3

ضرورة الذكر ومشروعيّته

7235
مشاهدة المتن

المؤلّفمدرسة الوحي

القسم الاخلاق والحکمة والعرفان

المجموعةمقالات الورد والذكر

العدد التسلسلي3

مقالات مجموعة (7 مقالة)

التوضيح

ما أهمية الذكر وضرورته في السير والسلوك ؟ وهل الذكر أمر مشروع؟ وما قيمة كلام الذين ينكرون لزوم الذكر والمراقبة؟ أسئلة تجيب عنها هذه المقالة الثالثة من سلسلة مقالاتٍ حول الذكر والورد في السير والسلوك.
وجدير بالذكر أن هذه المقالات قد استفادتها الهيئة العلمية لموقع مدرسة الوحي من محاضرات شرح رواية عنوان البصري لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه

/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

ضرورة الذكر ومشروعيّته

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • ضرورة الذكر ومشروعيّته

  • المقالة الثالثة من سلسلة مقالات حول 

  • الذكر والورد في السير والسلوك

  •  

  • بالإفادة من محاضرات شرح رواية عنوان البصري 

  • لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه

  •  

ضرورة الذكر ومشروعيّته

2
  •  

  •  

  • تمهيد الهيئة العلمية

  • بين يديك أخي القارئ بحث حول الذكر والورد في السير والسلوك، مستفاد من محاضرات سماحة آية الله الراحل السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه حول الذكر في شرح فقرة: «مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تشغلني عَن وِردي وخُذ عَن مالكٍ واختَلِف إليهِ كَما كُنتَ تَختَلِفُ إليه» من رواية عنوان البصريّ، والتي شملت المحاضرات من الثامنة إلى الثامنة عشرة من سلسلة شرح تلك الرواية.۱

  • ويقع البحث ضمن فصول يصلح كلّ منها مقالة مستقلّة صغيرة:

  • المقالة الأولى: حقيقة الذكر والورد 

  • المقالة الثانية: تأثير الذكر وكيفيّة هذا التأثير 

  • المقالة الثالثة: ضرورة الذكر ومشروعيّته (وهي هذه المقالة التي بين يديك)

  • المقالة الرابعة: اختلاف الأذكار باختلاف الأحوال والأوقات والمراتب 

  • المقالة الخامسة: الظروف المحيطة بالذكر النافع

  • المقالة السادسة: أسئلة وملاحظات ترتبط ببعض جوانب الذكر

  • خاتمة: خلاصة أبحاث الورد و الذكر وأهم النتائج المستفادة.

    1. حيث إنّ المحاضرات بصورة عامّة تتميّز بأسلوب خاصّ من مراعاة حال السامع وتلبية حاجاته الفعليّة، والتكرار والتلخيص لما سبق والتعرّض للنقطة الواحدة من جوانب مختلفة في محاضرات عدّة ممزوجة بالنقاط الأخرى. وحيث تمسّ الحاجة إلى تكوين رؤية شاملة حول مفردة الذكر بشكل منتظم ومتسلسل وعلميّ، فقد قامت الهيئة العلميّة في موقع مدرسة الوحي بإعداد هذا البحث من نفس كلماته رضوان الله عليه مقتصرة على الجمع والترتيب والتقديم والتأخير وربّما اقتضى ذلك تكرار الفقرة نفسها إن كانت تفيد في أمرين، ولم تضف سوى ما ورد تحت عنوان "تلخيص واستنتاج" في ختام كلّ فصل إذا ما قضت الضرورة وذلك للمساعدة على جمع المعلومات الأساسيّة من بين البيانات المختلفة والشواهد.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

3
  •  

  •  

  • أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيم‌

  • بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم‌

  • الحمدُ لِلّه ربِّ العالمينَ و الصّلاةُ و السّلامُ على أشرفِ المرسلينَ‌

  • وخاتمِ النّبيّينَ أبي القاسمِ محمّدٍ و على آلِهِ الطّيّبينَ الطّاهرينَ‌

  • واللعنةُ على أعدائِهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • أولاً: ضرورة الذكر

  • والأمر الذي لا بدّ من الالتفات إليه هنا أن ما هو أثر الذكر في السلوك والتكامل المعنويّ والتربويّ لنفس السالك وتبعًا لذلك ما قيمة كلام الذين ينكرون لزوم الذكر والمراقبة مع قولهم بطيّ المدارج والمراتب؟

  • البيان الأوّل لضرورة الذكر: الذكر غذاء الروح 

  • المقدّمة الأولى: تركّب الإنسان من مادّة وروح وخضوعه لقوانينهما

  • لا شكّ أنّ الإنسان موجود مركّب من المادّة والروح، وبعبارة أصحّ: له نفس ناطقة ذات قالب مادّي، وما يشكّل حقيقته ليس هذا البدن. وهو في علاقته مع قوانين التكوين والنظام الأحسن للكون ليس منفصلاً عن سائر الموجودات.

  • المقدّمة الثانية: حاجة كلّ من المادّة والروح إلى الغذاء 

  • فالمادّيات في هذا العالم تحتاج لاستمرار الحياة والتكامل والنموّ إلى التغذية، لأنّ النظام الحاكم على هذا العالم يقتضي مثلاً إذا كان هناك شجرة تنمو وتتكامل في الدنيا فإنّها تحتاج إلى ضوء وماء وأوكسيجين وتراب وموادّ غذائيّة، ولو انعدمت هذه الأمور ليبست الشجرة وماتت وتحوّلت إلى تراب. ورغم أنّ كافّة الحيوانات والنباتات وفق الخصوصيّة والطبيعة التي لها تختلف فيما بينها في كيفيّة دخول هذه الموادّ وخروجها،۱ لكنّها لو منعت من الماء مدّة لماتت جميعًا. والإنسان أيضًا ليس بمستثنى من هذه القاعدة، وهو بحاجة في حياته الظاهريّة إلى موادّ أيضًا تؤمّن حياته في هذه الدنيا، ولو تغيّرت كلّ واحدة من قواعد التغذية عند الإنسان لشوهدت فيه الأمراض وسائر العوارض.٢

  • فكما أنّ الإنسان يحتاج إلى التغذية المادّية لجسمه، فإنّه يحتاج إلى تغذية للروح أيضًا لكي يحصل الترقّي والتكامل. والإنسان العاطل عن العمل لا يمكن أبدًا أن يتكامل روحيًّا، لا يمكن لمن قضى عمره كلّه في الرياضة البدنيّة وأمثالها أن يغدو عالمًا ومكتشفًا. 

  • إنّ الروح والنفس الإنسانيّة تحتاج إلى الغذاء والممارسة لكي تصل إلى مرتبة الكمال سواء بالنسبة إلى العلوم الظاهريّة أو العلوم الباطنيّة، ولو ظهرت له موانع في هذا المجال فإنّه سيكون فاشلاً في وصوله إلى ذلك الهدف. 

    1. من باب المثال فإنّ بعض النباتات التي تعيش في المناطق الحارّة كالكمّون تحتاج إلى ماء أقلّ وتحتفظ به في داخلها، وبعضها الآخر كشجرة الدلب والصفصاف والتي تقوم بتصفية الهواء بواسطة تبديل الماء إلى أوكسيجين، تحتاج إلى مزيد من الماء والموادّ، ولو لم يصل إليها الماء تتيبّس بسرعة ولا تتمكّن من الاستمرار في حياتها. 
    2. كانوا يعبّرون عن هذه المسألة في الطبّ القديم بالأخلاط الأربعة، وهي موجودة في الطبّ المعاصر ببيان آخر. فلو أنّ الدهن أو أسيد واريك ارتفع لمرض الإنسان بمرض معيّن من الأمراض، ولو هبط لابتلي بنوع آخر، ولا بدّ أن يتناول الدواء لكي يتماثل للشفاء، فتحصل السلامة بتعديل المزاج.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

4
  • الارتباط بين المزاجين المادّي والروحي في كلام ابن سينا

  • يقول ابن سينا في كلام له جدًّا منطقيّ وحكيم: 

  • "ما لم ينتف من الإنسان الميل إلى العلم وطلبه فمزاجه معتدل وبعيد عن الإفراط والتفريط." 

