1

حقيقة الذكر والورد

2432
مشاهدة المتن

المؤلّفمدرسة الوحي

القسم الاخلاق والحکمة والعرفان

المجموعةمقالات الورد والذكر

العدد التسلسلي1

مقالات مجموعة (7 مقالة)

التوضيح

وهي المقالة الأولى من سلسلة مقالات حول الذكر والورد في السير والسلوك. تتحدث هذه المقالة عن معنى الذكر و الذكر في اللغة و الاصطلاح، كما تبين أربعة معاني للانشغال بالذكر.
وجدير بالذكر أن هذه المقالات قد استفادتها الهيئة العلمية لموقع مدرسة الوحي من محاضرات شرح رواية عنوان البصري لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حقيقة الذكر والورد

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • حقيقة الذكر والورد

  • المقالة الأولى من سلسلة مقالات حول 

  • الذكر والورد في السير والسلوك

  •  

  • بالإفادة من محاضرات شرح رواية عنوان البصري 

  • لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه 

  •  

حقيقة الذكر والورد

2
  •  

  •  

  • تمهيد الهيئة العلمية

  • بين يديك أخي القارئ بحث حول الذكر والورد في السير والسلوك، مستفاد من محاضرات سماحة آية الله الراحل السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه حول الذكر في شرح فقرة: «مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تشغلني عَن وِردي وخُذ عَن مالكٍ واختَلِف إليهِ كَما كُنتَ تَختَلِفُ إليه» من رواية عنوان البصريّ، والتي شملت المحاضرات من الثامنة إلى الثامنة عشرة من سلسلة شرح تلك الرواية.۱

  • ويقع البحث ضمن فصول يصلح كلّ منها مقالة مستقلّة صغيرة:

  • المقالة الأولى: حقيقة الذكر والورد (وهي هذه المقالة التي بين يديك)

  • المقالة الثانية: تأثير الذكر وكيفيّة هذا التأثير 

  • المقالة الثالثة: ضرورة الذكر ومشروعيّته

  • المقالة الرابعة: اختلاف الأذكار باختلاف الأحوال والأوقات والمراتب 

  • المقالة الخامسة: الظروف المحيطة بالذكر النافع

  • المقالة السادسة: أسئلة وملاحظات ترتبط ببعض جوانب الذكر

  • خاتمة: خلاصة أبحاث الورد و الذكر وأهم النتائج المستفادة.

    1. حيث إنّ المحاضرات بصورة عامّة تتميّز بأسلوب خاصّ من مراعاة حال السامع وتلبية حاجاته الفعليّة، والتكرار والتلخيص لما سبق والتعرّض للنقطة الواحدة من جوانب مختلفة في محاضرات عدّة ممزوجة بالنقاط الأخرى. وحيث تمسّ الحاجة إلى تكوين رؤية شاملة حول مفردة الذكر بشكل منتظم ومتسلسل وعلميّ، فقد قامت الهيئة العلميّة في موقع مدرسة الوحي بإعداد هذا البحث من نفس كلماته رضوان الله عليه مقتصرة على الجمع والترتيب والتقديم والتأخير وربّما اقتضى ذلك تكرار الفقرة نفسها إن كانت تفيد في أمرين، ولم تضف سوى ما ورد تحت عنوان "تلخيص واستنتاج" في ختام كلّ فصل إذا ما قضت الضرورة وذلك للمساعدة على جمع المعلومات الأساسيّة من بين البيانات المختلفة والشواهد.

حقيقة الذكر والورد

3
  •  

  •  

  • أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيم‌

  • بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم‌

  • الحمدُ لِلّه ربِّ العالمينَ و الصّلاةُ و السّلامُ على أشرفِ المرسلينَ‌

  • وخاتمِ النّبيّينَ أبي القاسمِ محمّدٍ و على آلِهِ الطّيّبينَ الطّاهرينَ‌

  • واللعنةُ على أعدائِهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • معنى الورد والذكر لغة

  • الذكر هو عبارة عن تذكّر الله وهو مختلف في المظاهر والعبارات والأوراد المختلفة. ۱

  • الورد في اللغة من «مادّة وَرَدَ يَرِدُ ورودًا» بمعنى دخول شيء في شيء آخر، واسم المصدر هو «الوِرد»٢ فلو دخل إنسان في بيت يقولون: «ورد في البيت» . ومن هنا يقال للأذكار التي يوردها الإنسان على لسانه «الورد» حيث يوردها بواسطة التلفّظ أو خلق النفس وإيجادها في عالم الفكر وفي مرتبة القلب وباطن الإنسان وسرّه.٣

  • وبعبارة أخرى فإنّ للذكر بُعدَ الورود وليس هو محض لقلقة لسان وتحريك له. فعندما يقرأ الإنسان ذكرًا ما، فإنّ هذا الذكر يدخل إلى قلبه ويؤثّر فيه ويغيّر نفسه، وإلا فلا فائدة منه، وإن تلفّظ به بدون توجّه فلا فرق بين تكرار الشعر وذكر «لا إله إلا الله» المبارك؛ فكلّ منهما لقلقة لسان وتحريك للفم.٤

  • حقيقة ذكر أسماء الله هي الانسجام معها والتوجّه إليها والتحلّي بها في مقام العمل

  • بيان معنى الاسم الإلهيّ ودعاء الله به

  • في الآية الشريفة ﴿وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‌ فَادْعُوهُ بِها﴾٥ يقول تعالى إنّ الأسماء الحسنى هي فقط وفقط لذات الله. والفاء في جملة ﴿فَادْعُوهُ بِها﴾ هي فاء النتيجة التي تعني أنّ هذه الجملة هي لازم الإتيان بالجملة السابقة، ومن هنا ينبغي في مقام الطلب والدعاء أن نسعى وراء أسماء الله الحسنى. 

