المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الثاني
تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
بقية سورة البقرة
سورة البقرة (٢): [الآیات ١٨٣ الی ١٨٥]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٨٣أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١٨٤شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللَّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاَ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٨٥}
بيان
سياق الآيات الثلاث يدل أولا على أنها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله: {اَلصِّيَامُ} في الآية الأولى، و قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} في الآية الثالثة إما خبر لمبتدإ محذوف و هو الضمير الراجع إلى قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} و التقدير هي شهر رمضان أو مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} في الآية الأولى و على أي تقدير هو بيان و إيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد و هو بيان فرض صوم شهر رمضان.
و سياق الآيات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزلة التوطئة و التمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الأوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس و الحصول على اطمينانها و استقرارها عن القلق و الاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف و التأبي عن القبول، لكون ما يأتي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب، و لذلك ترى الآيتين الأوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق و ملاءمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش و الاضطراب، و يحصل به تطيب النفس، و تنكسر به سورة الجماح و الاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف و التسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل و الآجل.
و لذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} أردفه بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه و تستوحشوا من تشريعه في حقكم و كتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الأمم السابقة عليكم و لستم أنتم متفردين فيه، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون و تطلبونه بإيمانكم و هو التقوى التي هي خير زاد لمن آمن بالله و اليوم الآخر، و أنتم المؤمنون و هو قوله تعالى. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم و لمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم و لا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، و هو قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فإن في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، و في التوصيف بالعدل إشعار بهوان الأمر كما في قوله تعالى: {وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}۱ على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدله من فدية لا تشقه و لا يستثقلها، و هو طعام مسكين و هو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ}
إلى قوله، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} اه. و إذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم و مراعى فيه ما أمكن من التخفيف و التسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع و الرغبة من غير كره و تثاقل و تثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من أن يأتي به عن كره و هو قوله تعالى. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} إلخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة و تمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إلخ، و علي هذا فقوله تعالى في الآية الأولى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} إخبار عن تحقق الكتابة و ليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصَاصُ فِي اَلْقَتْلى}۱، و قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ}٢ فإن بين القصاص في القتلى و الوصية للوالدين و الأقربين و بين الصيام فرقا، و هو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين و يلائم الشح الغريزي الذي في الطباع أن ترى القاتل حيا سالما يعيش و لا يعبأ بما جنى من القتل، و كذلك حس الشفقة و الرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين و الأقربين، و خاصة عند الموت و الفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، و الوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الإنباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة و توطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها و معظم ما تميل إليها و هو الأكل و الشرب و الجماع، و لذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، و هم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد و توطئة تطيب بها نفوسهم و تحن بسببها إلى قبوله و أخذه طباعهم، و لهذا السبب كان قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصَاصُ} اه، و قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ} إنشاء للحكم من غير حاجة إلى تمهيد مقدمة بخلاف قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} فإنه إخبار عن الحكم و تمهيد لإنشائه بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} اه، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم و هو الإيمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم و إن كان على خلاف مشتهياتهم و عاداتهم، و قد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت
أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص و إن كان سائر الطوائف من المليين و غيرهم يرون القصاص.
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} اه، الكتابة معروفة المعنى و يكنى به عن الفرض و العزيمة و القضاء الحتم كقوله: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي}۱، و قوله تعالى: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ}٢، و قوله تعالى: {وَ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ}٣، و الصيام و الصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل و الشرب و المباشرة و الكلام و المشي و غير ذلك، و ربما يقال: إنه الكف عما تشتهيه النفس و تتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن أمور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية، و المراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الإسلام من أمم الأنبياء كأمة موسى و عيسى و غيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من إطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما أطلقت، و ليس قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} في مقام الإطلاق من حيث الأشخاص و لا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء و لا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت و الخصوصيات و الأوصاف، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث أصل الصوم و الكف لا من حيث خصوصياته.
و المراد بالذين من قبلكم، الأمم السابقة من المليين في الجملة، و لم يعين القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله: {كَمَا كُتِبَ} أن هؤلاء من أهل الملة و قد فرض عليهم ذلك، و لا يوجد في التوراة و الإنجيل الموجودين عند اليهود و النصارى ما يدل على وجوب الصوم و فرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه و يعظمان أمره، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم و الصوم عن اللبن و الصوم عن الأكل و الشرب، و في القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام و كذا صوم مريم عن الكلام.
بل الصوم عبادة مأثورة عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم و يونان القديم و الرومانيين، و الوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي
إليه الإنسان بفطرته كما سيجيء.
و ربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود و النصارى أو السابقين من الأنبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف.
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} كان أهل الأوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية، و إذا أرادوا إنجاح حاجة و هذا يجعل الصيام معاملة و مبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، و أن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذى، و بالجملة هو سبحانه بريء من كل نقص، فما تعطيه العبادات من الأثر الجميل، أي عبادة كانت و أي أثر كان، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى و تقدس، كما أن المعاصي أيضا كذلك، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}۱، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات و المعاصي إلى الإنسان الذي لا شأن له إلا الفقر و الحاجة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}٢ و يشير إليه في خصوص الصيام بقوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} و كون التقوى مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة و الرفعة، و الارتقاء إلى مدرجة الكمال و الروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم و ينقبض عن الجماح في شهوات البدن و يتقدس عن الإخلاد إلى الأرض، و بالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك و تعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم و الكف عن الشهوات، و أقرب من ذلك و أمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا و أهل الآخرة أن يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل و الشرب و المباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات و اجتنابها، و تتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي و التقرب إلى الله سبحانه، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة و سمع و أطاع فهو في محارم الله و معاصيه أسمع و أطوع.
قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} منصوب على الظرفية بتقدير، في، و متعلق
بقوله: {اَلصِّيَامُ} و قد مر أن تنكير أيام و اتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة و المشقة تشجيعا للمكلف، و قد مر أن قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} إلخ، بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالأيام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر و صوم يوم عاشوراء، و قال بعضهم: و الثلاث الأيام هي الأيام البيض من كل شهر و صوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله و المسلمون يصومونها ثم نزل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} إلخ، فنسخ ذلك و استقر الفرض على صوم شهر رمضان، و استندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة و الجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف و تعارض.
و الذي يظهر به بطلان هذا القول أولا: أن الصيام كما قيل: عبادة عامة شاملة، و لو كان الأمر كما يقولون لضبطه التاريخ و لم يختلف في ثبوته ثم في نسخة أحد و ليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الأعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله و أهل بيته بقتل رجالهم و سبي نسائهم و ذراريهم و نهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا و شرعوا صومه تبركا به و وضعوا له فضائل و بركات، و دسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية و اليهود و النصارى منذ بعث موسى و عيسى، و كل ذلك لم يكن، و ليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، و لا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث و يوم مولد النبي، و لا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر و عيد الأضحى فما باله عزيزا بلا سبب؟
و ثانيا: أن الآية الثالثة من الآيات أعني قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلخ، تأبى بسياقها أن تكون نازلة وحدها و ناسخا لما قبلها فإن ظاهر السياق أن قوله {شَهْرُ رَمَضَانَ} خبر لمبتدإ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للأيام المعدودات
و يكون جميع الآيات الثلاث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد و هو فرض صيام شهر رمضان، و أما جعل قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأ خبره قوله: {اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} فإنه و إن أوجب استقلال الآية و صلاحيتها لأن تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافاة بينها و بين سابقتها، مع أن النسخ مشروط بالتنافي و التباين.
و أضعف من هذا القول قول آخرين على ما يظهر منهم -: أن الآية الثانية أعني قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلخ، ناسخة للآية الأولى أعني قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلخ، و ذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه و نقصوا بعد عيسى (عليه السلام) حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الأولى فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الناس يصومونها في صدر الإسلام حتى نزل قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلخ، فنسخ الحكم و استقر الحكم على غيره.
و هذا القول أوهن من سابقه و أظهر بطلانا، و يرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإشكال، و كون الآية الثانية من متممات الآية الأولى أظهر و أجلى، و ما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن و سياق الآية.
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الفاء للتفريع و الجملة متفرعة على قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} و قوله: {مَعْدُودَاتٍ} اه، أي إن الصيام مكتوب مفروض، و العدد مأخوذ في الفرض، و كما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض و السفر، فإنه لا يرفع اليد عن الصيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا، و هذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: {وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} فقوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض و الحكم.
ثم إن المرض خلاف الصحة و السفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر
ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها و يكن فيها، و كان قوله تعالى: {أَوْ عَلى سَفَرٍ} و لم يقل: مسافرا للإشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي و المستقبل.
و قد قال قوم - و هم المعظم من علماء أهل السنة و الجماعة -: إن المدلول عليه بقوله تعالى: {وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هو الرخصة دون العزيمة فالمريض و المسافر مخيران بين الصيام و الإفطار، و قد عرفت أن ظاهر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هو عزيمة الإفطار دون الرخصة، و هو المروي عن أئمة أهل البيت، و هو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف و عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و أبي هريرة و عروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
و قد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: إن التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر.
و يرد عليه أولا أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة و لا قرينة من نفس الكلام عليه.
و ثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع، و قولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الإفطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب و الاستحباب و الإباحة، و أما كونه جائزا بمعنى عدم كونه إلزاميا فلا دليل عليه من الكلام البتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم و هو ظاهر.
قوله تعالى: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} الإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، و لازمه وقوع الفعل بجهد و مشقة، و الفدية هي البدل و هي هنا بدل مالي و هو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الإنسان، و حكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض و المسافر لمكان قوله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ} الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة و التخيير.
و قد ذكر بعضهم: أن الجملة تفيد الرخصة ثم فسخت فهو سبحانه و تعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا و بين أن يفطروا و يكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لأن الناس كانوا يومئذ غير متعوذين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} و قد ذكر بعض هؤلاء: أنه نسخ حكم غير العاجزين، و أما مثل الشيخ الهرم و الحامل و المرضع فبقي على حاله، من جواز الفدية.
و لعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن و جعلا لآياته عضين، و أنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته و اتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، و ينقض آخره أوله، فتارة يقول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} و أخرى يقول: يجوز على القادرين منكم الإفطار و الفدية، و أخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين و يبقى حكم غير القادرين على حاله، و لم يكن في الآية حكم غير القادرين، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: {يُطِيقُونَهُ} كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة، و بالجملة يجب على هذا أن يكون قوله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} في وسط الآيات ناسخا لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} في أولها لمكان التنافي، و يبقى الكلام في وجهه تقييده بالإطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} في آخر الآيات ناسخا لقوله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} في وسطها، و يبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر و العاجز جميعا، و كون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاؤه و هذا من أفحش الفساد.
و إذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} إلخ لقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلخ، و نسخ قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلخ، لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} و تأملت معنى الآيات شاهدت عجبا.
قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} التطوع تفعل من الطوع مقابل
الكره و هو إتيان الفعل بالرضا و الرغبة، و معنى باب التفعل الأخذ و القبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا و الرغبة من غير كره و استثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي، و أما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات و المندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية أن الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب و أما الواجب ففيه شوب كره لمكان الإلزام الذي فيه.
و بالجملة التطوع كما قيل: لا دلالة فيه مادة و هيئة على الندب و على هذا فالفاء للتفريع و الجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، و المعنى و الله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم و صلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الأمم التي قبلكم، و التخفيف و التسهيل لكم فأتوا به طوعا لا كرها، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من أن يأتي به كرها.
و من هنا يظهر: أن قوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَ لَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي فاصبر و لا تحزن فإنهم لا يكذبونك.
و ربما يقال: إن الجملة أعني قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} مرتبطة بالجملة التي تتلوها أعني قوله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} و المعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له.
و يرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فإنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع أن قوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} لا دلالة له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة.
قوله تعالى: {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة متممة لسابقتها،
و المعنى بحسب التقدير كما مر: تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير و الصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير.
و ربما: يقال إن الجملة أعني قوله: {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض و الكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، و يحمل على رجحان الصوم و استحبابه على أصحاب الرخصة: من المريض و المسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الإفطار و القضاء.
و يرد عليه: عدم الدليل عليه أولا، و اختلاف الجملتين أعني قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} إلخ، و قوله: {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} بالغيبة و الخطاب ثانيا، و أن الجملة الأولى مسوقة لبيان الترخيص و التخيير، بل ظاهر قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا، و أن الجملة الأولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم و الإفطار حتى يكون قوله: {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} بيانا لأحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان و صوم عدة من أيام أخر و حينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} من غير قرينة ظاهرة رابعا، و أن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام كما مر سابقا مقام ملاك التشريع و أن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة و الخير و الحسن كما في قوله: {فَتُوبُوا إِلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}۱، و قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللَّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}٢، و قوله تعالى {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}٣، و الآيات في ذلك كثيرة خامسا.
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً} شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان و شوال و لم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن إلا شهر رمضان.
[كلام في نزول القرآن في شهر رمضان، و في ليلة القدر مع نزوله نجوما]
و النزول هو الورود على المحل من العلو، و الفرق بين الإنزال و التنزيل أن الإنزال دفعي و التنزيل تدريجي، و القرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}۱، و يطلق على مجموع الكتاب و على أبعاضه.
و الآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، و قد قال تعالى: {وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}٢، و هو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة و هي ثلاث و عشرون سنة تقريبا، و المتواتر من التاريخ يدل على ذلك، و لذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.
و ربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نجوما و على مكث في مدة ثلاث و عشرين سنة مجموع مدة الدعوة و هذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.
و قد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} بقوله: {هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقَانِ} لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية و الفرقان في السماء مدة سنين.
و أجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال، و فارقا إذا التبس حق بباطل لا ينافي بقاءه مدة على حال الشأنية من غير فعلية التأثير حتى يحل أجله و يحين حينه، و لهذا نظائر و أمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت و خرجت من القوة إلى الفعل.
و الحق أن حكم القوانين و الدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم أن تتقدم على مقام التخاطب و لو زمانا يسيرا، و في القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}٣، و قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً}٤، و قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}٥، على أن في القرآن ناسخا
و منسوخا، و لا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.
و ربما أجيب عن الإشكال: أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه، و يرد عليه: أن المشهور عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما بعث بالقرآن، و قد بعث اليوم السابع و العشرين من شهر رجب و بينه و بين رمضان أكثر من ثلاثين يوما و كيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} يشهد على أنها أول سورة نزلت و أنها نزلت بمصاحبة البعثة، و كذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة و كيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه و لا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، و نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}۱، و قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ}٢، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه و لا قرينة في الكلام تدل على ذلك.
و الذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ}٣، و قوله تعالى: {حم وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}٤، و قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ}٥، و اعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ}٦. فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هاهنا معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا، و لذلك عبر عنه بالإنزال دون التنزيل، و كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}۷، و إما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق و التفصيل و الانبساط و التدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي و نازلا بالإنزال دون التنزيل.. و هذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}۸
فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل، و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء و لا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء و لا فصول فيه، و الآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصل.
و أوضح منه قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}۱، و قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرىَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} إلى أن قال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}٢ فإن الآيات الشريفة و خاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء و التفصيل الذي يعرضه شيء آخر، و أنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يئول إليه هذا التفصيل و غافلين عنه، و سيظهر لهم يوم القيامة و يضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم و لات حين مناص و فيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
و أوضح منه قوله تعالى: {حم وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}٣ فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، و إنما ألبس لباس القراءة و العربية ليعقله الناس و إلا فإنه و هو في أم الكتاب عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل و فصل. و في الآية تعريف للكتاب المبين و أنه أصل القرآن العربي المبين، و في هذا المساق أيضا قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}٤، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله و أن التنزيل بعده، و أما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار و هو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم
الكتاب، و في سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}۱، و هذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، و من المعلوم أن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ و منسوخ و عن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن و حكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، و إنما هذا بمنزلة اللباس لذاك.
ثم إن هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين و نحن نسميه بحقيقة الكتاب بمنزلة اللباس من المتلبس و بمنزلة المثال من الحقيقة و بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لأن يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} إلى غير ذلك و هذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} و قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} و قوله. {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ} على إنزال حقيقة الكتاب و الكتاب المبين إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.
و هذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}٢، و قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}٣، فإن الآيات ظاهرة في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي، و سيأتي توضيحه في المقام اللائق به إن شاء الله تعالى .
و بالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات و قذارات المادة، و أن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، و سيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل و التنزيل في قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}٤
فهذا ما يهدي إليه التدبر و يدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، و الغالب من المتكلمين و الحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات و نظائرها كالدالة على كون القرآن هدى و رحمة و نورا و روحا و مواقع النجوم و كتابا مبينا، و في لوح محفوظ، و نازلا من عند الله، و في صحف مطهرة إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة و المجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.
و لبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان:
قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن و أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتبليغ و الإنذار، و لا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}۱، و لا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ}٢.
و جملة القرآن و إن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، و هي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح أن يقال: {أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ} (على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة و الإنجيل و الزبور باصطلاح القرآن)
قال: و ذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلخ، نزل ليلة الخامس و العشرين من شهر رمضان، نزل و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ} إلخ، و لما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له و علمه بقوله: {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلاة ثم غاب عن نظره فصحا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه و هو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة و أوحى إليه قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ}۱.
قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان و مصادفة بعثته لليلة القدر: و أما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع و العشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.
قال و هناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور و أملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، و هذه أوهام خرافية دست في الأخبا مردودة أولا بمخالفة الكتاب، و ثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه، انتهى ملخصا.
و لست أدري أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام أجزائه - تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق و الحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق.
ففيه أولا: أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة و نزول القرآن أول ما نزل و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) نزل عليه: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و هو في الطريق، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلاة، ثم دخل البيت و نام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة و لا سنة قائمة، و إنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب و لا النقل على ما سيجيء.
و ثانيا: أنه ذكر أن من المسلم أن البعثة و نزول القرآن و الأمر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، و كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر، و لا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب و لا سنة، و ليس من المسلم ذلك. أما السنة فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا و تأليفه متأخر عن عصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرنين فصاعدا فهذا في السنة،
و التاريخ على خلوة من هذه التفاصيل حاله أسوأ و الدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا.
و أما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح و أجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره و تكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و هي أول سورة نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما ذكره أهل النقل، و يشهد به الآيات الخمس التي في صدرها و لم يذكر أحد أنها نزلت قطعات و لا أقل من احتمال نزولها دفعة مشتملة على أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يصلي بمرأى من القوم و أنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة و يذكر أمره في نادي القوم (و لا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يتقرب بها إلى ربه في بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها: {أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى اَلْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرى كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ}۱، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة، و يذكر أمره في النادي، و لا ينتهي عن فعاله، و قد كان هذا المصلي هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ}٢.
فقد دلت السورة على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن، و قد كان على الهدى و ربما أمر بالتقوى، و هذا هو النبوة و لم يسم أمره ذلك إنذارا، فكان (صلى الله عليه وآله و سلم) نبيا و كان يصلي و لما ينزل عليه قرآن و لا نزلت بعد عليه سورة الحمد و لما يؤمر بالتبليغ.
و أما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، و لو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال: قل {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ. اَلْحَمْدُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} إلخ، أو يقال: {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} قل: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} إلخ و لكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ} لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف.
نعم وقع في سورة الحجر و هي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها،
و سيجيء بيانه قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ}۱.
و المراد بالسبع المثاني سورة الحمد و قد قوبل بها القرآن العظيم و فيه تمام التجليل لشأنها و التعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن و جزءا منه بدليل قوله تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}٢.
و مع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر و السورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ}٣، و يدل ذلك على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قد كف عن الإنذار مدة ثم أمر به ثانيا بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ}.
و أما سورة المدثر و ما تشتمل عليه من قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ}٤، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فأنذر، حال قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الآية)، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: {ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}٥ إلى آخر الآيات، و هي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: {وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} إلخ، و إن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة.
و ثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله أخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب و عدم استقامة مضمونها، و أن المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور كرة الأرض خطأ و فرية.
أما أولا: فلأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.
و أما ثانيا: فلأن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.
و أما ثالثا: فلأن قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع و أنه أضحوكة و ليت شعري: ما هو الوجه المصحح على قوله لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ أ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير و التحول؟ فهو عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟ كما يدل
عليه: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ}۱، فإدراك المدركين فيه على السواء!
و بعد اللتيا و التي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى: {أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} كأنما أنزل فيه القرآن، و معنى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ} كأنا أنزلناه في ليلة، و هذا شيء لا يحتمله اللغة و العرف لهذا السياق!
و لو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا.
و في كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.
(بيان)
قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقَانِ} الناس، و هم الطبقة الدانية من الإنسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم، كما قال تعالى: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}٢، و قال تعالى: {وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ}٣، و هؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة و البرهان، و لا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم و هاد يهديهم، و القرآن هدى لهم و نعم الهدى، و أما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم و العمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية و الركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات و شواهد من الهدى و الفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه و يميز لهم الحق و يبين لهم كيف يميز، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اَللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ اَلسَّلاَمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلىصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}٤.
و من هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى و البينات من الهدى، و هو التقابل بين العام و الخاص فالهدى لبعض و البينات من الهدى لبعض آخر.
قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، و شهادة الشهر إنما هو ببلوغه و العلم به، و يكون بالبعض كما يكون بالكل. و أما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله و كون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، و لا قرينة في الآية.
قوله تعالى: {وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إيراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد و نحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة و التمهيد دون بيان الحكم و أن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اَللَّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاَ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء: و هو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، و صيام عدة من أيام أخر لمكان وجوب إكمال العدة، و اللام في قوله: {لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} للغاية، و هو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، و التقدير و إنما أمرناكم بالإفطار و القضاء لنخفف عنكم و لتكملوا العدة، و لعل إيراد قوله: {وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} هو الموجب لإسقاط معنى قوله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفي العسر و ذكره في الآية السابقة.
قوله تعالى: {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية ۱ أنهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} بقوله: {اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} إلى آخره مشعر بنوع من العلية و ارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فيعود معنى الغاية إلى أن التلبس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن و أعلن ربوبيته و عبوديتهم، و شكر له بما هداهم إلى الحق، و فرق لهم بكتابه بين الحق و الباطل. و لما كان الصوم إنما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم و هو الإخلاص لله سبحانه في التنزه عن ألواث الطبيعة و الكف عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم و الكف سواء اشتمل على إخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى و تعظيمه فرق بين التكبير
و الشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال: {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كما قال: في أول الآيات: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
(بحث روائي)
في الحديث القدسي، قال الله تعالى: الصوم لي و أنا أجزي به.
أقول: و قد رواه الفريقان على اختلاف يسير، و الوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي، و غيره كالصلاة و الحج و غيرهما متألف من الإثبات أو لا يخلو من الإثبات، و الفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد و لا ربوبية الرب سبحانه، لأنه لا يخلو عن شوب النقص المادي و آفة المحدودية و إثبات الإنية و يمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء و السمعة و السجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض و التنزه بالكف عن شهوات النفس فإن النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين العبد و الرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، و قوله أنا أجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالا على أنه لا يوسط في إعطاء الأجر بينه و بين الصائم أحدا كما أن العبد يأتي بما ليس بينه و بين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد: أن الصدقة إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا، قال تعالى؟ {وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقَاتِ}۱، و إن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر، و يفطر حتى يقال ما يصوم، ثم ترك ذلك و صام يوما و أفطر يوما و هو صوم داود، ثم ترك ذلك و صام الثلاثة الأيام الغر، ثم ترك ذلك و فرقها في كل عشرة يوما خميسين بينهما أربعاء، فقبض (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يعمل ذلك.
و عن عنبسة العابد قال: قبض رسول الله على صيام شعبان و رمضان و ثلاثة أيام من كل شهر.
أقول: و الأخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك و هو الصوم المسنون الذي
كان يصومه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما عدا صوم رمضان.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ}، قال: هي للمؤمنين خاصة.
و عن جميل قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتَالُ}، {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ} قال: فقال: هذه كلها يجمع الضلال و المنافقين و كل من أقر بالدعوة الظاهرة.
و في الفقيه عن حفص قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)، يقول: إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا فقلت له: فقول الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، قال: إنما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضل الله هذه الأمة و جعل صيامه فرضا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و على أمته.
أقول: و الرواية ضعيفة بإسماعيل بن محمد في سنده، و قد روي هذا المعنى مرسلا عن العالم (عليه السلام) و كان الروايتين واحدة، و على أي حال فهي من الآحاد و ظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى {كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الأنبياء خاصة و لو كان كذلك، و المقام مقام التوطئة و التمهيد و التحريص و الترغيب، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية و أوقع و الله العالم.
و في الكافي عمن سأل الصادق (عليه السلام) عن القرآن و الفرقان أ هما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، و الفرقان الحكم الواجب العمل به.
و في الجوامع عنه (عليه السلام): الفرقان كل آية محكمة في الكتاب.
و في تفسيري العياشي و القمي عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن، و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء.
أقول: و اللفظ يساعد على ذلك، و في بعض الأخبار أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان و ذهب، بل شهر رمضان الحديث، و هو واحد غريب في بابه، و قد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين.
و الأخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر و كذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي و عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) بحيث يستبعد جدا نسبة التجريد إلى الراوي.
و في تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) إن ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: و ما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان و أنا في منزلي أ لي أن أسافر؟ قال: إن الله يقول: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فمن دخل عليه شهر رمضان و هو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.
أقول: و هو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالأخذ بالإطلاق.
و في الكافي عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: فأما صوم السفر و المرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، و قال آخرون: لا يصوم، و قال قوم: إن شاء صام و إن شاء أفطر، و أما نحن: فنقول: يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز و جل يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
أقول: و رواه العياشي أيضا و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام): في قوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قال (عليه السلام): ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه و من سافر فيه فليفطر.
أقول: و الأخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الإفطار على المريض و المسافر كثيرة و مذهبهم ذلك، و قد عرفت دلالة الآية عليه.
و في تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع و المريض.
و في تفسيره أيضا عن الباقر (عليه السلام): في الآية، قال: الشيخ الكبير و الذي يأخذه العطاش.
و في تفسيره أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: المرأة تخاف على ولدها و الشيخ الكبير.
أقول: و الروايات فيه كثيرة عنهم (عليه السلام) و المراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير أيام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة أيام أخر فإن المريض في قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} لا يشمله و هو ظاهر، و العطاش مرض العطش.
و في تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق (عليه السلام) قال: إن في الفطر تكبيرا قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر، قال: فيه تكبير و لكنه مسنون في المغرب و العشاء و الفجر و الظهر و العصر و ركعتي العيد.
