المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم التاريخ و الاجتماع
التوضيح
هو العليم
بر الوالدين بين المادية والإسلام
استخرج هذا البحث من «نور ملكوت القرآن»
لسماحة آية الله العلامة السيد محمد الحسين الطهراني
قدس سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:۱
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا ، وَ قَضَى رَبُّكَ ألَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أحَدَهُمَآ أوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ افٍّ وَ لَا تَنْهَرْهُمَا وَ قُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَ اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ، رَّبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ إن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كان لِلأوَّابِينَ غَفُورًا }٢
بر الوالدين من سبل السلام
يشير [تعالى] في هذه الآيات إلى سبيل من سبل السلام، ألا و هو احترام الأبوين و إكرامهما في سنّ الكهولة، و فوق ذلك في سنّ الهرم حين يبدأ التهالك و الضعف بالهجوم على بدنيهما إثر
الشيخوخة والهيمنة التدريجيّة لجيوش الموت، وربّما سيبدر منهما في تلك السنّ -بلا قصد- الكلام الخشن والعبارات غير الجميلة المسبّبة عن الإرهاق وعدم تحمّل المشاكل والمزعجات من الأمور.
ويصدر القرآن هنا تعاليمه فيأمر الولد أن يبّر والديه ويعاملهما باحترام وأدب، وببذل المساعي الجميلة في تأمين حوائجهما، وبخفض جناح الذلّ والخضوع، بلا إكراه أو إجبار، ولا لحسابات مصلحيّة أو من باب الاحتياط، بل لمحض الصدق والإخلاص وعين الرحمة والرأفة، بل إنّ عليه -مضافاً إلى تحمّل المشاق من أجلهما- أن يدعو لهما بطلب الرحمة والمغفرة من الله تعالى.
ونلاحظ أنّ الإسلام قد اعتبر برّهما الذي يقترن بمجاهدة النفس ورياضتها، من أهمّ تعاليمه التي جعلها جزءاً من الوظائف العمليّة للإنسان.
إنّ الإنسان يتحمّل المشاق منهما فيطهر من هوى النفس، ويصبر على ما يكره منهما فيجُزى الأجر الجزيل، ويكتسب سعه الروح والصدر، ويرضي والديه فيدعوان له بالخير؛ وسيصبح هذا المجتمع العائليّ الصغير من الأبوين والأولاد مركزاً للمحبّة والإخلاص، فالابن يبرّ والديه ويسعى في خدمتهما، وهما المحبّان اللذان يلهجان له بالدعاء، حتى تذوى حياتهما وتنطوي شيئاً فشيئاً فيُودَعان الثرى بإعزاز واحترام ودعاء لهما بالغفران، ثمّ تمضي الحياة فيصبح الأبناء أنفسهم آباءً وأمّهات، ثمّ يضعفون ويهرمون فيعاملهم أبناؤهم بما عاملوا به والديهم.
بكاشتند و بخورديم و كاريم و خورند | *** | چو نيك بنگري همه برزيگران يكدگريم |
يقول: [زرعوا فأكلنا و نزرع فيأكلون، فلو أمعنت النظر فكلّ منّا لبعضه مزارع]
بين الإسلام والحضارة الماديّة
لكنّ الثقافة الضالّة، والحضارة الغربيّة والشرقيّة، لا تقيم وزناً للإنسان، ولا تعترف له بشخصيّة ولا أصالة، بل هو في نظرها ليس إلّا وسيلةً من وسائل العمل، وأداةً للحصول على المقاصد المادّيّة والموارد الاقتصاديّة.۱
فالأبوان يمتلكان المقام والمنزلة في المجتمع مادام في إمكانهما العمل ودرّ المنافع المادّيّة، لكنّهما حين يعجزان عن العمل أو قضاء أعمالهما الخاصّة بنفسيهما ـ للمرض أو لضعف الشيخوخة وفتورها ـ يصبحان في نظر المجتمع والقانون، وحتّى في عرف الناس، عالتينِ لا قيمة لهما ولا أهمّيّة ولا اعتبار، فيعمد أولادهما إلى التعاقد مع المستشفيات الخاصّة فيبيعون -مقدّماً- أعينهما وكليتيهما، فيعمد إليها عند نزعهما واحتضارهما، فتنتزع العيون من أحداقها بالسكّين، وتُبقر البطون فيستأصل القلب والكلى، و يمثّل بالبدن ويمزّق تمزيقاً، ثمّ يتركانهما للدولة لتتولّى مسألة دفنهما.