  • الاسم عبارة عن العلامة والسمة والحاكي، والسؤال عن اسم الإنسان هو سؤال عن العلامة التي تميّز هذا الفرد عن الآخرين. فلو لم تكن أسماء للناس والأشياء لما أمكن التمييز بين أفرادها، فمثلاً لو لم نعلم اسم ضيفنا وسئلنا عنه فلا يمكننا أن نميّزه عن الآخرين بذكر خصائصه من لون اللباس والطول والوزن، إلا أن تكون هذه الضمائم والقرائن إلى حدّ تجعله محدّدًا بشكل كامل وواضح. 

  • فالأسماء الحسنى الإلهيّة علامات تحكي عن حقائق تختصّ بذات الله. فاسم العليم يحكي عن حقيقة هي مختصّة بذات الله، واسم القدير هو لفظ يخفي وراءه حقيقةً، وهذه الحقيقة هي عبارة عن القدرة والمشيئة التي لا تقبل التفويض والمختصّة بذات الله. وأسماء المريد والفعّال والرازق والخالق والربّ والنور هي كذلك. 

    1. مقطع من محاضرة عنوان البصري ۱۸. 
    2. مجمع البحرين، ج ٣، ص ١٥٩.
    3. وبالطبع له مراتب سيأتي بيانها.
    4. مقطع من محاضرة عنوان البصري ۸.
    5. . سورة الأعراف (۷) الآية ۱۸۰. 

حقيقة الذكر والورد

4
  • معنى اسم "النور" وحقيقة التزاحم بين الموجودات في دعاء "يا نورًا فوق كلّ نور"

  • وفي دعاء الجوشن الكبير ندعو الله تعالى بأسمائه الحسنى فنقول: يا نورًا فَوقَ كُلِّ نور.۱ أيّتها الذات التي حقيقتها من النور الذي هو فوق كلّ نور.

  • معنى اسم النور

  • وسواء أخذنا النور بمعنى الحقائق الوجوديّة الخارجيّة (المظاهر الخارجيّة لنور الله بأشكال صور ماهيّات الإنسان والحيوان والنبات والأرض والسماء والملائكة والصور المجرّدة) أو بمعنى الظاهر بذاته المظهر لغيره، فعلى أيّ حال اسم النور هذا يختصّ بذات الله، وكافّة الأنوار المشاهدة والمتصوّرة لنا هي دون هذا النور المختصّ به. 

  • إنّ النور الذي نشاهده يأتي إلى العين، والحال أنّ الله فوق إدراك البصر المادّي، فالنور الذي نتصوّره أمر محدود، والحال أنّ حقيقة النور الإلهيّ غير محدودة ولا يمكن تصوّرها، ومن هنا فإنّ معنى هذه الفقرة الشريفة هو أنّ هناك نورًا رفيعًا لا نشاهده ولا نتخيّله ولا نتصوّره، وعلينا أن نسير إليه.

  • النور الذي نشاهده هو عبارة عن شعاع نور مصباح يمكن أن يغطّى بستار ويُحجب، أو شعاع نور الشمس التي تمنع وصول نورها إلينا غمامة صغيرة، يقول السنائي: 

  • منشين با بدان كه صحبت بد***گرچه پاكى تو را پليد كند
  • آفتاب ارچه روشن است او را***پاره‌اى ابر ناپديد كند٢
  • يقول: 

  • لا تجالس الأشرار إنّ صحبتهم *** ترديك شرّيرًا وإن كنت طاهرًا

  • فمهما كانت الشمس مشرقة *** تكفي لإخفائها سحابة من غمام

  • ولكن علينا أن نتصوّر نورًا لو جاء الغمام أمامه لبدّله إلى نور، وحينئذ لا يمكن أن نتصوّر تدافع هذه الأمواج وتضاربها.٣ إنّ نور الله هو نور لا يخمد ولا يفتأ انعكاسه يتراءى في أعيننا.

  • انعدام التعارض الواقعيّ بين الموجودات لكونها مظاهر لنور واحد

  • من هنا نصل إلى أنّ كافّة أشكال التضادّ والاختلاف في العالم هي في نظرنا نحن. تمامًا كما لو وضعنا في قدرٍ مقدارًا من حبوب الحمّص واللوبياء والعدس والأرزّ وخلطناها، فإنّ لسان حال كلّ واحد منها يعترض أن لماذا جعلتني قرينًا للآخر؟! فما علاقتي أنا به؟! 

  • وفي عمليّة الخلق أيضًا عندما يجعل الله كافّة المظاهر النوريّة المختلفة في قوالب الماهيّات المختلفة، ويجمعها في نظام عالم التكوين، تشرع هذه الاختلافات، ولازم الاختلاف بين الظهورات هو التصادم والتضارب، والأنانيّة ومحوريّة الذات. ففي نظام هذا العالم يسير كلّ إنسان على أساس الحدود والقواعد التي جعلها لنفسه، ولأنّ الآخر أيضًا يسير على أساس طريقته الخاصّة، فإنّ هذه الحدود ستتداخل وتبرز الاختلافات.٤

    1. . المصباح (الكفعمي) ص ٢٥٣.
    2. . ديوان حكيم سنايى غزنوى، ص ٦۱٩.
    3. يقال إنّا لو جعلنا نورًا معيّنًا في طول خاصّ يسطع على نور آخر بشكل متقابل فإنّ هذين النورين يلغي أحدهما الآخر. 
    4. مقطع من عنوان البصري ۱٥.

