنَا وَ اللهِ أعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَ أنْقَاكُمْ لَهُ ؛ وَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ هَدْيَاً وَ لاَ حَلَلْتُ .٤
وَ في رِوَايَةٍ قَالُوا : كَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَ قَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ ؟
فَقَالَ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ [ آلِهِ] وَسَلَّمَ : اقْبَلُوا مَا أمَرْتُكُمْ بِهِ، وَ اجْعَلُوا إهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً، فَلَولاَ أني سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذي أمَرْتُكُمْ بِهِ. فَفَعَلُوا وَ أهَلُّوا، فَفُسِخَ الْحَجُّ إلَى الْعُمْرَةِ .۱
وَ سأله سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنُ جُعْشُمِ الْكِنَانِيّ فقال : يَا رَسُولَ اللهِ ! مُتعْتنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أمْ لِلأبَدِ؟! ٢
فَشَبَّكَ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ أصَابِعَهُ، فَقَالَ : بَلْ لِلأبَدِ الأبَدِ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ هَكَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. و في رواية : فَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ وَاحِدَةً في أُخْرَى وَقَالَ : دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ هَكَذَا ـ مَرَّتَيْنِ ـ بَلْ لأبَدِ الأبَدِ .٣
و جاء في “ إعلام الورى “ : قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ، وَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أنَخْرُجَنَّ إلَى مِنَى وَ رُؤوسُنَا تَقْطُرُ مِنَ النِّسَاءِ ؟ ! فَقَالَ : إنَّكَ لَنْ تُؤمِنَ بِهَا حتّى تَمُوتَ. ٤
وينقل ابن كثير حديثين عن البخاريّ ومسلم، عن جابر أنّ بعض الصحابة كانوا يقولون : لِمَ نحلّ، و لم يبق على الحجّ إلاّ أيّام عدّة ؟
قال ابن كثير : قال البخاريّ : حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حَمَّاد بن زيد، عن عبد الملك بن جريح، عن عطاء، عن جابر، وعن طاووس، عن ابن عبّاس، قالا : قَدِمَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ أصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الحِجَّةِ يُهِلُّونَ بِالحَجِّ لاَ يَخْلُطُهُ شَيءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً، وَ أنْ نُحِلَّ إلَى نِسَائِنَا، فَفَشَتْ تِلْكَ المَقَالَةُ. .. ٥إلى آخر هذا الحديث وما تضمّنه من مخالفة الصحابة.
وقال : قالَ مُسْلِم : حدّثنا قُتيْبة، حدّثنا الليث ـ هو ابن سعد ـ عن أبي الزبير، عن جابر. .. إلى أن بلغ قوله : وَ أمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ أنْ يُحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيّ ؛ قَالَ : فَقُلْنَا : حَلَّ مَاذَا ؟ ! قَالَ : الْحَلُّ كُلُّهُ. فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَ تَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ وَ لَبِسْنَا ثِيَاباً وَ لَيْسَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ عَرَفَةَ إلاَّ أرْبَعَ لَيَالٍ. ٦
نتيجة البحثين القرآني والروائي
والنتيجة الحاصلة في هذا الموضوع وما يستفاد من هذه الروايات والروايات المماثلة، وما يفيده النصّ القرآنيّ الصريح هو وجوب التمتّع في الحجّ الواجب لمن كان بعيداً عن المسجد الحرام.
موقف الخليفة الثاني من حجّ التمتّع والنظر فيه
وكما اعترض عمر على هذا التشريع حين نزوله فأغضب رسول الله، قام بإلغائه أيّام حكومته، فأمر بترك العمرة في أشهر الحجّ، والإحرام للحجّ من الميقات فقط بلا تمتّع، والإحرام من الميقات وأداء العمرة مستقلّة في الشهور الأخرى من السنة؛ فانحصر الحجّ عنده في حجّ الإفراد، وحجّ القِران. وبذلك عاد الحجّ إلى كيفيّته السابقة التيكانت سائدة بين العرب في العصر الجاهليّ بقيّة من سنّة إبراهيم عليهالسلام. و هكذا فإنّ حجّ التمتّع، ونسخ الحجّ السابق بالنسبة إلى الأشخاص البعيدين، والتعليمات النبويّة الجديدة في حجّة الوداع، ونزول جبرائيل على المروة، و إنزال قوله تعالى : ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِيالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وخطب النبيّ المتكرّرة فيمكّة، واعتراضه الشديد على من خالف تعاليمه في هذا المجال، كلّ ذلك قد ضاع سدى.
ولابدّ لنا هنا أن نخوض في البحث لنرى منطلق هذا العمل، و أدلّة الذين لا يتمتّعون أثناء الحجّ تأسّياً بسنّة عمر لا غير؟
فقد استدلّوا على ذلك من جهات عدّة:
الجهة الأولى: الآية الكريمة : وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ .۱ زاعمين أنّ الحجّ كلّه يتمثّل بالإحرام من الميقات. وأنّ الذين يحرمون من الميقات وبعد ذلك يعتمرون، ويحلّون في مكّة، ثمّ يحرمون للحجّ من مكّة ؛ فإنّ هناك في حجّهم نقصاً وخللاً، لأنّ العمرة والحجّ في هذه الحالة قد تداخلا، والإحلال بينهما في حكم الإحلال بين الحجّ، وهو ما يستلزم نقصان الحجّ.
والجواب على هذا الادّعاء واضح، لأنّ إتمام العمرة والحجّ أداؤهما بجميع الشروط والأجزاء، والاجتناب عن موانعهما؛ ومن يحرم من الميقات بقصد العمرة، ويطوف، ويصلّي، ويسعى، ويقصّر في مكّة، فإنّه يؤدّي عمرة تامّة ؛ و من يحرم من مكّة، و يتوجّه إلى عرفات و المشعر بقصد الحجّ، ويؤدّي مناسك منى والبيت الحرام، فإنّه يؤدّي حجّة تامّة بجميع أجزائها وشروطها متجنّباً موانعها.