  • فكلّما شعرت بأنّك لست طالبًا للعلم، أو أنّك متكاسل عن تعلّم العلوم، فاعلم أنّك مريض المزاج. فمن الممكن أن لا يعاني الإنسان من ناحية ماديّة ومن حيث الشكل والهيئة من أيّ مرض أو نقص، وكافّة معادلات الصحّة والسلامة في بدنه مستوية، ولكن حيث إنّه من الناحية الروحيّة والمعنويّة لا يجد ميلاً إلى العلم والوصول إلى الكمال، فهو مريض.

  • دور اليقظة بين الطلوعين في اعتدال المزاج الروحي للإنسان

  • والكلام هو في أنّ لليقظة بين الطلوعين تأثير كبير على القوى الذهنيّة والفكريّة للإنسان، وهي تغيّر طريقة التفكير وفهم الإنسان للحقائق، ولذلك جاء في الروايات أنّ رزق الإنسان يقسّم بين الطلوعين.۱ و٢ وقد روي أنّ ابن سينا جاء إلى حلقة التدريس يومًا فرأى أنّ تلامذته يسألون أسئلة تختلف عمّا كانوا يطرحونه في الأيّام السابقة، فقال لهم: كيف أمضيتم ليلتكم؟

  • قالوا: لقد كانت لدينا في أحد البيوت جلسة وقضينا وقتنا بالمزاح والضحك وتبادل أطراف الحديث ثمّ نمنا.

  • فقال: هذا هو السبب! وأنا ألمس تأثير عدم صلاة الليل في أسئلتکم! ثمّ أخذ يبكي وقال: أتأسّف على نفسي كيف صرفت وقتي لأمثالكم وأنتم لا تبالون بالوصول إلى كمالكم فتستيقظون قبل أذان الصبح بنصف ساعة وتبقون مستيقظين بين الطلوعين.

  • لقد التفت ابن سينا إلى هذا الأمر من كلامهم، وهو الذي كانت التغييرات العامّة في أواخر عمره مشهودة في كلماته، ولكنّ الإنسان الخبير المجرّب يدرك من وجوه الناس ما إن كانوا أحيوا الليل وقضوا ما بين الطلوعين بالعبادة أم لا، تمامًا كما يكون واضحًا على ملامح وجه الإنسان أنّه لم يأكل منذ يومين.

  • وهذا لأنّا شئنا أم أبينا محكومون لقوانين عالم التكوين في الاستفادة من الغذاء المادّي والمعنويّ، ولا يمكن أن نخرج من تحته، فمثلاً لو أنّ إنسانًا أدخل سكّينًا حادًّا في بطنه فإنّها ستدخل، ولا فرق بين من سيكون المُدخِلُ لها. ٣

    1. بصائر الدّرجات، ص ٣٤٣: «علىّ بنِ الحُسَينِ عليه السّلام فى حديثٍ قالَ: "يا أبا حمزة، لا تَنامَنَّ قَبلَ طلوعِ الشَّمسِ فَإنّى أكرَهُها لَكَ؛ إنَّ اللهَ يقَسِّمُ فى ذَلِك الوَقتِ أرزاقَ العِبادِ وعَلى أيدينا يجريها."» (المحقق)
    2. وبالطبع ليس المراد من الرزق الخبز والماء والعلف، بل المراد هو البهاء والنورانيّة التي يهبها الله تعالى لهذا الإنسان في هذا اليوم لتلقّي الحقائق، فهذه النورانيّة مترتّبة على اليقظة بين الطلوعين وأثرها على وجوه الناس واضح.
    3. عنوان البصري ۱٤.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

5
  • النتيجة: ضرورة الذكر والعبادة لتلطيف النفس وتحصيل الكمال والرجوع إلى الله

  • أجل، إنّ السالك الذي ابتعد في مقام الإثبات۱ عن حضرة الحقّ تعالى، ونأى عن حقيقته المجرّدة وصفائه الأول الخالص، لا بدّ لكي يبلغ المدارج العالية أن يقوم بأعمال تمنع من التوغّل في الدنيا، عليه لكي يصل إلى تلك الحقائق المجرّدة ولكي يوصل استعداداته وقواه النفسيّة الكامنة، أن يشتغل بالعبادات والمسائل المعنويّة، وأن يبتعد عن المعاصي ومشاغل العوامّ، فلا طريق سوى ذلك. 

  • فلو اشتغل الإنسان أربعين يومًا بالذكر والعبادة والمراقبة فإنّه يفسد كافّة آثار هذه الأربعين ويذهب بها بتهمة واحدة لرفيقه وبغيبة لمؤمن، فهذا هو الطريق والمسير. لا انسجام بين هذين الأمرين؛ لأنّ الله تعالى جعل قانون الوصول إليه منافيًا لارتكاب المحرّمات والأمور المانعة، وهو لا يتجاوز هذا القانون. 

  • إنّ من الأمور الضروريّة للوصول إلى مقام الكمال واستجماع الظهورات المختلفة للصفات والأسماء الجماليّة والجلاليّة للحقّ، الاشتغال بالأوراد والأذكار التي تؤدّي إلى تلطيف النفس وتجرّدها وبالنتيجة إلى انكشاف حقائق من أسماء الحقّ وصفاته، ولا مفرّ عن ذلك ولا مهرب.٢

  • ولذلك فإنّ الأعاظم يرون الاشتغال بالأوراد والأذكار من أهمّ مسائل السیر والسلوک لأجل تکامل السالک وترقّيه. وما يقوله المرحوم القاضي للعلامة الطباطبائي رضوان الله عليهما من أنّك: «يا بني! إن كنت تريد الدنيا فعليك بصلاة الليل‌؛ و إن كنت تريد الآخرة فعليك بصلاة الليل‌!»٣ فهو لأنّ الوصول إلى الكمال غير ممكن بغير عمل. ومن قول المرحوم القاضي: وَ العجبُ ممَّنْ يَرومُ مرْتبةً مِنَ الكَمالِ وَ هُوَ لا يَقُومُ الليال!٤ يُعلم أنّ صلاة الليل لها تأثير جازم في ذلك. 

  • فمن أراد أن يخطو في هذا الطريق فليتفضّل بسم الله! فأهل البصيرة والذين طووا هذا الطريق ويبيّنون الحقائق عن مشاهدة يقولون: على السالك أن يصلّي صلاة الليل ويشتغل بالأدعية ويبتعد عن المحرّمات ويأتي بالواجبات والمستحبّات، وإلا فإنّ النفس لا يمكن أن تصل إلى الفعليّة ويمكن أن تبقى مائة سنة في الطريق بغير فائدة. 