حقيقة الذكر والورد

5
  • التوجّه إلى الأسماء الحسنى مقدّمة لتحقيق الرؤية التوحيديّة 

  • فللوصول إلى هذه المرحلة [انعدام التعارض] يقول الله: لا تدعوا إلا أسمائي، وتوجّهوا إليّ وإلى أسمائي؛ فإنّ ما يجري في هذا العالم سراب؛ فلا تبحثوا عن سواي. فمثلاً افترضوا أنّ إنسانًا يريد أن ينال وظيفة فبدلاً من أن يتقدّم بالطلب إلى المدير بشكل مباشر فإنّه يتقدّم به إلى الحارس! وهذا الحارس لا يمكن حتّى أن يصعد إلى الطابق الأوّل، ولا يتأتّى منه أيّ عمل. لقد فتح الله تعالى طريق ورود عباده إلى حريمه، فلو كان الطريق مغلقًا لقلنا: إلهي أنت أغلقت الباب، ونحن مضطرون أن نتوجّه إلى الآخرين. ولكنّ الله يقول: ﴿وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‌ فَادْعُوهُ بِها﴾ ابحثوا عنّي! إلى من تريدون أن تذهبوا غيري؟!إنّ حقيقة العرفان والتوحيد هي انحصار وِجهة الإنسان في جميع الأمور نحو المبدأ الواحد. وعلى الإنسان أن يلاحظ الأسماء الحسنى كوجهة له عند القيام بأيّ عمل: 

  • اسم الرازق

  • فعندما يفتح الإنسان باب منزله صباحًا ويمضي نحو العمل والاكتساب، لا بدّ أن يكون اسم الرازق نصب عينيه حتّى عودته إلى منزله، وليس المراد من فقرة ﴿فَادْعُوهُ‌ بِها﴾ أن يقول الإنسان أثناء سيره في الشارع على الدوام: يا رزّاق. بل أن يجعل تلك الأسماء وِجهةَ قلبِه.

  • إنّ من آداب اكتساب الرزق أن يجعل الإنسان عند خروجه من منزله أمرًا واحدًا فقط أمام عينيه، وهو أن يرى نفسه تحت هيمنة اسم الرازق وسيطرته، ويعلم أنّه لو اكتسب فقط ألف تومان، فإنّ الله هو الذي أرسلها إليه، ولو لم يكتسب شيئًا، فإنّ الله لم يرسل إليه شيئًا، فلا يطالب الله بعد ذلك بشيء. ولو داوم المرء على ذكر "يا رحيم" حين خروجه من منزله ـ والذي يعني "يا أيّها الذي هو في مقام الرحمة والعطف على عباده" ـ فإنّ علاقتنا مع الناس حينها ستتغيّر وتتبدّل.۱

  • اسم العليم

  • لقد رتّب الله تعالى نظام العالم على أساس أسمائه الحسنى هذه، فمثلاً بواسطة اسم العليم وزّع العلم بين عباده من أيّ مقولة كان سواء من العلوم الماديّة أو المعنويّة. فذلك الذي ينتهي إلى نتائج فی العلوم المادّية لم يصل إليها من نفسه، بل ألهمها الله له. 

    1. وإن شاء الله سيأتي في المستقبل كيف على الإنسان أن يخوض في هذه الأمور وأنّه سينال التوفيق من خلال التمرين والممارسة. 

حقيقة الذكر والورد

6
  • يقول أديسون في الجواب على كيفيّة وصوله إلى هذه الاكتشافات والاختراعات: ٩٩% جهد و۱% إلهام. ورغم اعتراف أديسون بهذا ۱% فإنّه مخطئ بشدّة فقد كانت ۱۰۰% إلهامًا.

  • يقول أحد فيزيائیینا والذي انتقل إلى رحمة الله مؤخّرًا في الجواب على السؤال حول كيفيّة وصوله إلى نظريّته في مقابل نظريّة آينشتين: إنّه الذهن! فجأة تخطر في الذهن فكرة وتومض. 

  • هذه الفكرة من أين جاءت ولماذا لم تأت قبل ساعة؟! فإذن من المعلوم أنّ كافّة العلوم هي ومضات وإلهامات تأتي من جانب آخر، ثمّ بعضهم يقبلها وبعضهم لا يقبلها.

  • وأمّا بالنسبة إلى العلوم المعنويّة فإنّ كافّة مدركات الإنسان هي لمع تحدث وترد على نفوسنا بواسطة اسم العليم.

  • اسم المحيي

  • إنّ حياة كافّة خلايانا هي بواسطة اسم المحيي. يقول الأطبّاء إنّ كافّة خلايا البدن تتبدّل بعد مضيّ مدّة معيّنة۱؛ فمن الذي يقوم بعمليّات توارث المعلومات والخصوصيّات الطبيعيّة للخلايا والجينات؟!٢ وكيف يؤثّر إلى آخر العمر ذلك الطُعم المضادّ لمرض ما والمعطى للإنسان في طفولته؟! وبواسطة من تنتقل العلاقات من خليّة إلى خليّة أخرى في جهاز الدفاع لدى البدن؟! إنّه اسم الله المحيي الذي ينقل سلسلة الأعصاب والخلايا في هذا البدن من مرتبة إلى أخرى ويحافظ عليها كمكان لإحاطة النفس وسيطرتها.