لقد مثّل الآباء والأمّهات دور الأبقار الحلوب، تُحلب ما درّت ضروعها، حتى إذا ما كبرت وهرمت وانعدمت عوائدها، عدّت عضواً زائداً شاذّاً في المجتمع، فُينقل الآباء والأمّهات -طوعاً أو كرهاً- بعيداً عن المجتمع إلى محلّ خاصّ بين المدينة والمقابر، أشبه ما يكون بالسجن الواسع أو المستشفى الأبديّة، يدعونه فندق الكبار أو دار استراحة العجزة والمسنّين.
لا أنس لهم هناك ولا أنيس، ولا صديق ولا دار ولا ديّار، بل هي الوحدة، والوحدة المرّة القاتلة، والفراغ المميت والوحشة الرهيبة حتّى الموت.
إنّهما الأبوان اللذان قضيا عمرهما وضيّعاه من أجل هذا الولد، وأنفقا من أجله وجودهما ومالهما وحياتهما؛ لكنّهما حين تخطّاهما الزمن فكبرا وعجزا عن تأمين متطلّباتهما الخاصّة أصبحا عبئاً متعباً ثقيلًا للابن!
الرجل بين زوجته ووالديه!
والأسوأ من ذلك أنّ زوجة ابنهما لم تعد لتسمح ببقائهما في المنزل، بل تعتبرهما جراثيم ضارّة، لربّما أمرت فخُصّص لهما غرفة الخدم، أو أشارت فألقي بهما إلى الخارج، فينقلان إلى دار العجزة والمسنّين.
لقد صار الابن عبداً طيّعاً لزوجته، لقد انغمر في الشهوات، وذاب في عشق الجمال الظاهريّ فقدّم إرادتها في أمور الحياة، حتى صار بإشارة بسيطة منها تكفيه ليسعى بمنتهى الجدّ لتنفيذها مهما كلّف الثمن أو كانت التضحيات.
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا | *** | دين و آخر ديّن لا عقل له |
عشق هائی كز پی رنگی بود | *** | عشق نبود عاقبت ننگى بود۱ |
يقول: [علاقات الحبّ السطحيّة القائمة على الألوان والمظاهر هي ليست عشقًا، وستكون عاراً في نهايتها]
لقد تخلّى الابن لزوجته عن مسؤوليّة إدارة أمور المنزل، بل ومسؤوليّة تسيير أموره الشخصيّة، و كذا ما يتعلّق منها بخارج المنزل، فصارت فعّالة لما تشاء، حاكمة بما تريد عليه.
إنّ الزعامة في الأمور والتفويض و حرّيّة الاختيار حين تصبح في يد النساء، فمن الواضح أين سيسقن الرجال، وفي أيّ طريقٍ سيوردنْهم، ومن أين سترد الضربة القاصمة للمجتمع السليم و للسلام. و هنا تشرق هذه الآية المباركة من أفق الغيب فتهتك الستر الخفيّ هاتفةً: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ بِمَآ أنفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ}٢
و لا ينقضي العجب من أنّ الكلام كثيراً ما يدور هذه الأيام حول آية: {إ نَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أتْقَاكُمْ}، فيعتبرها مدّعو معرفة الإسلام قانوناً أصيلًا يعدّ من مفاخر القرآن، بَيدَ أنّهم لا يأتون بذكرٍ لآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ}، أو لجملة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}، أي لمسألة لزوم طاعة النساء للأزواج، كأنّهم جزّأوا الإسلام فقبلوا منه بعضاً ورفضوا بعضاً، مع اعترافهم اللفظيّ الشكليّ بجميع القرآن وإقرارهم الكلّيّ بجميع أحكامه.