  • كس ندانست كه منزلگه معشوق كجاست‌***آن‌قدَر هست كه بانگ جرسى مى‌آيد٥
    1. مقام الإثبات في مقابل مقام الثبوت، والأول يعني العلم والالتفات والثاني يعني الواقع، فمثلاً في مقام الثبوت هناك رجلان في الدار، وفي مقام الإثبات نريد أن نبرهن ونعلم الجاهل بذلك أنّهما موجودان، فنقول له ألا تسمع صوتهما لنثبت له أنّهما موجودان في الداخل. وفي موضوع التوحيد ليس هناك ـ حسب مقام الثبوت ـ إلا حقيقة واحدة وهي الله تعالى، ولكن الإنسان في مقام الإثبات يغفل عنها ويغرق في اعتبارات الدنيا.(م)
    2. مقطع من عنوان البصري ۱٤.
    3. الشمس الساطعة، ص ٢٤. 
    4. وصايا وتعاليم، ص ۱٣۷. 
    5. . ديوان حافظ، غزل ٢٢٩.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

6
  • يقول: لا أحد يعلم أين منزل المعشوق *** ولكنّا نسمع صوت جرس

  • فنحن نعلم أنّ هناك صوت جرس فلنتحرّ هذا الصوت، وإن شاء الله سنصل إلى منزل المحبوب، فالذين ذهبوا ووصلوا قالوا إنّ هناك أمرًا ما، فلتطمئنّوا فهذا أرفع من اليقين، غاية الأمر أنّنا غارقون في الغفلات والتعلّقات فنحمل ذلك على الهزل والمزاح، ولكنّه مسلّم. ۱

  • البيان الثاني لضرورة الذكر: الذكر نوع من التمرّن على تطبيق أسماء الله على وجود الإنسان وأعماله

  • إنّ مسألة ضرورة تمرين النفس لا تختصّ بطريق الله، فالإنسان في تحصيل أيّة غاية من الغايات الدنيويّة لا يمكن أن يصل إلى هدفه بغير تمرين، فالتمرين يؤدّي إلى بلوغ الاستعدادات إلى مرحلة الفعليّة.٢

  • إنّ حالنا مع [ذكر] أسماء الله يشبه حال طالب يدرس في جامعة، فلو أنهم لم يأخذوه إلى المختبر لما أمكنه أن يعرف الصواب والخطأ فيما درسه في علم وظائف الأعضاء وأمثاله، فلا يمكنه أن يلاحظ آثار الميكروبات على الأعضاء والجوارح وأجهزة البدن، بل لا بدّ أن يرى ما يدرّسه أستاذه بعينه وبطريقة عمليّة، لا بدّ أن يرى بنفسه كيفيّة الدورة الدمويّة وتأثير الدواء والسمّ على الجهاز العصبي، ولا بدّ أن يطبّق عمليًّا ما قرأه في الكتب المختلفة، وأن لا يكتفيَ بها بشكل نظريّ حيث يمكن أن تتضمّن بعض الأخطاء.

  • فلو كان المطلوب أن يحفظ الإنسان ما يقوله الأستاذ حفظ الببغاء، فستكون هذه المعلومات في ذهنه وكأنها في شريط مسجّل، ولن يتمكّن من التصديق بها والشعور بها بوجدانه.

  • إنّ طالب الهندسة المعماريّة الذي يدرس كيفيّة بناء الجسور ومدّها ونصب الأعمدة وأمثال ذلك لا بدّ أن يحسب مقدار الضغط الناتج الذي سيكون على كلّ عمود، وأن يجرّب ذلك أيضاً عمليًّا؛ فمثلاً لا بدّ أن يشاهد كم يمكن للزاوية الموصولة بالجسر أن تنقص من الضغط عن كلّ سانتيمتر مكعّب منه. والحاصل أنّه إن لم يجرّب علومه ولم ينزل إلى ميدان العمل بعد سنوات من الدراسة، فإنّ مبنى من عدّة طبقات سينهار بسبب عدم تحمّل الضغط. ٣ 

  • الحاجة إلى التمرين قانون تكويني

  • إنّ نظام العالم مبتن على أساس أنّه لا يمكن طيّ هذه المراتب بدون تمرين، فصحّة هذا الأساس أو عدم صحّته لا يرتبط بنا ولا يمكن الاعتراض أنّه لماذا لا بدّ للوصول إلى تلك المقامات من التمرين وتكرار العبادة والذكر. 

    1. مقطع من عنوان البصري ۱٤.
    2. مقطع من عنوان البصري ۱٦.
    3. مقطع من عنوان البصري ۱٦.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

7
  • إنّ الكوب الذي في يدي هو جسم صلب في تعارض دائم مع الجسم الناعم، فلو أنّ أحدًا ضربه بيدي بشدّة، فإنّها ستتألّم، وربّما تهشّم عظمها أو كسر، وهذا لازم لاصطدام جسم صلب بجسم غير قابل للانعطاف. فعندما تنتقل الطاقة من جسم إلى آخر، فإن استطاع ذلك الجسم فإنّه يواجه ويقاوم، وإن لم يستطع فإنّه يحتفظ بها في نفسه فتؤدّي إلى تلاشيه. فعندما يرمى حجر في الماء، فإنّه يغوص فيه بسبب ثقل وزنه، كلّ هذه الأمور هي على أساس قواعد الفيزياء ودليلها معها.

  • وفي هذا النظام أيضًا فإنّ نفس الإنسان هي ذات حالة هيولانيّة ولها استعداد۱ وتحتاج إلى عمل لتصل إلى الفعليّة والظهور والبروز. فمثلاً لو أنّ إنسانًا أراد أن يكون خطّاطًا فلا بدّ أن يتمرّن، ولو أنّ إنسانًا أراد أن يكون سائق سيّارة ماهرًا، فلا بدّ في الساعات الأولى أن يداوم على تمرين تغيير مبدّل المحرّك في السيّارة وأمثال ذلك، حتّى إذا ما ابتلي فجأة بحالة انعدام التوازن والانزلاق يمكنه أن يقوم بما ينبغي على أفضل ما يرام. فالسائق الماهر لا بدّ أن يكون قد تمرّن على هذه الطرق، وإلا فحتّى لو علّمت له في النوم والمكاشفة فما لم يفتح بيده باب السيّارة ويجلس خلف المقود ويسر في الطرق الجبليّة والترابيّة والمتجمّدة، فلن يتمكّن من السيطرة على السيّارة. 

  • ودراسة الطبيب في الجامعة لا فائدة منها بدون أن يقف عند المريض ويعاينه سريريًّا، وأن يطبّق بكتابة الوصفة ما درسه، وأن يرى ردّة فعل الدواء ونتيجته، فقط في هذه الصورة ينتقل الطبيب بعد مدّة من الممارسة من مرحلة الاستعداد ضمن الدراسة إلى مرحلة الفعليّة. وهذا الأمر من لوازم طبع البشر. 

  • فكما أنّ النفس البشريّة تحتاج إلى ممارسة في الأمور الظاهريّة، فهي تحتاج إلى أضعاف ذلك في المسائل السلوکيّة ٢وواضح وبيّن أنّه يكفي أن تُترك النفس وحالها يومًا واحدًا بل ساعة واحدة بل لحظة واحدة لكي يصدر عنها عمل ما على أساس الهوى، فتتراجعون فجأة مقدار سنة، ولذلك ورد في الروايات تأكيد شديد على المراقبة والالتفات بحيث أنّ الإنسان لو واظب أربعين يومًا عليها فكم سينال من النتائج! 