وقد علمنا أنّ تحديد الشروط والأجزاء والموانع في كلّ من العمرة والحجّ يعود إلى الشارع المقدّس. ولمّا قرّر لنا أن نحرم من الميقات بقصد الحجّ في حجّ القران وحجّ الإفراد، وأن نحرم من مكّة في حجّ التمتّع، فإنّ تمام ذلك وكماله أداؤه وفقاً لهذا النهج وهذا الشكل ؛ وخلاف ذلك يستلزم النقصان وعدم الإتمام ؛ والنتيجة الحاصلة هنا هو أن نأخذ هيكل الحجّ وكيفيّته وأجزاءه وشروطه من الشارع ؛ وهذا هو التمام، وغيره هو النقصان.
و ليس لأحد أن يضيف من عنده جزءاً أو شرطاً ؛ أو يرفعهما، ومن ثمّ يحدّد التمام والنقصان تبعاً لما يرتئيه ؛ وعلى هذا فإنّ قوله تعالى : وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ لا يعنى أكثر من إتمام الحجّ والعمرة للّه. وأمّا تمامه بعدم الإحلال بين العمرة والحجّ، والبقاء في الإحرام حتّى الذهاب إلى عرفات، فلا يمكن استنتاجه من الآية مهما كانت القرائن. ونذكر الآية كلّها فيما يلي بغية الوقوف على توضيح أكثر لهذه الحقيقة، ثمّ نأتي بالدليل على أنّ قوله وَ أتِمُّوا لا يعضد مدّعاهم ولا يدلّ عليه بل يدلّ على نقيضه.
وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُمْ مَّرِيضًا أوْ بِهِ أذى مِّن رَّأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فَإذَا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدِيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ في الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَهٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ۱
فقد جاء في صدر هذه الآية أن نتمّ الحجّ والعمرة للّه !
فتماميّة أيّ شيء هي بضمّ شيء آخر له يتوقّف تحقّق ذلك الشيء على تلك الضميمة، ولا تترتّب عليه آثاره المطلوبة منه إلا بعد ضمّه، فالإتمام هو عبارة عن إلحاق جزء من الأجزاء بشيء ما بعد الشروع به بحيث تترتّب عليه الآثار المطلوبة بذلك.
وكمال شيء عبارة عن حالة أو وصف أو أمر إذا وجده ذلك الشيء جنيت منه الآثار المطلوبة بعد تماميّته، و التي لا تجنى بغير الكمال.
وعلى سبيل المثال، فإنّ انضمام بعض أجزاء الإنسان إلى البعض الآخر يمثّل تماميّتها، ولكنّ العالِميّة والشجاعة تمثّلان كماله. فبضمّ بعض أجزاء المولّد الكهربائيّ، أو آلة الطباعة إلى بعضها الآخر بغية رفع نقصه وإيجاد قابليّة توليد الكهرباء فيه أو الطباعة يحصل إتمام هذين الجهازين. ولكنّ ترتّب الأثر المطلوب على ذلك، من توليد كهرباء وطباعة بعد فرض التماميّة يمثّل كمالهما.
فقوله : وَ أتِمُّوا الْحَجَّ أي : أدّوا جميع الأجزاء المشروطة في الحجّ ! و لا تقصّروا في جزء منها ! والشاهد على ذلك ما جاء بعده بغير فصل : فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدِيِ. فإذا تعذّر عليكم إتمامه بسبب مرض أو منع عدوّ، فعليكم إرسال الهدي ! و إذا ما نحر في محلّه، فأحلّوا من إحرامكم !
ومن المعلوم أنّ الحصر والإحصار يقتضي النقصان و عدم التماميّة في أجزاء الحجّ ؛ فالآية تفيدنا ـ إذاً ـ أن نتمّ الحجّ على أيّ حال كان، ومهما كان نوعه : قراناً أو إفراداً أو تمتّعاً، وأن نتفادى نقصانه بترك جزء أو شرط من شروطه.
وفي هذه الآية نفسها يأمر الله تعالى بحجّ التمتّع، فيقول : فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فما استيسر من الهدي، أي : ينحرون في منى، و تماميّة حجّهم بالهدي والأضحية. وحجّ التمتّع هذا واجب على من كان أهله من غير حاضري المسجد الحرام. فصدر الآية: وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ يأمر بإتمام الحجّ، مهما كان نوعه، وذيلها يقسّم الحجّ إلى قسمين: حجّ التمتّع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام؛ وحجّ غير التمتّع لمن كان أهله حاضري المسجد الحرام. ويستفاد وجوب التمتّع في هذه الآية المباركة من قوله : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لا من قوله : فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ، لأنّ قوله : فَمَن تَمَتَّعَ ينبئ عن قسمين، وقوله : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ يوجب نوعاً واحداً وهو التمتّع للبعيدين ؛ وهذا المعنى في غاية الوضوح.
وبعد أن عرفنا أنّ كيفيّة الحجّ وأجزاءه وشروطه، وأيّ عبادة أخرى غيره ينبغي أن تحدّد من قبل الشارع المقدّس. وأنّ رسول الله أكّد من على المروة وفي خطبته بمكّة المكرّمة على كيفيّة الحجّ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام إلى يوم القيامة وذلك بعد نزول جبرائيل بهذه الآية : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِيِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فإتمام الحجّ للبعيدين عن المسجد الحرام يتحقّق على نحو التمتّع، لا على نحو الإفراد والقِران. و في ضوء ذلك فإنّ قوله : وَأتِمُّوا الْحَجَّ يدعونا إلى إتمام الحجّ حسب التعاليم القرآنيّة والنبويّة إذ هو للبعيدين على نحو التمتّع، ولا يجزي عدم التمتّع منهم.
وأمّا دلالة الآية : وَ أتِمُّوا الْحَجَّ على وجوب الفاصلة بين العمرة والحجّ، وكذا على إتمام الحجّ بالإحرام من الميقات بغير تمتّع: فَدُونَ إثباته خَرْطُ الْقَتَادِ، كما نصّ على ذلك الاُستاذ الأكرم العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليه.۱
ويستبين جيّداً ممّا تقدّم أنّ استدلال عمر بقوله تعالى: وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ على عدم جواز التمتّع كما مرّ بنا في الرواية المأثورة عن أبي موسى الأشعريّ آنفاً هو غير صحيح.
كما أنّ استدلاله بهذه الآية بنحو آخر في رواية أخرى هو غير صحيح أيضاً.