و في الكافي عن سعيد النقاش قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لي في ليلة الفطر تكبيرة و لكنه مسنون، قال: قلت: و أين هو؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب و العشاء الآخرة و في صلاة الفجر و في صلاة العيد ثم يقطع، قال: قلت: كيف أقول! قال: تقول الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله و الله أكبر. الله أكبر على ما هدانا. و هو قول الله {وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} يعني الصلاة {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ} و التكبير أن تقول: الله أكبر. لا إله إلا الله و الله أكبر. و لله الحمد، قال: و في رواية التكبير الآخر أربع مرات.
أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين و عدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، و قوله (عليه السلام): يعني الصلاة لعله يريد: أن المعنى {وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} أي عدة أيام الصوم بصلاة العيد {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ} مع الصلوات {عَلى مَا هَدَاكُمْ} و هو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ} فإنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الأولى منه هذا، و اختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيد ما قيل: إن قوله: {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ} بتضمين التكبير معنى الحمد و لذلك عدي بعلى.
و في تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له، جعلت
فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صام تسعة و عشرين أكثر مما صام ثلاثين أ حق هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا ثلاثين لأن الله يقول: {وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} فكان رسول الله ينقصه.
أقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الإنكاري، و الرواية تدل على ما قدمناه: أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.
و في محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه: في قوله: {وَ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ} قال: التكبير التعظيم، و الهداية الولاية.
أقول: و قوله: و الهداية الولاية من باب الجري و بيان المصداق: و يمكن أن يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية، و العسر الخلاف و ولاية أعداء الله.
و في الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله، قال: سألته عن قول الله عز و جل: {شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ} و إنما أنزل في عشرين بين أوله و آخره فقال أبو عبد الله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان و أنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان و أنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان و أنزل القرآن في ثلاث و عشرين من شهر رمضان.
أقول: ما رواه (عليه السلام) عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور، بعدة طرق عن وائلة بن الأسقع عن النبي.
و في الكافي و الفقيه عن يعقوب قال: سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.
و في الدر المنثور عن ابن عباس قال: شهر رمضان و الليلة المباركة و ليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة و هي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور و هو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد
(صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ذلك في الأمر و النهي و في الحروب رسلا رسلا.
أقول: و روي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير و يظهر من كلامه أنه إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى: {وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ}۱ و في قوله تعالى: {وَ كِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ}٢، و قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ}٣، و قوله تعالى: {وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً}٤، و جميع ذلك ظاهر إلا ما ذكره في مواقع و أنه السماء الأولى و موطن القرآن فإن فيه خفاء، و الآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، و قد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء، و سيجيء الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى، و مما يجب أن يعلم أن الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم و المتشابه، و الكلام على الإشارة و الرمز شائع فيه، و لا سيما في أمثال هذه الحقائق: من اللوح و القلم و الحجب و السماء و البيت المعمور و البحر المسجور فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن.
[سورة البقرة (٢): آیة ١٨٦]
{وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ١٨٦}
بيان كلام في معنى الدعاء
قوله تعالى: {وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون و أرق أسلوب و أجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة و نحوها، و فيه دلالة على كمال العناية بالأمر، ثم قوله: {عِبَادِي} و لم يقل: الناس و ما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} و لم يقل فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن، ثم الإتيان بالصفة دون الفعل
الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب و دوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة و استمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ} بقوله: {إِذَا دَعَانِ} و هذا القيد لا يزيد على قوله: {دَعْوَةَ اَلدَّاعِ} المقيد به شيئا بل هو عينه، و فيه دلالة على أن {دَعْوَةَ اَلدَّاعِ} مجابة من غير شرط و قيد كقوله تعالى: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}۱، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء و العناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها على إيجازها - ضمير المتكلم سبع مرات، و هي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.
و الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي، و السؤال جلب فائدة أو در من المسئول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء و هو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل و السؤال بمعنى الحساب و السؤال بمعنى الاستدرار و غيره.
ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية و لا كل مملوكية بل مملوكية الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كل ذي عقل و شعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.
و ملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى و الحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم و لا ما يتبع أنفسهم من الصفات و الأفعال و سائر ما ينسب إليهم من الأزواج و الأولاد و المال و الجاه و غيرها، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، و بدنه، و سمعه، و بصره، و فعله، و أثره، و هي أقسام الملك بالطبع و الحقيقة و قولنا: زوجه و ماله و جاهه و حقه، و هي أقسام الملك بالوضع و الاعتبارإنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم و بين ما يملكون أيا ما كان و تمليكه فالله عز اسمه، هو الذي أضاف نفوسهم و أعيانهم إليهم و لو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، و هو الذي جعل لهم السمع و الأبصار و الأفئدة، و هو الذي خلق كل شيء و قدره تقديرا.
فهو سبحانه الحائل بين الشيء و نفسه، و هو الحائل بين الشيء و بين كل ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو أقرب إلى خلقه من كل
شيء مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى: {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ}۱، و قال تعالى: {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ}٢، و قال تعالى {أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ}٣، و القلب هو النفس المدركة.
و بالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا و كونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الإطلاق و أقرب إليهم من كل شيء عند القياس و هذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع و لا مانع يقضي أن لله سبحانه أن يجيب أي دعاء دعا به أحد من خلقه و يرفع بالإعطاء و التصرف حاجته التي سأله فيها فإن الملك عام، و السلطان و الإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إن الله لما خلق الأشياء و قدر التقادير تم الأمر، و خرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ و لا بداء و لا استجابة لدعاء لأن الأمر مفروغ عنه، و لا كما يقوله جماعة من هذه الأمة: أن لا صنع لله في أفعال عباده و هم القدرية الذين سماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مجوس هذه الأمة فيما رواه الفريقان من قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): القدرية مجوس هذه الأمة.
بل الملك لله سبحانه على الإطلاق و لا يملك شيء شيئا إلا بتمليك منه سبحانه و إذن فما شاءه و ملكه و أذن في وقوعه، يقع، و ما لم يشأ و لم يملك و لم يأذن فيه لا يقع و إن بذل في طريق وقوعه كل جهد و عناية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}٤.
فقد تبين: أن قوله تعالى: {وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، و قربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم و إطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فإنه مجيبه إلا أن هاهنا أمرا و هو أنه تعالى قيد قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ} بقوله {إِذَا دَعَانِ} و هذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز و الشبه، فإن قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي
يجب الإصغاء إلى قوله و العالم إذا تحقق بعلمه و عمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه فقوله تعالى {إِذَا دَعَانِ} يدل على أن وعد الإجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري و الغريزي مواطئا لسانه قلبه، فإن حقيقة الدعاء و السؤال هو الذي يحمله القلب و يدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا، و لذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا، قال تعالى: {وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}۱، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون و لم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم و استحقاقهم لسانا فطريا وجوديا، و قال تعالى: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}٢، و دلالته على ما ذكرنا أظهر و أوضح.
فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء و لا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين و هما اللذان ذكرهما بقوله: {دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء، و إنما التبس الأمر على الداعي التباسا كان يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون و هو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو و يسأل شفاء المريض لا إحياء الميت، و لو كان استمكنه و دعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لأعيدت حياته و لكنه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.
و إما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه و قلبه متعلق بالأسباب العادية أو بأمور وهمية توهمها كافية في أمره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب و الأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب و إن أخلصوه بلسانهم.
فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، و به يظهر معاني سائر الآيات
النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ}۱ و قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ أَ غَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}٢، و قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ قُلِ اَللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}٣، فالآيات دالة على أن للإنسان دعاء غريزيا و سؤالا فطريا يسأل به ربه، غير أنه إذا كان في رخاء و رفاه تعلقت نفسه بالأسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الأمر و زعم أنه لا يدعو ربه و لا يسأل عنه، مع أنه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة و لا تبديل لخلق الله تعالى، و لما وقع الشدة و طارت الأسباب عن تأثيرها و فقدت الشركاء و الشفعاء تبين له أن لا منجح لحاجته و لا مجيب لمسألته إلا الله، فعاد إلى توحيده الفطري و نسي كل سبب من الأسباب، و وجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته و قضى حاجته و أظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك و النسيان.
و كقوله تعالى: {وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}٤، و الآية تدعو إلى الدعاء و تعد بالإجابة و تزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: {عَنْ عِبَادَتِي} أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار و الوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.
و بذلك يظهر معنى آيات أخر من هذا الباب كقوله تعالى: {فَادْعُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ}٥، و قوله تعالى: {وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ}٦، و قوله تعالى: {وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}۷، و قوله تعالى: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ}۸، و قوله تعالى: {إِذْ نَادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}، إلى قوله {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}٩، و قوله تعالى: {وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}۱۰، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، و هي تشتمل على
أركان الدعاء و آداب الداعي، و عمدتها الإخلاص في دعائه تعالى و هو مواطاة القلب اللسان و الانقطاع عن كل سبب دون الله و التعلق به تعالى، و يلحق به الخوف و الطمع و الرغبة و الرهبة و الخشوع و التضرع و الإصرار و الذكر و صالح العمل و الإيمان و أدب الحضور و غير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.
قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي} تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: إن الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه و بين دعائهم شيء، و هو ذو عناية بهم و بما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، و صفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، و ليقبلوا إليه، و ليؤمنوا به في هذا النعت، و ليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.
(بحث روائي)
عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، و في عدة الداعي، في الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك و ملح عجينك.
و في المكارم عنه (عليه السلام): الدعاء أفضل من قراءة القرآن لأن الله عز و جل قال: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ} و روي ذلك عن الباقر و الصادق (عليه السلام).
و في عدة الداعي، في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: و عزتي و جلالي لأقطعن أمل كل آمل أمل غيري بالإياس و لأكسونه ثوب المذلة في الناس و لأبعدنه من فرجي و فضلي، أ يأمل عبدي في الشدائد غيري، و الشدائد بيدي و يرجو سوائي و أنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب و هي مغلقة، و بابي مفتوح لمن دعاني الحديث.
و في عدة الداعي أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات و أسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه و إن دعاني لم أجبه، و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات و الأرض
رزقه، فإن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن استغفرني غفرت له.
أقول: و ما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء و ليس إبطالا لسببية الأسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الأشياء و بين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، و للإنسان شعور باطني بذلك فإنه يشعر بفطرته أن لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، و يشعر أيضا أن كل ما يتوجه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن أن يتخلف عنه أثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدئ عنه كل أمر، و الركن الذي يعتمد عليه و يركن إليه كل حاجة في تحققها و وجودها غير هذه الأسباب و لازم ذلك أن لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي و يعتصم بذلك السبب الظاهري، و الإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه و التفات فإذا سأل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنه سأل ربه و اتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الأسباب إلى ربه فاستفاض منه، و إذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني و إنما هو أمر صوره له تخيله لعلل أوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة، و هذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر.
و نظير ذلك: أن الإنسان كثيرا ما يحب شيئا و يهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه و أهم و أحب فترك الأول و أخذ بالثاني، و ربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع و خيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الأول و ترك الثاني، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه و أخذ بالبكاء و هو يريد الصحة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء و إن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري و الشعور الباطني و له نظام آخر بحسب تخيله و النظام الفطري لا يقع فيه خطاء و لا في سيره خبط، و أما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء و السهو، فربما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا، و هو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الأحاديث، و هو اللائح من قول علي (عليه السلام) فيما سيأتي: أن العطية على قدر النية الحديث.
و في عدة الداعي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة.
و في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا.
أقول: و ذلك أن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة كما مر، و قد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.
و في العدة أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أفزعوا إلى الله في حوائجكم، و الجئوا إليه في ملماتكم، و تضرعوا إليه و ادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، و ما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، و إما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.
و في نهج البلاغة: في وصية له (عليه السلام) لابنه الحسين (عليه السلام): ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه و استمطرت شئابيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الأمل، و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، و ينفي عنك وباله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له.
أقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد (عليه السلام) به: أن الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره و حمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله و أظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي أحسن جملة و أجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسألة و الإجابة.
و قد بين (عليه السلام) بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالإبطاء في الإجابة، و تبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة و لو أوتيها على الفور لم تكن هنيئة و على الرغبة فتبطئ إجابتها لأن السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطء، و كذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه و هو لا يعلم بذلك و يزعم أن فيه سعادته
و إنما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.
و في عدة الداعي عن الباقر (عليه السلام): ما بسط عبد يده إلى الله عز و جل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه، و في خبر آخر: على وجهه و صدره.
أقول: و قد روي في الدر المنثور، ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، و جابر، و عبد الله بن عمر، و أنس بن مالك، و ابن أبي مغيث عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في ثماني روايات، و في جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنه تعالى فيها تعالى عن ذلك و تقدس.
و هو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي و التوجه الباطني إلى موطن الصورة، و إظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم، كما هو ظاهر في الصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك و أجزائها و شرائطها، و لو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، و منها الدعاء، و هو تمثيل التوجه القلبي و المسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، و يسأل حاجته بالذلة و الضراعة، و قد روى الشيخ في المجالس و الأخبار مسندا عن محمد و زيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين (عليه السلام) عن النبي، و في عدة الداعي، مرسلا: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا كما يستطعم المسكين.
و في البحار عن علي (عليه السلام): أنه سمع رجلا يقول اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال (عليه السلام): أراك تتعوذ من مالك و ولدك، يقول الله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} و لكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
أقول: و هذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ و له نظائر في الروايات، و فيها: أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، و من هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء و الكثير و غير ذلك.
و في عدة الداعي عن الصادق (عليه السلام): أن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.
و في العدة أيضا عن علي (عليه السلام): لا يقبل الله دعاء قلب لاه.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و السر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء و المسألة في السهو و اللهو.
و في دعوات الراوندي: في التوراة يقول الله عز و جل للعبد: إنك متى ظلمت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك و أجبته فيك، و إن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة.
أقول: و ذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به و رضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، و إذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه و لن يرضى أبدا عوقب بما يريده على غيره، و إن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: {وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ عَجُولاً}۱.
و في عدة الداعي: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأبي ذر: يا أبا ذر أ لا أعلمك كلمات ينفعك الله عز و جل بهن؟ قلت بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله و سلم): احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، و إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و لو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني ادع الله في الرخاء و لا تنسه حتى يستجيب دعاءك في الشدة و لا ينساك، و ذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة و على تقديرها، و ليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال و على جميع التقادير، فهو لم يدع ربه، و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق، عن الصادق (عليه السلام): قال (عليه السلام): من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل البلاء، و قيل: صوت معروف، و لم
يحجب عن السماء، و من لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء و قالت الملائكة:
إن ذا الصوت لا نعرفه الحديث، و هو المستفاد من إطلاق قوله تعالى: {نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}۱، و لا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام.
و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): و إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال و الاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلا الطريقية و الوساطة في الإيصال، و الأمر بيد الله تعالى، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة و باب الكبرياء و لا يركن إلى سبب بعد سبب، إن كان أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها و هذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى إلغاء الأسباب و الطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف و الداعي يريد ما يسأله بالقلب، و يسأل ما يريده باللسان و يستعين على ذلك بأركان وجوده و كل ذلك أسباب؟
و اعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده و يرى ما يرى ببصره و يسمع ما يسمع بأذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن، و من ركن إلى سبب من دون الله سبحانه و تعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو بأذنه في سمعها و هو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، و ليس ذلك تقييدا للقدرة الإلهية غير المتناهية و لا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة و الاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الإنسان قادر على المناولة و الرؤية و السمع لكن المناولة لا يكون إلا باليد، و الرؤية و السمع هما اللذان يكونان بالعين و الأذن لا مطلقا، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الأسباب فزيد مثلا و هو فعل لله هو الإنسان الذي ولده فلان و فلانة في زمان كذا و مكان كذا و عند وجود شرائط كذا و ارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل
و الشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقف على تحقق جميعها، و المتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.
و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: و إذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: و إذا سألت، و سببه، و المعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى و لا تستعن بغيره تعالى، و أما هو تعالى: فسلطانه دائم و ملكه ثابت و مشيته نافذة و كل يوم هو في شأن، و لذلك عقب الجملة بقوله: و لو أن الخلق كلهم جهدوا إلخ.
و من أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: أن الدعاء من القدر.
أقول: و فيه جواب ما استشكله اليهود و غيرهم على الدعاء: أن الحاجة المدعو لها إما أن تكون مقضية مقدرة أو لا، و هي على الأول واجبة و على الثاني ممتنعة، و على أي حال لا معنى لتأثير الدعاء، و الجواب: أن فرض تقدير وجود الشيء لا يوجب استغناءه عن أسباب وجوده، و الدعاء من أسباب وجود الشيء فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، و هذا هو المراد بقولهم: إن الدعاء من القدر، و في هذا المعنى روايات أخر.
ففي البحار عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يرد القضاء إلا الدعاء.
و عن الصادق (عليه السلام): الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما.
و عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): عليكم بالدعاء فإن الدعاء و الطلب إلى الله عز و جل يرد البلاء، و قد قدر و قضى فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله و سئل صرف البلاء صرفا.
و عن الصادق (عليه السلام): أن الدعاء يرد القضاء المبرم و قد أبرم إبراما فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة و نجاح كل حاجة و لا ينال ما عند الله إلا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه.
أقول: و فيها إشارة إلى الإصرار و هو من محققات الدعاء، فإن كثرة الإتيان
بالقصد يوجب صفاءه.
و عن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن (عليه السلام): دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.
أقول: و فيها إشارة إلى إخفاء الدعاء و إسراره فإنه أحفظ لإخلاص الطلب.
و في المكارم عن الصادق (عليه السلام): لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد و آل محمد.
و عن الصادق (عليه السلام) أيضا: من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا استجيب له.
و عن الصادق (عليه السلام) أيضا: و قد قال له رجل من أصحابه إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما قال: فقال: و ما هما قلت: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فندعوه فلا نرى إجابة، قال أ فترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال فمه؟ قلت: لا أدري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قلت: و ما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد الله و تمجده و تذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد و آله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال: و ما الآية الأخرى؟ قلت: {وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} و أراني أنفق و لا أرى خلفا، قال: أ فترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدري، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله و أنفق في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه.
أقول: و الوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء و المسألة.
و في الدر المنثور عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله إذا أراد أن يستجيب لعبد أذن له في الدعاء.
و عن ابن عمر أيضا عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، و في رواية: من فتح له في الدعاء منكم فتحت له أبواب الجنة.
أقول: و هذه المعنى مروي من طرق أئمة أهل البيت أيضا: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و معناه واضح مما مر.
و في الدر المنثو أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال.
أقول: و ذلك أن الجهل بمقام الحق و سلطان الربوبية و الركون إلى الأسباب يوجب الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب و قصر المعلولات على عللها المعهودة و أسبابها العادية حتى أن الإنسان ربما زال عن الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الإذعان بتعين الطرق و وساطة الأسباب المتوسطة فإنا نرى أن الحركة و السير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بأن السير واسطة و الله سبحانه و تعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة و أنه لو لا السير لم يكن قرب و لا اقتراب، و بالجملة أن المسببات لا تتخلف عن أسبابها و إن لم يكن للأسباب إلا الوساطة دون التأثير، و هذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الإلهية، و هذا التوهم هو الذي أوجب أن نعتقد استحالة تخلف المسببات عن أسبابها العادية كالثقل و الانجذاب عن الجسم، و القرب عن الحركة، و الشبع عن الأكل، و الري عن الشرب، و هكذا، و قد مر في البحث عن الإعجاز أن ناموس العلية و المعلولية، و بعبارة أخرى توسط الأسباب بين الله سبحانه و بين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على أسبابها العادية بل البحث العقلي النظري، و الكتاب و السنة تثبت أصل التوسط و تبطل الانحصار، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها.
إذا عرفت هذا علمت: أن العلم بالله يوجب الإذعان بأن ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما أن العمدة من معجزات الأنبياء راجعة إلى استجابة الدعوة.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي} يعلمون أني أقدر أن أعطيهم ما يسألوني.
و في المجمع قال: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: {وَ لْيُؤْمِنُوا بِي} أي و ليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، أي لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه.
[سورة البقرة (٢): آیة ١٨٧]
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا مَا كَتَبَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيَامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي اَلْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ١٨٧}
(بيان)
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُمْ} الإحلال بمعنى الإجازة، و أصله من الحل مقابل العقد، و الرفث هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره، من الألفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، و قد كني به هاهنا عن عمل الجماع و هو من أدب القرآن الكريم و كذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة و الدخول و المس و اللمس و الإتيان و القرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، و كذا لفظ الوطء و الجماع و غيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية و إن أخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما أن ألفاظ الفرج و الغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، و تعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء على ما قيل.
قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} الظاهر من اللباس معناه المعروف و هو ما يستر به الإنسان بدنه، و الجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور و إشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته و يستر به عورته.
و هذه استعارة لطيفة، و تزيد لطفا بانضمامها إلى قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ
اَلرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُمْ} فإن الإنسان يستر عورته عن غيره باللباس، و أما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقي به صاحبه عن الرفث إلى غيره، و أما الرفث إليه فلا لأنه لباسه المتصل بنفسه المباشر له.
قوله تعالى: {عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ} الاختيان و الخيانة بمعنى، و فيه معنى النقص على ما قيل، و في قوله: {أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ}، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على أن هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لأنفسهم، و لو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة و العفو، و هما و إن لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما، و خاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك.
و على هذا فالآية دالة على أن حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، و الآية بنزولها شرعت الحلية و نسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، و يشعر به أو يدل عليه قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} و قوله: {كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ} و قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ} و قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام أن يقال: فلا جناح عليكم أن تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، و هو ظاهر.
و ربما يقال: إن الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل و الشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق أهل السنة و الجماعة، أن المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم و سمعوا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (الآية)، فهموا منه التساوي في الأحكام من جميع الجهات، و قد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون و يأكلون و يشربون في أول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أن ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصية و خيانة لأنفسهم، و الشيوخ ربما أجهدهم الكف عن الأكل و الشرب بعد النوم، و ربما أخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل و الشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت أن النكاح و الأكل و الشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، و ظهر بذلك: أن مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} التشبيه في أصل فرض الصوم لا في
خصوصياته، و أما قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ} فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ}۱ إذ من المعلوم أن صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، و كذا قوله تعالى: {عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، إنما يعني به أنهم كانوا يخونون بحسب زعمهم و حسبانهم ذلك خيانة و معصية، و لذا قال: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} و لم يقل: تختانون الله كما قال: {لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}٢، مع احتمال أن يراد بالاختيان النقص، و المعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح و غيره، و كذا قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ}، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا.
و فيه ما عرفت: أن ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ}، و قوله: {كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} و قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفَا عَنْكُمْ}، و إن لم تكن صريحة في النسخ غير أن لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلخ، إذ لو لم يكن هناك إلا جواز مستمر قبل نزول الآية و بعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، و أما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فإنها لم تبين سائر أحكام الصوم أيضا مثل حرمة النكاح و الأكل و الشرب في نهار الصيام، و من المعلوم أن رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الأحكام، و الآية تنسخ ما بينه الرسول و إن لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك.
فإن قلت: قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد أن لا يعم الناسخ و المنسوخ لبشاعة أن يعلل النسخ بما يعم الناسخ و المنسوخ معا و إن قلنا: إن هذه التعليلات الواقعة في موارد الأحكام حكم و مصالح لا علل، و لا يلزم في الحكمة أن تكون جامعة و مانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء و هن لباس لهم.
قلت: أولا إنه منقوض بتقييد قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} بقوله: {لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ} مع أن
حكم اللباس جار في النهار كالليل و هو محرم في النهار، و ثانيا: أن القيود المأخوذة في الآية من قوله: {لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ} و قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} و قوله: {أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ و الناسخ فكون أحد الزوجين لباسا للآخر يوجب أن يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله: {لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ}، و الصيام هو الكف و الإمساك عن مشتهيات النفس من الأكل و الشرب و النكاح يوجب تقييد جواز الرفث و صرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم و وقوعهم في معصية مستمرة و خيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، و بذلك يعود إطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض إطلاقه و هو أن يعمل بهليلا لا نهارا، و المعنى و الله أعلم: أن إطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا و نهارا و حرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا أنكم {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} فيه و أردنا التخفيف عنكم رأفة و رحمة، و أعدنا إطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام و قصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل.
و الحاصل: أن قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}، و إن كان علة أو حكمة لإحلال أصل الرفث إلا أن الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام و هو مجموع قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} إلى قوله: {وَ عَفَا عَنْكُمْ}، و هذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ و لا يعم المنسوخ قطعا.
قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا مَا كَتَبَ اَللَّهُ لَكُمْ}، أمر واقع بعد الحظر فيدل على الجواز، و قد سبقه قوله تعالى: في أول الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ} و المعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن، و الابتغاء هو الطلب، و المراد بابتغاء ما كتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الإنساني من طريق المباشرة، و فطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوة النكاح و المباشرة، و سخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم و إن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة و نيل اللذة كما أنه تعالى كتب لهم بقاء الحياة و النمو بالأكل و الشرب و هو المطلوب الفطري و إن لم يقصدوا بالأكل و الشرب إلا الحصول على لذة الذوق و الشبع و الري، فإنما هو تسخير إلهي.
و أما ما قيل: إن المراد بما كتب الله لهم الحل و الرخصة فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، فيبعده: أن الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية و الرخصة.
قوله تعالى: {وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ}، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل و بذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، و عمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الأفق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائرة الأفق إلى ثمانية عشر درجة تحت الأفق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه و هو الفجر الثاني، و يسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه و يخبر به من قدوم النهار و اتصاله بطلوع الشمس.
و من هنا يعلم أن المراد بالخيط الأبيض هو الفجر الصادق، و أن كلمة من، بيانية و أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ} من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الأفق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط أبيض يتبين من الخيط الأسود.
و من هنا يعلم أيضا: أن المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط أبيض و لا خيط أسود.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيَامَ إِلَى اَللَّيْلِ}، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره إيثارا للإيجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل، و في قوله: {أَتِمُّوا} دلالة على أنه واحد بسيط و عبادة واحدة تامة من غير أن تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، و هذا هو الفرق بين التمام و الكمال حيث إن الأول انتهاء وجود ما لا يتألف من أجزاء ذوات آثار و الثاني انتهاء وجود ما لكل من أجزائه أثر مستقل وحده، قال تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}۱، فإن الدين مجموع الصلاة و الصوم و الحج و غيرها التي لكل منها أثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في الكلام على الآية.
