المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء السادس
تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
بقية سورة المائدة
[سورة المائدة (٥): الآیات ٥٥ الی ٥٦]
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ ٥٥ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُونَ ٥٦}
(بيان)
الآيتان كما ترى موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب و الكفار، و لذلك رام جماعة من مفسري القوم إشراكهما مع ما قبلهما و ما بعدهما من حيث السياق، و جعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الأشخاص ولاية النصرة، و النهي عن ولاية اليهود و النصارى و الكفار، و قصر الولاية في الله سبحانه و رسوله و المؤمنين الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون، و هؤلاء هم المؤمنون حقا فيخرج بذلك المنافقون و الذين في قلوبهم مرض، و يبقى على وجوب الولاية المؤمنون حقا، و تكون الآية دالة على مثل ما يدل عليه مجموع قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِين}: آل عمران - ٦٨، و قوله تعالى: {اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: الأحزاب: ٦، و قوله تعالى في المؤمنين: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: الأنفال: ٧٢، و قوله تعالى: {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ} (الآية): التوبة - ٧١. فمحصل الآية جعل ولاية النصرة لله و لرسوله و المؤمنين على المؤمنين.
نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحالية التي يتعقبها قوله: {وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاة} و هي قوله: {وَ هُمْ رَاكِعُون} و يرتفع الإشكال بحمل الركوع على معناه المجازي و هو مطلق
الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر و نحوه، و يعود معنى الآية إلى أنه ليس أولياؤكم اليهود و النصارى و المنافقين بل أولياؤكم الله و رسوله و المؤمنون الذين يقيمون الصلاة، و يؤتون الزكاة، و هم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع و الطاعة، أو أنهم يؤتون الزكاة و هم فقراء معسرون هذا.
لكن التدبر و استيفاء النظر في الآيتين و ما يحفهما من آيات ثم في أمر السورة يعطي خلاف ما ذكروه، و أول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات، و أن غرض الآيات التعرض لأمر ولاية النصرة، و تمييز الحق منها من غير الحق فإن السورة و إن كان من المسلم نزولها في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع لكن من المسلم أيضا أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، و مضامينها تشهد بذلك، و ما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده فليس مجرد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدل على وحدة السياق، و لا أن بعض المناسبة بين آية و آية يدل على نزولهما معا دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق.
على أن الآيات السابقة أعني قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصَارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} «إلخ»، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود و النصارى، و تعير المنافقين و الذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم و رعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود و النصارى و إسماعهم الحديث بوجه بخلاف الآيات التالية أعني قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفَّارَ أَوْلِيَاء} «إلخ»، فإنها تنهى عن ولايتهم و تتعرض لحالهم بالأمر بمخاطبتهم ثم يعيرهم بالنفاق و الفسق فالغرض في القبيلين من الآيات السابقة و اللاحقة مختلف، و معه كيف يتحد السياق؟
على أنك قد عرفت في البحث عن الآيات السابقة أعني قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصَارى أَوْلِيَاء} (الآيات) أن ولاية النصرة لا تلائم سياقها، و أن خصوصيات الآيات و العقود المأخوذة فيها و خاصة قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} و قوله: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لا تناسبها فإن عقد ولاية النصرة و اشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الآخر و لحوقه به، و لا أنه يصح تعليل النهي عن هذا العقد بأن القوم الفلاني بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودة التي توجب الامتزاج النفسي
و الروحي بين الطرفين، و تبيح لأحدهما التصرف الروحي و الجسمي في شئون الآخر الحيوية و تقارب الجماعتين في الأخلاق و الأعمال الذي يذهب بالخصائص القومية.
على أنه ليس من الجائز أن يعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وليا للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإن هذه النصرة التي يعتني بأمرها الله سبحانه، و يذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين و حينئذ يصح أن يقال: إن الدين لله بمعنى أنه جاعله و شارع شرائعه فيندب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو المؤمنون أو هما جميعا إلى نصرته أو يدعوا أنصارا لله في ما شرعه من الدين كقوله تعالى: {قَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اَللَّهِ}: الصف: ١٤، و قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اَللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}: محمد: ٧، و قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذَ اَللَّهُ مِيثَاقَ اَلنَّبِيِّينَ} إلى أن قال: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ}: آل عمران: ٨١، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و يصح أن يقال: إن الدين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمعنى أنه الداعي إليه و المبلغ له مثلا، أو إن الدين لله و لرسوله بمعنى التشريع و الهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى: {وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ}: الأعراف: ١٥٧، و قوله تعالى: {وَ يَنْصُرُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ}: الحشر: ٨، و قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا}: الأنفال: ٧٢، إلى غير ذلك من الآيات.
و يصح أن يقال: إن الدين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و للمؤمنين جميعا، بمعنى أنهم المكلفون بشرائعه العاملون به فيذكر أن الله سبحانه وليهم و ناصرهم كقوله تعالى: {وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}: الحج: ٤٠، و قوله تعالى {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ}: غافر: ٥١، و قوله تعالى: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِين}: الروم - ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.
لكن لا يصح أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصة، و يجعلوا أصلا فيه و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمعزل عن ذلك، ثم يعد (صلى الله عليه وآله و سلم) ناصرا لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينية إلا هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، و مساهمهم أفضل سهام؛ و لذلك لا نجد القرآن يعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ناصرا للمؤمنين و لا في آية واحدة، و حاشا ساحة الكلام الإلهي أن يساهل في رعاية أدبه البارع.
و هذا من أقوى الدليل على أن المراد بما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الولاية في القرآن هو ولاية التصرف أو الحب و المودة كقوله تعالى: {اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الأحزاب: ٦، و قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (الآية)، فإن الخطاب للمؤمنين، و لا معنى لعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وليا لهم ولاية النصرة كما عرفت.
فقد ظهر أن الآيتين أعني قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} إلى آخر الآيتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة، و لا يغرنك قوله تعالى في آخر الآية الثانية: {فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون}، فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرف و كذا ولاية المحبة و المودة، و الغلبة الدينية التي هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله و رسوله بأي وسيلة تمت و حصلت، و قد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي}: المجادلة: ٢١، و قال: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ َإِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ َوَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُون} الصافات: ١٧٣.
على أن الروايات متكاثرة من طرق الشيعة و أهل السنة على أن الآيتين نازلتان في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لما تصدق بخاتمه و هو في الصلاة، فالآيتان خاصتان غير عامتين، و سيجيء نقل جل ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و لو صح الإعراض في تفسير آية بالأسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها و تراكمها لم يصح الركون إلى شيء من أسباب النزول المأثورة في شيء من آيات القرآن و هو ظاهر، فلا وجه لحمل الآيتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامة.
نعم استشكلوا في الروايات و لم يكن ينبغي أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة أولا: بأنها تنافي سياق الآيات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدمت الإشارة إليه؛ و ثانيا: أن لازمها إطلاق الجمع و إرادة الواحد فإن المراد بالذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة «إلخ»، على هذا التقدير هو علي و لا يساعده اللغة، و ثالثا: أن لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدق بالخاتم، و لا يسمى ذلك زكاة.
قالوا: فالمتعين أن تؤخذ الآية عامة، و تكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الإفراد
فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب و يؤكدونها، فنهى الله عن ذلك و ذكر أن أولياءهم إنما هم الله و رسوله و المؤمنون حقا دون أهل الكتاب و المنافقين. و لا يبقى إلا مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله: {وَ هُمْ رَاكِعُون} و يندفع بحمل الركوع على معناه المجازي، و هو الخضوع لله أو الفقر و رثاثة الحال، هذا ما استشكلوه.
لكن التدبر في الآية و ما يناظرها من الآيات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعا:
أما وقوع الآية في سياق ولاية النصرة، و لزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أن الآيات غير مسوقة لهذا الغرض أصلا، و لو فرض سرد الآيات السابقة على هذه الآية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الآية في هذا الغرض.
و أما حديث لزوم إطلاق الجمع و إرادة الواحد في قوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} «إلخ»، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، و أنه فرق بين إطلاق لفظ الجمع و إرادة الواحد و استعماله فيه، و بين إعطاء حكم كلي أو الإخبار بمعرف جمعي في لفظ الجمع لينطبق على من يصح أن ينطبق عليه، ثم لا يكون المصداق الذي يصح أن ينطبق عليه إلا واحدا فردا و اللغة تأبى عن قبول الأول دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات.
و ليت شعري ما ذا يقولون في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى أن قال: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الآية): الممتحنة: ١، و قد صح أن المراد به حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشا؟ و قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلّ} المنافقون: ٨، و قد صح أن القائل به عبد الله بن أبي بن سلول؟ و قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُون}: البقرة: ٢١٥ و السائل عنه واحد؟، و قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً}: البقرة: ٢٧٤ و قد ورد أن المنفق كان عليا أو أبا بكر؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.
و أعجب من الجميع قوله تعالى: {يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَة} و القائل هو عبد الله بن أبي، على ما رووا في سبب نزوله و تلقوه بالقبول، و الآية واقعة بين الآيات المبحوث عنها نفسها.
فإن قيل: إن هذه الموارد لا تخلو عن أناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبر الله تعالى عنهم و عمن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إن محصله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوزة فليجر الآية أعني قوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} هذا المجرى، و لتكن النكتة هي الإشارة إلى أن أنواع الكرامات الدينية و منها الولاية المذكورة في الآية ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفا جزافيا و إنما يتبع التقدم في الإخلاص و العمل لا غير.
على أن جل الناقلين لهذه الأخبار هم صحابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و التابعون المتصلون بهم زمانا و هم من زمرة العرب العرباء الذين لم تفسد لغتهم و لم تختلط ألسنتهم و لو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة و لا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، و لكانوا أحق باستشكاله و الاعتراض عليه، و لم يؤثر من أحد منهم ذلك.
و أما قولهم: إن الصدقة بالخاتم لا تسمى زكاة، فيدفعه أن تعين لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنما تحقق في عرف المتشرعة بعد نزول القرآن بوجوبها و تشريعها في الدين، و أما الذي تعطيه اللغة فهو أعم من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة و يساوق عند الإطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر مما وقع فيما حكاه الله عن الأنبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم و إسحاق و يعقوب: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ} الأنبياء: ٧٣، و قوله تعالى في إسماعيل: {وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}: مريم: ٥٥ و قوله تعالى حكاية عن عيسى (عليه السلام) في المهد: {وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}: مريم: ٣١ و من المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة المالية بالمعنى الذي اصطلح عليه في الإسلام.
و كذا قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اِسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}: الأعلى: ١٥ و قوله تعالى: {اَلَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}: الليل: ١٨ و قوله تعالى: {اَلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون}: حم السجدة: ٧ و قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون}: المؤمنون: ٤، و غير ذلك من الآيات الواقعة في السور المكية و خاصة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة و غيرها، و لم تكن شرعت الزكاة المصطلحة بعد؛ فليت شعري ما ذا كان يفهمه المسلمون من هذه الآيات في
لفظ الزكاة.
بل آية الزكاة أعني قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُم}: التوبة: ١٠٣، تدل على أن الزكاة من أفراد الصدقة، و إنما سميت زكاة لكون الصدقة مطهرة مزكية مطلقا، و قد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة.
فتبين من جميع ما ذكرنا أنه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة و الإنفاق في سبيل الله زكاة، و تبين أيضا أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازي، و كذا ارتكاب التوجيه في قوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} حيث أتى باسم إن {وَلِيُّكُمُ} مفردا و بقوله {اَلَّذِينَ آمَنُوا} و هو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.
قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} قال الراغب في المفردات: الولاء (بفتح الواو) و التوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد، و الولاية النصرة، و الولاية تولي الأمر، و قيل: الولاية و الولاية (بالفتح و الكسر) واحدة نحو الدلالة و الدلالة و حقيقته تولي الأمر، و الولي و المولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي (بكسر اللام) و معنى المفعول أي الموالي (بفتح اللام) يقال للمؤمن: هو ولي الله عز و جل و لم يرد مولاه، و قد يقال: الله ولي المؤمنين و مولاهم.
قال: و قولهم: تولى إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية و حصوله في أقرب المواضع منه يقال: وليت سمعي كذا، و وليت عيني كذا، و وليت وجهي كذا أقبلت به عليه قال الله عز و جل: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} و إذا عدي بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الإعراض و ترك قربه. انتهى.
و الظاهر أن القرب الكذائي المعبر عنه بالولاية، أول ما اعتبره الإنسان إنما اعتبره في الأجسام و أمكنتها و أزمنتها ثم أستعير لأقسام القرب المعنوية بالعكس مما
ذكره لأن هذا هو المحصل من البحث في حالات الإنسان الأولية فالنظر في أمر المحسوسات و الاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإنسان من التفكر في المعقولات و المعاني و أنحاء اعتبارها و التصرف فيها.
و إذا فرضت الولاية و هي القرب الخاص في الأمور المعنوية كان لازمها أن للولي ممن وليه ما ليس لغيره إلا بواسطته فكل ما كان من التصرف في شئون من وليه مما يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنما يخلفه الولي لا غيره كولي الميت، فإن التركة التي كان للميت أن يتصرف فيها بالملك فإن لوارثه الولي أن يتصرف فيها بولاية الوراثة، و ولي الصغير يتصرف بولايته في شئون الصغير المالية بتدبير أمره، و ولي النصرة له أن يتصرف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، و الله سبحانه ولي عباده يدبر أمرهم في الدنيا و الآخرة لا ولي غيره، و هو ولي المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية و الدعوة و التوفيق و النصرة و غير ذلك، و النبي ولي المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم و لهم و عليهم بالتشريع و القضاء، و الحاكم ولي الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، و على هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق و الحلف و الجوار و الطلاق و ابن العم، و ولاية الحب و ولاية العهد و هكذا، و قوله: {يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَار} أي يجعلون أدبارهم تلي جهة الحرب و تدبر أمرها، و قوله {تَوَلَّيْتُمْ} أي توليتم عن قبوله أي اتخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإعراض عنه أو اتخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته بالإعراض عنه؛ فالمحصل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعا من حق التصرف و مالكية التدبير.
و قد اشتمل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} «إلخ» من السياق على ما يدل على وحدة ما في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمن العد في قوله: {اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} و أسند الجميع إلى قوله: {وَلِيُّكُمُ} و ظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. و يؤيد ذلك أيضا قوله في الآية التالية: {فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون} حيث يشعر أو يدل على كون المتولين جميعا حزبا لله لكونهم تحت ولايته؛ فولاية الرسول و الذين آمنوا إنما هو من سنخ ولاية الله.
و قد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية، الولاية التكوينية التي تصحح له التصرف في كل شيء و تدبير أمر الخلق بما شاء، و كيف شاء قال تعالى: {أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ اَلْوَلِيّ}: الشورى: ٩ و قال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُون}: السجدة: ٤ و قال: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَة}: يوسف: ١٠١ و قال: {فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِه}: الشورى: ٤٤ و في معنى هذه الآيات قوله: {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ}: ق: ١٦، و قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِه}: الأنفال: ٢٤.
و ربما لحق بهذا الباب ولاية النصرة التي ذكرها لنفسه في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ}: سورة محمد - ١١، و قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ}: التحريم: ٤، و في معنى ذلك قوله: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِين}: «الروم: ٤٧».
و ذكر تعالى أيضا لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة و الهداية و الإرشاد و التوفيق و نحو ذلك كقوله تعالى: {اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ}: البقرة: ٢٥٧، و قوله: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِين}: «آل عمران: ٦٨ و قوله: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِين}: الجاثية: ١٩، و في هذا المعنى قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً}: الأحزاب: ٣٦.
فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، و يرجع محصلها إلى ولاية التكوين و ولاية التشريع، و إن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية و الولاية الاعتبارية.
و قد ذكر الله سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) من الولاية التي تخصه الولاية التشريعية و هي القيام بالتشريع و الدعوة و تربية الأمة و الحكم فيهم و القضاء في أمرهم، قال تعالى: {اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: الأحزاب: ٦، و في معناه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّه}: النساء: ١٠٥، و قوله: {وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: الشورى: ٥٢، و قوله: {رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَة}: الجمعة: ٢، و قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: النحل: ٤٤ و قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُول}: النساء: ٥٩، و قوله: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}: الأحزاب: ٣٦، و قوله: {وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْك}: المائدة: ٤٩، و قد تقدم أن الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للأمة.
و يجمع الجميع أن له (صلى الله عليه وآله و سلم) الولاية على الأمة في سوقهم إلى الله و الحكم فيهم و القضاء عليهم في جميع شئونهم فله عليهم الإطاعة المطلقة فترجع ولايته (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعية، و نعني بذلك أن له (صلى الله عليه وآله و سلم) التقدم عليهم بافتراض الطاعة لأن طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدل عليه بعض الآيات السابقة كقوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُول} (الآية) و قوله: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً} (الآية) و غير ذلك.
و هذا المعنى من الولاية لله و رسوله هو الذي تذكره الآية للذين آمنوا بعطفه على الله و رسوله في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة و لرسوله و الذين آمنوا بالتبع و بإذن منه تعالى.
و لو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا و المقام مقام الالتباس كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس كما وقع نظيره في نظيرها، قال تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِين}: التوبة. ٦١، فكرر لفظ الإيمان لما كان في كل من الموضعين لمعنى غير الآخر، و قد تقدم نظيره في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُول}: النساء - ٥٩، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب.
على أن لفظ {وَلِيُّكُمُ} أتي به مفردا و قد نسب إلى الذين آمنوا و هو جمع، و قد وجهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الأصالة و لغيره بالتبع.
و قد تبين من جميع ما مر أن القصر في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ} «إلخ»، لقصر الإفراد كان المخاطبين يظنون أن الولاية عامة للمذكورين في الآية و غيرهم فأفرد المذكورون للقصر، و يمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} بيان للذين آمنوا المذكور سابقا، و قوله: {وَ هُمْ رَاكِعُون} حال من فاعل {يُؤْتُون} و هو العامل فيه.
و الركوع هو الهيأة المخصوصة في الإنسان، و منه الشيخ الراكع، و يطلق في عرف الشرع على الهيأة المخصوصة في العبادة، قال تعالى: {اَلرَّاكِعُونَ اَلسَّاجِدُونَ}
التوبة: ١١٢ و هو ممثل للخضوع و التذلل لله، غير أنه لم يشرع في الإسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة.
و لكونه مشتملا على الخضوع و التذلل ربما أستعير لمطلق التذلل و الخضوع أو الفقر و الإعسار الذي لا يخلو عادة عن التذلل للغير.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون}، التولي هو الأخذ وليا، و {اَلَّذِينَ آمَنُوا} مفيد للعهد و المراد به المذكور في الآية السابقة: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِين}، «إلخ»، و قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون} واقع موقع الجزاء و ليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علة الحكم، و التقدير: و من يتول فهو غالب لأنه من حزب الله و حزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنهم حزب الله.
و الحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، و قد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، و وسمهم بالفلاح فقال: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} إلى أن قال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اَللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُون}: المجادلة - ٢٢.
و الفلاح الظفر و إدراك البغية التي هي الغلبة و الاستيلاء على المراد، و هذه الغلبة و الفلاح هي التي وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به و بشرهم بنيله، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُون}: المؤمنون: ١، و الآيات في ذلك كثيرة، و قد أطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة و الفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة و الفوز بالحق و الغلبة على الشقاء، و إدحاض الباطل في الدنيا و الآخرة، أما في الدنيا فبالحياة الطيبة التي توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهرة من أولياء الشيطان على تقوى و ورع، و أما في الآخرة ففي جوار رب العالمين.
(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة،
عن زرارة؛ و الفضيل بن يسار، و بكير بن أعين، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و أبي الجارود، جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمر الله عز و جل رسوله بولاية علي و أنزل عليه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} و فرض من ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يفسر لهم الولاية كما فسر الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج .
فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و تخوف أن يرتدوا عن دينهم و أن يكذبوه، فضاق صدره و راجع ربه عز و جل فأوحى الله عز و جل إليه: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاس}، فصدع بأمر الله عز ذكره، فقام بولاية علي (عليه السلام) يوم غدير خم فنادى: الصلاة جامعة، و أمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب.
قال عمر بن أذينة: قالوا جميعا غير أبي الجارود: قال أبو جعفر (عليه السلام): و كانت الفريضة الأخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز و جل: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، قال أبو جعفر (عليه السلام): يقول الله عز و جل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض.
و في البرهان و غاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا}، قال: إن رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام و أسد و ثعلبة و ابن يامين و ابن صوريا فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا نبي الله إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ و من ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قوموا فقاموا و أتوا المسجد فإذا سائل خارج فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): يا سائل هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم هذا الخاتم قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي؛ قال على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعا فكبر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كبر أهل المسجد.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): علي وليكم بعدي قالوا: رضينا بالله ربا، و بمحمد نبيا، و بعلي
بن أبي طالب وليا فأنزل الله عز و جل: {وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون} الحديث.
و في تفسير القمي قال: حدثني أبي، عن صفوان: عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام): بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالس و عنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المسجد فاستقبله سائل فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم ذلك المصلي، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا هو علي (عليه السلام).
أقول: و رواه العياشي في تفسيره عنه (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ قال: حدثنا محمد بن محمد يعني المفيد قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد الكاتب، قال: حدثني الحسن بن علي الزعفراني، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي، قال: حدثنا محمد بن علي، قال: حدثنا العباس بن عبد الله العنبري، عن عبد الرحمن بن الأسود الكندي اليشكري، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه عن جده أبي رافع قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوما و هو نائم و حية في جانب البيت فكرهت أن أقتلها و أوقظ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فظننت أنه يوحى إليه فاضطجعت بينه و بين الحية فقلت: إن كان منها سوء كان إلى دونه.
فكنت هنيئة فاستيقظ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يقرأ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} حتى أتى على آخر الآية ثم قال: الحمد لله الذي أتم لعلي نعمته، و هنيئا له بفضل الله الذي آتاه، ثم قال لي: ما لك هاهنا؟ فأخبرته بخبر الحية فقال لي: اقتلها ففعلت ثم قال لي: يا (أبا،) رافع كيف أنت و قوم يقاتلون عليا و هو على الحق و هم على الباطل؟ جهادهم حقا لله عز اسمه فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شيء فقلت: يا رسول الله ادع الله لي إن أدركتهم أن يقويني على قتالهم قال: فدعا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: إن لكل نبي أمينا، و إن أميني أبو رافع.
قال: فلما بايع الناس عليا بعد عثمان، و سار طلحة و الزبير ذكرت قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فبعت داري بالمدينة و أرضا لي بخيبر و خرجت بنفسي و ولدي مع أمير المؤمنين (عليه السلام)
لأستشهد بين يديه فلم أدرك معه حتى عاد من البصرة، و خرجت معه إلى صفين (فقاتلت،) بين يديه بها و بالنهروان أيضا، و لم أزل معه حتى استشهد علي (عليه السلام)، فرجعت إلى المدينة و ليس لي بها دار و لا أرض فأعطاني الحسن بن علي (عليه السلام) أرضا بينبع، و قسم لي شطر دار أمير المؤمنين (عليه السلام) فنزلتها و عيالي.
و في تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأعلم بذلك فنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} (إلى آخر الآية) فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) علينا ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه.
و في تفسير العياشي عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما (عليه السلام) قال: قال: إنه لما نزلت هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} شق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و خشي أن تكذبه قريش فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} (الآية) فقام بذلك يوم غدير خم.
و فيه عن أبي جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله أوحى إلي أن أحب أربعة: عليا و أبا ذر و سلمان و المقداد، فقلت: ألا فما كان من كثرة الناس أ ما كان أحد يعرف هذا الأمر؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الآيات التي أنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} و قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} ما كان أحد يسأل فيمن نزلت؟ فقال من ثم أتاهم لم يكونوا يسألون.
و في غاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: في حديث مناشدة علي (عليه السلام) لأبي بكر حين ولى أبو بكر الخلافة، و ذكر (عليه السلام) فضائله لأبي بكر و النصوص عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فكان فيما قال له: فأنشدك بالله أ لي الولاية من الله مع ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك.
و في مجالس الشيخ بإسناده إلى أبي ذر: في حديث مناشدة أمير المؤمنين (عليه السلام) عثمان و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص يوم الشورى و احتجاجه عليهم بما فيه من النصوص من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الكل منهم يصدقه (عليه السلام) فيما يقوله فكان مما ذكره (عليه السلام): فهل فيكم أحد آتى الزكاة و هو راكع فنزلت فيه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} غيري؟ قالوا: لا.
و في الإحتجاج في رسالة أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي (عليه السلام) إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض.
قال (عليه السلام): اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها - فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، و على تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، فأخبر (عليه السلام): أن ما اجتمعت عليه الأمة و لم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون، و لا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، و اتباع أحكام الأحاديث المزورة، و الروايات المزخرفة، و اتباع الأهواء المردئة المهلكة التي تخالف نص الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيرات، و نحن نسأل الله أن يوفقنا للصلاة، و يهدينا إلى الرشاد.
ثم قال (عليه السلام): فإذا شهد الكتاب بصدق خبر و تحقيقه فأنكرته طائفة من الأمة عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة، فصارت بإنكارها و دفعها الكتاب ضلالا، و أصح خبر مما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: «إني مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله و عترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» و اللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي أهل بيتي، و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا».
وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}. ثم اتفقت
روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام): أنه تصدق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له، و أنزل الآية فيه. ثم وجدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «علي يقضي ديني، و ينجز موعدي، و هو خليفتي عليكم بعدي» و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله: أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟
فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، و تحقيق هذه الشواهد فيلزم الأمة الإقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، و وجدنا كتاب الله موافقا لهذه الأخبار، و عليها دليلا كان الاقتداء فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد و الفساد.
و في الإحتجاج في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): قال المنافقون لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): هل بقي لربك علينا بعد الذي فرض علينا شيء آخر يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره؟ فأنزل الله في ذلك: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} يعني الولاية فأنزل الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}، و ليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ و هو راكع غير رجل واحد، الحديث.
و في الاختصاص، للمفيد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن الحسن بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ فقال: نعم، هم الذين قال الله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} و هم الذين قال الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}.
أقول: و رواه في الكافي عن الحسين بن أبي العلاء عنه (عليه السلام)، و روي ما في معناه عن أحمد بن عيسى عنه (عليه السلام).
و إسناد نزول ما نزل في علي (عليه السلام) إلى جميع الأئمة (عليه السلام) لكونهم أهل بيت واحد، و أمرهم واحد.
و عن تفسير الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الشعراني قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين قال: حدثنا المظفر بن الحسن الأنصاري قال: حدثنا السري بن علي الوراق قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الجماني عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عباية بن الربعي قال: حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه و هو جالس بشفير زمزم يقول قال: رسول الله: إذ أقبل رجل معتم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله إلا و قال الرجل: قال رسول الله.
فقال له ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه و قال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله بهاتين و إلا فصمتا و رأيته بهاتين و إلا فعميتا يقول: علي قائد البررة و قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.
أما إني صليت مع رسول الله يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء و قال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا، و كان علي راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، و ذلك بعين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري، و يسر لي أمري، و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري، و أشركه في أمري. فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سنشد عضدك بأخيك، و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا.
اللهم و أنا محمد نبيك و صفيك، اللهم و اشرح لي صدري و يسر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري.
قال أبو ذر: فما استتم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الكلمة حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله تعالى فقال: يا محمد اقرأ قال: و ما أقرأ قال: قال: اقرأ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}.
و عن الجمع بين الصحاح الستة، لزرين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة
قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ}: (الآية) من صحيح النسائي عن ابن سلام: قال أتيت رسول الله ص فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله و رسوله، و أقسموا أن لا يكلموننا فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} (الآية).
ثم أذن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلون فمن بين ساجد و راكع و سائل إذ سائل يسأل، و أعطى علي خاتمه و هو راكع فأخبر السائل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقرأ علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون}.
و عن مناقب ابن المغازلي الشافعي: في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} (الآية): قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز إذنا قال: حدثنا الحسن بن علي العدوي قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا مجاهد عن ابن عباس: في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} قال: نزلت في علي.
و عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبو أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب قال: حدثنا محمد بن العسكري الدقاق قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبادة قال: حدثنا عمر بن ثابت عن محمد بن السائب عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان علي راكعا فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه فقال رسول الله: من أعطاك هذا؟ فقال: أعطاني هذا الراكع فأنزل الله هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (إلى آخر الآية).
و عنه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن طاوان إذنا: أن أبا أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب أخبرهم قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد العسكري قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثنا علي بن عابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث عليا بالحديث الذي حدثتني عن
أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي أنزلت فيه آيات من كتاب الله عز و جل: {وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} {أَ فَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (الآية).
و عن الخطيب الخوارزمي في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو بن العاص: لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه من الآيات المتلوات في فضائله التي لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}، {أَ فَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ}، و قد قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّه}، و قد قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى} و عنه بإسناده إلى أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل عبد الله بن سلام و معه نفر من قومه ممن قد آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا رسول الله إن منازلنا بعيدة، و ليس لنا مجلس و لا متحدث دون هذا المجلس، و إن قومنا لما رأونا قد آمنا بالله و رسوله و قد صدقناه رفضونا، و آلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلمونا، و قد شق ذلك علينا فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون}.
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج إلى المسجد و الناس بين قائم و راكع، و بصر بسائل، فقال له النبي: (صلى الله عليه وآله و سلم) هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم و أومأ بيده إلى علي بن أبي طالب فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): على أي حال أعطاك؟ قال: أعطاني و هو راكع، فكبر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم قرأ: {وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْغَالِبُون} فأنشأ حسان بن ثابت يقول:
أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي | *** | و كل بطيء في الهدى و مسارع |
أ يذهب مدحي و المحبين ضائعا | *** | و ما المدح في ذات الإله بضائع؟ |
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا | *** | فدتك نفوس القوم يا خير راكع |
بخاتمك الميمون يا خير سيد | *** | و يا خير شار ثم يا خير بائع |
فأنزل فيك الله خير ولاية | *** | و بينها في محكمات الشرائع |
و عن الحمويني بإسناده إلى أبي هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبأنا أنس بن مالك: أن سائلا أتى المسجد و هو يقول: من يقرض الملي الوفي؟ و علي راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عمر وجبت، قال: بأبي و أمي يا رسول الله ما وجبت؟ قال (صلى الله عليه وآله و سلم): وجبت له الجنة، و الله ما خلعه من يده حتى خلعه من كل ذنب و من كل خطيئة.
و عنه بإسناده عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة التطوع فنزع خاتمه و أعطاه السائل، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأعلمه ذلك، فنزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُون} فقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، ثم قال (صلى الله عليه وآله و سلم): من كنت مولاه فعلي مولاه.
و عن الحافظ أبي نعيم عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: جاء عبد الله بن سلام و أتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إياهم منذ أسلموا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أبغوا إلي سائلا فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فاذهب فأرني قال: فذهبنا فإذا علي قائم، فقال: هذا؛ فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ}.
و عنه عن موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال: تصدق علي بخاتمه و هو راكع فنزلت! {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} (الآية).
و عنه عن عوف بن عبيد بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو نائم إذ يوحى إليه و إذا حية في جنب البيت فكرهت أن أدخلها و أوقظه فاضطجعت بينه و بين الحية فإن كان شيء في دونه، فاستيقظ و هو يتلو هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} قال: الحمد لله فأتى إلى جانبي فقال: ما اضطجعت هاهنا؟ قلت: لمكان هذه الحية قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها.
ثم أخذ بيدي فقال: يا أبا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا حق على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك.
أقول: و الروايات في نزول الآيتين في قصة التصدق بالخاتم كثيرة أخرجنا عدة منها من كتاب غاية المرام، للبحراني، و هي موجودة في الكتب المنقول عنها، و قد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصة.
