المؤلّفمدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
المجموعةمقالات الورد والذكر
العدد التسلسلي5
التوضيح
ما هي الأجواء والظروف التي تجعل الذكر والورد نافعا؟ وما هي الأمور التي لها أثرٌ سلبي على الذكر؟ أسئلة تجيب عنها هذه المقالة الخامسة من سلسلة مقالاتٍ حول الذكر والورد في السير والسلوك.
وجدير بالذكر أن هذه المقالات قد استفادتها الهيئة العلمية لموقع مدرسة الوحي من محاضرات شرح رواية عنوان البصري لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
هو العليم
الظروف المحيطة بالذكر النافع
المقالة الخامسة من سلسلة مقالات حول
الذكر والورد في السير والسلوك
بالإفادة من محاضرات شرح رواية عنوان البصري
لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
تمهيد الهيئة العلمية
بين يديك أخي القارئ بحث حول الذكر والورد في السير والسلوك، مستفاد من محاضرات سماحة آية الله الراحل السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه حول الذكر في شرح فقرة: «مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تشغلني عَن وِردي وخُذ عَن مالكٍ واختَلِف إليهِ كَما كُنتَ تَختَلِفُ إليه» من رواية عنوان البصريّ، والتي شملت المحاضرات من الثامنة إلى الثامنة عشرة من سلسلة شرح تلك الرواية.۱
ويقع البحث ضمن فصول يصلح كلّ منها مقالة مستقلّة صغيرة:
المقالة الأولى: حقيقة الذكر والورد
المقالة الثانية: تأثير الذكر وكيفيّة هذا التأثير
المقالة الثالثة: ضرورة الذكر ومشروعيّته
المقالة الرابعة: اختلاف الأذكار باختلاف الأحوال والأوقات والمراتب
المقالة الخامسة: الظروف المحيطة بالذكر النافع (وهي هذه المقالة التي بين يديك)
المقالة السادسة: أسئلة وملاحظات ترتبط ببعض جوانب الذكر
أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيم
بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم
الحمدُ لِلّه ربِّ العالمينَ و الصّلاةُ و السّلامُ على أشرفِ المرسلينَ
وخاتمِ النّبيّينَ أبي القاسمِ محمّدٍ و على آلِهِ الطّيّبينَ الطّاهرينَ
واللعنةُ على أعدائِهم أجمعين
بما أن النفس الإنسانيّة مستعدّة وهيولانيّة، فلا شكّ أنّه يمكن تغييرها إلى الكيفيّة التي يريدها الإنسان، ولكن لا بدّ في هذه الحركة النفسيّة من تهيئة ظروف الوصول إلى الهدف، والابتعاد عن كلّ ما يسبّب التخطّي والانحراف عن المسير، وإلاّ فلن تكون هناك أيّة نتيجة لهذا السير والسلوك.۱
المحيط الآمن سياسيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا
الإسلام دين اهتمّ بالمسائل العباديّة وبالمسائل السیاسيّة للإنسان، وبعبارة أخرى الإسلام دين الكمال وليس فيه عبادة وسياسة، فنحن أصحاب تلك المقولة: "ديانتنا عين سياستنا، وسياستنا عين ديانتنا." أجل، فلو أردنا أن نفسّر كلام المرحوم المدرّس بأنّ مراده منه أنّ الإسلام دين الكمال وفي هذا الكمال يوجد كلّ شيء، فعندها يمكن أن نجد معنى صحيحًا لهذه الجملة.
وكمال الإسلام هو بوجود جميع الظروف التي تبلغ كافّةُ الاستعدادات في ظلها إلى الكمال.