قوله تعالى: {وَ لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي اَلْمَسَاجِدِ}، العكوف و الاعتكاف هو اللزوم و الاعتكاف بالمكان الإقامة فيه ملازما له.
و الاعتكاف عبادة خاصة من أحكامها لزوم المسجد و عدم الخروج منه إلا لعذر و الصيام معه، و لذلك صح أن يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: {وَ لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي اَلْمَسَاجِدِ}.
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}، أصل الحد هو المنع و إليه يرجع جميع استعمالاته و اشتقاقاته كحد السيف و حد الفجور و حد الدار و الحديد إلى غير ذلك، و النهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها و التعدي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الأكل و الشرب و المباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الأحكام و الحرمات الإلهية التي بينها لكم و هي أحكام الصوم بإضاعتها و ترك التقوى فيها.
(بحث روائي)
في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) قال: كان الأكل و النكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء و نام و لم يفطر ثم انتبه حرم عليه الإفطار، و كان النكاح حراما في الليل و النهار في شهر رمضان، و كان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الأنصاري، أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه و بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب، و كان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، و كان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام - فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم علي الأكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرق له و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُمْ} (الآية)، فأحل الله تبارك و تعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر
لقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ}، قال: هو بياض النهار من سواد الليل.
أقول: و قوله: يعني إلى قوله: و كان رجل، من كلام الراوي، و هذا المعنى مروي بروايات أخرى، رواها الكليني و العياشي و غيرهما، و في جميعها أن سبب نزول قوله: {وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا} إلخ، إنما هو قصة خوات بن جبير الأنصاري و أن سبب نزول قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} إلخ، ما كان يفعله الشبان من المسلمين.
و في الدر المنثور عن عدة من أصحاب التفسير و الرواية عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته و لا يومه حتى يمسي و أن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا و لكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام و جاءت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك، أ نمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ اَلرَّفَثُ}، إلى قوله: {مِنَ اَلْفَجْرِ} ففرحوا بها فرحا شديدا.
أقول: و روي بطرق أخر القصة و في بعضها أبو قبيس بن صرمة و في بعضها صرمة بن مالك الأنصاري على اختلاف ما في القصة.
و في الدر المنثور أيضا: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء و الطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام و النساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ}، إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يعني انكحوهن.
أقول: و الروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة و في أكثرها اسم من عمر، و هي متحدة في أن حكم النكاح بالليل كحكم الأكل و الشرب و أنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده، و ظاهر ما أوردناه من الرواية الأولى أن النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل و النهار جميعا بخلاف الأكل و الشرب فقد كانا محللين في أول الليل قبل النوم محرمين بعده، و سياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الأكل و الشرب
محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ أن يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: {كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ} إلخ، و قد قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ اَلرَّفَثُ} و لم يأت بقيد يدل على الغاية، و كذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: أن الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الأكل و الشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: {عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} إلخ، قبل قوله: {كُلُوا وَ اِشْرَبُوا}.
و في الدر المنثور أيضا: أن رسول الله قال الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا و لا يحرمه، و أما المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة و يحرم الطعام.
أقول: و الروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة و الخاصة و كذا الروايات في الاعتكاف و حرمة الجماع فيه.
[سورة البقرة (٢): آیة ١٨٨]
{وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى اَلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ اَلنَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ١٨٨}
(بيان)
قوله تعالى: {وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، المراد بالأكل الأخذ أو مطلق التصرف مجازا، و المصحح لهذا الإطلاق المجازي كون الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إلى فعلها و أقدمها فالإنسان أول ما ينشأ. وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس و المسكن و النكاح و نحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، و لذلك كان تسمية التصرف و الأخذ، و خاصة في مورد الأموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات.
و المال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل
إليه القلب، و البين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، و الباطل يقابل الحق الذي هو الأمر الثابت بنحو من الثبوت.
و في تقييد الحكم، أعني قوله: {وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} بقوله: {بَيْنَكُمْ}، دلالة على أن جميع الأموال لجميع الناس و إنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلا، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً} و في إضافته الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الإنساني من اعتبار أصل الملك و احترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره النقل و التاريخ، و قد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك و المال و لام الملك و الاستخلاف و غيرها في أزيد من مائة مورد و لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع، و كذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع و التجارة و نحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى: {وَ أَحَلَّ اَللَّهُ اَلْبَيْعَ}۱، و قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}٢، و قوله تعالى: {تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}٣، و غيرها، و السنة المتواترة تؤيده.
قوله تعالى: {وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى اَلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً} الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، و هو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، و الفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشيء، و الجملة معطوفة على قوله: {تَأْكُلُوا} فالفعل مجزوم بالنهي، و يمكن أن يكون الواو بمعنى مع و الفعل منصوبا بأن المقدرة، و التقدير مع أن تأكلوا فتكون الآية بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد، و هو النهي عن تصالح الراشي و المرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما و تقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه و أخذ الراشي فريقا آخر منها بالإثم و هما يعلمان أن ذلك باطل غير حق.
(بحث روائي)
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في الآية: كانت تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم
الله عن ذلك.
و في الكافي أيضا عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عز و جل في كتابه: {وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى اَلْحُكَّامِ}، قال يا أبا بصير إن الله عز و جل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما أنه لم يعن حكام أهل العدل و لكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له - لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت و هو قول الله عز و جل: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى اَلطَّاغُوتِ}.
و في المجمع قال: روي عن أبي جعفر (عليه السلام): يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال.
أقول: و هذه مصاديق و الآية مطلقة.
(بحث علمي اجتماعي) في أن المالكية من الأصول الثابتة الاجتماعية
كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، و منها النبات و الحيوان و الإنسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن أن ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده و بقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، و لا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها و نشوئها و توليد مثلها، و كذلك أقسام الحيوان و الإنسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه و لو انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه.
و هذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، و الحيوان و الإنسان بالشعور الغريزي أن التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية و الانتفاع في حفظ الوجود و البقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى أن الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل الأمر و ملاكه) و لذلك فالفاعل من الإنسان أو ما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره و التصرف فيما يريد هو التصرف فيه، و هذا أصل الاختصاص الذي
لا يتوقف في اعتباره، إنسان و هو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا و لك ذلك، و لي أن أفعل كذا و لك أن تفعل كذا.
و يشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما اصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج و نحو ذلك، و ما نشاهده من تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء و نحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الإنسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته و قضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما أدركه بأصل الفطرة إجمالا، و لا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا و ترتيبه و تعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، و عند ذلك يتنوع الاختصاص الإجمالي المذكور أنواعا متفرقة ذوات أسام مختلفة فيسمى الاختصاص المالي بالملك و غيره بالحق و غير ذلك.
و هم و إن أمكن أن يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة و البيع و الشراء و الغصب بقوة السلطان و غير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالإنسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، و ينقصوا من بعض، و يثبتوا لبعض و ينفوا عن بعض، لكن أصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، و لذلك نرى أن المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد و ينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم و هم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من أصله و لن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، و في بطلان الفطرة فناء الإنسان.
و سنبحث في ما يتعلق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة و الربح و الإرث و الغنيمة و الحيازة، و من حيث الموضوع كالبالغ و الصغير و غيرهما في موارد يناسب ذلك إن شاء الله العزيز.
[سورة البقرة (٢): آیة ١٨٩]
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ اَلْحَجِّ وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٨٩}
(بيان)
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ} إلى قوله: {وَ اَلْحَجِّ}، الأهلة جمع هلال و يسمى القمر هلالا أول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الأولى و الثانية كما قيل، و قال بعضهم الليالي الثلاثة الأول، و قال بعضهم حتى يتحجر، و التحجر أن يستدير بخطة دقيقة، و قال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل و ذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا و يسمى في الرابعة عشر بدرا، و اسمه العام عند العرب الزبرقان.
و الهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، و من قولهم: أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لأن الناس يهلون بذكره إذا رأوا. و المواقيت جمع ميقات و هو الوقت المضروب للفعل، و يطلق أيضا: على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام و ميقات أهل اليمن، و المراد هاهنا الأول.
و في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ} و إن لم يشرح أن السؤال في أمرها عما ذا؟ عن حقيقة القمر و سبب تشكلاتها المختلفة في صور الهلال و القمر و البدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في أول الشهر القمري كما ذكره بعضهم، أو عن غير ذلك.
و لكن إتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ} دليل على أن السؤال لم يكن عن ماهية القمر و اختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: يسألونك عن القمر لا عن الأهلة، و أيضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال و سبب تشكله الخاص كان الأنسب أن يقال: يسألونك عن الهلال إذ لا غرض
حينئذ يتعلق بالجمع، ففي إتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أن السؤال إنما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال و رسمه الشهور القمرية، و عبر عن ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك فأجيب بالفائدة.
و يستفاد ذلك من خصوص الجواب: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ اَلْحَجِّ} فإن المواقيت و هي الأزمان المضروبة للأفعال، و الأعمال إنما هي الشهور دون الأهلة التي ليست بأزمنة و إنما هي أشكال و صور في القمر.
و بالجملة قد تحصل أن الغرض في السؤال إنما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فأجيب ببيان الفائدة و أنها أزمان و أوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم و معادهم فإن الإنسان لا بد له من حيث الخلقة من أن يقدر أفعاله و أعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، و لازم ذلك أن يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا و كبارا مثل الليل و النهار و اليوم و الشهر و الفصول و السنين بالعناية الإلهية التي تدبر أمور خلقه و تهديهم إلى صلاح حياتهم، و التقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم و الجاهل و البدوي و الحضري و يسهل حفظه على الجميع إنما هو تقطيع الأيام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الإدراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها و لم ينل دقيق حسابها الإنسان إلا بعد قرون و أحقاب من بدء حياته في الأرض و هو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما.
فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في أمور دينهم و دنياهم و للحج خاصة فإنه أشهر معلومات، و كان اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور.
قوله تعالى: {وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} إلى قوله: {مِنْ أَبْوَابِهَا} ثبت بالنقل أن جماعة من عرب الجاهلية كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الإسلام و أمرهم بدخول البيوت من أبوابها، و نزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، و بذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله.
و لو لا ذلك لأمكن أن يقال: إن قوله: {وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ} إلى آخره، كناية عن النهي
عن امتثال الأوامر الإلهية و العمل بالأحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، و لا الصيام في غير شهر رمضان و هكذا و كانت الجملة على هذا متمما لأول الآية، و كان المعنى أن هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرعت فيها و لا يجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، و الصوم في غير شهر رمضان و هكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.
و على التقدير الأول الذي يؤيده النقل فنفي البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على أن العمل المذكور لم يكن مما أمضاه الدين و إلا لم يكن معنى لنفي كونه برا فإنما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، و أثبت أن البر هو التقوى، و كان الظاهر أن يقال: و لكن البر هو التقوى، و إنما عدل إلى قوله: {وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى}، إشعارا بأن الكمال إنما هو في الاتصاف بالتقوى و هو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: {لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ} (الآية).
و الأمر في قوله تعالى: {وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ليس أمرا مولويا و إنما هو إرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت و وضع الباب مدخلا و مخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.
قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قد عرفت في أول السورة أن التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الإيمان و مقامات الكمال، و من المعلوم أن جميع المقامات لا يستوجب الفلاح و السعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك و الضلال و إنما تهدي إلى الفلاح و تبشر بالسعادة، و لذلك قال تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فأتى بكلمة الترجي، و يمكن أن يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الأمر الخاص الموجود في الآية و ترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الأهلة فنزلت هذه الآية {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يعلمون بها أجل دينهم و عدة نسائهم و وقت حجهم.
أقول: و روي هذا المعنى فيه بطرق أخر عن أبي العالية و قتادة و غيرهما، و روي أيضا: أن بعضهم سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حالات القمر المختلفة فنزلت الآية. و هذا هو الذي ذكرنا آنفا أنه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به.
و في الدر المنثور أيضا: أخرج وكيع، و البخاري، و ابن جرير عن البراء: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: {وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.
و في الدر المنثور أيضا أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس و كانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام و كانت الأنصار و سائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في بستان إذ خرج من بابه و خرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر و أنه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال: إني رجل أحمس قال فإن: ديني دينك فأنزل الله {لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}.
أقول: و قد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، و الحمس جمع أحمس كحمر و أحمر من الحماسة و هي الشدة سميت به قريش لشدتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم و شدة بأسهم.
و ظاهر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش و لذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت إلخ، و على هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، و هي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا، و لكنك قد عرفت أن الآية تنافيه حيث تقول: {لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا} و حاشا الله سبحانه
أن يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الأحكام ثم يذمه أو يقبحه و ينسخه بعد ذلك و هو ظاهر.
و في محاسن البرقي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} قال يعني أن يأتي الأمر من وجهه أي الأمور كان.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): الأوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتى و لو لا هم ما عرف الله عز و جل و بهم احتج الله تبارك و تعالى على خلقه.
أقول: الرواية من الجري و بيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الأولى، و لا شك أن الآية بحسب المعنى عامة و إن كانت بحسب مورد النزول خاصة، و قوله (عليه السلام) و لو لا هم ما عرف الله، يعني البيان الحق و الدعوة التامة الذين معهم، و له معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إن شاء الله و الروايات في معنى الروايتين كثيرة.
[سورة البقرة (٢): الآیات ١٩٠الی ١٩٥]
{وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ ١٩٠وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ اَلْكَافِرِينَ ١٩١فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٩٢وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى اَلظَّالِمِينَ ١٩٣اَلشَّهْرُ اَلْحَرَامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرَامِ وَ اَلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ ١٩٤وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ١٩٥}
(بيان)
سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة، و قد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد و هو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، و للفتنة، و للقصاص، و النهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، و كل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} و ليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم و هو ظاهر، و لا قيدا احترازيا، و المعنى قاتلوا الرجال دون النساء و الولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، و يقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله.
بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال و الوصف للإشارة، و المراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين و هم مشركو مكة.
فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ}۱، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.
على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده و أطرافه و لوازمه فقوله تعالى: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأصل الحكم، و قوله تعالى: {لاَ تَعْتَدُوا} إلخ، تحديد له من حيث الانتظام، و قوله تعالى: {وَ اُقْتُلُوهُمْ} إلخ، تحديد له من حيث التشديد، و قوله تعالى: {وَ لاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} إلخ، تحديد له من حيث المكان، و قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} إلخ، تحديد له من حيث الأمد و الزمان، و قوله تعالى: {اَلشَّهْرُ اَلْحَرَامُ} إلخ، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال و القتل و معاملة بالمثل معهم، و قوله تعالى: {وَ أَنْفِقُوا} إيجاب لمقدمته المالية و هو الإنفاق للتجهيز و التجهز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، و لا أن تكون نازلة في شئون متفرقة كما
ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد و هو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.
قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، و كونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين و إعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس و أعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه فإن الدفاع محدود بالذات، و التعدي خروج عن الحد، و لذلك عقبه بقوله تعالى: {وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ}.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَعْتَدُوا} إلخ الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا و اعتدى إذا جاوز وحده، و النهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، و الابتداء بالقتال، و قتل النساء و الصبيان، و عدم الانتهاء إلى العدو، و غير ذلك مما بينه السنة النبوية.
قوله تعالى: {وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} إلى قوله: {مِنَ اَلْقَتْلِ}، يقال ثقف ثقافة أي وجد و أدرك فمعنى الآية معنى قوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}۱، و الفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشيء، و لذلك يطلق على نفس الامتحان و الابتلاء و على ما يلازمه غالبا و هو الشدة و العذاب على ما يستعقبه كالضلال و الشرك، و قد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، و المراد به في الآية الشرك بالله و رسوله بالزجر و العذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قبلها.
فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم و جلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، و ما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة و الفتنة أشد من القتل لأن في القتل انقطاع الحياة الدنيا، و في الفتنة انقطاع الحياتين و انهدام الدارين.
قوله تعالى: {وَ لاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} إلخ، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، و الضمير في قوله: {فِيهِ} راجع إلى
المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.
قوله تعالى: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الانتهاء الامتناع و الكف، و المراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين و قبول الإسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ} و أما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه و هو قوله: {وَ لاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ}، و على هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ} و قوله تعالى: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ}، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.
و في قوله تعالى: {فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، و المعنى فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.
قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلَّهِ}، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره، و الفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله و يكره عليه المشركون بمكة، و يدل عليه قوله تعالى: {وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلَّهِ}، و الآية نظيرة لقوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} {وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ}۱، و في الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال و إن ردت فلا ولاية إلا لله و نعم المولى و نعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، و من المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، و لا معنى لقتال هذا شأنه و غايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق و هو الدين الذي يستقر على التوحيد.
و يظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: {قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ}٢ بناء على أن دينهم لله سبحانه و تعالى، و ذلك أن الآية أعني قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه و تعالى هو أن لا يعبد الأصنام و يقر بالتوحيد، و أهل الكتاب مقرون به، و إن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ} لكن الإسلام قنع منهم
بمجرد التوحيد، و إنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم و إظهار الإسلام على الدين كله.
قوله تعالى: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى اَلظَّالِمِينَ}، أي فإن انتهوا عن الفتنة و آمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الآية)، فالآية كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ}۱.
قوله تعالى: {اَلشَّهْرُ اَلْحَرَامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرَامِ وَ اَلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، الحرمات جمع حرمة و هي ما يحرم هتكه و يجب تعظيمه و رعاية جانبه، و الحرمات: حرمة الشهر الحرام و حرمة الحرم و حرمة المسجد الحرام، و المعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، و قد هتكوا حين صدوا النبي و أصحابه عن الحج عام الحديبية و رموهم بالسهام و الحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه و ليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله و يمتثلون أمره في إعلاء كلمته و لو هتكوا حرمة الحرم و المسجد الحرام بالقتال فيه و عنده جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل، فقوله: {اَلشَّهْرُ اَلْحَرَامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرَامِ} بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات و أعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: {فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ}، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لأنه شرع القصاص في جميع الحرمات و إنما شرع القصاص في الحرمات لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل.
ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأن فيه استعمالا للشدة و البأس و السطوة و سائر القوى الداعية إلى الطغيان و الانحراف عن جادة الاعتدال و الله سبحانه و تعالى لا يحب المعتدين، و هم أحوج إلى محبة الله تعالى و ولايته و نصره فقال تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ}.
و أما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فإن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابلة اعتداء و أما إذا كان في مقابلة الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان و ارتقاء عن حضيض الاستعباد و الظلم و الضيم، كالتكبر مع المتكبر، و الجهر بالسوء لمن ظلم.
قوله تعالى: {وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ}، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله و الكلام في تقييد الإنفاق هاهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، و الباء في قوله: {بِأَيْدِيكُمْ} زائدة للتأكيد، و المعنى: و لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة و الاستطاعة و القدرة فإن اليد مظهر لذلك، و ربما يقال: إن الباء للسببية و مفعول لا تلقوا محذوف، و المعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إلى التهلكة، و التهلكة و الهلاك واحد و هو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، و هو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.
و الكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط و تفريط كما أن البخل و الإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة و ذهاب القدرة، و فيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، و كما أن التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر و المسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة و بطلان المروة.
ثم ختم سبحانه و تعالى الكلام بالإحسان فقال: {وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ}، و ليس المراد بالإحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين و ما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، و الكف في مورد الكف، و الشدة في مورد الشدة، و العفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الإنسانية باستيفاء حقها المشروع لها، و دفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر، و محبة الله سبحانه و تعالى هو الغرض الأقصى من الدين، و هو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ}۱و قد بدأت الآيات الشريفة و هي آيات القتال بالنهي عن الاعتداء و {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ} و ختمت بالأمر بالإحسان و {إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ}، و في ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى.
الجهاد الذي يأمر به القرآن
كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال و الصبر على كل أذى في سبيل الله
سبحانه و تعالى، كما قال سبحانه و تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}، إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ}۱، و قال تعالى: {وَ اِصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ}٢، و قال تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتَالُ}٣، و كان هذه الآية تشير إلى قوله سبحانه و تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ}٤.
ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة و من معهم بالخصوص كقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ}٥، و من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر و غيرها، و كذا قوله: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ}٦، و كذا قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ}۷.
و منها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: {قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ}۸.
و منها آيات القتال مع المشركين عامة، و هم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}٩، و كقوله تعالى: {قَاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}۱۰.
و منها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: {قَاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}۱۱.
و جملة الأمر أن القرآن يذكر أن الإسلام و دين التوحيد مبني على أساس الفطرة و هو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ
اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}۱، فإقامته و التحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}٢، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: {وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}٣، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه و حياة ذكره منوط بالدفاع، و نظيره قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ}٤ و قال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال: {لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ}٥، ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}٦، فسمى الجهاد و القتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، و معناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الإنسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية و موت الفطرة، و في القتال و هو دفاع عن حقها إعادة لحياتها و إحياؤها بعد الموت.
و من هناك يستشعر الفطن اللبيب: أنه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك و إخلاص الإيمان لله سبحانه و تعالى فإن هذا القتال الذي تذكره الآيات المذكورة إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله و رسوله و لا يدينون دين الحق فهم و إن كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، و الدفاع عن حق الإنسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.
و القرآن و إن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال، و هو القتال لإقامة الإخلاص في التوحيد قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ}۱، و أظهر منه قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}٢، و أصرح منه قوله تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}٣، فقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي} يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى: {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}، مع أنه تعالى يعد بعض الإيمان شركا، قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ}٤، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض و تخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.
و ربما يتوهم المتوهم أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ}، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض و إزالتهم عن مكانهم و وضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.
على أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}٥، - على ما سيجيء في محله - يشير إلى دعوة حقة، و نهضة دينية ستقع عن أمر إلهي و يؤيد أن هذه الواقعة الموعودة إنما تقع عن دعوة جهاد.
و بما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فإن دينهم إنما كان يعتمد في سيره و تقدمه على الدعوة، و الهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل و السبي و الغارات، و لذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف و الدم و آخرون بدين الإجبار و الإكراه!
و ذلك أن القرآن يبين أن الإسلام مبني على قضاء الفطرة الإنسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به و حكمت و دعت إليه، و هي تقضي بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية و الاجتماعية عليه، و أن الدفاع
عن هذا الأصل بنشره بين الناس و حفظه من الهلاك و الفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفاؤه بأي وسيلة ممكنة، و قد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة و الصبر على الأذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الإسلام و نفوس المسلمين و أعراضهم و أموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الإنسانية و كلمة التوحيد و لم يبدأ بشيء من القتال إلا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية، قال تعالى: {اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}۱، و الآية مطلقة، و قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}٢.
و أما ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الإنسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الأفراد بعد البيان و إقامة الحجة البالغة عليهم، و هذه طريقة دائرة بين الملل و الدول فإن المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت و لو انجر إلى القتال حتى يطيع و ينقاد طوعا أو كرها.
على أن الكره إنما يعيش و يدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم و التربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري و كلمة التوحيد طوعا.
و أما ما ذكروه: أن سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة و الهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح و هود و صالح (عليه السلام) فقد كان أحاط بهم القهر و السلطنة من كل جانب، و كذلك كان عيسى (عليه السلام) أيام إقامته بين الناس و اشتغاله بالدعوة و إنما انتشرت دعوته و قبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته و كان ذلك أيام طلوع الإسلام.
على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، و القرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ مَا ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكَانُوا وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلصَّابِرِينَ وَ مَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ إِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ اُنْصُرْنَا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ}٣، و قال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة:
{وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ}، إلى أن قال: {يَا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ لاَ تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} إلى أن قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}۱، و قال تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}٢، إلى آخر قصة طالوت و جالوت.
و قال تعالى في قصة سليمان و ملكة سبإ: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ} - إلى أن قال تعالى -: {اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَ هُمْ صَاغِرُونَ}٣، و لم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} إلخ، إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.
(بحث اجتماعي) في لزوم الدفاع في المجتمع
لا ريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الإنسان و سائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود و البقاء.
و كما أن الفطرة و الجبلة أعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود و البقاء كالإنسان يتصرف في الجماد و النبات و الحيوان حتى في الإنسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك و إن زاحم حقوق غيره من الحيوان و كمال غيره من النبات و الجماد، و كأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها و إذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، و الناموس ناموس التنازع في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده و بقاءه بالشعور و الحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة، و يذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرفه المذكور، و يدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون و الأنياب و المخالب و الأظلاف و الشوك و المنقار و غير ذلك، و بعضها الذي لم يتسلح بشيء من هذه الأسلحة الطبيعية القوية
تستريح إلى الفرار أو الاستتار أو الخمود كبعض الصيد و السلحفاة و بعض الحشرات، و بعضها الذي يقدر على إعمال الحيل و المكائد ربما أخذ بها في الدفاع كالقرد و الدب و الثعلب و أمثالها.
و الإنسان من بين الحيوان مسلح بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، و له فطرة كسائر الأنواع، و لفطرته قضاوة و حكم، و من حكمها أن للإنسان حقا في التصرف، و حقا في الدفاع عن حقه الفطري، و هذا الحق الذي يذعن به الإنسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة و المقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الإنساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما أوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه أن يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الإنسان إذا أحس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الأفراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة و الموافقة على التمدن و العدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه و يعدله الاجتماع بتعديله.
و من هنا يعلم: أن الإنسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام و الاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع و اعترف بأنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.
فكل قتال دفاع في الحقيقة، حتى أن الفاتحين من الملوك و المتغلبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية و لياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس و سفك الدماء و فساد الأرض و إهلاك الحرث و النسل.
فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الإنسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للإنسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهمية فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الإنسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق
الضائع المستنقذ في الأهمية الحيوية، و قد أثبت القرآن أن أهم حقوق الإنسانية هو التوحيد و القوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الإنساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنساني التي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم.
(بحث روائي)
في المجمع عن ابن عباس: في قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الآية)، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما خرج هو و أصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة و كانوا ألفا و أربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه و يعود العام القابل و يخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت و يفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي و أصحابه لعمرة القضاء و خافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدوهم عن البيت الحرام و يقاتلوهم، و كره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عن ابن عباس و غيره.
و في المجمع أيضا عن الربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله و يكف عمن كف عنه حتى نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية.
أقول: و هذا اجتهاد منهما و قد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه.
و في المجمع: في قوله تعالى: {وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (الآية)، نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه: أن الفتنة في الدين و هو الشرك أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان غير جائز.
أقول: و قد عرفت: أن ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة أنها نزلت دفعة واحدة.