إنّ الفتاة التي لا تقبل قيمومة الرجل على المرأة، ووجوب طاعته والتسليم له، وكان في نيّتها أن تُخضِع الزوج لسيطرتها بعد الزواج، فتأمره و تنهاه، وأن تتسلّط على الأمور بالحيلة والمكر
بمختلف الوسائل؛ وبشكلٍ عامّ فلو كانت تعتقد أنّ المرأة ينبغي أن تتسلّط على الرجل أو تتدخّل في أموره، فهي في الحقيقة ترفض هذه الآية ولا تقبلها، حتى لو احترمت القرآن وبجّلته والتزمت بفتحه أمام أعينها في مجلس العقد، وسيكون عقد زواجها في هذه الحالة باطلًا، لأنّه لم يجرِ وفق شريعة رسول الله ووفق كتاب الله. وللّه الحمد وله الشكر فقد كتبنا «رسالة بديعة: الرّجَالُ قَوَّامُونَ»٣ وطُبعت ترجمتها أيضاً، وانتشرت، وحريّ بالجميع- رجالًا و نساء- أن يقرأوا هذه الرسالة ليتعرّفوا على روح الإسلام وسموّ نظرته بشأن حكمة المجتمع، والواجبات المهمّة للرجال والنساء، من أجل تشكيل مجتمع صالح يقوم على أساس التعاليم القرآنيّة لا الأوهام الشخصيّة أو الأفكار الجاهليّة.
وجوب احترام الأبوين ولو كانا مشركين
لقد رفع الإسلام مسألة وجوب احترام الوالدين وإجلالهما للحدّ الذي عدّ القرآن الكريم احترامهما ومصاحبتهما بالمعروف في الأمور الدنيويّة أمراً واجباً ولو كان الأبوان مشركينِ، مع أنّه حرّم متابعتهما في الشرك أو إطاعتهما في المسائل المخالفة للدين، وفي تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وأغلق طريق متابعتهما بشكل كامل في هذا المجال.
{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ امُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ أنِ اشْكُرْ لِى وَ لِوَالِدَيْكَ إلي المصِيرُ ، وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبعْ سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إلي ثُمَّ إلي مَرْجِعُكُمْ فَانَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ}۱
{وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَ إن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إلي مَرْجِعُكُمْ فَانَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}٢
لقد كان الفتيان اليهود والنصارى يقدمون إلى المدينة فيُسلمون، ثمّ يعودون إلى ديارهم فيصبح سلوكهم ومعاملتهم مع آبائهم وأمّهاتهم الخارجين عن دينهم أفضل وأجمل، ممّا كان يثير عجب آبائهم وأمّهاتهم ودهشتَهم، فيتساءلون: كنّا نظنّكم -و قد تبعتم دين محمّد- تتركوننا و شأننا، لكنّنا نرى محبّتكم وعطفكم قد زادا، وسعيكم في حوائجنا وبرّكم لنا ووقفَكم أنفسكم على خدمتنا صار أكثر!!
فيجيبونهم: إنّ هذه المعاملة من أوامر وتعاليم الدين الإسلاميّ؛ فكان الأبوان يأتيان المدينة فيُسلمان، وتسلم معهم قبائلهم و طوائفهم.٣
روى في «أصول الكافي» بسنده المتّصل عن أبي ولّاد الحنّاط، قال: سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيه السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا}، مَا هَذَا الإحْسَانُ؟
فَقَالَ: الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُمَا، وَأنْ لَا تُكَلِّفْهُمَا أنْ يَسْألَاكَ شَيْئَاً مِمَّا يَحْتَاجَانِ إليه وَإنْ كَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ، أليسَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}؟
ثُمَّ قَالَ أبُوعَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَ أمَّا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: {إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أحَدُهُمَآ أوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، قَالَ: إنْ أضْجَرَاكَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أفٍّ، وَلَا تَنْهَرْهُمَا إنْ ضَرَبَاكَ وَتَدْفَعُهُمَا عَنْكَ.