و قد اشترك في نقلها عدة من الصحابة كأبي ذر و ابن عباس و أنس بن مالك و عمار و جابر و سلمة بن كهيل و أبي رافع و عمرو بن العاص، و علي و الحسين و كذا السجاد و الباقر و الصادق و الهادي و غيرهم من أئمة أهل البيت (عليه السلام).
و قد اتفق على نقلها من غير رد أئمة التفسير المأثور كأحمد و النسائي و الطبري و الطبراني و عبد بن حميد و غيرهم من الحفاظ و أئمة الحديث و قد تسلم ورود الرواية المتكلمون، و أوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة، و في مسألة «هل تسمى صدقة التطوع زكاة» و لم يناقش في صحة انطباق الآية على الرواية فحول الأدب من المفسرين كالزمخشري في الكشاف، و أبي حيان في تفسيره، و لا الرواة النقلة و هم أهل اللسان.
فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن حديث نزول الآية في قصة الخاتم موضوع مختلق، و قد أفرط بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية فادعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوعا؟ و هي من عجيب الدعاوي، و قد عرفت ما هو الحق في المقام في البيان المتقدم.
[سورة المائدة (٥): الآیات ٥٧ الی ٦٦]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٥٧وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى اَلصَّلاَةِ اِتَّخَذُوهَا هُزُواً وَ لَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ٥٨قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ٥٩قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً
عِنْدَ اَللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنَازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ اَلسَّبِيلِ ٦٠وَ إِذَا جَاؤُكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ٦١ وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٦٢ لَوْ لاَ يَنْهَاهُمُ اَلرَّبَّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ٦٣ وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسَاداً وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ٦٤ وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتَابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٦٥ وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ٦٦}
(بيان)
الآيات تنهى عن اتخاذ المستهزءين بالله و آياته من أهل الكتاب و الكفار أولياء
و تعد أمورا من مساوي صفاتهم و نقضهم مواثيق الله و عهوده و ما يلحق بها بما يناسب غرض السورة (الحث على حفظ العهود و المواثيق و ذم نقضها).
و كأنها ذات سياق متصل واحد و إن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقل من حيث النزول.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ} «إلخ» قال الراغب: الهزء مزح في خفية، و قد يقال لما هو كالمزح (انتهى)، و قال: و لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا، يلعب لعبا، (انتهى)، و إنما يتخذ الشيء هزؤا و يستهزئ به إذا اتخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جد لإظهار أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، و كذا الشيء يلعب به إذا كان مما لا يتخذ لواحد من الأغراض الصحيحة العقلائية إلا أن يتخذ لبعض الشئون غير الحقيقية فالهزؤ بالدين و اللعب به إنما هما لإظهار أنه لا يعدل إلا بعض الأغراض الباطلة غير الصحيحة و غير الجدية، و لو قدروه دينا حقا أو قدروا أن مشرعه و الداعي إليه و المؤمنين به ذووا أقدام جد و صدق، و احترموا له و لهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتخاذهم الدين هزؤا و لعبا قضاء منهم بأن ليس له من الواقعية و المكانة الحقيقية شيء إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا.
و من هنا يظهر أولا: أن ذكر اتخاذهم الدين هزؤا و لعبا في وصف من نهي عن ولايتهم إنما هو للإشارة إلى علة النهي فإن الولاية التي من لوازمها الامتزاج الروحي و التصرف في الشئون النفسية و الاجتماعية لا يلائم استهزاء الولي و لعبة بما يقدسه وليه و يحترمه و يراه أعز من كل شيء حتى من نفسه فمن الواجب أن لا يتخذ من هذا شأنه وليا، و لا يلقي أزمة التصرف في الروح و الجسم إليه.
و ثانيا: ما في اتخاذ وصف الإيمان في الخطاب في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} من المناسبة لمقابلته بقوله: {اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً} و كذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله: {دِينَكُمْ}.
و ثالثا: أن قوله: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} بمنزلة التأكيد لقوله: {لاَ تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِبا} (إلخ)، بتكراره بلفظ أعم و أشمل فإن المؤمن و هو الآخذ بعروة الإيمان لا معنى لأن يرضى بالهزء و اللعب بما آمن به فهؤلاء إن
كانوا متلبسين بالإيمان أي كان الدين لهم دينا لم يكن لهم بد من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتخاذهم أولياء.
و من المحتمل أن يكون قوله: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} و المعنى: و اتقوا الله في اتخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، و المعنى الأول لعله أظهر.
قوله تعالى: {وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى اَلصَّلاَةِ اِتَّخَذُوهَا هُزُواً وَ لَعِباً} (إلخ) تحقيق لما ذكر أنهم يتخذون دين الذين آمنوا هزوا و لعبا، و المراد بالنداء إلى الصلاة الأذان المشروع في الإسلام قبل الصلوات المفروضة اليومية، و لم يذكر الأذان في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع كما قيل .
و الضمير في قوله {اِتَّخَذُوهَا} راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله: {إِذَا نَادَيْتُمْ} أعني المناداة، و يجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير و التأنيث، و قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُون} تذييل يجري مجرى الجواب عن فعلهم و بيان أن صدور هذا الفعل أعني اتخاذ الصلاة أو الأذان هزوا و لعبا منهم إنما هو لكونهم قوما لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحققوا ما في هذه الأركان و الأعمال العبادية الدينية من حقيقة العبودية و فوائد القرب من الله، و جماع سعادة الحياة في الدنيا و العقبى.
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} (إلى آخر الآية) قال الراغب في مفردات القرآن: نقمت الشيء (بالكسر) و نقمته (بالفتح) إذا أنكرته إما باللسان و إما بالعقوبة، قال تعالى: {وَ مَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اَللَّهُ}، {وَ مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ}، {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} (الآية) و النقمة: العقوبة قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ} انتهى.
فمعنى قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} «إلخ»: هل تنكرون أو تكرهون منا إلا هذا الذي تشاهدونه و هو أنا آمنا بالله و ما أنزله و إنكم فاسقون؟ نظير قول القائل: هل تكره مني إلا أني عفيف و أنك فاجر، و هل تنكر مني إلا أني غني و أنك فقير؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة و الازدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلا أنا مؤمنون و أن أكثركم فاسقون.
و ربما قيل: إن قوله: {وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُون} بتقدير لام التعليل و المعنى: هل تنقمون منا إلا لأن أكثركم فاسقون؟
و قوله: {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} في معنى ما أنزل إلينا و إليكم، و لم ينسبه إليهم تعريضا بهم كأنهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه و لم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم و ليسوا بأهلها.
و محصل المعنى: أنا لا نفرق بين كتاب و كتاب مما أنزله الله على رسله فلا نفرق بين رسله، و فيه تعريض لهم أنهم يفرقون بين رسل الله و يقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ} كما كانوا يقولون: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهَارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ} قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}: النساء: ١٥١.
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللَّهُ} (إلى آخر الآية) ذكروا أن هذا أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطب أولئك المستهزءين اللاعبين بالدين على طريق التسليم أخذا بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله و ما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لأنهم شر مكانا و أضل عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الإلهي و المسخ بالقردة و الخنازير و عبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلا بما هو دونه في الشر، و هم المؤمنون في إيمانهم على تقدير تسليم أن يكون إيمانهم بالله و كتبه شرا، و لن يكون شرا.
فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، و لعلها استعيرت للعاقبة و الصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً} بقوله: {عِنْدَ اَللَّهِ} فإن الذي عند الله هو أمر ثابت غير متغير و قد حكم به الله و أمر به، قال تعالى: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ}: النحل: ٩٦، و قال تعالى: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}: الرعد: ٤١، فهذه المثوبة مثوبة لازمة لكونها عند الله سبحانه.
و في الكلام شبه قلب، فإن مقتضى استواء الكلام أن يقال: إن اللعن و المسخ
و عبادة الطاغوت شر من الإيمان بالله و كتبه و أشد ضلالا، دون أن يقال: إن من لعنه الله و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت شر مكانا و أضل إلا بوضع الموصوف مكان الوصف، و هو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (الآية).
و بالجملة فمحصل المعنى أن إيماننا بالله و ما أنزله على رسله إن كان شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من ذلك يجب عليكم أن تنقموه و هو النعت الذي فيكم.
و ربما قيل: إن الإشارة بقوله: {ذَلِك} إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} و على هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، و المعنى هل أنبئكم بمن هو شر من المؤمنين لتنقموهم؟ و هم أنتم أنفسكم، و قد ابتليتم باللعن و المسخ و عبادة الطاغوت.
و ربما قيل: إن قوله: {مِنْ ذَلِك} إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} أي هل أنبئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة و جزاء؟ هو ما ابتليتم به من اللعن و المسخ و غير ذلك.
قوله تعالى: {وَ إِذَا جَاؤُكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} (إلى آخر الآية) يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم و إضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: و إذا جاءوكم قالوا آمنا أي أظهروا الإيمان و الحال أنهم قد دخلوا عليكم مع الكفر و قد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند الدخول و الخروج و هو الكفر لم يتغير عنه و إنما يظهرون الإيمان إظهارا، و الحال أن الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقا من الغدر و المكر.
فقوله: {وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} في معنى قولنا: لم يتغير حالهم في الكفر، و الضمير في قوله: {هُمْ قَدْ خَرَجُوا} جيء به للتأكيد، و إفادة تمييزهم في الأمر و تثبيت الكفر فيهم.
و ربما قيل: إن المعنى أنهم متحولون في أحوال الكفر المختلفة.
قوله تعالى: {وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْت} (إلى آخر الآية)، الظاهر أن المراد بالإثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين
و القول في معارف الدين بما يوجب الكفر و الفسوق على ما يشهد به ما في الآية التالية من قوله: {عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْت}.
و على هذا فالأمور الثلاثة أعني الإثم و العدوان و أكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول و الفعل، فهم يقترفون الذنب في القول و هو الإثم القولي، و الذنب في الفعل و هو إما فيما بينهم و بين المؤمنين و هو التعدي عليهم، و إما عند أنفسهم كأكلهم السحت، و هو الربا و الرشوة و نحو ذلك ثم ذم ذلك منهم بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} ثم أتبعه بتوبيخ الربانيين و الأحبار في سكوتهم عنهم و عدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام و المعاصي و هم عالمون بأنها معاص و ذنوب فقال: {لَوْ لاَ يَنْهَاهُمُ اَلرَّبَّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُون}.
و ربما أمكن أن يستفاد من قوله: {عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْت} عند تطبيقه على ما في الآية السابقة: {يُسَارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْت} حيث ترك العدوان في الآية الثانية أن الإثم و العدوان شيء واحد، و هو تعدي حدود الله سبحانه قولا تجاه المعصية الفعلية التي أنموذجها أكلهم السحت.
فيكون المراد بقوله: {يُسَارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْت} إراءة سيئة قولية منهم و هي الإثم و العدوان، و سيئة أخرى فعلية منهم و هي أكلهم السحت.
و المسارعة مبالغة في معنى السرعة و هي ضد البطء، و الفرق بين السرعة و العجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أن السرعة أمس بعمل الأعضاء و العجلة بعمل القلب، نظير الفرق بين الخضوع و الخشوع، و الخوف و الخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضد البطء، و يستعمل في الأجسام و الأفعال، يقال: سرع (بضم الراء) فهو سريع و أسرع فهو مسرع، و أسرعوا صارت إبلهم سراعا نحو أبلدوا، و سارعوا و تسارعوا، انتهى.
و ربما قيل: إن المسارعة و العجلة بمعنى واحد غير أن المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، و أن استعمال المسارعة في المقام و إن كان مقام الذم و كانت العجلة أدل على الذم منها إنما هو للإشارة إلى أنهم يستعملونها كأنهم محقون فيها، انتهى و لا يخلو عن بعد.
قوله تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينية، و لذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة و تعير المسلمين بنسخ الأحكام، و كذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال الآيات القرآنية كما تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (الآية)البقرة: ١٠٦، في الجزء الأول من هذا الكتاب و في موارد أخر.
و الآية أعني قوله تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ} تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أن ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} يأبى عن ذلك، و يدل على أنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شيء من أمر الرزق أما في خصوص المؤمنين لما في عامتهم من الفقر الشامل و العسرة و ضيق المعيشة، و أنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به و إنجائهم من الفقر و المذلة، لكن هذا الوجه لا يناسب وقوع الآية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوي سائر آياتها فإن المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش و سعة من الرزق و رفاهية من الحال.
و إما أنهم إنما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، و نكدت حالهم، و اختل نظام حياتهم، كما ربما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أيضا يأباه سياق الآيات فإن الظاهر أن الآيات إنما تتعرض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم و مكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم.
و إما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَنا}: البقرة: ٢٤٥، و قوله تعالى: {وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}: المزمل - ٢٠، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه و إحياء دعوته. و قد قالوا ذلك سخرية و استهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أقرب إلى النظر.
و كيف كان فهذه النسبة أعني نسبة غل اليد و المغلوبية عند بعض الحوادث مما
لا يأباه تعليمهم الديني و الآراء الموجودة في التوراة فالتوراة تجوز أن يكون الأمور معجزا لله سبحانه و صادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الإنسان، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الأنبياء كآدم و غيره.
فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه و كبرياء ذاته جلت عظمته و إن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الإنسان منها و يتجرأ بها.
و أما قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، و هو مغلولية اليد و انسلاب القدرة على ما يحبه و يشاؤه، و على هذا فقوله: {وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا} عطف تفسير على قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، و لعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه و من غيره.
و ربما احتمل كون قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (إلخ) إخبارا عن وقوع كلمة العذاب و هو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم: {يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ} عليهم، و الوجه الأول أقرب من الفهم.
و أما قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فهو جواب عن قولهم: {يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ} مضروب في قالب الإضراب.
و الجملة أعني قوله: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كناية عن ثبوت القدرة، و هو شائع في الاستعمال.
و إنما قيل: {يَدَاهُ} بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: {يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ} بصيغة الإفراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِين}: ص - ٧٥ لما فيه من الإشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، و نحو قولهم: «لا يدين بها لك» فإن ذلك مبالغة في نفي كل قدرة و نعمة.
و ربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة و القوة و النعمة و الملك و غير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، و إنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشئون المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الإنفاق و الجود إلى اليد من حيث بسطها، و انتساب الملك إليها من حيث التصرف و الوضع و الرفع و غير ذلك.
فما يثبته الكتاب و السنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} (الآية)، و قوله: {أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}: ص - ٧٥ يراد به القدرة و كمالها، و قوله: {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ}: آل عمران: ٢٦، و قوله: {فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: يس: ٨٣، و قوله: {تَبَارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ}: الملك: ١، إلى غير ذلك يراد بها الملك و السلطة، و قوله: {لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ}: الحجرات: ١ يراد بها الحضور و نحوه.
و أما قوله: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فهو بيان لقوله: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.
قوله تعالى: {وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً} هذه الجملة و ما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا} على ما يعطيه السياق.
فأما قوله: {وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} (إلخ)، فيشير إلى أن اجتراءهم على الله العظيم و تفوههم بمثل قولهم: {يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ليس من المستبعد منهم فإن القوم متلبسون بالاعتداء و الكفر من قديم أيامهم، و قد أورثهم ذلك البغي و الحسد، و لا يؤمن من هذه سجيته إذا رأى أن الله فضل غيره عليه بما لا يقدر قدره من النعمة أن يزداد طغيانا و كفرا.
و اليهود كانت ترى لنفسها السيادة و التقدم على الدنيا، و كانت تتسمى بأهل الكتاب، و تتباهى بالربانيين و الأحبار، و تفتخر بالعلم و الحكمة، و تسمي سائر الناس أميين، فإذا رأت قرآنا نازلا على قوم كانت تتذلل لعلمها و كتابها كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها و بين العرب في الجاهلية ثم أمعنت فيه فوجدته كتابا إلهيا مهيمنا على ما تقدم عليه من الكتب السماوية، و مشتملا على الحق الصريح و التعليم
العالي و الهداية التامة ثم أحست بما يتعقبه من ذلتها و استكانتها في نفس ما كانت تتعزز و تتباهى به و هو العلم و الكتاب.
لا جرم تستيقظ من رقدتها، و تطغى عاديتها، و يزيد طغيانها و كفرها.
فنسبة زيادة طغيانهم و كفرهم إلى القرآن إنما هي بعناية أن أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان و الكفر بمشاهدة نزول القرآن و إدراك ما يتضمنه من المعارف الحقة و الدعوة الظاهرة.
على أن الله سبحانه ينسب الهداية و الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كقوله: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}: الإسراء: ٢٠و قال في خصوص القرآن: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً}: الإسراء: ٨٢ و الإضلال أو ما يشبهه إنما يعد مذموما إذا كان إضلالا ابتدائيا، و أما ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق و معصية من الضال يوجب نزول السخط الإلهي عليه و يستدعي حلول ما هو أشد مما هو فيه من الضلال فلا ضير في الإضلال بهذا المعنى و لا ذم يلحقه كما يشير إليه قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِين}: البقرة: ٢٦، و قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: الصف - ٥.
و بالأخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم و كفرهم إلى سلب التوفيق و عدم تعلق العناية الإلهية بردهم مما هم فيه من الطغيان و الكفر بآيات الله إلى التسليم و الإيمان بإجابة الدعوة الحقة، و قد تقدم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِين}: البقرة: ٢٦ في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و لنرجع إلى أول الكلام فقوله: {وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} (إلخ)، كأنه مسوق لرفع الاستبعاد و التعجب الناشئ من اجتراء هؤلاء المتسمين بأهل الكتاب، و المدعين أنهم أبناء الله و أحباؤه على ربهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية: (يد الله مغلولة).
و إن من المحتوم اللازم لهم هذه الزيادة في الطغيان و الكفر التي هذه الكلمة من آثارها و سيتلوها آثار بعد آثار مشوهة، و هذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم و نون التأكيد في قوله: {لَيَزِيدَنّ}.
و في تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعي فإن
الكفر من آثار الطغيان و تبعاته.
قوله تعالى: {وَ أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصة و إن كانت الآيات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامة، و على هذا فالمراد بالعداوة و البغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب و الآراء، و قد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ} إلى أن قال {فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون}: الجاثية: ١٧ و غير ذلك من الآيات.
و العداوة كأن المراد بها البغض الذي يستصحب التعدي في العمل، و البغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار و إن لم يستعقب التعدي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الذي يوجب الظلم على الغير و البغض الذي يقصر عنه.
و في قوله تعالى: {إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} ما لا يخفى من الدلالة على بقاء أمتهم إلى آخر الدنيا.
قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللَّهُ} إيقاد النار إشعالها، و إطفاؤها إخمادها، و المعنى واضح، و من المحتمل أن يكون قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا} (إلخ) بيانا لقوله: {وَ أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ اَلْعَدَاوَة} (إلخ) فيعود المعنى إلى أنه كلما أثاروا حربا على النبي ص و المؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم.
و الآية على ما يدل عليه السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التي يوقدونها على دين الله سبحانه، و على المسلمين بما أنهم مؤمنون بالله و آياته، و أما الحروب التي ربما أمكن أن يوقدوا نارها لا لأمر الدين الحق بل لسياسة أو تغلب جنسي أو ملي فهي خارجة عن مساق الآية.
قوله تعالى: {وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسَاداً وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِين} السعي هو السير السريع، و قوله: {فَسَاداً} مفعول له أي يجتهدون لإفساد الأرض، و الله لا يحب المفسدين فلا يخليهم و أن ينالوا ما أرادوه من فساد الأرض فيخيب سعيهم، و الله أعلم.
فهذا كله بيان لكونهم غلت أيديهم و لعنوا بما قالوا، حيث إنهم غير نائلين ما قصدوه من إثارة الحروب على النبي ص و المسلمين، و ما اجتهدوا لأجله من فساد الأرض.
قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتَابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} (إلخ) عود إلى حال أهل الكتاب عامة كما كان بدأ الكلام فيهم عامة، و ختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الآخرة و الدنيا، و هي جنة النعيم و نعمة الحياة السعيدة.
و المراد بالتقوى بعد الإيمان التورع عن محارم الله و اتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي و عذاب النار، و هي الشرك بالله و سائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، و ينطبق على قوله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}: النساء: ٣١.
قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} المراد بالتوراة و الإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى و عيسى (عليه السلام) دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف.
و الظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الذي يسميه القرآن بالزبور، و غيره من الكتب.
و أما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة و الإنجيل فلا وجه لعدهما معه و تمني أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، و القول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا، كما أن العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمنة للناسخ و المنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا، غاية الأمر أن بعض الأحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالإقامة و هي حفظ الشيء على ساق، و لا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة و الإنجيل إنما يصح حين كانت
الشريعتان لم تنسخا بشريعة أخرى، و الإنجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلا في أمور يسيرة.
على أن قوله تعالى: {وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} يعدهم منزلا إليهم، و غير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أن القرآن نزل إليهم.
فالظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم بعد التوراة و الإنجيل سائر الكتب و أقسام الوحي المنزلة على أنبياء بني إسرائيل كزبور داود و غيره، و المراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العام بما فيها من شرائع الله تعالى، و الاعتقاد بما بين الله تعالى فيها من معارف المبدأ و المعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف و الكتمان و الترك الصريح، فلو أقاموها هذه الإقامة لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم.
و أما قوله تعالى: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} فالمراد بالأكل التنعم مطلقا سواء كان بالأكل كما في مورد الأغذية أو بغيره كما في غيره، و استعمال الأكل في مطلق التصرف و التنعم من غير مزاحم شائع في اللغة.
و المراد من فوقهم هو السماء، و من تحت أرجلهم هو الأرض، فالجملة كناية عن تنعمهم بنعم السماء و الأرض و إحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون}: الأعراف: ٩٦.
و الآية من الدليل على أن لإيمان هذا النوع أعني نوع الإنسان و أعماله الصالحة تأثيرا في صلاح النظام الكوني من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم و وفور النعم.
و يدل على ذلك آيات أخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ َقُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِين}: الروم - ٤٢ و قوله تعالى {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}: الشورى - ٣٠إلى غير ذلك و قد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} الاقتصاد أخذ
القصد و هو التوسط في الأمور فالأمة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين و التسليم لأمر الله.
و الكلام مستأنف أريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدي عن حدود الله و الكفر بآيات الله و نزول السخط و اللعن على جماعتهم أن ذلك كله إنما تلبس به أكثرهم و هو المصحح لنسبة هذه الفظائع إليهم و أن منهم أمة معتدلة ليست على هذا النعت و هذا من نصفة الكلام الإلهي حيث لا يضيع حقا من الحقوق و يراقب إحياء أمر الحق و إن كان قليلا.
و قد تعرض لذلك أيضا في مطاوي الآيات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله {وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُون} و قوله {وَ تَرىَ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُون} إلخ و قوله {وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً}.
بحث روائي
في تفسير القمي: في قوله تعالى {وَ إِذَا جَاؤُكُمْ قَالُوا آمَنَّا} (الآية) قال نزلت في عبد الله بن أبي لما أظهر الإسلام و قد دخلوا بالكفر.
أقول: ظاهر السياق أنها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلا أن تكون نزلت وحدها.
و فيه في قوله تعالى {وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} (الآية) قال قال قد خرجوا به من الإيمان.
و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن عمر بن رياح عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له بلغني أنك تقول من طلق لغير السنة أنك لا ترى طلاقه شيئا فقال أبو جعفر (عليه السلام) ما أقول بل الله عز و جل يقوله أما و الله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا شرا منكم إن الله يقول {لَوْ لاَ يَنْهَاهُمُ اَلرَّبَّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْت}.
و في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عمر بن
رياح زعم أنك قلت: لا طلاق إلا ببينة؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك و تعالى يقول: أما و الله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا أشر منكم! إن الله يقول: {لَوْ لاَ يَنْهَاهُمُ اَلرَّبَّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبَارُ}.
و في مجالس الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَة}: فقال كانوا يقولون: قد فرغ من الأمر.
أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن يعقوب بن شعيب و عن حماد عنه (عليه السلام).
و في تفسير القمي قال: قالوا: قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدره في التقدير الأول، فرد الله عليهم فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي يقدم و يؤخر، و يزيد و ينقص و له البداء و المشية.
أقول: و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني بإسناده عن إسحاق بن عمار عمن سمعه عن الصادق (عليه السلام).
و في تفسير العياشي عن هشام المشرقي عن أبي الحسن الخراساني (عليه السلام) قال: إن الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فقلت له: أ فله يدان هكذا؟ و أشرت بيدي إلى يده فقال: لو كان هكذا كان مخلوقا.
أقول: و رواه الصدوق في العيون بإسناده عن المشرقي عنه (عليه السلام).
و في المعاني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت جعفرا (عليه السلام) فقلت: قوله عز و جل: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}؟ قال: اليد في كلام العرب القوة و النعمة قال: {وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ}، {وَ اَلسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي بقوة {وَ إِنَّا لَمُوسِعُون} قال: {وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قال: أي قواهم، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيل} (الآية): يعني اليهود و النصارى {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قال: قال: من فوقهم
المطر، و من تحت أرجلهم النبات.
و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} (الآية) عن أبي الصهباء الكبرى قال: سمعت علي بن أبي طالب دعا رأس الجالوت و أسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما فلا تكتما ثم دعا أسقف النصارى فقال: أنشدك بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، و جعل على رجله البركة، و كان يبرئ الأكمة و الأبرص، و أزال ألم العين، و أحيا الميت، و صنع لكم من الطين طيورا، و أنبأكم بما تأكلون و ما تدخرون؛ فقال: دون هذا أصدق .
فقال علي (عليه السلام): بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى؟ فقال: لا و الله و لا فرقة واحدة فقال علي (عليه السلام): كذبت و الله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنين و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة إن الله يقول: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون} فهذه التي تنجو.
و فيه عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: تفرقت أمة موسى على إحدى و سبعين فرقة، سبعون منها في النار و واحدة في الجنة، و تفرقت أمة عيسى على اثنتين و سبعين فرقة، إحدى و سبعون في النار و واحدة في الجنة، و تعلو أمتي على الفرقتين جميعا بملة واحدة في الجنة و اثنتان و سبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات، الجماعات. {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتَابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} إلى قوله {سَاءَ مَا يَعْمَلُون}، و تلا أيضا: {وَ مِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُون} يعني أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).
[سورة المائدة (٥): آیة ٦٧ ]
{يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِينَ ٦٧}
(بيان)
معنى الآية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتبليغ في صورة التهديد، و وعده (صلى الله عليه وآله و سلم) بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الآية من حيث وقوعها موقعها الذي وقعت فيه، و قد حففتها الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب و ذمهم و توبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله و الكفر بآياته. و قد اتصلت بها من جانبيها الآيتان، أعني قوله: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (الآية)، و قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلىَ شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الآية).
ثم الإمعان في التدبر في نفس الآية و ارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الإنسان عجبا على عجب.
فلو كانت الآية متصلة بما قبلها و ما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أشد الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، و تعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الآية).
و سياق الآية يأباه فإن قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه، و لم يكن من شأن اليهود و لا النصارى في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوغ له (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة و عنده حدة اليهود و شدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر و غيرها.
على أن الآية لا تتضمن أمرا شديدا و لا قولا حادا، و قد تقدم عليه تبليغ ما هو أشد و أحد و أمر من ذلك على اليهود، و قد أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتبليغ ما هو أشد
من ذلك كتبليغ التوحيد و نفي الوثنية إلى كفار قريش و مشركي العرب و هم أغلظ جانبا و أشد بطشا و أسفك للدماء، و أفتك من اليهود و سائر أهل الكتاب، و لم يهدده الله في أمر تبليغهم و لا آمنه بالعصمة منهم.
على أن الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعا، و اليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، و خمدت نيرانهم، و شملتهم السخطة و اللعنة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم في دين الله، و قد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الإسلام و قبلوا هم و النصارى الجزية، و لا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم و اضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، و هو أمر قد بلغ إليهم ما هو أعظم منه، و قد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه و أوحش.
فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها و اللاحقة لها في سياقها، و لا تتصل بها في سردها، و إنما هي آية مفردة نزلت وحدها.
و الآية تكشف عن أمر قد أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) (إما مجموع الدين أو بعض أجزائه) و كان النبي ص يخاف الناس من تبليغه و يؤخره إلى حين يناسبه، و لو لا مخافته و إمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَق} إلى آخر سورة العلق، و قوله: {يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ َقُمْ فَأَنْذِرْ}: المدثر: ٢، و قوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِين}: حم السجدة: ٦، إلى غير ذلك.
فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخافهم و لم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شيء من أمر الله بمهجته فهذا شيء تكذبه سيرته الشريفة و مظاهر حياته، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً َاَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيبا}: الأحزاب: ٣٩ و قد قال تعالى في أمثال هذه الفروض: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين}: آل عمران - ١٧٥، و قد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال: {اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
اَلنَّاسُ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ}: آل عمران: ١٧٣.
و ليس من الجائز أن يقال: إنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة و ينقطع دابرها فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإن الله سبحانه يقول له (صلى الله عليه وآله و سلم): {لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْءٌ}: آل عمران: ١٢٨، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يحيي دعوته بأي وسيلة من الوسائل شاء، و بأي سبب أراد.
نعم من الممكن أن يقدر لمعنى قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاس} أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا فقد كان أمثال هذا الرأي و الاجتهاد جائزا له مأذونا فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشيء.
و من هنا يظهر أن الآية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسرين إذ لا معنى حينئذ لقوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} إلا أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه و يذهب التبليغ باطلا لا أثر له فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله.
على أن المراد بما أنزل إليه من ربه لو كان أصل الدين أو مجموعة في الآية عاد معنى قوله: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} إلى نحو قولنا: يا أيها الرسول بلغ الدين و إن لم تبلغ الدين فما بلغت الدين.
و أما جعله من قبيل قول أبي النجم:
أنا أبو النجم و شعري شعري.
كما ذكره بعضهم أن معنى الآية: و إن لم تبلغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ و الإهمال في المسارعة إلى ايتمار ما أمرك به الله سبحانه، و أكده عليك كما أن معنى قول أبي النجم: إني أنا أبو النجم و شعري شعري المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة.
فإن ذلك فاسد لأن هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام و الخاص و المطلق و المقيد و نظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتحادهما كقول أبي النجم: شعري شعري
أي لا ينبغي أن يتوهم على متوهم أن قريحتي كلت أو أن الحوادث أعيتني أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعري الذي أقول اليوم هو شعري الذي كنت أقوله بالأمس.
و أما قوله تعالى: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فليس يجري فيه مثل هذه العناية فإن الرسالة التي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف و لا متغير حتى يصح أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فما بلغت تلك الرسالة أو لم تبلغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التي هي مجموع المعارف الدينية.
فقد تبين أن الآية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة و يكون المراد فيها بما أنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) مجموع الدين أو أصله، و يتبين بذلك أنها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أي وقت آخر غير بدء البعثة فإن الإشكال إنما ينشأ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} كما مر.
على أن قوله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} لا يلائم النزول في أي وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، و هو ظاهر.
على أن محذور دلالة قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخاف الناس في تبليغه على حاله.
فظهر أن ليس هذا الأمر الذي أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أكدت الآية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنه بعض الدين، و المعنى: بلغ الحكم الذي أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته «إلخ»، و لازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من الدين و رسالته، و إلا فالمحذور السابق و هو لزوم اللغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله: {رِسَالَتَهُ} الرسالة الخاصة بهذا الحكم كان المعنى: بلغ هذا الحكم و إن لم تبلغه فما بلغته، و هو لغو ظاهر.
فالمراد أن بلغ هذا الحكم و إن لم تبلغه فما بلغت أصل رسالته أو مجموعها، و هو معنى صحيح معقول، و حينئذ يرد الكلام نظير المورد الذي ورده قول أبي النجم: «أنا أبو النجم و شعري شعري».