و في الدر المنثور في قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الآية) بطرق عن قتادة، قال: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك و يكون الدين لله. قال: حتى يقال: لا إله إلا الله عليها قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و إليها دعا، و ذكر لنا: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول: إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى: يقولوا: لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، قال: و إن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله.
أقول: قوله و إن الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبي و هي استفادة حسنة، و روي نظير ذلك عن عكرمة.
و في الدر المنثور أيضا أخرج البخاري و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر: أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا و أنت ابن عمر و صاحب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: أ لم يقل الله: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة و كان الدين لله و أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة و يكون الدين لغير الله.
أقول: و قد أخطأ في معنى الفتنة و أخطأ السائلان، و قد مر بيانه، و إنما المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي و لا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه.
و في المجمع: في قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الآية)، قال أي شرك، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {اَلشَّهْرُ اَلْحَرَامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرَامِ} عن العلاء بن الفضيل، قال: سألته عن المشركين أ يبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلالهم، رأى المسلمون بما أنهم يظهرون عليهم فيه، و ذلك قوله: {اَلشَّهْرُ اَلْحَرَامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرَامِ وَ اَلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن جرير و النحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، و يغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ.
و في الكافي عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم فقال (عليه السلام): لا يقتل و لا يطعم و لا يسقى و لا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال (صلى الله عليه وآله و سلم) يقام عليه الحد في الحرم لأنه لم ير للحرم حرمة، و قد قال الله: عز و جل: {فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ} فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلا على الظالمين.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ}، قال: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن و لا وفق، أ ليس الله يقول: {وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ}، يعني المقتصدين!
و روى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، و من ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، و دخل في نهيه يقول الله: {وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ}.
و في الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران: قال كنا بالقسطنطينية، و على أهل مصر عقبة بن عامر، و على أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب، صاحب رسول الله: فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل و إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه و كثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله إن أموالنا قد ضاعت و أن الله قد أعز الإسلام و كثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه، يرد علينا ما قلنا: {وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة في الأموال و إصلاحها و تركنا
الغزو.
أقول: و اختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه: أن الآية مطلقة تشمل جانبي الإفراط و التفريط في الإنفاق جميعا بل تعم الإنفاق و غيره.
[سورة البقرة (٢): الآیات ١٩٦ الی ٢٠٣]
{وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لاَ تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ١٩٦اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَ لاَ فُسُوقَ وَ لاَ جِدَالَ فِي اَلْحَجِّ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزَّادِ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُونِ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ ١٩٧لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرَامِ وَ اُذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضَّالِّينَ ١٩٨ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ اَلنَّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٩٩فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا وَ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ٢٠٠وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ ٢٠١أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اَللَّهُ}
{سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٢٠٢وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٢٠٣}
(بيان)
نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، و فيها تشريع حج التمتع.
قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو، و يترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، و الكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، و كونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، و ربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلا فيه اهتماما بأمره و شأنه، و المراد بإتمام الحج و العمرة هو المعنى الأول الحقيقي، و الدليل عليه قوله تعالى بعده: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ} فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه و ضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع و لا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال و هو ظاهر.
و الحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.
و يبتدأ هذا العمل بالإحرام و الوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، و فيها التضحية بمنى و رمي الجمرات الثلاث و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة، و فيها أمور مفروضة أخر، و هو على ثلاثة أقسام: حج الإفراد، و حج القران، و حج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.
و العمرة عمل آخر و هو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة و التقصير، و هما أعني الحج، و العمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله و يدل عليه قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الآية).
قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لاَ تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ} إلخ، الإحصار هو الحبس و المنع، و المراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام و الاستيسار صيرورة الشيء يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، و الهدي هو ما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، و أصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، و الهدي و الهدية كالتمر و التمرة، و المراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} إلخ الفاء للتفريع، و تفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، و الإتيان بقوله:
{أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، و الصدقة، و النسك.
و قد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، و أن الصدقة إطعام ستة مساكين، و أن النسك شاة.
قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ}، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ}، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها و الإحلال إلى زمان الإهلال بالحج {فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ}، فالباء للسببية، و سببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء و الصيد و نحوهما من جهة تمامها بالإحلال.
قوله تعالى: {فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ}، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مئونة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.
فإن قيل: إن ترتب قوله: {فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ}، على قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدي واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك.
قلت: يدفعه قوله تعالى: {بِالْعُمْرَةِ}، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، و لا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة و عدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبرانا لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، و ظاهر الآية كون قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ} إخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبنى عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدي و قولنا تمتعوا و سوقوا الهدي، و أما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله: تعالى في ذيل الآية {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}.
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به و مكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، و هو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، و لذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله و إلا فعند الرجوع إلى وطنه، و ظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: {إِذَا رَجَعْتُمْ}، و لم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله {إِذَا رَجَعْتُمْ} لا يخلو عن إشعار بذلك.
قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أي الثلاثة و السبعة عشرة كاملة و في جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة و السبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام و الكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، و إنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.
قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}، أي الحكم المتقدم ذكره و هو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، و هو الذي بينه و بين المسجد الحرام
أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، و أهل الرجل خاصته: من زوجته و عياله، و التعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، و فيه إيماء إلى حكمة التشريع و هو التخفيف و التسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، و هو عمل لا يخلو من الكد و مقاساة التعب و وعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن و الراحة، و الإنسان إنما يسكن و يستريح عند أهله، و ليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج و الإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات.
و قد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ} إلخ، دون قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ}، و هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت و لا شخص دون شخص و لا حال دون حال.
قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ}، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله و كذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم و ألفته قلوبهم و قد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم و لذلك قابلوه بالإنكار و كان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، و لذلك اضطر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، و أنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى و التحذير عن عقاب الله سبحانه.
قوله تعالى: {اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ} إلى قوله: {فِي اَلْحَجِّ}، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم و قد بينته السنة و هي: شوال و ذو القعدة و ذو الحجة.
و كون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه
دون جميعه.
و في تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج و بالحج الثاني نفس العمل و بالثالث زمانه و مكانه، و لو لا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.
و فرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الآية)، و الرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، و الفسوق هو الخروج عن الطاعة، و الجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، و الفسوق بالكذب، و الجدال بقول لا و الله و بلى و الله.
قوله تعالى: {وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللَّهُ}، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، و دعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور و معنى العمل، و هذا دأب القرآن يبين أصول المعارف و يقص القصص و يذكر الشرائع و يشفع البيان في جميعها بالعظة و الوصية لئلا يفارق العلم العمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، و لذلك ختم هذه الدعوة بقوله: و اتقوني يا أولي الألباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام و الاقتراب و التعين.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}، هو نظير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللَّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ} إلى أن قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ اَلصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ}۱ فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، و لذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.
قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرَامِ} الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، و هي المزدلفة.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} إلخ أي و اذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم و أنكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ اَلنَّاسُ}، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس و إلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أن قريشا و حلفاءها و هم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة و كانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضه من حيث أفاض الناس و هو عرفات.
و على هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، و الكلام بمنزلة الاستدراك، و المعنى أن أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، و ربما قيل: إن في الآيتين تقديما و تأخيرا في التأليف، و الترتيب: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ اَلنَّاسُ} {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}.
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} إلى قوله: {ذِكْراً}، دعوة إلى ذكر الله و البلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آباءه و أشد منه لأن نعمته في حقه و هي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أعظم من حق آبائه عليه، و قد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم و النثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم، و أو في قوله {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}، للإضراب فتفيد معنى بل، و قد وصف الذكر بالشدة و هو أمر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية قال تعالى: {اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}۱، و قال تعالى: {وَ اَلذَّاكِرِينَ اَللَّهَ كَثِيراً}٢، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي و اللفظ حاك عنه، فيمكن أن يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ}٣، و أن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، و لما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى و نسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: {فَمِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا} إلخ تفريع على قوله
تعالى: {فَاذْكُرُوا اَللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}، و الناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آباءه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية و لا يطلب إلا الدنيا و لا شغل له بالآخرة، و من المؤمن الذي لا يريد إلا ما عند الله سبحانه، و لو أراد من الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، و على هذا فالمراد بالقول و الدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، و يكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا و لا نصيب له في الآخرة و منهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الآخرة و لهؤلاء نصيب في الآخرة.
و من هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، و ذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا و ما هو يتمتع به في الحياة الأرضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، و هذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا و ما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة و سيئة و لا يريد و لا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة.
و المقابلة بين قوله: {وَ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}، و قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى: {وَ قَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}۱، و قال تعالى: {وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ اَلدُّنْيَا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}٢ و قال تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً}٣.
قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ}، اسم من أسماء الله الحسنى، و إطلاقه يدل على شموله للدنيا و الآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا.
فالمحصل من معنى قوله: {فَمِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها و لا نصيب له في الآخرة، و منهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له و له نصيب من الآخرة و الله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب
بذكر الله و لا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آيسين.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، الأيام المعدودات هي أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر من ذي الحجة، و الدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، و الدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} إلخ، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة، يوم ينفر فيه، و يومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، و قد فسرت في الروايات بذلك أيضا.
قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى}، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاج و لم يقيد بشيء أصلا، و لو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أن من أتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، و من هنا يظهر: أن الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر و التعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال.
و أما قوله: {لِمَنِ اِتَّقى}، فليس بيانا للتعجل و التأخر و إلا لكان حق الكلام أن يقال: على من اتقى، بل الظاهر أن قوله: {لِمَنِ اِتَّقى} نظير قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} (الآية)، و المراد أن هذا الحكم لمن اتقى و أما من لم يتق فليس له، و من اللازم أن يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج و اختصه به فيئول المعنى أن الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الإحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب أن يقيم بمنى و يذكر الله في أيام معدودات، و قد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمة أهل البيت كما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام و تذكير بالحشر و البعث فإن التقوى لا تتم و المعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ}۱.
و في اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: {أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، مع ما في نسك
الحج من حشر الناس و جمعهم لطف ظاهر، و إشعار بأن الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع و الإفاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحدا.
(بحث روائي)
في التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، قال: هما مفروضان.
و في تفسير العياشي عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالوا: سألناهما عن قوله: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، قالا: فإن تمام الحج أن لا يرفث و لا يفسق و لا يجادل.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: يعني بتمامهما أداءهما، و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما.
أقول: و الروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الإتمام فإن فرضهما و أداءهما هو إتمامهما.
و في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجرة و صلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها و أهل بالحج و ساق مائة بدنة و أحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة و لا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة طاف بالبيت و طاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام و استلم الحجر، ثم قال: أبدأ بما بدأ الله عز و جل به فأتى الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا و المروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا و أمرهم أن يحلوا و يجعلوها عمرة، و هو شيء أمر الله عز و جل به فأحل الناس، و قال رسول الله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، و لم يكن يستطيع من أجل الهدي الذي معه، إن الله عز و جل يقول: {لاَ تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، قال سراقة بن جعثم الكناني: علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم، أ رأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكل عام؟ فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا بل للأبد، و إن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا و رءوسنا تقطر من نسائنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إنك لن تؤمن بها أبدا، قال: (عليه السلام): و أقبل علي (عليه السلام) من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلت و وجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مستفتيا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا علي بأي شيء أهللت؟ فقال بما أهل به النبي، فقال: لا تحل أنت فأشركه في الهدي و جعل له سبعا و ثلاثين و نحر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثا و ستين فنحرها بيده ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم أمر به فطبخ فأكل منه و حصا من المرق و قال (صلى الله عليه وآله و سلم) قد أكلنا الآن منه جميعا و المتعة خير من القارن السائق و خير من الحاج المفرد، قال: و سألته: ليلا أحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أم نهارا؟ فقال نهارا، فقلت: أي ساعة؟ قال: صلاة الظهر.
أقول: و قد روي هذا المعنى في المجمع و غيره.
و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فليس لأحد إلا أن يتمتع لأن الله أنزل ذلك في كتابه و جرت به السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ} شاة.
و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام): في المتمتع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية و يوم عرفة، قيل: فإنه قد قدم يوم التروية؟ قال: يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جماله؟ قال: يصوم يوم الحصبة و بعده يومين، قيل: و ما الحصبة؟ قال يوم نفرة، قيل يصوم و هو مسافر؟ قال: نعم أ ليس هو يوم عرفة مسافرا؟ إنا أهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي اَلْحَجِّ} يقول: في ذي الحجة. و روى الشيخ عن الصادق (عليه السلام) قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام، و ليس له متعة.
أقول: يعني أن ما دون المواقيت فساكنه يصدق عليه أنه من حاضري المسجد الحرام و ليس له متعة، و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمة أهل البيت.
و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، قال:
الحج أشهر معلومات شوال و ذو القعدة و ذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن.
و فيه عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ} إلخ، الفرض التلبية و الإشعار و التقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج.
و في الكافي عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} إلخ، الرفث الجماع، و الفسوق الكذب و السباب، و الجدال قول الرجل: لا و الله و بلى و الله.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم الآية يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه و قضى فليشتر و ليبع في الموسم.
أقول: و يقال: إنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآية.
و في المجمع و قيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن أبي جعفر (عليه السلام).
أقول: و فيه تمسك بإطلاق الفضل و تطبيقه بأفضل الأفراد.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ اَلنَّاسُ} (الآية)، قال: إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام و يقف الناس بعرفة و لا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة، و كان رجل يكنى أبا سيار و كان له حمار فاره، و كان يسبق أهل عرفة، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة و أن يفيضوا منه.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً}، قال: رضوان الله و الجنة في الآخرة، و السعة في الرزق و حسن الخلق في الدنيا.
و عنه (عليه السلام) قال: رضوان الله و التوسعة في المعيشة و حسن الصحبة، و في الآخرة الجنة.
و عن علي (عليه السلام): في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء، و عذاب النار امرأة السوء.
أقول: و الروايات من قبيل عد المصداق و الآية مطلقة، و لما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا و ظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الأولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (الآية)، قال: و هي أيام التشريق، و كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا و كذا، فقال الله جل شأنه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}، قال: و التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله و الله أكبر و لله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.
و فيه عنه (عليه السلام) قال: و التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و في الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات.
و في الفقيه في قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (الآية)، سئل الصادق (عليه السلام) في هذه الآية فقال: ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفورا له لا ذنب له.
و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) قال: يرجع مغفورا له لا ذنب له لمن اتقى.
و في الفقيه عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {لِمَنِ اِتَّقى} (الآية)، قال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى.
و عن الباقر (عليه السلام): لمن اتقى الرفث و الفسوق و الجدال و ما حرم الله في إحرامه.
و عنه أيضا: لمن اتقى الله عز و جل.
و عن الصادق (عليه السلام): لمن اتقى الكبائر.
أقول: قد عرفت ما يدل عليه الآية، و يمكن التمسك بعموم التقوى كما في
الروايتين الأخيرتين.
(بحث روائي آخر)[ في متعة الحج و عموم تشريعها]
في الدر المنثور أخرج البخاري و البيهقي عن ابن عباس: أنه سئل عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون و الأنصار و أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع و أهللنا فلما قدمنا مكة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت و بالصفا و المروة و أتينا النساء و لبسنا الثياب، و قال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت و بالصفا و المروة و قد تم حجنا و علينا الهدي كما قال الله: {فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أمصاركم و الشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج و العمرة فإن الله أنزله في كتابه و سنة نبيه و أباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}، و أشهر الحج التي ذكر الله: شوال و ذو القعدة و ذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، و الرفث الجماع، و الفسوق المعاصي، و الجدال المراء.
و في الدر المنثور أيضا أخرج البخاري و مسلم عن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج و أهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، و بدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي و منهم من لم يهد، فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه و من لم يكن أهدى فليطف بالبيت، و بالصفا و المروة و ليقصر و ليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله.
و في الدر المنثور أيضا أخرج الحاكم و صححه من طريق مجاهد و عطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى إذا لم يكن بيننا و بين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال، قلنا: أ يروح أحدنا إلى عرفة و فرجه يقطر منيا؟ فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال: أ بالله تعلمون أيها الناس؟ فأنا و الله أعلمكم بالله
و أتقاكم له و لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا و لحللت كما أحلوا، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله، و من وجد هديا فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه.
و في الدر المنثور أيضا أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله و فعلناها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج و لم ينه عنه حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.
أقول: و قد رويت الرواية بألفاظ أخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور.
و في صحيح مسلم و مسند أحمد و سنن النسائي عن مطرف، قال: بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم علي و إن مت فحدث بها عني إني قد سلم علي و أعلم أن نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد جمع بين حج و عمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله و لم ينه عنه نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء.
و في صحيح الترمذي أيضا و زاد المعاد لابن القيم: سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج، قال: هي حلال فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها فقال: أ رأيت إن كان أبي نهى و صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أ أمر أبي تتبع أم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال الرجل: بل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال لقد صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في صحيح الترمذي و سنن النسائي و سنن البيهقي و موطأ مالك و كتاب الأم للشافعي عن محمد بن عبد الله: أنه سمع سعد بن أبي وقاص و الضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان و هما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك قال سعد: قد صنعها رسول الله و صنعناها معه.
و في الدر المنثور أخرج البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى، قالقدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو بالبطحاء فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت و بالصفا و المروة
ثم حل فطفت بالبيت، و بالصفا و المروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي و غسلت رأسي فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر و إمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فأتموا فلما قدم قلت: ما ذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، و أن نأخذ بسنة نبينا (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يحل حتى نحر الهدي.
و في الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة و كان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسول الله ما شاء مما شاء و إن القرآن نزل منازله فأتموا الحج و العمرة كما أمركم الله و افصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم و أتم لعمرتكم.
و في مسند أحمد عن أبي موسى أن عمر قال: هي سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يعني المتعة و لكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا.
و في جمع الجوامع للسيوطي، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج و قال: فعلتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنا أنهى عنها و ذلك أن أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج و إنما شعثه و نصبه و تلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت و يحل و يلبس و يتطيب و يقع على أهله إن كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج و خرج إلى منى يلبي بحجه لا شعث فيها و لا نصب و لا تلبية إلا يوما و الحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم و بين هذا لعانقوهن تحت الأراك مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع و لا زرع و إنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم.
و في سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة و ابن عباس يأمر به، قال على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و مع أبي بكر فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذا الرسول و القرآن هذا القرآن و أنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما إحداهما متعة النساء و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا
غيبته بالحجارة و الأخرى متعة الحج. و في سنن النسائي، عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: و الله إني لأنهاكم عن المتعة و إنها لفي كتاب الله و لقد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، يعني العمرة في الحج.
و في الدر المنثور أخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة و كان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي (عليه السلام): لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: و لكنا كنا خائفين.
و في الدر المنثور أيضا أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي ذر: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة.
و في الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي ذر قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء و متعة الحج.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة جدا لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا و هو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهي ربما يبحث فيه من جهة كون ناهيه محقا أو معذورا فيه و عدم كونه كذلك، و هو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.
و ربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب و السنة، و هو سنخ بحثنا في هذا الكتاب.
فنقول: أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الآية) و أن التمتع مما كان مختصا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء و أن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج و العمرة كما أمركم الله، فقد عرفت: أن قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الآية) لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج و العمرة بعد فرضهما. و الدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} إلخ، و أما كون الآية دالة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحج، و أن عدم الفصل كان أمرا خاصا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة، أو به و بمن معه في تلك الحجة (حجة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد.
و فيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله و الله إني لأنهاكم عن المتعة إلى قوله: و لقد فعلها
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و أما الاستدلال عليه بأن في النهي أخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية أبي موسى من قوله: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: و أتموا الحج و العمرة لله و إن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدي انتهى، فقد عرفت أن الكتاب يدل على خلافه، و أما إن ترك التمتع سنة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكونه لم يحل حتى نحر الهدي ففيه:
أولا: أنه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الأخر التي مر بعضها آنفا.
و ثانيا: أن الروايات ناصة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)صنعها، و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أهل بالعمرة و أهل ثانيا بالحج، و أنه خطب و قال: أ بالله تعلمون أيها الناس، و من عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية أن حج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)كان حج قران و أن المتعة كانت تطلق على حج القران!
و ثالثا: أن مجرد عدم حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ليس إحراما للحج و لا يثبت به ذلك، و الآية أيضا تدل على أن سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة.
و رابعا: هب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أتى بغير التمتع لكنه أمر جميع أصحابه و من معه بالتمتع، و كيف يمكن أن يعد ما شأنه هذا سنته؟ و هل يمكن أن يتحقق أمر خص به رسول الله نفسه و يأمر أمته بغيره و ينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس؟
و أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج و يورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء و استعمال الطيب و لبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحمد عن أبي موسى: من قوله: و لكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا انتهى، و كما في بعض الروايات: قد علمت أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فعله و أصحابه و لكني كرهت أن يعرسوا بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم انتهى، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص و قد نص الله و رسوله على الحكم، و الله و رسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه و يكرهه! و من أعجب
الأمر أن الآية التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه و يكرهه فقد قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ}، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع و الالتذاذ بطيبات النكاح و اللباس و غيرهما؟ و هو الذي كان يخشاه و يكرهه!
و أعجب منه: أن الأصحاب قد اعترضوا على الله و رسوله حين نزول الآية! و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور، عن الحاكم عن جابر قلنا: أ يروح أحدنا إلى عرفة و فرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقام خطيبا و رد عليهم قولهم و أمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا.
و أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي، عن سعيد بن المسيب: من قوله: مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع و لا زرع و إنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم انتهى.
ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على أن الله سبحانه يرد عليه في نظير المسألة بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}۱.
و أما الاستدلال عليه بأن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور، عن مسلم عن عبد الله بن شقيق: من قول عثمان لعلي (عليه السلام) و لكنا كنا خائفين انتهى، و قد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها الناس و الله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتى يذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج و يهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج الحديث.
ففيه: أن الآية مطلقة تشمل الخائف و غيره فقد عرفت أن الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} (الآية) دون
قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ} (الآية).
على أن جميع الروايات ناصة في أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أتى بحجه تمتعا، و أنه أهل بإهلالين للعمرة و الحج.
و أما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في روايتي الدر المنثور، عن أبي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان و ابن الزبير فقد عرفت جوابه، و إن كان المراد أنه كان حكما خاصا لأصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه أنه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} (الآية).
على أن إنكار بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لذلك الحكم و تركهم له كعمر و عثمان و ابن الزبير و أبي موسى و معاوية (و روي أن منهم أبا بكر) ينافي ذلك! و أما الاستدلال عليه بالولاية و أنه إنما نهى عنه بحق ولايته الأمر و قد فرض الله طاعة أولي الأمر إذ قال {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}۱، ففيه أن الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.
بيان ذلك: أن الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى: {اِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}٢، و ما بينه رسول الله مما شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: {وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ}٣ و قوله تعالى: {مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}٤، فالمراد بالإيتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: و ما نهيكم عنه، فيجب إطاعة الله و رسوله بامتثال الأوامر و انتهاء النواهي، و كذلك الحكم و القضاء كما قال تعالى: {وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ}٥، و في موضع آخر {فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ}٦، و في موضع آخر {فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ}۷، و قال تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً}۸، و قال: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ}٩، فإن المراد بالاختيار هو القضاء و التشريع أو ما يعم ذلك، و قد نص القرآن على أنه
كتاب غير منسوخ و أن الأحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}۱، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله و رسوله أو قضى به الله و رسوله يجب اتباعه على الأمة، أولي الأمر فمن دونهم.
و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} إنما يجعل لأولي الأمر حق الطاعة في غير الأحكام فهم و من دونهم من الأمة سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله و رسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة أولي الأمر إنما هو ما يأمرون به و ينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.
فكما أن الواحد من الناس له أن يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الأكل له من مال نفسه و له أن يبيع و يشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا، و له أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، و له أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، و ليس له أن يشرب الخمر، و لا له أن يأخذ الربا، و لا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه و إن رأى صلاح نفسه في ذلك لأن ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الأمر له أن يتصرف في الأمور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الأحكام الإلهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حينا، و يمسك عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الإنفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.
و بالجملة كل ما للواحد من المسلمين أن يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الأمر من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.
و لو جاز لولي الأمر أن يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، و لم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة
معنى البتة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إن حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك و العبادة من الناسك فيلزم تركه، و بين أن يقول القائل: إن إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم إهمالها، أو إن إجراء الحدود مما لا تهضمه الإنسانية الراقية اليوم، و القوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟
و قد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور: أخرج إسحاق بن راعويه في مسنده، و أحمد عن الحسن: أن عمر بن الخطاب هم أن ينهى عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله و اعتمرنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزل عمر.
[سورة البقرة (٢): الآیات ٢٠٤ الی ٢٠٧]
{وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يُشْهِدُ اَللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصَامِ ٢٠٤وَ إِذَا تَوَلَّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْفَسَادَ ٢٠٥وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللَّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهَادُ ٢٠٦وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبَادِ ٢٠٧}
(بيان)
تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أن الآيات السابقة أعني قوله تعالى: {فَمِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي اَلدُّنْيَا} إلخ، تشتمل على تقسيم لهم غير أن تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، و هذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق و الخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.
قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلخ، أعجبه الشيء
أي راقه و سره، و قوله: {فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} متعلق بقوله: {يُعْجِبُكَ}، أي إن الإعجاب في الدنيا من جهة أن هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلا على الظاهر، و أما الباطن و السريرة فتحت الستر و وراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان و هو متعلق الحياة بالدنيا إلا أن يستكشف شيئا من أمر الباطن من طريق الآثار و يناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: {وَ يُشْهِدُ اَللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ}، و المعنى أنه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، و العناية بصلاح الخلق، و تقدم الدين و الأمة و هو أشد الخصماء للحق خصومة و قوله: {أَلَدُّ}، أفعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة، و الخصام جمع خصم كصعب و صعاب و كعب و كعاب، و قيل: الخصام مصدر، و معنى ألد الخصام أشد خصومة.
قوله تعالى: {وَ إِذَا تَوَلَّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} إلخ، التولي هو تملك الولاية و السلطان، و يؤيده قوله تعالى في الآية التالية: {أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}، الدال على أن له عزة مكتسبة بالإثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، و السعي هو العمل و الإسراع في المشي، فالمعنى و إذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل و أوتي سلطانا و تولى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، و يمكن أن يكون التولي بمعنى الإعراض عن المخاطبة و المواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، و تبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح و الخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد و الإفساد.