الأمن على الأموال والأرواح من الجنايات
لا شكّ أنّ الإنسان يحتاج إلى الأمن لكي يصل إلى هدفه الغائيّ الكماليّ، فلو لم يكن في المدينة التي يعيش فيها السالك أمان فكيف يمكنه أن يعبد ويطوي الطريق إلى الله؟! ما دام يمكن أن يطرق اللصّ بابه وليس هناك من يمنعه، فكيف يمكنه أن يستيقظ في الليل من نومه ويصلّي صلاة الليل٢؟! فالأمان مفقود في المدينة التي يكون المسؤولون متواطئین فيها مع اللصوص، يقتلون إنسانًا وليس هناك من يحاكِم، يُغار على المنازل وليس هناك من يسأل، يؤذي الجار جاره وليس هناك من يمنع. جاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: قال أبو جعفر عليه السلام: "إنّ سمُرة بن جندب كان له عذق٣ في حائط٤ رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاريّ فيه الطريق إلى الحائط، فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن، فقال: إنّك تجيء وتدخل ونحن في حال نكرَه أن ترانا عليه، فإذا جئت فاستأذن حتّى نتحرّز، ثمّ نأذن لك وتدخل، قال: لا أفعل هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن٥، فأتى الأنصاريُّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله فشكى إليه وأخبره، فبعث إلى سمرة فجاءه ، فقال له: استأذن عليه، فأبى وقال له مثل ما قال للأنصاري، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله أن يشتري منه بالثمن، فأبى عليه وجعل يزيده فيأبى أن يبيع، فلما رأى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: لك عذق في الجنة، فأبى أن يقبل ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا إضرار".٦و۷
إنّ قاعدة لا ضرر ولا ضرار هذه هي قانون الإسلام، وتأمين الأمان لأجل الوصول إلى الكمال هو ضرورة للمجتمع الإسلاميّ. وهذا الأمان لا بدّ أن يكون في ظلّ القانون، ولا بدّ لهذا القانون أن يكون متكفّلاً بكافّة الجوانب الأمنيّة (السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة).
الأمن الأخلاقيّ والحجاب
فلو أجاز الإسلام للنساء أن تخرج إلى الشوارع مكشوفة الرؤوس بشكل وقح، فإنّ الأمن الأخلاقيّ سيُهدّد بالخطر، وفي حالة كهذه لا يمكن للسالك أن يتكامل، وبناء على ذلك لن يتحقّق الهدف الغائيّ في مجتمع كهذا.
في النظام السابق كان وضع بلدنا بنحو يجعل الإنسان عاجزًا عن تحقيق ضمانات لنفسه وعائلته في المسائل الأخلاقيّة ، أفهل تلك الحالة أفضل أم أن لا يرى الإنسان بحسب الظاهر على الأقلّ وقاحة وقبحًا؟! في ظلّ أيّ الظروف يمكن للإنسان أن يسير بنحو أفضل ويذكر الله وأن يكون له تركيز في صلاته؟! فمن ينعكس في ذهنه وخياله من الصباح حتّى المساء ألف مشهد كيف يمكن أن يستيقظ في منتصف الليل وينفي الخواطر؟!
لقد شاهدت في سفرتي الأخيرة إلى لبنان مناظر ومسائل تعجّبت منها كثيرًا، ولا يمكن مقارنتها بالسفرة التي كانت قبل سنة، وكان من الواضح أنّ يد الصهيونيّة والاستعمار تعمل في هذه المنطقة بشكل عجيب؛ فقد كانت المسائل بنحو لا تحتاج معه إلى تفكير، وكلّ إنسان يدرك أنّ هناك أمورًا أخرى توجد هذه القضايا.
عندما رأى عدد من الناس مظاهر الفساد هذه قد وصلت حتّى إلى مدينة مثل صور التي سكّانها من الشيعة، وأنّ هذا الأمر يهدّدهم، لم يجلسوا منتظترین وبدؤوا بالعمل بأنفسهم. فمثلاً رأينا في الشارع صورة قبيحة، وفي اليوم التالي حين مررنا كنّا نرى أنّها قد دهنت وغطّيت. فبعد أن مضت على ذلك مدّة ورأى الاستعمار أنّ هؤلاء الشباب يتمتّعون بالغيرة والحميّة ألغى ذلك من تلك المدينة.
فلماذا يقوم هؤلاء الشبّان بذلك؟ لأنّه في مثل تلك الظروف إذا خرجت زوجةُ رجلٍ أو ابنه أو ابنته من المنزل فلا يمكنه أن يحافظ عليهم أخلاقيًّا، ومن جهة أخرى لا يمكنه أن يمنعهم من الذهاب إلى كلّ الأماكن، فلو أنّ امرءًا بذل غاية جهده ليقتلع ما يوجب الفساد والانحراف الأخلاقيّ من منزله، فإنّه لا يمكنه أن يصلح المجتمع.