قَالَ: {وَ قُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} قَالَ: إنْ ضَرَبَاكَ فَقُلْ لَهُمَا: غَفَرَ اللهُ لَكُمَا. فَذَلِكَ مِنْكَ قَوْلٌ كَرِيمٌ، قَالَ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قَالَ: لَا تَمْلأ عَيْنَيْكَ مِنَ النَّظَرِ إليهمَا إلَّا بِرَحْمَةٍ وَرِقَّةٍ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فَوقَ أصْوَاتِهِمَا، وَلَا يَدَكَ فَوْقَ أيْدِيهِمَا، وَلَا تَقَدَّمْ قُدَّامَهُمَا.
وكذلك فقد أورد في «أصول الكافي» بسنده المتّصل عن الصادق عليه السلام أنّه قال: لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئَاً أدْنِى مِنْ أفٍّ لَنَهَى عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أدْنَى العُقُوقِ، وَمِنَ العُقُوقِ أنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلى وَالِدَيْهِ فَيُحِدَّ النَّظَرَ إليهمَا. ۱
انظر إلى هذه التعاليم والتربية العالية، وإلى هذا الأسلوب والمنهج الملكوتيّ الذي يهدي به القرآن من اتّبعه إلى سُبل السلام، وقارنها بتعاليم الأمم الكافرة وأسلوب معاملة بعض الشباب المغرور الذي سافر إلى أوروبّا وأمريكا فأضلّه بريق المدنيّة الزائف، فصعّر خدّه، وتقدّم على أبيه في المجالس والمحافل، لا يبالي؛ وقد شاهدت بنفسي دكتوراً أخصّائيّاً سبق أباه في الدخول لأحد المجالس ووالده يتبعه ويسير خلفه، ونُقل أعجب من هذا عن دكتورٍ شابّ عاد من بلاد الكفر فجاءه رفقاؤه وأصحابه القدامى لزيارته، وكان أبوه العجوز واقفاً يستقبل القادمين ويقوم بخدمتهم، فالتفت هذا الدكتور لشدّة غروره وعجرفته قائلًا لضيوفه: هذا الرجل مستخدم جئنا به للخدمة في البيت.
{أفٍّ لَّكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ}٢
حقّاً! إنّ الإنسان إذا قال أفٍّ لأهواء وأفكار هؤلاء المستكبرين الذين حازوا على مقامٍ ومركزٍ حديثاً، ولو قال أفٍّ ثمّ بصق عليهم وعلى فكرهم و أسلوبهم ونهجهم لما تجانف عن الحقّ، ولكان في ذاك محقّاً مصيباً. أفهذه الأعمال تصدر من أمّةٍ قال نبيّها: الجَنَّةُ تَحْتَ أقْدَامِ الامَّهَاتِ؟!٣ و ٤
كان ما سبق بحثاً علميّاً و تفسيريّاً للآية المبحوثة، و من جانب آخر فإنّ البحث الوجدانيّ و الشهوديّ عن تأثير دعاء الوالدينِ في حقّ ولدهما، وما له من القدرة على رفعه في معارج الكمال و مدارجه، والشواهد والتجارب المشهودة في ذلك هي من الكثرة بحيث لا يسعها هذا الكتاب.
قصّة مَنْ كُشِفَ له حجاب الملكوت لبرّه بأمّه
وأنقل هنا فقط ملاقاةً لي مع شخصٍ ارتقى إلى مقام عالٍ إثر خدمته لُأمّه، و حدث له كشف الحُجب الملكوتيّة:
حدث أن ذهبت في طهران يوماً إلى المكتبة الإسلاميّة الواقعة في شارع (بوذر جمهري)، و كان الحاجّ السيّد محمّد الكتابجيّ، و هو أحد المشاركين في هذه المؤسّسة، مشغولًا في مخزن الشركة الواقع في انتهاء شارع (بامنار) قرب شارع (بوذر جمهري) الذي تقع فيه المكتبة، و كان هذا السيّد المذكور من بين الإخوة المتصدّين لمسؤوليّة إدارة مخزن الكتب و إرسال طلبات الكتب إلى المدن الأخرى، و بيع الكتب بالجملة. و قد زرته لرؤيته في ذلك المخزن لما بيننا من رابطة صداقة قديمة، و كنت أذهب إليه غالباً لشراء ما أحتاج من كتب.