قوله تعالى: {وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ}، ظاهره أنه بيان لقوله تعالى: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} أي يفسد فيها بإهلاك الحرث و النسل، و لما كان قوام النوع الإنساني من حيث الحياة و البقاء بالتغذي و التوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أما التوليد فظاهر، و أما التغذي فإنما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان و النبات، و الحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل و يستحفظ بالحرث و هو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث و النسل فالمعنى أنه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان و إبادة هذا النوع بإهلاك الحرث و النسل.
قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْفَسَادَ} المراد، بالفساد ليس ما هو فساد في الكون
و الوجود (الفساد التكويني) فإن النشأة نشأة الكون و الفساد، و عالم التنازع في البقاء و لا كون إلا بفساد، و لا حياة إلا بموت، و هما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، و حاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدره و قاضيه.
و إنما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله إنما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم و ملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانية و الجامعة البشرية، و عند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا و حياتهم في الآخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، و تغيير حكم الله عما هو عليه، و التصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الأخلاق و اختلاف الكلمة، و في ذلك موت الدين، و فناء الإنسانية، و فساد الدنيا، و قد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال و ركوبهم أكتاف هذه الأمة الإسلامية، و تصرفهم في أمر الدين و الدنيا بما لم يستعقب للدين إلا وبالا، و للمسلمين إلا انحطاطا، و للأمة إلا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، و لا الإنسانية إلا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، و ذلك بهلاك الدين أولا، و هلاك الإنسانية ثانيا، و لهذا فسر قوله و يهلك الحرث و النسل في بعض الروايات بهلاك الدين و الإنسانية كما سيأتي إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللَّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهَادُ}، العزة معروفة، و المهاد الوطاء، و الظاهر أن قوله: {بِالْإِثْمِ} متعلق بالعزة، و المعنى أنه إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة الظاهرة التي اكتسبها بالإثم و النفاق المستبطن في نفسه، و ذلك أن العزة المطلقة إنما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: {تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}۱ و قال تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ}٢ و قال تعالى: {أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}٣.
و حاشا أن ينسب تعالى شيئا إلى نفسه و يختصه بإعطائه ثم يستعقب إثما أو شرا فهذه العزة إنما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزة بحسب ظاهر الحياة الدنيا
لا عزة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.
و من هنا يظهر أن قوله: {بِالْإِثْمِ} ليس متعلقا بقوله: {أَخَذَتْهُ}، بأن يكون الباء للتعدية، و المعنى حملته العزة على الإثم و رد الأمر بالتقوى، و تجيبه الأمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببية، و المعنى ظهرت فيه العزة و المناعة بسبب الإثم الذي اكتسبه، و ذلك أن إطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية و تسميته بالعزة يستلزم إمضاءها و التصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية و ليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالإثم.
و أما قوله تعالى: {بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}۱ فليس من قبيل التسمية و الإمضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ} إلخ، فهي هناك عزة صورية غير باقية و لا أصيلة.
قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اَللَّهِ} إلخ، مقابلته مع قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} إلخ، يفيد أن الوصف مقابل الوصف أي كما أن المراد من قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ}، بيان أن هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالإصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين و الإنسانية إلا الفساد و الهلاك كذلك المراد من قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} إلخ، بيان أن هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه و لا اعتزاز له إلا بربه و لا ابتغاء له إلا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين و الدنيا، و يحيى به الحق، و يطيب به عيش الإنسانية، و يدر به ضرع الإسلام، و بذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبَادِ}، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق و الإفساد لانهدمت أركان الدين، و لم تستقر من بناء الصلاح و الرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق و يتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى:
{وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ}٢ و قال تعالى:
{وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً}۱ و قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}٢ فالفساد الطارئ على الدين و الدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، و لا هوى له إلا في ربه، و إصلاح الأرض و من عليها، و قد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}٣ إلى غير ذلك من الآيات.
(بحث روائي)
في الدر المنثور عن السدي في قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} (الآية)، أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة و قال: جئت أريد الإسلام -و يعلم الله إني لصادق فأعجب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذلك منه فذلك قوله تعالى: {وَ يُشْهِدُ اَللَّهَ عَلىََ مَا فِي قَلْبِهِ}، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين و حمر فأحرق الزرع و عقر الحمر فأنزل الله: {وَ إِذَا تَوَلَّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ} (الآية).
و في المجمع، عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنه يظهر خلاف ما يبطن، قال: و هو المروي عن الصادق (عليه السلام).
أقول: و لكنه غير منطبق على ظاهر الآيات. و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت أنها من الآيات النازلة في أعدائهم.
و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ} أن المراد بالحرث هاهنا الدين، و النسل الإنسان.
أقول: و قد مر بيانه، و قد روي: أن المراد بالحرث الذرية و الزرع، و الأمر في التطبيق سهل.
و في أمالي الشيخ، عن علي بن الحسين (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ} (الآية)، قال: نزلت في علي (عليه السلام) حين بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين أنها نزلت في شأن ليلة الفراش، و رواه في تفسير البرهان، بخمس طرق عن الثعلبي و غيره.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا و لا مال لك و تخرج أنت و مالك، و الله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أ رأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ربح البيع صهيب مرتين.
أقول: و رواه بطرق أخرى في بعضها و نزلت: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} (الآية)، و في بعضها نزلت في صهيب و أبي ذر بشرائهما أنفسهما بأموالهما و قد مر أن الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء.
و في المجمع عن علي (عليه السلام): أن المراد بالآية الرجل يقتل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
أقول: و هو بيان لعموم الآية و لا ينافي كون النزول لشأن خاص.
[سورة البقرة (٢): الآیات ٢٠٨ الی ٢١٠]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢٠٨فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ اَلْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٠٩هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٢١٠}
(بيان)
هذه الآيات و هي قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ} (الآية) سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الإنسانية و هو الدخول في السلم و القصر على ما ذكره الله من القول و ما أراه من طريق العمل، و أنه لم ينفصم وحدة الدين، و لا ارتحلت سعادة الدارين، و لا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم، و التصرف في آيات الله تعالى بتغييرها و وضعها في غير موضعها، شوهد ذلك في بني إسرائيل و غيرهم من الأمم الغابرة و سيجري نظيرها في هذه الأمة لكن الله يعدهم بالنصر: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ}.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً}، السلم و الإسلام و التسليم واحدة، و كافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا، و لما كان الخطاب للمؤمنين و قد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو أمر متعلق بالمجموع و بكل واحد من أجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، و يجب على الجميع أيضا أن لا يختلفوا في ذلك و يسلموا الأمر لله و لرسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و أيضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الإيمان به فيجب على المؤمنين أن يسلموا الأمر إليه، و لا يذعنوا لأنفسهم صلاحا باستبداد من الرأي، و لا يضعوا لأنفسهم من عند أنفسهم طريقا يسلكونه من دون أن يبينه الله و رسوله، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى و القول بغير العلم، و لم يسلب حق الحياة و سعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف.
و من هنا ظهر: أن المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق و يسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الإنسان من غير علم، و علامة ذلك عدم ذكر الله و رسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية.
و خصوصيات سياق الكلام و قيوده تدل على ذلك أيضا: فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك، و إذا كان سالكه هو المؤمن، و طريقه إنما هو طريق الإيمان فهو طريق شيطاني في الإيمان، و إذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم
فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، و اتباعه اتباع خطوات الشيطان.
فالآية نظيرة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي اَلْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشَاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}۱ و قد مر الكلام في الآية، و قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ}٢، و قوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}٣، و الفرق بين هذه الآية و بين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى: {كَافَّةً} بخلاف تلك الآيات فهي عامة، فهذه الآية في معنى قوله تعالى: {وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا}٤، و قوله تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}٥، و يستفاد من الآية أن الإسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الأحكام و المعارف التي فيه صلاح الناس.
قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ اَلْبَيِّنَاتُ}، الزلة هي العثرة، و المعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة و زللتم و الزلة هي اتباع خطوات الشيطان فاعلموا أن الله عزيز غير مغلوب في أمره، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، و يجريه فيكم من غير أن يمنع عنه مانع.
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ}، إلخ، الظلل جمع ظلة و هي ما يستظل به، و ظاهر الآية أن الملائكة عطف على لفظ الجلالة، و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة و تبديل خطابهم بخطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما أوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان و الاختلاف و التمزق، و ذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام و الملائكة، و يقضي الأمر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبأ بهم و بما يقعون فيه من الهلاك، و إلى الله ترجع الأمور، فلا مفر من حكمه و قضائه، فالسياق يقتضي أن يكون قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ}، هو الوعيد الذي أوعدهم به في قوله
تعالى في الآية السابقة {فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب و السنة أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بصفة الأجسام، و لا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، و يلازم الفقر و الحاجة و النقص، فقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}۱، و قال تعالى: {وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}٢، و قال تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}٣، إلى غير ذلك من الآيات، و هي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات و ظاهرها إسناد شيء من الصفات أو الأفعال الحادثة إليه تعالى ينبغي أن يرجع إليها، و يفهم منها معنى من المعاني لا ينافي صفاته العليا و أسماءه الحسنى تبارك و تعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجيء أو الإتيان إليه تعالى كقوله تعالى: {وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}٤، و قوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}٥، و قوله تعالى: {فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ اَلْقَوَاعِدِ}٦، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست أسماؤه كالإحاطة و نحوها و لو مجازا، و على هذا فالمراد بالإتيان في قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ} الإحاطة بهم للقضاء في حقهم.
على أنا نجده سبحانه و تعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب و فعلا من الأفعال عن استقلال الأسباب و وساطة الأوساط فربما نسبها إلى نفسه و ربما نسبها إلى أمره كقوله تعالى: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ}۷، و قوله تعالى: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ}۸، و قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}٩، فنسب التوفي تارة إلى نفسه، و تارة إلى الملائكة ثم قال تعالى: في أمر الملائكة: {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}۱۰، و كذلك قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ}۱۱، و قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ}۱٢، و كما في هذه الآية: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ} (الآية)، و قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}۱٣.
و هذا يوجب صحة تقدير الأمر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: {جَاءَ رَبُّكَ}، و {يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ}، فالتقدير جاء أمر ربك و يأتيهم أمر الله.
فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق و ألطف من ذلك، و ذلك أن أمثال قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}۱، و قوله تعالى: {اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ}٢، و قوله تعالى {أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}٣، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة و شئونها و أطوارها، مليء بما يهبه و يجود به و إن كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة و أحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات و نسبته إليه تعالى، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة و أوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص و الحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا و حاجة لتجريده عنه صح إسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لأن كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه و عظمته.
فالمجيء و الإتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه و بين جسم آخر بالحركة و اقترابه منه إذا جرد عن خصوصية المادة كان هو حصول القرب، و ارتفاع المانع و الحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، و حينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز: فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم و بين قضائه فيهم، و هذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الأبحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير، و ركوبها كل سهل و وعر، و إثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الأصيلة.
و كيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة: {أَنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، و من الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}٤، و من الممكن أن يكون وعيدا بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ}٥، و ما في سورة الروم بعد قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}٦، و ما في سورة الأنبياء و غيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة و ظهور تام لما في هذه الدنيا، و من الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا و الآخرة معا، و كيف كان فقوله {فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ} يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.
قوله تعالى: {وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ}، السكوت عن ذكر فاعل القضاء، و هو الله سبحانه كما يدل عليه قوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ}، لإظهار الكبرياء على ما يفعله الأعاظم في الأخبار عن وقوع أحكامهم و صدور أوامرهم و هو كثير في القرآن.
(بحث روائي)
قد تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي اَلْأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} (الآية) عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع، و في بعض الروايات أن السلم هو الولاية و هو من الجري على ما مر مرارا في نظائره.
و في التوحيد و المعاني عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ} قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام - و هكذا نزلت، و عن قول الله عز و جل. {وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} قال: إن الله عز و جل لا يوصف بالمجيء و الذهاب، تعالى عن الانتقال و إنما يعني به و جاء أمر ربك و الملك صفا صفا.
أقول: قوله (عليه السلام) يقول هل ينظرون، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية و ليس من قبيل القراءة.
و المعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى إتيان أمره فإن الملائكة إنما تعمل ما تعمل و تنزل حين تنزل بالأمر، قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}۱، و قال تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}٢.
و هاهنا معنى آخر احتمله بعضهم و هو أن يكون الاستفهام الإنكاري في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ} إلخ، لإنكار مجموع الجملة لا لإنكار المدخول فقط، و المعنى أن هؤلاء لا ينتظرون إلا أمرا محالا و هو: {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ} كما يأتي الجسم إلى الجسم و يأتي معه الملائكة فيأمرهم و ينهاهم و هو محال، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ و التنبيهات، و فيه: أنه لا يلائم ما مر: أن الآيات
ذات سياق واحد و لازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين، و المؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على أن الكلام لو كان مسوقا لإفادة ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً}۱، و قوله تعالى: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ}٢.
على أنه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: {فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ}، و لا نكتة ظاهرة لبقية الكلام و هو ظاهر.
(بحث روائي آخر)[ في الرجعة و دفع شبهة المنكرين لها]
اعلم أنه ورد عن أئمة أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام)، و تفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق (عليه السلام)، و تفسيرها بظهور المهدي (عليه السلام) كما رواه العياشي في تفسيره، عن الباقر (عليه السلام) بطريقين.
و نظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمة أهل البيت تارة بالقيامة و أخرى بالرجعة و ثالثة بالظهور، و ليس ذلك إلا لوحدة و سنخية بين هذه المعاني، و الناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة و لم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات، فمنهم من طرح هذه الروايات، و هي مات و ربما زادت على خمسمائة رواية في أبواب متفرقة، و منهم من أولها على ظهورها و صراحتها، و منهم و هم أمثل طريقة من ينقلها و يقف عليها من غير بحث.
و غير الشيعة و هم عامة المسلمين و إن أذعنوا بظهور المهدي و رووه بطرق متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكنهم أنكروا الرجعة و عدوا القول بها من مختصات الشيعة، و ربما لحق بهم في هذه الأعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، و عد ذلك من الدس الذي عمله اليهود و بعض المتظاهرين بالإسلام كعبد الله بن سبإ و أصحابه، و بعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال: ما حاصله: أن الموت بحسب العناية الإلهية
لا يطرأ على حي حتى يستكمل كمال الحياة و يخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة و هو بالفعل، هذا محال إلا أن يخبر به مخبر صادق و هو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى و عيسى و إبراهيم (عليه السلام) و غيرهم. و لم يرد منه تعالى و لا منهم في أمر الرجعة شيء و ما يتمسك به المثبتون غير تام، ثم أخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة و لا سقيمة، هذا.
و لم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثناء و لم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا، و أن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا و لو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين، و أن كل صادق فهو بعينه كاذب.
و ما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى و رجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، و هو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها. و أما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا، فإن من الجائز أن يستعد الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال و تمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.
و أما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه: أن الروايات متواترة معنى عن أئمة أهل البيت، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة و أئمتهم من لدن الصدر الأول، و التواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة و المناقشة، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، و الروايات الواردة فيها تامة الدلالة قابلة الاعتماد، و سيجيء التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: {وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً
مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا}۱ و غيره من الآيات.
على أن الآيات بنحو الإجمال دالة عليها كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}٢، و من الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الأموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم و موسى و عيسى و عزير و أرميا و غيرهم، و قد قال رسول الله فيما رواه الفريقان: و الذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم و لا يخطئكم سنن بني إسرائيل.
على أن هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان، و قد أثبتها النقلة و الرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا و كتابة على الوقوع بقرون و أزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة و نقيصة فلنحقق صحة جميعها و صدق جميع مضامينها.
و لنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه و هو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة، و بالرجعة أو الظهور تارة أخرى، فنقول: الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من أوصاف يوم القيامة و نعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب و لا شاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الأوهام و يظهر فيه آياته كمال الظهور و هذا يوم لا يبطل وجوده و تحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية و وجودها فلا شيء يدل على ذلك من كتاب و سنة بل الأمر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب و السنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم و زوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم.
و لا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا و نشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضا كما أن النشأة البرزخية و هي ثابتة الآن للأموات منا لا تدفع الدنيا، و لا الدنيا تدفعها قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}٣.
فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، و لذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الأسباب عن
توهم الميت، فعن علي (عليه السلام): من مات قامت قيامته، و سيجيء بيان الجميع إن شاء الله.
و الروايات المثبتة للرجعة و إن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد و هو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور، فلا يعصى فيه سبحانه و تعالى بل يعبد عبادة خالصة، لا يشوبها هوى نفس، و لا يعتريه إغواء الشيطان، و يعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى و أعدائه إلى الدنيا، و يفصل الحق من الباطل.
و هذا يفيد: أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، و إن كان دونه في الظهور لإمكان الشر و الفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، و لذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي (عليه السلام) أيضا لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور و إن كان هو أيضا دون الرجعة، و قد ورد عن أئمة أهل البيت: أيام الله ثلاثة: يوم الظهور و يوم الكرة و يوم القيامة،
و في بعضها: أيام الله ثلاثة: يوم الموت و يوم الكرة و يوم القيامة، و هذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة، و الاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم (عليه السلام) بعض الآيات بالقيامة تارة و بالرجعة أخرى و بالظهور ثالثة، و قد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، و لا دليل مع المنكر يدل على نفيه.
[سورة البقرة (٢): الآیات ٢١١ الی ٢١٢]
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٢١١زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٢١٢}
(بيان)
قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ} إلخ تثبيت و تأكيد و اشتمل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ اَلْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الآية) ، من الوعيد بأخذ المخالفين أخذ عزيز مقتدر.
يقول: هذه بنو إسرائيل في مرءاكم و منظركم و هي الأمة التي آتاهم الله الكتاب و الحكم و النبوة و الملك، و رزقهم من الطيبات، و فضلهم على العالمين، سلهم كم آتيناهم من آية بينة؟ و انظر في أمرهم من أين بدءوا و إلى أين كان مصيرهم؟ حرفوا الكلم عن مواضعه، و وضعوا في قبال الله و كتابه و آياته أمورا من عند أنفسهم بغيا بعد العلم، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الأنداد، و الاختلاف و تشتت الآراء، و أكل بعضهم بعضا، و ذهاب السؤدد، و فناء السعادة، و عذاب الذلة و المسكنة في الدنيا، و لعذاب الآخرة أخزى و هم لا ينصرون.
و هذه هي السنة الجارية من الله سبحانه: من يبدل نعمة و أخرجها إلى غير مجراها فإن الله يعاقبه، و الله شديد العقاب، و على هذا فقوله: {وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللَّهِ} إلى قوله {اَلْعِقَابِ} من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم، سنة جارية.
قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا}، في موضع التعليل لما مر، و أن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فإنها إذا زينت لإنسان دعته إلى هوى النفس و شهواتها، و أنست كل حق و حقيقة، فلا يريد الإنسان إلا نيلها: من جاه و مقام و مال و زينة، فلا يلبث دون أن يستخدم كل شيء لأجلها و في سبيلها، و من ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات و التعينات، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء و الرؤساء و ما يلائم سوددهم و رئاستهم، و تقرب التبعة و المقلدة المرءوسين و ما يجلب به تمايل رؤسائهم و ساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم، و كنا شاهدناه في بني إسرائيل من قبل، و ظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من أن يكون كفرا اصطلاحيا أو كفرا مطلقا في مقابل الإيمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية، و غير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة
الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إلخ، تبديل الإيمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الإيمان لا ينفع وحده لو لا العمل.
[سورة البقرة (٢): آیة ٢١٣ ]
{كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٢١٣}
(بيان) [فيما يفيده القرآن في حقيقة الإنسان و تاريخ نوعه]
الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين و تكليف النوع الإنساني به، و سبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: أن الإنسان و هو نوع مفطور على الاجتماع و التعاون كان في أول اجتماعه أمة واحدة، ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، و المشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، و شفعت بالتبشير و الإنذار: بالثواب و العقاب، و أصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، و إرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدإ و المعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، و ظهرت الشعوب و الأحزاب، و تبع ذلك الاختلاف في غيره، و لم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، و ظلما و عتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله و معارفه، و تمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم و غريزتهم، و اختلاف في أمر الدنيا و هو فطري و سبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، و الله يهدي
من يشاء إلى صراط مستقيم.
فالدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني، و المصلح لأمر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة و يعدل قواها المختلفة عند طغيانها، و ينظم للإنسان سلك حياته الدنيوية و الأخروية، و المادية و المعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع (الحياة الاجتماعية و الدينية) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.
و قد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شئون مختلفة.
(بدء تكوين الإنسان)
و محصل ما تبينه تلك الآيات على تفرقها أن النوع الإنساني و لا كل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الإنسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره: حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض و ما عليها و السماء و لا إنسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع و إليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ}۱، و قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}٢، و قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}٣، و أما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الأنواع و أن الإنسان مشتق من القرد، و عليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية، و الفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني و إنما توضع لتصحيح التعليلات و البيانات العلمية، و لا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى الإمكانات الذهنية، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار و الأحكام المربوطة بموضوع البحث، و سنستوعب هذا البحث إن شاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}٤.
(تركبّه من روح و بدن)
و قد أنشأ الله سبحانه هذا النوع، حين ما أنشأ مركبا من جزءين و مؤلفا من جوهرين، مادة بدنية، و جوهر مجرد هي النفس و الروح، و هما متلازمان و متصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن و يفارقه الروح الحية، ثم يرجع الإنسان إلى الله سبحانه قال تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}۱، (انظر إلى موضع) قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} و في هذا المعنى قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}٢، و أوضح من الجميع قوله سبحانه {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}٣، فإنه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرق الأعضاء و الأجزاء و استهلاكها في الأرض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفاهم و يضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضل في الأرض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة و لا فائتة و لا مستهلكة، و سيجيء إن شاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الإنساني في المحل المناسب له.
(شعوره الحقيقي و ارتباطه بالأشياء)
و قد خلق الله سبحانه هذا النوع، و أودع فيه الشعور، و ركب فيه السمع و البصر و الفؤاد ففيه قوة الإدراك و الفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث و ما هو موجود في الحال و ما كان و ما سيكون و يئول إليه أمر الحدوث و الوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: {عَلَّمَ اَلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}٤، و قال تعالى: {وَ اَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ
وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ}۱، و قال تعالى {وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}٢ و قد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء، و يستطيع الانتفاع من كل أمر، أعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة و أداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، و سلوكه في مسالكه الفكرية، قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً}٣، و قال تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}٤، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.
(علومه العملية)
و أنتجت هاتان العنايتان: أعني قوة الفكر و الإدراك و رابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة و هي أن يهيئ لنفسه علوما و إدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الأشياء و فعلية التأثير و الفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده و بقائه.
توضيح ذلك: أنك إذا خليت ذهنك و أقبلت به على الإنسان، هذا الموجود الأرضي الفعال بالفكر و الإرادة، و اعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده و تقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه أنه في أفعاله الحيوية يوسط إدراكات و أفكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها و اتساع أطرافها و تشتت جهاتها العقل، و هي علوم كانت العوامل في حصولها و اجتماعها و تجزيها و تركبها الحواس الظاهرة و الباطنة من الإنسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، و هذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه و من غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه و إيقاظ.
ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم و الإدراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لأن يتوسط بين الإنسان و بين أفعاله الإرادية كمفاهيم الأرض و السماء و الماء و الهواء و الإنسان و الفرس و نحو ذلك من التصورات، و كمعاني قولنا: الأربعة زوج، و الماء جسم سيال و التفاح أحد الثمرات، و غير ذلك من التصديقات، و هي علوم و إدراكات تحققت عندنا من الفعل و الانفعال الحاصل بين المادة الخارجية و بين حواسنا و أدواتنا الإدراكية، و نظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا و حضورها لدينا
(ما نحكي عنه بلفظ أنا)، و الكليات الآخر المعقولة، فهذه العلوم و الإدراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إرادة و لا صدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.
و هناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا و قبحا و ما ينبغي أن يفعل و ما يجب أن يترك، و الخير يجب رعايته، و العدل حسن، و الظلم قبيح و مثل مفاهيم الرئاسة و المرءوسية، و العبدية و المولوية فهذه سلسلة من الأفكار و الإدراكات لا هم لنا إلا أن نشتغل بها و نستعملها و لا يتم فعل من الأفعال الإرادية إلا بتوسيطها و التوسل بها لاقتناء الكمال و حيازة مزايا الحياة.
و هي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا و عن أفهامنا كما كان الأمر كذلك في القسم الأول فهي علوم و إدراكات غير خارجة عن محوطة العمل و لا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن و ألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، و جهازاتنا العاملة للفعل و العمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، و نفورها عما لا يلائمها يوجب حدوث صور من الإحساسات: كالحب و البغض، و الشوق و الميل و الرغبة، ثم هذه الصور الإحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم و الإدراكات من معنى الحسن و القبح، و ينبغي و لا ينبغي، و يجب و يجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا و بين المادة الخارجية و فعلنا المتعلق بها يتم لنا الأمر، فقد تبين أن لنا علوما و إدراكات لا قيمة لها إلا العمل، (و هي المسماة بالعلوم العملية) و لاستيفاء البحث عنها محل آخر.
و الله سبحانه ألهمها الإنسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، و الأخذ بالتصرف في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: {اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}۱ و قال تعالى: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى}٢ و هذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، و سوق له إلى الفعل و العمل لحفظ وجوده و بقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.
و قال تعالى في الإنسان خاصة: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا}٣ فأفاد أن الفجور و التقوى معلومان للإنسان بإلهام فطري منه تعالى، و هما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه و ما لا ينبغي، و هي العلوم العملية التي لا اعتبار
لها خارجة عن النفس الإنسانية، و لعله إليه الإشارة بإضافة الفجور و التقوى إلى النفس.
و قال تعالى: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}۱، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا: من جاه و مال و تقدم و تأخر و رئاسة و مرءوسية و غير ذلك إنما هي أمور خيالية لا واقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى أن الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الإنسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الإنسان و أحواله.
فالموجود بحسب الواقع من الإنسان الرئيس إنسانيته، و أما رئاسته فإنما هي في الوهم، و من الثوب المملوك الثوب مثلا، و أما إنه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن، و على هذا القياس.
(جريه على استخدام غيره انتفاعا)
فهذه السلسلة من العلوم و الإدراكات هي التي تربط الإنسان بالعمل في المادة، و من جملة هذه الأفكار و التصديقات تصديق الإنسان بأنه يجب أن يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، و بعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، و يستبقي حياته بأي سبب أمكن و بذلك يأخذ في التصرف في المادة، و يعمل آلات من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، و استخدام الإبرة للخياطة، و استخدام الإناء لحبس المائعات، و استخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، و لا يحد من حيث التركيب و التفصيل، و أنواع الصناعات و الفنون المتخذة لبلوغ المقاصد و الأغراض المنظور فيها.