الأمن السياسيّ والاقتصادي
أمّا الأمن السياسيّ، فلو أنّ الدولة الإسلاميّة لم تكن ذات أمن سياسيّ لما بقي للإنسان أيّ هدوء في فكره.
ولو لم تكن ذات أمن اقتصاديّ وفي كلّ يوم ترتفع أسعار السلع ثمّ تنخفض، فإنّ على الناس أن يبذلوا كافّة قواهم الذهنيّة وقدراتهم واستعداداتهم على موضوع معيشتهم وسيفقدون بالتالي كلّ هدوئهم.
فأين موضع تلك الروايات التي تقول: على الإنسان أن يعمل من الصباح حتّى الظهر وأن يهتمّ بنفسه في بقيّة النهار۱؟! أين موضع تلك الروايات التي تقول: المؤمن والمسلم هو الذي إذا أمّن رزق يومه فلا ينبغي أن يفكّر بغده؟!٢ هل الروايات التي وردت في كتب الحديث حول مسألة التجارة تتوافق مع مجمتع اليوم؟! هل قال النبيّ ذلك لنفسه؟!
لا أمن اقتصاديًّا في هذا العصر، فلو أراد تاجر أن يقوم بعمل فهو لا يعلم على أيّ حال سيكون في الغد، فيمكن أن يغيّر قانون وتفنى جميع أمواله.
وبصورة عامّة، إذا أراد إنسان أن يبلغ باستعداداته التي أودعها الله فيه إلى الفعليّة، فلا بدّ أن تكون ظروف المجتمع الذي هو فيه معينة ومساعدة له. فلو أنّ تلك الظروف كانت على النقيض من استعداداته فلا يمكن أن يصل إلى هدفه.
ومن هنا فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تهيئ الأمن وسائر الظروف والقوانين المرتبطة بالحكومة العادلة من أجل الذين يريدون أن يصلوا إلى الكمال. إن كان الوصول إلى الكمال والفعليّة حقًّا فطريًّا ومسلّمًا للإنسان، فلا بدّ أن تُهيّأ كافّة الظروف لهذا الإنسان، ولو قال ملايين الناس: نحن لا نريد تلك الظروف.٣
حضور الذهن والسكون والصمت
سُمع عن المرحوم الوالد رضوان الله عليه وأساتذته أنّ حضور الذهن وتوجّه النفس والاطمئنان والسكون والطمأنينة شرط لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يمكن اجتنابه في جلسة الذكر، وبصورة عامّة في الجلسات العرفانيّة والمعارف الإلهيّة.٤ لذلك فنحن لدينا توصية بأنّ من أراد أن يصلّي فمن الأفضل أن يجلس بضع دقائق قبل الصلاة بحالة سكون على سجّادته، فيتوجّه ويخلّي ذهنه من المسائل المختلفة. وبصورة عامّة في الموارد التي هي ذات بعد عباديّ من الأفضل أن يأتي الأفراد بمزيد من حضور الذهن.
ضرورة الاستعداد لخطبة صلاة الجمعة
من إشكالات المرحوم العلامة الصحيحة والتي في محلّها على صلوات الجمعة الحاليّة أنّه قبل أن يقوم الخطيب بخطبته يقوم رجل آخر كمحاضر ويتحدّث مدّة ساعة.
إنّ صلاة الجمعة تتمحور حول الخطيب، وهو الذي يجب أن يدير المجلس، وكلمات المحاضر ـ وإن كانت حقّة ـ تذهب ببريق موضوعات إمام الجمعة، وهذا الأمر ليس صحيحًا.۱
برنامج السيّد القاضي للسيد هادي التبريزي والاهتمام بالصمت
كان المرحوم آية الله الحاج السيّد هادي التبريزي من علماء الكاظمين المعروفين ومن تلامذة المرحوم القاضي رضوان الله عليه، وينقل المرحوم الوالد أنّ المرحوم القاضي أعطاه برنامجًا فقال:
"اغتنم أمرين:
الأول: محراب نافلة أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة.٢ لأنّ هناك آثارًا تترتّب على ذلك المكان وهي مشهودة.