كان الوقت صباحاً، و لم يكن لأذان الظهر بعد سوى أربع ساعات، و كان هناك رجل جاء لشراء بعض الكتب، و قد بسط حزامه الجلديّ على الأرض و صفّ عليه بعض الكتب التي ابتاعها كالقرآن و «مفاتيح الجنان» و «كليلة و دمنة» و بعض القصص و الرسائل العمليّة، منتظراً ليجمع باقي الكتب التي تلزمه. و أخيراً و بعد إتمام هذا العمل حزم كتبه-و كانت بحدود الخمسين كتاباً-
في حزامه الجلديّ و تهيّأ للخروج، ثمّ قال فجأة: الله حبيبي، الله طبيبي، مُعيني معيني، روحي روحي.
نظرتُ إليه فكان وجهه قانياً جدّاً و قد لمعت حبّات من العرق على جبهته، و كان غارقاً في الوجد و السرور بلا حدّ.
قلتُ: أيّها العزيز! أيّها الدرويش العزيز! ليس من طبائع الأدب أن تنفرد بالمائدة فلا تشارك أحداً!
فبدأ بالدوران حول نفسه، و دار دورة واحدةً، ثمّ ترنّم بصوت عالٍ فيه حرقة بهذه الأبيات للشاعر بابا طاهر العريان، وكان صوته فصيحاً حزيناً:
اگر دِل دلبر، دلبرْ كدام است | *** | و گر دلبر دل، دل را چه نام است؟ |
دلي ديرُمْ خريدار محبّت | *** | كز او گرم است بازار محبّت |
لباسي بافتم بر قامتِ دل | *** | ز پود محنت و تار محبت |
غم عشقت بيابون پرورم كرد | *** | هواي بخت بي بال و پرم كرد |
بمو گفتي صبوري كن صبوري | *** | صبوري طُرفه خاكي بر سرم كرد |
به صحرا بنگرُم صحراتَه وينُم | *** | به دريا بنگرُم دريا تَه وينم |
بهر جا بنگرم كوه و در دشت | *** | نشان از قامت رعناته وينم |
يقول: [إذا صار القلب هو الحبيب فمن سيكون الحبيب؟ و إن صار الحبيب هو القلب فماذا سنسمّي القلب؟!
لقد اتّحد القلب و الحبيب كلاهما، فأصبحتُ لا أدري مَن القلب و من الحبيب.
إنّ قلبي لشغوف بشراء المحبّة و العشق، وقد صار سوقُ العشق بسببه رائجًا.
ولقد حِكْتُ لقامة الحبيب ثوباً، فكانت لحْمتُه المحنة و سُداه المحبّة.
أدّى غمَّ عشقك أن سكنت الصحراء فصرت حليفها، و رماني هوى الحظّ بلا ريشٍ و لا جناح.
قلتَ لي: كن صبوراً كن صبوراً، فصبرت حتّى فقد الصبر صبره منّي ورماني بقبضةَ ترابٍ على رأسي.
أنظر الصحراء فأراك الصحراء، وأتطلّع إلى البحر فأرى بحرك.
حيثما نظرتُ إلى جبلٍ أو صحراء، رأيتُ آيةً من قامتك الرشيدة]
ثمّ سكت في هذه الحال، و بكى بشدّة، ثمّ أشرق وجهه بالسرور والبهجة فضحك.
قلتُ: أحسنت أحسنت، أنا حقير فقير عاجز، أنتظر دعاءك لي، فبدأ يقرأ هذه الأبيات:
موازِ "قالوا بلى" تشويش ديرُم | *** | گنه از برگ و بارُون بيش ديرُم |
اگر "لَا تَقْنَطُوا" دستم نگيره | *** | مواز "يَا وَيْلَتَا" أنديش ديرُم |
بورَه سوتَه دلان تا ما بناليم | *** | ز دست يار بى پروا بناليم |
بشيم با بلبلِ شيدا به گلشن | *** | اگر بلبل نناله ما بناليم |
بورَه سوتَه دلان گردِ هم آئيم | *** | سخن واهم كريم غم وانمائيم |
ترازو آوريم غمها بسنجيم | *** | هر آن غمگينتريم است سنگينتر آئيم |
يقول: [أنا خائف من عالم الذرّ وأشعر بالقلق والاضطراب ممّا قلت حين «قالوا بلى»، فقد فاقت ذنوبي قطرات *** المطر وأوراق الشجر.