و أما كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلغ فكأنما لم تبلغ الرسالة فإنما ذلك لكون المعارف و الأحكام الدينية مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو أخل بأمر واحد منها أخل بجميعها و خاصة في التبليغ لكمال الارتباط، و هذا التقدير و إن كان في نفسه مما لا بأس به لكن ذيل الآية و هو قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِين} لا يلائمه فإن هذا الذيل يكشف عن أن قوما كافرين من الناس هموا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة، و يتخذون أي تدبير يستطيعونه لإبطال هذه الدعوة و تركه سدى لا يؤثر أثرا و لا ينفع شيئا و قد وعد الله رسوله أن يعصمه منهم، و يبطل مكرهم، و لا يهديهم في كيدهم.
و لا يستقيم هذا المعنى مع أي حكم نازل فرض فإن المعارف و الأحكام الدينية في الإسلام ليست جميعا في درجة واحدة ففيها التي هي عمود الدين، و فيها الدعاء عند رؤية الهلال، و فيها زنى المحصن و فيها النظر إلى الأجنبية، و لا يصح فرض هذه المخافة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الوعد بالعصمة من الله مع كل حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الأحكام.
فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الأحكام إلا لمكان أهميته و وقوعه من الأحكام في موقع لو أهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالا لأمر سائر الأحكام، و صيرورتها كالجسد العادم للروح التي بها الحياة الباقية و الحس و الحركة، و تكون الآية حينئذ كاشفة عن أن الله سبحانه كان قد أمر رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) بحكم يتم به أمر الدين و يستوي به على عريشة القرار، و كان من المترقب أن يخالفه الناس و يقلبوا الأمر على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين و تتلاشى أجزاؤه، و كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يتفرس ذلك و يخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا و جوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته، و لا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، و بين له أهمية الحكم، و وعده أن يعصمه من الناس، و لا يهديهم في كيدهم، و لا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة.
و إنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإسلامية لا من جانب المشركين و وثنية العرب أو غيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكة قبل الهجرة، و تكون مخافة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الناس من جهة افترائهم عليه و اتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}: الدخان: ١٤.
و قولهم: {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ}: الطور: ٣٠: و قولهم: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}: الذاريات: ٥٢ و قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً}: الإسراء: ٤٧ و قولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ}: المدثر: ٢٤ و قولهم: {أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً}: الفرقان: ٥ و قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}: النحل: ١٠٣ و قولهم: {أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}: _ ص: ٦ إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه (صلى الله عليه وآله و سلم).
فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين، و إنما تدل إذا دلت على اضطراب القوم في أمرهم، و عدم استقامتهم فيه على أن هذه الافتراءات و المرامي لا تختص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى يضطرب عند تفرسها و يخاف وقوعها فسائر الأنبياء و الرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا و المحن، و مواجهة هذه المكاره من جملة أممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح و من بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.
بل إن كان شيء و لا بد فإنما يتصور بعد الهجرة و استقرار أمر الدين في المجتمع الإسلامي و المسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين و قوم منافقين أولي قوة لا يستهان بأمرهم، و آخرين في قلوبهم مرض و هم سماعون كما نص عليه الكتاب العزيز و هؤلاء كانوا يعاملون مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا معاملة الملوك، و مع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدم تفسير بعضها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب۱.
فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتشريعه و إجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة و قانون ملكي في هيئة الدين كما ربما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوي كلمات بعضهم٢.
و هذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد و الضيعة ما لا يدفعه أي قوة دافعة، و لا يصلحه أي تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و اختصاص له بمزية من
المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصة زيد و تعدد الأزواج و الاختصاص بخمس الغنائم و نظائر ذلك.
غير أن الخصائص إذا كانت مما لا تمس فيه عامة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإن الازدواج بزوجة المدعو ابنا مثلا لم يكن يختص به و الازدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوز مثل ذلك لسائر المسلمين، و سيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله و لنفسه من الأموال و نظائر هذه الأمور لا تدع ريبا لمرتاب و لا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و اختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه و العمل به حرمان الناس عنه فكان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه و شدد فيه، و وعده العصمة من الناس و عدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.
و هذا يؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الآية نزلت في أمر ولاية علي (عليه السلام)، و أن الله أمر بتبليغها و كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخاف أن يتهموه في ابن عمه، و يؤخر تبليغها وقتا إلى وقت حتى نزلت الآية فبلغها بغدير خم، و قال فيه: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.
و كون ولاية أمر الأمة مما لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، و كيف يسوغ لمتوهم أن يتوهم أن الدين الذي يقرر بسعته لعامة البشر في عامة الأعصار و الأقطار جميع ما يتعلق بالمعارف الأصلية، و الأصول الخلقية، و الأحكام الفرعية العامة لجميع حركات الإنسان و سكناته، فرادى و مجتمعين على خلاف جميع القوانين العامة لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حق الحفظ؟ أو أن الأمة الإسلامية و المجتمع الديني مستثنى من بين جميع المجتمعات الإنسانية مستغنية عن وال يتولى أمرها و مدبر يدبرها و مجر يجريها؟ و بأي عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبي الاجتماعية؟ حيث يرى أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا خرج إلى غزوة خلف مكانه رجلا يدير رحى المجتمع: و قد خلف عليا مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟
و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) ينصب الولاة الحكام في ما بيد المسلمين من البلاد كمكة و الطائف و اليمن و غيرها، و يؤمر رجالا على السرايا و الجيوش التي يبعثها إلى الأطراف، و أي فرق بين زمان حياته و ما بعد مماته دون أن الحاجة إلى ذلك بعد غيبته بالموت أشد، و الضرورة إليه أمس ثم أمس.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} خاطبه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالرسالة لكونها أنسب الصفات إلى ما تتضمنه الآية من الأمر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الذي تظهره الآية و تقرعه سمع رسول الله ص فإن الرسول لا شأن له إلا تبليغ ما حمل من الرسالة فتحمل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ.
و لم يصرح باسم هذا الذي أنزل إليه من ربه بل عبر عنه بالنعت و أنه شيء أنزل إليه، إشعارا بتعظيمه و دلالة على أنه أمر ليس فيه لرسول الله ص صنع، و لا له من أمره شيء ليكون كبرهان آخر على عدم خيرة منه (صلى الله عليه وآله و سلم) في كتمانه و تأخير تبليغه، و يكون له عذرا في إظهاره على الناس، و تلويحا إلى أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مصيب في ما تفرسه منهم و تخوف عليه، و إيماء إلى أنه مما يجب أن يظهر من ناحيته (صلى الله عليه وآله و سلم) و بلسانه و بيانه.
قوله تعالى: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} المراد بقوله: {رِسَالَتَهُ} و قرئ «رسالاته» كما تقدم مجموع رسالات الله سبحانه التي حملها رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قد تقدم أن الكلام يفيد أهمية هذا الحكم المرموز إليه، و أن له من المكانة ما لو لم يبلغه كأن لم يبلغ شيئا من الرسالات التي حملها.
فالكلام موضوع في صورة التهديد، و حقيقته بيان أهمية الحكم، و أنه بحيث لو لم يصل إلى الناس، و لم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين فقوله: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْت} جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا و عدما لترتب الجزاء الأهم عليه وجودا و عدما.
و ليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا فإنا نستعمل «إن» الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، و حاشا ساحة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه و أن لا يبلغ،
و قد قال تعالى: {اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}: الأنعام - ١٢٤.
فالجملة أعني قوله: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْت} (إلخ)، إنما تفيد التهديد بظاهرها و تفيد إعلامه (عليه السلام) و إعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمية، و أن الرسول معذور في تبليغه.
قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِين} قال الراغب: العصم (بالفتح فالسكون) الإمساك و الاعتصام الاستمساك إلى أن قال و العصام (بالكسر) ما يعتصم به أي يشد، و عصمة الأنبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية و النفسية، ثم بالنصرة و بتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم و بحفظ قلوبهم و بالتوفيق قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ}.
و العصمة شبه السوار، و المعصم موضعها من اليد، و قيل للبياض بالرسغ عصمة تشبيها بالسوار، و ذلك كتسمية البياض بالرجل تحجيلا، و على هذا قيل: غراب أعصم، انتهى.
و ما ذكره من معنى عصمة الأنبياء حسن لا بأس به غير أنه لا ينطبق على الآية {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} بل لو انطبق فإنما ينطبق على مثل قوله: {وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}: النساء: ١١٣.
و أما قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} فإن ظاهره أنها عصمة بمعنى الحفظ و الوقاية من شر الناس المتوجه إلى نفس النبي الشريفة أو مقاصده الدينية أو نجاح تبليغه و فلاح سعيه، و بالجملة المعنى المناسب لساحته المقدسة.
و كيف كان فالمتحصل من موارد استعمال الكلمة أنها بمعنى الإمساك و القبض فاستعماله في معنى الحفظ من قبيل استعارة اللازم لملزومه فإن الحفظ يلزمه القبض.
و كان تعليق العصمة بالناس من دون بيان أن العصمة من أي شأن من شئون الناس كتعدياتهم بالإيذاء في الجسم من قتل أو سم أو أي اغتيال، أو بالقول كالسب و الافتراء، أو بغير ذلك كتقليب الأمور بنوع من المكر و الخديعة و المكيدة و بالجملة
السكوت عن تشخيص ما يعصم منه لإفادة نوع من التعميم، و لكن الذي لا يعدو عنه السياق هو شرهم الذي يوجب انقلاب الأمر على النبي ص بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين.
و الناس مطلق من وجد فيه معنى الإنسانية من دون أن يعتبر شيء من خصوصياته الطبيعية التكوينية كالذكورة و الأنوثة أو غير الطبيعية كالعلم و الفضل و الغنى و غير ذلك. و لذلك قل ما ينطبق على غير الجماعة، و لذلك أيضا ربما دل على الفضلاء من الإنسان إذا كان الفضل روعي فيه وجود معنى الإنسانية كقوله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ اَلنَّاسُ} أي الذين وجد فيهم معنى الإنسانية، و هو ملاك درك الحق و تمييزه من الباطل.
و ربما كان دالا على نوع من الخسة و سقوط الحال، و ذلك إذا كان الأمر الذي يتكلم فيه مما يحتاج إلى اعتبار شيء من الفضائل الإنسانية التي اعتبرت زائدة على أصل معنى النوع كقوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}: الروم: ٣٠و كقولك: لا تثق بمواعيد الناس، و لا تستظهر بسوادهم نظرا منك إلى أن الوثوق و الاستظهار يجب أن يتعلقا بالفضلاء من الإنسان ذوي ملكة الوفاء بالعهد و الثبات على العزيمة لا على من ليس له إلا مجرد صدق اسم الإنسانية، و ربما لم يفد شيئا من مدح أو ذم إذا تعلق الغرض بما لا يزيد على أصل معنى الإنسانية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: «الحجرات: ١٣.
و لعل قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاس} أخذ فيه لفظ الناس اعتبارا بسواد الأفراد الذي فيه المؤمن و المنافق و الذي في قلبه مرض، و قد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامتهم، و ربما أشعر به قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِين} فإن الجملة في مقام التعليل لقوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} و قد تقدم أيضا أن الآية نزلت بعد الهجرة و ظهور شوكة، الإسلام و كان السواد الأعظم من الناس مسلمين بحسب الظاهر و إن كان فيهم المنافقون و غيرهم.
فالمراد بالقوم الكافرين قوم هم في الناس مذكوري النعت ممحوي الاسم وعد الله سبحانه أن يبطل كيدهم و يعصم رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) من شرهم.
و الظاهر أيضا أن يكون المراد بالكفر الكفر بآية من آيات الله و هو الحكم المراد بقوله: {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك}، كما في قوله في آية الحج: {وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِين}: آل عمران: ٩٧، و أما الكفر بمعنى الاستكبار عن أصل الشهادتين فإنه مما لا يناسب مورد الآية البتة إلا على القول بكون المراد بقوله: {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} مجموع رسالات الدين، و قد عرفت عدم استقامته.
و المراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم و مكرهم، و منعه الأسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشر و الفساد نظير قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِين}: المنافقون: ٦، و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِين}: البقرة: ٢٥٨، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و أما كون المراد بعدم الهداية هو عدم الهداية إلى الإيمان فغير صحيح البتة لمنافاته أصل التبليغ و الدعوة فلا يستقيم أن يقال: أدعهم إلى الله أو إلى حكم الله و أنا لا أهديهم إليه إلا في مورد إتمام الحجة محضا.
على أن الله سبحانه قد هدى و لا يزال يهدي كثيرين من الكفار بدليل العيان، و قد قال أيضا: {وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}: البقرة: ٢١٣.
فتبين أن المراد بعدم هداية الكافرين عدم تخليتهم لينالوا ما يهمون به من إبطال كلمة الحق و إطفاء نور الحكم المنزل فإن الكافرين و كذا الظالمين و الفاسقين يريدون بشامة أنفسهم و ضلال رأيهم أن يبدلوا سنة الله الجارية في الخلقة و سياقة الأسباب السالكة إلى مسبباتها و يغيروا مجاري الأسباب الحقة الظاهرة عن سمة عصيان رب العالمين إلى غايتهم الفاسدة مقاصدهم الباطلة و الله رب العالمين لن يعجزه قواهم الصورية التي لم يودعها فيهم و لم يقدرها في بناهم إلا هو.
فهم ربما تقدموا في مساعيهم أحيانا و نالوا ما راموه أوينات و استعلوا و استقام أمرهم برهة لكنه لا يلبث دون أن يبطل أخيرا و ينقلب عليهم مكرهم و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، و كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الباطل فيذهب جفاء، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
و على هذا فقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِين} تفسير قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ اَلنَّاسِ} بالتصرف في سعة إطلاقه، و يكون المراد بالعصمة عصمته (صلى الله عليه وآله و سلم) من أن يناله الناس بسوء دون أن ينال بغيته في تبليغ هذا الحكم و تقريره بين الأمة كأن يقتلوه دون أن يبلغه أو يثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور أو يتهموه بما يرتد به المؤمنون عن دينه، أو يكيدوا كيدا يميت هذا الحكم و يقبره بل الله يظهر كلمة الحق و يقيم الدين على ما شاء و أينما شاء و متى ما شاء، و فيمن شاء قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى ذَلِكَ قَدِيراً}: النساء: ١٣٣.
و أما أخذ الآية أعني قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} بإطلاقه على ما فيه من السعة و الشمول فمما ينافيه القرآن و المأثور من الحديث و التاريخ القطعي، و قد نال (صلى الله عليه وآله و سلم) من أمته أعم من كفارهم و مؤمنيهم و منافقيهم من المصائب و المحن و أنواع الزجر و الأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمله إلا نفسه الشريفة،
و قد قال (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في الحديث المشهور: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت قط.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي صالح عن ابن عباس و جابر بن عبد الله قالا: أمر الله تعالى نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينصب عليا علما في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقولوا: خابى۱ ابن عمه و أن يطعنوا٢ في ذلك عليه. قال: فأوحى الله إليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بولايته يوم غدير خم.
و فيه عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزل جبرئيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب (عليه السلام) {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} إلى آخر الآية قال: فمكث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثا حتى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقا من الناس.
فلما نزل الجحفة يوم غدير في مكان يقال له «مهيعة» فنادى: الصلاة جامعة،
فاجتمع الناس فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من أولى بكم من أنفسكم؟ فجهروا فقالوا: الله و رسوله ثم قال لهم الثانية، فقالوا: الله و رسوله، ثم قال لهم الثالثة، فقالوا: الله و رسوله.
فأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله فإنه مني و أنا منه، و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
و فيه عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِين} قال: فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بيد علي (عليه السلام) فقال: يا أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان من قبلي إلا و قد عمر ثم دعاه فأجابه، و أوشك أن أدعى فأجيب، و أنا مسئول و أنتم مسئولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت و نصحت و أديت ما عليك فجزاك الله أفضل ما جزى المرسلين، فقال: اللهم اشهد.
ثم قال: يا معشر المسلمين ليبلغ الشاهد الغائب أوصي من آمن بي و صدقني بولاية علي، ألا إن ولاية على ولايتي عهدا عهده إلي ربي و أمرني أن أبلغكموه، ثم قال: هل سمعتم؟ ثلاث مرات يقولها فقال قائل: قد سمعنا يا رسول الله.
و في البصائر بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} قال: هي الولاية.
أقول: و روى نزول الآية في أمر الولاية و قصة الغدير معه الكليني في الكافي، بإسناده، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن محمد بن الفيض بن المختار، عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، و رواه العياشي أيضا عن أبي الجارود في حديث طويل، و بإسناده عن عمرو بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) مختصرا.
و عن تفسير الثعلبي قال: قال جعفر بن محمد: معنى قوله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} في فضل علي، فلما نزلت هذه أخذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه
و عنه بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: في هذه الآية قال: نزلت في علي بن أبي طالب، أمر الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه.
و في تفسير البرهان عن إبراهيم الثقفي بإسناده عن الخدري، و بريدة الأسلمي و محمد بن علي: نزلت يوم الغدير في علي.
و من تفسير الثعلبي في معنى الآية قال: قال أبو جعفر محمد بن علي: معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي.
و في تفسير المنار عن تفسير الثعلبي: أن هذا القول من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في موالاة علي شاع و طار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ناقته، و كان بالأبطح فنزل و عقل ناقته، و قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في ملإ من أصحابه: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله؛ فقبلنا منك ثم ذكر سائر أركان الإسلام ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك، و فضلته علينا، و قلت: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهذا منك أم من الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): و الله الذي لا إله إلا هو هو أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره، و أنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} الحديث.
أقول: قال في المنار بعد نقل هذا الحديث ما لفظه: و هذه الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكية، و ما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِك} كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجرة، و هذا التذكير في سورة الأنفال، و قد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، و ظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد و لم يعرف في الصحابة، و الأبطح بمكة و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يرجع من غدير خم إلى مكة بل نزل فيه منصرفة من حجة الوداع إلى المدينة، انتهى.
و أنت ترى ما في كلامه من التحكم: أما قوله: [إن الرواية موضوعة، و سورة
المعارج هذه مكية] فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس و ابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة، و ليت شعري ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية، و الجميع آحاد؟ سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياته فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية؟ فلتكن السورة مكية، و الآيتان خاصة غير مكيتين كما أن سورتنا هذه أعني سورة المائدة مدنية نازلة في آخر عهد رسول الله ص، و قد وضعت فيها الآية المبحوث عنها أعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} (الآية)، و هو كعدة من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة، فإذا جاز وضع آية مكية آية: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك} في سورة مدنية (المائدة) فليجز وضع آية مدنية آية: {سَأَلَ سَائِلٌ} في سورة مكية سورة المعارج.
و أما قوله: [و ما حكاه الله من قول بعض كفار قريش] إلى آخره، فهو في التحكم كسابقه؛ فهب إن سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها كما وضعت آيات الربا و آية: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ}: «البقرة: ٢٨١، و هي آخر ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عندهم في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت قبلها ببضع سنين.
ثم قوله: [إن آية: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقّ} (الآية)، تذكير لما قالوه قبل الهجرة] تحكم آخر من غير حجة لو لم يكن سياق الآية حجة على خلافه فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعني قوله: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لاشتماله على قوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِك} بما فيه من اسم الإشارة و ضمير الفصل و الحق المحلى باللام و قوله: {مِنْ عِنْدِك} ليس كلام وثني مشرك يستهزئ بالحق و يسخر منه، و إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية، و يرى أن الأمور الحقة تتعين من لدنه، و أن الشرائع مثلا تنزل من عنده، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدعي مدع أنه الحق لا غيره، و هو لا يتحمل ذلك و يتحرج منه فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة.
و أما قوله: و ظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد و لم
يعرف في الصحابة] تحكم آخر؛ فهل يسع أحدا أن يدعي أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و آمن به أو آمن به فارتد؟ و إن يكن شيء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل.
و أما قوله: [و الأبطح بمكة و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يرجع من غدير خم إلى مكة] فهو يشهد على أنه أخذ لفظ الأبطح اسما للمكان الخاص بمكة و لم يحمله على معناه العام و هو كل مكان ذي رمل، و لا دليل على ما حمله عليه بل الدليل على خلافه و هو القصة المسرودة في الرواية و غيرها، و ربما استفيد من مثل قوله:
نجوت و قد بل المرادي سيفه | *** | من ابن أبي شيخ الأباطح طالب |
إن مكة و ما والاها كانت تسمى الأباطح.
قال في مراصد الاطلاع: أبطح بالفتح ثم السكون و فتح الطاء و الحاء المهملة كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح، و قال ابن دريد: الأبطح و البطحاء السهل المنبسط على وجه الأرض، و قال أبو زيد: الأبطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، و الأبطح يضاف إلى مكة و إلى منى لأن مسافته منهما واحدة، و ربما كان إلى منى أقرب و هو المحصب، و هي خيف بني كنانة، و قد قيل: إنه ذو طوى، و ليس به، انتهى.
على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي و ليس فيه ذكر من الأبطح و هي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور و غيرها.
و بعد هذا كله فالرواية من الآحاد، و ليست من المتواترات و لا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، و قد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعول على الآحاد في غير الأحكام الفرعية على طبق الميزان العام العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياته، و إنما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التي استنتج منها أنها موضوعة.
و في المجمع: أخبرنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال: أخبرنا أبو أحمد البصري قال: حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق
عن آبائه قال: لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، فقال (فطار،) ذلك في البلاد فقدم على النبي النعمان بن الحارث الفهري فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله، و أمرتنا بالجهاد و بالحج و بالصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من الله تعالى؟ فقال: بلى و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله.
فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}.
أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، أيضا.
و عن كتاب نزول القرآن، للحافظ أبي نعيم يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف، عن الأعمش، عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في علي بن أبي طالب {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} و قد قال الله تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً}.
و عن الفصول المهمة، للمالكي قال: روى الإمام أبو الحسن الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول رفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.
أقول: و رواه في فتح القدير، عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري و كذلك في الدر المنثور.
و قوله: «بغدير خم» هو بضم الخاء المعجمة و تشديد الميم مع التنوين اسم لغيطة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيطة، هكذا ذكره الشيخ محيي الدين النووي.
و في فتح القدير، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إن عليا مولى المؤمنين {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ}.
أقول: و هذه نبذة من الأخبار الدالة على نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} (إلخ)، في حق علي (عليه السلام) يوم غدير خم، و أما حديث الغدير أعني قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة و أهل السنة بما يزيد على مائة طريق.
و قد روي عن جمع كثير من الصحابة منهم البراء بن عازب، و زيد بن أرقم، و أبو أيوب الأنصاري، و عمر بن الخطاب، و علي بن أبي طالب، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و بريدة، و سعد بن أبي وقاص، و عبد الله بن عباس، و أبو، هريرة و جابر بن عبد، الله و أبو سعيد الخدري، و أنس بن مالك، و عمران بن الحصين، و ابن أبي أوفى، و سعدانة، و امرأة زيد بن أرقم.
و قد أجمع عليه أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و قد ناشد علي (عليه السلام) الناس بالرحبة في الحديث فقام جماعة من الصحابة حضروا المجلس، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقوله يوم الغدير.
و في كثير من هذه الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أيها الناس أ لستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه كما في عدة من الأخبار التي رواها أحمد بن حنبل في مسنده أو رواها غيره، و قد أفردت لإحصاء طرقها و البحث في متنها تأليف من أهل السنة و الشيعة بحثوا فيها بما لا مزيد عليه.
و عن كتاب السمطين، للحمويني بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليلة أسري بي إلى السماء السابعة سمعت نداء من تحت العرش: أن عليا آية الهدى، و حبيب من يؤمن بي، بلغ عليا (عليه السلام)، فلما نزل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من السماء أنسي ذلك فأنزل الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِين}.
و في فتح القدير: أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه
فقال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمدا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): حال الله بينك و بين ما تريد، فأنزل الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك} (الآية).
أقول: ثم ذكر في فتح القدير، أن ابن حبان أخرجه في صحيحة و أخرجه أيضا ابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصة و لم يسم الرجل، و أخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظي نحوه، و قصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، و هي معروفة مشهورة (انتهى)، و لكن الشأن تطبيق القصة على المحصل من معنى الآية، و لن تنطبق أبدا.
و في الدر المنثور و فتح القدير، و غيرهما عن ابن مردويه و الضياء في المختارة عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل: أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركو العرب و إفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبرئيل فقال: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك} (الآية).
قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي و له الجنة؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله و أنا رسول الله إليكم تفلحوا و تنجحوا و لكم الجنة.
قال: فما بقي رجل و لا امرأة و لا صبي إلا يرمون بالتراب و الحجارة، و يبزقون في وجهي و يقولون: كذاب صابئ فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
فجاء العباس عمه فأنقذه منهم و جردهم عنه.
أقول: الآية بتمامها لا ينطبق على هذه القصة على ما عرفت تفصيل القول فيه.
اللهم إلا أن تحمل الرواية على نزول قطعة من الآية و هي قوله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} في ذلك اليوم، و ظاهر الرواية يأباه، و نظيرها ما يأتي.
و في الدر المنثور، و فتح القدير: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم
و أبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع علي الناس فنزلت {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
و فيها عن الحسن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا، و عرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزل: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك}.
أقول: الروايتان على ما فيهما من القطع و الإرسال فيهما ما في سابقتهما، و نظيرتهما في هذا التشويش بعض ما ورد: في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يحترس برجال فلما نزلت الآية فرقهم و قال (عليه السلام) إن ربي وعدني أن يعصمني.
و في تفسير المنار: روى أهل التفسير المأثور و الترمذي و أبو الشيخ و الحاكم و أبو نعيم و البيهقي و الطبراني عن بضعة رجال من الصحابة: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية فلما نزلت ترك الحرس، و كان أبو طالب أول الناس اهتماما بحراسته، و حرسه العباس أيضا.
و فيه: و مما روي في ذلك عن جابر و ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يحرس، و كان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم حتى نزلت الآية فقال: يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من يبعث.
أقول: و الروايتان كما ترى تدلان على أن الآية نزلت في أواسط إقامة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) بلغ رسالته زمانا و اشتد عليه أمر إيذاء الناس و تكذيبهم حتى خاف على نفسه منهم فترك التبليغ و الدعوة فأمر ثانيا بالتبليغ، و هدد من جانب الله سبحانه، و وعد بالعصمة، فاشتغل ثانيا بما كان يشتغل به أولا، و هذا شيء يجل عنه ساحة النبي ص.
و في الدر المنثور و فتح القدير: أخرج عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس حتى نزلت: {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاس} فأخرج رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.
أقول: و الرواية كما ترى ظاهرة في نزولها بالمدينة.
و في تفسير الطبري عن ابن عباس: في قوله: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه} يعني إن كتمت آية أنزل إليك لم تبلغ رسالته.
أقول: إن كان المراد به آية معينة أي حكم معين مما أنزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فله وجه صحة، و إن كان المراد به التهديد في أي آية فرضت أو حكم قدر فقد عرفت فيما تقدم أن الآية لا تلائمه بمضمونها.
[سورة المائدة (٥): الآیات ٦٨ الی ٨٦]
{قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلىَ شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ ٦٨إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئُونَ وَ اَلنَّصَارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٦٩لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ ٧٠وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ٧١لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ وَ قَالَ اَلْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُعْبُدُوا اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ اَلنَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ٧٢لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَ مَا
مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٧٣أَ فَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اَللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٧٤مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ اَلطَّعَامَ اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ٧٥ قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ اَللَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٧٦ قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ اَلسَّبِيلِ ٧٧ لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلىَ لِسَانِ دَاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ ٧٨كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ٧٩ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ٨٠وَ لَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلنَّبِيِّ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَ لَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ٨١لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارىَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ٨٢
وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ اَلشَّاهِدِينَ ٨٣ وَ مَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلصَّالِحِينَ ٨٤ فَأَثَابَهُمُ اَللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْمُحْسِنِينَ ٨٥ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ ٨٦}
(بيان)
الآيات في نفسها تقبل الاتصال و الاتساق بحسب النظم، و لا تقبل الاتصال بقوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ} (الآية) مع الغض عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الآية) و أما ارتباط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ} (الآية) فقد عرفت الكلام فيه.
و الأشبه أن يكون هذه الآيات جارية على سياق الآيات السابقة من أوائل السورة إلى هنا أعني ارتباط مضامين الآيات آخذة من قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ بَعَثْنَا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} (الآية) - ١٢ من السورة إلى آخر هذه الآيات المبحوث عنها باستثناء نزرة مما تتخللها كآية الولاية و آية التبليغ و غيرهما مما تقدم البحث عنه، و مثله الكلام في اتصال آيات آخر السورة بهذه الآيات فإنها جميعا يجمعها أنها كلام يتعلق بشأن أهل الكتاب.
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلىَ شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ} (إلى آخر الآية)، الإنسان يجد من نفسه خلال أعماله أنه إذا أراد إعمال قوة و شدة فيما يحتاج إلى ذلك، وجب أن يعتمد على مستوى يستوي عليه أو يتصل به كمن أراد أن يجذب أو يدفع أو يحمل أو يقيم شيئا ثقيلا فإنه يثبت قدميه على الأرض أولا ثم يصنع ما شاء لما يعلم أن لو لا ذلك لم يتيسر له ما يريد، و قد بحث عنه في العلوم المربوطة به.
و إذا أجرينا هذا المعنى في الأمور المعنوية كأفعال الإنسان الروحية أو ما يتعلق من أفعال الجوارح بالأمور النفسية كان ذلك منتجا أن صدور مهام الأفعال و عظائم الأعمال يتوقف على أس معنوي و مبني قوى نفسي كتوقف جلائل الأمور على الصبر و الثبات و علو الهمة و قوة العزيمة و توقف النجاح في العبودية على حق التقوى و الورع عن محارم الله.
و من هنا يظهر أن قوله تعالى: {لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ} كناية عن عدم اعتمادهم على شيء يثبت عليه أقدامهم فيقدروا بذلك على إقامة التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم تلويحا إلى أن دين الله و حكمه لها من الثقل ما لا يتيسر حمله للإنسان حتى يعتمد على أساس ثابت و لا يمكنه إقامته بمجرد هوى من نفسه كما يشير تعالى إلى ذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم بقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}: المزمل: ٥، و قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}: الحشر: ٢١، و قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا} (الآية): الأحزاب: ٧٢.
و قال في أمر التوراة خطابا لموسى (عليه السلام): {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}: الأعراف: ١٤٥، و قال خطابا لبني إسرائيل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}: البقرة: ٦٣ و قال خطابا ليحيي (عليه السلام): {يَا يَحْيى خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}: مريم: ١٢.
فيعود المعنى إلى أنكم فاقدو العماد الذي يجب عليكم أن تعتمدوا عليه في إقامة دين الله الذي أنزل إليكم في كتبه و هو التقوى و الإنابة إلى الله بالرجوع إليه مرة بعد أخرى و الاتصال به و الإيواء إلى ركنه بل مستكبرون عن طاعته و متعدون حدوده.
و يظهر هذا المعنى من قوله تعالى خطابا لنبيه و المؤمنين: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى} فجمع الدين كله فيما ذكره، ثم قال: {أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} فبين أن ذلك كله يرجع إلى إقامة الدين كلمة واحدة من غير تفرق ثم قال: {كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} و ذلك لكبر الاتفاق و الاستقامة في اتباع الدين عليهم، ثم قال: {اَللَّهُ
يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} فأنبأ أن إقامة الدين لا يتيسر إلا بهداية من الله، و لا يصلح لها إلا المتصف بالإنابة التي هي الاتصال بالله و عدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد أخرى، ثم قال: {وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} فذكر أن السبب في تفرقهم و عدم إقامتهم للدين هو بغيهم و تعديهم عن الوسط العدل المضروب لهم «الشورى: ١٤».
و قال أيضا في نظيرتها من الآيات: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: الروم: ٣٢ فذكر فيها أيضا أن الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الإنابة إلى الله، و حفظ الاتصال بحضرته، و عدم الانقطاع عن سببه.
و قد أشار إلى هذه الحقيقة في الآيات السابقة على هذه الآية المبحوث عنها أيضا حيث ذكر أن الله لعن اليهود و غضب عليهم لتعديهم حدوده فألقى بينهم العداوة و البغضاء، و ذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ}: المائدة: ١٤.