والثاني: هو زيارة أهل القبور بين الطلوعين. حيث كان يقول: إذا زرت أهل القبور بين الطلوعين فاقرأ الفاتحة ثمّ اجلس بغير أن تقرأ القرآن أو أيّ شيء آخر، بل اجلس جانبًا والزم الصمت؛ فإنّ هذا السكوت مفيد جدًّا لك. فكّر في أحوال القبر والقيامة واعتباريّة الدنيا والمسائل التي تجري."
وكان يقول: "الذهاب إلى المقبرة عند الظهر أو بعد الظهر وفي الليل ليس له تلك الفائدة."
السكون والهدوء من صفات الملائكة
لقد كان له اهتمام كبير بالسكوت، وكان يقول:
"للملائكة أنواع: منهم ركّع لا يسجدون ومنهم ساجدون لا يركعون ومنهم غير ذلك٣
ولكنّ المهمّ هو أنّ الملائكة دائمًا في حال سكون وهدوء، ولا وجود للتشويش والاضطراب فيهم، على العكس من الشياطين الذين هم دائمًا في حال حركة واضطراب."
ثمّ يقول المرحوم القاضي متأدّبًا للمرحوم الحاج الميرزا السيّد هادي التبريزي:
"نحن لسنا مع الملائكة الساكنين ولا مع الشياطين المضطربين، ولكنّا نسرّ من فعل الملائكة ونُساء من فعل الشياطين." فالملائكة ينفّذون الأوامر الإلهيّة بحال من الهدوء ﴿وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾،٤ ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾.٥ فهم لا يطيعون مقام المشيئة والتقدير باضطراب، ولا يتدخّلون ولا يتصرّفون في وظائفهم، فلو أراد الله أن يصيب منطقة ما بزلزال قوته سبع درجات ريختر فإنّهم لا يجعلونه بقوّة ثماني درجات، ولو أمر بصاعقة فإنّهم لا يبدّلونها حتّى بمقدار ميليمتر واحد. ما داموا عبادًا فلا دخل ولا تصرّف ولا معنى للزيادة والإنقاص. وإذا كنّا نحن أيضًا كذلك ونظرنا إلى الحوادث نظرة عبوديّة فإنّا سنكون مثل الملائكة. يأتون بالعذاب أو بالنعمة بهدوء، وحالهم في القيام بالتقدير الإلهيّ بحيث لا يفرّقون بين اذهب و توقّف، هذا معنى سكون الملائكة.٦
وعلى العکس فإنّ الشياطين دائمًا يقولون: لا بدّ أن نغوي فلانًا ونمنعه من طريق الهداية، ولنَقُلْ تلك الكلمة لفلان، ولنصرفْ فلانًا عن العبادة ونوقعه في المعصية.۱ كلّ ذلك ناشئ من الاضطراب والتشويش.
الجلوس مع أهل الهدوء دواء ومع أهل التشويش سمّ
وأفراد الناس أيضًا هم كذلك، فبعضهم أصحاب نفوس هادئة، بحيث يطمئنّ الإنسان إذا ما جلس وتحدّث معهم، فالجلوس مع غير المضطربين وأصحاب النفوس الهادئة أشدّ ضرورة للإنسان من أيّ دواء.
ولكن يحصل للإنسان الاضطراب والتشويش من مجالسة البعض. فهؤلاء يتحدّثون عن هذا الناحية وعن تلك، وهم دائمًا في تشويش واضطراب لا يمكنهم أن يجلسوا هادئين، بل لا بدّ أن يطرحوا مطلبًا، وإلاّ فهم يعتقدون أنّ المجلس حتمًا سيمضي لغوًا بغير فائدة، ولن يحصلوا منه على شيء. حتّى لو لم يتحدّثوا فإنّ مجرّد الجلوس مع أفراد كهؤلاء أشدّ خطرًا لنفس السالك من السمّ الهالك.