والرواية هي الواردة في تفسير “ الدرّ المنثور “ فَقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبِي نَضْرَةَ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأمُرُ بِالْمُتْعَةِ، وَكَانَ ابنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ ؛ فَقَالَ : على يَدِي دَارَ الحَدِيثُ ؛ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ ؛ فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ، قَالَ : إنَّ اللهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِ اللهِ مَا شَاءَ مِمَّا شَاءَ، وَ إنَّ القُرآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ ؛ فَأتِمُّوا الحَجَّ وَ العُمْرَةَ كَمَا أمَرَكُمُ اللهُ وَ افْصِلُوا حَجَّكُم مِنْ عُمْرَتِكُمْ فَإنَّهُ أتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَ أتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ. ٢
والجواب على عمر بيّن مما تقدّم من الكلام؛ لأنّ حجّ التمتّع ـ في ضوء القرآن الكريم ـ لم يختصّ برسول الله؛ وبناءً على خطبة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّ الحجّ والعمرة قد تداخلا كتشابك الأصابع إلى يوم القيامة ؛ ويتّفق العلماء جميعاً من الفريقين على أنّ شأن النزول ليس مخصِّصاً ؛ أي : أنّ نزول آية في موضوع ما لا يحصر الحكم في ذلك الموضوع ؛ ولذلك فإنّ قوله : أنّ القرآن نزل منازله، و قوله : فأتمّوا الحجّ و افصلوا الحجّ من العمرة هما من أغرب الغرائب ؛ و يمثّلان استنتاجاً فكريّاً واجتهاداً في مقابل النصّ.
ومن هنا يستفاد كذلك فساد الجهة الثانية من دليل المخالفين، و هي أنّ عدم التمتّع يؤدّي إلى إتمام الحجّ و التأسّي بالسنّة النبويّة؛ لأنّ النبيّ لم ينحر هديه، و لم يُحِلّ، و لم يتمتّع إلى أن فعل ذلك في منى على أساس خطبة عمر الواردة في حديث أبي موسى الأشعريّ إذ قَالَ : إن نَأخُذْ بِكِتَابِ اللهِ فَإنَّ اللهَ قَالَ : “ وَ أتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ” ؛ وَ إن نَأخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ لَمْ يُحِلَّ حتّى نَحَرَ الْهَدْيَ ۱ ؛ ذلك لأنّ اتّباع السنّة النبويّة صحيح عند عدم تصريح النبيّ بخلافه، كالصوم المستحب، وقيام الليل للعبادة ؛ وأمّا عند تصريحه بالخلاف كعدم جواز الزواج بأكثر من أربع نساء زواجاً دائميّاً فلا ريب أنّ اتّباعه يعتبر مخالفة لأمره وسنّته.
وقد صرّح في حجّة الوداع أنّ عدم إحلاله هو بسبب سوق الهدي، و إلاّ لأحلّ كغيره من المسلمين ؛ و في هذه الحالة فإنّ البقاء في الإحرام حتّى منى بالنسبة إلى الأشخاص الذين ليس معهم هدي هو خلاف السنّة، لا اتّباع للسنّة. ولمّا كان حكم التمتّع وارداً إلى يوم القيامة، فإنّ أداء حجّ القِران والإفراد بالنسبة إلى البعيدين عن المسجد الحرام هو مخالف للسنّة في الحجّ الواجب.
والعجيب هو الزعم باتّباع السنّة، وقد قال رسول الله في خطبته بمكّة معترضاً على هذا الزعم الباطل : أبِاللهِ تُعَلِّمُونِي أيُّهَا النَّاسُ ؟ !
والإحرام للحجّ لا يتحقّق بمجرّد عدم حلق الرأس إلى أن يبلغ الهدي محلّه بمنى ؛ والآية تدلّ على أنّ سائق الهدي الذي ينبغي أن لا يحلق رأسه، إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فإنّ حجّه سيكون حجّ التمتّع ـ لامحالة ـ. وحاصل الكلام أنّ رسول الله لم يحجّ حجّ التمتّع ؛ إلاّ أنّه أمر أصحابه ومرافقيه وأمّته جميعاً بالتمتّع إلى يوم القيامة، فكيف يمكننا أن لا نعتبر هذا العمل من السنّة النبويّة؟ و هل يمكن أن نعتبر أمراً يخصّ رسول الله، وهو يأمر أمّته بغيره، من السنّة النبويّة، فيؤمر به الناس؟! حَاشَا وَ كَلاَّ.
حجّ التمتّع لا يختصّ بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم
ومن هنا يمكننا أن نفهم كذلك بأنّ ما قالوه حول اختصاص الصحابة بحجّ التمتّع واهٍ لا أساس له. جاء في “ الدرّ المنثور “ قوله : أخْرَجَ ابنُ أبي شَيبَةَ وَ مُسْلِمٌ عَنْ أبي ذَرٍّ، قَالَ : كَانَتِ المُتْعَةُ في الحَجِّ لأصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ خَاصَّةً. ۱
وجاء فيه أيضاً : أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبي ذَرٍّ قَالَ : لاَ تَصْلَحُ المُتَعَتَانِ إلاّ لَنَا خَاصَّةً ـ يعني مُتْعَةَ النِّساءِ وَ مُتْعَةَ الحَجِّ ـ. ٢
ووردت في الجزء الأوّل، ص ٢۱٦ منه أيضاً رواية نصّها : أخْرَجَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ في الحَجِّ، فَقَالَ : كَانَتْ لَنَا، لَيْسَتْ لَكُمْ.
ومضمون هاتين الروايتين يخالف كتاب الله القائل : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لأنّ إطلاق هذه الآية و عدم تقييدها بوقت خاصّ ؛ أو بأشخاص معيّنين يخالف متن الروايتين. ولمّا كانت الروايتان مخالفتين لكتاب الله فهما مطروحتان. وكذلك هما مخالفتان لكلام رسول الله لأنّه شَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ وقال : دخلت العمرة في الحجّ هكذا [ كأصابعه المتشابكة] إلى يوم القيامة. مضافاً إلى ذلك، أنّه يستنتج من إنكار بعض الصحابة، كعمر، وعثمان، وابن الزبير، وأبي موسى الأشعريّ، ومعاوية، وأبي بكر في بعض الروايات وتركهم حجّ التمتّع أنّها ليست خاصّة بالصحابة.