و قد حذر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة التي سيحلها على أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و أنبأهم أنهم لا يتيسر و لن يتيسر لهم إقامة التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم، و قد صدق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتت المذاهب فيهم و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم، فحذر الأمة الإسلامية أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربهم، و عدم الإنابة إليه في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}: الروم: ٣٠في عدة آيات من السورة.
و قد تقدم البحث عن بعض الآيات الملوحة إلى ذلك في ما تقدم من أجزاء الكتاب و سيأتي الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى.
و أما قوله تعالى: {وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَ كُفْراً} فقد تقدم البحث عن معناه، و قوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ} تسلية منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في صورة النهي عن الأسى.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئُونَ وَ اَلنَّصَارى} (الآية) ظاهرها أن الصابئون عطف على {اَلَّذِينَ آمَنُوا} بحسب موضعه و جماعة من النحويين يمنعون العطف على اسم إن بالرفع قبل مضي الخبر، و الآية حجة عليهم.
و الآية في مقام بيان أن لا عبرة في باب السعادة بالأسماء و الألقاب كتسمي جمع بالمؤمنين و فرقة بالذين هادوا، و طائفة بالصابئين و آخرين بالنصارى، و إنما العبرة بالإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و قد تقدم البحث عن معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية ٦٢ في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} (إلى آخر الآية) هذه الآية و ما بعدها إلى عدة آيات تتعرض لحال أهل الكتاب كالحجة على ما يشتمل عليه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا اَلتَّوْرَاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ} (إلخ)، فإن هذه الجرائم و الآثام لا تدع للإنسان اتصالا بربه حتى يقيم كتب الله معتمدا عليه.
و يحتمل أن تكون الآيات مرتبطة بقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا} (إلخ)، فيكون تصديقا بأن الأسماء و الألقاب لا تنفع شيئا في مرحلة السعادة إذ لو نفعت لصدت هؤلاء عن قتل الأنبياء و تكذيبهم و الهلاك بمهلكات الفتن و موبقات الذنوب.
و يمكن أن يكون هذه الآيات كالمبينة لقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا} (إلخ)، و هو كالمبين لقوله: {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ} (الآية) و المعنى ظاهر.
و قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ} الظاهر أن كلمتي {فَرِيقاً} في الموضعين مفعولان للفعلين بعدهما قدما عليهما للعناية بأمرهما، و التقدير: كذبوا فريقا و يقتلون فريقا، و المجموع جواب قوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ} (إلخ)، و المعنى نحو من قولنا: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساءوا مواجهته و إجابته و جعلوا الرسل الآتين فريقين: فريقا كذبوا و فريقا يقتلون.
قال في المجمع: فإن قيل: لم عطف المستقبل على الماضي يعني في قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ}؟ فجوابه: ليدل على أن ذلك من شأنهم ففيه معنى كذبوا و قتلوا و يكذبون و يقتلون مع أن قوله: {يَقْتُلُونَ} فأصله يجب أن يكون موافقا
لرؤس الآي، انتهى.
قوله تعالى: {وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا} (إلخ)، متمم للكلام في الآية السابقة، و الحسبان هو الظن، و الفتنة هي المحنة التي تغر الإنسان أو هي أعم من كل شر و بلية، و العمى هو عدم إبصار الحق و عدم تمييز الخير من الشر، و الصمم عدم سماع العظة و عدم الإعباء بالنصيحة، و هذا العمى و الصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة، و الظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل و أنهم أبناء الله و أحباؤه فلا يمسهم السوء و إن فعلوا ما فعلوا و ارتكبوا ما ارتكبوا.
فمعنى الآية و الله أعلم أنهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهود ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظن و الحسبان أبصارهم عن إبصار الحق، و أصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم.
و هذا مما يرجح ما احتملناه أن الآيات كالحجة المبينة لقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا} (الآية) فمحصل المعنى أن الأسماء و الألقاب لا تنفع أحدا شيئا فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بالتسمي بل أعماهم و أوردهم مورد الهلكة و الفتنة لما كذبوا أنبياء الله و قتلوهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم، و هذا يدل على أن الله سبحانه قد كان بعدهم من رحمته و عنايته و لذلك أخذهم الحسبان المذكور و لزمهم العمى و الصمم، لكن الله سبحانه رجع إليهم ثانية بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم، و العمى و الصمم عن أبصارهم و آذانهم، فعرفوا أنفسهم بأنهم عباد لا كرامة لهم على الله إلا بالتقوى، و أبصروا الحق و سمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبين لهم أن التسمي لا ينفع شيئا.
ثم عموا و صموا كثير منهم، و إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم أولا ثم إلى كثير منهم بإتيان كثير منهم بدلا من واو الجمع، أخذ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أن إسناد العمى و الصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكل، و الواقع أن
المتصف بهاتين الصفتين كثير منهم لا كلهم أولا، و إيماء إلى أن العمى و الصمم المذكورين أولا شملا جميعهم على ما يدل عليه المقابلة ثانيا، و أن التوبة الإلهية لم يبطل أثرها و لم تذهب سدى بالمرة بل نجا بالتوبة بعضهم فلم يأخذهم العمى و الصمم اللاحقان أخيرا ثالثا.
ثم ختم تعالى الآية بقوله: {وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} للدلالة على أن الله تعالى لا يغفله شيء، فغيره تعالى إذا أكرم قوما بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء و المكروه، و ليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شيء عن شيء.
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ} و هذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية و الانتساب إلى المسيح (عليه السلام) عن تعلق الكفر بهم إذ أشركوا بالله و لم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.
و النصارى و إن اختلفوا في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الألوهية بين قائل باشتقاق أقنوم المسيح و هو العلم من أقنوم الرب (تعالى) و هو الحياة، و ذلك الأبوة و البنوة، و قائل بأنه تعالى صار هو المسيح على نحو الانقلاب، و قائل بأنه حل فيه كما تقدم بيان ذلك تفصيلا في الكلام على عيسى بن مريم (عليه السلام) في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.
لكن الأقوال الثلاثة جميعا تقبل الانطباق على هذه الكلمة (أن الله هو المسيح بن مريم) فالظاهر أن المراد بالذين تفوهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح (عليه السلام) لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب.
و توصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم و هو نسبة الألوهية إلى إنسان ابن إنسان مخلوقين من تراب، و أين التراب و رب الأرباب؟
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اُعْبُدُوا اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ} (إلى آخر الآية) احتجاج على كفرهم و بطلان قولهم بقول المسيح (عليه السلام) نفسه؛ فإن قوله (عليه السلام): {اُعْبُدُوا اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ} يدل على أنه عبد مربوب مثلهم، و قوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ} يدل على أن من يجعل لله شريكا في ألوهيته فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.
و في قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): {فَقَدْ حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ اَلنَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، و أنه (عليه السلام) باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الإلهية و مصيرهم إلى الجنة و لا يمسون نارا كما تقدم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى (عليه السلام) فقصة التفدية و الصلب إنما سيقت لهذا الغرض.
و ما تحكيه الآية من قوله (عليه السلام) موجود في متفرقات الأبواب من الأناجيل كالأمر بالتوحيد،۱ و إبطال عبادة المشرك،٢ و الحكم بخلود الظالمين في النار٣.
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} أي أحد الثلاثة: الأب و الابن و الروح، أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة، و هذا لازم قولهم: إن الأب إله، و الابن إله، و الروح إله، و هو ثلاثة، و هو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان، فهناك أمور ثلاثة هي: زيد و ابن عمرو و الإنسان، و هناك أمر واحد و هو المنعوت بهذه النعوت، و قد غفلوا عن أن هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، و أن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقية فالجمع بين هذه الكثرة العددية و الوحدة العددية في زيد المنعوت بحسب الحقيقة مما يستنكف العقل عن تعقله.
و لذا ربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف التي لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، و لم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوي الأسلاف أو من دعاوي الأخلاف.
قوله تعالى: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (إلى آخر الآية) رد منه تعالى لقولهم: {إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} بأن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، و إذا اتصف بصفاته الكريمة و أسمائه الحسنى لم يزد
ذلك على ذاته الواحدة شيئا و لا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة و تعددا فهو تعالى أحدي الذات لا ينقسم لا في خارج و لا في وهم و لا في عقل.
فليس الله سبحانه بحيث يتجزأ في ذاته إلى شيء و شيء قط، و لا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شيء فيصير اثنين أو أكثر، كيف؟ و هو تعالى مع هذا الشيء الذي تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج.
فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التي لسائر الأشياء المتكون منها الكثرات، و لا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف؟ و هذه الوحدة العددية و الكثرة المتألفة منها كلتاهما من آثار صنعه و إيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه؟
و في قوله تعالى: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفي و الاستثناء، ثم أدخل {مِنْ} على النفي لإفادة تأكيد الاستغراق، ثم جيء بالمستثنى و هو قوله: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} بالتنكير المفيد للتنويع و لو أورد معرفة كقولنا «إلا الإله الواحد» لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد.
فالمعنى: «ليس في الوجود شيء من جنس الإله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا لا تعدد الذات و لا تعدد الصفات، لا خارجا و لا فرضا، و لو قيل: و ما من إله إلا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى (إن الله ثالث ثلاثة) فإنهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، و إنما يقولون: إنه ذات واحدة لها تعين بصفاتها الثلاث، و هي واحدة في عين أنها كثيرة حقيقة.
و لا يندفع ما احتملوه من المعنى إلا بإثبات وحدة لا تتألف منه كثرة أصلا، و هو الذي يتوخاه القرآن الكريم بقوله: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
و هذا من لطائف المعاني التي يلوح إليها الكتاب الإلهي في حقيقة معنى التوحيد و سنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآني خاص ثم في بحث عقلي و آخر نقلي إيفاء لحقه.
قوله تعالى: {وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
تهديد لهم بالعذاب الأليم الأخروي الذي هو ظاهر الآية الكريمة.
و لما كان القول بالتثليث الذي تتضمنه كلمة: {إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} ليس في وسع عقول عامة الناس أن تتعقله فأغلب النصارى يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظة من غير أن يعقلوا معناه، و لا أن يطمعوا في تعقله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا، و إنما يتعقل كتعقل الفروض المحالة كالإنسان اللاإنسان، و العدد الذي ليس بواحد و لا كثير و لا زوج و لا فرد فلذلك تتسلمه العامة تسلما من غير بحث عن معناه، و إنما يعتقدون في البنوة و الأبوة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، و إنما يمضغون الكلمة مضغا، و ينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامة منهم و هم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب و يقرر أن ذلك ببغيهم كما قال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} إلى أن قال: {وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}: الشورى: ١٤.
فالكفر الحقيقي الذي لا ينتهي إلى استضعاف و هو الذي فيه إنكار التوحيد و التكذيب بآيات الله إنما يتم في بعضهم دون كلهم، و إنما أوعد الله بالنار الخالد الذين كفروا و كذبوا بآيات الله، قال: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات، و قد مر الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ} (الآية): النساء: ٩٨.
و لعل هذا هو السر في التبعيض الظاهر من قوله: {لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أو أن المراد به الإشارة إلى أن من النصارى من لا يقول بالتثليث، و لا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله و رسوله، كما كانت على ذلك مسيحيو الحبشة و غيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عما يقولون (نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم) ليمسن الذين كفروا منهم و هم القائلون بالتثليث منهم عذاب أليم.
و ربما وجهوا الكلام أعني قوله: {لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} بأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل: ليمسنهم (انتهى)، و إنما عدل إلى وضع الموصول و صلته مكانه ليدل على أن ذلك القول كفر بالله، و أن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به.
و هذا وجه لا بأس به لو لا أن الآية مصدرة بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} و نظيره في البعد قول بعض آخر: إن «من» في قوله {مِنْهُمْ} بيانية فإنه قول من غير دليل.
قوله تعالى: {أَ فَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اَللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تحضيض على التوبة و الاستغفار، و تذكير بمغفرة الله و رحمته، أو إنكار أو توبيخ.
قوله تعالى: {مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ اَلطَّعَامَ} رد لقولهم: {إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} أو لقولهم هذا و قولهم المحكي في الآية السابقة: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ} جميعا، و محصله اشتمال المسيح على جوهرة الألوهية، بأن المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفاهم الله من قبله كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه، و كذلك أمه مريم كانت صديقة تصدق بآيات الله تعالى و هي بشر، و قد كان هو و أمه جميعا يأكلان الطعام، و أكل الطعام مع ما يتعقبه مبني على أساس الحاجة التي هو أول أمارة من أمارات الإمكان و المصنوعية فقد كان المسيح (عليه السلام) ممكنا متولدا من ممكن، و عبدا و رسولا مخلوقا من أمه كانا يعبدان الله، و يجريان في سبيل الحاجة و الافتقار من دون أن يكون ربا.
و ما بيد القوم من كتب الإنجيل معترفة بذلك تصرح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله و تعبده، و تصرح بأن عيسى تولد منها كالإنسان من الإنسان، و تصرح بأن عيسى كان رسولا من الله إلى الناس كسائر الرسل و تصرح بأن عيسى و أمه مريم كانا يأكلان الطعام.
فهذه أمور صرحت بها الأناجيل، و هي حجج على كونه (عليه السلام) عبدا رسولا.
و يمكن أن تكون الآية مسوقة لنفي ألوهية المسيح و أمه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى: {أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ}: المائدة: ١١٦ أنه كان هناك من يقول بألوهيتها كالمسيح أو أن المراد به اتخاذها إلها كما ينسب إلى أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله، و ذلك بالخضوع لها و لهم بما لا يخضع لبشر بمثله.
و كيف كان فالآية على هذا التقدير تنفي عن المسيح و أمه معا الألوهية بأن المسيح كان رسولا كسائر الرسل، و أمه كانت صديقة، و هما معا كانا يأكلان الطعام، و ذلك كله ينافي الألوهية.
و في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ} حيث وصف الرسل بالخلو من قبله، و هو الموت تأكيد للحجة بكونه بشرا يجوز عليه الموت و الحياة كما جاز على الرسل من قبله.
قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} الخطاب للنبي، (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في مقام التعجيب أي تعجب من كيفية بياننا لهم الآيات، و هو أوضح بيان لأظهر آية في بطلان دعواهم ألوهية المسيح، و كيفية صرفهم عن تعقل هذه الآيات؛ فإلى أي غاية يصرفون عنها، و لا تلتفت إلى نتيجتها و هي بطلان دعواهم عقولهم؟
قوله تعالى: {قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ اَللَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} كان الخضوع لأمر الربوبية إنما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، و خاصة بين العامة منهم و عامتهم كانوا يعبدون الأصنام طمعا في أن يدفع الرب عنهم الشر و يوصل إليهم النفع كما يتحصل من الأبحاث التاريخية، و أما عبادة الله لأنه الله عز اسمه فلم يكن يعدو الخواص منهم كالأنبياء و الربانيين من أممهم.
فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجاري على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيين و عباد الأصنام بذلك فيذكرهم أن الذي يضطر الإنسان بعبادة الرب هو أنه يرى أزمة الخير و الشر و النفع و الضر بيده فيعبده لأنه يملك الضر و النفع طمعا في أن يدفع عنه الضر و يوصل إليه الخير لعبادته له.
و كل ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئا من ضر و لا نفع لأنه مملوك لله محضا مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، و إشراكه مع ربه الذي هو المالك له و لغيره، و قد كان من الواجب أن يخص هو تعالى بالعبادة، و لا يتعدى عنه إلى غيره لأنه هو الذي يختص به السمع و الإجابة فيسمع و يجيب المضطر إذ دعاه، و هو الذي يعلم حوائج عباده و لا يغفل عنها و لا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنه إنما
يملك ما ملكه الله، و يقوى على ما قواه الله سبحانه.
فقد تبين بهذا البيان: أولا: أن الحجة التي تشتمل عليها هذه الآية غير الحجة التي تشتمل عليها الآية السابقة و إن توقفتا معا على مقدمة مشتركة، و هي كون المسيح و أمه ممكنين محتاجين، فالآية السابقة حجتها أن المسيح و أمه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، و من كان حاله هذا الحال لم يصح أن يكون إلها معبودا، و حجة هذه الآية: أن المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرا و لا نفعا، و من كان حاله هذا الحال لم يستقم ألوهيته و عبادته من دون الله.
و ثانيا: أن الحجة مأخوذة مما يدركه الفهم البسيط و العقل الساذج من جهة غرض الإنسان البسيط في عبادته فإنه إنما يتخذ ربا و يعبده ليدفع عنه الضر و يجلب إليه النفع، و هذا إنما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته.
و ثالثا: أن قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} إنما أخذت فيه لفظة {مَا} دون لفظة «من» مع المسيح من أولي العقل لأن الحجة بعينها هي التي تقام على الوثنيين و عبدة الأصنام التي لا شعور لها، و لا دخل في كون المسيح (عليه السلام) من أولي العقل في تمام الحجة فهي تامة في كل معبود مفروض دون الله سبحانه.
على أن غيره تعالى و إن كان من أولي العقل و الشعور لا يملكون شيئا من العقل و الشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شئون وجودهم؛ قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنْظِرُونِ}: الأعراف: ١٩٥.
و كذلك تقديم الضر على النفع في قوله: {ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} للجري على وفق ما تدركه و تدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مر، فإن الإنسان بحسب الطبع يرى ما تلبس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها و لا تتصور ألمه عند فقدها بخلاف المضار التي يجدها بالفعل، و النعم التي يفتقدها و يجد ألم فقدها، فإن الفطرة تنبهها إلى الالتجاء إلى رب يدفع عنها الضر و الضير، و يجلب
إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى: {وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ}: يونس: ١٢، و قال تعالى: {وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}: حم السجدة: ٥٠، و قال تعالى: {وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}: حم السجدة: ٥١.
فتحصل أن مس الضر أبعث للإنسان إلى الخضوع للرب و عبادته من وجدان النفع، و لذلك قدم الله سبحانه الضر على النفع في قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} و كذا في سائر الموارد التي تماثله كقوله: {اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً}: الفرقان: ٣.
و رابعا: أن مجموع الآية: {أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} إلى آخرها حجة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه و هي منحلة إلى حجتين ملخصهما: أن اتخاذ الإله و عبادة الرب إنما هو لغرض دفع الضر و جلب النفع فيجب أن يكون الإله المعبود مالكا لذلك و لا يجوز عبادة من لا يملك شيئا، و الله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره؛ فوجب عبادته من غير إشراك غيره.
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ اَلْحَقِّ} خطاب آخر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم، و أهل الكتاب و خاصة النصارى مبتلون بذلك، و «الغالي» المتجاوز عن الحد بالإفراط، و يقابله «القالي» في طرف التفريط.
و دين الله الذي يفسره كتبه المنزلة يأمر بالتوحيد و نفي الشريك و ينهى عن اتخاذ الشركاء لله سبحانه، و قد ابتلي بذلك أهل الكتاب عامة اليهود و النصارى، و إن كان أمر النصارى في ذلك أشنع و أفظع قال تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللَّهِ وَ قَالَتِ اَلنَّصَارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة: ٣١.
و القول بأن عزيرا ابن الله و إن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكن الآية تشهد بأنهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول.
و الظاهر أن ذلك كان لقبا تشريفيا يلقبونه به قبال ما خدمهم و أحسن إليهم في إرجاعهم إلى أورشليم (بيت المقدس) بعد إسارة بابل، و جمع لهم التوراة ثانيا بعد ضياعه في قصة بخت نصر، و قد كانوا يعدون بنوة الله لقبا تشريفيا كما يتخذ النصارى اليوم الأبوة كذلك و يسمون الباباوات و البطارقة و القسيسين بالآباء (الباب و البابا: الأب) و قد قال تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصَارى نَحْنُ أَبْنَاءُ اَللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ}: المائدة: ١٨.
بل الآية الثانية أعني قوله: {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ} تدل على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيح (عليه السلام)، و لم يذكر عزيرا فدل على دخوله في عموم قوله: {أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ} و أنهم إنما كانوا يسمونه ابن الله كما يسمون أحبارهم أبناء الله، و قد خصوه بالذكر وحده شكرا لإحسانه إليهم كما تقدمت الإشارة إليه.
و بالجملة وضعهم بعض أنبيائهم و أحبارهم و رهبانهم موضع الربوبية و خضوعهم لهم بما لا يخضع بمثله إلا لله سبحانه غلو منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و تقييد الغلو في الدين بغير الحق و لا يكون الغلو إلا كذلك إنما هو للتأكيد و تذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلا يذهل عنه السامع و قد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل.
و إطلاق الأب على الله سبحانه بتحليل معناه و تجريده عن وسمة نواقص المادة الجسمانية أي من بيده الإيجاد و التربية، و كذلك الابن بمعناه المجرد التحليلي و إن لم يمنعه العقل لكنه ممنوع شرعا لتوقيفية أسماء الله سبحانه لما في التوسع في إطلاق الأسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، و كفى مفسدة في إطلاق الأب و الابن ما لقيته الأمتان: اليهود و النصارى و خاصة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية و لن يزال الأمر على ذلك.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ
سَوَاءِ اَلسَّبِيلِ} ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء القوم الذين نهوا عن اتباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم و أوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم؛ إضلالهم كثيرا هو اتباع غيرهم لهم، و ضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصل لهم من ضلالهم و إضلالهم، و هو ضلال على ضلال.
و كذلك ظاهر السياق أن المراد بهم هم الوثنية و عبدة الأصنام فإن ظاهر السياق أن الخطاب إنما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبي ص حتى يكون نهيا لمتأخريهم عن اتباع متقدميهم.
و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللَّهِ وَ قَالَتِ اَلنَّصَارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}: التوبة: ٣٠.
فيكون ذلك حقيقة تحليلية تاريخية أشار إليها القرآن الكريم هي أن القول بالأبوة و البنوة مما تسرب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدمهم من الوثنية، و قد تقدم في الكلام على قصص المسيح (عليه السلام) في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أن هذا القول في جملة من الأقوال و الآراء موجود عند الوثنية البرهمنية و البوذية في الهند و الصين، و كذلك مصر القديم و غيرهم، و إنما أخذ بالتسرب في الملة الكتابية بيد دعاتها، فظهر في زي الدين و كان الاسم لدين التوحيد و المسمى للوثنية.
قوله تعالى: {لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ} إلى آخر الآيتين إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، و فيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الآيات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، و ذلك بسبب عصيانهم لأنبيائهم، و هم كانوا مستمرين على الاعتداء و قوله: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} «إلخ» بيان لقوله: {وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ}.
قوله تعالى: {تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} «إلخ»، و هذا من قبيل الاستشهاد بالحس على كونهم معتدين فإنهم لو قدروا دينهم حق قدره لزموه و لم يعتدوه، و لازم ذلك أن يتولوا أهل التوحيد و يتبرءوا من الذين كفروا لأن أعداء ما يقدسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابوا و توالوا دل ذلك على إعراض ذلك القوم و تركهم ما
كانوا يقدسونه و يحترمونه، و صديق العدو عدو، ثم ذمهم الله تعالى بقوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} و هو ولاية الكفار عن هوى النفس، و كان جزاؤه و وباله {أَنْ سَخِطَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}، ففي الآية وضع جزاء العمل و عاقبته موضع العمل كأن أنفسهم قدمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل.
قوله تعالى: {وَ لَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلنَّبِيِّ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَ لَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي و لو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله و النبي محمد ص و ما أنزل إليه، أو نبي أنفسهم كموسى مثلا و ما أنزل إليه كالتوراة مثلا ما اتخذوا أولئك الكفار أولياء لأن الإيمان يجب سائر الأسباب، و لكن كثيرا منهم فاسقون متمردون عن الإيمان.
و في الآية وجه آخر احتملوه، و هو أن يرجع ضمائر قوله: {كَانُوا} و {يُؤْمِنُونَ} و {اِتَّخَذُوهُمْ} في قوله: {مَا اِتَّخَذُوهُمْ} راجعة إلى الذين كفروا، و المعنى: و لو كان الذين كفروا أولئك الكفار الذين يتولاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله و النبي و القرآن ما اتخذتهم أهل الكتاب أولياء، و إنما تولوهم لمكان كفرهم، و هذا وجه لا بأس به غير أن الإضراب في قوله: {وَ لَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} لا يلائمه.
قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله {نَصَارى} لما بين سبحانه في الآيات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل الكتاب عامة، و بعض ما يختص ببعضهم كقول اليهود: {يَدُ اَللَّهِ مَغْلُولَةٌ} و قول النصارى: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ} ختم الآيات بما يختص به كل من الطائفين إذا قيس حالهم من المؤمنين و دينهم، و أضاف إلى حالهم حال المشركين ليتم الكلام في وقع الإسلام من قلوب الأمم غير المسلمة من حيث قربهم و بعدهم من قبوله.
و يتم الكلام في أن النصارى أقرب تلك الأمم مودة للمسلمين و أسمع لدعوتهم الحقة.
و إنما عدهم الله سبحانه أقرب مودة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يدل عليه قوله في الآية التالية: {وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ} «إلخ»، لكن لو كان إيمان طائفة تصحح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعد اليهود و المشركون كمثل النصارى و ينسب إليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من
اليهود كعبد الله بن سلام و أصحابه، و إسلام عدة من مشركي العرب و هم عامة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله: {وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ} «إلخ»، دون اليهود و المشركين يدل على حسن إقبالهم على الدعوة الإسلامية و إجابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم و يؤدوا الجزية، و بين أن يقبلوا الإسلام، أو يحاربوا.
و هذا بخلاف المشركين فإنهم لم يكن يقبل منهم إلا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدل على حسن الإجابة، على ما كابد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من جفوتهم و لقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم و نخوتهم.
و كذلك اليهود و إن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم و تأدية الجزية إلى المسلمين لكنهم تمادوا في نخوتهم، و تصلبوا في عصبيتهم، و أخذوا بالمكر و المكيدة، و نقضوا عهودهم، و تربصوا الدوائر على المسلمين، و مسوهم بأمر المس و آلمه.
و هذا الذي جرى من أمر النصارى مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الدعوة الإسلامية، و حسن إجابتهم، و كذا من أمر اليهود و المشركين في التمادي على الاستكبار و العصبية جرى بعينه بعده (صلى الله عليه وآله و سلم) على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبى الدعوة الإسلامية من فرق النصارى خلال القرون الماضية، و ما أقل ذلك من اليهود و الوثنيين! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء و هؤلاء يصدق الكتاب العزيز في ما أفاده.
و من المعلوم أن قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} من قبيل بيان الضابط العام في صورة خطاب خاص نظير ما مر في الآيات السابقة: {تَرىَ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و {تَرىَ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ}.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} القسيس معرب «كشيش» و الرهبان جمع الراهب و قد يكون مفردا، قال الراغب: الرهبة و الرهب مخافة مع تحرز إلى أن قال و الترهب التعبد، و الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة، قال تعالى: {وَ رَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا} و الرهبان يكون واحدا و جمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين، انتهى.
علل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودة و آنس قلوبا للذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود و المشركين، و هي أن فيهم علماء و أن فيهم رهبانا
و زهادا، و أنهم لا يستكبرون و ذلك مفتاح تهيؤهم للسعادة.
و ذلك أن سعادة حياة الدين أن تقوم بصالح العمل عن علم به، و إن شئت فقل: إن يذعن بالحق فيطبق عمله عليه؛ فله حاجة إلى العلم ليدرك به حق الدين و هو دين الحق، و مجرد إدراك الحق لا يكفي للتهيؤ للعمل على طبقه حتى ينتزع الإنسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، و هو الاستكبار عن الحق بعصبية و ما يشابهها، و إذا تلبس الإنسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحق برفع الاستكبار تهيأ للخضوع للحق بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجو لذلك فإن لموافقة الجو للعمل تأثيرا عظيما في باب الأعمال فإن الأعمال التي يعتورها عامة المجتمع و ينمو عليها أفراده، و تستقر عليهم عادتهم خلفا عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكر في أمرها أو تتدبر و تدبر في التخلص عنها إذا كانت ضارة مفسدة للسعادة، و كذلك الحال في الأعمال الصالحة إذا استقر التلبس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، و لذا قيل: إن العادة طبيعة ثانية، و لذا كان أيضا أول فعل مخالف حرجا على النفس في الغاية و هو عند النفس دليل على الإمكان، ثم لا يزال كلما تحقق فعل زاد في سهولة التحقق و نقص بقدره من صعوبته.
فإذا تحقق الإنسان أن عملا كذا حق صالح و نزع عن نفسه أغراض العناد و اللجاج بإماتة الاستكبار و الاستعلاء على الحق كان من العون كل العون على إتيانه أن يرى إنسانا يرتكبه فتتلقى نفسه إمكان العمل.
و من هنا يظهر أن المجتمع إنما يتهيأ لقبول الحق إذا اشتمل على علماء يعلمونه و يعلمونه، و على رجال يقومون بالعمل به حتى يذعن العامة بإمكان العمل و يشاهدوا حسنه، و على اعتياد عامتهم على الخضوع للحق و عدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم.
و لهذا علل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقة الدينية بأن فيهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون؛ ففيهم علماء لا يزالون يذكرونهم مقام الحق و معارف الدين قولا، و فيهم زهاد يذكرونهم عظمة ربهم و أهمية سعادتهم الأخروية و الدنيوية عملا، و فيهم عدم الاستكبار عن قبول الحق.
و أما اليهود فإنهم و إن كان فيهم أحبار علماء لكنهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة
العناد و الاستعلاء أن يتهيئوا لقبول الحق.
و أما الذين أشركوا فإنهم يفقدون العلماء و الزهاد، و فيهم رذيلة الاستكبار.
قوله تعالى: {وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرىَ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ} «إلخ»، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و {مِنَ} في قوله: {مِنَ اَلدَّمْعِ} للابتداء، و في قوله: {مِمَّا} للنشوء، و في قوله: {مِنَ اَلْحَقِّ} بيانية.
قوله تعالى: {وَ مَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} «إلخ»، لفظة {يُدْخِلَنَا} كأنها مضمنة معنى الجعل، و لذلك عدي بمع، و المعنى: يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مدخلا لنا فيهم.
و في هذه الأفعال و الأقوال التي حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنهم أقرب مودة للذين آمنوا، و تحقيق أن فيهم العلم النافع و العمل الصالح و الخضوع للحق حيث كان فيهم قسيسون و رهبان و هم لا يستكبرون.
قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اَللَّهُ} إلى آخر الآيتين، «الإثابة» المجازاة، و الآية الأولى ذكر جزائهم، و الآية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاء للأقسام.
(بحث روائي)
في معاني الأخبار بإسناده عن الرضا عن آبائه، عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ اَلطَّعَامَ} معناه أنهما كانا يتغوطان.
أقول: و رواه العياشي في تفسيره مرفوعا.
و في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ} قال: الخنازير على لسان داود، و القردة على لسان عيسى بن مريم.
أقول: و رواه القمي و العياشي عنه (عليه السلام)، و روي بطرق أهل السنة عن مجاهد و قتادة و غيرهما: لعن القردة على لسان داود، و الخنازير على لسان عيسى بن مريم، و يوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.
و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام): أما داود فإنه لعن أهل أيلة لما اعتدوا في سبتهم، و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء، و مثل المنطقة على الخصرين؛ فمسخهم الله قردة، و أما عيسى فإنه لعن الذين نزلت عليهم المائدة ثم كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): يتولون الملوك الجبارين، و يزينون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم.
أقول: و القرآن يؤيد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى: {وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}: البقرة: ٥٦ و قال تعالى: {وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} إلى أن قال {وَ إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إلى أن قال {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}: الأعراف: ١٦٦.
و في الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ و الطبراني و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن بني إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيرا ثم جالسوهم و آكلوهم و شاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة؛ فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، و لعنهم على لسان نبي من الأنبياء، ثم (قال،) رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و الله لتأمرن بالمعروف، و لتنهن عن المنكر، و لتأطرنهم على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض و ليلعننكم كما لعنهم.
و فيه: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا و لن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر و المخافة أن بني يأجوج قد جاءوا، و إن رحى الإسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرقا؛ أنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره فإن أطعتموهم أضلوكم، و إن عصيتموهم قتلوكم.
قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، و رفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إن أول ما نقص في بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر سنة
التعزير فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله و شاربه و كأنه لم يعب عليه شيئا فلعنهم الله على لسان داود، و ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.
و الذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم؛ ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم.
و الذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف و لتنهن عن المنكر، و لتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض.
و فيه أيضا: أخرج ابن راهويه و البخاري في الوحدانيات، و ابن السكن و ابن مندة و الباوردي في معرفة الصحابة، و الطبراني و أبو نعيم و ابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه:
قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فحمد الله و أثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم و لا يفقهونهم، و لا يأمرونهم و لا ينهونهم؟ و ما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم و لا يتفقهون و لا يتفطنون؟ و الذي نفسي بيده ليعلمن (جيرانهم،) أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل و دخل بيته فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين فقهاء علماء، و لهم جيران جفاة جهلة.
فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير و ذكرتنا بشر فما بالنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لتعلمن جيرانكم و لتفقهنهم و لتأمرنهم و لتنهنهم أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففي سنة ما نعلمهم و يتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
و في تفسير العياشي عن محمد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، قال: أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم - و لا يجالسون مجالسهم و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم
و أنسوا بهم.
و فيه أيضا: عن مروان عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ذكر النصارى و عداوتهم فقال: قول الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}، قال: أولئك كانوا قوما بين عيسى و محمد ينتظرون مجيء محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).
أقول: ظاهر الآية العموم دون الخصوص، و لعل المراد أن المدح إنما هو لهم ما لم يغيروا كما أن الذي مدح الله به المسلمين كذلك.
و في الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير: في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً} قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه إسلام قومه؛ كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه و السن.
و في لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة «يس» فبكوا حين سمعوا القرآن و عرفوا أنه الحق.
فأنزل الله فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً} (الآية) و نزلت هذه الآية فيهم أيضا: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}.
و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب و ابن مسعود و عثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة.
فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى النجاشي فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش و أحلامها؛ زعم أنه نبي، و أنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك و نخبرك خبرهم.
قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأتوا
إلى باب النجاشي فقالوا: استأذن لأولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: أ لم تر أيها الملك أنا صدقناك، و أنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة و تحية الملائكة.
فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى و أمه؟ قالوا: يقول: عبد الله و رسوله و كلمة من الله و روح منه ألقاها إلى مريم، و يقول في مريم: أنها العذراء الطيبة البتول؛ قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى و أمه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله و تغير له وجوههم.
فقال: هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: فاقرءوا فقرءوا و حوله القسيسون و الرهبان و سائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين و الرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق - قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ}.
أقول: و روى القمي في تفسيره: القصة مفصلة في خبر طويل، و في آخره: و رجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قرءوا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشي و بكى القسيسون، و أسلم النجاشي و لم يظهر للحبشة إسلامه، و خافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما عبر البحر توفي، الحديث .
(كلام في معنى التوحيد في القرآن)
لا يرتاب الباحث المتعمق في المعارف الكلية أن مسألة التوحيد من أبعدها غورا، و أصعبها تصورا و إدراكا، و أعضلها حلا لارتفاع كعبها عن المسائل العامة العامية التي تتناولها الأفهام، و القضايا المتداولة التي تألفها النفوس، و تعرفها القلوب.
و ما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه و التصديق به للتنوع الفكري الذي فطر عليه الإنسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسمية و أداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الإدراك في أعمالها ثم تأثير ذلك الفهم و التعقل من حيث الحدة و البلادة،
و الجودة و الرداءة، و الاستقامة و الانحراف.
فهذا كله مما لا شك فيه، و قد قرر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}: الزمر: ٩، و قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا َذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}: النجم: ٣٠، و قوله تعالى: {فَمَا لِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}: النساء: ٨٧، و قوله تعالى في ذيل الآية ٧٥ من المائدة (و هي من جملة الآيات التي نحن فيها) {اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
و من أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمي اختلاف أفهام الناس في تلقي معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم و النوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانية بإلهامها الخفي و إشارتها الدقيقة.
فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتخذة، و الأصنام المصنوعة من الخشب و الحجارة حتى من نحو الأقط و الطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، و قرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، و يسأل كما تسأل هؤلاء، و يخضع له كما يخضع لها، و لم يلبث هذا الإنسان دون أن غلب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه، و أقبل عليها و تركه، و أمرها على حوائجه و عزله.
فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، و لذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم، و هي الوحدة العددية التي تتألف منها الأعداد، قال تعالى: {وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}: _ ص: ٦.
فهؤلاء كانوا يتلقون الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العددية التي تقابل الكثرة العددية كقوله تعالى: {وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: البقرة: ١٦٣ و قوله تعالى: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ}:
المؤمن: ٦٥ و غير ذلك من الآيات الداعية إلى رفض الآلهة الكثيرة، و توجيه الوجه لله الواحد، و قوله تعالى: {وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ}: العنكبوت: ٤٦ و غيره من الآيات الداعية إلى رفض التفرق في العبادة للإله، حيث كانت كل أمة أو طائفة أو قبيلة تتخذ إلها تختص به، و لا تخضع لإله الآخرين.
و القرآن ينفي في عالي تعليمه الوحدة العددية عن الإله جل ذكره، فإن هذه الوحدة لا تتم إلا بتميز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره، و المقدرية التي تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرقناه في آنية كثيرة كان ماء كل إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، و إنما صار ماء واحدا يتميز عما في الآخر لكون ما في الآخر مسلوبا عنه غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنما صار إنسانا واحدا لأنه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و لو لا ذلك لم يأت للإنسانية الصادقة على هذا و ذاك أن تكون واحدة بالعدد و لا كثيرة بالعدد.
فمحمودية الوجود هي التي تقهر الواحد العددي على أن يكون واحدا ثم بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألف كثرة عددية كما عنده عروض صفة الاجتماع بوجه.
و إذ كان الله سبحانه قاهرا غير مقهور، و غالبا لا يغلبه شيء البتة كما يعطيه التعليم القرآني لم تتصور في حقه وحدة عددية و لا كثرة عددية، قال تعالى: {وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: الرعد: ١٦، و قال: {أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ َمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ}: يوسف: ٤٠، و قال: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: _ ص: ٦٥، و قال: {لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىَ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: الزمر: ٤.
و الآيات بسياقها كما ترى تنفي كل وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عددية كالفرد الواحد من النوع الذي لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإن هذا الفرد مقهور بالحد الذي يحده به الفرد الآخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعية أو جنسية أو أي وحدة كلية مضافة إلى كثرة من سنخها كالإنسان الذي هو نوع واحد مضاف إلى الأنواع الكثيرة الحاصلة منه و من الفرس و البقر و الغنم و غيرها فإنه مقهور بالحد الذي يحده به ما يناظره من الأنواع الآخر، و إذ كان
تعالى لا يقهره شيء في شيء البتة من ذاته و لا صفته و لا فعله و هو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حق لا يعرضه بطلان، و هو الحي لا يخالطه موت، و العليم لا يدب إليه جهل، و القادر لا يغلبه عجز، و المالك و الملك من غير أن يملك منه شيء و العزيز الذي لا ذل له، و هكذا.
فله تعالى من كل كمال محضه، و إن شئت زيادة تفهم و تفقه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمرا متناهيا و آخر غير متناه تجد غير المتناهي محيطا بالمتناهي بحيث لا يدفعه المتناهي عن كماله المفروض أي دفع، فرضته بل غير المتناهي مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهي في شيء من أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}: حم السجدة: ٥٤.
و هذا هو الذي يدل عليه عامة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى }: طه: ٨، و قوله: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}: النور: ٢٥، و قوله: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: المؤمن: ٦٥، و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ}: الروم: ٥٤، و قوله: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: البقرة: ١٦٥، و قوله: {لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ}: التغابن: ١، و قوله: {إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: يونس: ٦٥، و قوله: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: البقرة: ١٤٧، و قوله: {أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}: فاطر: ١٥، إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات كما ترى تنادي بأعلى صوتها أن كل كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شيء إلا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عما يملكه و يملكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملكناه غيرنا.
فكلما فرضنا شيئا من الأشياء ذا شيء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيا له و شريكا عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضا، و هو الحق الذي يملك كل شيء، و غيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئا قال تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً}: الفرقان: ٣.
و هذا المعنى هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديا ـ
أي موجودا محدودا منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صح للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقق في الخارج أو غير جائز التحقق، و صح عند العقل أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.
فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحد بحد حتى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحد و هذا معنى قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ اَللَّهُ اَلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}: سورة التوحيد - ٤ فإن لفظ أحد إنما يستعمل استعمالا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: «ما جاءني أحد» و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد و كذا الاثنان و الأكثر و قال تعالى: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ}: التوبة: ٦ فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد، و قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغَائِطِ} فشمل الواحد و ما وراءه، و لم يشذ منه شاذ.
فاستعمال لفظ أحد في قوله: {هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} في الإثبات من غير نفي و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أن هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه سواء كان واحدا أو كثيرا فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.
و لذلك وصفه تعالى أولا بأنه صمد، و هو المصمت الذي لا جوف له و لا مكان خاليا فيه، و ثانيا بأنه لم يلد، و ثالثا بأنه لم يولد، و رابعا بأنه لم يكن له كفوا أحد، و كل هذه الأوصاف مما يستلزم نوعا من المحدودية و الانعزال.
و هذا هو السر في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حق الوقوع و الاتصاف قال تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ َإِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ}: الصافات: ١٦٠، و قال تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}: طه: ١١٠، فإن المعاني الكمالية التي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، و جلت ساحته سبحانه عن الحد و القيد،و هو الذي يرومه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في كلمته المشهورة: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
و هذا المعنى من الوحدة هو الذي يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحدون في عين التثليث لكن الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عددية لا تنفي الكثرة من جهة أخرى فهم يقولون: إن الأقانيم (الأب و الابن و الروح) (الذات و العلم و الحياة) ثلاثة و هي واحدة كالإنسان الحي العالم فهو شيء واحد لأنه إنسان حي عالم و هو ثلاثة لأنه إنسان و حياة و علم.
لكن التعليم القرآني ينفي ذلك لأنه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة و تمايز لا في الذات و لا في الصفات، و كل ما فرض من شيء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحد فذاته تعالى عين صفاته، و كل صفة مفروضة له عين الأخرى، تعالى الله عما يشركون، و سبحانه عما يصفون.
و لذلك ترى أن الآيات التي تنعته تعالى بالقهارية تبدأ أولا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهارية لتدل على أن وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانيا مماثلا بوجه فضلا عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعية و الثبوت، قال تعالى: {أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ َمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ}: يوسف: ٤٠، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كل معبود مفروض إلا الاسم فقط، و قال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: الرعد: ١٦، قال تعالى: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ}: المؤمن: ١٦، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلي مالكا مفروضا غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكا لله سبحانه، و قال تعالى: {وَ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: _ ص: ٦٥، و قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: الزمر: ٤، فرتب القهارية في جميع الآيات على صفة الوحدة.
(بحث روائي) [كلام في معنى التوحيد ]
في التوحيد و الخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أ تقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابي أ ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم!
ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز و جل، و وجهان يثبتان فيه؛ فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في
باب الأعداد أ ما ترى أنه كفر من قال: إنه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه، و جل ربنا و تعالى عن ذلك.
و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، و قول القائل: إنه عز و جل أحدي المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربنا عز و جل.
أقول: و رواه أيضا في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه (عليه السلام).
و في النهج: أول الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، و من قرنه فقد ثناه، و من ثناه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حده، و من حده فقد عده (الخطبة).
أقول: و هو من أبدع البيان، و محصل الشطر الأول من الكلام أن معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، و محصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول أعني قوله (عليه السلام): فمن وصف الله فقد قرنه (إلخ) أن إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، و تنتج المقدمتان أن كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العددية منه، و إثبات الوحدة بمعنى آخر، و هو مراده (عليه السلام) من سرد الكلام.
أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بينه (عليه السلام): «بقوله أول الدين معرفته» لظهور أن من لم يعرف الله سبحانه و لو بوجه لم يحل بعد في ساحة الدين، و المعرفة ربما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال و ترتب آثار المعروف، و ربما كانت من غير عمل، و من المعلوم أن العلم فيما يتعلق نوع تعلق بالأعمال إنما يثبت و يستقر في النفس إذا ترتب عليه آثاره العملية، و إلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتى يبطل أو يصير سدى لا أثر له، و من كلامه (عليه السلام) في هذا الباب و قد رواه في النهج: «العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل عنه.
فالعلم و المعرفة بالشيء إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا، و أظهر ذلك في باطنه و ظاهره، و جنانه و أركانه بأن يخضع له روحا و جسما، و هو الإيمان المنبسط على سره و علانيته، و هو قوله: «و كمال معرفته التصديق به».
ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به و إن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله و لسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشيء لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره و الاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله و الخضوع لمقامه إلا بالإعراض عن عبادة الشركاء، و الانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، و هو قوله: «و كمال التصديق به توحيده».
ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، و لا يكمل حتى يعطى الإله الواحد حقه من الألوهية المنحصرة، و لا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود و الكمال كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع، و أن يخص الخضوع و العبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته، و لا يخاف إلا سخطه، و لا يطمع إلا فيما عنده، و لا يعكف إلا على بابه.
و بعبارة أخرى أن يخلص له علما و عملا، و هو قوله (عليه السلام): «و كمال توحيده الإخلاص له».
و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، و ضمته العناية الإلهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة، و توصيفه بما يليق بساحة كبريائه و عظمته فإنه ربما شاهد أن الذي يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الأشياء المصنوعة، و أمور ألفها من مشهوداته الممكنة، و هي صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا، و لا تقبل الائتلاف و الامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود و العلم و القدرة و الحياة و الرزق و العزة و الغنى و غيرها.
و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، و إذا تصورنا معنى العلم و هو وصف من الأوصاف ننعزل عن
معنى الذات و هو الموصوف.
فهذه المفاهيم و العلوم و الإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جل شأنه حق الانطباق، و عن حكاية ما هو عليه حق الحكاية؛ فتمس حاجة المخلص في وصفه ربه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، و عجز لا جابر دونه؛ فيعود فينفي ما أثبته، و يتيه في حيرة لا مخلص منها، و هو قوله (عليه السلام): «و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنها غير الصفة».
و هذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه (عليه السلام) هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول: «الذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود» على ما يظهر للمتأمل الفطن.
و أما قوله (عليه السلام): «فمن وصف الله فقد قرنه» (إلخ)، فهو توصل منه إلى المطلوب و هو أن الله سبحانه لا حد له و لا عد من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأول توصلا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.
فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف و الصفة، و الجمع بين المتغارين قرن، و من قرنه فقد ثناه لأخذه إياه موصوفا و صفة و هما اثنان، و من ثناه فقد جزأه إلى جزءين، و من جزأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقلية، و من أشار إليه فقد حده لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتى تتوسط بينهما الإشارة التي هي إيجاد بعد ما بين المشير و المشار إليه يبتدئ من الأول و ينتهي إلى الثاني «و من حده فقد عده» و جعله واحدا عدديا لأن العدد لازم الانقسام و الانعزال الوجودي تعالى الله عن ذلك.
و في النهج: من خطبة له (عليه السلام): «الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، و يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، و كل عزيز غيره ذليل، و كل قوي غيره ضعيف، و كل مالك غيره مملوك، و كل عالم غيره متعلم، و كل قادر غيره يقدر و يعجز، و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها، و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام، و كل ظاهر غيره باطن، و كل باطن غيره ظاهر».
أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود و كون غيره محدودا فإن هذه المعاني و النعوت و كل ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحد كانت لها إضافة ما إلى غيرها، و يستوجب التحدد حينئذ أن تنقطع و تزول عما أضيفت إليه، و تتبدل إلى ما يقابلها من المعنى.
فالظهور إذا فرض محدودا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شيء دون جهة أخرى و شيء آخر، و صار الأمر الظاهر باطنا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الأخرى و الشيء الآخر، و العزة إذا أخذت بحد بطلت فيما وراء حدها فكانت ذلة بالنسبة إليه، و القوة إذا كانت مقيدة تبدلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفا، و الظهور بطون في غير محله، و البطون ظهور في الخارج عن مستواه.
و الملك إذا كان محدودا كان من يحده مهيمنا على هذا المالك؛ فهو و ملكه تحت ملك غيره، و العلم إذا كان محدودا لم يكن من صاحبه لأن الشيء لا يحد نفسه، فكان بإفاضة الغير و تعليمه، و هكذا.
و الدليل على أنه (عليه السلام) بنى بيانه على معنى الحد قوله: «و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات» (إلخ)، فإنه و ما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدودية المخلوقات، و السياق واحد.
و أما قوله (عليه السلام): «و كل مسمى بالوحدة غيره قليل» و الجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحد ظاهر فإن الوحدة العددية المتفرعة على محدودية المسمى بالواحد لازمة تقسم المعنى و تكثره، و كلما زاد التقسم و التكثر أمعن الواحد في القلة و الضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي بإزائه و لو بالفرض.
و أما الواحد الذي لا حد لمعناه و لا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طرو الحد و عروض التميز و لا يشذ عن وجوده شيء من معناه حتى يكثره و يقوى بضمه، و يقل و يضعف بعزله، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.
و في النهج: و من خطبة له (عليه السلام): «الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، و لا يحجبه السواتر
لافتراق الصانع و المصنوع، و الحاد و المحدود، و الرب و المربوب، الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة؛ بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حده، و من حده فقد عده، و من عده فقد أبطل أزله».
أقول: أول كلامه (عليه السلام) مبني على أن جميع المعاني و الصفات المشهودة في الممكنات أمور محدودة لا تتم إلا بحاد يحدها و صانع يصنعها، و رب يربها، و هو الله سبحانه، و إذ كان الحد من صنعه فهو متأخر عنه غير لازم له، فقد تنزهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.
و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحد و إن كان لفظنا قاصرا عنه، و المعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدودية، و على هذا النهج خلقه و سمعه و بصره و شهوده و غير ذلك.
و من فروع ذلك أن بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال و الانعزال تعالى عن الاتصال و الانفصال، و الحلول و الانعزال، بل بمعنى قهره لها و قدرته عليها، و خضوعهم و رجوعهم إليه.
و قوله (عليه السلام): «من وصفه فقد حده و من حده، فقد عده و من عده، فقد أبطل أزله» فرع على إثبات الوحدة العددية إبطال الأزل لأن حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته و صفاته و لا محدود فإذا اعتبر من حيث إنه غير مسبوق بشيء يتقدم عليه كان هو أزله، و إذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشيء يتأخر عنه كان هو أبده، و ربما اعتبر من الجانبين فكان دواما.
و أما ما يظهر من عدة من الباحثين أن معنى كونه تعالى أزليا أنه سابق متقدم على خلقه المحدث تقدما في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق و لا أثر منهم فهو من أشنع الخطإ، و أين الزمان الذي هو مقدار حركة المتحركات و المشاركة معه تعالى في أزله؟
و في النهج: و من خطبة له (عليه السلام): «الحمد لله خالق العباد، و ساطح المهاد،
و مسبل الوهاد، و مخصب النجاد، ليس لأوليته ابتداء، و لا لأزليته انقضاء، هو الأول لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرت له الجباه، و وحدته الشفاه، حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال: متى؟ و لا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مما؟ و الباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضى و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصادق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيأ عليه القمر المنير، و تعقبه الشمس ذات النور في الأفول و الكرور و تقلب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار نهار مدبر، قبل كل غاية و مدة، و كل إحصاء و عدة، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثل المساكن، و تمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، و لا أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده، و صور ما صور فأحسن صورته».
و في النهج: من خطبة له (عليه السلام): «ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا صمده من أشار إليه و توهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، و كل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا يحول فكره، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له؛ ضاد النور بالظلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها، مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد، و لا يحسب بعد، و إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها، منعتها «منذ» القدمة، و حمتها «قد» الأزلية، و جنبتها «لو لا» التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه؟ و يعود فيه ما هو أبداه؟ و يحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذا وجد له أمام، و لالتمس
التمام إذا لزمه النقصان، و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه».
أقول: أول كلامه (عليه السلام) مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد، و لزمه في جميع ما عداه، و قد تقدم توضيحه الإجمالي فيما تقدم.
و قوله: «لا يشمل بحد و لا يحسب بعد» كالنتيجة لما تقدمه من البيان، و قوله: «و إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها» بمنزلة بيان آخر لقوله: «لا يشمل بحد، «إلخ» فإن البيان السابق إنما سيق من مسلك أن هذه الحدود المستقرة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخرة عنها تأخر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيد بها الذات إذ كان ذات و لا فعل.
و أما ما في قوله: «و إنما تحد» «إلخ»، من البيان فهو مسوق من طريق آخر، و هو أن التقدير و التحديد الذي هو شأن هذه الأدوات و الحدود إنما هو بالمسانخة النوعية كما أن المثقال الذي هو واحد الوزن مثلا توزن به الأثقال دون الألوان و الأصوات مثلا، و الزمان الذي هو مقدار الحركة إنما تحد به الحركات، و الإنسان مثلا إنما يقدر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسط مثلا من يماثله في الإنسانية، و بالجملة كل حد من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، و كل صفة إمكانية كائنة ما كانت مبنية على قدر و حد و ملزومة لأمد و نهاية، و كيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزلية أبدية غير متناهية؟
فهذا هو مراده (عليه السلام)، و لذلك أردفه بقوله: «منعتها منذ القدمة» «إلخ»، أي صدق كلمة «منذ» و كلمة «قد» الدالتين على الحدوث الزماني، على الأشياء منعتها و حمتها أن تتصف بالقدمة، و كذلك صدق كلمة «لو لا» في الأشياء و هي تدل على النقص و اقتران المانع جنبتها و بعدتها أن تكون كاملة من كل وجه.
و قوله: «بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع من نظر العيون» الضميران للأشياء أي إن، الأشياء بما هي آيات له تعالى و الآية لا تري إلا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلي إلا إياه تعالى فهو بها تجلى للعقول و بها أيضا امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الآيات و هي محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربها المحيط بكل شيء.
و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، و جلت ساحة رب العزة عن الحد.
و قوله (عليه السلام): «لا يجري عليه السكون و الحركة» «إلخ»، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الأفعال و الحوادث التي هي تنتهي إلى الحركة و السكون لا تجري عليه، و لا تعود فيه و لا تحدث فإنها آثاره التي تترتب على تأثيره في غيره، و معنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره، و لا معنى لتأثير الشيء في نفسه إلا بنوع من التجزي و التركيب العارض لذاته كالإنسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، و يضرب بيده على رأسه، و الطبيب يداوي بطبه مرضه، فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيات، و لو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.
فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، و النار لا تحرق ذاتها، و هكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب و التجزئة كما عرفت؛ و هذا معنى قوله: «إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه» «إلخ».
و قوله (عليه السلام): «و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه» أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود و الأقدار عليه، و النقص من علائم المصنوعية و أمارات الإمكان كان (تعالى و تقدس) مقارنا لما يدل على كونه مصنوعا و كان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلي كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزه عن كل نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود و الأقدار.
و اعلم أن ما يدل عليه قوله من كون الدلالة هي من شئون المصنوع الممكن لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليه السلام): أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، و غيره معلوم به، و أنه دال على ذاته، و هو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم و الدلالة غير الدلالة، و أرجو أن يوفقني الله تعالى لإيضاحه و بسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.
و في التوحيد بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له «ذعلب» ذرب اللسان، بليغ في
الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربا لم أره!
فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، و بعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها و لا بائن، عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تصحبه الأوقات، و لا تحده الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، و الجسوء بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، و بتأليفها على مؤلفها، و ذلك قوله عز و جل: {وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ففرق بها بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه، كان ربا و لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم، و سميعا إذ لا مسموع. ثم أنشأ يقول:
و لم يزل سيدي بالحمد معروفا | *** | و لم يزل سيدي بالجود موصوفا |
و كان إذ ليس نور يستضاء به | *** | و لا ظلام على الآفاق معكوفا |
فربنا بخلاف الخلق كلهم | *** | و كل ما كان في الأوهام موصوفا |
أقول: و كلامه (عليه السلام) كما ترى مسوق لبيان معنى أحدية الذات في جميع ما يصدق عليه و يرجع إليه، و أنه تعالى غير متناهي الذات و لا محدودها، فلا يقابل
ذاته ذات و إلا لهدده بالتحديد و قهره بالتقدير، فهو المحيط بكل شيء، المهيمن على كل أمر، و لا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإن في ذلك بطلان أزليته و عدم محدوديته.
و إن صفته تعالى الكمالية غير محدودة بحد يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أن العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوما و مصداقا، و لا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة و عين كل صفة من صفاته العليا و الاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى.
بل إن هنالك ما هو ألطف معنى و أبعد غورا من ذلك و هو أن هذه المعاني و المفاهيم للعقل بمنزلة الموازين و المكاييل يوزن و يكتال بها الوجود الخارجي و الكون الواقعي؛ فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن و إن ضممنا بعضها إلى بعض، و استمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد، فإذا فرضنا أمرا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود و هو غيره، و كلما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعاليا و ابتعادا.
فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالا لما يوجد له، و في هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة و الحياة مثلا، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه و هو عدم شموله ما وراءه (و لكل مفهوم وراء يقصر عن شموله) و إضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدي إلى بطلان خاصة المفهومية، و هو ظاهر.
و هذا هو الذي يحير الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبه و عقله، و هو المستفاد من قوله (عليه السلام): «لا تحده الصفات» و من قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة: «و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» و قوله أيضا في تلك الخطبة: «الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود» و أنت ترى أنه (عليه السلام) يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفي حدها، و من المعلوم أن إثباتها هي لا تنفك عن الحد فنفي الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها، و يئول إلى أن إثبات شيء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات و لا حد، ثم لا ينفي ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكي عنه، و لا إدراك لنا يتعلق به فافهم ذلك.
و لو لا أن المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته و كبريائه بالمعنى الذي تقدم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، و له علم لا كالعلوم، و قدرة لا كقدرة غيره، و حياة لا كسائر أقسام الحياة، فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه و أحاط به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شيء؟ أو أن الممنوع هو الإحاطة به تفصيلا، و أما الإحاطة الإجمالية فلا بأس بها؟ و قد قال تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}: طه: ١١٠، و قال: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}: حم السجدة: ٥٤، و الله سبحانه لا يحيط به شيء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، و لا يقبل ذاته المقدسة إجمالا و تفصيلا حتى يتبعض فيكون لإجماله حكم و لتفصيله حكم آخر فافهم ذلك.
و في الإحتجاج عنه (عليه السلام) في خطبة: «دليله آياته، و وجوده إثباته، و معرفته توحيده، و توحيده تمييزه من خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه ثم قال (عليه السلام): ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدال بالدليل عليه، و المؤدي بالمعرفة إليه».
أقول: التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، و لو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.
و هذا من عجيب المنطق و أبلغ البيان في باب التوحيد الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، و من ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله (عليه السلام): «وجوده إثباته» يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي أنه لا يدخل الذهن، و لا يسعه العقل.
قوله: «ما تصور فهو بخلافه» ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فإن جميع الأشياء الخارجية على هذا النعت، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهني أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنية، و لا ينبغي لك أن تغفل عن أنه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعني تصور أنه بخلاف كل تصور.
و قوله: «ليس بإله من عرف بنفسه» مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق
به معرفة، و قهره كل فهم و إدراك؛ فإن كل من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا و معرفتنا ثم يتعلق به معرفتنا، لكنه تعالى محيط بنا و بمعرفتنا، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا و لا معرفتنا عن إحاطة ذاته و شمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل.
و بين (عليه السلام) ذلك بقوله: «هو الدال بالدليل عليه و المؤدي بالمعرفة إليه» أي أنه تعالى هو الدليل يدل الدليل على أن يدل عليه، و يؤدي المعرفة إلى أن يتعلق به تعالى نوع تعلق لمكان إحاطته تعالى و سلطانه على كل شيء، فكيف يمكن لشيء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به و هو محيط به و باهتدائه؟
و في المعاني، بإسناده عن عمر بن علي عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): «التوحيد ظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، و باطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، و لم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، و غائب غير مفقود».
أقول: كلامه (صلى الله عليه وآله و سلم) مسوق لبيان وحدته تعالى غير العددية المبنية على كونه تعالى غير محدود بحد، فإن عدم المحدودية هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده و توصيفه تعالى عن باطنه، و باطنه عن ظاهره فإن الظاهر و الباطن إنما يتفاوتان و ينعزل كل منهما عن الآخر بالحد فإذا ارتفع الحد اختلطا و اتحدا.
و كذلك الظاهر الموصوف إنما يحاط به، و الباطن الموجود إنما يخفى و يتحجب إذا تحددا فلم يتجاوز كل منهما حده المضروب له، و كذلك الحاضر إنما يكون محدودا مجموعا وجوده عند من حضر عنده، و الغائب يكون مفقودا لمكان المحدودية، و لو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، و لم يستر الغائب حجاب الغيبة و لا ساتر دونه عمن غاب عنه، و هو ظاهر.
بحث تاريخي [كلام في معنى التوحيد]
القول بأن للعالم صانعا ثم القول بأنه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أن الوثنية المبنية على الإشراك، إذا
أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنية على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده؛ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى} و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.
و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتا و صفة على ما تقدم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز غير أن ألفة الإنسان و أنسه في ظرف حياته بالآحاد العددية من جانب، و بلاء المليين بالوثنيين و الثنويين و غيرهم لنفي تعدد الآلهة من جانب آخر سجل عددية الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.
و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم و اليونان و إسكندرية و غيرهم ممن بعدهم يعطي الوحدة العددية حتى صرح بها مثل الرئيس أبي علي بن سينا في كتاب الشفاء، و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبوية.
و أما أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العددية أيضا في عين أن هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامة؛ فهذا ما يتحصل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.
فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلالي.
و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، و قد صرحوا بأنهم إنما استفادوه من كلامه (عليه السلام).
و هذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي السابق على نقل نماذج من غرر كلامه (عليه السلام) الرائق، لأن السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الإحتجاج
البرهاني لا يوجد في كلام غيره (عليه السلام).
و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقل لهذه المسألة فإن البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلفة من هذه المقدمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشيء، و الجميع مبنية على صرافة الوجود و أحدية الذات جلت عظمته۱.
[سورة المائدة (٥): الآیات ٨٧ الی ٨٩]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ ٨٧وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ٨٨لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٨٩}
(بيان)
الآيات الثلاثة و عدة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع و مائة من آيات السورة آيات مبينة لعدة من فروع الأحكام، و هي جميعا كالمتخللة بين الآيات المتعرضة لقصص المسيح (عليه السلام) و النصارى، و هي لكونها طوائف متفرقة نازلة في أحكام متنوعة كل منها ذات استقلال و تمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقية آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، و أما ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائي.
و كذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلة في معناها، و تستقل عنها الآية الأولى و إن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أن من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلق بتحريم بعض الطيبات مما أحله الله تعالى، و لعل هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنه ذكر نزول الآيات جميعا في اليمين اللاغية.
هذا حال الآية الأولى مع الثالثة، و أما الآية الثانية فكأنها من تمام الآية الأولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} بل و صدرها حيث يشتمل على العطف، و على الأمر بأكل الحلال الطيب الذي تنهى الآية الأولى عن تحريمه و اجتنابه، و بذلك تلتئم الآيتان معنى و تتحدان حكما ذواتي سياق واحد.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ}، قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي، و إما بمنع قهري، و إما بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة.
و قال أيضا: أصل الحل حل العقدة، و منه قوله عز و جل: {وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}، و حللت: نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل: حل حلولا و أحله غيره، قال عز و جل: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ}، {وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ}، و يقال: حل الدين وجب أداؤه، و الحلة القوم النازلون و حي حلال مثله، و المحلة مكان النزول، و عن حل العقدة أستعير قولهم: حل الشيء حلا
قال الله تعالى: {وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً}، و قال تعالى: {هَذَا حَلاَلٌ وَ هَذَا حَرَامٌ}، انتهى.
فالظاهر أن مقابلة الحل الحرمة و كذا التقابل بين الحل و الحرم أو الإحرام من جهة تخيل العقد في المنع الذي هو معنى الحرمة و غيرها ثم مقابلته بالحل المستعار لمعنى الجواز و الإباحة، و اللفظان أعني الحل و الحرمة من الحقائق العرفية قبل الإسلام دون الشرعية أو المتشرعة.
و الآية أعني قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا} «إلخ»، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم و تحريم، ما أحل الله هو جعله حراما كما جعله الله تعالى حلالا و ذلك إما بتشريع قبال تشريع، و إما بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئا من المحللات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإن ذلك كله تحريم و منع و منازعة لله سبحانه في سلطانه و اعتداء عليه ينافي الإيمان بالله و آياته، و لذلك صدر النهي بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} فإن المعنى: لا تحرموا ما أحل الله لكم و قد آمنتم به و سلمتم لأمره.
و يؤيده أيضا قوله في ذيل الآية التالية: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
و إضافة قوله: {طَيِّبَاتِ} إلى قوله: {مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ} مع أن الكلام تام بدونه للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإن تحريم المؤمنين لما أحل الله لهم على أنه اعتداء منهم على الله في سلطانه، و نقض لإيمانهم بالله و تسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإن الفطرة تستطيب هذه المحللات من غير استخباث، و قد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيه ص و الشريعة التي جاء بها حيث قال: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاَلَ اَلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ}: الأعراف: ١٥٧.
و بهذا الذي بينا يتأيد أولا: أن المراد بتحريم طيبات ما أحل الله هو الإلزام و الالتزام بترك المحللات.
و ثانيا: أن المراد بالحل مقابل الحرمة و يعم المباحات و المستحبات بل و الواجبات
قضاء لحق المقابلة.
و ثالثا: أن إضافة الطيبات إلى ما أحل الله في قوله: {طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ} إضافة بيانية.
و رابعا: أن المراد بالاعتداء في قوله: {وَ لاَ تَعْتَدُوا} هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعي، أو التعدي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته و التسليم له و تحريم ما أحله كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق: {تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ}: البقرة: ٢٢٩، و قوله في ذيل آيات الإرث: {تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَ لَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}: النساء: ١٤، و الآيات كما ترى تعد الاستقامة و الالتزام بما شرعه الله طاعة له تعالى و لرسوله ممدوحة، و الخروج عن التسليم و الالتزام و الانقياد اعتداء و تعديا لحدود الله مذموما معاقبا عليه.
فمحصل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحله الله بالاجتناب عنه و الامتناع من الاقتراب منه فإنه يناقض الإيمان بالله و آياته و يخالف كون هذه المحللات طيبات لا خباثة فيها حتى يجتنب عنها لأجلها، و هو اعتداء و الله لا يحب المعتدين.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ} قد عرفت أن ظاهر السياق أن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله: {وَ لاَ تَعْتَدُوا} يجري مجرى التأكيد لقوله: {لاَ تُحَرِّمُوا}، إلخ.
و أما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالاعتداء تجاوز حد الاعتدال في المحللات بالانكباب على التمتع بها و لاستلذاذ منها قبال تركها و اجتناب تناولها تقشفا و ترهبا فيكون معنى الآية: لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا و تقربا إليه تعالى، و لا تعتدوا بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف و الإفراط الضار بأبدانكم أو نفوسكم.
أو أن المراد بالاعتداء تجاوز المحللات الطيبة إلى الخبائث المحرمة، و يعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحللات و لا تقترفوا المحرمات، و بعبارة أخرى: لا تحرموا ما أحل
الله لكم، و لا تحللوا ما حرم الله عليكم.
فكل من المعنيين و إن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها و سياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق و أينما وقع.
قوله تعالى: {وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً} إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله: {وَ كُلُوا} على قوله: {لاَ تُحَرِّمُوا} أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار و التأكيد لمضمون الآية السابقة، و يؤيده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله: {حَلاَلاً طَيِّباً}، و هو يحاذي قوله في الآية السابقة: {طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ}، و كذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} و قوله في الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} و قد مر بيانه.
و على هذا فقوله: {كُلُوا} «إلخ»، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر، و تخصيص قوله: {كُلُوا} بعد تعميم قوله: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ} «إلخ»، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط، و المراد بالأكل مطلق التصرف فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه، سواء كان بالأكل بمعنى التغذي أو بسائر وجوه التصرف، و قد تقدم مرارا أن استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع.
و إما أن يكون المراد و من الممكن ذلك الأكل بمعناه الحقيقي، و يكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك، و قد عمم النهي في الآية الأولى للأكل و غيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهي يعم محللات الأكل و غيرها على حد سواء.
و قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولا لقوله: {كُلُوا} و قوله: {حَلاَلاً طَيِّباً} حالين من الموصول و بذلك تتوافق الآيتان، و ربما قيل: إن قوله: {حَلاَلاً طَيِّباً} مفعول قوله: {كُلُوا} و قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} متعلق بقوله: {كُلُوا} أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة، أو كون قوله: {حَلاَلاً} وصفا لمصدر محذوف، و التقدير: رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك.
و ربما استدل بعضهم بقوله: {حَلاَلاً} على أن الرزق يشمل الحلال و الحرام
معا و إلا لغا القيد.
و الجواب: أنه ليس قيدا احترازيا لإخراج ما هو رزق غير حلال و لا طيب بل قيد توضيحي مساو لمقيده، و النكتة في الإتيان به بيان أن كونه حلالا طيبا لا يدع عذرا لمعتذر في الاجتناب و الكف عنه على ما تقدم، و قد تقدم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية ٢٧ من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ} اللغو ما لا يترتب عليه أثر من الأعمال، و الأيمانجمع يمين و هو القسم و الحلف؛ قال الراغب في المفردات: و اليمين في الحلف مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد و المحالف و غيره، قال تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ}، {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} انتهى، و التعقيد مبالغة في العقد و قرئ: عقدتم بالتخفيف، و قوله: {فِي أَيْمَانِكُمْ} متعلق بقوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ} أو بقوله: {بِاللَّغْوِ} و هو أقرب.
و التقابل الواقع بين قوله: {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} و قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ} يعطي أن المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف، و إنما يجري على لسانه جريا لعادة اعتادها أو لغيرها و هو قولهم و خاصة في قبيل البيع و الشري: لا و الله، بلى و الله، بخلاف ما عقد عليه عقدا بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: و الله لأفعلن كذا، و و الله لأتركن كذا.
هذا هو الظاهر من الآية، و لا ينافي ذلك أن يعد شرعا قول القائل: و الله لأفعلن المحرم الفلاني، و الله لأتركن الواجب الفلاني مثلا من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنما هو إلحاق من جهة السنة، و ليس من الواجب أن يدل القرآن على خصوص كل ما ثبت بالسنة بخصوصه.
و أما قوله: {وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ} فلا يشمل إلا اليمين الممضاة شرعا لمكان قوله في ذيل الآية: {وَ اِحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فإنه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه، و لا معنى للأمر بحفظ الأيمان التي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعين أن اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه، و ما عقد عليه هو اليمين الممضاة.
قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، الكفارة هي العمل الذي يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى الستر، قال تعالى: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}: النساء: ٣١، قال الراغب: و الكفارة ما يغطي الإثم و منه كفارة اليمين، انتهى.
و قوله: {فَكَفَّارَتُهُ} تفريع على اليمين باعتبار مقدر هو نحو من قولنا: فإن حنثتم فكفارته كذا، و ذلك لأن في لفظ الكفارة دلالة على معصية تتعلق به الكفارة، و ليست هذه المعصية هي نفس اليمين، و لو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله: {وَ اِحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفارة إنما تتعلق بحنث اليمين لا بنفسها.
و منه يظهر أن المؤاخذة المذكورة في قوله: {وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ} هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، و إنما أضيفت إلى اليمين لتعلق متعلقها أعني الحنث بها، فقوله: {فَكَفَّارَتُهُ} متفرع على الحنث المقدر لدلالة قوله: {يُؤَاخِذُكُمُ}، إلخ، عليه، و نظير هذا البيان جار في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} و تقديره: إذا حلفتم و حنثتم.
و قوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} خصال ثلاث يدل الترديد على تعيين إحداها عند الحنث من غير جمع، و يدل قوله بعده: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} على كون الخصال المذكورة تخييرية من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، و إلا لغا التفريع في قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} «إلخ»، و كان المتعين بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيام.
و في الآية أبحاث فرعية كثيرة مرجعها علم الفقه.
قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} تقدم أن الكلام في تقدير: إذا حلفتم و حنثتم، و في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} و كذا في قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ} نوع التفات و رجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لعل النكتة فيه أن الجملتين جميعا من البيان الإلهي للناس إنما هو بوساطة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكان في ذلك حفظا لمقامه (صلى الله عليه وآله و سلم) في بيان ما أوحي إليه للناس كما قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: النحل: ٤٤.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي يبين لكم بواسطة نبيه أحكامه لعلكم تشكرونه بتعلمها و العمل بها.
بحث روائي
في تفسير القمي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ} (الآية): قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) و بلال و عثمان بن مظعون - فأما أمير المؤمنين (عليه السلام) فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، و أما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، و أما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا.
فدخلت امرأة عثمان على عائشة، و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطلة؟ فقالت: و لمن أتزين؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا و كذا فإنه قد ترهب و لبس المسوح و زهد في الدنيا.
فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟ ألا إني أنام بالليل و أنكح و أفطر بالنهار، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}.
أقول: و في انطباق قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ} (الآية)، على حلفهم خفاء، و قد تقدم بعض الكلام فيه، و قد روى الطبرسي في مجمع البيان، القصة عن أبي عبد الله (عليه السلام) و لم يذكر الذيل فليتأمل فيه.
و في الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليه السلام) في حديث: أنه قال لمعاوية و أصحابه:
أنشدكم بالله أ تعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ}.
و في المجمع في الآية: قال المفسرون: جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوما فذكر الناس و وصف القيامة فرق الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، و هم علي و أبو بكر و عبد الله بن مسعود و أبو ذر الغفاري و سالم مولى أبي حذيفة و عبد الله بن عمر و المقداد بن الأسود الكندي و سلمان الفارسي و معقل بن مقرن، و اتفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و هم بعضهم أن يجب مذاكيره.
فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية و اسمها حولاء و كانت عطارة: أ حق ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما دخل عثمان أخبرته بذلك.
فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هو و أصحابه فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ لم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله و ما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إني لم أومر بذلك، ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا فإني أقوم و أنام و أصوم و أفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء، و من رغب عن سنتي فليس مني.
ثم جمع الناس و خطبهم و قال: ما بال أقوام حرموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين و رهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتخاذ الصوامع، و إن سياحة أمتي الصوم، و رهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، و حجوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم
بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية.
أقول: و يظهر بالرجوع إلى روايات القوم أن هذه الرواية إنما هي تلخيص للروايات المروية في هذا الباب، و هي كثيرة جدا فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، و سبكها رواية واحدة.
و أما نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظا هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون و أصحابه؛ و في بعضها أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و في بعضها رجال من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و كذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و خطبته على تفصيلها متفرقة الجمل في الروايات، و كذلك الذي عقدوا عليه و هموا به من التروك لم تصرح الروايات بأنهم اتفقوا جميعهم على جميعها بل صرح بعض الروايات باختلافهم فيما هموا به أو عقدوا عليه- كما في صحيح البخاري و مسلم عن عائشة: إن ناسا من أصحاب النبي ص سألوا أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم، و قال بعضهم: لا أتزوج النساء، و قال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا و كذا؟ لكني أصوم و أفطر، و أنام و أقوم، و آكل اللحم، و أتزوج النساء - فمن رغب عن سنتي فليس مني.
و لعل المراد بقوله في الرواية: و اتفقوا على أن يصوموا النهار «إلخ»، أن المجموع اتفقوا على المجموع لا أن كل واحد منهم عزم على الجميع. و الروايات و إن كانت مختلفة في مضامينها، و فيها الضعيف و المرسل و المعتبر لكن التأمل في جميعها يوجب الوثوق بأن رهطا من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهد و التنسك، و أنه كان فيهم علي (عليه السلام) و عثمان بن مظعون، و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لهم: من رغب عن سنتي فليس مني، و الله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائية كتفسير الطبري و الدر المنثور و فتح القدير و أمثالها.
و في الدر المنثور: أخرج الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن عدي في الكامل و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال:
يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتي، و إني حرمت علي اللحم فنزلت: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ}.
و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله و هو عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي، فقالت امرأته: هو علي حرام، قال الضيف: هو علي حرام، فلما رأى ذلك وضع يده و قال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره، فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): قد أصبت فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ}.
أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، و هو شائع في روايات أسباب النزول، و من الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراما و لا حلالا فقال: أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، و أما الحلال فلا يتركه فإنه ليس أن يحرم ما أحل الله لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ} فليس عليه شيء في يمينه من الحلال.
و في الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول في قول الله عز و جل: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قال: «اللغو» قول الرجل: «لا و الله، و بلى و الله» و لا يعقد على شيء.
أقول: و روى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان مثله، و عن محمد بن مسلم مثله و فيه: و لا يعقد عليها.
و في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ} في القوم الذين حرموا النساء و اللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}.
أقول: و الرواية تشاكل ذيل الرواية الأولى التي أوردناها في صدر البحث غير أنها لا تنطبق على ظاهر الآية فإن الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، و قد قوبل في الآية قوله: {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} بقوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ} و دل ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، و هذا الظاهر إنما يوافق الرواية المفسرة للغو اليمين بقول القائل: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد على شيء، و أما اليمين الملغاة شرعا ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعين أن يستند إلغاؤه إلى السنة دون الكتاب.
على أن سياق الآية أدل دليل على أنها مسوقة لبيان كفارة اليمين و الأمر بحفظها استقلالا لا على نحو التطفل كما هو لازم هذا التفسير.
[سورة المائدة (٥): الآیات ٩٠الی ٩٣]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٩٠إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ٩١وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلى رَسُولِنَا اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ٩٢لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ٩٣}
(بيان)
الآيات متلائمة سياقا فكأنها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا، و الآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبينه تفصيلا، فهي جميعا تتعرض لحال الخمر، و بعضها
يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.
و قد تقدم في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: البقرة - ٢١٩، في الجزء الأول، و في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}: النساء - ٤٣ في الجزء الرابع من هذا الكتاب أن هاتين الآيتين مع قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ}: الأعراف: ٣٣، و هذه الآية المبحوث عنها: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} إذا انضم بعضها إلى بعض دلت سياقاتها المختلفة على تدرج الشارع في تحريم الخمر.
لكن لا بمعنى السلوك التدريجي في تحريمها من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفية إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الأحكام الشرعية فإن قوله تعالى: {وَ اَلْإِثْمَ} آية مكية في سورة الأعراف إذا انضم إلى قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} و هي آية مدنية واقعة في سورة البقرة أول سورة مفصلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر، و لا مجالا لمتأول.
بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام و ذلك قوله تعالى: {وَ اَلْإِثْمَ}، ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة و ذلك قوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، و قوله: {لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ الذي يدل عليه قوله: {إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ} إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الآيتان.
فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدل على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من {إِنَّمَا} و التسمية بالرجس، و نسبته إلى عمل الشيطان، و الأمر الصريح بالاجتناب، و توقع الفلاح فيه، و بيان المفاسد التي تترتب على شربها، و الاستفهام عن الانتهاء، ثم الأمر بإطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، و الاستغناء عنهم لو خالفوا.
و يدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الآيات: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} «إلخ» بما سيأتي من الإيضاح.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ}، إلى آخر الآية قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير، و الميسر هو القمار مطلقا، و الأنصاب هي الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها و كانت تحترم و يتبرك بها، و الأزلام هي الأقداح التي كانت يستقسم بها، و ربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الأكل فيتأيد بذلك كون المراد به هاهنا هو ذلك.
فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتلت ساداتها | *** | فنساؤها يضربن بالأزلام |
و هو كما روي أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه «افعل» و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر و غير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب «افعل» عزم عليه، و إن خرج الذي مكتوب عليه «لا تفعل» تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين، و سمي استقساما لأن فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.
فالآية تدل على حرمته لأن فيه تعرضا لدعوى علم الغيب، و كذا كل ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة و نحوها.
قلت: قد عرفت أن الآية في أول السورة: {وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ} ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الأكل، و يتأيد به أن ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.
و لو سلم عدم تأيد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبين المراد فيتوقف على ما يشرحه من السنة، و قد وردت عدة أخبار من أئمة أهل البيت (عليه السلام) في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة و غيرها عند الحيرة.
و حقيقته أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممن له صلاحية المعرفة بالصواب و الخطإ، و إن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، و تردد متحيرا كان له أن يعين ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجه إلى ربه.
و ليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب و لا تعرض لما يختص بالله سبحانه من شئون الألوهية، و لا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إياه في تدبير الأمور و لا أي محذور ديني آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلا تعين الفعل أو الترك من غير إيجاب و لا تحريم و لا أي حكم تكليفي آخر، و لا كشف عما وراء حجب الغيب من خير أو شر إلا أن خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة و التذبذب.
و أما ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربما كان فيه خير و ربما كان فيه شر على حد ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكر و الاستشارة طريق لقطع الحيرة و التردد في مقام العمل، و يترتب على الفعل الموافق له ما كان يترتب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.
نعم ربما أمكن لمتوهم أن يتوهم التعرض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤل بالقرآن و نحوه فربما كانت النفس تتحدث معه بيمن أو شامة، و تتوقع خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أن النبي ص كان يتفاءل بالخير و يأمر به، و ينهى عن التطير و يأمر بالمضي معه و التوكل على الله تعالى.
فلا مانع من التفؤل بالكتاب و نحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير و إلا مضى في الأمر متوكلا على الله تعالى، و ليس في ذلك أزيد مما يطيب به الإنسان نفسه في الأمور و الأعمال التي يتفرس فيها السعادة و النفع، و سنستوفي البحث المتعلق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.
فتبين أن ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفؤل و استنتاج حرمة الاستخارة بذلك مما لا ينبغي المصير إليه.
و أما قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} فالرجس الشيء القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة و القذارة هو الوصف الذي يبتعد و يتنزه عن الشيء بسببه لتنفر الطبع عنه.
و كون هذه المعدودات من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجسا هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانية الاقتراب منها لأجله، و ليس إلا أنها بحيث لا تشتمل على شيء مما فيه سعادة إنسانية أصلا سعادة يمكن أن تصفو و تتخلص في حين من الأحيان كما ربما أومأ إليه قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: البقرة: ٢١٩، حيث غلب الإثم على النفع و لم يستثن.
و لعله لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان و لم يشرك له أحدا، ثم قال في الآية التالية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاَةِ}.
و ذلك أن الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنه عدو للإنسان لا يريد به خيرا البتة قال تعالى: {إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: يوسف: ٥، و قال: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}: الحج: ٤، و قال: {وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اَللَّهُ}: النساء: ١١٨، فأثبت عليه لعنته و طرده عن كل خير.
و ذكر أن مساسه بالإنسان و عمله فيه إنما هو بالتسويل و الوسوسة و الإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢، فهددهم إبليس بالإغواء فقط، و نفى الله سبحانه سلطانه إلا عن متبعيه الغاوين، و حكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}: إبراهيم: ٢٢، و قال في نعت دعوته: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ
اَلشَّيْطَانُ} إلى أن قال {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فبين أن دعوته لا كدعوة إنسان إنسانا إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعو من غير عكس.
و قد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ اَلْوَسْوَاسِ اَلْخَنَّاسِ اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ}: الناس: ٥، فبين أن الذي يعمل الشيطان بالتصرف في الإنسان هو أن يلقي الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال.
فيتبين بذلك كله أن كون الخمر و ما ذكر بعدها رجسا من عمل الشيطان هو أنها منتهية إلى عمل الشيطان الخاص به، و لا داعي لها إلى الإلقاء و الوسوسة الشيطانية التي تدعو إلى الضلال، و لذلك سماها رجسا و قد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله: {وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَ هَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً}: الأنعام: ١٢٦.
ثم بين معنى كونها رجسا ناشئا من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاَةِ} أي إنه لا يريد لكم في الدعوة إليها إلا الشر و لذلك كانت رجسا من عمله.
فإن قلت: ملخص هذا البيان أن معنى كون الخمر و أضرابها رجسا هو كون عملها أو شربها مثلا منتهيا إلى وسوسة الشيطان و إضلاله فحسب، و الذي تدل عليه عدة من الروايات أن الشيطان هو الذي ظهر للإنسان و عملها لأول مرة و علمه إياها.
قلت: نعم، و هذه الأخبار و إن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الأخذ بها إلا أن هناك أخبارا كثيرة متنوعة واردة في أبواب متفرقة تدل على تمثل الشيطان للأنبياء و الأولياء و بعض أفراد الإنسان من غيرهم كأخبار أخر حاكية لتمثل الملائكة، و أخرى دالة على تمثل الدنيا و الأعمال و غير ذلك و الكتاب الإلهي يؤيدها بعض التأييد كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا}: مريم: ١٧، و سنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ}: الإسراء: ١، أو في محل آخر مناسب لذلك.
و الذي يجب أن يعلم أن ورود قصة ما في خبر أو أخبار لا يوجب تبدل آية من الآيات مما لها من الظهور المؤيد بآيات أخر، و ليس للشيطان من الإنسان إلا التصرف
الفكري فيما كان له ذلك بمقتضى الآيات الشريفة، و لو أنه تمثل لواحد من البشر فعمل شيئا أو علمه إياه لم يزد ذلك على التمثل و التصرف في فكره أو مساسه علما فانتظر ما سيوافيك من البحث.
و أما قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثم ترج للفلاح على تقدير الاجتناب، و فيه أشد التأكيد للنهي لتثبيته أن لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الأرجاس.
قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ} إلى آخر الآية» قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له: العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان و العدو قال: {فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} و تارة بأجزاء المقر فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدو و قوم عدو قال: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} و قد يجمع على عدى (بالكسر فالفتح) و أعداء قال: {وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اَللَّهِ}، انتهى.
و البغض و البغضاء خلاف الحب و الصد الصرف، و الانتهاء قبول النهي و خلاف الابتداء.
ثم إن الآية كما تقدم مسوقة بيانا لقوله: {مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} أو لقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} أي إن حقيقة كون هذه الأمور من عمل الشيطان أو رجسا من عمل الشيطان إن الشيطان لا بغية له و لا غاية في الخمر و الميسر اللذين قيل: إنهما رجسان من عمله فقط إلا أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء بتجاوز حدودكم و بغض بعضكم بعضا، و أن يصرفكم عن ذكر الله و عن الصلاة في هذه الأمور جميعا أعني الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام.
و قصر إيقاع العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة؛ أما الخمر فلأن شربها تهيج سلسلة الأعصاب تهيجا يخمر العقل و يستظهر العواطف العصبية؛ فإن وقعت في طريق الغضب جوزت للسكران أي جناية فرضت و إن عظمت ما عظمت، و فظعت ما فظعت مما لا يستبيحه حتى السباع الضارية، و إن وقعت
في طريق الشهوة و البهيمية زينت للإنسان أي شناعة و فجور في نفسه أو ماله أو عرضه و كل ما يحترمه و يقدسه من نواميس الدين و حدود المجتمع و غير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سر أو ورود فيما فيه هلاك الإنسانية، و قد دل الإحصاء على أن للخمر السهم الأوفر من أنواع الجنايات الحادثة و في أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات التي دار فيها شربها.
و أما الميسر و هو القمار فإنه يبطل في أيسر زمان مسعاة الإنسان التي صرفها في اقتناء المال و الثروة و الوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال و ربما تبعه العرض و النفس و الجاه فإن تقمر و غلب و أحرز المال أداه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة و التوسع في الملاهي و الفجور، و الكسل و التبطؤ عن الاشتغال بالمكسب و اقتناء مواد الحياة من طرقها المشروعة، و إن كان هو المغلوب أداه فقدان المال و خيبة السعي إلى العداوة و البغضاء لقميرة الغالب، و الحسرة و الحنق.
و هذه المفاسد و إن كانت لا تظهر للأذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل و المرة و المرتين لكن النادر يدعو إلى الغالب، و القليل يهدي إلى الكثير و المرة تجر إلى المرات و لا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملإ، و تسري إلى المجتمع فتعود بلوى همجية لا حكومة فيها إلا للعواطف الطاغية و الأهواء المردية.
فتبين من جميع ما تقدم أن الحصر في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاَةِ} راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أن الصد عن ذكر الله و عن الصلاة من شأن الجميع، و العداوة و البغضاء يختصان بالخمر و الميسر بحسب الطبع.
و في إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى: {وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاَةِ} مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فردا كاملا من الذكر، و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه قال: الصلاة عمود الدين، و دلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدا على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه مما لا يتطرق إليه شك و فيها مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (إلى آخر الآيات): المؤمنون: ٢، و قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ}: الأعراف: ١٧٠، و قوله تعالى: {إِنَّ
اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ} الآيات: المعارج: ٢٢ و قوله: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ}: العنكبوت: ٤٥، و قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اَللَّهِ}: الجمعة: ٩، يريد به الصلاة، و قال: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي}: طه: ١٤، إلى غير ذلك من الآيات.
و قد ذكر سبحانه أولا ذكره و قدمه على الصلاة لأنها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهية، و هو الروح الحية في جثمان العبودية، و الخميرة لسعادة الدنيا و الآخرة؛ يدل على ذلك قوله تعالى لآدم أول يوم شرع فيه الدين: {قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى }: طه: ١٢٤، و قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَ لَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً}: الفرقان: ١٨، و قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا َذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}: النجم: ٣٠.
فالذكر في الآيات إنما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبية المستتبع لنسيان العبودية و هو السلوك الديني الذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى: {وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}: الحشر: ١٩.
و أما قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فهو استفهام توبيخي فيه دلالة ما على أن المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهي السابقة على هذا النهي، و الآية أعني قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ}، «إلخ» كالتفسير يفسر بها قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} أي إن النفع الذي فرض فيهما مع الإثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحيانا من الإثم أو من الإثم الغالب عليه كالكذب الذي فيه إثم و نفع، و ربما أفرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين.
و ذلك لمكان الحصر في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ}، «إلخ» بعد قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} فالمعنى أنها لا تقع إلا رجسا
من عمل الشيطان، و أن الشيطان لا يريد بها إلا إيقاع العداوة و البغضاء بينكم في الخمر و الميسر و صدكم عن ذكر الله و عن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الإثم حتى تباح فيه، فافهم ذلك.
قوله تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا}، إلى آخر الآية تأكيد للأمر السابق باجتناب هذه الأرجاس أولا بالأمر بطاعة الله سبحانه و بيده أمر التشريع، و ثانيا بالأمر بطاعة الرسول و إليه الإجراء، و ثالثا بالتحذير صريحا.
ثم في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلى رَسُولِنَا اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ} تأكيد فيه معنى التهديد و خاصة لاشتماله على قوله: {فَاعْلَمُوا} فإن فيه تلويحا إلى أنكم إن توليتم و اقترفتم هذه المعاصي فكأنكم ظننتم أنكم كابرتم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في نهيه عنها و غلبتموه، و قد جهلتم أو نسيتم أنه رسول من قبلنا ليس له من الأمر شيء إلا بلاغ مبين لما يوحى إليه و يؤمر بتبليغه، و إنما نازعتم ربكم في ربوبيته.
و قد تقدم في أول الكلام أن الآيات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الأمور، و هي الابتداء بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا}، ثم الإتيان بكلمة الحصر، ثم التوصيف بالرجس، ثم نسبتها إلى عمل الشيطان، ثم الأمر بالاجتناب صريحا، ثم رجاء الفلاح في الاجتناب، ثم ذكر مفاسدها العامة من العداوة و البغضاء و الصرف عن ذكر الله و عن الصلاة، ثم التوبيخ على عدم انتهائهم، ثم الأمر بطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، ثم التهديد على تقدير التولي بعد البلاغ المبين.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية الطعم و الطعام هو التغذي، و يستعمل في المأكول دون المشروب، و هو في لسان المدنيين البر خاصة، و ربما جاء بمعنى الذوق، و يستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الأكل قال تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}: البقرة: ٢٤٩، و في بعض الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه قال في ماء زمزم أنه طعام طعم و شفاء سقم.
و الآية لا تصلح بسياقها إلا أن تتصل بالآيات السابقة فتكون دفع دخل تتعرض لحال المؤمنين ممن ابتلي بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الآيات، و ذلك أن قوله فيها: {فِيمَا طَعِمُوا} مطلق غير مقيد بشيء مما يصلح لتقييده، و الآية
مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، و قد قيد رفع الحظر بقوله: {إِذَا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا} و المتيقن من معنى هذا القيد و قد ذكر فيه التقوى ثلاث مرات هو التقوى الشديد الذي هو حق التقوى.
فنفي الجناح للمؤمنين المتقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين و الكفار ناقضه أمثال قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ}: الأعراف: ٣٢، على أن من المعلوم من مذاق هذا الدين أنه لا يمنع أحدا عن الطيبات المحللة التي تضطر الفطرة إلى استباحتها في الحياة.
و إن لم تكن الآية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا: يجوز الطعام للذين آمنوا و عملوا الصالحات بشرط أن يتقوا ثم يتقوا ثم يتقوا، و من المعلوم أن الجواز لا يختص بالذين آمنوا و عملوا الصالحات بل يعمهم و غيرهم، و على تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد.
و لا يخلو عن أحد هذين الإشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الآية بناء على حمل قوله: {فِيمَا طَعِمُوا} على مطلق الطعام المحلل فإن المعنى الذي ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الذين آمنوا و عملوا الصالحات إذا اتقوا المحرمات أن يطعموا المحللات، و لا يسلم هذا المعنى عن أحد الإشكالين كما هو واضح.
و ذكر بعضهم: أن في الآية حذفا، و التقدير: ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتقوا المحارم، و فيه أنه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله.
و ذكر بعضهم: أن الإيمان و العمل الصالح جميعا ليس بشرط حقيقي بل المراد بيان وجوب اتقاء المحارم فشرك معه الإيمان و العمل الصالح للدلالة على وجوبه، و فيه أن ظاهر الآية أنها مسوقة لنفي الجناح فيما طعموا، و لا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتقاء محارم على ما تقدم، و ما أبعد المعنى الذي ذكره عن ظاهر الآية.
و ذكر بعضهم: أن المؤمن يصح أن يطلق عليه أنه لا جناح عليه، و الكافر
مستحق للعقاب فلا يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ، و فيه أنه لا يصح تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}: الأعراف: ٣٢، و قوله: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}: الأنعام: ١٤٥ حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن و لا كافر، أو مثل قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى} إلى قوله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: الحجرات: ١٣ حيث وجه الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن و الكافر.
و ذكر بعضهم: أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل فلذلك خص المؤمن بالذكر، و فيه ما في سابقه من الإشكال مع أنه لا يرفع الإشكال الناشئ من قوله: {إِذَا مَا اِتَّقَوْا} «إلخ».
فالذي ينبغي أن يقال: إن الآية في معنى الآيات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتصالها بها، و هي متعرضة لحال من ابتلي من المسلمين بشرب الخمر و طعمها، أو بالطعم لشيء منها أو مما اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الأنصاب كأنهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلي بشرب الخمر، أو بها و بغيرها مما ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه.
فأجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جناح إن كانوا من الذين آمنوا و عملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله و العمل الصالح ثم الإيمان بكل حكم نازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل.
و بذلك يتبين أن المراد بالموصول في قوله: {فِيمَا طَعِمُوا} هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام من حيث ما يصح أن يتعلق بها من معنى الطعم، و المعنى: ليس على الذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها و من غيرها من المحرمات المذكورة.
و أما قوله: {إِذَا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا} فظاهر قوله: {إِذَا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} إنه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} للدلالة على
دخالة الوصف في الحكم الذي هو نفي الجناح كقوله تعالى في خطاب المؤمنين: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ}: البقرة: ٢٣٢، و هو شائع في اللسان.
و ظاهر قوله: {ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا} اعتبار الإيمان بعد الإيمان، و ليس إلا الإيمان التفصيلي بكل حكم حكم مما جاء به الرسول من عند ربه من غير رد و امتناع، و لازمه التسليم للرسول فيما يأمر به و ينهى عنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ}: الحديد: ٢٨، و قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} إلى أن قال {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}: النساء - ٦٥، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.
و ظاهر قوله: {ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا} إضافة الإحسان إلى الإيمان بعد الإيمان اعتبارا، و الإحسان هو إتيان العمل على وجه حسنة من غير نية فاسدة كما قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}: الكهف: ٣٠، و قال: {اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}: آل عمران: ١٧٢، أي يكون استجابتهم ابتغاء لوجه الله و تسليما لأمره لا لغرض آخر، و من الإحسان ما يتعدى إلى الغير، و هو أن يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}: البقرة: ٨٣، و قال: {وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ}: القصص: ٧٧.
و المناسب لمورد الآية هو المعنى الأول من معنيي الإحسان، و هو إتيان الفعل على جهة حسنة فإن التقوى الديني لا يوفى حقه بمجرد الإيمان بالله و تصديق حقية دينه ما لم يؤمن تفصيلا بكل واحد واحد من الأحكام المشرعة في الدين فإن رد الواحد منها رد لأصل الدين، و لا أن الإيمان التفصيلي بكل واحد واحد يوفى به حق التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجري على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، و يكون هذا الجري ناشئا من الانقياد و الاتباع لا عن نية نفاقية فمن الواجب على المتزود بزاد التقوى أن يؤمن بالله و يعمل صالحا، و أن يؤمن برسوله في جميع ما جاء به، و أن يجري في جميع ذلك على نهج الاتباع و الإحسان.
و أما تكرار التقوى ثلاث مرات، و تقييد المراتب الثلاث جميعا به فهو لتأكيد
الإشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعا للتقوى الواقعي من غير غرض آخر غير ديني، و قد مر في بعض المباحث السابقة أن التقوى ليس مقاما خاصا دينيا بل هو حالة روحية تجامع جميع المقامات المعنوية أي أن لكل مقام معنوي تقوى خاصا يختص به.
فتلخص من جميع ما مر أن المراد بالآية أعني قوله: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية، أنه لا جناح على الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم و متلبسين بالإيمان بالله و رسوله، و محسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات و تاركين لكل محرم نهوا عنه فإن اتفق لهم أن ابتلوا بشيء من الرجس الذي هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقههم به لم يضرهم ذلك شيئا.
و هذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات التي صلوها إلى غير الكعبة: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} البقرة: ١٤٣.
و سياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ}، إلخ متصلة بما قبلها من الآيات و أنها نازلة مع تلك الآيات التي لسانها يشهد أنها آخر الآيات المحرمة للخمر نزولا، و أن بعض المسلمين كما يشعر به لسان الآيات على ما استفدناه آنفا لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الآيات السابقة المحرمة و بين هذه الآيات.
ثم وقع السؤال بعد نزول هذه الآيات عن حال من ابتلي بذلك و فيهم من ابتلي به قبل نزول التحريم، و من ابتلي به قبل التفقه، و من ابتلي به لغير عذر فأجيبوا بما يتعين به لكل طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها و هو على حال الإيمان و الإحسان، و لا يكون إلا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلا به فليس عليه جناح، و من ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم.
و للمفسرين في الآية أبحاث طويلة، منها ما يرجع إلى قوله: {فِيمَا طَعِمُوا} و قد تقدم خلاصة الكلام في ذلك.
و منها ما يرجع إلى ذيل الآية من حيث تكرر التقوى فيه ثلاث مرات، و تكرر الإيمان و تكرر العمل الصالح و ختمها بالإحسان.
فقيل: إن المراد بقوله: {إِذَا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} اتقوا المحرم و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة، و بقوله: {ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا} ثم اتقوا ما حرم عليهم بعد كالخمر و آمنوا بتحريمه، و بقوله: {ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا} ثم استمروا و ثبتوا على اتقاء المعاصي و اشتغلوا بالأعمال الجميلة.
و قيل: إن هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين الله تعالى، و الإحسان على هذا هو الإحسان إلى الناس ظاهرا.
و قيل: إن التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدإ و الوسط و المنتهى، و هو حق التقوى.
و قيل: التكرار باعتبار ما يتقى فإنه ينبغي أن تترك المحرمات توقيا من العقاب، و الشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام، و بعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة، و تهذيبا عن دنس الطبيعة.
و قيل: إن الاتقاء الأول اتقاء عن شرب الخمر و الإيمان الأول هو الإيمان بالله، و الاتقاء الثاني هو إدامة الاتقاء الأول و الإيمان الثاني إدامة الإيمان الأول، و الاتقاء الثالث هو فعل الفرائض، و الإحسان فعل النوافل.
و قيل: إن الاتقاء الأول اتقاء المعاصي العقلية، و الإيمان الأول هو الإيمان بالله و بقبح هذه المعاصي، و الاتقاء الثاني اتقاء المعاصي السمعية و الإيمان الثاني هو الإيمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، و الاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد و ما يتعلق بالغير من الظلم و الفساد، و المراد بالإحسان الإحسان إلى الناس.
و قيل: إن الشرط الأول يختص بالماضي، و الشرط الثاني بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختص بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم.
و جميع ما ذكروه مما لا دليل عليه من لفظ الآية أو غيرها يوجب حمل الآية عليه، و هو ظاهر بالتأمل في سياق القول فيها و الرجوع إلى ما قدمناه.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطلب و أصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك علي، فخرج إليها فنحرها ثم أخذ كبدها و سنامها فأدخل عليهم، قال: و أقبل علي (عليه السلام) فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فشكا ذلك إليه.
قال: فأقبل معه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقيل لحمزة: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالباب، قال: فخرج حمزة و هو مغضب فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة: لو أراد ابن أبي طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله و انصرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
قال: و كان قبل أحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بآنيتهم فأكفئت، قال: فنودي في الناس بالخروج إلى أحد فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و خرج الناس و خرج حمزة فوقف ناحية من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال فلما تصافحوا حمل في الناس حتى غيب فيهم ثم رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شيء، قال: ثم حمل الثانية حتى غيب في الناس ثم رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شيء.
فأقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما رآه نحوه أقبل مقبلا إليه فعانقه و قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما بين عينيه ثم قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، و كفنه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في تمرة.
ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطى وجهه انكشف رجلاه و إذا غطى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطى بها وجهه، و جعل على رجليه إذخر.
قال فانهزم الناس و بقي علي (عليه السلام) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما صنعت؟ قال:
يا رسول الله لزمت الأرض فقال: ذلك الظن بك، قال: و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنجز لي يا رب ما وعدتني فإنك إن شئت لم تعبد.
و عن الزمخشري في ربيع الأبرار، قال: أنزل في الخمر ثلاث آيات: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ} فكان المسلمون بين شارب و تارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى} فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ لحي بعير فشج رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر:
و كأين بالقليب قليب بدر | *** | من القنيات و الشرب الكرام |
و كأين بالقليب قليب بدر | *** | من السري المكامل بالسنام |
أ يوعدنا ابن كبشة أن نحيى | *** | و كيف حياة أصداء و هام |
أ يعجز أن يرد الموت عني | *** | و ينشرني إذا بليت عظامي |
ألا من مبلغ الرحمن عني | *** | بأني تارك شهر الصيام |
فقل لله يمنعني شرابي | *** | و قل لله: يمنعني طعامي |
فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فأنزل الله سبحانه و تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ} إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا.
و في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و النحاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقاص قال: في نزل تحريم الخمر؛ صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا و شربوا حتى انتشوا من الخمر، و ذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، و قالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره - فكان سعد مفزور الأنف قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ}، إلى آخر الآية.
أقول: و الروايات في القصص التي أعقبت تحريم الخمر في الإسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.
أما هؤلاء الذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أن هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن في الآيات إشعارا أو دلالة على أن رهطا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت آية المائدة.
نعم ورد في بعض الروايات أن عليا (عليه السلام) و عثمان بن مظعون كانا قد حرما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، و قد ذكر في الملل و النحل رجالا من العرب حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، و قد وفق الله سبحانه بعض هؤلاء أن أدرك الإسلام و دخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدواني، و منهم قيس بن عامر التميمي و قد أدرك الإسلام، و منهم صفوان بن أمية بن محرث الكناني و عفيف بن معديكرب الكندي و الأسلوم اليامي و قد حرم الزنا و الخمر معا، و هؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحق على لسانهم، و أما عامتهم في الجاهلية كعامة أهل الدنيا يومئذ إلا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتى حرمها الله سبحانه في كتابه.
و الذي تفيده آيات الكتاب العزيز أنها حرمت في مكة قبل الهجرة كما يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ}: الأعراف: ٣٣ و الآية مكية، و إذا انضمت إلى قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: البقرة: ٢١٩، و هي آية مدنية نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شك في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، و إذا تدبرنا في سياق آيات المائدة، و خاصة فيما يفيده قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} و قوله: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اِتَّقَوْا} (الآية) انكشف أن ما ابتلي به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة و آية المائدة إنما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام عصيانا حتى نزل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيَامِ اَلرَّفَثُ إِلىَ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}: البقرة: ١٨٧.
فقد تبين أن في هذه الروايات كلاما من وجهين:
أحدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مر في الرواية الأولى أنها
قبيل غزوة أحد، و في بعض الروايات: أن ذلك بعد غزوة الأحزاب۱. لكن الأمر في ذلك سهل في الجملة لإمكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة و إن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كل الموافقة.
و ثانيهما: من جهة دلالتها على أن الخمر لم تكن بمحرمة قبل نزول آية المائدة أو أنها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس و خاصة للصحابة مع صراحة آية الأعراف المحرمة للإثم و آية البقرة المصرحة بكونها إثما، و هي صراحة لا تقبل تأويلا.
بل من المستبعد جدا أن تنزل حرمة الإثم بمكة قبل الهجرة في آية تتضمن جمل المحرمات أعني قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف: ٣٣، ثم يمر عليه زمان غير يسير، و لا يستفسر المؤمنون معناه من نبيهم و لا يستوضحه المشركون و أكبر همهم النقض و الاعتراض على كتاب الله مهما توهموا إليه سبيلا.
بل المستفاد من التاريخ أن تحريم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للخمر كتحريمه الشرك و الزنا كان معروفا عند المشركين يدل على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلاد بن قرة و غيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم: أن أعشى بني قيس خرج إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):
أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا | *** | و بت كما بات السليم مسهدا |
(القصيدة).
فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليسلم فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى: و الله إن ذلك لأمر ما لي فيه من إرب، فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال الأعشى: أما هذه فإن في النفس منها لعلالات، و لكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك و لم يعد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
فلا يبقى لهذه لروايات إلا أن تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الآيات مع الذهول عن آية الأعراف، و للمفسرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة۱.
و بعد اللتيا و التي فالكتاب نص في تحريم الخمر في الإسلام قبل الهجرة، و لم تنزل آية المائدة إلا تشديدا على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهي الإلهي و إقامة حكم الحرمة.
و في تفسير العياشي: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قيل له: روي عنكم: أن الخمر و الأنصاب و الأزلام رجال؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون.
و فيه: عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتي عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البينة فسأل عليا فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حد أنا من أهل هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فقرأ الآية حتى استتمها فقال له علي (عليه السلام): كذبت لست من أهل هذه الآية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، و ليس يأكلون و لا يشربون إلا ما يحل لهم.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن أبي الربيع عنه (عليه السلام)، و رواه أيضا الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن سنان عنه (عليه السلام)، و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا.
و قوله (عليه السلام): [ما طعم أهلها فهو حلال لهم، إلخ] منطبق على ما قررناه في البيان السابق من معنى الآية فراجع.
و في تفسير الطبري عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربع آيات: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ} (الآية)، فتركوها ثم نزلت: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً} فشربوها ثم نزلت الآيتان في المائدة: {إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ} إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
أقول: ظاهره نسخ آية النحل لآية البقرة ثم نسخ آيتي المائدة لآية النحل، و أنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد.
و في الكافي و التهذيب بإسنادهما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا و في علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، و لم يزل الخمر حراما و إنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، و لو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام): ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك و تعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة - و لو حمل عليهم جملة لهلكوا.
و في الكافي بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله عز و جل على رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كلما تقمرت به حتى الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها.
و فيه: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل مسكر حرام، و كل مسكر خمر.
أقول: و الرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لفظها: كل مسكر خمر، و كل خمر حرام رواها البيهقي و غيره، و قد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) بأن كل مسكر حرام، و أن كلما يقامر عليه فهو ميسر.
و في تفسير العياشي: عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن النبيذ و الخمر بمنزلة واحدة هما؟ قال: لا، إن النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إن الله حرم الخمر قليلها و كثيرها كما حرم الميتة و الدم و لحم الخنزير، و حرم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الأشربة المسكر، و ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد حرم الله.
و في الكافي و التهذيب بإسنادهما عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: إن الله لم يحرم الخمر لإثمها و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر، و في رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.
أقول: و الأخبار في ذم الخمر و الميسر من طرق الفريقين فوق حد الإحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث.
[سورة المائدة (٥): الآیات ٩٤ الی ٩٩]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٩٤يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقَامٍ ٩٥أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٩٦جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٩٧اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ وَ أَنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٩٨مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ ٩٩}
(بيان)
الآيات في بيان حكم صيد البر و البحر في حال الإحرام.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ} البلاء هو الامتحان و الاختبار، و لام القسم و النون المشددة للتأكيد، و قوله: {بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ} يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عونا لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية، و قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ} تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير و صغار الوحش و البيض تنالها الأيدي فتصطاد بسهولة، و من حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلا بالسلاح.
و ظاهر الآية أنها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدد في الآية التالية، و لذلك عقب الكلام بقوله: {لِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فإن فيه إشعارا بأن هناك حكما من قبيل المنع و التحريم ثم عقبه بقوله: {فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونكم الله ليعلم كذا كناية عن أنه سيقدر كذا ليتميز منكم من يخاف الله بالغيب عمن لا يخافه لأن الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتى يرفعه بالعلم، و قد تقدم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ} (الآية): آل عمران: ١٤٢ في الجزء الرابع من هذا الكتاب، و تقدم أيضا معنى آخر لهذا العلم.
و أما قوله: {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فالظرف متعلق بالخوف، و معنى الخوف بالغيب أن يخاف الإنسان ربه و يحترز ما ينذره به من عذاب الآخرة و أليم عقابه، و كل ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئا منه بظاهر مشاعره، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}: يس: ١١، و قال: {وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَ جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}: ق: ٣٣، و قال: {اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}: الأنبياء: ٤٩.
و قوله: {فَمَنِ اِعْتَدىَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي تجاوز الحد الذي يحده الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ} «إلخ»، الحرم بضمتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: و رجل حرام و محرم بمعنى، و حلال
و محل كذلك، و أحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، و أحرم أيضا دخل في الحرم، و أحرم أهل بالحج، و الحرم الإحرام، و منه الحديث: كنت أطيب النبي لحرمه، و أصل الباب، المنع و سميت النساء حرما لأنها تمنع، و المحروم الممنوع الرزق.
قال: و المثل و المثل و الشبه و الشبه واحد، قال: و النعم في اللغة الإبل و البقر و الغنم، و إن انفردت الإبل قيل لها: نعم، و إن انفردت البقر و الغنم لم تسم نعما ذكره الزجاج.
قال: قال الفراء: العدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه، و العدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت و قلت: عدل، و قال البصريون: العدل و العدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.
قال: و الوبال ثقل الشيء في المكروه، و منه قولهم: طعام وبيل و ماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، و منه: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي ثقيلا شديدا، و يقال لخشبة القصار: وبيل من هذا، انتهى.
و قوله: {لاَ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ} نهي عن قتل الصيد لكن يفسره بعض التفسير قوله بعد: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ} هذا من جهة الصيد، و يفسره من جهة معنى القتل قوله: {وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} «إلخ»، فقوله: {مُتَعَمِّداً} حال من قوله: {مَنْ قَتَلَهُ} و ظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيدا، و لازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصدا لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسيا أو ساهيا.
و قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، و ذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هديا يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية.
فقوله: {فَجَزَاءٌ} بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام، و قوله: {مِثْلُ
مَا قَتَلَ} و قوله: {مِنَ اَلنَّعَمِ} و قوله: {يَحْكُمُ بِهِ} «إلخ»، أوصاف للجزاء، و قوله: {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} موصوف و صفة، و الهدي حال من الجزاء تقدم، هذا، و قد قيل: غير ذلك.
و قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} خصلتان أخريان من خصال كفارة قتل الصيد، و كلمة {أَوْ} لا يدل على أزيد من مطلق الترديد، و الشارح السنة، غير أن قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ} حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.
و قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} اللام للغاية، و هي و مدخولها متعلق بقوله: {فَجَزَاءٌ} فالكلام يدل على أن ذلك نوع مجازاة.
قوله تعالى: {عَفَا اَللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ}، إلى آخر الآية تعلق العفو بما سلف قرينة على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم و هو ظاهر، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول.
و الآية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولوي لاشتمالها على المفسدة، و أما قوله: {وَ مَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقَامٍ} فظاهر العود تكرر الفعل، و هذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: و من عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنه حينئذ ينطبق على الفعل الذي يتعلق به الحكم في قوله: {وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} «إلخ» و يكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفارة، و هو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله: {فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ} أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلي.
و هذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانيا إلى فعل تعلق به الكفارة، و المراد بالانتقام العذاب الإلهي غير الكفارة المجعولة.
و على هذا فالآية بصدرها و ذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، و أما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء
مثل ما قتل في المرة الأولى فإن عاد فينتقم الله منه و لا كفارة عليه، و على هذا يدل معظم الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير الآية.
و لو لا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الانتقام في قوله: {فَيَنْتَقِمُ اَللَّهُ مِنْهُ} على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة، و حمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي و من عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي و من قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة، و هذا كما ترى معنى بعيد من اللفظ.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ} إلى آخر الآية، الآيات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو، بر و هو الشاهد على أن متعلق الحل هو الاصطياد في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ} دون أكله، و بهذه القرينة يتعين قوله: {وَ طَعَامُهُ} في أن المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدري الذي هو الأكل و المراد بحل طعام البحر حل أكله فمحصل المراد من حل صيد البحر و طعامه جواز اصطياد حيوان البحر و حل أكل ما يؤخذ منه.
و ما يؤخذ من طعام البحر و إن كان أعم مما يؤخذ منه صيدا كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان و نحوه إلا أن الوارد من أخبار أئمة أهل البيت (عليه السلام) تفسيره بالمملوح و نحوه من عتيق الصيد، و قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ} كأنه حال من صيد البحر و طعامه، و فيه شيء من معنى الامتنان.
و حيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم و بين السيارة في قوة قولنا: متاعا للمحرمين و غيرهم.
و اعلم أن في الآيات أبحاثا فرعية كثيرة معنونة في الكتب الفقهية من أرادها فليراجعها.
قوله تعالى: {جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلاَئِدَ} ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه بيت حرام، و كذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدي و القلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين الله سبحانه في هذه الآية من الأمر إنما هو الحرمة.
و القيام ما يقوم به الشيء، قال الراغب: و القيام و القوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت كالعماد و السناد لما يعمد و يسند به كقوله: {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي جعلها مما يمسككم، و قوله: {جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} أي قواما لهم يقوم به معاشهم و معادهم، قال الأصم: قائما لا ينسخ، و قرئ: قيما بمعنى قياما، انتهى.
فيرجع معنى قوله: {جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتا حراما احترمه، و جعل بعض الشهور حراما، و وصل بينهما حكما كالحج في ذي الحجة الحرام، و جعل هناك أمورا تناسب الحرمة كالهدي و القلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة.
فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم و يوجهون إليه ذبائحهم و أمواتهم، و يحترمونه في سيئ حالاتهم، فيتوحد بذلك جمعهم، و يجتمع به شملهم، و يحيى و يدوم به دينهم، و يحجون إليه من مختلف الأقطار و أقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم، و يسلكون به طرق العبودية.
و يهدي باسمه و بذكره و النظر إليه و التقرب به و التوجه إليه العالمون، و قد بينه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدىً لِلْعَالَمِينَ}: آل عمران: ٩٦ و قد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام.
و نظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياما للناس و قد حرم الله فيه القتال، و جعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم و أعراضهم و أموالهم، و يصلحون فيه ما فسد أو اختل من شئون حياتهم، و الشهر الحرام بين الشهور كالموقف و المحط الذي يستريح فيه المتطرق التعبان، و بالجملة البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتعلق بذلك من هدي و قلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم و معادهم، و لو استقرأ المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعا جاريا أو ثابتا من بركات البيت العتيق و الشهر الحرام من صلة الأرحام، و مواصلة الأصدقاء، و إنفاق الفقراء، و استرباح الأسواق، و موادة الأقرباء و الأداني، و معارفة الأجانب و الأباعد، و تقارب القلوب، و تطهر الأرواح،
و اشتداد القوى، و اعتضاد الملة، و حياة الدين، و ارتفاع أعلام الحق، و رايات التوحيد أصاب بركات جمة و رأى عجبا.
و كان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهم أن هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأي فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة أو زمان من الأزمنة؟ و أي جدوى في سوق الهدي و نحو ذلك؟ و هل هذه الأحكام إلا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافية بين الأمم الجاهلة الهمجية؟
فأجيب عن ذلك بأن اعتبار البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الحكم مبني على حقيقة علمية و أساس جدي و هو أنها قيام يقوم به صلب حياتهم.
و من هنا يظهر وجه اتصال قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا}، إلى آخر الآية بما قبله، و المشار إليه بقوله: {ذَلِكَ} إما نفس الحكم المبين في الآيات السابقة الذي يوضح حكمة تشريعه قوله: {جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} «إلخ»، و إما بيان الحكم الموضح بقوله: {جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ} «إلخ»، المدلول عليه بالمقام.
و المعنى على التقدير الأول أن الله جعل البيت الحرام و الشهر الحرام قياما للناس و وضع ما يناسبهما من الأحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما و العمل بالأحكام المشرعة فيهما إلى أن الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يصلح شئونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شيء من ذلك حكما خرافيا صادرا عن جهالة الوهم.
و المعنى على التقدير الثاني أنا بينا لكم هذه الحقيقة و هي جعل البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الأحكام قياما للناس لتعلموا أن الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يتبعها من الأحكام المصلحة لشئونها فلا تتوهموا أن هذه الأحكام المشرعة لاغية من غير جدوى أو أنها خرافات مختلقة.
قوله تعالى: {اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ وَ أَنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، إلى آخر الآيتين» تأكيد للبيان و تثبيت لموقع الأحكام المذكورة، و وعيد و وعد للمطيعين و العاصين، و فيه شائبة تهديد، و لذلك قدم توصيفه بشدة العقاب على توصيفه بالمغفرة و الرحمة، و لذلك أيضا أعقب الكلام بقوله: {مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ}.
(بحث روائي)
في الكافي: بإسناده عن حماد بن عيسى و ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ}، قال: حشرت لرسول الله ص في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم و رماحهم.
أقول: و رواه العياشي عن معاوية بن عمار مرسلا، و روى هذا المعنى أيضا الكليني في الكافي، و الشيخ في التهذيب، بإسنادهما إلى الحلبي عن الصادق (عليه السلام)، و العياشي عن سماعة عنه (عليه السلام) مرسلا، و كذا القمي في تفسيره مرسلا، و روي ذلك عن مقاتل بن حيان كما يأتي.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش و الطير و الصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا؛ فنهاهم الله عن قتله و هم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب.
أقول: و الروايتان لا تنافيان ما قدمناه في البيان السابق من عموم معنى الآية.
و في الكافي مسندا عن أحمد بن محمد رفعه: في قوله تبارك و تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمَاحُكُمْ}، قال: ما تناله الأيدي البيض و الفراخ، و ما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.
و في تفسير العياشي بإسناده عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة، فإن قتل فرخا ففيه جمل، فإن وطأ بيضة فكسرها فعليه درهم، كل هذا يتصدق بمكة و منى، و هو قول الله في كتابه: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} البيض و الفراخ {وَ رِمَاحُكُمْ} الأمهات الكبار.
أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عن حريز عنه (عليه السلام) مقتصرا على الشطر الأخير من الحديث.
و في التهذيب بإسناده عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه و يتصدق بالصيد على مسكين، فإن
عاد فقتل صيدا آخر لم يكن عليه جزاء و ينتقم الله منه، و النقمة في الآخرة.
و فيه: عن الكليني، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفارة، فإن أصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه، و لم يكن عليه كفارة.
و فيه: عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله: محرم أصاب صيدا؟ قال: عليه كفارة - قلت: فإن هو عاد؟ قال: عليه كلما عاد كفارة.
أقول: الروايات كما ترى مختلفة، و قد جمع الشيخ بينها بأن المراد أن المحرم إذا قتل متعمدا فعليه كفارة و إن عاد متعمدا فلا كفارة عليه، و هو ممن ينتقم الله منه، و أما الناسي فكلما عاد فعليه كفارة.
و فيه: بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فالعدل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الإمام من بعده يحكم به و هو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله و الإمام فحسبك و لا تسأل عنه.
أقول: و في هذا المعنى عدة روايات
و في بعضها: تلوت عند أبي عبد الله (عليه السلام): {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فقال: ذو عدل منكم، هذا مما أخطأت به الكتاب، و هو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر.
و في الكافي عن الزهري عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عز و جل: {وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}. أ و تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟ قال: قلت: لا أدري، قال: يقوم الصيد ثم تفض تلك القيمة على البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما.
و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمد، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من وجب عليه هدي في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلا فداء الصيد فإن الله يقول:
{هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ}.
و في تفسير العياشي عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} قال: مالحه الذي يأكلون؛ و قال: فصل ما بينهما: كل طير يكون في الآجام يبيض في البر و يفرخ في البر من صيد البر، و ما كان من الطير يكون في البر و يبيض في البحر و يفرخ فهو من صيد البحر.
و فيه: عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ} قال: هي حيتان المالح، و ما تزودت منه أيضا و إن لم يكن مالحا فهو متاع.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) من طرق الشيعة.
و في الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة، و أحمد عن رجل من الأنصار: أن رجلا أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): عليك بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن أبي شيبة عن عبد الله بن ذكوان، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و رواه أيضا عنه عن أبي الزناد عن عائشة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه: أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه من طريق أبي المهزم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: في بيض النعام ثمنه.
و فيه: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر محمد بن علي: أن رجلا سأل عليا عن الهدي مما هو؟ قال: من الثمانية الأزواج فكأن الرجل شك فقال علي: تقرأ القرآن؟ فكأن الرجل قال: نعم، قال: فسمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ}؟ قال: نعم قال سمعته يقول: {لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ}، {وَ مِنَ اَلْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً}، فكلوا من بهيمة الأنعام»؟ قال: نعم.
قال: فسمعته يقول: {مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ}، {وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ}
قال: نعم؛ قال: فسمعته يقول: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ}؟ قال الرجل: نعم.
فقال: إن قتلت ظبيا فما علي؟ قال: شاة؛ قال علي: هديا بالغ الكعبة؟ قال الرجل: نعم فقال علي: قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع.
و فيه: أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني: أن عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و ابن عباس و زيد بن ثابت و معاوية قضوا فيما كان من هدي مما يقتل المحرم من صيد فيه جزاء نظر إلى قيمة ذلك فأطعم به المساكين.
و فيه: أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم - قال: ما لفظه ميتا فهو طعامه.
أقول: و روي ما في معناه عن بعض الصحابة أيضا لكن المروي من طرق أهل البيت عنهم (عليه السلام) خلافه كما تقدم.
و في تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): {جَعَلَ اَللَّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} قال: جعل الله لدينهم و معايشهم.
أقول: و قد تقدم توضيح معنى الرواية.
[سورة المائدة (٥): آیة ١٠٠]
{قُلْ لاَ يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٠٠}
بيان
الآية كأنها مستقلة مفردة لعدم ظهور اتصالها بما قبلها و ارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحل في بيان اتصالها بما قبلها، و إنما تشتمل على مثل كلي ضربه الله سبحانه لبيان خاصة يختص بها الدين الحق من بين سائر الأديان و السير العامة الدائرة، و هي أن
الاعتبار بالحق و إن كان قليلا أهله و شاردة فئته، و الركون إلى الخير و السعادة و إن أعرض عنه الأكثرون و نسيه الأقوون؛ فإن الحق لا يعتمد في نواميسه إلا على العقل السليم، و حاشا العقل السليم أن يهدي إلا إلى صلاح المجتمع الإنساني فيما يشد أزره من أحكام الحياة و سبل المعيشة الطيبة سواء وافق أهواء الأكثرين أو خالف، و كثيرا ما يخالف؛ فهو ذا النظام الكوني و هو محتد الآراء الحقة لا يتبع شيئا من أهوائهم، و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض.
قوله تعالى: {قُلْ لاَ يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ} كان المراد بعدم استواء الخبيث و الطيب أن الطيب خير من الخبيث، و هو أمر بين فيكون الكلام مسوقا للكناية، و ذلك أن الطيب بحسب طبعه و بقضاء من الفطرة أعلى درجة و أسمى منزلة من الخبيث؛ فلو فرض انعكاس الأمر و صيرورة الخبيث خيرا من الطيب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرج الخبيث في الرقي و الصعود حتى يصل إلى حد يحاذي الطيب في منزلته و يساويه ثم يتجاوزه فيفوقه فإذا نفي استواء الخبيث و الطيب كان ذلك أبلغ في نفي خيرية الخبيث من الطيب.
و من هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيب، فإن الكلام مسوق لبيان أن كثرة الخبيث لا تصيره خيرا من الطيب، و إنما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة و الخسة إلى أوج الكرامة و العزة حتى يساوي الطيب في مكانته ثم يعلو عليه و لو قيل: لا يستوي الطيب و الخبيث كانت العناية الكلامية متعلقة ببيان أن الطيب لا يكون أردى و أخس من الخبيث، و كان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلة الطيب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك.
و الطيب و الخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيان لأشياء حقيقية خارجية كالطعام الطيب أو الخبيث و الأرض الطيبة أو الخبيثة قال تعالى: {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}: الأعراف: ٥٨، و قال تعالى: {وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}: الأعراف: ٣٢، و إن أطلق الطيب و الخباثة أحيانا على شيء من الصفات الوضعية الاعتبارية كالحكم الطيب أو الخبيث و الخلق الطيب أو الخبيث فإنما ذلك بنوع من العناية.
هذا و لكن تفريع قوله: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} على
قوله: {لاَ يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ}، «إلخ» و التقوى من قبيل الأفعال أو التروك، و طيبها و خباثتها عنائية مجازية، و إرسال الكلام أعني قوله: {لاَ يَسْتَوِي}، إلخ إرسال المسلمات أقوى شاهد على أن المراد بالطيب و الخباثة إنما هو الخارجي الحقيقي منهما فيكون الحجة ناجحة، و لو كان المراد هو الطيب و الخبيث من الأعمال و السير لم يتضح ذاك الاتضاح فكل طائفة ترى أن طريقتها هي الطريقة الطيبة، و ما يخالف أهواءها و يعارض مشيئتها هو الخبيث.
فالقول مبني على معنى آخر بينه الله سبحانه في مواضع من كلامه، و هو أن الدين مبني على الفطرة و الخلقة، و أن ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، و ما ينهى عنه هو الخبيث، و أن الله لم يحل إلا الطيبات و لم يحرم إلا الخبائث قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}: الروم: ٣٠، و قال: {وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَائِثَ}: الأعراف: ١٥٧.
و قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}: الأعراف: ٣٢.
فقد تحصل أن الكلام أعني قوله: {لاَ يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ}، مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على صفات تكوينية في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة و الشقاوة الإنسانيتين، و لا يؤثر فيها قلة و لا كثرة فالطيب طيب و إن كان قليلا، و الخبيث خبيث و إن كان كثيرا.