  • اسم المدبّر

  • وينتهي الإنسان إلى النتائج انطلاقًا من القياسات والقضايا التي يلاحظها في ذهنه فيقوم بالتدبير، وهذا التدبير هو من اسم الله المدبّر والذي أشير إليه في القرآن الكريم في آية ﴿فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً﴾٣ فسواء شاء الإنسان أم أبى، وسواء التفت أم لم يلتفت فإنّ اسم المدبّر يتصرّف في ذهنه وتدبيره وتحدث عمليّات لكي يصل إلى النتيجة.

  • السلوك يعني الانسجام مع نظام التكوين في الاستناد إلى الأسماء الحسنى

  • فبما أنّ نظام العالم يستند إلى نزول الأسماء الإلهيّة الحسنى، فإنّ المتوقّع منّا هو أن نطبّق هذه الأسماء في حياتنا ونبرزها، وبعبارة أخرى كما أنّ الله تعالى خلق عوالم الربوبيّة والملك والملكوت واستمرّ في خلقها على أساس أسمائه الحسنى، فعلينا نحن أيضًا أن نطبّق ذلك النظام التكوينيّ ـ كتربية عمليّة في وجودنا ـ على المحاور الثلاثة: النفس والأسرة والآخرين. وهذا هو معنى السلوك. السلوك يعني أن يكون الإنسان في مقام التربية وتهذيب النفس وفق الكيفيّة التي وضع النظام الأحسن لعالم الخلقة على أساسها.

    1. بعضهم يرى أنّ هذه المدّة هي بضعة أيّام، وبعضهم أربعون يومًا، وبعضهم سنة، وبعضهم الآخر عشر سنوات. 
    2. تبلغ خلايا بدن الإنسان حسب تقديرات بعض الباحثين ما يقارب سبعًا وثلاثين تريليون خليّة، كلّ خليّة تحتوي على خمس وعشرين ألف جين. والجينات هي موادّ وراثيّة تحمل المعلومات التي تعيّن خصوصيّات كلّ إنسان كلون العين وغيره. (المحقّق)
    3. . سورة النازعات (۷٩) الآية ٥.

حقيقة الذكر والورد

7
  • وما ذكر مرارًا من أنّ التشريع ونظام التربية العرفانيّ متطابق تمامًا مع التكوين، فهو لأنّه لا يمكن أن يتحقّق في نظام التكوين أمر، ثمّ يُؤمر في النظام التربويّ بما يخالفه. 

  • نقل لي بعض الأصدقاء مؤخّرًا حكاية فقال: 

  • عندما كنت في أميركا كانت زوجتي تراجع طبيبة يهوديّة، وكانت هذه الطبيبة تذهب في بعض الأيّام إلى أماكن مختلفة وتعالج الناس مجانًا، وأحيانًا كانت تبذل من نفقاتها الخاصّة وتسافر إلى خارج أميركا وتخدم الناس في البلدان الأخرى، وقد جعلت ذلك جزءًا من برنامج حياتها الخاصّة، وكانت لها أخلاق رفيعة. 

  • وأنا جوابًا على السؤال حول مكانة هذه المرأة على ضوء نظام التشريع قلت له:

  • هذه المسألة دقيقة جدًّا وتستحقّ الاهتمام، إنّ المعايير في ذلك العالم لا تقبل المقايسة مع المعايير في هذا العالم. فإن كانت هذه المرأة تقوم بذلك لأهداف سياسيّة واستعماريّة وتبشيريّة وأمثال ذلك، فلا تساوي مثقال ذرّة، أمّا لو كانت تقوم بها كواجب أخلاقيّ ولتحصيل رضا الله، فيمكن أن تكون هذه المرأة اليهوديّة في صفّ شيعة أمير المؤمنين، وأنا طالب العلم المدّعي اتّباع أمير المؤمنين أكون في صفّ اليهود، لأنّ أتباع عليّ هم أهل العمل فحسب. 

  • إنّ مراد أمير المؤمنين عليه السلام ـ والذي كان بنفسه تجسيدًا للأسماء الحسنى الإلهيّة ـ هو أن يحقّق تلك الأسماء في العالم، فلو أنّا قلنا بالكلام إنّا أتباع أمير المؤمنين ـ الذي هو مرتبة ظهور ذلك الاسم الكلّي لله في القالب البشريّ ـ ولكن قمنا عملاً بما يخالف ذلك، فهذا ليس عملاً صحيحًا، ولن نصل من ذلك إلى شيء، إنّ نظام السلوك هو عبارة عن تطبيق أسماء الله الحسنى في حياة الإنسان. 

  • ضرورة التوازن في عمليّة الانسجام مع الأسماء الإلهيّة

  • وحتمًا علينا أن لا نتمسّك باسم واحد ونترك سائر الأسماء، فالإفراط والتفريط كلاهما خطأ. فإلى جانب اسم الجواد هناك أيضًا اسم المدبّر. والآية الشريفة تقول: ﴿وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‌ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾؛۱ فمن المهمّ أن يكون للإنسان حالة اعتدال وعقلائيّة وأن يستعمل عقله ويراعي المصلحة. 

    1. . سورة الإسراء (۱۷) الآية ٢٩.

حقيقة الذكر والورد

8
  • تتمّة بيان معنى الاسم وكون الأئمة عليهم السلام أسماء الله

  • فبناء على ما تقدّم، فإنّ أسماء الجواد والفيّاض والعليم والقدير والرحيم والعطوف هي أسماء إلهيّة، والاسم عبارة عن الكلمة التي تحكي عن حقيقة، وبملاحظة تلك الحقيقة فإنّ هذا الاسم إما يكون شريفًا أو قبيحًا. 