يقول ابن كثير الدمشقيّ في “ البداية و النهاية “ ج ٥، ص ۱٦٦ : و أمّا الإمام أحمد [ بن حنبل ] فردّ ذلك. وقال : قد رواه أحد عشر صحابيّاً، فأين تقع هذه الرواية من ذلك ؟. .. وأفتى ابن عبّاس بوجوب الفسخ [ التمتّع] على كلّ من لم يسق الهدي.
وصاحب “ السيرة الحلبيّة “ بعد ذكره كلام النبيّ حول تغيير الحجّ إلى حجّ التمتّع وسؤال سراقة بن مالك، وخطبة النبيّ بعد سماعه كلام المخالفين، يعترف قائلاً : إنّ هؤلاء جميعهم يصرّحون أنّ المراد من التمتّع هو الإحلال بين العمرة والحجّ، وهو باق إلى يوم القيامة. لكنّه يقول بعد ذلك :
أجاب عنه أئمّتنا بأنّ ذلك، أي فسخ الحجّ إلى العمرة، كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كان عليه الجاهليّة من تحريم العمرة في أشهر الحجّ، ويقولون : إنّه من أفجر الفجور. وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك، و إمامنا الشافعيّ و جماهير العلماء من السلف والخلف. .. وخالف الإمام أحمد [ بن حنبل ] وطائفة من أهل الظاهر، فقالوا : بل هذا ليس خاصّاً بالصحابة في تلك السنة، أي : بل باق لكلّ أحد إلى يوم القيامة. فيجوز لكلّ من أحرم بالحجّ وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلّل بأعمالها. ۱
الجهة الثالثة: من حيث إنّ التمتّع لا يلائم وضع الحجّاج. فهيئة الشخص المحرم بإحرام الحجّ هي هيئة مسافر إلى الله، يتكبّد عناء السفر، ويشتري مشقّة الطريق، أشعث أغبر، لم يغتسل ولم يتعطّر، وقد حرّم على نفسه إتيان النساء والجواري وغير ذلك من اللذائذ المادّيّة. ولو قدّر أن يحلّ الحاجّ من إحرامه في مكّة، و يمشط شعره، و يتعطّر، و يأتي النساء والجواري، ويرتدي صبيغ الثياب ومخيطها، ويصبح كما لو كان في مدينته و بين أهله ؛ فلا يبقى للحجّ أيّ احترام، ويضمر بهاؤه وجلاله وعظمته.
و في “ مسند “ أحمد عن أبي موسى [ الأشعريّ ] : إنَّ عُمَرَ قَالَ : هي سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي المُتْعَةَ ـ وَلَكِنِّي أخْشَى أنْ يُعْرِسُوا بِهِنَّ تَحْتَ الأرَاكِ ثُمَّ يَروحُوا بِهِنَّ حُجَّاجاً .٢
وفي “ جَمْع الجَوامِع “ للسيوطيّ عن سعيد بن المُسَيِّب : أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ نَهَى عَنِ المُتْعَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ وَ قَالَ : فَعَلْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ أنَا أنْهَى عَنْهَا ؛ وَ ذَلِكَ أنَّ أحَدَكُمْ يَأتِي مِنْ اُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ شَعِثاً نَصِيباً مُعْتَمِراً في أشْهُرِ الحَجِّ ؛ وَ إنَّمَا شَعَثُهُ وَ نَصَبُهُ وَ تَلْبِيَتُهُ في عُمْرَتِهِ، ثُمَّ يَقْدِمُ فَيَطُوفُ بِالبَيْتِ وَ يُحِلُّ وَ يَلْبَسُ وَ يَتَطَيَّبُ وَ يَقَعُ على أهْلِهِ أنْ كَانُوا مَعَهُ حتّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أهَلَّ بِالحَجِّ وَ خَرَجَ إلى مِنَى يُلْبِّي بِحِجَّةٍ لاَ شَعَثَ فِيهَا وَ لاَ نَصَبَ وَ لاَ تَلْبِيَةَ إلاَّ يَوْماً ؛ وَ الحَجُّ أفْضَلُ مِنَ العُمْرَةِ ؛ لَوْ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ هَذَا لَعَانَقُوهُنَّ تَحْتَ الأرَاكِ، مَعَ أنَّ أهْلَ البَيْتِ لَيْسَ لَهُمْ ضَرْعٌ وَ لاَ زَرْعٌ وَ إنَّمَا رَبِيعُهُمْ فِيمَنْ يَطْرَأ عَلَيْهِمْ. ٣
وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّ عمر قال : قد علمت أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فَعَلَه وأصحابُهُ، ولكنّي كرهت أن يعرسوا بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم .۱ و ٢
نهي عمر عن التمتّع في الحجّ هو اجتهاد مقابل النصّ
والجواب هو : أنّ الدليل من هذه الوجهه جليّ أيضاً، لأنّه اجتهاد في مقابل النصّ. فالله ورسوله نصّا على جواز التمتّع ولا إشكال في النصّ على حجّ التمتّع. فكيف يسوغ لنا حينئذٍ أن نقدّم رأينا الخاصّ واجتهادنا الفكريّ ؟ والله و رسوله أعلم أنّ الذي يخافه عمر وهو منه في قلق، سيفعله ومع ذلك أمر صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتمتّع، بل أمر الناس أن يتمتّعوا ويؤدّوا حجّهم على هذا النحو. وهذا من الفيوضات الناتجة عن رحمة الله الواسعة، إذ رفع الله عن اُمّته ما عانته الاُمم السابقة من المشاقّ، واستجاب دعاءه : رَبَّنَا وَ لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَ لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ. ٣
وعندما يجيز الله ورسوله شيئاً بصراحة، فهل هناك من يجرأ على المخالفة؟ مضافاً إلى ذلك، فإنّ الله ورسوله أعلم بمصالح الأحكام، وملاكات القوانين، والحؤول دون المفاسد ؛ وكما نوّهنا، لعلّ طول البقاء في الإحرام يؤدّي بكثير من الحجّاج إلى ارتكاب المعصية والعمل غير المشروع بسبب عدم تحمّلهمّ. وقد رفع الله هذا التكليف الشاقّ ورجّح اليُسر على العُسر رَحْمَةً لِلاُمَّةِ المَرْحُومَةِ.