و بذلك يأخذ الإنسان أيضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء و اللباس و السكنى و غير ذلك، و بذلك يستخدم أيضا أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها و دمها و جلدها
و شعرها و وبرها و قرنها و روثها و لبنها و نتاجها و جميع أفعالها، و لا يقتصر على سائر الحيوان دون أن يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، و يتصرف في وجودها و أفعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه.
(كونه مدنيا بالطبع)
غير أن الإنسان لما وجد سائر الأفراد من نوعه، و هم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم و رضي منهم أن ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، و هذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية، و الاجتماع التعاوني، و يلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، و يتعادل النسب و الروابط، و هو العدل الاجتماعي.
فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، و العدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار، و لو لا الاضطرار المذكور لم يقض به الإنسان أبدا، و هذا معنى ما يقال: إن الإنسان مدني بالطبع، و إنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، و لذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني و حكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف و نحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الأمم القوية، و على ذلك جرى التاريخ أيضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة و الحرية.
و هو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}۱، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}٢، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}٣، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى}٤.
و لو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الإنسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، و حسن تشريك المساعي، و مراعاة التساوي، مع أن المشهود دائما خلاف ذلك، و إعمال القدرة و الغلبة و تحميل القوي العزيز مطالبه
الضعيف، و استدلال الغالب للمغلوب و استعباده في طريق مقاصده و مطامعه.
(حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان)
و من هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة و منطقة الحياة و العادات و الأخلاق المستندة إلى ذلك، و إنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة و الضعف يؤدي إلى الاختلاف و الانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، و ينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه و يقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة و المكيدة و الخدعة، فإذا قوي و غلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج و المرج، و داعيا إلى هلاك الإنسانية، و فناء الفطرة، و بطلان السعادة.
و إلى ذلك يشير تعالى بقوله: {وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}۱، و قوله تعالى: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}٢، و قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (الآية).
و هذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، و إن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الإنسانية الواحدة، و الوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار و الأفعال بوجه، و اختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الإحساسات و الإدراكات و الأحوال في عين أنها متحدة بنحو، و اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأغراض و المقاصد و الآمال، و اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأفعال، و هو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.
و ظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، و هو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، و نيل كل ذي حق حقه، و تحميلها الناس.
و الطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين:
الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة و تسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كل من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينية: من التوحيد و الأخلاق الفاضلة، و ذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه و لا مرعي، و جعل الأخلاق تابعة للاجتماع و تحوله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، و يوما الخلاعة، و يوما الصدق، و يوما الكذب، و يوما الأمانة، و يوما الخيانة، و هكذا.
و الثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق و احترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
و هذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية و توحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة و القدرة المتسلطة من الإنسان فقط، و ثانيهما بالقوة و التربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع و هلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده و سيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، و هي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، و كيفية سلوك الإنسان فيها، و اكتسابه الأحوال و الملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، و إذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، و ستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، و أباد حقيقته.
فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد و لوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، و ضرب و، هتك عرض، و أخذ مال و غصب مكان و غير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم و أموالهم.
فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض و الأمتعة، و التمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل و المتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة و السياسة.
و قال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، و يأخذ بالرحمة لرفقائه، و العطوفة و الشهامة و الفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلا لكم و لمنزلكم هذا.
و قد أخطأ القائلان جميعا، و سهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، و من الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه و حال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال و الغي و الهلاك.
و القائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، و خذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، و ما أريد منكم في وطنكم، و ما تريدونه لمقصدكم.
(رفع الاختلاف بالدين)
و لذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع و القوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد، و الاعتقاد و الأخلاق و الأفعال، و بعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس و تعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، و أنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، و يعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني و التقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}۱، و قال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (الآية)، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير و الإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام و الشرائع الرافعة لاختلافهم.
و من هذا الباب قوله تعالى: {وَ قَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}٢، فإنهم إنما
كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد و الدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، و طاعة قوانين دينية مشتملة على مواد و أحكام تشريعية: من العبادات و المعاملات و السياسات.
و بالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، و اتباع أحكامه في الحياة، و مراقبة البعث و المعاد في جميع الأحوال و الأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.
و كذا قوله تعالى: {إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}۱، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن و الجهل، و الله سبحانه يدعو إلى دار السلام، و يبني دينه على الحق و العلم، و الرسول يدعو الناس إلى ما يحييهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}٢، و هذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}٣، و قال تعالى: {أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}، و قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}٤، و قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}٥، و قال تعالى: {يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ}٦، إلى غير ذلك، و القرآن مشحون بمدح العلم و الدعوة إليه و الحث به، و ناهيك فيه أنه يسمي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهلية كما قيل.
فما أبعد من الإنصاف قول من يقول: إن الدين مبني على التقليد و الجهل مضاد للعلم و مباهت له، و هؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية و الاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الإثبات إثباتا للعدم، و قد أخطئوا في ظنهم، و خبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين، و لا حقيقة لها غير الشرك، و الله بريء من المشركين و رسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد و الطاعة فحسبوها تقليدا و قد أخطئوا
في حسبانهم، و الدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل و التقليد، و أمنع جانبا من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى و لا كتاب منير، و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.
(الاختلاف في نفس الدين)
و بالجملة فهو تعالى يخبرنا أن الاختلاف في المعاش و أمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.
ثم إنه تعالى يخبرنا أن الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين و إنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم و ظلما و عتوا، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، إلى أن قال، {وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}۱، و قال تعالى: {وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}٢، و الكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ}٣.
فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري و ما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة و لا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}٤ فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.
(الإنسان بعد الدنيا)
ثم إنه يخبرنا أن الإنسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية و ينزل دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير أن حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية، و معنى كون الحياة انفرادية، أنها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني،
و التشارك و التناصر، بل السلطنة هناك في جميع أحكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون و التناصر أصلا، و لو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون و التشارك، لكن الإنسان خلفه وراء ظهره، و أقبل إلى ربه، و بطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام و التصرف و المدنية و الاجتماع التعاوني و لا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، و ليس له إلا صحابة عمله و نتيجة حسناته و سيئاته، و لا يظهر له إلا حقيقة الأمر و يبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: {وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً}۱ و قال تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}٢ و قال تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}٣ و قال تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}٤ و قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ}٥، و قال تعالى: {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى}٦ إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على أن الإنسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيا حياة اجتماعية مبنية على التعاون و التناصر، و لا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، و لا يجني إلا ثمرة عمله و نتيجة سعيه ظهر له ظهورا فيجزي به جزاء.
(بيان)
قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، الناس معروف و هو الأفراد المجتمعون من الإنسان، و الأمة هي الجماعة من الناس، و ربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ}۷، و ربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى: {وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}۸، أي بعد سنين و قوله تعالى: {وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}٩، و ربما يطلق على الملة و الدين كما قال بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}۱۰، و في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}۱۱، و أصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على
جماعة كانت ذات مقصد واحد و بغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، و هو المصحح لإطلاقها على الواحد و على سائر معانيها إذا أطلقت.
و كيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد و الاتفاق، و على السذاجة و البساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة و المدافعة في أمور الحياة، و لا اختلاف في المذاهب و الآراء، و الدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى: {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}، فقد رتب بعثة الأنبياء و حكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد و الوحدة، و الدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: {وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُبَغْياً بَيْنَهُمْ} فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.
و هذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الإنساني لا يزال يرقى في العلم و الفكر، و يتقدم في طريق المعرفة و الثقافة، عاما بعد عام، و جيلا بعد جيل، و بذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، و يقوم على رفع دقائق الاحتياج، و المقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، و الاستفادة من مزايا الحياة، و كلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقل عرفانا برموز الحياة، و أسرار الطبيعة، و ينتهي بنا هذا السلوك إلى الإنسان الأولي الذي لا يوجد عنده إلا النزر القليل من المعرفة بشئون الحياة و حدود العيش، كأنهم ليس عندهم إلا البديهيات و يسير من النظريات الفكرية التي تهيئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شيء من الصيد و الإيواء إلى الكهوف و الدفاع بالحجارة و الأخشاب و نحو ذلك، فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده، و من المعلوم أن قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، و لا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لأفراده إلا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، و التجمع في المسكن و المعلف و المشرب.
غير أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف و التغالب و التغلب، و هو كل يوم يزداد علما و قوة على طرق الاستفادة، و يتنبه بمزايا جديدة، و يتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، و فيهم الأقوياء و أولوا السطوة و أرباب
القدرة، و فيهم الضعفاء و من في رتبتهم، و هو منشأ ظهور الاختلاف، الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع و المدنية.
و لا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، و يعدل أمرهما، و يصلح شأنهما، و ذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، و يؤدي ذلك إلى التزاحم، كما أن جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة و لا تسعه المعدة، و هناك عقل يعدل بينهما، و يقضي لكل بما يناسبه، و يقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الأخرى في فعلها.
و التنافي بين حكمين فطريين فما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، و لكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير و الإنذار، و إنزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
و بهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، لأن الاختلاف إنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، و البغي من حملة الكتاب، و قد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا، و قد مر بيانه، و عن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء و إنزال الكتاب و حملهم على البغي بالاختلاف، و إشاعة الفساد، و إثارة غرائز الكفر و الفجور و مهلكات الأخلاق مع استبطانها؟
و يظهر به أيضا: فساد ما ذكره آخرون أن المراد بها أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ} إلخ، و قد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره و هو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: {فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ}، إنما نشأ عن سوء سريرة حملة الكتاب و علماء الدين بعد نزول الكتاب، و بيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث و الإنزال و هي ضلالة الكفر و النفاق و الفجور و المعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب و علماء الدين؟
و يظهر به أيضا ما في قول آخرين إن المراد بالناس بنو إسرائيل حيث إن الله يذكر أنهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: {فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}۱، و ذلك أنه تفسير من غير دليل، و مجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.
و أفسد من ذلك قول من قال: إن المراد بالناس في الآية هو آدم (عليه السلام)، و المعنى أن آدم (عليه السلام) كان أمة واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته، {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ} إلخ، و الآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله و لا بعضه.
و يظهر به أيضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}٢، فهو دال على الثبوت، و المعنى: أن الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الإنسان مدني بالطبع لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية،و اتساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع و التعاون بين الأفراد و المبادلة في المساعي، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة و يعطي الباقي غيره، و يأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه و يستحقه في وجوده، فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع و التعاون وقتا من الأوقات، يدل عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني و كونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته و خلقته غير أن ذلك يؤدي إلى الاختلاف، و اختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، و بلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين و منذرين، و إنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.
فمحصل المعنى أن الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع و هو يوجب الاختلاف فلذلك بعث الله الأنبياء و أنزل الكتاب.
و يرد عليه أولا: أنه أخذ المدنية طبعا أوليا للإنسان، و الاجتماع و الاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، و قد عرفت فيما مر أن الأمر ليس كذلك، بل أمر تصالحي اضطراري، و أن القرآن أيضا يدل على خلافه.
و ثانيا: أن تفريع بعث الأنبياء و إنزال الكتب على مجرد كون الإنسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف،
و ظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير و هو خلاف الظاهر، و القائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.
و ثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية و تتعرض به اختلافا واحدا، و الآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}، فهو اختلاف سابق على الكتاب و المختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول و ما اختلف فيه أي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب و حملوه بغيا بينهم، و هذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله، و المختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب و حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي و علم، و الآخر بخلافه.
قوله تعالى: {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ} إلخ، عبر تعالى بالبعث دون الإرسال و ما في معناه لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود و سكوت، و هو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون و نحو ذلك، و هذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل، على أن البعث و إنزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس و تنبيههم بحقيقة أمر وجودهم و حياتهم، و إنبائهم أنهم مخلوقون لربهم، و هو الله الذي لا إله إلا هو، و أنهم سالكون كادحون إلى الله مبعوثون ليوم عظيم، واقفون في منزل من منازل السير، لا حقيقة له إلا اللعب و الغرور، فيجب أن يراعوا ذلك في هذه الحياة و أفعالها، و أن يجعلوا نصب أعينهم أنهم من أين، و في أين، و إلى أين، و هذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، و لذلك عبر بالنبيين، و في إسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم الوحي و تبليغهم الرسالة إلى الناس و سيجيء زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، و أما التبشير و الإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه و الجنة لمن آمن و اتقى، و الوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه و النار لمن كذب و عصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسط الحال، و إن كان بعض الصالحين من عباده و أوليائه لا تتعلق نفوسهم بغير ربهم من ثواب أو عقاب.
قوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}، الكتاب
فعال بمعنى المكتوب، و الكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه و إن استلزم كتابه بالقلم لكن لكون العهود و الفرامين المفترضة إنما يبرم بالكتابة غالبا شاع إطلاقه على كل حكم مفروض واجب الاتباع أو كل بيان بل كل معنى لا يقبل النقض في إبرامه، و قد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن، و بهذا المعنى سمي القرآن كتابا و هو كلام إلهي، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}۱، و قال تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}٢، و في قوله تعالى {فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}، دلالة على أن المعنى: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا {فَبَعَثَ اَللَّهُ} إلخ، كما مر.
و اللام في الكتاب إما للجنس و إما للعهد الذهني و المراد به كتاب نوح (عليه السلام) لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى}٣، فإن الآية في مقام الامتنان و تبين أن الشريعة النازلة على هذه الأمة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فالشريعة مختصة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و لما كان قوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (الآية) يدل على أن الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام أولا: على أن لنوح (عليه السلام) كتابا متضمنا لشريعة، و أنه المراد بقوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}، إما وحده أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس.
و ثانيا: أن كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة و لذكرها الله تعالى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ} (الآية).
و ثالثا: أن هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الآية) كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و قد حكم فيه كتابه (عليه السلام).
قوله تعالى: {وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، و حيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}٤.
نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.
و في قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ}، دلالة على أن المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا و إن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، و قد عذر من اشتبه عليه الأمر و لم يجد حيلة و لم يهتد سبيلا، قال تعالى: {إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}۱، و قال تعالى: {وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إلى أن قال: {وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}٢، و قال تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً}٣.
على أن الفطرة لا تنافي الغفلة و الشبهة، و لكن تنافي التعمد و البغي، و لذلك خص البغي بالعلماء و من استبانت له الآيات الإلهية، قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}٤ و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و قد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، و بالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.
قوله تعالى: {فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ} بيان لما اختلف فيه و هو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، و عند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، و الاختلاف في الحق و المعارف الإلهية الذي كان عامله الأصلي بغي حملة الكتاب، و في تقييد الهداية بقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ} دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، و إيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، و لا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى و لو شاء لم يأذن و لم يهد، و على هذا فقوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، و المعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم و ليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، و قد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
[ في النظريات الدينية التي يستفاد من الآية و هي سبعة. و الدليل المستفاد منها على النبوة العامة ]
و قد تبين من الآية أولا: حد الدين و مُعرِّفه، و هو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، و الحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.
و ثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشئ عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري و غير الفطري معا.
و ثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، و بالعكس إذا كان دين من الأديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ}۱، و قال تعالى: {وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}٢، و قال تعالى: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ}٣.
و رابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.
و خامسا: السبب في بعث الأنبياء و إنزال الكتب، و بعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، و هو أن الإنسان بحسب طبعه و فطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سألك نحو الاجتماع المدني، و إذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، و كيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة و التشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، و هذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع و الإيجاد فما هو مقدمته كذلك، و قد قال تعالى: {اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}٤، فبين أن من شأنه و أمره تعالى أن يهدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه، و من تمام خلقه الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا و الآخرة، و قد قال تعالى أيضا: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}٥، و هذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد
كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته و وجوده، و يعطيه ما يستحقه، و أن عطاءه غير محظور و لا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.
و من المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها و تسوية طريق السعادة و الكمال في حياته الاجتماعية؟
و إذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به و هي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه و إصلاح ما أفسدته، فالإصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، و هي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي، و لذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح و رفع الاختلاف بالبعث و لم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية و المكانية.
فالنبوة حالة إلهية (و إن شئت قل غيبية) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك و الفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف و التناقض في حياة الإنسان، و هذا الإدراك و التلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، و الحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة.
و من هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدني من جهة و إلى الاختلاف من جهة أخرى، و عنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدأ حجة على وجود النبوة، و بعبارة أخرى دليل النبوة العامة.
تقريره: أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع، و هذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني و إلى الاختلاف و الفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين و الإيجاد برفعه و لا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، و هداية الإنسان إلى كماله و سعادته بأحد أمرين: إما بفطرته و إما بأمر وراءه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة و الطبيعة، و هو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى
بالنبوة و الوحي، و هذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، و كل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته و اجتماعاته المتنوعة التي ظهرت و انقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ.
فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، و لا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع و قضى بحياة فردية، و لا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، و لا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، و لا أن فطرته و عقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف و تقلع مادة الفساد، و ناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، و ما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق و فساد عالم الإنسانية، و الحروب المهلكة للحرث و النسل، و المقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، و سلطان التحكم و نفوذ الاستعباد في نفوس البشر و أعراضهم و أموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية و الرقي و الثقافة و العلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل و الظلمة؟
و أما إن الصنع و الإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة و البحث، و كذا كون الخلقة و التكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة و البحث، و أما إن التعليم و التربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة و الوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف و الفساد فأمر يصدقه البحث و التجربة معا: أما البحث: فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف و فواضل الأخلاق و محاسن الأفعال فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه، و أما التجربة: فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، و أثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، و أصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال و العروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة و الرقي مرهونة التقدم الإسلامي و سريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية و التحليل من غير شك، و سنستوفي البحث عنه إن شاء الله في محل آخر أليق به.
و سادسا: أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنساني،
قضاء القرآن بختم النبوة و عدم نسخ الدين و ثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي و الاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه و تشريعه.
و هذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، و قطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، و أخلاقه الفاضلة موقفه الذي كان عليه، و لم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع أقداما خلفه القهقرى، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي و الجسمي معا.
و قد اشتبه الأمر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر و إصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها و ارتقائها و صعودها مدارج الكمال، و لا شك أن النسبة بيننا و بين عصر نزول القرآن، و تشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر و عصر بعثة عيسى (عليه السلام) و موسى (عليه السلام) فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر و عصر النبي موجبا لنسخ شرائع الإسلام و وضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر.
و الجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني، و بنى أساسه على الكمال الروحي و الجسمي معا، و ابتغى السعادة المادية و المعنوية جميعا، و لازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة و السياسة، و قد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية المادية (و المادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها) حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير و النسخ حسب تحول الاجتماع المادي، و قد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم و الروح جميعا، و على هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية و الحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إلى التتميم، و الوهن المحتاج إلى التقوية؟
و سابعا: أن الأنبياء (عليه السلام) معصومون عن الخطإ.
(كلام في عصمة الأنبياء)
توضيح هذه النتيجة: أن العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطإ في تلقي الوحي، و العصمة عن الخطإ في التبليغ و الرسالة، و العصمة عن المعصية و هي ما فيه هتك حرمة العبودية و مخالفة مولوية، و يرجع بالآخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاة ما، و نعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطإ أو المعصية.
و أما الخطأ في غير باب المعصية و تلقي الوحي و التبليغ، و بعبارة أخرى في غير باب أخذ الوحي و تبليغه و العمل به كالخطإ في الأمور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس و إدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، و نظير الخطإ في تشخيص الأمور التكوينية من حيث الصلاح و الفساد و النفع و الضرر و نحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.
و كيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم (عليه السلام) في جميع الجهات الثلاث: أما العصمة عن الخطإ في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالى في الآية {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير و الإنذار و إنزال الكتاب (و هذا هو الوحي) ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد و الحق في العمل، و بعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد و حق العمل، و هذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، و قد قال تعالى: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ}۱، فبين أنه لا يضل في فعله و لا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطإ، و إذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، و كيف لا و بيده الخلق و الأمر و له الملك و الحكم، و قد بعث الأنبياء بالوحي إليهم و تفهيمهم معارف الدين و لا بد أن يكون، و بالرسالة لتبليغها للناس و لا بد أن يكون! و قال تعالى أيضا: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}٢، و قال أيضا: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى أَمْرِهِ}٣.
و يدل على العصمة عن الخطإ أيضا قوله تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم و يؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم و ما خلفهم، و الإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال و التغير بتغيير الشياطين و كل مغير غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم، و نظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}۱، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره.
و هذان الوجهان من الاستدلال و إن كانا ناهضين على عصمة الأنبياء (عليه السلام) في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي و هو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فإن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين و ليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر، فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية و صونه عن المخالفة كما لا يخفى.
و يدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ}٢، فجميعهم (عليه السلام) كتب عليهم الهداية، و قد قال تعالى: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}٣.
و قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ}٤ فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، و كل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً}٥ فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته
تعالى في حق الأنبياء (عليه السلام) ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم و كذا عن وقوع الخطإ في فهمهم الوحي و إبلاغهم إياه.
و يدل عليها أيضا قوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}۱ و قال أيضا: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ}٢ فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين، و لو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين و كذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اَلرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}٣ فجمع في الأنبياء أولا الخصلتين: أعني الإنعام و الهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} بعد قوله: {أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ}، و وصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، و الفريق الثاني غير الأول لأن الفريق الأول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، و إذ وصف الفريق الثاني و عرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا فالفريق الأول و هم الأنبياء ما كانوا يتبعون الشهوات و لا يلحقهم غي، و من البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى أنهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الإطلاق في قوله: {أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.
و هذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل و إجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب و كذا تصديق لأهليتهم للتبليغ، و العقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي و الأفعال المنافية لمرام و مقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي و في تبليغ الرسالة و في امتثالهم للتكاليف المتوجه إليهم بالطاعة.
و لا يرد عليه: أن الناس و هم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم و أقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور و التقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور و التقصير، و إما لأن مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الأمر المطلوب، و القبض على اليسير و الغض عن الكثير و شيء من الأمرين لا يليق بساحته تعالى.
و لا يرد عليه أيضا: ظاهر قوله تعالى: {فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}۱ فإن الآية و إن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه أذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين و تفقهوا فيه، لا تصديق لهم فيما أنذروا به و جعل حجية لقولهم على الناس و المحذور إنما هو في الثاني دون الأول.
و مما يدل على عصمتهم (عليه السلام) قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ}٢، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للإرسال، و قصر الغاية فيه، و ذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق إرادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول و هو قوله أو فعله لأن كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل و الله سبحانه لا يريد إلا الحق.
و كذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا و المعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق إرادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد، آمرا و ناهيا، محبا و مبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات و الأفعال علوا كبيرا و هو باطل و إن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فإن تكليف ما لا يطاق تكليف بالمحال و ما نحن فيه تكليف نفسه محال لأنه تكليف و لا تكليف و إرادة و لا إرادة و حب و لا حب و مدح و ذم بالنسبة إلى فعل واحد!
و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ}٣ فإن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه
يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة و المعصية و أن لا قاطع للعذر إلا الرسل (عليه السلام)، و من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس و رفعهم لحجتهم إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله و رضاه: من قول أو فعل، و خطإ أو معصية و إلا كان للناس أن يتمسكوا به و يحتجوا على ربهم سبحانه و هو نقض لغرضه تعالى.
فإن قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو أن الأنبياء (عليه السلام) لا يقع منهم خطأ و لا يصدر عنهم معصية و ليس ذلك من العصمة في شيء فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطإ، و تردعه عن فعل المعصية و اقتراف الخطيئة، و ليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره و إنما هي مبدأ نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانية.
قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقق الخطإ و المعصية من النبي (عليه السلام) و لا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة و هو ظاهر.
و مع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}۱ و كذا قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}٢ على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدإ يصدر عنه و سبب يتحقق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبي (عليه السلام) على وتيرة واحدة صوابا و طاعة تنتهي إلى سبب مع النبي (عليه السلام) و في نفسه و هي القوة الرادعة و توضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الأفعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة و بعضها معصية، و لا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم و المشية، و إنما يختلف الفعل طاعة و معصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الأمر مثلا تحققت الطاعة، و إن كان المطلوب - أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى و اقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة و معصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، و لو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية و امتثال الأمر الإلهي لما صدر إلا الطاعة، و لو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية و (العياذ بالله) لم يتحقق
إلا المعصية، و على هذا فصدور الأفعال عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بوصف الطاعة دائما ليس إلا لأن العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، و هو الإذعان بوجوب العبودية دائما، و من المعلوم أن الصورة العلمية و الهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة و الشجاعة و العدالة و نحوها، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة و الانقياد و هي القوة الرادعة عن المعصية.
و من جهة أخرى النبي لا يخطئ في تلقي الوحي و لا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطئ في تلقي المعارف و تبليغها و لا تعصي في العمل و لو فرضنا أن هذه الأفعال و هي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب و الطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الأسباب يكون معه، و لا انضمام من شيء إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي (عليه السلام) فيه، و لازم ذلك إبطال علم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إرادته في تأثيرها في أفعاله و في ذلك خروج الأفعال الاختيارية عن كونها اختيارية، و هو ينافي افتراض كونه فردا من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم و الإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الإنسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا و طاعة و هو نوع من العلم الراسخ و هو الملكة كما مر.
(كلام في النبوة)
و الله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة و (هي وصف إرشاد الناس بالوحي) في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: و هما الرسول و النبي، قال تعالى: {وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ}۱، و قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ}٢ و معنى الرسول حامل الرسالة، و معنى النبي حامل النبإ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه و بين خلقه و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده.
و قد قيل إن الفرق بين النبي و الرسول بالعموم و الخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ و يحمل الرسالة، و النبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.
لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى كقوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}۱ و الآية في مقام المدح و التعظيم و لا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى.
و كذا قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ}٢، حيث جمع في الكلام بين الرسول و النبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: {وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ}٣، و كذا قوله تعالى: {وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ}٤، و كذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: {فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ} إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالإرسال إلى الناس نبي و لا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: {وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} (الآية)، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى و كان رسولا خبيرا بآيات الله و معارفه، و كذا قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ} (الآية) لإمكان أن يقال: إن النبي و الرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير أن النبي بعث لينبىء الناس بما عنده من نبإ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، و الرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبإ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}٥، و قوله تعالى: {وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}، و على هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم و معادهم من أصول الدين و فروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، و الرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكه أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ}٦، و لا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، و لازمه هو الذي أشرنا إليه من أن للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى و بين عباده و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده و سيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) من الفرق بينهما.
ثم إن القرآن صريح في أن الأنبياء كثيرون و إن الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}، إلى غير ذلك و الذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم
بضعة و عشرون نبيا و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و إلياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و أيوب، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل صادق الوعد، و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) لى الله عليهم أجمعين.
و هناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف و الكناية، قال سبحانه: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنَا مَلِكاً}۱ و قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِهَا}٢، و قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}٣، و قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}٤ و قال تعالى: {وَ اَلْأَسْبَاطِ}٥، و هناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِفَتَاهُ}٦، و مثل ذي القرنين و عمران أبي مريم و عزير من المصرح بأسمائهم.
و بالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده و الذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون و أشهرها- رواية أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر نبيا.
و اعلم: أن سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم و هم: نوح، و إبراهيم، و موسى و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ}۷ و سيجيء أن معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم و عدم نسيانه، قال تعالى: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}۸، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}٩.
و كل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع و كتاب، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى}۱۰، و قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى}۱۱، و قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ}، إلى أن
قال: {وَ قَفَّيْنَا عَلى آثَارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ آتَيْنَاهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ} - إلى أن قال - {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهَاجاً وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}۱.
و الآيات تبين أن لهم شرائع و أن لإبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) كتبا، و أما كتاب نوح فقد عرفت أن الآية أعني قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلخ، بانضمامه إلى قوله تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية تدل عليه، و هذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود (عليه السلام)، قال تعالى: {وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}٢ و لا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، و شيث، و إدريس، فإنها كتب لا تشتمل على الأحكام و الشرائع.
و اعلم أن من لوازم النبوة الوحي و هو نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلىنُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}٣، و سيجيء استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إن شاء الله.
(بحث روائي)
في المجمع عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين و لا ضالين فبعث الله النبيين.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: و كان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلالا، و ذلك أنه لما انقرض آدم و صالح ذريته، و بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم و صالح ذريته و ذلك أن قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية و الكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، و لحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك و تعالى أن يبعث الرسل، و لو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرأ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، فيحكم الله تبارك و تعالى: ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت أ فضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، و لم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أ ما تسمع بقول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ} أي ناسيا للميثاق.
أقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث، و أنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الإلهية، و أما الهداية الإجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله (عليه السلام) في رواية المجمع، المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين و لا ضلالا.
و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجري على حال من هو ذاكر للميثاق و إن لم يكن ذاكرا له حقيقة و هو حال سائر المؤمنين و لا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.
و في التوحيد عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال: من أين أثبت أنبياء و رسلا؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنا لما أثبتنا: أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، و لا يلامسوه، و لا يباشرهم و لا يباشروه و يحاجهم و يحاجوه، فثبت أن له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما فيه بقاؤهم، و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و ثبت عند ذلك أن له معبرين و هم الأنبياء و صفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة و الدلائل و البراهين و الشواهد، من إحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول و وجوب عدالته.
أقول: و الحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلاث في مسائل ثلاث من النبوة.
إحداها: الحجة على النبوة العامة و بالتأمل فيما ذكره (صلى الله عليه وآله و سلم) تجد أنه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الآية).
و ثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، و ما ذكره (عليه السلام) منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الإعجاز في بيان قوله تعالى: {وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}۱.
و ثالثتها: مسألة عدم خلو الأرض عن الحجة و سيأتي بيانه إن شاء الله.
و في المعاني، و الخصال، عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيون؟ قال: مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: و كان من الأنبياء مرسلا؟ قال: نعم خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم و شيث، و أخنوخ و هو إدريس و هو أول من خط بالقلم، و نوح، و أربعة من العرب: هود، و صالح، و شعيب، و نبيك محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أول نبي من بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى و ستمائة نبي، قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مائة كتاب و أربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة، و الإنجيل، و الزبور، و الفرقان.
أقول: و الرواية و خاصة صدرها المتعرض لعدد الأنبياء و المرسلين من المشهورات روتها الخاصة و العامة في كتبهم، و روى هذا المعنى الصدوق في الخصال، و الأمالي، عن الرضا عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و رواه ابن قولويه في كامل الزيارة، و السيد في الإقبال، عن السجاد (عليه السلام)، و في البصائر، عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} (الآية) قال: النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و لا يرى في المنام و يعاين.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و من الممكن أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ إِلى هَارُونَ}۱، و ليس معناها أن معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود أن النبوة و الرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا و خاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، و ربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان، و ربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن أبي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟ فقد تبين أن كل رسول نبي و لا عكس. و بذلك يظهر الجواب عما اعترضه
بعضهم على دلالة قوله تعالى: {وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ}۱، إنه إنما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية و نظائرها.
و الجواب: أن النبوة أعم مصداقا من الرسالة و ارتفاع الأعم يستلزم ارتفاع الأخص و لا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة و النبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.
و في العيون عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم - لأنهم كانوا أصحاب العزائم و الشرائع، و ذلك أن كل نبي كان بعد نوح - كان على شريعته و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، و كل نبي كان في أيام إبراهيم - كان على شريعة إبراهيم و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن موسى، و كل نبي كان في زمن موسى كان على شريعة موسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى أيام عيسى و كل نبي كان في أيام عيسى و بعده كان على شريعة عيسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فهؤلاء الخمسة أولو العزم، و هم أفضل الأنبياء و الرسل (عليه السلام) و شريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، و لا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه.
أقول: و روى هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام).
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ} (الآية)، و هم نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى بن مريم (عليه السلام)، و معنى أولي العزم أنهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله و أقروا بكل نبي كان قبلهم و بعدهم: و عزموا على الصبر مع التكذيب لهم و الأذى.
أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة عن ابن عباس و قتادة: أن أولي العزم من الأنبياء خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) كما رويناه من طرق أهل البيت، و هناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم ستة: نوح، و إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و أيوب، و ذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد و القتال و أظهروا المكاشفة و جاهدوا في الدين، و ذهب بعضهم
إلى أنهم أربعة: إبراهيم، و نوح، و هود، و رابعهم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و هذه أقوال خالية عن الحجة و قد ذكرنا الوجه في ذلك.
و في تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: كان ما بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة (عليه السلام) بطرق كثيرة.
و في الصافي عن المجمع عن علي (عليه السلام): بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته.
و في النهج قال (عليه السلام): في خطبة له يذكر فيها آدم (عليه السلام): فأهبطه إلى دار البلية و تناسل الذرية، و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، و اتخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسي نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول، و يروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع، و معايش تحييهم، و آجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم، و أحداث تتابع عليهم، و لم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة أو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم و لا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، و مضت الدهور، و سلفت الآباء، و خلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا لإنجاز عدته، و تمام نبوته الخطبة.
أقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، و قوله: واتر إليهم، أي أرسل واحدا بعد واحد، و الأوصاب جمع وصب و هو المرض، و الأحداث جمع الحدث و هو النازلة، و قوله نسلت القرون أي مضت، و إنجاز العدة تصديق الوعد، و المراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و بشر به عيسى (عليه السلام) و غيره من الأنبياء (عليه السلام)، قال تعالى: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً}۱.
و في تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله تعالى لموسى (عليه السلام): و كتبنا له في الألواح من كل شيء فعلمنا أنه لم يكتب لموسى الشيء كله، و قال تعالى لعيسى: لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، و قال الله تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى هَؤُلاَءِ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}.
أقول: و روي في بصائر الدرجات، هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين، و قوله (عليه السلام) قال الله لموسى إلخ، إشارة إلى أن قوله تعالى {فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يفسر قوله تعالى في حق التوراة: {وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله: {فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.
(بحث فلسفي) [كلام في النبوة]
مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للأحكام و قوانين مجعولة مشرعة و هي أمور اعتبارية غير حقيقية، و إن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجية و حقائقها العينية و لا يتناول الأمور المجعولة الاعتبارية.
لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية و بحث حقيقي، و ذلك أن المواد الدينية: من المعارف الأصلية و الأحكام الخلقية و العملية لها ارتباط بالنفس الإنسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو أحوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، و هذه العلوم و الملكات تكون صورا للنفس الإنسانية تعين طريقها إلى السعادة و الشقاوة، و القرب و البعد من الله سبحانه، فإن الإنسان بواسطة الأعمال الصالحة و الاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق إلا بما هي له عند الله سبحانه من القرب و الزلفى، و الرضوان و الجنان و بواسطة الأعمال الطالحة و العقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة و زخارفها الفانية و يؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا و انقطاع الاختيار إلى دار البوار و مهاد النار و هذا سير حقيقي.
و على هذا فالمسألة حقيقية و الحجة التي ذكرناها في البيان السابق و استفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية.
توضيح ذلك: أن هذه الصور للنفس الإنسانية الواقعة في طريق الاستكمال، و الإنسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، و العلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة و البرهان، و الواجب تعالى تام الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، و يتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال الذي يسمى سعادة إن كانت ذات صفات حسنة و ملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة إن كانت ذات رذائل و هيئات ردية.
و إذ كانت هذه الملكات و الصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح و الفساد، و الخوف و الرجاء، و الرغبة إلى المنافع، و الرهبة من المضار، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضا متعلقه بالدعوة الدينية بالتبشير و الإنذار و التخويف و التطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، و خسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، و الدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها و هو النبي المبعوث من عنده تعالى.
فإن قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الإنسان للحق في الاعتقاد و العمل، و سلوكه طريق الفضيلة و التقوى، فأي حاجة إلى بعث الأنبياء.
قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، و يأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقا، و العقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الإحساسات الباطنة، و الإحساسات التي هي بالفعل في الإنسان في بادي حاله هي إحساسات القوى الشهوية و الغضبية، و أما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة، و قد مر أن هذا الإحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه التي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش و البربرية مع وجود العقل فيهم و حكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.
(بحث اجتماعي) كلام في النبوة.
فإن قلت: هب أن العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير و لكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها و الاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالآخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين و هو الأصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالآخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الإنسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الأفراد، و يشهد به ما نشاهده و يؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل و تتمنى الصلاح و تتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الإنسان، فمنها ما بلغ مبتغاه و أمنيته كما في بعض الأمم مثل سويسرة، و منها ما هو في الطريق و لما يتم له شرائط الكمال و هي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.
قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها و سعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، و الاجتماع المنتهي إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الإمعان فيه أن هذا التمايل و التوجه لا يستوجب فعلية الكمال و السعادة الحقيقية، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي و الغضبي في الإنسان و كون مبادئ السعادة الحقيقية فيه بالقوة، و الشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة و الحاضرة متوجهة إلى الكمال، و نيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة، و قرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال و السعادة هو الكمال الجسمي و ليس الكمال الجسمي هو كمال الإنسان، فإن الإنسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم و روح، مؤلف من جهتين مادية و معنوية له حياة في البدن و حياة بعد مفارقته من غير فناء و زوال، يحتاج إلى كمال و سعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له و سعادة بالنسبة إليه، و حقيقته هذه الحقيقة.
فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الإنساني، و إن كان في قصدها هداية الإنسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الإنسانية و انحلال تركيبه، و ضلاله عن
صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، و الهداية الإلهية.
فإن قلت: لو صحت هذه الدعوة النبوية و لها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الإنسانية، كما أن هداية الإنسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة و التكوين، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات، و يجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، و ليس كذلك، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا و لا تقبله الاجتماعات الإنسانية؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة.
قلت: أولا أثر الدعوة الدينية مشهود معاين، لا يرتاب فيه إلا مكابر، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربت ألوفا و ألوفا من الأفراد في جانب السعادة، و أضعاف ذلك و أضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول و الرد و الانقياد و الاستكبار، و الإيمان و الكفر، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة أحيانا من الزمان، على أن الدنيا لم تقض عمرها بعد، و لما ينقرض العالم الإنساني، و من الممكن أن يتحول الاجتماع الإنساني يوما إلى اجتماع ديني صالح، فيه حياة الإنسانية الحقيقية و سعادة الفضائل و الأخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه، و يسار فيه بالعدالة و الفضيلة، و ليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به.
و ثانيا: أن الأبحاث الاجتماعية و كذا علم النفس و علم الأخلاق تثبت أن الأفعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالأحوال و الملكات من الأخلاق ترتضع من ثدي الصفات النفسانية، و لها تأثير في النفوس، فالأفعال آثار النفوس و صفاتها، و لها آثار في النفوس في صفاتها، و يستنتج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات و الأخلاق، و أصل وراثتها، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا، و تتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا.
فهذه الدعوة العظيمة و هي تصاحب الاجتماعات الإنسانية من أقدم عهودها، في تاريخها المضبوط و قبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الإنسان الاجتماعية من حيث الأخلاق الفاضلة و الصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينية آثار في النفوس و إن لم تجبها و لم تؤمن بها.
بل حقيقة الأمر: أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل و الأمم الحية من آثار النبوة و الدين، و قد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته و انتحلت به أمم و جماعات هامة، و هو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الإيمان، و الأخلاق الفاضلة و العدل و الصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم و إن كان قليلا بقايا من آثاره و نتائجه، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد و هو يدعو إلى الرقية في جميع الشئون الإنسانية، و ثانيها القوانين المدنية و هي تجري و تحكم في الأفعال فحسب، و تدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الأخلاق و غيرها، و ثالثها الدين و هو يحكم في الاعتقادات و الأخلاق و الأفعال جميعا و يدعو إلى إصلاح الجميع.
فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين و تربيته.
و يشهد بذلك ما نشاهده من أمر الأمم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، و أهملت أمر الدين و الأخلاق، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح و الرحمة و المحبة و صفاء القلب و سائر الفضائل الخلقية و الفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم، و لو كانت أصل الفطرة كافية، و لم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك.
على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الأمم المسيحية بعد الحروب الصليبية، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الإسلامية فتقلدوها و تقدموا بها، و الحال أن المسلمين اتخذوها وراءهم ظهريا، فتأخر هؤلاء و تقدم أولئك، و الكلام طويل الذيل.
و بالجملة الأصلان المذكوران، أعني السراية و الوراثة، و هما التقليد الغريزي في الإنسان و التحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك و هو تأثير فعلي.
فإن قلت: فعلى هذه فما فائدة الفطرة فإنها لا تغني طائلا و إنما أمر السعادة بيد النبوة؟ و ما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة؟
قلت: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الإنسان و كماله يكفي في حل هذه الشبهة، فإن السعادة و الكمال الذي تجلبه النبوة إلى الإنسان ليس أمرا
خارجا عن هذا النوع، و لا غريبا عن الفطرة، فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، و هذا المعين الذي يعينها على ذلك و هو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الإنسانية و كمالها، منضما إلى الإنسان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان مثلا، و إلا كان ما يعود منه إلى الإنسان أمرا غير كماله و سعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الإنسان في وزنه، بل هو أيضا كمال فطري للإنسان مذخور في هذا النوع، و هو شعور خاص و إدراك مخصوص مكمون في حقيقته لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الإلهية، كما أن للبالغ من الإنسان شعورا خاصا بلذة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الأفراد غير البالغين بالفعل، و إن كان الجميع من البالغ و غير البالغ مشتركين في الفطرة الإنسانية، و الشعور شعور مرتبط بالفطرة.
و بالجملة لا حقيقة النبوة أمر زائد على إنسانية الإنسان الذي يسمى نبيا، و خارج عن فطرته، و لا السعادة التي تهتدي سائر الأمة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم و فطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الإنساني، و إلا لم تكن كمالا و سعادة بالنسبة إليهم.
فإن قلت: فيعود الإشكال على هذا التقرير إلى النبوة، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها و النبوة غير خارجة عن الفطرة.
فإن المتحصل من هذا الكلام، هو أن النوع الإنساني المتمدن بفطرته و المختلف في اجتماعه يتميز من بين أفراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، و عقولهم سليمة عن الأوهام و التهوسات و رذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، و سلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، و سعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، و عمران الدنيا و الآخرة، فإن النبي هو الإنسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي.
قلت: كلا! و إنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة، و لا ما تستتبعه.
أما أولا: فلأن ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني، و الفحص عن حقائق المبدإ و المعاد.
فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة و سلامة العقل،
و هذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، و ما يصلح به هذا الاجتماع المختل، و ما يسعد به الإنسان الاجتماعي.
فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي، و الفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي، و القوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، و روحه الطاهر الذي يفيض هذه الأفكار إلى قواه الفكرية و لا يخون العالم الإنساني باتباع الهوى هو الروح الأمين و هو جبرائيل، و الموحي الحقيقي هو الله سبحانه، و الكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي، و الملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير، و الشيطان هي النفس الأمارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر و الفساد، و على هذا القياس.
و هذا فرض فاسد، و قد مر في البحث عن الإعجاز، إن النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية.
و قد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي، الذي يميز بين خير الأفعال و شرها بالمصلحة و المفسدة و هو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان و من هدايا الفطرة المشتركة، و تقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف، و إذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف، و احتاج فيه إلى متمم يتمم أمره، و قد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الإنسان و تهتدي به الفطرة إلى سعادة الإنسان الحقيقية في معاشه و معاده.
و من هنا يظهر أن هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري، بمعنى أن ما يجده الإنسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي، و الطريق غير الطريق.
و لا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الإنسان شعورا نفسيا باطنيا، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، و يعطيه عجائب من المعارف و المعلومات، وراء ما يناله العقل و الفكر، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا و جمع من علماء النفس من أوروبا مثل جمز الإنجليزي و غيره.
فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، و أن النبوة و كذا الشريعة و الدين و الكتاب و الملك و الشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.
و أما ثانيا: فلأن المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدعين لمقام النبوة و الوحي مثل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و عيسى و موسى و إبراهيم و نوح (عليه السلام) و غيرهم و بعضهم يصدق بعضا - و كذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة و الوحي و نزول الكتاب و الملك و غير ذلك من الحقائق. فإن صريح الكتاب و السنة و ما نقل من الأنبياء العظام (عليه السلام) أن هذه الحقائق و آثارها أمور خارجة عن سنخ الطبيعة، و نشأة المادة، و حكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة و حكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، و لا يرتضيه ذوق التخاطب.
و قد تبين بما ذكرنا أن الأمر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الإنساني و هو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الإنسان.
فإن قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الإنسان من أنفسهم و إنما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى إصلاح شأنهم و يهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟! و قد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للإنسان إلى سعادته و كماله النوعي وجب أن يهديه بالارتباط و الاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الإنسان إليه.
قلت: كون هذا الأمر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، و كذا كونه أمرا من قبيل الإدراكات الباطنية و نحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة و لا الأمر المستور عن الحواس الظاهرة و إنما يدفع المحال، و للعقل طريق إلى تصديق الأمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فإن له أن يستدل على الشيء من طريق علله و هو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو آثاره و هو الاستدلال الإني فيثبت بذلك وجوده، و النبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن أن يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره و تبعاته و هو اشتمال الدين الذي
يأتي به النبي على سعادة الإنسان في دنياه و آخرته، و تارة من جهة اللوازم و هو أن النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى أن الذي وراء الطبيعة و هو إلهها الذي يهديها إلى سعادتها و يهدي النوع الإنساني منها إلى كماله و سعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة و هو التصرف بالوحي، و لو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة، لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا و كان النبي واجدا لها لكان من الجائز أن يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعي للنبوة، و هذا الأمر الخارق للعادة هي الآية المعجزة و قد تكلمنا في الإعجاز في تفسير قوله تعالى: {وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}۱.
فإن قلت: هب أن هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحي النبوة و أثبتها النبي بالإعجاز، و كان على الناس أن يأخذوا بآثاره و هو الدين المشرع الذي جاء به النبي، لكن ما المؤمن عن الغلط؟ و ما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطإ في تشريعه و هو إنسان طبعه طبع سائر الأفراد في جواز الوقوع في الخطإ.
و من المعلوم أن وقوع الخطإ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين و رفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الإنساني، و إضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس!
قلت: الأبحاث السابقة تكفي مئونة حل هذه العقدة، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الأمر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الإيصال التكويني لكل نوع من الأنواع الوجودية إلى كماله الوجودي و سعادته الحقيقية، فإن السبب الذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الأنواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته، و من المعلوم أن الأمور الخارجية من حيث إنها خارجية لا تعرضها الخطأ و الغلط، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطأ و الغلط لوضوح أن ما في الخارج هو ما في الخارج! و إنما يعرض الخطأ و الغلط في العلوم التصديقية و الأمور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق و الكذب من خواص القضايا، تعرضها من حيث
مطابقتها للخارج و عدمها، و إذا فرض أن الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته و رفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد و التكوين لزم أن لا يعرضه غلط و لا خطأ في هدايته، و لا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة و شعور الوحي، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح و الشعور في وجود النبي، و لا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده و سعادته عن شقائه، و لو فرضنا له غلطا و خطأ في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط و الخطإ، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطأ فيه و لا غلط.
فظهر: أن هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة، و هي المصونية عن الخطإ في أمر الدين و الشريعة المشرعة، و هذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا، فإن هذه عصمة في تلقي الوحي من الله سبحانه، و تلك عصمة في مقام العمل و العبودية، و هناك مرحلة ثالثة من العصمة و هي العصمة في تبليغ الوحي، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينية وقوعا تكوينيا، و لا خطأ و لا غلط في التكوين.
و قد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام و هو: أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير و التأثر؟ فإن الشعور الفطري و إن كان أمرا غير مادي، و من الأمور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا أنه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة و الضعف و البقاء و البطلان كما في مورد الجنون و السفاهة و البلاهة و الغباوة و ضعف الشيب و سائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق، و إن سلم أنه غير مادي في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير و الفساد، و مع إمكان عروض التغير و الفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتة.
و الجواب: إنا بينا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنساني نحو سعادته الحقيقية إنما يتحقق بيد الصنع و الإيجاد الخارجي دون العقل الفكري، و لا معنى لتحقق الخطإ في الوجود الخارجي.
و أما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير و الفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير و الفساد، و إنما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري (و قد مر أن الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري) و ذلك أن من الشعور شعور الإنسان بنفسه، و هو لا يقبل البطلان و الفساد و التغير و الخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي، و تتمة هذا الكلام موكول إلى محله.
فقد تبين مما مر أمور: أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدن و الاختلاف.
ثانيها: أن هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع و لن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة.
ثالثها: أن رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الإنسان لا غير.
رابعها: أن سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.
خامسها: أن هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات و القوانين المصلحة لحال النوع الإنساني في سعادته الحقيقية.
سادسها: أن هذه النتائج (و يهمنا من بينها الثلاثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، و كون شعور الوحي غير الشعور الفكري سنخا، و كون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحي) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي، و هو سير كل واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته و الوصول إليها و التلبس بها، و الإنسان أحد هذه الأنواع، و هو مجهز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحق و يتلبس بالملكات الفاضلة، و يعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد أن يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة يوما في الخارج و يهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط و لا خطأ على ما مر بيانه.
[سورة البقرة (٢): آیة ٢١٤]
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَ اَلضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ ٢١٤}
(بيان)
قد مر أن هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً} إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ}، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، و هو أن الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و نعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلموا له و لا يتبعوا خطوات الشيطان، و لا يلقوا فيه الاختلاف، و لا يجعلوا الدواء داء، و لا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا و نقمة من اتباع الهوى، و ابتغاء زخرف الدنيا و حطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم، فإن المحنة دائمة، و الفتنة قائمة، و لن ينال أحد من الناس سعادة الدين و قرب رب العالمين إلا بالثبات و التسليم.
و في الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن أصل الخطاب كان معهم و وجه الكلام إليهم في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً}، و إنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، و بعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا...
و كلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، و المعنى على ما قيل: بل أ حسبتم أن تدخلوا الجنة إلخ، و الخلاف في أم المنقطعة معروف، و الحق أن أم لإفادة الترديد، و أن الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان و الثبات على نعمة الدين، و الاتفاق و الاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة إلخ.
قوله تعالى: {وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}، المثل بكسر الميم فسكون
الثاء، و المثل بفتح الميم و الثاء كالشبه، و الشبه و المراد به ما يمثل الشيء و يحضره و يشخصه عند السامع، و منه المثل بفتحتين، و هو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: {مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}۱، و منه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ}٢، و إنما قالوا له (صلى الله عليه وآله و سلم): مجنون و ساحر و كذاب و نحو ذلك، و حيث إنه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: {مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَ اَلضَّرَّاءُ} إلخ فالمراد به المعنى الأول.
قوله تعالى: {مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَ اَلضَّرَّاءُ} إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الذي دل عليه بقوله: {وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ}، بين ذلك بقوله: {مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَ اَلضَّرَّاءُ} و البأساء هو الشدة المتوجهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال و الجاه و الأهل و الأمن الذي يحتاج إليه في حياته، و الضراء هي الشدة التي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح و القتل و المرض، و الزلزلة و الزلزال معروف و أصله من زل بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الأرض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، و هو كصر و صرصر، و صل و صلصل، و كب و كبكب، و الزلزال في الآية كناية عن الاضطراب و الإدهاش.
قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، قرئ بنصب يقول، و الجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، و قرئ برفع يقول و الجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، و المعنيان و إن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: {وَ زُلْزِلُوا} لا يناسب السياق كل المناسبة.
قوله تعالى: {مَتى نَصْرُ اَللَّهِ}، الظاهر أنه مقول قول الرسول و الذين آمنوا معه جميعا، و لا ضير في أن يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاء و طلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله و المؤمنين بهم كما قال تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ}٣، و قال تعالى: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي}٤، و قد قال تعالى أيضا: {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}٥، و هو أشد لحنا من هذه الآية.
و الظاهر أيضا أن قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ} مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول و الذين آمنوا معه...
و الآية (كما مرت إليه الإشارة سابقا) تدل على دوام أمر الابتلاء و الامتحان و جريانه في هذه الأمة كما جرى في الأمم السابقة.
و تدل أيضا على اتحاد الوصف و المثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، و هو الذي يسمى بتكرر التاريخ و عوده.
[سورة البقرة (٢): آیة ٢١٥]
{يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتَامى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ٢١٥}
(بيان)
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون و نوعه، و كان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق و هو المال على أقسامه، و كان الأحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله و بيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال.
و الذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، و هو أن الآية مع ذلك متعرضة لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، و ثانيا بقولها: {وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، ففي الآية دلالة على أن الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، و أن ذلك فعل خير و الله به عليم، لكنهم كان عليهم أن يسألوا عمن ينفقون لهم و يعرفوه، و هم: الوالدان و الأقربون و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.
و من غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بما في قوله تعالى: {مَا ذَا
يُنْفِقُونَ} ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي أن ينزل عليه الكلام العربي و لا سيما أفصح الكلام و أبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، و أنهم كيف ينفقونه، و في أي موضع يضعونه، فأجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!
و مثله و هو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أن السؤال و إن كان بلفظ ما إلا أن المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم أن الذي ينفق به هو المال، و إذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، و تعين أن السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: {قَالُوا اُدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}۱ فكان من المعلوم أن البقرة بهيمة نشأتها و صفتها كذا و كذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين أن يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، و لذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ}٢.
و قد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإن ما و إن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، و هي الحد المؤلف من الجنس و الفصل القريبين، لكنه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية، حتى يصح لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقين للإنفاق: ما ذا أنفق: أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ}، فإن ذلك من أوضح اللحن.
بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشيء سواء كان معرفا بالحد و الماهية، أو معرفا بالخواص و الأوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له و موضوعة للسؤال عن كيفية الشيء، و منه يعلم أن قوله تعالى: {يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} و قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ}، سؤال و جواب جاريان على أصل اللغة، و هو السؤال عما يعرف الشيء و يخصه و الجواب بذلك.
و أما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطإ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.
و يتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الأمرين جميعا: ما
ينفقون؟ و أين ينفقون فذكر أحد السؤالين و حذف الآخر، و هو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! و هو كما ترى.
و كيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، و إلا فكون الإنفاق من الخير و المال ظاهر، و التحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه و الاشتغال به كثير الورود في القرآن، و هو من ألطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: {وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَ نِدَاءً}۱ و قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}٢ و قوله تعالى: {مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}٣، و قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}٤، و قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً}٥، و قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ}٦، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.
قوله تعالى: {وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق و إن كان مندوبا إليه من قليل المال و كثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة و تقع عليه المحبة كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا اَلْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}۷، و كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لاَ تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}۸. و إيماء إلى أن الإنفاق ينبغي أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن و الأذى كما قال تعالى: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لاَ أَذىً}٩، و قوله تعالى: {وَ يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ}۱۰.
(بحث روائي)
في الدر المنثور عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: {يَسْئَلُونَكَ
عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ}، و {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرَامِ}، {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتَامى}، {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ}، و {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ}، و {يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ}، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم.
في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ و على من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن حيان، و قد استضعفوا الرواية، و هي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.
و نظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)أين يضعون أموالهم؟ فنزلت {يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}، فذلك النفقة في التطوع، و الزكاة سوى ذلك كله.
و نظيرها في ذلك أيضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، و هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، و الصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
أقول: و ليست النسبة بين آية الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}۱، و بين هذه الآية نسبة النسخ و هو ظاهر إلا أن يعني بالنسخ معنى آخر.
[سورة البقرة (٢): الآیات ٢١٦ الی ٢١٨]
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٢١٦يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اِسْتَطَاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢١٧إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢١٨}
(بيان)
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، و في القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ}۱، و غير ذلك من الآيات و الأدلة.
و لم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: {وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} و هو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، و حفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.
و الكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الإنسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، و الكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كان يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه قال تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسَاءَ كَرْهاً}٢، و قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}٣، و كون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لأن القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس و تعب الأبدان و المضار المالية و ارتفاع الأمن و الرخص و الرفاهية، و غير ذلك مما يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها و شاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه و إن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، و ذكر أن فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ و الزلل، و هو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر و أحد و الخندق و غيرها، و معلوم أن من الجائز
أن ينسب الكراهة و التثاقل إلى قوم فيهم كاره و غير كاره و أكثرهم كارهون، فهذا وجه.
و إما لأن المؤمنين كانوا يرون أن القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة و القوة لا يتم على صلاح الإسلام و المسلمين، و أن الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس و كثرة الأموال و رسوخ الاستطاعة، و لذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال و الاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي و النظر، فإن لله أمرا في هذا الأمر هو بالغه، و هو العالم بحقيقة الأمر و هم لا يعلمون إلا ظاهره و هذا وجه آخر.
و إما لأن المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، و ملكة الرحمة و الرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، و لم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم و يخالطوهم بالعشرة الجميلة، و الدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، و يدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، و نفوس الكفار من الهلاك الأبدي و البوار الدائم، فبين ذلك أنهم مخطئون في ذلك، فإن الله و هو المشرع لحكم القتال يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، و أنه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع و يرمى به، و هذا أيضا وجه.
فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: {وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} إلا أن الأول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على أن التعبير في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتَالُ}، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.
قوله تعالى: {وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، قد مر فيما مر أن أمثال عسى و لعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، و ليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو
السامع.
و تكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطئهم في الأمرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم أو تحبوا شيئا و هو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم و حبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، و مثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، و أما من أخطأ خطاءين كان يكره المعاشرة و المخالطة و يحب الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطئه في الأمرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، و لا في حبك اهتديت، عسى أن تكره شيئا و هو خير لك و عسى أن تحب شيئا و هو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، و لما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}، نبههم الله بالخطاءين بالجملتين المستقلتين و هما: عسى أن تكرهوا، و عسى أن تحبوا.
قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، تتميم لبيان خطئهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطئهم في كراهتهم للقتال بقوله: {عَسى أَنْ تَكْرَهُوا}، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، و زوال صفة الجهل المركب كر عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الأمور، و الذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه و كشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلموا إليه سبحانه الأمر.
و الآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق و نفي العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ}۱، و قوله تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}٢، و قد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}٣.
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (الآية)، تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام و ذمه بأنه صد عن سبيل الله و كفر، و اشتمالها مع ذلك على أن إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، و أن الفتنة أكبر من القتل، يؤذن
بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال و أن هناك قتلا، و أنه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الآية)، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، و طعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش و أصحابه.
قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}، الصد هو المنع و الصرف، و المراد بسبيل الله العبادة و النسك و خاصة الحج، و الظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، و المسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله و عن المسجد الحرام.
و الآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، و قد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} التوبة - ٦، و ليس بصواب، و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.
قوله تعالى: {وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ}، أي و الذي فعله المشركون من إخراج رسول الله و المؤمنين من المهاجرين، و هم أهل المسجد الحرام، منه أكبر من القتال، و ما فتنوا به المؤمنين من الزجر و الدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين أن يطعنوا المؤمنين و قد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، و لم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلا راجين رحمة الله و الله غفور رحيم.
قوله تعالى: {وَ لاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إلى آخر الآية {حَتَّى} للتعليل أي ليردوكم.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إلخ، تهديد للمرتد بحبط العمل و خلود النار.
(كلام في الحبط)
و الحبط هو بطلان العمل و سقوط تأثيره، و لم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ}۱،
و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}۱، و ذيل الآية يدل بالمقابلة على أن الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}٢، و يقرب منه قوله تعالى: {وَ قَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}٣.
و بالجملة الحبط هو بطلان العمل و سقوطه عن التأثير، و قد قيل: إن أصله من الحبط بالتحريك و هو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه و ربما أدى إلى هلاكه.
و الذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا و الآخرة معا، فللحبط تعلق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإن الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}٤، و خسران سعي الكافر، و خاصة من ارتد إلى الكفر بعد الإيمان، و حبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، و هو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، و يتسلى به عند المصيبة، و يرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}٥، تبين الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة و نورا في أفعاله، و ليس للكافر، و مثله قوله تعالى، {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى}٦، حيث يبين أن معيشة الكافر و حياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، و بالمقابلة معيشة المؤمن و حياته سعيدة رحبة وسيعة.
و قد جمع الجميع و دل على سبب هذه السعادة و الشقاوة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ}۷.
فظهر مما قربناه أن المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية، و الأفعال القربية التي كان المرتد عملها و أتى بها حال الإيمان، مضافا إلى أن الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، و لا فعل قربي
لهم كالكفار و المنافقين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}۱، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}٢، إلى غير ذلك من الآيات.
فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو أن الكفر و الارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثر في سعادة الحياة، كما أن الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، و إن ارتد بعد الإيمان ماتت أعماله جميعا و حبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية و لا أخروية، لكن يرجى له ذلك أن هو لم يمت على الردة و إن مات على الردة حتم له الحبط و كتب عليه الشقاء.
و من هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتد إلى حين الموت و الحبط عنده أو عدمه.
توضيح ذلك: أنه ذهب بعضهم إلى أن أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، و استدل عليه بقوله تعالى {وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} (الآية) و ربما أيده قوله تعالى: {وَ قَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}٣، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت، و يتفرع عليه أنه لو رجع إلى الإيمان تملك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.
و ذهب آخرون إلى أن الردة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه و إن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانيا إلى حين الموت، و أما الآية فإنما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله و أفعاله التي عملها في الدنيا!
و أنت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف، أن لا وجه لهذا النزاع أصلا، و أن الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله و أفعاله من حيث التأثير في سعادته!
و هنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة و هي مسألة الإحباط و التكفير، و هي أن الأعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها و للسيئة حكمها، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن.
ذهب بعضهم إلى التباطل و التحابط بين الأعمال و قد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، و لازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلا حسنة فقط، أو سيئة فقط و من قائل بالموازنة و هو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقل و يبقى الباقي سليما عن المنافي، و لازم القولين جميعا أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما.
و يردهما أولا قوله تعالى: {وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}۱، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال و بقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، و هو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه.
و ثانيا: أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنساني من طريق المجازاة، و هو الجزاء على الحسنة على حدة و على السيئة على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية و العبودية من أصلها فهو مورد الإحباط، و الآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الإيراد.
و ذهب آخرون إلى أن نوع الأعمال محفوظة، و لكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة و السيئة.
نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}٢، و قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}٣، و قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}٤، بل بعض الأعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}٥.
و هنا مسألة أخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، و هي البحث عن وقت استحقاق
الجزاء و موطنه، فقيل: إنه وقت العمل، و قيل: حين الموت، و قيل: الآخرة، و قيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت و موافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يئول إليه حاله و يستقر عليه، فيكتب ما يستحقه حال العمل.
و قد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الأوقات بحسب الانطباق، و ربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة.
و الذي ينبغي أن يقال: إنا لو سلكنا في باب الثواب و العقاب و الحبط و التكفير و ما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}۱، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته و في آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها و تقوم بها نتائج و آثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، و إذا صدر منه معصية فصوره معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول و التغير بحسب ما يطرؤها من الحسنات و السيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، و هذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن و تقف الحركة و يبطل التحول و استعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور و آثارها ثبوتا لا يقبل التحول و التغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا.
و كذا لو سلكنا في الثواب و العقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة و المعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهية و ترتب الثواب و العقاب عليها حاله من حيث الإطاعة و المعصية في التكاليف الاجتماعية و ترتب المدح و الذم عليها، و العقلاء يأخذون في مدح المطيع و المحسن و ذم العاصي و المسيء بمجرد صدور الفعل عن فاعله، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح و الذم قابلا للتغير و التحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير و الزوال عما هو عليه من الانقياد و التمرد، فلحوق المدح و الذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه، و أما ثبوت المدح و الذم و لزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.
و من هنا يعلم: أن في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.
و أن الحق أولا: أن الإنسان يلحقه الثواب و العقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول و التغير بعد، و إنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.
و ثانيا: أن حبط الأعمال بكفر و نحوه نظير استحقاق الأجر يتحقق عند صدور المعصية و يتحتم عند الموت.
و ثالثا: أن الحبط كما يتعلق بالأعمال الأخروية كذلك يتعلق بالأعمال الدنيوية.
و رابعا: أن التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير و نحوه.
(كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)
[من أحكام الأعمال: تأثير بعضها في بعض]
أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا و الآخرة كالارتداد. قال تعالى: {وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} (الآية)، و كالكفر بآيات الله و العناد فيه. قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ}۱، و كذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا و الآخرة كالإسلام و التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}٢، و قال تعالى: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى}٣.
و أيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاَ
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}۱، فإن المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة، و إبطال العمل هو الإحباط، و كرفع الصوت فوق صوت النبي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ وَ لاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}٢.
و كذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ}٣، و كالحج، قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}٤، و كاجتناب الكبائر، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}٥، و قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوَاحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ}٦.
و أيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ}۷، و قد ورد هذا المعنى في الغيبة و البهتان و غيرهما في الروايات المأثورة عن النبي و أئمة أهل البيت، و كذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجيء.
و أيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}۸، و قال: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}٩، و كذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ}۱۰.
و أيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ}۱۱، و قال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}۱٢، و كذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: {مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}۱٣ ومثله ما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ}۱٤، و ما في قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ}۱، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}٢.
و أيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}٣.
و أيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}٤، و يمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم قال تعالى: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ}٥.
و أيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، و يجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، و يجذب سيئاته إليه، و هذا من عجيب الأمر في باب الجزاء و الاستحقاق، سيجيء البحث عنه في قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}٦.
و في موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إن شاء الله العزيز.
و بالتأمل في الآيات السابقة و التدبر فيها يظهر: أن في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة و الشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، و ذلك أن فعل الأكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية فعلية و انفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا و لا يتخطاه إلى غيره، و لا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، و كذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، و لا يتعداه إلى غيره، و لا يتبدل بغيره، و لا ينقلب عن هويته و ذاته، و كذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لا غير و كان زيد ضاربا لا غير، و كان عمرو مضروبا لا غير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة و الشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى:
{وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}۱، و قال تعالى: {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}٢، و قال تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ}٣، و قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلْكَافِرِينَ}٤.
و بالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، و ربما نقل الفعل و أسنده إلى غير فاعله، و ربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
و لا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال و آثارها و يفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء، و ذلك أنا نرى أن الله سبحانه و تعالى (فيما حكاه في كتابه) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين في حال الموت و البرزخ، و كذا في القيامة و النار و الجنة بحجج عقلية تعرفها العقول قال تعالى: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}٥، و قد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، و كفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: {وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ}٦.
و من هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال و دار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة و نشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
و الذي يحل به هذه العقدة: أن الله تكلم مع الناس في دعوتهم و إرشادهم بلسان أنفسهم و جرى في مخاطباته إياهم و بياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، و تمسك بالأصول و القوانين الدائرة في عالم العبودية، و المولوية فعد نفسه مولى و الناس عبيدا و الأنبياء رسلا إليهم، و واصلهم بالأمر و النهي و البعث و الزجر، و التبشير و الإنذار،
و الوعد و الوعيد، و سائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب و مغفرة و غير ذلك.
و هذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الأمر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير أنه شيء لا تسعه حواصلهم و حقائق لا تحيط بها أفهامهم و لذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}۱.
فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء و ما يرتبط بها على الأحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح و المفاسد، و من لطيف الأمر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العادية قابلة التطبيق على الأحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا: التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار و المفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، و في المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها أفعال للتابعين فيها، فهي أفعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
و كذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيرا أو شرا، و إسناد الفعل إلى غير فاعله، و جعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، و يوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع و في سطح الأفهام العامة، و إن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، و كانت الأحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، و سينكشف على
الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}۱، و قال تعالى: {وَ مَا كَانَ هَذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} (إلى أن قال) {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}٢.
و بهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائي بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة و بين أمثال قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}٣، و قوله تعالى: {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}٤، و قوله تعالى: {كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}٥، و قوله تعالى: {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى}٦، و قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً}۷، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و ذلك أن الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، و كذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو و فعله المتبوع، فالمعصية معصيتان، و كذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، و فاعل كمثله، فهؤلاء و أمثالهم من مصاديق قوله تعالى: {لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} ۸ و نظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.
و إلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}٩، فقوله: و هو أعلم بما يفعلون، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه و يحاسبه من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم و لا عقل، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ}۱۰، و في الآخرة أيضا حيث قال
{وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً}۱، و قال تعالى: {نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ}٢، و قال تعالى في تصديق هذا السلب: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ}٣، فأثبت لكل من المتبوعين و تابعيهم الضعف من العذاب، أما المتبوعين فلضلالهم و إضلالهم، و أما التابعين فلضلالهم و إقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر أنهم جميعا لا يعلمون.
فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا و الآخرة ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}٤، و كالآيات التي تحتج عليهم و لا معنى للاحتجاج على من لا علم له و لا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة و لا مناص من إثبات العقل و الإدراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم و اليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ}٥، و قوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}٦.
قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، و معنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث و عدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً}۷، و قوله تعالى: {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ}۸، إلى غير ذلك من الآيات، و سيجيء استيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}٩.
و قد أجاب الإمام الغزالي عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: أن نقل الحسنات و السيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره، و لم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ
اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ}، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة و هو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، و ما لا يعلمه الإنسان فليس بموجود له و إن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الآن في حقه.
فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل و العرض كيف ينقل؟ فنقول: المنقول ثواب الطاعة، لا نفس الطاعة و لكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها، و أثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الإنسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، و نقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، و إن كان جوهرا فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير و للمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة و الظلمة، و بأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور و المعرفة و المشاهدة، و بالظلم و القسوة يستعد القلب للحجاب و البعد، و بين آثار الطاعات و المعاصي تعاقب و تضاد كما قال تعالى: {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ}، و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أتبع السيئة الحسنة تمحقها، و الآثام تمحيصات للذنوب، و لذلك قال (عليه السلام): إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، و قال (عليه السلام): الحدود كفارات.
فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه و قسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها و المظلوم يتألم فينكسر شهوته و يمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، و ما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم و هذا معنى نقل الحسنات و السيئات.
فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم و حدوث نور آخر في قلب المظلوم، و بطلان الظلمة من قلب المظلوم و حدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم و ليس هذا نقلا حقيقة.
قلنا اسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظل من موضع إلى موضع آخر، و انتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط
إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كني بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب، و سمي إثبات الوصف في محل و إبطال مثله في محل آخر بالنقل، و كل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخصا.
أقول: محصل ما أفاده أن إطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق أي القاتل و المقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب و استعارة اسم النقل لإمحاء شيء و إثبات شيء آخر في محل آخر، و إذا اطرد هذا الوجه في سائر أحكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، و قد عرفت أنه سبحانه قرر هذه الأحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، و يبني عليه أحكامه من المصالح و المفاسد، و لا ريب أن هذه الأحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل و ما يشبه ذلك باعتقاد أن الجرم عين الجرم و الحسنة عين الحسنة و هكذا.
هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن أحكام العقل العملي، و أما بالنسبة إلى غير هذا الظرف و هو ظرف الحقائق فالجميع مجازات إلا بحسب التحليل بمعنى أن نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى و التشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.
و من أحكام الأعمال
أنها محفوظة مكتوبة متجسمة كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}۱، و قال تعالى: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً}٢، و قال تعالى: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}٣، و قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ}٤، و قد مر البحث عن تجسم الأعمال.
و من أحكام الأعمال
أن بينها و بين الحوادث الخارجية ارتباطا، و نعني بالأعمال
الحسنات و السيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية، دون الحركات و السكنات التي هي آثار الأجسام الطبيعية فقد قال تعالى: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}۱، و قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}٢، و قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلىََ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}٣، و الآيات ظاهرة في أن بين الأعمال و الحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا.
و يجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى و هما قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}٤، و قوله تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}٥.
فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الإنساني على طاعة الله سبحانه و سلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، و انفتاح أبواب البركات، و انحراف هذا النوع عن صراط العبودية، و تماديه في الغي و الضلالة، و فساد النيات، و شناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر و البحر و هلاك الأمم بفشو الظلم و ارتفاع الأمن و بروز الحروب و سائر الشرور الراجعة إلى الإنسان و أعماله، و كذا ظهور المصائب و الحوادث المبيدة الكونية كالسيل و الزلزلة و الصاعقة و الطوفان و غير ذلك، و قد عد الله سبحانه سيل العرم و طوفان نوح و صاعقة ثمود و صرصر عاد من هذا القبيل.
فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل و السيئات أذاقها الله وبال أمرها و آل ذلك إلى إهلاكها و إبادتها، قال تعالى: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ}٦، و قال تعالى: {وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}۷، و قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ}۸، هذا كله في الأمة الطالحة،
و الأمة الصالحة على خلاف ذلك.
و الفرد كالأمة يؤخذ بالحسنة و السيئة و النقم و المثلات غير أن الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما أنه يؤخذ بمظالم غيره كآبائه و أجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ}۱، و المراد به ما أنعم الله عليه من الملك و العزة و غيرهما، و قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ}٢، و قال تعالى: {وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}٣، و كأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: {جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}٤، و قال تعالى: {وَ أَمَّا اَلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا}٥، و قال تعالى: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ}٦، و المراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه. و بالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من أفراد الإنسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة أنعمها عليه و امتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}۷، و قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}۸، و الآية كسابقتها تدل على أن نفس الشكر من الأعمال الصالحة التي تستتبع النعم.
و إن كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه و استدراجا و إملاء يملى عليه كما قال تعالى: {وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ}٩، و قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}۱۰، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}۱۱.
و إذا أنزلت النوازل و كرت المصائب و البلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة و محنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، و كان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة و المحك، قال تعالى: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}۱٢.
و قال تعالى: {وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}۱.
و إن كان المصاب طالحا كان ذلك أخذا بالنقمة و عقابا بالأعمال، و الآيات السابقة دالة على ذلك.
فهذا حكم العمل يظهر في الكون و يعود إلى عامله، و أما قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}٢، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به (و الله أعلم) ذم الدنيا و متاعها و أنها لا قدر لها و لمتاعها عند الله سبحانه، و لذلك يؤثر للكافر، و أن القدر للآخرة و لو لا أن أفراد الإنسان أمثال و المساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر.
فإن قيل: الحوادث العامة و الخاصة كالسيول و الزلازل و الأمراض المسرية و الحروب و الأجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، و عليه فلا محل للتعليل بالأعمال الحسنة و السيئة بل هو فرضية دينية، و تقدير لا يطابق الواقع.
قلت: هذا إشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى و سنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ}٣.
و جملة القول فيه: أن الشبهة ناشئة عن سوء الفهم و عدم التنبه لمقاصد القرآن و أهله، فهم لا يريدون بقولهم: إن الأعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها، و لا تشريك الأعمال مع العوامل المادية، كما أن الإلهيين لا يريدون بإثبات الصانع إبطال قانون العلية و المعلولية العام و إثبات الاتفاق و المجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية و استناد بعض الأمور إليه و البعض الآخر إليها، بل مرادهم إثبات علة في طول علة، و عامل معنوي فوق العوامل المادية، و إسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن
بالترتيب: أولا و ثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الإنسان و إلى يده.
و مغزى الكلام: هو أن سائق التكوين يسوق الإنسان إلى سعادته الوجودية و كماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، و من المعلوم أن من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الأعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو إشراف سائره إلى الهلاك و البوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من أعضائه فإن وفق له أصلح المحل و إن عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به.
و قد دلت المشاهدة و التجربة على أن الصنع و التكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات و الفسادات المتوجه إليه، و لا معنى لاستثناء الإنسان في نوعه و فرده عن هذه الكلية! و دلتا أيضا على أن التكوين يعارض كل موجود نوعي بأمور غير ملائمة تدعوه إلى إعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده و يوصله غايته و سعادته التي هيأها له فما بال الإنسان لا يعتني في شأنه بذلك؟
و هذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}۱، و قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا}٢، فكما أن صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا و من غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه و بين مصنوعه بمجرد إيجاده، و لم يبال: إلى ما يئول أمره؟ و ما ذا يصادفه من الفساد و الآفة؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لأمره شاهدا على رأسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لأجلها و ركب أجزاءه للوصول إليها أصلح حاله و تعرض لشأنه بزيادة و نقيصة أو بإبطاله من رأس و تحليل تركيبه و العود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما و من جملتها الإنسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا، و لم يوجده هباء، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: {أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}٣، و قال تعالى: {وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى}٤، و من الضروري حينئذ أن تتعلق العناية الربانية إلى
إيصال الإنسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة و الإرشاد، ثم بالامتحان و الابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة و سقطت عنه الهداية، فإن في ذلك إتقانا للصنع في الفرد و النوع و ختما للأمر في أمة و إراحة الآخرين، قال تعالى: {وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}۱، انظر إلى موضع قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ}.
و هذه السنة الربانية أعني سنة الابتلاء و الانتقام هي التي أخبر الله عنها أنها سنة غير مغلوبة و لا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ}٢، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ}٣.
[و من أحكام الأعمال أن الغلبة للحسنة على السيئة]
و من أحكام الأعمال من حيث السعادة و الشقاء: أن قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، و من خواص قبيل السعادة كل صفة و خاصة جميلة كالفتح و الظفر و الثبات و الاستقرار و الأمن و التأصل و البقاء، كما أن مقابلاتها من الزهاق و البطلان و التزلزل و الخوف و الزوال و المغلوبية و ما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء.
و الآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، و يكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ}٤، و قوله تعالى: {لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ}٥، و قوله تعالى: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوى}٦، و قوله تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ}۷، و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}۸، إلى غير ذلك من الآيات.
و تذييل الكلام في هذه الآية الأخيرة بقوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، مشعر
بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل أكثرهم جاهلون بها، و لو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل أحد لم يجهلها الأكثرون، و إنما جهلها من جهلها، و أنكرها من أنكرها من جهتين: .
الأولى: أن الإنسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده و لا يغيب عنه، يتكلم عن الحال و يغفل عن المستقبل، و يحسب دولة يوم دولة، و يعد غلبة ساعة غلبة، و يأخذ عمره القصير و متاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه و هو المحيط بالزمان و المكان، و الحاكم على الدنيا و الآخرة و القيوم على كل شيء إذا حكم حكم فصلا، و إذا قضى قضى حقا، و الأولى، و العقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، و لا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) أن يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمة، فيظن الجاهل أن الأمر أعجزه تعالى و أن الله سبحانه مسبوق (مغلوب ساء ما يحكمون) لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، و يحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن و لا يئوده حفظهما و هو العلي العظيم، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ}۱.
و الثانية: أن غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات و قهرها أن تتسلط على الأفعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، و بسط الكره و الإجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقا، و يأسرون آخرين، و يفعلون ما يشاءون بالتحكم و التهكم، و قد دل التجارب و حكم البرهان على أن الكره و القسر لا يدوم، و أن سلطة الأجانب لا يستقر على الأمم الحية استقرارا مؤبدا، و إنما هي رهينة أيام قلائل.
و أما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، و بأن تربي أفرادا تعتقدها و تؤمن بها، فليس فوق الإيمان التام درجة و لا كإحكامه حصن، فإذا استقر الإيمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا و إن ا