هدوء العلامة الطباطبائي
لقد كان المرحوم العلامة الطباطبائي إنسانًا هادئًا٢؛ فلو جلس عنده أحد ساعة فما لم يسأل لا يجيب هو ولا يتكلّم، فنفس هذا الإنسان هادئة.٣
فلکي تکون المطالب التي تنقل عن المرحوم العلامة أو سائر الأعاظم أوقع في النفوس، لا بدّ من الاستعداد والتهيئة المسبقين. لذلك فإنّ الحديث والكلام الزائدين قبل الجلسات يتعارضان مع أهداف هذه الجلسات. ومن الجيّد أن يأتي الأصدقاء على استعداد حتّى نستفيد نحن أيضًا من بركة أنفاسهم. فكلّما كانت النفوس تتمتّع باستعداد أكثر فإنّ بإمكانهم أن يؤثّروا ويتأثّروا أكثر بناء على قاعدة الأواني المترابطة. ٤ و٥
ضرورة المراقبة لتحصيل السكون والاستعداد للذكر
كما لا نتيجة للإنسان بغير التدرّب والممارسة والاختبار والحذاقة في الفنّ، فكذلك في السلوك والصعود إلى المراتب العليا ورفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة أيضًا هناك حاجة إلى المراقبة وإلا فإنّ هذه الحركة ستتوقّف.
فبما أن النفس الإنسانيّة مستعدّة وهيولانيّة، فلا شكّ أنّه يمكن تغييرها إلى الكيفيّة التي يريدها الإنسان، ولكن لا بدّ في هذه الحركة النفسيّة من تهيئة ظروف الوصول إلى الهدف، والابتعاد عن كلّ ما يسبّب التخطّي والانحراف عن المسير، وإلاّ فلن تكون هناك أيّة نتيجة لهذا السير والسلوك.
وقد تحدّثنا في الجلسة السابقة عن أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه قال من باب إتمام الحجّة على رفقائه وتنبيههم على أعمالهم وكيفيّة سلوكهم: لا تظنّوا أنّه يكفي أنّكم أسميتم أنفسكم سلاّكًا، فإنّه ليس بين الله وبين أحدكم قرابة ومداراة. فلو أنّ إنسانًا عمل وخطا بقدم صدق فإنّه سيرى نتيجة ذلك، وإلاّ فبمجرّد التسمّي باسم السلوك والحركة نحو المبادئ العالية لن يحصل الإنسان على نتيجة.
رسالة آية الله الأنصاري إلى العلامة الطهراني رضوان الله عليهما وتأكيدها على المراقبة
وفي الرسالة التي كتبها آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني للمرحوم الوالد رضوان الله عليهما كتب له حول المراقبة والاستعداد والظروف المعدّة للحركة:
"بعد ترك الأهواء الممنوعة شرعًا (كالآمال والميول النفسيّة التي لا شكّ في حرمتها والتي حذّر منها الشارع) فإنّ الأمور التي تسبب الملل هي عبارة عن: كثرة الطعام، وكثرة الكلام، وكثرة مجالسة أهل الغفلة."۱
فالأمر الأوّل: كثرة الطعام: وقد ورد حول هذا الموضوع الكثير من الروايات٢ وستأتي مطالب حول ذلك في الحديث الشريف عن عنوان البصريّ.
والأمر الثاني: كثرة الكلام: يتأذّى البعض من السكوت في المجالس، ويتصوّرون أنّ المجلس بغير كلام، فارغٌ وضعيف، ولم يمض كما ينبغي.٣
لقد كانت لي صلة وثيقة بالعلامة الطباطبائي رضوان الله عليه، وكثيرًا ما كنت أشارك في مجالسه، وكنت شاهدًا أنّه حتّى لو مضت ساعة يبقى ساكتًا ما لم يطرح عليه أحد سؤالاً، وكان صامتًا بشكل كامل.٤
السكوت يحفظ حالات السالك والكلام يضيّعها
إنّ الكلام الكثير في مسائل اللهو وغير الضروريّة ليس في صالح السالك، وحتّى الكلام الصحيح هو أيضًا يسبّب ذهاب رزانة الإنسان. إنّ السكوت يؤدّي أن يحفظ السالك استعداده ورزانته التي حصّلها بواسطة المراقبة، وأن يبقى ما جمعه في جعبته. في حين أنّ الكلام ولو كان صحيحًا فهو كإيجاد ثقب يؤدّي إلى الوقوع التدريجيّ لما في تلك الجعبة، أمّا الكلام الباطل والمخالف للشرع فهو لا يستحقّ أن نتحدّث عنه! هكذا جعل الله الأثر التكوينيّ لكثرة الكلام، وليس هذا من المسائل الاعتباريّة التي تخضع للتغيير والتغيّر.