ومن عجائب الأمر أنّ الآية التي تشرّع حكم التمتّع يأتي في بيانها عين المعنى الذي أظهر عمر أنّه يخشاه. ألم يقل تعالى : فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ؟ وهل التمتّع إلاّ استيفاء الحظّ من المتاع والالتذاذ بطيّبات النكاح واللباس وغيرهما؟ والشاهد على ما نقول رواية جاءت في تفسير “ الدرّ المنثور “، قال : أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن عطاء قال : إنَّما سُمّيت المتعة لأ نّهم كانوا يتمتّعون من النساء و الثياب. و في لفظ : يتمتّع بأهله وثيابه. فمعنى قوله : فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ هو : وَ مَنْ يُعْرِسْ بِزَوْجَتِهِ وَ أمَتِهِ تَحْتَ الأرَاكِ بَعْدَ العُمْرَةِ إلى زَمَانِ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ .٤
وأعجب منه أنّ جمعاً من الصحابة قد اعترضوا على رسول الله، واستقبحوا التمتّع بالنساء في الحجّ ـ ننطلق إلى منى وذَكَرُ أحدنا يقطر ـ وفي لفظ آخر وفرجه يقطُرُ مَنِيّاً ؟۱ ـ فبلغ ذلك النبيّ، فقام خطيباً وأمرهم بما استقبحوه وخافوه من قبل. وأمرهم بالتمتّع كما فرضه عليهم أوّلاً، يعني أنّه أمرهم ثانياً بالتمتّع بالنساء وبارتداء الثياب الفاخرة، واستعمال العطر. وهل أنّ عدم استساغة هذا الأمر يمكن أن يكون شيئاً آخر غير التحجّر الفكريّ و وصمة من آداب الجاهليّة وتقاليدها؟
الجهة الرابعة: من حيث تعطيل أسواق مكّة، كما في رواية السيوطيّ التي نقلناها عن “ جمع الجوامع “ عن سعيد بن المسيّب، إذ يقول فيها عمر : إنّ أهل البيت بيت الله ليس لهم ضرع و لا زرع، و إنّما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم. لذلك لو كان حجّ وعمرة في مرحلتين فذلك أنفع لهم.
والجواب : هذا تحمّس للّه، والله لا يحتاج إلى متحمّس. وهو اجتهاد في مقابل النصّ. والله تعالى يرزق عباده بأحسن ما يكون ومن حيث لا نحتسب، وهو بالغ أمره كما قال جلّ من قائل: إنَّ اللهَ بَالِغُ أمْرِهِ. ٢
و ما علينا إلاّ أن نكون عباداً مطيعين له ؛ و لا خِيَرة لنا من أمرنا فنناقش ما يقضيه لنا ؛ ونتجاوز حدّنا مفرّطين في توجّهنا من مرحلة العبوديّة، ومسار المأموريّة إلى مرحلة الآمريّة والربوبيّة، و نتعجّل في الأمر ونتبارى في تقديم ما نريد على كلام الله ورسوله وأمرهما. وقد علّمنا الله أن لانفعل ذلك فقال : يَا أيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ. ٣
وقد مرّ المؤمنون في صدر الإسلام بمثل هذا الخوف والقلق من العسر في المعيشة. بحيث إنّهم خالوا أنّ عدم تردّد المشركين على مكّة والمسجد الحرام سيوقعهم في العُسر والضيق. فأنزل الله هذه الآية : يَا أيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَ إنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إن شَآءَ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. ٤
الجهة الخامسة: إنّ تشريع التمتّع هو لمكان الخوف، فلا تمتّع في غير حال الخوف. جاء في “ الدرّ المنثور “ قوله : أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ شَقِيقٍ ؛ قَالَ : كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ ؛ وَ كَانَ عَلِيّ يَأمُرُ بِهَا ؛ فَقَالَ عُثْمَانُ لَعَلِيّ كَلِمَةً ؛ فَقَالَ عَلِيّ [ عَلَيهِ السَّلاَمُ ] : لَقَدْ عَلِمْتَ أنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ ؛ قَالَ : وَلِكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ. ۱
وجاء في “ الدرّ المنثور “ أيضاً : أخْرَجَ ابْنُ أبي شَيْبَةَ وَ ابْنُ جُرَيْرٍ وَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ : يا أيُّهَا النَّاسُ ! وَاللهِ مَا التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ كَمَا تَصْنَعُونَ، إنَّمَا التَّمَتُّعُ أنْ يُهِلَّ الرَّجُلُ بِالحَجِّ فَيحْضُرُهُ عَدُوٌّ أوْ مَرَضٌ أوْ كَسْرٌ، أوْ يَحْبِسُهُ أمْرٌ حتّى يَذْهَبَ أيَّامُ الحَجِّ فَيَقْدِمُ فَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً فَيَتَمَتَّعُ تَحِلَّةً إلى العَامِ المُقْبِلِ ثُمَّ يَحِجُّ وَ يَهْدِي هَدْيَاً، فَهَذَا التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ .٢
والجواب : حكم الآية القرآنيّة وكلام رسول الله مطلق يشمل الخائف وغيره. وقوله : فَإذَا أمِنتُمْ ينصّ على أنّ حكم التمتّع في حالة الأمن و عدم الخوف. لذلك فإنّ حصر الآية في حالة الخوف يفتقر إلى الدليل، مضافاً إلى ذلك، فإنّ التفسير الذي أتى به عبد الله بن الزبير ليس أكثر من معنى خياليّ ناتج عن مخترعاته، ولا شاهد عليه من الكتاب والسنّة ؛ بل إنّ إطلاق الآية وكلام النبيّ يناقضه. ناهيك عن أنّنا لا نثبت وجوب التمتّع بقوله : فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلى الْحَجِّ، حتّى يقولوا أنّه وحده يفيد لزوم الهدي في حالة فرض التمتّع، بل استدلالنا هو بذيل الآية، أعني قوله : ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وهذا الذيل يفيد وجوب التمتّع للبعيدين عن المسجد الحرام بنحو مطلق وبدون أيّ تقييد بالخوف من عدوّ ومرض وكسر وغيرها من هذه الأشياء.