    1. لقد أودعت في وجود كلّ واحد منّا بما يتناسب مع المواقع المختلفة صفات وذخائر، والآثار التي تنتج وتظهر عنّا هي نتيجة تلك الصفات والذخائر الموجودة فينا، وهذا أمر بديهيّ. فالإنسان الذي يتمتّع بقوّة من التدبير لا بأس بها لا بدّ أن يكون مسؤولاً لمؤسّسة، لا من هو أدنى منه، ولو استبدلنا مكان كلّ واحد بمكان الآخر لظهر الفساد، لأنّ العمل الخارجيّ معلول للصفات النفسيّة، وحسب قوّة وضعف تلك الصفات فإنّ العمل الخارجيّ أيضًا سيكون مختلفًا. إنّ إمام الجماعة في مسجد قرية يكفيه أن يعرف مقدارًا من مسائل الحلال والحرام وأحكام الزكاة، أمّا مجرّد الاطّلاع على المسائل ذات الصلة بالأبقار والأغنام فلا يكفي لإمام جماعة في مسجد مصلّوه من أصحاب المستوى العالي من الثقافة، وعندما يكون كلّ واحد من هذين الرجلين مكان الآخر فإنّ عمر أحدهما سيضيع هباءً، وأمّا الآخر فسيؤدّي إلى الإفساد. (مقطع من عنوان البصري ۱٦)
    2. . لمزيد من الاطلاع حول ضرورة مجاهدة النفس راجع: معرفة الله ج۱ ص ٣٢٢.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

8
  • إنّ أيّ إنسان في أيّ اختصاص كان إن عطّل يومين فسيجد نفسه بطيئًا عندما يرجع إلى عمله ، ولن يكون حائزًا على تلك المرونة والقدرة اللتين كانتا له قبل يومين.

  • ويمكن أن يكون الإنسان في درس يوم السبت مقلّدًا، وفي درس يوم الخميس مجتهدًا۱، وبعد أسبوع آخر يسلب منه الاجتهاد بسبب عدم التدريس والممارسة مع الطلاّب!

  • ولو أنّ إنسانًا كان موظّفًا في مراجعة السجلاّت في دائرة ما وعطّل عمله لأسبوع، فإنّه عندما يرجع من جديد لن يمتلك تلك السهولة والاستعداد السابقين. 

  • ومسألة السلوك أيضًا هي من هذا القبيل، وطبعًا مع فارق أنّ في الدوائر يومين من العطلة هما الخميس والجمعة، في حين أنّه لا عطلة لدى السالك الذي يسير في الطريق إلى الله. والذين يقولون: الآن لدينا الكثير من الوقت، فلنمض هذين اليومين ثمّ نتوب. هؤلاء لم يدركوا حقيقة المسألة! ومن جهة أخرى يمكن أن يبتلى الإنسان بالاستدراج بواسطة بعض القضايا، فتضعف تدريجيًّا تلك الحالة من الانبساط والروحانيّة، لذلك لا بدّ له من المراقبة. فلولا المراقبة يمكن أن يؤثّر كلام ما في النفس، ويغيّره شيئًا فشيئًا، وهنا إذا التفت الإنسان إلى ناقوس الخطر وأحسّ أنّه لم يعد يمتلك تلك الحالة السابقة، فإنّه بالطبع لن يكرّر ذلك الكلام. أمّا لو لم يلتفت فإنّه وبحديث آخر أو بنظرة إلى أجنبيّة سيفقد حالته السابقة، حتّى يلتفت فجأة أنّه في أحوال مختلفة فيقول في نفسه: ماذا فعلت حتّى لم تعد لي تلك الحال السابقة؟!٢

  • ظهور أثر تمرين النفس وترويضها بعد الفناء

  • إنّ هذه النفس تحتاج إلى تمرين وترويض وتمرّس، وكما ذكر في الجلسات السابقة فإنّ كلّ إنسان له وقت محدّد، وهذا النصيب المحدود إمّا كلّه في الدنيا أو مقدار منه في الدنيا ومقدار في الآخرة. فلو أنّ الإنسان أدّى حقّ هذا النصيب المحدود في وقته المختصّ به فإنّه سيكون متقدّمًا بهذا المقدار، وإن لم يؤدّ فإنّ الله لن يعوّض هذا النصيب الفائت من ألطافه ونعماته، ولو وصل الإنسان إلى الفناء أيضًا فسينقصون من حسابه. 

  • إنّ أثر ذلك النصيب سيظهر بعد الفناء حين تقسّم مقادير سعة كلّ إنسان؛ لأنّ حجم السعة التي تعطى لكلّ إنسان وعظمتها يحدّدان على أساس تلقّي الأسماء الجماليّة والجلاليّة لله ما بعد الفناء. وإلا ففي مرتبة الفناء لا إدراك للإنسان، وفي مرتبة ما قبل الفناء، حيث إنّه لم يغطّ البعدُ الرحمانيّ جميع الشوائب الوجوديّة للإنسان، فليس له إلا مشاهدات في عالم الإنيّة والمقدّمة، وفي مرتبة الفناء أيضًا ليس له إدراك أصلاً، ولذلك فإنّ آثار كلّ هذه المقدّمات والتمرّسات والمراقبات والمجاهدات هي لما بعد مرتبة الفناء. وتقدّر مرتبة الإنسان بعد الفناء بمقدار السعة والظرفيّة التي يكون قد حصّلها عند الوصول إلى الفناء. فليس في البحر قربة وإناء، ليس فيه إلا الماء، لا بدّ من تحصيل الإناء قبل الذهاب إلى البحر لكي يمكن أن تملأ من مائه قبل الخروج منه. کلّ ما في البحر هو الماء، وبقدر ما يكون الإنسان قد هيّأ الإناء والظرف فسيكون له نصيب أكبر من ماء البحر لرفع العطش وسقي المَزارع وإعطاء الآخرين من هذه النعم. فالإناء الواحد ينتهي في ساعة، أمّا لو أنّ الإنسان مدّ أنبوبًا بمقدار (٤ إنش) من البحر فإنّ بإمكانه أن يروي حيًّا كاملاً، ولو أنّه جرّ نهرًا فإنّ بإمكانه أن يروي مدينة.

    1. . باعتبار أنّ الدروس في الحوزات العلميّة تعطّل يومي الخميس والجمعة. (م)
    2. مقطع من عنوان البصري ۱۷. 

ضرورة الذكر ومشروعيّته

9
  • لقد خاض النبيّ هذا البحر، وصحب معه بواسطة السعة والظرفية التي كان يمتلكها كافّة المخلوقات الأعم من عوالم الملائكة المقرّبين كجبرائیل وميكائیل وروح القدس وعالم التقدير والمشيئة والجنّ والإنس والملك والفلك والجماد والنبات، ثمّ أخرجها معه. 

  • وهنا نصل إلى كلام المرحوم العلامة العرشيّ حين قال: 

  • لقد وصلت إلى هذه النتيجة التي لا تقبل الإنكار، وهي أنّ كلّ إنسان يبتلى على قدر المقام الذي يعطاه: البلاء للولاء.۱ ولذلك فإنّ ابتلاءات النبيّ ومن بعده ابتلاءات أمير المؤمنين تفوق ابتلاءات جميع البشر. 

  • هذه هي خصوصيّة النفس. فلو كانت نفس الإنسان كمخزن البنزين يشتعل بشرارة واحدة لما احتاجت لكي تشتعل إلى الكبريت بشكل دائم، والسيّارة القديمة في الشتاء لا تشتغل من تحريكة واحدة للمفتاح، ولكنّ السيّارة الجديدة ذات البطّاريّة الجديدة غير المستعملة تشتغل بذلك، وحالنا نحن حال سيّارة خاضت في هذه الدنيا وافتقدت استعدادها وقدرتها: 

  • من مَلك بودم و فردوس برين جايم بود***آدم آورد در اين دير خراب‌آبادم‌٢
  • يقول: كنت ملاكًا جنّة الفردوس داره *** هبط آدم بي إلى الخربة هذه

  • فكلّ ما يجري علينا هو بسبب أكل ذلك القمح الذي جعلنا نبتلى بهذه الدنيا! (مزاح)

  • منبسط بوديم و يك جوهر همه‌***بى‌سر و بى‌پا بُديم آن سر همه‌
  • يك گهر بوديم همچون آفتاب‌***بى گِره بوديم و صافى، همچو آب‌
  • چون به صورت آمد آن نور سره‌***شد عدد چون سايه‌هاى كنگره‌
  • كنگره ويران كنيد از منجنيق‌***تا رود فرق از ميان اين فريق‌٣
  • لقد كنّا جوهرًا واحدًا ساريًا في العالم، كنّا بلا بداية ولا نهاية وهو المبدأ للجميع. 