مجالسة أهل الغفلة
الأمر الثالث: كثرة مجالسة أهل الغفلة، وأهل الغفلة هم أناس ليس لهم من حركاتهم وسكناتهم أيّ هدف عقلائيّ ومنطقيّ، ويقضون أيّامهم ولياليهم بالعبث. وقد كتب المرحوم آية الله الأنصاريّ رضوان الله عليه في تتمّة هذه الرسالة: "وكلّما حاول الإنسان أن يأنس بالوحدة كان خيرًا له، خصوصًا إذا ما ابتعد عن وسط الجمع، فإنّ لشرور النفوس الخبيثة تأثير السموم."۱
فسواء شاء الإنسان أم أبى، هناک في العلاقة مع الناس تبادل وتأثير، وهذا التأثير ليس باختياره، فهل يمكن أن يسقط الماء على السجّاد ولا يتبلّل؟! وهل يمكن أن تضع يدك في النار ولا تحترق؟! وحتّى لو لقّنت نفسك أنّها لن تحترق، وتحمّلت ولم تصرخ، فإنّها ستحترق وستقوم النار بعملها.
إنّ الارتباط مع أهل الغفلة يجبر الإنسان على الغفلة، وستضيع حالة النورانيّة والروحانيّة التي حصّلها بواسطة الأعمال والعبادات.
حديث الإمام الكاظم عليه السلام مع هشام بن الحكم حول العزلة
يقول الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام لهشام بن الحكم:
يا هشامُ، الصّبرُ علَى الوَحدةِ علامةُ قوّةِ العقلِ؛ فمَن عَقلَ عن اللهِ٢ اعتَزَلَ أهلَ الدّنيا والرّاغبينَ فيها ورَغِبَ في ما عندَ اللهِ، وكانَ اللهُ أُنسَهُ في الوحشةِ، وصاحبَهُ في الوحدةِ، وغِناهُ في العَيلةِ، ومُعِزّهُ مِن غيرِ عَشيرَةٍ.٣
إنّ الصبر على الوحدة وعدم الملل من الخلوة علامة قوّة العقل وكثرته، فمن كان قليل العقل فإنّه يبقى على الدوام باحثًا عن هذا وذاك ويسعى للتواصل. على الإنسان أن يكون طالبًا لأن يكون له حال جيّد وأن يحافظ عليه، فلو أنّ امرءًا جلس في داره مستريحًا ولم يأته أحد فهل سينقص منه شيء؟! وأن يأتي أحد يعني أن يأتي ويقضي وقته معنا، والذي يأتي بهذه النيّة فإنّه يذهب في اليوم التالي إلى آخر ويقضي وقته معه، وما دام الأمر كذلك فهل يرتبط الإنسان قلبيًّا بهكذا إنسان ويثق به؟!
على الإنسان أن لا يفتح باب قلبه لأيّ أحد، وأن لا يفتح الطريق لغير الله إلى هذا القلب الذي هو مكان الله؛ لأنّه هو الوحيد الذي يبقى لنا سواء في الدنيا أو في القبر والبرزخ والقيامة. واللطيف هو أنّنا نظنّ أنّه رقيب عتيد وحارس مسلّح يقف فوق رؤوسنا في حين أنّ كلّ محبّة وودّ وأنس نبحث عنه في العلاقات المجازيّة والاعتباريّة هو يمتلكها بعين الحقيقة ونحن عنه غافلون. فقد جاء في الحديث القدسيّ:
أنا أرحم بعبدي من الأمّ بولدها. ۱
ورغم ذلك فقد نسينا نحن كلّ ذلك وأخذنا نسعى إلى أن نأنس بهذا وذاك لكي يهتمّوا بنا ويؤنسوا مجلسنا فلا نحسّ بالوحدة!
ما معنى ما يقال من أنّ هؤلاء سيفيدوننا يومًا ما؟! علينا أن نهتمّ بمستقبلنا حين يضعوننا في القبر ويهيلون التراب على رؤوسنا، وحين لا يقرأ لنا حتّى هؤلاء المحيطون بنا الفاتحة.