  • وبملاحظة أنّ لكلّ لفظ وصوت موجةً خاصّة تصطدم بطبلة الأذن، وتوجِد لدى الإنسان حالة بواسطة العصب ـ ولذلك تسرّون إذا تكلّم معكم أحد بكلام سارّ، وتتأذّون إذا تكلم معرّضًا طاعنًا، لأنّ هذا الصوت بنفسه ليس مؤثّرًا، والمعاني التي وراء هذا الصوت والتي يحكي عنها هي المؤثّرة في النفس، وأحيانًا تؤدّي إلى سروركم وانبساطكم وأخرى إلى ألمكم وانقباضكم ـ فالمراد من آية ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‌ فَادْعُوهُ بِها﴾ هو أنّ وراء هذه الأسماء معانيَ خاصّةً لا بدّ أن يدعى بها الله تعالى، وأن يُلتفتَ إلى تلك المعاني، وإلا فإنّ الأذكار اللفظيّة كـ"يا عليم" و"يا رزّاق" و"يا رحيم" و"يا الله" يقولها الكفّار والمنافقون أيضًا. والحقيقة التي وراء هذه الأذكار هي الأسماء الإلهيّة، وهذه الكلمات هي ألفاظ تحكي عن مرتبة تشير إلى الله، فمثلاً حرف القاف والدال والياء والراء في اسم القدير تحكي حقيقة هي اسم الله.۱

  • الترادف بين اسم الله وكلمته

  • وتارة يعبّر عن هذا المقام بالاسم وتارة بالكلمة، فكما نطلق الاسم على تلك الحقيقة ونعدّ هذا اللفظ حاكيًا عنها، فإنّ الكلمة أيضًا هي كذلك. فالكلمة عبارة عن الحقيقة التي يكون المتكلّم في مقام الإتيان بها.

  • وقد ورد ذكر الكلمة في موارد مختلفة من آيات القرآن: 

  • ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‌ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ﴾؛٢ ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى‌ وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا﴾؛٣ ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ﴾؛٤ ﴿وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ﴾.٥ 

  • فالکلمة بمعنى الحقيقة التي يريدها المريد والمتكلّم ويريد أن يبيّنها. وتلك الحقيقة قد تكون وجود الإنسان ونفسه كما في الآية الأولى التي عدّت النبيّ عيسى كلمة الله، وقد تكون عقيدة ونهجًا، سواء كان نهجًا باطلاً للكفّار حيث يقول: ﴿وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى‌﴾ أو نهج حقّ وصراطًا مستقيمًا حيث يقول: ﴿وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا﴾. ونتيجة الكلام هي أنّ كلا التعبيرين الاسم والكلمة يشيران إلى حقيقة واقعيّة إمّا ذات صلة بالحقّ أو ذات صلة بالباطل.٦

    1. مقطع من عنوان البصري ۱٥.
    2. . سورة النساء (٤) الآية ۱۷۱.
    3. . سورة التوبة (٩) الآية ٤۰. 
    4. . سورة إبراهيم (۱٤) الآية ٢٤.
    5. . سورة إبراهيم (۱٤) الآية ٢٦. 
    6. مقطع من عنوان البصري ۱٥.

حقيقة الذكر والورد

9
  • معنى فقرة فادعوه بها في الآية الشريفة ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ هو أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه تحت السيطرة التكوينيّة لأسماء الله ونفوذها وتأثيرها۱، أمّا الاقتصار على الجلوس والإمساك بالسبحة وقول يا الله، ثمّ القيام بما يحلو من الأعمال فهو خداع للنفس.

  • وكما أنّ وجود الله المقدّس في مقام الذات هو حقيقة محضة وكمال مطلق، فإنّ الأسماء الإلهيّة التي هي رشحات من تلك الذات والصفات الإلهيّة التي هي لازمة لتلك الأسماء هي ذات حقيقة مطلقة وكمال مطلق بإطلاق الله وكماله٢؛ لذلك فإنّ من يريد أن يوصل نفسه إلى الكمال المطلق لا بدّ أن يسلك طرق الوصول إلى ذاك المقصد، ويمضي قدماً في ذلك الاتجاه.

  • فهل الغِيبة والتهمة وإتلاف الوقت وإساءة السلوك مع خلق الله وطلب المنافع للنفس والتمحور حول الذات في القضايا والمسائل المختلفة واتخاذ المعايير الشخصية لتقييم الأشياء هل كل ذلك طرق للوصول إلى الله؟ فلو أنّ إنساناً جلس وقام بما يهوى وخاض فيما يريد ثمّ سلى نفسه بكلمات من الأذكار والأوراد وآيات القرآن فعليه أن يعلم أنّه قد ضلّ الطريق ولم يزدد من الله إلا بعداً٣ فبمقدار ما يسير الإنسان على خلاف هذا الطريق فإنه يبتعد عن ذلك المبدأ ولا يترتب على أعماله أي أثر.٤

  • أمران لتحقيق الأسماء الإلهيّة في وجودنا

  • يبرز الله تعالى رحمته في العوالم المختلفة من طرق وأدوات ووسائل مختلفة؛ ولكي يتمكّن الإنسان من تحقيق الأسماء الإلهيّة في وجود نفسه ويعبر من تلك الطرق، لا بدّ أن يهتمّ بأمرين في سلوكه:

  • الأمر الأوّل: معرفة الأسماء والصفات واتّضاح الجهة المنطقيّة للأسماء والصفات الإلهيّة، فمثلاً لا بدّ أن يتّضح للإنسان هل العدالة أمرجيّد أم باطل؟! هل الودّ والمحبّة قيمة أم أمر مخالف للقيم؟ هل العلم والوصول إلى المعرفة كمال أم نقص؟! هل المساعدة والرحمة والعطف وتنجية المساكين والإخوة في الدين من القيم أم من الرذائل؟!

  • وبعبارة أخرى على الإنسان أن يفهم أنّ الله تعالى يدبّر عالم الخلق بواسطة أسمائه وصفاته، ويدرك معنى الودود والعليم والقادر والعفوّ والغفور. فالغفور هو من يكفّ نفسه ويتجاوز ويعفو عند المقدرة على الانتقام، فهل هذه الصفة قيمة أم لا قيمة لها؟!

    1. [وبعبارة أخرى]: على الإنسان أن يصل إلى الأسماء والصفات الكليّة للحق الله تعالى من خلال نفس تلك الأسماء والصفات الكليّة التي يتصرّف الله في الكون بواسطتها (مقطع من عنوان البصري ۱۸). 
    2. لمزبد من الاطلاع حول الكمال المطلق لأسماء الله وصفاته راجع معرفة الله جزء ۱ ص٢٢۸.
    3. الكافي ج۱ ص ٤٥.
    4. مقطع من عنوان البصري ۱٦. 

حقيقة الذكر والورد

10
  • الأمر الثاني: أن يستعمل الإنسان هذه الأسماء والصفات بعد فهم ذلك، وأن يحقّقها في نفسه. فهذا هو معنى ما يقوله الأعاظم من أنّ "على الإنسان أن يقوم ويعمل ليلاً ليصرف في النهار." ۱ فالليل له سكينة وصفاء، وفي الليل تستريح النفوس التي هي في مقام المعارضة والممانعة والتضاد والتي هي مستعدّة للاتّصال بالإنسان من كلّ ناحية، لذلك على الإنسان أن يقوم من نومه، ويحدث ارتباطًا ويعمل بما يقوله الإمام الصادق عليه السلام ويطبّق في المجتمع نهارًا ما حازه في الليلة السالفة، فهذه الخطوة العمليّة هي كالتشريح بالنسبة إلى الدروس النظريّة.

  • والخلاصة هي أنّ على السالك في المرحلة الأولى أن يفهم معنى يا ودود، ومعنى التوحيد وظلم النفس والجهل في فقرة ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾٢، ثمّ وفي المرحلة الثانية لا بدّ أن يشتغل بهذه الأذكار ليلاً، ثمّ يطبّقها في النهار وفي العلاقة مع نفسه والمجتمع والرفيق والشريك، هذه المسألة مهمّة. 

  • لقد كان لي من العمر أربع سنوات حين كان المرحوم الأنصاري رضوان الله عليه يأتي من همدان إلى طهران وينزل في منازل أحد أنسبائه، أذكر أنّ تلامذته كانوا يأتون في الليالي ويقرؤون دعاء الجوشن، ويقولون معًا: 

  • «سُبحانَكَ يا لا إلهَ إلّا أنتَ، الغَوثَ الغَوثَ خَلِّصنا مِنَ النّارِ يا ربّ»٣ 

  • ولكن لم يكن اختلاف أسلوب المرحوم الوالد مع الأقارب والرفقاء بعد المرحوم الشيخ الأنصاري إلا في أنّه يطبّق في المجتمع المطالب التي كان يسمعها من أساتذته، أمّا الآخرون فقد اعتادوا على مجرّد الأوراد اللسانيّة والحديث عن الأعاظم وقراءة الشعر، وكانوا يسلّون أنفسهم بقراءة شعر حافظ ودعاء الجوشن في الليالي. ٤ 

  • إنّ دعاء الجوشن ليس بالدعاء اليسير، دعاء الجوشن حديث قدسيّ وكلام للّه نزل على نفس النبيّ على هيئة تختلف عن القرآن. ٥ ومن يقرأ هذا الدعاء يجد أنّه بيّن ألفًا وواحدًا من الأسماء والصفات والعلامات والأسامي الإلهيّة. ومعنى ذلك أنّه جعل نفسه تحت غطاء وسيطرة هذه الصفات، ولكن لا فائدة ولا نتيجة من مجرّد الذكر الدائم لفقرات هذا الدعاء، ومن يفعل ذلك يبقَ في مكانه. فلو ذكر مائة عام في كلّ ليلة ولكنّه لم يطبّق ذلك الذكر الليلي في النهار في السوق والعيادة والمصنع والمتجر والدرس والبحث العلميّ فلا فائدة تترتّب عليه.٦ 

    1. . ولايت فقيه در حكومت اسلام، ج ٤، ص ٦۸؛ آيين رستگارى، ص ٤٢.
    2. . سورة الأنبياء (٢۱) الآية ۸۷. اربعين در فرهنگ شيعه، ص ٣٩: لا معبود ولا مؤثّر في العالم إلّا ذاتك التي هي الأقدس، أنت منزّه عن كلّ حمد وثناء، ومن كلّ فكر وخيال ووهم وإدراك منّا لذاتك ذات الجلال (ونحن نطلب بأفكارنا ونيّاتنا الناقصة وعقلنا الضعيف وسعتنا الوجوديّة المحدودة، وأنت أعلى وأرفع من وهمنا وخيالنا) وإنّي بأفكاري وأعمالي هذه من أهل الخسران وظالم لنفسي. 
    3. . المصباح (للكفعمي) ص ٢٤۷.
    4. . راجع الروح مجرد، ص ٥۸.
    5. . راجع مُهَج الدّعوات، ص ٢٢۷.
    6. مقطع من عنوان البصري ۱٦.

حقيقة الذكر والورد

11
  • حقيقة الذكر في بعض مراتبه امتلاك الرؤية التوحيديّة

  • معنى الذكر وعدم الانشغال عنه بالدنيا في حديث إنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً

  • إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له حول الآية الشريفة: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة﴾۱وإنَّ لِلذِّكرِ لَأهلًا أخذوهُ مِنَ الدّنيا بَدَلًا، فَلَم تَشغَلهُم تِجارَةٌ و لا بَيعٌ عَنهُ.٢ ويمكن أن نتصوّر تباعًا كيف يمكن للإنسان أن ينشغل بالذكر بدلاً من الدنيا ضمن عدّة معان: 

  • المعنى الأول: الاعتزال والرهبانيّة والتفرّغ للذكر

  • فالمعنى الأول هو أنّ المراد من الدنيا هو الاشتغال بالكسب والتجارة والانشغال بالمسائل الدنيويّة والماديّة؛ بمعنى أنّ أهل الذكر هم جماعة كالرهبان الذين هم في الأديرة والكنائس، همّهم الذكر، وليس لهم أيّ اهتمام بالمسائل الدنيويّة، فهذه الجماعة بدلاً من أن تمضي نحو الاكتساب تجلس في المنزل وتذكر الله، وبدلاً من أن تتزوّج تشتغل دائمًا بالعبادة متّخذة مسلك الرهبانية. 

  • محاكمة المعنى الأول: منافٍ لشموليّة الإسلام

  • وهذا الطريق ليس ممدوحًا في الإسلام، لأنّه يتنافى مع شموليّة الإسلام٣، فالإسلام دين متكفّل بالسعادة الدنيويّة والأخرويّة للناس، وكون هذه المرتبة من الذكر ممدوحة سيتعارض مع الهدف الغائي للإسلام.

  • فالإسلام دين قد اهتمّ بالمسائل العباديّة وبالمسائل السیاسيّة للإنسان، وبعبارة أخرى الإسلام دين الكمال وليس فيه عبادة وسياسة، فنحن أصحاب تلك المقولة: "ديانتنا عين سياستنا، وسياستنا عين ديانتنا." أجل، فلو أردنا أن نفسّر كلام المرحوم المدرّس بأنّ مراده منه أنّ الإسلام دين الكمال وفي هذا الكمال يوجد كلّ شيء، فعندها يمكن أن نجد معنى صحيحًا لهذه الجملة. 

  • كمال الإسلام هو بوجود جميع الظروف التي تبلغ كافّةُ الاستعدادات في ظلها إلى الكمال. 

  • المعنى الثاني: تقسيم الوقت بين العمل والعبادة

  • المعنى الثاني من كلام أمير المؤمنين عليه السلام: فلم تشغلهم عنه تجارة ولا بيع عنه. هو أنّ أهل الذكر قد رسموا لأنفسهم محورين:

  • المحور الأوّل: الاشتغال بشؤون الدنيا. 

  • المحور الثاني: الاشتغال بالمسائل العباديّة. 

  • هذه الجماعة تفتح متاجرها عند الصباح على وضوء وبذكر الله لأجل طلب الرزق الحلال والمعيشة المحلّلة، أمّا عند الظهر والغروب فإنّها تصلّي في أوّل الوقت ثمّ تمضي إلى منازلها، فهذا العمل لا يؤدّي بهم إلى الحرمان من ذكر الله، ويراعي حقّ كلٍّ من هذين الأمرين. 

    1. سورة النور (٢٤)، الآية ٣۷. 
    2. نهج البلاغة (عبده) ج٢، ص ٢۱۱. 
    3. هناك معنى آخر لشموليّة الإسلام ذكره سماحة السيّد في المحاضرة ۱٣ من عنوان البصري: المطروح في الإسلام والذي بعث عليه النبيّ الأكرم هو أن تتضح للإنسان حقيقة التوحيد في كافّة مراحل الحياة بكلّ صورها، لا أنّ هذه الحقيقة هي فقط في صلاة الجماعة مع النبيّ في مسجده، دون أن تكون عند هجوم الكفّار وانتصارهم وبقاء النبيّ وحيدًا. 
      اعتراضنا على عمر وأبي بكر وأمثالهما هو أنّهم يقولون: "إن كان الحقّ مع الإسلام والنبيّ فلماذا كان النصر في كثير من الموارد للكفّار والهزيمة للنبيّ؟ لماذا يعِدُ النبيّ بفتح مكّة ولكنّه لا يتمكّن من دخولها بل يصالح؟! ينبغي أن لا يكون النبيّ كذلك! نحن نريد نبيًّا يتحرّك كالآليّات المدرّعة تدمّر كلّ شيء أتت عليه في طريقها وتهلكه، ولا تترك شيئًا وراءها، ولا تنتهي قذائفها، فهذا النبيّ هو الجيّد ونحن نرضى به." (لمزيد من الاطلاع على النظرات الخاطئة إلى النبيّ راجع: أسد الغابة، ج٣، ص ۱٥٥؛ أنساب الأشراف ج۱، ص ٣٥۸؛ الإرشاد، ج ۱، ص ۱٥٣.)