  • كنّا جوهرًا واحدًا كالشمس، كنّا بلا عُقَد، نتميّز بالصفاء. 

  • وعندما تمثّل بالصور ذلك النور الصافي، صار عددًا كأنّه ظلال الشرفة. 

  • فحطِّمِ الشرفة بالمنجنيق حتّى ترتفع الفروق عن هذا الفريق.

  • لا يؤذي في ذلك العالم أحدٌ أحدًا، ولا يطالب أحدٌ أحدًا. ليس هناك دفاتر اعتماد وسندات ومحاكم وسجون، ونزاع على الملك ومحامون. ليس هناك سوى السرور والأنس والوحدة والإنفاق والإيثار والجود. 

  • إنّ حديث الإنسان عن أنّ هذا الشيء لي أو لك، وهذه الرئاسة لي أو لك، وهذه السلطنة لي أو لك، قد ظهر في هذه الدنيا، فقام الإنسان بالرجم والاتهام والكذب والخداع في تحصيل ملك الآخرين وسلطانهم، في حين أنّ الله أعطاه مالاً يكفيه وأسرته إلى آخر عمره. 

    1. مصباح الشريعة ( ترجمة و شرح عبدالرّزاق گيلانى) ص ٣٦٥.
    2. . ديوان حافظ، غزل ٣۱۷.
    3. . مثنوى معنوى، الدفتر الأول.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

10
  • أجل، حالنا من حيث التلوّث بالدنيا والامتزاج بها يشبه حال تلك السيّارة القديمة الخربة، فبعض الناس يتحرّكون بدفعة واحدة، وبعضهم مهما دفعوا لا يتحرّكون ويبقون ثابتين على الأرض كالعمود، بل نحن التصقنا بهذه الدنيا وزخارفها أشدّ من التصاق العمود، ووحده الله علاّم الغيوب وستّار العيوب ﴿يعلم السرّ وأخفى! ﴾۱

  • وفي المقابل هناك جماعة هم في حركة قبل أن يؤسروا وينبغي أن يوقف أمامهم ليخفّفوا من حركتهم، فمثلاً في مقام الجود ينفقون إلى حدّ الإسراف والإشكال. والله يقول لنبيّه: 

  • ﴿وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‌ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ﴾.٢

  • إنّ هذه النفس تحتاج إلى تمرين وممارسة دائمین، وهذه الممارسة هي ذكرالله، وما يؤدّي إلى أن يخرج الإنسان من التوجّه إلى عالم الكثرات وأن يصل استعداده إلى الفعل، هو التوجّه إلى المبدأ والحقّ المطلق الذي ليس فيه شائبة من الكثرة والتعيّن.٣

  • قصص وشواهد حول مراس أهل الرسم والخط وخبرتهم

  • قصّة عن الرسّام كمال الملك

  • يحكى في سيرة كمال الملك٤ ـ صاحب اللوحات الشهيرة والذي يمكن أن يقال إنّه رسّام لا مثيل له ـ أنّه في يوم من الأيّام يهدي بضعة لوحات من لوحاته الخاصّة إلى المكتبة الوطنيّة، وعوضًا عن إحدى هذه اللوحات يقوم مسؤول المكتبة بإرسال مبلغ له، فينزعج كمال الملك من هذه الحادثة ويعيد المبلغ ويقول لهم: إن كانوا يريدون أن يدفعوا لي قيمة لوحتي فليأتوا لواحدة من لوحاتي بنظير لكي أدفع أنا المبلغ الذي تقدّر به على وجه الأرض! 

  • ثمّ يأتي بواحدة من تلك اللوحات ويحضر أسطوانة يبلغ طولها ستين سانتيمرًا أو سبعين كان قد صنعها من الكارتون ويقول: عندما تنظرون إلى هذه اللوحة فلا تنظروا نظرة عابرة! ضعوا هذه الأسطوانة على زوايا اللوحة وانظروا بعين واحدة لكي تدركوا مهارة الرسّام وفنّه. 

  • وعندما ينظرون إلى اللوحة بهذه الطريقة يلتفتون كم كانت هناك من الأمور الدقيقة التي لم يلتفتوا إليها في النظرة الأولى! ووحده من كان من أهل الفنّ يمكنه أن يدركها ويعرفها!

  • وهنا نلتفت لماذا يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: مَعَ ذلكَ لى أورادٌ فى كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ و النَّهارِ. فالمعنى الذي يدركه الإمام عليه السلام من كلمة لا إله إلا الله لن يخطر أبدًا على أذهاننا، والإمام دائمًا يرى نفسه محتاجًا لاستجلاب الفيض من الله، ولو رأى نفسه مستغنيًا عن ذلك لما قال: لا إله إلا الله. 

    1. اقتباس من سورة طه (٢۰) الآية ۷. 
    2. . سورة الإسراء (۱۷) الآية ٢٩.
    3. مقطع من عنوان البصري ؟؟؟
    4. كمال الملك رسام إيراني اسمه محمد غفاري، ولد في سنة ۱۸٤۷ وتوفي سنة ۱٩٤۰. يعتبر أحد أشهر رسامي إيران المعاصرين، وله آثار كثيرة ومهمة في قصور ملوك إيران ومراكزها الثقافية الكبرى. (م)

ضرورة الذكر ومشروعيّته

11
  • وعلى كلّ حال، لا بدّ للوصول إلى هذه المرتبة من التمرين: التمرين في العبادة، في الصدق، في الارتباط الصحيح مع خلق الله والأسرة، وفي الاستقامة وتطبيق ما يريد الإسلام والأولياء تحقيقه في الواقع.

  • من الشروط المهمّة لهذا الطريق المراقبة، وهي تعني أن يستعمل ويطبّق السالك في النهار ما تعلّمه.

  • روز در كسب هنر كوش كه مِى‌خوردن روز***دلِ چون آينه در زنگ ظلام اندازد۱
  • يقول: 

  • نهارك فاسعَ لكسب الفنون *** وليلك خلِّ لشرب الخمور

  • فإنّ خمور النهار لَداء***يُزيلُ الجلاءَ ويمحو الضياء ٢
  • فعلى الإنسان أن يقوم ليلاً، وأن يكتسب في النهار فنون ذلك الليل. أمّا لو اكتفى بالصلاة التي هي لرفع التكليف ثمّ قضى حياته بذلك النحو المتعارف الذي يقولون فيه: لا ندري ماذا سيحصل؟! فعلينا أن نقول: وإلا فالغرام له أهل.٣

  • فللّه جماعة آخرون يأتون ويعملون بهذه المطالب ويصلون إلى منبع الوجود. 

  • قصّة عن الخطّاط السيّد حسين ميرخاني وأستاذه عماد الكتّاب

  • وقد كنت سابقًا أشارك في جلسات الخطّاط المعروف المرحوم السيّد حسين مير خاني٤ لتعليم الخطّ. وقد كان خطّاطًا معروفًا جدًّا، وحسب اعتقادي كان خطّه يفوق خطّ المير عماد٥ حُسنًا، وكانت له دار للكتابة في القسم الأسفل من شارع سعدي، وكان الخطّاطون يتردّدون على تلك الدار، وكانت لنا معه في كلّ أسبوع ثلاث جلسات، كلّ جلسة تستغرق ساعتين إلى ثلاثة يحدّثنا فيها عن كلّ شيء، وفي ربع الساعة الأخيرة كان يعطينا واجبًا. 