الجهة السادسة: من حيث الولاية، أي : أنّ عمر نهى عنها بحقّ ولايته الأمر، وقد فرض الله طاعة أولي الأمر إذ قال : يَا أيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أطِيعُوا اللهَ وَ أطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أولي الأمر مِنكُمْ. ٣
وعلى هذا المنوال روايات ذكروها عن نهى عمر الصريح عن حجّ التمتّع أيّام حكومته، منها : في “ سنن النسائيّ “ عن ابن عبّاس قال : سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: وَ اللهِ إنّي لأنهَاكُمْ عَنِ المُتْعَةِ وَ إنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللهِ، وَ لَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي العُمْرَةَ في الحَجِّ. ۱
وفي “ سنن البيهقيّ “ عن مسلم، عن أبي نَضْرَة، عن جابر قال : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ وَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَأمُرُ بِهِ. قَالَ : على يَدي جَرَى الحَدِيثُ، تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ وَ مَعَ أبِي بَكْرٍ فَلَمَّا وَلِى عُمَرُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ هَذَا الرَّسُولُ ؛ وَ القُرآنَ هَذَا القُرآنُ ؛ وَ أنَّهُمَا كَانَتَا مُتْعَتَيْنِ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ وَ أنَا أنْهَى عَنْهُمَا وَ اُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا، إحْدَيْهُمَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ ؛ وَ لاَ أقْدِرُ على رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً إلى أجَلٍ إلاّ غَيَّبْتُهُ بِالحِجَارَةِ، وَ الاُخْرَى مُتْعَةُ الحَجِّ. ٢
من الخطأ التمسّك بآية أولي الأمر في هذه المسألة
الجواب : ليس لعمر مثل هذه الولاية من الله حتّى يتسنّى له أن يغيّر حكماً ويحلّل حراماً أو يحرّم حلالاً. والآية الكريمة أطِيعُوا اللهَ وَ أطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أولي الأمر مِنكُمْ لا تشمل وجوب الإطاعة في مثل هذا المعنى.
لأنّنا أوّلاً ذكرنا في الجزء الثاني من كتابنا هذا “ معرفة الإمام “ ضمن دورة العلوم والمعارف الإسلاميّة أنّ أولي الأمر هم المعصومون لا غير٣. وقد اعترف بذلك الفخر الرازيّ على تعصّبه وتشدّده في مذهبه٤. وقد تحدثنا عن هذا الموضوع بالتفصيل في الجزء المذكور وناقشناه من جميع أبعاده و جوانبه، و أجبنا بحول الله وقوّته على شبهات المدافعين عنه، وأثبتنا استلزام التناقض في متن الآية على فرض شمولها غير المعصومين، آية أولي الأمر .٥
و لم نعثر لحد الآن على كلام لأحد يقول بعصمة عمر و أمثاله من الخلفاء ؛ بل إنّ جميع علماء العامّة يدأبون ما استطاعوا لتبرير أخطائه، ويبذلون قصارى جهودهم لتلمّس مخرج يساعدهم على حمل أموره وأوامره ونواهيه محملاً صحيحاً. ومع تصرّم أربعة عشر قرناً وجهود كلّ هؤلاء العلماء، وتأليف الكتب والموسوعات إلاّ أنّهم لم يستطيعوا أن يرفعوا خطأه، و يجعلوا كلامه مقروناً بالحقيقة والصواب، ويظهروه على أنّه معصوم.
وثانياً : إنّ الولاية التي جعلها القرآن الكريم لأهلها لا تشمل عموماً مثل هذه الحالات. وتوضيح هذا المعنى يحتاج إلى مقدّمة مقتضبة، هي :
تدلّ الآيات القرآنيّة بما لا يحصى عدداً على لزوم اتّباع ما أنزله الله على رسوله، مثل الآية الكريمة : اتَّبِعُوا مَآ اُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ. ۱
وتدلّ أيضاً على لزوم اتّباع ما شرّعه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بإذن الله، نحو الآية : وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَ رَسُولُهُ. ٢
ويقول تعالى: وَ إنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ٣
والضمير في “ إنَّهُ “ يرجع إلى الذِكر وهو القرآن إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ صدر الآية ٤۱ . والعزيز بمعنى المحكم و المنيع الذي لا يؤثّر فيه شيء، وهو حافظ لنفسه دوماً و أبداً.
والمراد من إتيان الباطل، دخول الباطل فيه بحيث يشوّه صورته كلّها أو بعض أجزائها، سواء المعارف الحقّة، أو الأحكام والشرائع....
ومفاد الآية هو أنّه لا تعارض في بيان القرآن أبداً؛ ولا كذب في أخباره، ولا سبيل للباطل إلى معارفه و أحكامه و شرائعه؛ و ليس فيه نسخ أو تحريف أو تغيير ؛ ولا يتعارض معه شيء سواء من الحوادث الواقعة من الآن إلى يوم القيامة، أو الحوادث التي وقعت في الماضي حتّى بدء الخليقه.
و بالجملة تدلّ الآية على عدم إمكان النسخ في أحكامه بنحو الإطلاق و العموم. ولذلك فإنّ كلّ ما شرّعه الله و رسوله، وحكما به، على الأمّة جمعاء واجب اتّباعه، يتساوى بذلك أدناها مع أولي أمرها. ويستنتج ممّا تقدّم أنّ قوله تعالى : أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أولي الأمر مِنكُمْ يثبت لأولي الأمر حقّ الإتّباع في غير الأحكام. وأمّا في الأحكام الإلهيّة الكلّيّة فإنّ أولي الأمر و رعيّتهم يتساوون في حفظ الأحكام الإلهيّة و النبويّة، و في وجوب اتّباعها.
وفي ضوء ذلك، فإنّ وجوب إطاعة أولي الأمر ينحصر في أوامرهم ونواهيهم بالنسبة إلى الحالات التي يرون فيها صلاح الأمّة الإسلاميّة ؛ ولكنّ حكم الله على أيّ حال ينبغي أن يكون محفوظاً في القضيّة والموضوع.
وتشخيص أولي الأمر ما فيه صلاح الأمة الإسلاميّة كتشخيص الإنسان ما فيه صلاحه بالنسبة إلى شؤونه الخاصّة، وما يفعله، أو يتركه. فاختياره في كلّ الأحوال ثابت لا يتغيّر. وعلى سبيل المثال، فإنّ كلّ واحد منّا حرّ في أكل الرمّان يوم الجمعة، وفي عدم أكله. بَيدَ أنّا لا نستطيع أن نغيّر حكماً؛ كما لو أردنا أن نشرب خمراً أو نتعامل بالربا، أو نغصب مال الآخرين ونبطل حكم تملّكهم له، حتّى لو رأينا في ذلك مصلحة لنا. ذلك لأنّ ممارساتنا هذه ستتعارض مع حكم الله، وحكم الله ثابت لا يتغيّر. فهذا مثال في الممارسات الشخصيّة.