ولو لم تأخذ آية «لا تقنطوا» بيدي وتخرجني من قلقي، فستبقى آية: «يا ويلتا» هي الذي تشغل فكري.
تعالَوا ذوي القلوب المحترقة الولهى نبكي ونتأوّه، من حبيب لا يضرّه الصدّ و الإعراض.
ولنجلس مع البلبل العاشق في الروضة، فإن تصبّر على عشق الورد فلم يَبُحْ بآهاته، فنحن سنئنّ ونتأوّه من عشق معبودنا.
تعالَوا ذوي القلوب الحرّى المحترقة نجتمع معاً فنفضي إلى بعضٍ همومنا.
ولْنَزِنْ غمومنا فنقارن بعضها إلى بعض، فأيّنا أكثر غمّاً فهو أثقل ميزانًا].
قال: طريقك سليم والحمد للّه، دعني و شأني أيّها السيّد، فأنا فقير عاجز، و لا تضع حملًا آخر على كاهلي. ثمّ قال: جئتُ يوماً لأبتاع كتباً، و كان العلّامة (دهخدا)۱ قد جاء أيضاً، فتحدّثنا لبعض الوقت ثمّ قلتُ له: من الإنصاف القول بأنّك بذلت جهداً ضخماً و تحمّلت معاناة كبيرة، ولكن لا تظنّ أنّ الأمر قد انتهى بذلك، فأيّ شيءٍ كان العمر سيُثمر لو صُرف في طرق أخرى؛ يا للأسى؟! و أي شيءٍ كان سُينتج؟!
هاتِ ما عندك الآن لنرى، تعالَ لنَر ما في يدك الآن!
تَه كه ناخوانده اى علم سماوات | *** | تَه كه نابردهاى ره در خرابات |
ته كه سود و زيان خود نزوني | *** | به يارون كي رسى هيهات هيهات |
يقول: [يا مَنْ جهلتَ علم السماوات! *** يا من لم ينل مقام العرفاء ولم يهتد طريقهم في الخرابات
يا من لم يفرّق بين ما يضرّه وما ينفعه، هيهات أن تلحق بعشّاق هذا الطريق هيهات!!.]
فاهتز العلّامة، ثمّ غرق في التفكير لبعض الوقت، وامتقع وجهه قليلاً، ولم ينبس ببنت شفة.
أمّا أنت فأنا أعرفك، فأنت تصلّي في مسجد القائم، وقد جئتُ إلى ذلك المسجد وسآتي فيما بعد فلا مكان معيّن لي، في الليل لا يغمض لي جفن، أطوف مناطق (طهران بارس) و(طهران الجديدة)
و(طرشت)، أذهب هنا وهناك وأدور على المقاهي، وقد كان منزلي السابق في بوّابة (شميران)، لكنيّ منذ وفاة والدتي لا أذهب هناك إلّا نادراً.
قلتُ: لقد نلتَ عنايات من الله تعالى، أفكان هناك حسب الظاهر سبب خاصّ -حسب اعتقادك- لهذه العنايات التي وُهبتَها؟
قال: نعم، كان لي والدة عجوز مريضة وعاجزة، ثمّ أصبحتْ مُقعدة منذ سنوات، وكنت ألِي خدمتها بنفسي وأؤمّن احتياجاتها وأعدّ غذاءها وأحضر عندها ماءَ وضوئها، وخلاصة الأمر فقد كنتُ حاضراً عندها انفّذ رغباتها بصبر وتحمّل؛ وكانت حادّة المزاج وسيّئة الخلق، تشتمني أحياناً فأتحمّل وأبتسم في وجهها بحنوّ.