  • لقد كان الأخوان ميرخاني (السيد حسين الأخ الأكبر والسيّد حسن٦ الأخ الأصغر) كلاهما خطّاطَين، وكانت دار الكتابة التابعة للسيّد حسن في مقابل مسجد سبهسالار۷ في الطابق الأعلى، وأذكر أنّ المرحوم العلامة كان يراجع السيّد حسن لطباعة إعلانات مسجد القائم وکان هو یکتبها. ولا زال لديّ الكثير من نسخه الخطيّة للثالث من شعبان والنصف منه وعيد الغدير. وكان خطّا هذين الأخوين تقريبًا متساويين، ولكنّ السيّد حسين كان أكثر مهارة في تربية التلاميذ. 

  • وكان المرحوم السيّد حسين ميرخاني رجلاً ناضجًا وله نظريّات في مجاله، وفي يوم من الأيّام كان يتحدّث حول ضرورة أن يكون للإنسان اهتمام، وأنّه بدون اهتمام لا يصل إلى أيّ شيء فكان يقول: لقد كان أبي السيّد مرتضى الحسينيّ أيضًا خطّاطًا معروفًا. وقد نقل لي قصّة عن أستاذه عماد الكتّاب۸ حول الاهتمام فقال:

    1. . ديوان حافظ، غزل ۱٥۰.
    2. وترجمته الحرفيّة: اسعَ في النهار لكسب الحرفة و الفنّ، إذ إنّ شرب الخمرة نهارًا يُظلم القلب كما يُظلم الصدأ المرآة. والخمرة عندهم رمز للعبادة ومحبّة الله. (م)
    3. . ديوان ابن الفارض، ص ۱٦٢. 
      و إن شِئتَ أن تَحيا سَعيدًا فَمُت بِهِ‌***شهيدًا، و إلّا فَالغَرامُ لَهُ أهلُ‌
      فمَن لَم يمُت فى حبِّهِ لَم يعِش بِهِ‌***و دونَ اجتِناءِ النَّحلِ ما جَنَتِ النَّحلُ‌
    4. أحد أبرز الخطّاطين الإيرانيين المحدثين الذين تربّعوا على قمّة الخطّ الفارسي، وُلد في ٢٥ محرّم سنة ۱٣٢٥ في طهران، أخذ الخطّ في أوّل أمره مع أخيه حسن على أبيهما مرتضى بَرَغاني الذي كان يخطّ الكتب لطباعتها طباعة حجرية، وقد ساعد أباه في عمله هذا وهو في سن الثانية عشر، وقد ورثت الأسرة في الخطّ طريقة السلف مثل ميرزا رضا كَلْهُر وعماد الكتّاب. تُوفّي حسين ميرخاني في ۱٩ من شهر شعبان سنة ۱٤۰٢. اتّصف خطّه بالمرونة الكبيرة وحصل على الدرجة الأولى في خطّ النستعليق ووصل به إلى أعلى المراتب... ترأس جمعية الخطّاطين الإيرانيين، وتتلمذ على يديه مجموعة من الخطّاطين الإيرانيين المعاصرين، منهم أميرخاني، سلحشور، هادي حاجي آقاجاني، غلام حسين أميرخاني...(راجع: الخطّ العربي، نشأته، مبادئه، استخداماته. الربيز: عبد الناصر ونوس، الربيز: محمد غنوم، ۱٤٣۰-۱٤٣۱. منشورات جامعة دمشق، كلية الفنون الجميلة.) (م)
    5. مير عماد الحُسْنِيّ (٩٦۱ - ۱۰٢٤ هـ / ۱٥٥٤ - ۱٦۱٥م) هو خطاط فارسي، دخل بلاط الشاه عباس في أصفهان خطاطاً بارعاً. قُتل سنة ۱۰٢٤ هـ. (البهنسي, عفيف (۱٩٩٥ م). معجم مصطلحات الخط العربي والخطاطين (الطبعة الأولى). بيروت: مكتبة لبنان ناشرون. صفحة ۱٤٣.) (م)
    6. سيد حسن مير خاني (ت. ۱٤۱۰ هـ / ۱٩٩۰ م) هو خطاط، من أهل إيران، لمع في الخط وخصوصًا في خط النستعليق الذي مارسه لنحو خمسين عاما، ولُقب بسراج الکتاب. توفي بطهران عن عمر يناهز الثمانين، ترك ٢٣ أثرا فنياً بخطه، منها دواوين سعدي وحافظ الشيرازيين ومولوي. (يوسف, محمد خير رمضان. المستدرك على تتمة الأعلام. بيروت: دار ابن حزم. صفحة ۱٥٤.) (م)
    7. مسجد سبهسالار (بالفارسية: مسجد سپهسالار) هو مسجد تاريخي يعود إلى عصر القاجاريين، ويقع في طهران.
    8. وهو الذي كتب ما على مآذن مسجد سبهسالار.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

12
  • في أحد أيّام الأربعاء ذهبت إلى أستاذي عماد الكتّاب، فكتب الواجبات وقال لي: 

  • تمرّن على هذه الواجبات وأحضرها يوم السبت. وفي يومي الخميس والجمعة كتبت بدقّة عالية صفحتين، و ظنًّا منّي أنّي بذلت جهدًا كبيرًا، ذهبت يوم السبت عند الساعة التاسعة تقريبًا إلى دار الكتابة لعماد الكتّاب. 

  • وعندما وصلت رأيت أنّه قد وضع على الطاولة بضعة أنواع من الأقلام، وهيّأ عددًا كبيرًا من الأوراق كواجبات من الخطوط المختلفة، وكان لا يزال مشغولاً بالكتابة، فسلّمت وجلست. 

  • فقال: أين واجبك لأراه. فأريته الصفحتين. 

  • فألقى عليها نظرة ثمّ وضعها جانبًا وقال: من يوم الأربعاء إلى السبت لم تكتب سوى صفحتين؟! هذا المقدار من الأوراق التي بعضها فوق بعض هو فقط من الساعة الثامنة إلى التاسعة صباحًا بعد أن جئت إلى هنا! فهذا عملي حتّى غدوت عمّاد الكتّاب. 

  • وكان المرحوم السيّد حسين مير خاني قد علّق على جدران دار الكتابة بعض كتابات تلامذته.۱ ويمكن أن يقال إنّ أفضل وأبرز تلامذته وهو الخطّاط المعروف جناب السيّد أمير خاني وهو لا يزال على قيد الحياة أسأل الله له التوفيق ، ولا يزال هناك له بعض الأعمال مثل: 

  • در كار خير حاجتِ هيچ استخاره نیست.٢ 

  • يقول: فعل الخير دومًا لا استخارة فيه.

  • وفي يوم من الأيّام يأتي المرحوم مير خاني بهذه اللوحة مع نموذج من تخطيطه هو لهذه العبارة، ويقدّمها لي ويقول: انظر ما الفرق بين هذين الخطّين؟ فنظرت وقلت: رغم عدم وجود فارق بينهما، ولكن يبدو أنّ خطّك يحمل نوعًا من الحسن والنضج يختصّ بهما.

  • فقال في الجواب: 

  • كنت أودّ أن أخبرك بهذا الأمر، هذا الحسن والنضج هما حصيلة ثلاثين سنة من العمل! وإن يبذِلِ الجهدَ طيلة ثلاثين عامًا فإنّ خطّه سيحتوي هذا النضج الذي لمستَه!

  • والغرض من ذكر هذه الحكاية هو أنّ الإنسان يمكنه بالمراس والتمرين أن يحقّق هذه الأسماء والصفات في نفسه ويصل إلى الكمال. ٣

  • البيان الثالث لضرورة الذكر: كونه الطريق الذي بيّنه الله للوصول إليه

  • لماذا لا بدّ أن نسير إلى الله بواسطة أسماء الله الحسنى؟ وهل الأعمال والرياضات التي يقوم بها الدراويش والهنود ومختلف أتباع المذاهب والملل في عباداتهم تؤدّي بهم إلى نتيجة؟ فنقول: 

    1. وتلامذته معروفون وكانت بيننا وبينهم علاقة في ذلك الزمان. 
    2. . ديوان حافظ، غزل ۸۰:
      هر دم كه دل به عشق دهى خوش دمى بود***در كار خير حاجت هيچ استخاره نيست‌
      يقول: نِعمَ وقتًا ما أسْلَمَ قلبُكَ للعشق فيه *** ففعل الخير دومًا لا استخارة فيه 
    3. مقطع من عنوان البصري ۱٦. 

ضرورة الذكر ومشروعيّته

13
  • لو أنّ الإنسان بحث عن الواقع وأراد معرفة الله، فعليه أن يلتزم بلوازم ذلك الواقع، وأن يسير في الطريق الذي يبيّنه صاحب الدار، لا أن يعمل بالطرق المبتدعة للآخرين على أساس التخيّلات والأوهام. 

  • لقد كان هناك الكثير من الذين أرادوا أن يسيروا كما يحلو لهم ويتقدّموا على الأوامر والبرامج السلوكيّة، ولكنّ طريقهم بَطَل، وعمرهم ضاع. 

  • كنت أشعر أنّ أحد تلامذة المرحوم العلاّمة يقوم من نفسه ببعض الأعمال، وعندما نبّهته وسألته هل تقوم بهذه الأفعال بإجازة منه وتحت نظره وإشرافه؟ انصرف عن الحديث في الموضوع بابتسامة.

  • ومرّت الأيام حتّى طلب المرحوم العلامة ذلك الرجل وقال له بعد أن كان يسير بالتدريج إلى تعطيل كسبه وعمله: عليك أن تهتمّ بعملك أكثر من هذا! ولكنّه لم يعتن بكلامه، وحتّى بعد أن حدّثه مرّة ثانية بأنّ هذه الأمور التي تطرح ليست بالأمور التي يمكن التهاون بها، ولكنّه تابع على ما كان عليه. 

  • ثمّ مرّت الأيّام حتّى صادف أن كان إلى جانبي في إحدى الدعوات فقال لي: «لي إليك سؤال، لو أنّ إنسانًا كان على ارتباط مباشر بصاحب الزمان عليه السلام فهل يحتاج إلى أستاذ؟» فقلت له: «لا يخلو الأمر من أحد طرفين على نحو القضيّة المنفصلة۱: إمّا أن يكون كلامه مطابقًا لكلام الأستاذ وإمّا مخالفًا له، فإن كان مطابقًا له، فما دمت عند أستاذك وتتلقّى منه المسائل فما الحاجة إلى اللقاء بهذا الرجل الذي تزعم أنّه إمام الزمان ؟! وإن كان كلامه وأوامره مقابلين ومخالفين لأوامر ونواهي الأستاذ فعليك أن تقرأ الفاتحة لهذا الرجل الذي كنت ترى أنّه إمام الزمان! لأنّ من أوصلك إلى حيث ترى إمام الزمان هو هذا الأستاذ، ولم تصل إلى هذه المرتبة بنفسك، فكيف يمكن للأستاذ أن يأتي بك إلى الحدود ويتركك بل ويجعلك بأوامره الخاطئة في الجهة المقابلة لإمام الزمان؟!» 

  • نعم لقد حدث كثيرًا أنّ بعض تلامذة أستاذ ما يصلون إلى مراتب بحيث يوكلهم أستاذهم إلى أفراد آخرين غير إمام الزمان عليه السلام، فعندما يقول الأستاذ: من الآن فصاعدًا أنت صرت متّصلاً ولا شغل لي معك بعد الآن. لا إشكال، ولكنّ كلامنا عندما يقول الأستاذ: عليك لتحقيق سعادتك أن تقوم بهذا العمل. ثمّ يأمرك إمام الزمان بخلاف هذا الأمر! فبدلالة الالتزام يقول لك الأستاذ إنّ إمام الزمان المزعوم هذا ليس هو الإمام الواقعيّ، وأنت تعتقد أنّه حقّ، لذلك عليك أن لا تلتفت إليه. 

    1. القضية الشرطية المنفصلة هي القضيّة التي يحكم فيها بالإيجاب أو السلب حول انفصال طرفي القضيّ، مثل العدد إما زوج أو فرد، وليس إمّا أن يكون العدد زوجًا أو قابلاً للقسمة على اثنين. انظر الجوهر النضيد، ص ۸٣. (المحقّق)

ضرورة الذكر ومشروعيّته

14
  • لقد ذكرت له هذه المسائل ولكنّها لم تكن مؤثّرة، ومضت الأيّام فأرسل إليه المرحوم العلامة واحدًا من الرفقاء ليبلّغه عن لسانه: 

  • إنّ إمام الزمان الذي تتبّعه شيطان، إنّه ليس إمام الزمان، لا تقل إنّ الأعاظم رأوا وأحسّوا ولكنّهم سكتوا وتركونا في الضلالة. 

  • ولكن للأسف لم تؤثّر هذه الرسالة من المرحوم العلامة.

  • لقد كان الغرض من ذكر هذه الحكاية أن المسألة مهمّة جدًّا وهذا الوادي شديد الخطر، حيث يكمن فيه في كلّ مكان جنود الشيطان والأبالسة للإضلال، ولذلك يحتاج الإنسان إلى خبير، فلو كان الأمر بحيث يمكن لأيّ إنسان أن يحدّد الحقّ من الباطل، ويفرّق بين الأسماء الحسنى وغيرها فلا مجال للكلام والإشكال.۱ 

  • إنّ تكامل الإنسان منوط باشتغاله بذكر أسماء الله الحسنى، ولا أحد يمكنه أن يرى نفسه مستغنيًا عن ذلك، فالآية الكريمة ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾٢ تدلّ على أنّ مقام الاطمئنان إنّما هو بواسطة ذكر الله، كما تقدّم٣ أنّ كلّ ما سوى الله ومظاهر أسمائه الحسنى هو مجاز زائل ﴿لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾٤ ويسبّب التشويش والاضطراب وانعدام الوثوق، فالحقيقة والواقع هي فقط وفقط ذات الله المقدّسة، وكلّ إنسان وكلّ شيء سواه في أيّة مرتبة وأيّة كيفيّة فهو في مرتبة ماهويّة٥، ويعاني من نقص وخلأ وجوديّ.٦

  • ثانيًا: مشروعيّة الذكر

  • هل الذكر من أباطيل الصوفيّة؟

  • إنّ الأئمة عليهم السلام يدعوننا إلى ذكر الله، وقد أشير في الروايات إلى أهميّة الذكر وأنّه بغير التوجّه والذكر لا يمكن الوصول إلى المقصد، وأنه لماذا يحتاج المؤمن إلى الذكر ودوامه؟

  • وهناك من يقول إنّ الأذكار وفق الكيفيّات الخاصّة والأعداد المعيّنة هي جميعها أباطيل للصوفيّة والدراويش. في حين أنّ الأئمة عليهم السلام قد بيّنوا ما يقابل ذلك تمامًا.