وموضوع وليّ الأمر يجري على نفس النسق. غاية الأمر أنّه يجري بالنسبة إلى الأمور العامّة وفقاً للمصالح الكلّيّة مع رعاية حفظ الأحكام الإلهيّة الكلّيّة استهداءً بالنهج الذي رسمه القرآن المجيد، و بيّنه النبيّ الكريم.
حكم عمر المخالف لحكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غير مقبول
والنتيجة الحاصلة إنّ وليّ الأمر هو بمنزلة أي مكلّف، غاية الأمر أنّه يتولَّى الشؤون النوعيّة التي هي للعامّة. فكلّ صلاحيّة وسلطة لشخص من الأشخاص في شؤونه الشخصيّة والعائليّة، بالنسبة لولي الأمر تعتبر من صلاحياته في الشؤون العامّة والاجتماعيّة.
ولوليّ الأمر حقّ التصرّف في الشؤون الإجتماعيّة وفقاً لما يراه صالحاً بالنسبة إلى المصالح العامّة مع رعاية حكم الله في كلّ واقعة وحادثة.
ولو قدّر أن يسمح لوليّ الأمر التصرّف في الأحكام التشريعيّة، والتكليفيّة أو الوضعيّة مراعاة للظروف الزمنيّة، فسوف لن يبقى أيّ حكم وأيّ شريعة أبداً. لأنّ كلّ واحد من أولي الأمر إذا رفع حكماً أو وضعه، فإنّ الشريعة سوف تتغيّر، و أساسها سوف ينقلب بعد تعاقب عدد من أولي الأمر، وبالتالى لا يمكننا أن نتصوّر معنى ومفهوماً لاستمرار الشريعة حتّى يوم القيامة.
وما الفرق بين أن يقال : إنّ حكم التمتّع بالنساء نكاحاً مؤقّتاً، وحكم التمتّع بالنساء في الحجّ وغيره لا ينسجمان مع مناسك الحجّ وطقوسه العباديّة و وضع الحاجّ ؛ و ينبغي رفعهما ؛ و بين أن يقال : إنّ استرقاق العبيد لاينسجم مع واقعنا المعاصر هذا اليوم، وينبغي إلغاؤه ؛ وبين أن يقال : إنّ المدنيّة المعاصرة لا تستسيغ ولا تستوعب تطبيق الحدود الإلهيّة كقطع يد السارق، و رجم الزاني وجلده، والقصاص من الشخص القاتل. و إنّ القوانين السائدة في عالم اليوم لا تقرّ ذلك ولا تقبله ؛ فينبغي رفع ذلك. ومثال ما ذكرنا كثير.
ويستفاد هذا المعنى من بعض الروايات المأثورة في هذا الباب : إذ جاء في بعضها أنّ اُبَيّ بن كَعْب قام بوجه عمر و قال له : ليس لك أن تغيّر حكم القرآن وحكم رسول الله ! ولم يجبه عمر.
جاء في “ الدرّ المنثور “ : أخْرَجَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْه في مُسْنَدِهِ وَ أحْمَدُ عَنِ الحَسَنِ : أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ هَمَّ أنْ يَنْهَى عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَامَ إلَيهِ اُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ؛ فَقَالَ : لَيسَ ذَلِكَ لَكَ ! قَدْ نَزَلَ بِهَا كِتَابُ اللهِ وَ اعْتَمَرْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ فَنَزَلَ عُمَرُ. ۱
وجاء فيه أيضاً : أخْرَجَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ وَ النَّسَائِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيّبِ قَالَ : اخْتَلَفَ عَلِيّ وَ عُثْمَانُ وَ هُمَا بِعُسْفَانَ في المُتْعَةِ ؛ فَقَالَ عَلِيّ : مَا تُرِيدُ إلاَّ أنْ تَنْهَى عَنْ أمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَسَلَّمَ ؛ قَالَ : فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ عَلِيّ أهَلَّ بِهِمَا جَمِيعاً. ٢
كلمات صادقة في الدعوة إلى لزوم الأخذ بالسنّة وترك البدعة
استبان لنا ممّا تقدّم أنّ هذه التغييرات والتحريفات التي قام بها عُمَر في الشريعة المحمّديّة كانت غير صحيحة. وعلى فرض اختياره للخلافة وحكومته الشعبيّة كما يظنّ العامّة، فإنّ تلك الممارسات لا تقبل منه.
ولم ينه عمر عن متعة الحجّ فحسب، بل ونهى عن متعة النساء وقال : من تزوّج امرأةً إلى أجل، أجريت عليه الحدّ .٣ أي : أنّه يجري حدّ الزنا على من يتمتّع بالنساء تمتّعاً شرعيّاً. وله في كثير من الأمور الاُخرى ممارسات مناهضة للشريعة، وهي مدوّنة في الكتب المفصّلة للشيعة والعامّة.
وتسلّم عثمان مقاليد الأمور تأسّياً بسنّة أبي بكر وعمر. فعندما لم تثمر المناقشات و المباحثات التي دارت في الشورى المرشّحة من قِبَل عمر بعد مضى ثلاثة أيّام، عرض عبد الرحمن بن عوف على أمير المؤمنين عليه السلام أن يبايعه على أن يعمل بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر [ فأبي الإمام ] فقال : بل على العمل بكتاب الله وسنّة رسول الله واجتهاد رأيي.
فعدل عنه إلى عثمان وعرض عليه ذلك فقال : نعم ! فبايعه ابن عوف، واختاره للخلافة وفقاً لهذا الأصل. ۱
ولهذا نرى عثمان في أيّام حكومته قد احترم ما أحدثه أبو بكر وعمر في الشريعة من مخالفات، وأيّد أحكامهما المختلقة. وكذلك كانت سجيّة معاوية بن أبي سفيان و باقي خلفاء بني أمية فإنّهم كانوا يحترمون سيرة الشيخين ؛ بينما لا نجد محملاً صحيحاً لذلك من منظار البحث العقليّ والنقليّ.