وآثرتُ من أجلها العزوف عن الزواج مع أنّي قد جاوزت الأربعين، إذ كنتُ سأعجز عن إبقاء زوجتي مع أخلاق والدتي تلك، وحسب علمي أنّ اختياري الزواج يعني أنّ حياتي ستستحيل جحيماً لا يُطاق، وأنّني سأجبر على ترك والدتي، وكان هذا الأمر بالنسبة لعاطفتي وضميري أمراً غير ممكن، لذا تحمّلت مسألة عدم زواجي ولقّنتُ نفسي الإقتناع بها.
وكان يومض في قلبي فجأة؛ إثر تحمّل المصاعب والمشاكل التي تواجهني معها؛ إشعاع ونور كالبرق يضيء للحظة فيملأ القلب بهجة، لكنّه كان سريعاً ما يخبو ويخمد.
حتّى جاء أحد أيّام الشتاء، وكان الجوّ بارداً، وقد بسطتُ فراشي قريباً من والدتي في غرفتها كي لا تبقى وحدها ولا تحتاج لندائي بصوتٍ عالٍ إن أرادت شيئاً، وكنتُ في تلك الليلة قد أعددتُ إناء الماء بجانبي كي أناولها الماء حالما تطلبه منّي.
وقد نادتني في الليل فطلبتْ ماءً، فنهضتُ من فوري وسكبتُ الماء في إناء وقدّمته لها وقلتُ: خذي يا أمّاه فدتك روحي. لكنّها كانت مثقلة بالنعاس فلم تفطن إلى سرعة عملي وظنّت أنّي تأخّرت في إحضار الماء، فشتمتني شتماً غريباً وضربت بالإناء على رأسي، فأعدتُ ملء الإناء وقلتُ: خذي يا أمّاه العزيزة واعفي عنّي فأنا أرجو غفرانك.
ثمّ لم أفهم ما حدث فجأة، وباختصار: لقد تحقّق ما كنتُ أصبو إليه، وتبدّلت تلك الومضات إلى عالم نورانيّ يضيء كالشمس، لقد كلّمني حبيبي ومعيني وإلهي وطبيبي، ولم يقطع نجواه عنّي، و قد دامت هذا الحال ولم تنقطع بعد مرور سنوات عليها.
ثمّ سحب حذاءه بسرعة وحمل كتبه على عاتقه وودّع قائلًا: سأجيء عندكم إن شاء الله؛ و تحرّك للخروج من باب المخزن ثمّ التفت إلينا في هذه الحال بوجهه وأنشد هذه الأبيات بذلك اللحن نفسه:
منم كه گوشه ميخانه خانقاه منست | *** | دعاى پير مغان وِرد صبحگاه منست |
گرم ترانه چنگ و صبوح نيست چه باك | *** | نواى من به سحرآهِ عذرخواه منست |
ز پادشاه وگدا فارغم بحمد الله | *** | گداي خاك درِ دوست پادشاه منست |
غرض ز مسجد و ميخانهام وصال شماست | *** | جز اين خيال ندارم خدا گواه منست |
مگر به تيغ أجَل خيمه بركنم ورنه | *** | رميدن از در دولت نه رسم و راه منست |
از آن زمان كه برين آستان نهادم روى | *** | فراز مسند خورشيد تكيهگاه منست |
گناه اگر چه نبود اختيار ما حافظ | *** | تو در طريق أدب باش و گوگناه منست ۱ |
يقول:
أنا الذي رُكنُ الحَانِ صومعتي ومجلس أنسي *** وأنا الذي دعاء شيخ الطريقة وِردُ صباحي
وإن لم تكن لي قيثارة الصبح وشرابه فلا أبالي *** فآهات أسحاري فيها للحبيب اعتذاري
وسيّان عندي أن أكون ملكاً أو فقيراً *** ومليكي هو الفقير الواقف على أعتاب حبيبي
وغرضي من المسجد والحانة وصالك *** ليس لي غرض سواك والله شهيدي
ما تقاعست يوماً عن باب دولتك *** ودون أن يشاء سيف الأجل فلن أجمع عن بابك خيامي
ومذ يممّت وجهي شطر أعتابك *** صار عرش الشمس الرفيع متكئي ومثوائي