  • في أصول الكافي في باب ذكر الله عزّ وجلّ كثيرًا، يروي ابن قدّاح عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

  • ما مِن شَيءٍ إلّا ولَهُ حدٌّ ينتَهي إليهِ إلّا الذِّكر، فَلَيسَ لَهُ حدٌّ ينتَهِي إليهِ. فَرَضَ اللهُ عَزَّ و جَلَّ الفرائضَ، فَمَن أدّاهُنَّ فَهُو حَدُّهُنَّ؛ و شَهرَ رَمضانَ، فَمَن صامَهُ فَهوَ حَدُّه؛ و الحَجَّ، فَمَن حَجَّ فَهو حَدُّه إلّا الذِّكرَ؛ فإنّ اللهَ عزَّ و جَلَّ لَم يرضَ مِنهُ بالقَليلِ ولم يجعَل له حَدًّا ينتَهي إليه.

    1. مقطع من عنوان البصري ۱٥.
    2. . سورة الرعد ( ۱٣) الآية ٢۸. 
    3. . راجع المحاضرة رقم ٩ من هذه السلسلة.
    4. . سورة الغاشية (۸۸) آيه ۷.
    5. أي مقيّد بماهيّة معيّنة كالإنسان والحيوان والشجر والملك والجنّ وما شابه، وليس وجودًا بسيطًا مطلقًا. (م)
    6. . سيأتي أنّ اشتغال الأئمة عليهم السلام والأولياء بالذكر يختلف عن اشتغال سائر الناس به، والإنسان في أيّ مرتبة كان يستفيد من الأسماء الحسنى الإلهيّة بشكل خاص يختلف عما يستفيده من كان في المراتب الأخرى. 

ضرورة الذكر ومشروعيّته

15
  • ثُمّ تَلا هذهِ الآية: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا﴾۱، فقالَ:

  • لم يجعَلِ اللهُ لَهُ حَدًّا ينتَهي إليه‌٢.

  • وفي تتمّة هذه الرواية يروي ابن قدّاح عن الإمام الصادق عليه السلام: 

  • وكانَ أبي عليهِ السّلامُ كثيرَ الذِّكرِ. لَقَد كُنتُ أمشى مَعَه وإنّهُ لَيَذكُرُ اللَهَ، وآكُلُ مَعَهُ الطّعامَ وإنّهُ لَيَذكُرُ اللَهَ، ولَقَد كانَ يحَدِّثُ القومَ وما يشغَلُهُ ذلكَ عَن ذِكرِ اللَهِ. و كُنتُ أرى لِسانَهُ لازِقًا بِحَنَكِه يقولُ: «لا إلهَ إلّا اللَهُ.» و كانَ يجمَعُنا فَيَأمُرُنا بِالذِّكرِ حتّى تَطلُعَ الشَّمسُ؛ ويأمُرُ بِالقَراءةِ مَن كانَ يقرَأ مِنّا؛ ومَن كان لا يَقرَأ مِنّا أمَرَهُ بالذِّكرِ. والبَيتُ الّذي يقرَأ فيهِ القرآنُ ويذكَرُ اللَهُ عزّ وجلّ فيهِ، تَكثُرُ بَرَكَتُه وتَحضُرُهُ المَلائكةُ وتَهجُرُهُ الشّياطينُ ويضى‌ءُ لِأهلِ السّماءِ كما يضى‌ءُ الكَوكبُ الدُّرّيُّ لِأهلِ الأرضِ و البَيتُ الّذى لايُقرَأ فِيهِ القرآنُ ولا يذكَرُ اللَهُ فيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ وتَهجُرُهُ الملائكةُ وتَحضُرُهُ الشّياطينُ.»٣

  • لا شکّ أنّكم إذا دخلتم منزلاً لا يذكر الله فيه تصابون بكدورة في القلب، ولو وضعتم في غرفتكم بدلاً من لوحة فيها ذكر، لوحةً فيها صورة غير لائقة، فإنّ حالكم سينقلب. ولو تلي القرآن عشر دقائق في غرفة ما ثمّ عزفت فيه الموسيقى فإنّ حالكم سيكون مختلفًا في كلّ من الصورتين. ولو دخل أحد الأعاظم إلى غرفة ثمّ دخل إنسان مكدّر، فإنّ حالكم سيختلف. ولو دخلتم إلى حرم السيّدة المعصومة عليها السلام، فإنّ ذلك الفضاء والجوّ سيؤثّر عليكم، وهذه التغييرات هي حقائق تکوینيّة لا يمكن محاربتها ومواجهتها.

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام في تتمّة الرواية: 

  • وقَد قالَ رسولُ اللَهِ صلَّى اللَهُ عليهِ و آلِهِ وسلَّمَ: «أ لا أُخبِرُكُم بِخَيرِ أعمالِكُم لكم، أرفَعِها في دَرجاتِكم وأزكاها عندَ مَليكِكُم، وخَيرٍ لَكم مِن الدّينارِ و الدِّرهَمِ، وخَيرٍ لَكم مِن أن تَلقَوا عَدُوَّكُم فَتَقتُلوهُم ويقتُلوكُم؟» فقالوا: «بلى.» قالَ: «ذِكرُ اللهِ عَزَّ و جلّ كثيرًا.»٤

  • وفي الختام يقول الإمام الصادق عليه السلام: 

  • جاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبيّ صلَّى اللَهُ عليهِ وآلِهِ، فقالَ: «مَن خَيرُ أهلِ المَسجدِ؟» فقالَ: «أكثرُهُم لِلهِ ذِكرًا.» وقالَ رسولُ اللَهِ صلَّى اللَهُ عليهِ وآلِهِ وسلّمَ: «مَن أُعطِيَ لِسانًا ذاكِرًا فَقد أُعطِيَ خَيرَ الدّنيا والآخِرةِ.» و قالَ فى قولِهِ تعالى: ﴿وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾٥

    1. . سورة الأحزاب (٣٣) الآية ٤۱ و ٤٢.
    2. . الكافي، ج ٢، ص ٤٩۸.
    3. . المصدر السابق، ص ٤٩٩.
    4. . الكافي، ج ٢، ص ٤٩٩.
    5. . سورة المدثّر (۷٤) الآية ٦.

ضرورة الذكر ومشروعيّته

16
  • قالَ: «لا تَستَكثِر ما عَمِلتَ مِن خَيرٍ لِلهِ تعالى.»۱

  • فهذه الرواية تفيد أنّ المؤمن مهما اشتغل بذكر الله فإنّه يمكنه أن يستجلب بذلك الفيوضات التي تنزل على القلب نتيجة التأثير الملكوتيّ للذكر عليه.٢ 

  • تلخيص واستنتاج

  • [يمكن أن نثبت ضرورة الذكر بالبيانات الثلاثة التالية: 

  • كونه غذاء للروح تحتاجه في إيصال استعداداتها إلى الفعليّة كما يحتاج البدن إلى عذاء. 

  • كونه تمرينًا للنفس على رؤية الأسماء والصفات الإلهيّة في كلّ شيء ومحقّقًا لانسجام الإنسان مع الصفات والأسماء الإلهيّة، حيث إنّ عمليّة الظهور والخلق تتحقّق من خلالهما. والتمرين حاجة عامّة يحتاجها كلّ إنسان في تحقيق أيّة ملكة. 

  • كونه الطريق الذي رسمه الله للوصول إليه تشريعًا وهو لازم كون الأسماء والصفات هي الأساس في نظام الكون تكوينًا.

  • يمكن أن نثبت شرعيّة الذكر من خلال مجموعة من الآيات والروايات التي تأمر بالذكر أو تبيّن كون الأئمّة عليهم السلام ملتزمين به.]

    1. . الكافي، ج ٢، ص ٤٩٩.
    2. مقطع من عنوان البصري ۱۷.