إنّنا نعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه لأنّنا نعتبرهما معصومين من الخطأ والانتهاك، وإلاّ فما هو الدليل القاطع الذي يلزمنا أن نبنى كسبنا وعلمنا وعبادتنا ونكاحنا وجهادنا وأمورنا الاجتماعية إلى يوم القيامة وبدون حجّة قاطعة على مبدأ ليس له ركيزة قويّة راسخة ؟
ما هو المبرّر لممارسات عمر، والحال أنّه لم يكن معصوماً، ولم يرد في كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه و آله ما يجيز عمله؟ ! إذن بأي حق تصرّف كذلك؟ و إذا كان تصرّفه معتمداً على دليل هو يعرفه! لكن بالنسبة لنا ما هو دليلنا العقلي والشرعي الذي يجيز لنا اتباعه إلى يوم القيامة ؟ و احترام أمره و نهيه و إعطاء تشريعه قيمة و اعتباراً مقابل كتاب الله و تشريع رسول الله صلّى الله عليه و آله و نعتبر ذلك قاعدة من قواعد الدين ؟ !.
ولو كانت لعمر حكومة شرعيّة، و كان وليّ الأمر على أساس الواقع والحقيقة، فإنّ ذلك يرتبط بعصره، و ينبغي أن تطبّق أوامره ونواهيه في زمانه، لا أن تبقى نسْلاً بَعْدَ نَسْلٍ وَجيلاَ بَعْدَ جِيلٍ إلى الأبَدِ.
هذه طامّة كبرى قد ابتلى بها إخواننا العامّة. وليت شعري ما هو الدافع لهم على أن يثقلوا كواهلهم بهذه الأعباء و الأوزار والمتاعب ؟ وما هو مرادهم من القول "لبّيك" وما الهدف من القيام بالحجّ؟ إن كان من أجل اتّباع الحقّ والحقيقة، وأمر الله وكتابه وسنّة رسوله، فقد علمنا أنّة ليس كذلك.
وإن كان إرضاء لعمر وغيره من الخلفاء، فلا بدّ أنّ نعلم أنّ ذلك خطأ لا يغتفر، وسيشملهم قوله تعالى: وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ.٢
إنّ كتاب الله وسنّة رسوله أصلان من أصول العمل بالدين؛ و إقحام سيرة الشيخين وسنّة عمر يمثّل نسخاً للقرآن والشريعة المحمّديّة، و إدخالاً للباطل وتضعيفاً للكتاب. وخلافنا نحن الشيعة مع إخواننا العامّة هَدَاهُمُ اللهُ إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ وَ النَّهْجِ القَوِيمِ هو أنّنا نجعل كتاب الله و سنّة رسوله والمعصومين محوراً وأساساً للدين والاستنباط، بَيدَ أنّهم يلحقون بهما سيرة الشيخين ؛ وبالتالي فإنّ مبادئهم المستنبطة مستمدّة من أفكار الشيخين وآرائهما.
ومن الضروريّ هنا أن نذكر نكتة تتمثّل في أنّ العامّة يعتبرون أمير المؤمنين عليه السلام خليفة رابعاً بدون أيّ إشكال. ويطلقون على الخلفاء الأربعة : الخلفاء الراشدين. و يحقّ لنا أن نقول هنا متسائلين : ما هو الدليل الذي يلزمكم بالعمل بسيرة الشيخين ولا يلزمكم بالعمل بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام ؟ ألم يكن خليفتكم المنتخب بالحقّ ؟ لماذا تعرضون عن سنّته ولا تعملون بها ؟ وقد جاء في كتبكم المعتبرة كلّها أنّه كان يجيز المتعة، وقد أفتى بإباحة الزواج المؤقّت علناً، وكان يأمر بحجّ التمتّع جهاراً، فَلِمَ لا تقدّمون سنّته وسيرته على سنّة الآخرين وسيرتهم ؟ وعلى فرض تعارضها مع سيرة عمر و أبي بكر و تساقط السيرتين من الحجّيّة، بَيدَ أنّ الأصل هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة، وهو ما يمثّل ـ بالتالى ـ فقه أهل البيت عليهم السلام. وقد آن الأوان لإخواننا العامّة أن يرجعوا إلى تأريخهم ويسبروا زواياه وحناياه بالفكر والتأمّل، والدراية والتدبّر. ويفرزوا بالجرح والتعديل ما أضيف إلى الدين ووضع فيه، ويعملوا وفقاً لما يتطلبّه الواقع ومتن الحقّ.
ومن المناسب هنا أن نذكر حكايتين : الاُولى : جاء في “ الدرّ المنثور “ : أخرج البخاريّ، ومسلم عن أبي حمزة قال : سألت ابن عبّاس عن المتعة، فأمرني بها. وسألته عن الهَدْي، فقال : فيها جزور، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم ! قال: وكان ناس كرهوها، فنِمت، فرأيت في المنام كأنّ إنساناً ينادي : حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فأتيت ابن عبّاس، فحدّثتُهُ، فقال : اللهُ أكبَرُ، سُنَّةُ أبي القاسِمِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [ وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ. ۱
الثانية : نقل عن الراغب الإصفهانيّ في كتابه : “ المحاضرات “ وهو من الكتب المفيدة، أنّه قال : سأل يحيي بن أكثم شيخاً من أهل البصرة فقال له : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟ فقال الشيخ : بعمر بن الخطّاب. فقال له : كيف و عمر كان من أشدّ الناس فيها ؟
قال [ الشيخ ] : نَعَمْ، صَحَّ الحَديثُ عَنهُ أنَّهُ صَعَدَ المِنْبَرَ فَقَالَ : يَا أيُّهَا النَّاسُ ! مُتْعَتانِ أحَلَّهُمَا اللهُ وَ رَسُولُهُ لَكُمْ ؛ وَ أنَا اُحَرِّمُهُمَا عَلَيْكُمْ وَ أعَاقِبُ عَلَيْهِمَا. فَقَبِلْنَا شَهَادَتَهُ؛ وَ لَمْ نَقْبَلْ تَحْرِيمَهُ. ۱
[تمّ انتخاب هذا البحث بتصرّف وتلخيص من كتاب معرفة الإمام، الجزء السادس ص ٤٢ حتى ۱۱۸ لمؤلّفه سماحة آية الله السيد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه].