المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم التاريخ و الاجتماع
هو العليم
التقليد وطلب الدليل.. بين الذم والمدح
بحث منتخب من «تفسير الميزان»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
إن أكثر الأمم الماضية قصّة في القرآن أمّة بني إسرائيل، و أكثر الأنبياء ذكراً فيه موسى بن عمران عليه السلام، فقد ذُكر اسمه في القرآن، في مائة و ستة و ثلاثين موضعا ضعفَ ما ذكر إبراهيم عليه السلام الذي هو أكثر الأنبياء ذكراً بعد موسى، فقد ذُكر في تسعة و ستين موضعاً على ما قيل فيهما، و الوجه الظاهر فيه أن الإسلام هو الدين الحنيف المبنيّ على التوحيد الذي أسّس أساسه إبراهيم عليه السلام، و أتمّه الله سبحانه و أكمله لنبيّه محمّد صلّى الله عليه و آله، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}۱، و بنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجاً و خصاماً، و أبعدهم من الانقياد للحقّ، كما أنّه كان كفار العرب الذين ابتلي بهم رسول الله ـ صلّى الله عليه و آله ـ على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}٢.
و لا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم و جفوتهم مما ذكره القرآن إلاّ و هو موجود فيهم، و كيف كان فأنت إذا تأمّلت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، و أمعنت فيها، و ما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنّهم كانوا قوماً غائرين في المادة مكبّين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصوريّة، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحسّ، و لا تنقاد إلاّ إلى اللذّة و الكمال الماديّ، و هم اليوم كذلك. و هذا الشأن هو الذي صيّر عقلهم و إرادتهم تحت انقياد الحس و المادّة، لا يعقلون إلاّ ما يجوّزانه، و لا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولاً إلا إذا دلّ عليه الحسّ، و إن كان حقاً، و انقياد المادّة اقتضى فيهم أن يقبلوا كلّ ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، و زخرف الحياة و إن لم يكن حقاً، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولاً و فعلاً، فهم يذمّون كل اتباع باسم أنّه تقليد ـ و إن كان ممّا ينبغي ـ إذا كان بعيداً من حسّهم، و يمدحون كلّ اتّباع باسم أنه حظّ الحياة ـ و إن كان ممّا لا ينبغي ـ إذا كان ملائماً لهوساتهم الماديّة، و قد ساعدهم على ذلك و أعانهم عليه مكثهم الممتدّ و قطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، و استرقاقهم، و تعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب و يذبّحون أبناءهم و يستحيون نساءهم و في ذلك بلاء من ربهم عظيم.
و بالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبياؤهم، و الربّانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم و معادهم (تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى و غيره)، و سريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون و المستكبرون منهم.
و قد ابتليت الحقيقة و الحقّ اليوم بمثل هذه البليّة بالمدنيّة الماديّة التي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنيّة القاعدة على الحسّ و المادّة، فلا يقبل دليل فيما بعُد عن الحسّ و لا يُسأل عن دليل فيما تضمّن لذّة مادّية حسيّة، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانيّة في أحكامها، و ارتحال المعارف العالية و الأخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدّد الإنسانية بالانهدام، و جامعة البشر بأشدّ الفساد و ليُعلمنّ نبأه بعد حين.
و استيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كلّ دليل بمطلوب، و ما كلّ تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الإنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله الحيويّ بأفعاله الإراديّة المتوقّفة على الفكر، و الإرادة منه مستحيلة التحقّق إلا عن فكر، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجوديّ الضروريّ فلا بد للإنسان من تصديقات عمليّة أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطاً بلا واسطة أو بواسطة، و هي القضايا التي نعلّل بها أفعالنا الفردية أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثمّ نحصلها في الخارج بأفعالنا، هذا.
ثم إنّ في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علّته الموجبة، و لا يقبل تصديقاً نظرياً إلاّ إذا اتكئ على التصديق بعلته بنحو، و هذا شأن الإنسان لا يتخطّاه البتّة، و لو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمّل و الإمعان تنحلّ الشبهة، و يظهر البحث عن العلة، و الركون و الطمأنينة إليها فطريّ، و الفطرة لا تختلف و لا يتخلّف فعلها، و هذا يؤدّي الإنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري و الفعل المتفرّع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى رفعه معتمداً على نفسه و متّكئا إلى قوة طبيعته الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع و هو المدينة و الحضارة و وزّعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، و وُكّل بكلّ باب من أبوابها طائفة، كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها و عائدتها في نفسه، و لا تزال الحوائج الإنسانية تزداد كميّة و اتساعاً و تنشعب الفنون و الصناعات و العلوم، و يتربّى عند ذلك الأخصائيّون من العلماء و الصناع، فكثير من العلوم و الصناعات كانت علماً أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، و اليوم نرى كل باب من أبوابه علماً أو علوماً أو صنعة أو صنائع، كالطبّ المعدود قديماً فناً واحداً من فروع الطبيعيّات و هو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الأخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها.
و هذا يدعو الإنسان بالإلهام الفطري، أن يستقلّ بما يخصه من الشغل الإنساني في البحث عن علّته و يتبع في غيره من يعتمد على خبرته و مهارته.
فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة، و حقيقة هذا [هو] الاتباع، و التقليد المصطلح و الركون إلى الدليل الإجمالي فيما ليس في وسع الإنسان أن ينال دليل تفاصيله، كما أنّه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعه أن ينال تفصيل علته و دليله، و ملاك الأمر كله أن الإنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، و هو الاستقلال في البحث عن العلّة فيما يسعه ذلك و التقليد و هو الاتباع و رجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، و لمّا استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإنساني مستقلاً بنفسه قائماً بجميع شئون الأصل الذي يتّكي عليه الحياة استحال أن يوجد فرد من الإنسان من غير اتّباع و تقليد، و من ادّعى خلاف ذلك أو ظنّ من نفسه أنّه غير مقلّد في حياته فقد سَفِه نفسه.
نعم: التقليد فيما للإنسان أن ينال علّته و سببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه و النيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، و مفنيات المدينة الفاضلة و لا يجوز الاتّباع المحض إلا في الله سبحانه لأنه السبب الذي إليه تنتهي الأسباب.
[ملاحظة: إن هذا المقال هو عبارة عن بحث منتخب من كتاب تفسير الميزان – تفسيرالآيات ٦٣ إلى ۷٤ من سورة البقرة لمؤلّفه المرحوم سماحة العلامة الطباطبائي رضوان الله عليه فننصح من أراد الازدياد بقراءة الكتاب المذكور]