فيا حافظ وإن لم يكن باختيارنا أصل ارتكاب الذنب *** فالزم طريق الأدب وقل: إنما الذنب ذنبي]
ثمّ لم نره بعد ذلك، و حدث أن كنتُ ذاهباً إلى المسجد قبيل الغروب مستقلًّا سيّارة أجرة، فتوقّفت السيّارة عند ضوء المرور الأحمر قرب بوّابة (شميران) عند انتهاء شارع (فخر آباد)، فرأيته مارّاً من هناك، فحيّاني من خلف زجاج نافذة السيّارة وأشار بإصبع السبّابة أن (ها، لقد رأيتُك)، فسلّمتُ عليه بدوري وتحرّكت السيّارة. ولقد قصصت حكايته على بعض الأصدقاء من سكنة بوّابة (شميران) فقالوا إنّهم يعرفونه، وإن والدته توفّيت قبل سنوات، وإنّهم يعرفونه كذلك بتلك الأخلاق والحالات.۱
أمّا الحاجّ السيّد محمّد الكتابجيّ، فقال في إيضاح حاله إنّه بائع جوّال يشتري بعض الكتب منّا بقدر ما يمكنه بيعه، ثمّ يضعها على رصيف الشارع فيبيع ما يحتاجه الناس منها، وهو رجل أمين في معاملته، يأتينا يوميّاً بقائمة الكتب التي يحتاجها فنعدّها له، ثمّ يأتي بثمنها عصراً بعد بيعها، وتنتابه أحياناً حالات تجاهل حتى لا يعرفه أحد، وقد شاهدنا منه حالات عالية.
نعم، كان المراد من ذكر هذه القضيّة بيان النتائج المعنويّة لخدمة الأمّ التي حين تفتح قلبها فإنّ أبواب السماء تُفتح معه؛ قلب الأمّ مستودع الحبّ الإلهيّ وخزينة السرّ الإلهيّ، إن أغلق أغلقت معه أبواب السماء، و إن فتح فُتحت معه.
و قد رأينا الكثير ممّن سلكوا طريق الله تعالى وأمضوا مدّة بالتهجّد وقيام الليل وصيام النهار والرياضات المشروعة، لكنّ معاملتهم مع أبويهم كانت سيّئة فلم يوفقّوا ولم يقطفوا ثمرة جهودهم، أو يحصلوا على حاصل أتعابهم، ولم يحصل لهم كشف باب أو يُفتح لهم بشيء بعد مرور الأعوام المتمادية.
لكنّ أفراداً؛ كهذا الرجل؛ لم ينشغلوا كثيراً بالرياضات والنوافل وترك المكروهات، لكنّهم إثر مراعاة الأمور المتعلّقة بنفوس الناس؛ كترك تسبيب الأذى لمن تحت يدهم و سلطتهم، وتحمّل أذى الناس والصبر عليه، وتوقير ذوي الحقوق من الوالدين والكبار والأولياء وإكرامهم؛ قد نالوا مقامات عالية ودرجات سامية.
نعم، فمن البحث في هذه الآية الكريمة وبيان هذه القضيّة فقد اتّضحت كيفيّة هداية القرآن إلى سُبل السلام، وكيف أعطيت البصيرة واليقين للبائع المتجوّل المعدَم الحامل لبضاعته المزجاة يوميّاً على عاتقه، الجارّ قدميه جرّاً فوق الأرض؛ بحيث يعجز عقلاء العالم عن إدراك أمره، فصار يضحك ساخراً من كلّ هذه التعيّنات والأمور الاعتباريّة، عابراً في هذا العالم بوعي وبصيرة ملكوتيّة، مترحّماً على الناس العميان عن إدراك الحقائق والمعنويّات، معتبراً أنّه يتصدّر عالم الإمكان في مقامٍ صار مسند الشمس العالي متّكأه.
[انتخب هذا البحث من كتاب: نور ملكوت القرآن، ج۱، ص: ۱۰٦ ـ ۱٢٣ تأليف آية الله العلامة السيد محمد الحسين الطهراني. وتجدر الملاحظة إلى أنّ العناوين هي من فريق التحقيق، كما تمّت مقابلة الترجمة مع الأصل الفارسيّ خصوصًا في الأبيات الشعريّة]