إذا أراد أهل الميّت أن يحترموه غاية الاحترام فإنّهم يقيمون له مجلسًا لثلاثة أيّام، ويرشّون فوق قبره ماءً، ويقضون مدّة يسيرة بالبكاء عليه.
حتّى إنّ الله يبعث في الوجود الماديّ للإنسان المصاب تغييرات وتحوّلات تناسب حاله، فتترشّح في دماغه مادة تسبّب النسيان التدريجيّ للمصيبة، وذلك بدلاً من ترشّح مادّة أخرى تسبّب الحزن، ومع مرور الزمان تعود حالة الاعتدال إلى الإنسان.٢
وعلى أيّ حال فإنّ حالة الحزن تتبدّل شيئًا فشيئًا إلى اللامبالاة ثمّ إلى المسرّة ثمّ إلى النسيان وكأنّه ﴿لم يكن شيئًا مذكورًا﴾٣ لذلك فإنّ الإمام الكاظم عليه السلام يقول لهشام إنّ العاقل هو من فكّر
بغده:
فمَن عَقَلَ عن الله اعتَزَلَ أهلَ الدّنيا و الرّاغبينَ فيها.
فأهل الدنيا يطوون مسيرًا والسالك يطوي مسيرًا آخر. لذلك فإنّ السالك لا يمكنه أن يجمع بين هذين المحورين اللذين يقود كلّ منهما إلى طريق مختلف. إنّ من يشرع في كلّ يوم بالعبادة والذكر والمراقبة ويحصل على حالة من الروحانيّة والنورانيّة، ولكنّه بالمشاركة في مجلس لهو ولعب ومجالسة زيد وبالكلام الفارغ يفقد كلّ ما حصّله ويقضي الأيّام والأسابيع والشهور أيضًا بهذه الطريقة، ينبغي أن لا يتوقّع ويعترض أنّه لماذا لم يصل إلى مكان؟! فلو وصل لكان مثارًا للاستفهام
ولو عمل بما قال به الأعاظم ثمّ لم يصل فمن حقّه أن يعترض.
ورغب في ما عند الله
یرغب فی النعم التي عند الله والطرق التي توصله إليها، ودائمًا يبحث من باب إلى باب عن الطريق الذي ينتخبه، لا أن يجلس في بيته متساهلاً يقول: إن شاء الله سيحلّ المشكلة. اطمئنّوا لو بقيتم منتظرين بهذا العنوان فإنّ الله لن يحلّ المشكلة، وهو يعرف جيّدًا كيف يأتي لنا بما يشغلنا ويلهينا. ثمّ يلتفت الإنسان بعد مدّة فجأة أن يا للعجب! لقد قضى شهرًا بالغفلة، ثمّ إذا أراد أن يتحرّك من جديد فإنّه وببرنامج جماليّ آخر كالقدرة المادّية والحيويّة في الحياة يمضي عمر الإنسان من جديد بالغفلة.
نظرت قبل مدّة إلى أحوال فرد يعيش في إحدى المحافظات فرأيت أنّ ما يشاهد منه في حال تغيّر، وشيئًا فشيئًا تحدث له خصوصيّات جديدة وجوانب حديثة. لقد كانت له صلة بي، ولذلك كان من واجبي في هذه الصداقة أن لا أخونه، وأن أخبره بما يجول في ذهني. فتحدّثت إليه يسيرًا أن لماذا يلبّي كلّ نداء يتوجّه إليه وليست له أيّة إرادة من نفسه؟ فقلت له: إنّ هذه الحالة ستخرجك شيئًا فشيئًا عن المسير الأصليّ والثقة التي عندك. ولكنّه لم يبال إلى كلامي، ولم يكن منه إلا أن نظر إليّ نظرة من به أذى من رأسه وعيناه نصف مفتوحتين ولم يلتفت إلى الموضوع كما هو حقّه.