حقيقة الذكر والورد

12
  • محاكمة المعنى الثاني

  • ورغم أنّ هذا المعنى صحيح، ولكنّه أُولى مراتب العمل للمسلم. فهل يتوقّع أن يكون الإنسان في وقت الظهر مشغولاً بالتجارة ويمضي أول وقته، ويصلّي صلاتي الظهر والعصر قبل غروب الشمس بدقيقتين؟! هذه المرتبة هي أقلّ مراتب رؤية الإنسان ومراتب الإخلاص والعبادة، ومن البعيد أن يكون كلام الإمام ناظرًا إليها.

  • المعنى الثالث: ملاحظة رضا الله أثناء العمل

  • المعنى الثالث الذي هو أعلى من المرتبتين السابقتين هو أنّ هذه الجماعة هي رجال يراقبون الله في الأحداث، وغرضهم من السعي وراء المال هو أن يصرفوه في كمالهم، فعندما يبيعون سلعة للمشتري يلاحظون رضا الله، لا الهوى والشهوة والمنافع الماديّة والادّخار، وعندما يفتحون المتجر فإنّ هدفهم هو أن يساعدوا فقيرًا ويرفعوا حوائج الناس وأن ينتفع الناس الذين يقصدونهم، وليس غرضهم فقط أن يصلوا إلى المال. وبعبارة أخرى فإنّ أهل الذكر في تجارتهم وبيعهم يلاحظون الله أولاً وينظّمون حياتهم ويرتّبونها على أساس هذا الهدف.

  • المعنى الرابع: امتلاك ملكة الرؤية التوحيديّة ورؤية الله في البائع والمشتري وفي كلّ شيء

  • المعنى الرابع وبقرينة "وإنّ للذكر لأهلاً"، يبدو بنظري القاصر أنّه يمكن أن يكون مراد الإمام من عبارة "فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه" أنّ أهل الذكر أناس ليست وجهتهم هي الظاهر ولا الباطن، بل لا يرون تجارة ولا بيعًا، وإنّما يرون الله فحسب. هذا المعنى الأعلى والأكمل من المعاني السابقة، هو معنى نفهمه من هذه العبارة ولا نقول إنّه هو المراد منها على القطع.۱

  • فإذا صارت رؤية الإنسان توحيديّة فإنّه يرى البائع والمشتري واحدًا، تمامًا كما لو أخذت مالاً من أحد جيوبك ووضعته في جيب آخر فلا ينقص من مالك شيء. في المعاملة التي يكون البايع فيها والمشتري "هو"، والآخذ والمعطي فيها "هو"، و "هو" المنقص والزائد، فلن يكون هناك حينها مكان للربح والخسارة.

  • إنّ أفرادًا كهؤلاء يرون كلّ شيء واحدًا لا تشغلهم تجارة ولا بيع.

  • بناء على ذلك فإنّ ما نفهمه من كلام أمير المؤمنين ومن آية ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾٢ هو أنّ هؤلاء لا يتصوّر في حقّهم اللهو أصلاً، وقد بلغوا مرحلة لو أرادوا فيها اللهو لما استطاعوا.٣ 

    1. أمّا ما هي المرتبة التي تصوّرها الإمام فهذا ما لا يصل إلى عقولنا، فأين نحن من كلام ذلك الإمام؟! فما لنا والفضول والقول إنّ مراد الإمام عليه السلام هو هذا المعنى؟! علينا أن لا نقول أبدًا: إنّ مراد الإمام هو هذا المعنى حتّى لا نقع في الفضول، بل علينا أن نقول: نحن نفهم هذا المعنى من كلام الإمام. 
      ولو قلنا إنّ مراد الإمام هو هذا لقال الإمام: لقد أخطأتم إذ قلتم أنّ مرادي هو هذا المعنى، أفهل أنتم في مكاني وفي فكري وخيالي؟! وهنا أیضًا سنكون من المخطئین لو قلنا إنّ مراد أمير المؤمنين عليه السلام هو هذا المعنى. ونسأل الله أن يوضّح لنا المسألة أكثر من هذا!
    2. سورة النور( ٢٤) آيه ٣۷.
    3. عنوان البصري ۱٢. 

حقيقة الذكر والورد

13
  • تلخيص واستنتاج

  • الورد يشير إلى دخول المعاني إلى القلب وعدم الاقتصار على اللسان. والذكر يعني الالتفات والتوجّه والتذكّر دون الاقتصار على لقلقة اللسان باسم من الأسماء. 

  • الاسم يشير إلى حقيقة خارجيّة. 

  • بما أنّ الله ينظّم الوجود بواسطة حقائق أسمائه فلا بدّ أن تكون هي وجهتنا في كلّ عمل من طلب للرزق أو العلم أو التدبير أو القدرة... وهذه مرتبة من مراتب الذكر. 

  • من مراتب الذكر أن يكون الإنسان مظهرًا من مظاهر تلك الأسماء وتجليًّا لها كالعدل والودّ والعفو فيكون عادلاً ودودًا عفوًّا مع الخلق فتظهر الأسماء في عمله وجوارحه. 

  • من مراتب الذكر امتلاك الرؤية التوحيديّة ورؤية كلّ الأشياء مظاهر للذات الواحدة مما ينفي التعارض بين الموجودات كلّها فيحلّ السلم والصفاء بينها. وهذا هو المراد من وإنّ للذكر لأهلاً اتخذوه من الدنيا بدلاً. 

  • الذكر من حيث الأداة لساني وقلبي وجوارحي.

  • الذكر من حيث المذكور أسمائي وحقائقي وذاتي.