والغاية من هذا الكلام هي أنّ الإنسان لم يصبح كذلك دفعة واحدة ولم يقم من نومه فوجد نفسه على هذه الحالة، بل شيئًا فشيئًا وبالتدريج يتساهل فيما كان جادًّا فيه ومصرًّا، حتّى يرى فجأة أنّ حياته غدت كحياة سائر الناس، وأنّه يقوم بالأعمال التي يقومون بها فيما يرتبط بمسائلهم الداخليّة والخارجيّة، ولم تعد حالاته وحركاته وسكناته كما كانت في الماضي، وصار مشمولاً لهذه:
﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾۱
لو أنّ الإنسان وقع فجأة من أعلى السلّم وانكسر عظمه فإنّه سيلتفت إلى كسر عظمه ويصرخ أن قد انكسرت يدي ورجلي! ويمكن أنّ يقوم شيئًا فشيئًا، ولكنّ الخطر هو عندما لا يهبط درجة واحدة ولا يشعر ويقول: لا زالت لنا حالة من التوجّه والبكاء ولم نهبط. في هذه الحالة وحيث إنّ النفس قد اعتادت الاستدراج وتلقّفت الطُعم، فحتّى لو وصلت إلى الأرض تظنّ أنّها لا زالت على السطح! وهذا أمر مهمّ جدًّا.
يقال إنّ بعض الذين يتناولون المخدِّرات يصلون إلى حالة تصبح فيها موادّ دمائهم مسمومة، ولو أنّ حيوانًا عضّهم في هذه الحالة فإنّه يموت! وبعبارة أخرى: إنّ كامل وجود الإنسان قد سمّم، وصار سمًّا بنفسه، ولذلك فإنّ السمّ لا يؤثّر فيه، والأمر في الاستدراج هو من هذا القبيل.
يقول الإمام الكاظم عليه السلام في الختام:
وكانَ اللهُ أُنسَهُ فى الوحشةِ، و صاحبَهُ فى الوحدَةِ، و غِناهُ فى العَيلَةِ، و مُعِزَّهُ مِن غيرِ عَشيرَةٍ.
وبناء على ذلك فإنّ الوصول إلى هذا المقام متوقّف على كيفيّة علاقات الإنسان، ولذلك على سالك طريق الله أن لا يقوم بما يقضي على آثار الذكر.۱
فلو أنّ الإمام الصادق عليه السلام يفسح بالمجال للجميع، فإنّ الناس وبحجّة الحديث لبضع دقائق والشكوى أنّي خسرت في رأسمالي، وقد أخذت الريح سفينتي، وهدّ السيل داري، سيأخذون من وقت الإمام ساعات، لذلك يقول إنّي مشغول بالذكر وليس لي وقت ولا قوّة لاستماع هذه المسائل التي لا قيمة لها.
نعم لو أنّ الظروف كانت بنحو يشعر فيه الإمام عليه السلام بالتكليف، فإنّه بنفسه يجمع الأصحاب ويبيّن لهم الأحكام في المدينة، وكلامنا هو عندما لا يكون هناك ضرورة للتواصل.
فعلى السالك أن يتعلّم من الإمام الصادق عليه السلام، فما دام الإمام رغم عبوره مقام ﴿قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى﴾٢ یقول ذلك لعنوان البصريّ، فالويل لنا إذ نقضي كامل أوقاتنا بالكلام ونقلِ هذا وذاك غير مبالين، وكأنّه لا آخرة ولا مراتب! ورغم أنّ السالك ينبغي أن يأخذ الدنيا بيسر وسهولة، ولكن لا يحسن أن يكون متراخيًا إلى هذا الحدّ، ولو تساهل في هذا الأمر فإنّ الحقيقة التي استبدلها بالمجاز مجّانًا لا يمكن أن تردّ. ٣
تلخيص واستنتاج
[لكي يؤثّر الذكر أثره لا بدّ أن يكون في ظروف مناسبة.
الظروف المناسبة ترتبط بالمجتمع والبيئة العامّة تارة، وبالفرد والأحوال النفسيّة الخاصّة تارة أخرى.
أمّا ما يرتبط بالمجتمع فهو الأمن على أنواعه من أمن على الأموال والنفوس إلى الأمن السياسي إلى الاقتصادي فالأخلاقي وتأمين ذلك على عهدة الحكومة الإسلاميّة.
وأما ما يرتبط بالفرد وأحواله النفسيّة فهو المحافظة على الهدوء النفسي والابتعاد عن الاضطراب والتشويش الحاصلين من كثرة الكلام والمعاشرة مع أهل الدنيا وتأمين ذلك على عهدة الإنسان نفسه من خلال المراقبة.]