فمن الواجب على كل ذي لب يميز الخبيث من الطيب، و يقضي بأن الطيب خير من الخبيث، و أن من الواجب على الإنسان أن يجتهد في إسعاد حياته، و يختار الخير على الشر أن يتقي الله ربه بسلوك سبيله، و لا يغتر بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الأعمال و مهلكات الأخلاق و الأحوال، و لا يصرفه الأهواء عن اتباع الحق بتولية أو تهويل لعله يفلح بركوب السعادة الإنسانية.
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفريع على المثل المضروب في صدر الآية، و محصل المعنى أن التقوى لما كان متعلقه الشرائع الإلهية التي تبتني هي أيضا على طيبات و خبائث تكوينية في رعاية أمرها سعادة الإنسان و فلاحه
على ما لا يرتاب في ذلك ذو لب و عقل فيجب عليكم يا أولي الألباب أن تتقوا الله بالعمل بشرائعه لعلكم تفلحون.
[سورة المائدة (٥): الآیات ١٠١ الی ١٠٢]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهَا وَ اَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ١٠١قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ١٠٢}
(بيان)
الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما، و مضمونهما غني عن الاتصال بشيء من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما، و أخرى بأول السورة، و ثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (الآية) الإبداء الإظهار، و ساءه كذا خلاف سره.
و الآية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، و قد سكتت أولا عن المسئول من هو؟ غير أن قوله بعد: {وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}، و كذا قوله في الآية التالية: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} يدل على أن النبي ص مقصود بالسؤال مسئول بمعنى أن الآية سيقت للنهي عن سؤال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أشياء من شأنها كيت و كيت، و إن كانت العلة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض و هو أن يسأل الإنسان و يفحص عن كل ما عفاه العفو الإلهي، و ضرب دون الاطلاع عليه بالأسباب العادية و الطرق
المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الأمور مظنة الهلاك و الشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته و أعزته أو زوال ملكه و عزته، و ربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذي يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء.
فنظام الحياة الذي نظمه الله سبحانه و وضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء و حجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، و لم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها و التوسل إلى ظهور ما خفي منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الإنسانية المبنية على نظام بدني مؤلف من قوى و أعضاء و أركان لو نقص واحد منها أو زيد شيء عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى و الأعضاء الباقية، و ربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها.
ثم إن الآية أبهمت ثانيا أمر هذه الأشياء التي نهت عن السؤال عنها، و لم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم «إلخ»، و مما لا يرتاب فيه أن قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} نعت للأشياء، و هي جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، و لازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها و إظهارها بالمسألة طلب للمساءة.
فيستشكل بأن الإنسان العاقل لا يطلب ما يسؤه، و لو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.
و من عجيب ما أجيب به عن الإشكال أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط «إن» مما لا يقطع بوقوعه، و الجزاء تابع للشرط في الوقوع و عدمه فكان التعبير بقوله {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} دون «إذا أبديت لكم تسؤكم» دالا على أن احتمال إبدائها و كونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.
و قد أخطأ في ذلك، و ليت شعري أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع؟ و هل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الإكرام على تقدير وقوع المجيء؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها و كونه يسوء كاف
في وجوب الانتهاء، انتهى. إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الآية هو النهي عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت و ليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهي عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت، فالإشكال على حاله.
و يتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: أن المراد بقوله: {أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالآجال و عواقب الأمور و جريان الخير و الشر و الكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الإنسان و يحزنه كسؤال الرجل عن باقي عمره، و سبب موته، و حسن عاقبته، و عن أبيه من هو؟ و قد كان دائرا بينهم في الجاهلية.
فالمراد بقوله: {لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هو النهي عن السؤال عن هذه الأمور التي لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الإنسان و يحزنه كظهور أن الأجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه.
فهذه أمور يتضمن غالبا مساءة الإنسان و حزنه، و لا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني و أنفة العصبية أن يكذب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}.
و هذا الوجه و إن كان سليما في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: {وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الأشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهي عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الأسئلة رعاية لمصلحة السائلين؛ لكنها أعني الأشياء المسئول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة.
أما عدم ملاءمته على المعنى الأول فلأن السؤال عن هذه الأشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، و المفسدة هي المفسدة.
و أما على المعنى الثاني فلأن حال نزول القرآن و إن كان حال البيان و الكشف
عن ما يحتاج إلى الكشف و الإبداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف و شرائع الأحكام و ما يجري مجراها، و أما تعيين أجل زيد و كيفية وفاة عمرو، و تشخيص من هو أبو فلان؟ و نحو ذلك فهي مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهي عن السؤال عن أشياء كذا و كذا بنحو قوله: {وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} و هو ظاهر.
فالأوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الآية {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}، «إلخ» و كذا قوله: {وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} تدل على أن المسئول عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الأحكام مما ربما يستقصي في البحث عنه و الإصرار في المداقة عليه، و نتيجة ذلك ظهور التشديد و نزول التحريج كلما أمعن في السؤال و ألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بني إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التي أمروا بذبحها.
ثم إن قوله تعالى: {عَفَا اَللَّهُ عَنْهَا} الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي في قوله: {لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} لا كما ذكروه: أنه وصف لأشياء، و أن في الكلام تقديما و تأخيرا، و التقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، «إلخ».
و هذا التعبير أعني تعدية العفو بعن أحسن شاهد على أن المراد بالأشياء المذكورة هي الأمور الراجعة إلى الشرائع و الأحكام، و لو كانت من قبيل الأمور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله.
و كيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالأشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الأحكام و الشرائع و القيود و الشرائط العائدة إلى متعلقاتها، و أن السكوت عنها ليس لأنها مغفول عنها أو مما أهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده و تسهيلا كما قال: {وَ اَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق و التحريج و هو مما يسوؤهم و يحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الإلهي الذي لم يكن البتة إلا للتسهيل و التخفيف، و تحكيم صفتي المغفرة و الحلم الإلهيين.
فيرجع مفاد قوله: {لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}، «إلخ» إلى نحو قولنا: يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها و لم يتعرض لبيانها تخفيفا و تسهيلا فإنها بحيث تبين لكم أن تسألوا عنها حين نزول القرآن، و تسوؤكم إن أبدئت لكم و بينت.
و قد تبين مما مر أولا: أن قوله تعالى: {وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} من تتمة النهي كما عرفت، لا لرفع النهي عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل.
و ثانيا: أن قوله تعالى: {عَفَا اَللَّهُ عَنْهَا} جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي.
و ثالثا: وجه تذييل الكلام بقوله: {وَ اَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} مع كون الكلام مشتملا على النهي غير الملائم لصفتي المغفرة و الحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: {عَفَا اَللَّهُ عَنْهَا} دون النهي الموضوع في الآية.
قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} يقال: سأله و سأل عنه بمعنى، و {ثُمَّ} يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان. و الباء في قوله: {بِهَا} متعلقة بقوله: {كَافِرِينَ} على ما هو ظاهر الآية من كونها مسوقة للنهي عن السؤال عما يتعلق بقيود الأحكام و الشرائع المسكوت عنها عند التشريع؛ فالكفر كفر بالأحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها و تضيق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببية و لا يخلو عن بعد.
و الآية و إن أبهمت القوم المذكورين و لم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى و قصص أخرى من قوم موسى و غيرهم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: أ في كل عام يا رسول الله؟ قال: أما إني لو قلت: نعم لوجبت، و لو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم
و اختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} إلى آخر الآية.
أقول: و روي القصة عن أبي هريرة و أبي أمامة و غيرهما عدة من الرواة، و رويت في المجمع و غيره من كتب الخاصة، و هي تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (الآية)، قال: غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوما من الأيام فقام خطيبا فقال: سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة و كان يطعن فيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لأبيه فقام إليه عمر فقبل رجله و قال: يا رسول الله رضينا بالله ربا و لك نبيا و بالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي فيومئذ قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، و أنزل عليه: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
أقول: و الرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، و قد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الآية.
و فيه أيضا: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه عن ثعلبة الخشني قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، و فرض لكم فرائض فلا تضيعوها، و حرم أشياء فلا تنتهكوها، و ترك أشياء في غير نسيان و لكن رحمة منه لكم فاقبلوها و لا تبحثوا عنها.
و في المجمع و الصافي عن علي (عليه السلام) قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها و حد لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها.
و في الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثرة السؤال فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ} و قال: {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} و قال: {لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
و في تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) و كتب في آخره: أ و لم تنهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إياكم و ذلك؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك و تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} إلى قوله تعالى {كَافِرِينَ}.
[سورة المائدة (٥): الآیات ١٠٣ الی ١٠٤]
{مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاَ سَائِبَةٍ وَ لاَ وَصِيلَةٍ وَ لاَ حَامٍ وَ لَكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ١٠٣وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلىَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ ١٠٤}
(بيان)
قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاَ سَائِبَةٍ وَ لاَ وَصِيلَةٍ وَ لاَ حَامٍ}، هذه أصناف من الأنعام كان أهل الجاهلية يرون لها أحكاما مبنية على الاحترام و نوع من التحرير، و قد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئا، فالجعل المنفي متعلق بأوصافها دون ذواتها فإن ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شك، و كذلك أوصافها من جهة أنها أوصاف فحسب، و إنما الذي تقبل الإسناد إليه تعالى و نفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لأحكام كانوا يدعونها لها فهي التي تقبل الإسناد و نفيه، فنفي جعل البحيرة و أخواتها في الآية نفي لمشروعية الأحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم.
و هذه الأصناف الأربعة من الأنعام و إن اختلفوا في معنى أسمائها و يتفرع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلم أن أحكامها مبنية على نوع من تحريرها و الاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها و هي البحيرة و السائبة و الحامي
من الإبل، و واحدة و هي الوصيلة من الشاة.
أما البحيرة ففي المجمع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن و كان آخرها ذكرا بحروا أذنها (أي شقوها شقا واسعا) و امتنعوا عن ركوبها و نحرها، و لا تطرد عن ماء و لا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيي لم تركبها، عن الزجاج.
و قيل: إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال و النساء جميعا، و إن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر، و لا يذكر لها اسم الله إن ذكيت، و لا حمل عليها، و حرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا، و لا أن ينتفعن بها، و كان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال و النساء في أكلها، عن ابن عباس، و قيل «إن البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق».
و أما السائبة ففي المجمع، أنها ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، و أن لا تخلى عن ماء و لا تمنع من مرعى، عن الزجاج، و هو قول علقمة.
و قيل: هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها، و كان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة و هم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود.
و قيل: إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركبوها، و لم يجزوا وبرها و لم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم تخلى سبيلها مع أمها، و هي البحيرة، عن محمد بن إسحاق.
و أما الوصيلة ففي المجمع: و هي في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، و إذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. عن الزجاج.
و قيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء، و إن كان عناقا، استحيوها و كانت من عرض الغنم، و إن
ولدت في البطن السابع جديا و عناقا قالوا: إن الأخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة و اللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود و مقاتل.
و قيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث عن محمد بن إسحاق.
و أما الحامي ففي المجمع: هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء و لا من مرعى، عن ابن عباس و ابن مسعود، و هو قول أبي عبيدة و الزجاج.
و قيل: إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفراء.
و هذه الأسماء و إن اختلفوا في تفسيرها إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف سلائق الأقوام في سننهم؛ فإن أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الأقوام الهمجية.
و كيف كان فالآية ناظرة إلى نفي الأحكام التي كانوا قد اختلقوها لهذه الأصناف الأربعة من الأنعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أولا: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ}، «إلخ» و ثانيا: {وَ لَكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ}، إلخ.
و لذلك كان قوله: {وَ لَكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا}، إلخ بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}، إلخ سئل فقيل فما هذا الذي يدعيه هؤلاء الذين كفروا؟ فأجيب بأنه افتراء منهم على الله الكذب ثم زيد في البيان فقيل: {وَ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} و مفاده أنهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون و هم لا يعقلون، و القليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحق و أن ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، و هم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لأزمة أمورهم فهم أهل عناد و لجاج.
قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ}، إلى آخر الآية في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الذي شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحق و هو الصدق الخالي عن الفرية، و العلم المبرى من الجهل فإن الآية السابقة تجمع الافتراء و عدم التعقل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه أعني جانب الله سبحانه إلا الصدق و العلم.
لكنهم ما دفعوه إلا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، و التقليد
و إن كان حقا في بعض الأحيان و على بعض الشروط و هو رجوع الجاهل إلى العالم، و هو مما استقر عليه سير المجتمع الإنساني في جميع أحكام الحياة التي لا يتيسر فيها للإنسان أن يحصل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيوي، لكن تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنة العقلاء كما يذم رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقل بعمله من نفسه و الأخذ بما يعلم غيره.
و لذلك رده تعالى بقوله: {أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ} و مفاده أن العقل لو كان هناك عقل لا يبيح للإنسان الرجوع إلى من لا علم عنده و لا اهتداء فهذه سنة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، و لا يعلم وصفه لا بالاستقلال و لا باتباع من له به خبرة.
و لعل إضافة قوله: {وَ لاَ يَهْتَدُونَ} إلى قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً} لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإن رجوع الجاهل إلى مثله و إن كان مذموما لكنه إنما يذم إذا كان المسئول المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشيء، و أما إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به و دلالته فهو مهتد في سلوكه، و لا ذم على من اتبعه في مسيره و قلده في سلوك الطريق، فإن الأمر ينتهي إلى العلم بالآخرة كمن يتبع عالما بأمر الطريق ثم يتبعه آخر جاهل به.
و من هنا يتضح أن قوله: {أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً} غير كاف في تمام الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجري فيهم حكم الذم، و لا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون، و لا مسوغ لاتباع من هذا حاله.
و لما تحصل من الآية الأولى أعني قوله: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}، «إلخ» أنهم بين من لا يعقل شيئا و هم الأكثرون، و من هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب و إلقاء الحجة و لذلك لم تلق إليهم الحجة في الآية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم و الصفح عن مواجهتهم فقيل: {أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ}.
و قد تقدم في الجزء الأول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى
التقليد يمكنك أن تراجعه.
و يتبين من الآية أن الرجوع إلى كتاب الله و إلى رسوله و هو الرجوع إلى السنة ليس من التقليد المذموم في شيء.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاَ سَائِبَةٍ وَ لاَ وَصِيلَةٍ وَ لاَ حَامٍ} قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها و لا أكلها، و إذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، و لا يستحلون ظهرها و لا أكلها، و الحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك.
قال: ثم قال ابن بابويه: و قد روي: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن و إن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال و النساء، و إن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوها و كانت حراما على النساء لحمها و لبنها فإذا ماتت حلت للنساء، و السائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل أن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك.
و الوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال و النساء، و إن كان أنثى تركت في الغنم و إن كان ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح - و كان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شيء فيحل أكلها للرجال و النساء.
و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: و قد يروى: أن الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلاء و لا ماء.
أقول: و من طرق الشيعة و أهل السنة روايات أخر في معاني هذه الأسماء: البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، و قد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان، في البيان المتقدم.
و المتيقن من معانيها كما عرفت أن هذه الأصناف من الأنعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر و حرمة أكل اللحم و عدم المنع من الماء و الكلاء، و أن الوصيلة من الغنم و الثلاثة الباقية من الإبل.
و في المجمع: روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، و كان أول من غير دين إسماعيل، و اتخذ الأصنام و نصب الأوثان، و بحر البحيرة، و سيب السائبة، و وصل الوصيلة، و حمى الحامي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه، و يروى يجر قصبه في النار.
أقول: و روي في الدر المنثور، هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إني لأعرف أول من سيب السوائب، و نصب النصب، و أول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه. و إني لأعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما و حرم ألبانهما و ظهورهما و قال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما و ركب ظهورهما.
قال: فلقد رأيته في النار، و هما يقصمانه بأفواههما و يطئانه بأخفافهما.
و فيه: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في خلقان من الثياب فقال لي: هل لك من مال؟ قلت: نعم؛ قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال: من الإبل و الغنم و الخيل و الرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك.
ثم قال: تنتج إبلك رافعة آذانها؟ قلت: نعم و هل تنتج الإبل إلا كذلك؟
قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، و تقول: هذه بحر، و تشق آذان طائفة منها و تقول: هذه الصرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاَ سَائِبَةٍ وَ لاَ وَصِيلَةٍ وَ لاَ حَامٍ}.
[سورة المائدة (٥): آیة ١٠٥]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٠٥}
(بيان)
الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، و يلازموا سبيل هدايتهم و لا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، و الكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.
قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاٰ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» لفظة «عَلَيْكُمْ» اسم فعل بمعنى ألزموا،و «أَنْفُسَكُمْ» مفعوله.
و من المعلوم أن الضلال و الاهتداء و هما معنيان متقابلان إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير؛ فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق، و هو الغاية المطلوبة التي يقصدها الإنسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك و خرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدر للإنسان طريقا يسلكه و مقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل و ليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، و العاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذي يرجع إليه الجميع: المهتدي و الضال.
فالثواب الذي يريده الإنسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، و يحرم عنه الضلال، و لازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل
الهداية و الطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه، و عنده سبحانه الغاية المقصودة و إن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإنسان إلى البغية و الفوز و الفلاح أو ضربه بالخيبة و الخسران، و كذلك في القرب و البعد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}: الإنشقاق: ٦ و قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ}: المجادلة: ٢٢ و قال تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ}: إبراهيم: ٢٨ و قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}: البقرة: ١٨٦ و قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: حم السجدة: ٤٤.
بين تعالى في هذه الآيات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير و فيه الرشد و الفلاح، و طريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة، و لا يعود إلى سالكه إلا الهلاك و البوار.
و بالجملة فالآية تقدر للمؤمنين و غيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، و تأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم و ينصرفوا عن غيرهم و هم أهل الضلال من الناس و لا يقعوا فيهم و لا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين و ليسوا بمسئولين عنهم حتى يهمهم أمرهم؛ فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اَللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: الجاثية: ١٤ و نظيرها قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: البقرة: ١٣٤.
فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، و لا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس و شيوع المعاصي بينهم و لا يشغله ذلك و لا يشتغل بهم فالحق حق و إن ترك و الباطل باطل و إن أخذ به كما قال تعالى: {قُلْ لاَ يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: المائدة: ١٠٠و قال تعالى: {وَ لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ}: حم السجدة: ٣٤.
فقوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} بناء على ما مر مسوق سوق الكناية
أريد به نهي المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين و لا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة و قد مضى زمنه و انقرض أهله، قال تعالى: {وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}: القصص: ٥٧.
أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم و ينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بالجملة الأخذ بالأسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، و لا يؤاخذ بعمل غيره، و ما هو عليه بوكيل، و على هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}: الكهف: ٨، و قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً}: الرعد: ٣١ و نحو ذلك.
و قد تبين بهذا البيان أن الآية لا تنافي آيات الدعوة و آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم و إهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم و إنجائه.
على أن الدعوة إلى الله و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من شئون اشتغال المؤمن بنفسه و سلوكه سبيل ربه، و كيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو تنسخها؟ و قد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين و أسسه التي بني عليها كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي}: يوسف: ١٠٨ و قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ}: آل عمران: ١١٠.
فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة و أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية و ليس عليه أن يجيش و يهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
و إذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم و لغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه و لزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه و التحذير من تركه لا على لزوم سألك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}: الأنعام: ١٥٣.
فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذي يجب عليهم سلوكه و لزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه و هو طريق هداه، و هو المنتهى به إلى سعادته.
فالآية تجلي الغرض الذي تؤمه إجمالا آيات أخرى كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ اَلنَّارِ وَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمُ اَلْفَائِزُونَ}: الحشر: ٢٠.
فالآيات تأمر بأن تنظر النفس و تراقب صالح عملها الذي هو زادها غدا و خير الزاد التقوى فللنفس يوم و غد و هي في سير و حركة على مسافة، و الغاية هو الله سبحانه و عنده حسن الثواب و هو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها و لا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، و نسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربه نسي نفسه، و لم يعد لغده و مستقبل مسيره زادا يتزود به و يعيش باستعماله و هو الهلاك، و هذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من عرف نفسه فقد عرف ربه.
و هذا المعنى هو الذي يؤيده التدبر التام و الاعتبار الصحيح فإن الإنسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه و سعادة حياته و إن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}.
و ليس هناك إلا هذا الإنسان الذي يتطور طورا بعد طور، و يركب طبقا عن طبق من جنين و صبي و شاب و كهل و شيخ ثم الذي يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة
ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التي يقطعها الإنسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهي إلى ربه، قال تعالى: {وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى}: النجم: ٤٢.
و هو الإنسان لا يطأ موطأ في مسيره و لا يسير و لا يسري إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات و نحوها و أعمال جوارحية صالحة، أو طالحة و ما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الإنسان إلى ربه، و الله سبحانه هو غايته في مسيره.
و هذا طريق اضطراري لا مناص للإنسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}: الإنشقاق: ٦ فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن و الكافر و الملتفت المتنبه و الغافل العامة، و الآية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك.
و إنما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية و إن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم و الجهل لكن التفات الإنسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، و الأعمال التي تربي النفس الإنسانية تربية مناسبة لسنخها و إذا كان العمل ملائما لواقع الأمر مناسبا لغاية الصنع و الإيجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها و لا خاسرة في صفقتها، و قد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.
و توضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الإنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإلهية من دون أن يفوته تعالى شيء من أمره، و قد قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: هود: ٥٦ و هذه تربية تكوينية على حد ما يربي الله سبحانه غيره من الأمور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، و قد قال: {أَلاَ إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ}: الشورى: ٥٣ و لا يتفاوت الأمر و لا يختلف الحال في هذه التربية بين شيء و شيء فإن الصراط مستقيم، و الأمر متشابه مطرد، و قد قال تعالى أيضا: {مَا تَرى فِي خَلْقِ اَلرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}: الملك: ٣.
و قد جعل سبحانه غاية الإنسان و ما ينتهي إليه أمره و يستقر عليه عاقبته من حيث السعادة و الشقاوة و الفلاح و الخيبة مبنية على أحوال و أخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الإنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة و طالحة و تقوى و فجور كما قال تعالى: {وَ نَفْسٍ
وَ مَا سَوَّاهَا َفَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا َقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا َوَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}: الشمس: ١٠فالآيات كما ترى تضع النفس المسواة في جانب و هو مبدأ الحال، و الفلاح و الخيبة في جانب و هو الغاية و منتهى المسير، ثم تبني الغايتين أعني الفلاح و الخيبة على تزكية النفس و تدسيتها و ذلك مرحلة الأخلاق، ثم تبني الفضيلة و الرذيلة على التقوى و الفجور أعني الأعمال الصالحة و الطالحة التي تنطق الآيات بأن الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.
و الآيات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة و هي التي أضيف إليها الفجور و التقوى، و هي التي تزكى و تدسى، و هي التي يفلح فيها الإنسان و يخيب، و هذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.
لكن هذه الحقيقة التكوينية أعني كون الإنسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها و لو بخطوة، و لا تركها و الخروج منها و لو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له و تذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، و حال من غفل عنه و نسي الواقع الذي لا مفر له منه، و قد قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}: الزمر: ٩.
و قال تعالى: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى}: طه: ١٢٦.
و ذلك أن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه و نسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره و قد كان يجدها على غير هذا النعت و مضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالإحاطة و التأثير إلا ربها المدبر لأمرها الذي يدفعها من ورائها و يجذبها إلى قدامها بقدرته و هدايته، و وجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، و عند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: {إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بعد قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} و معنى قوله تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}: الأنعام: ١٢٢.
و عند ذلك يتبدل إدراك النفس و شعورها، و يهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية و مقام التوحيد و لا يزال يعوض شركا من توحيد و توهما من تحقق و بعدا من قرب و استكبارا شيطانيا من تواضع رحماني و استغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الإلهية و ساقها سائق التوفيق.
و نحن و إن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض و اشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين و يشير إليها الكتاب الإلهي بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الإلهي في بيانه إلا بأنها لعب و لهو كما قال تعالى: {وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ}: الأنعام: ٣٢ و قال تعالى: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}: النجم: ٣٠.
إلا أن الاعتبار الصحيح و البحث البالغ و التدبر الوافي يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا و إن قصرنا عن إحصاء التفاصيل و الله الهادي.
و لعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: و تسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية و الأعمال الصالحة و الشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: {وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا}: آل عمران: ١٠٣ و قد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب و السنة.
و يكون قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} يراد به أنهم في أمن من إضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.
أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات و التمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، و تجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ}: آل عمران: ١٩٧،
و قوله: {وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا}: طه: ١٣١.
و هنا معنى آخر لقوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} من جهة أن المنفي في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، و يكون المعنى نفي أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ}: المائدة: ٣، و قوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبَارَ}: آل عمران: ١١١.
و قد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ذكروا أن الآية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو الأمن من الضرر و قد رووا في ذلك روايات ستأتي الإشارة إليها في البحث الروائي الآتي.
و لازم هذا المعنى أن يكون قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك و إلا فتضرر المجتمع الديني من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب.
لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإن الآية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، و إن أخذت ناسخة فآيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر آبية من النسخ، و للكلام تتمة ستوافيك.
(بحث روائي)
في الغرر و الدرر، للآمدي عن علي (عليه السلام) قال: من عرف نفسه عرف ربه.
أقول: و رواه الفريقان عن النبي أيضا، و هو حديث مشهور، و قد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، و مفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية
بالله سبحانه؛ و رد أولا بقوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، و ثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: {وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: الكيس من عرف نفسه و أخلص أعماله.
أقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص و تفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.
أقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية و المعرفة بالآيات الآفاقية، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي اَلْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}: حم السجدة: ٥٣ و قال تعالى: {وَ فِي اَلْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ}: الذاريات: ٢١.
و كون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها و أعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية، و ذلك أن كون معرفة الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه و أسمائه و صفاته و أفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، و قادرا لا يشوبه عجز، و عالما لا يخالطه جهل، و أنه تعالى هو الخالق لكل شيء، و المالك لكل شيء، و الرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
و هذه و أمثالها معارف حقة إذا تناولها الإنسان و أتقنها مثلت له حقيقة حياته، و أنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، و ليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، و هذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف و وظائف بالنسبة إلى ربه و بالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا و الحياة الآخرة، و هي التي نسميها بالدين، فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته، و لا يخلو عنها حتى البدوي و الهمجي إنما يضعها و يلتزمها أو يأخذها و يلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان،
ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة، و هذا من الوضوح بمكان.
فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإنسان عمله عليها و هو السنة أو الدين.
فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية و الآفاقية و معرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق و الشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك، و تعلقها بالتوحيد و المعاد و النبوة.
و هذه هداية إلى الإيمان و التقوى يشترك فيها الطريقان معا أعني طريقي النظر إلى الآفاق و الأنفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس و قواها و أدواتها الروحية و البدنية و ما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها و الملكات الفاضلة أو الرذيلة، و الأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
و اشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور و الإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر و سعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء و الدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، و الالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه و إن دعا إلى إصلاح النفس و تطهيرها من سفاسف الأخلاق و رذائلها، و تحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد، و هو ظاهر.
و للرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس و هو أن النظر في الآيات الآفاقية و المعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري و علم حصولي بخلاف النظر في النفس و قواها و أطوار وجودها و المعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي و علم حضوري، و التصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة و استعمال البرهان، و هو باق ما دام الإنسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها و لا مشتغل بغيرها، و لذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله و تكثر فيه الشبهات و يثور فيه الاختلاف.
و هذا بخلاف العلم النفساني بالنفس و قواها و أطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، و شاهد فقرها إلى ربها، و حاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا؛ وجد نفسه متعلقة بالعظمة و الكبرياء متصلة في
وجودها و حياتها و علمها و قدرتها و سمعها و بصرها و إرادتها و حبها و سائر صفاتها و أفعالها بما لا يتناهى بهاء و سناء و جمالا و جلالا و كمالا من الوجود و الحياة و العلم و القدرة، و غيرها من كل كمال.
و شاهد ما تقدم بيانه أن النفس الإنسانية لا شأن لها إلا في نفسها، و لا مخرج لها من نفسها، و لا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، و أنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها و ظاهرها و كل شيء دونها فوجدت أنها دائما في خلإ مع ربها و إن كانت في ملإ من الناس.
و عند ذلك تنصرف عن كل شيء و تتوجه إلى ربها و تنسى كل شيء و تذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب و لا تستتر عنه بستر و هو حق المعرفة الذي قدر لإنسان.
و هذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، و أما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، و جل الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، و لا يحيطون به علما.
و قد روي في الإرشاد، و الإحتجاج، على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء. و في التوحيد، عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في كلام له: ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب و استتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال. و في التوحيد، مسندا عن عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن الحجاب و الصورة و المثال غيره، و إنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث. و الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لإيرادها و شرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف.
فقد تحصل أن النظر في آيات الأنفس أنفس و أغلى قيمة و أنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، و على هذا فعده (عليه السلام) إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو
لأن العامة من الناس قاصرون عن نيلها، و قد أطبق الكتاب و السنة و جرت السيرة الطاهرة النبوية و سيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي و هو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم و أغزر.
و في الدرر و الغرر عن علي (عليه السلام) قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها و نزهها عن كل ما يبعدها.
أقول: أي أعتقها عن إسارة الهوى و رقية الشهوات.
و فيه عنه (عليه السلام) قال: أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه.
أقول: و ذلك لكونه أعلمهم بربه و أعرفهم به، و قد قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ}.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، و من جهلها ضل.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: عجبت لمن ينشد ضالته، و قد أضل نفسه فلا يطلبها.
و فيه عنه (عليه السلام) قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟
و فيه عنه (عليه السلام): قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.
أقول: و قد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة.
و فيه عنه (عليه السلام) قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، و كفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه تجرد.
أقول: أي تجرد عن علائق الدنيا، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم أو تجرد عن كل شيء بالإخلاص لله.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه جاهدها و من جهل نفسه أهملها.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه جل أمره.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف و من جهل نفسه كان بغيره أجهل.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة و علم.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، و خبط في الضلال و الجهالات.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: معرفة النفس أنفع المعارف.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.
و في تحف العقول، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، و من زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لأن الاسم محدث، و من زعم أنه يعبد الاسم و المعنى فقد جعل مع الله شريكا، و من زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، و ما قدروا الله حق قدره.
قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن و طلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، و معرفة صفة الغائب قبل عينه.
قيل: و كيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه و تعلم علمه، و تعرف نفسك به و لا تعرف نفسك من نفسك، و تعلم أن ما فيه له و به كما قالوا ليوسف: {إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} قال: {أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي} فعرفوه به و لم يعرفوه بغيره، و لا أثبتوه
من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث.
أقول: قد أوضحنا في ذيل- قوله (عليه السلام) المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه و خلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شيء، و عقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط، و علما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، و عند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة و الكبرياء عن نفسه، و أحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله.
و انكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشيء دونه، و هذا هو المراد بقوله (عليه السلام): «تعرف نفسك به، و لا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، و تعلم أن ما فيه له و به».
و في هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبة له: «فسبحانك ملأت كل شيء و باينت كل شيء فأنت لا يفقدك شيء و أنت الفعال لما تشاء تباركت يا من كل مدرك من خلقه، و كل محدود من صنعه.
-إلى أن قال- سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، و ترقى إلى نور ضياء قدرتك، و أي فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الأغطية، و هتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح، فناجوك في أركانك، و ولجوا بين أنوار بهائك، و نظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زوارا، و دعاهم أهل الجبروت عمارا».
و في البحار، عن إرشاد الديلمي، و ذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث و فيه: «فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.
فإذا أحبني أحببته، و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا أخفي عليه خاصة خلقي، و أناجيه في ظلم الليل و نور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين و مجالسته معهم، و أسمعه كلامي و كلام ملائكتي، و أعرفه السر الذي سترته عن خلقي، و ألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه واعيا
و بصيرا، و لا أخفي عليه شيئا من جنة و لا نار، و أعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول و الشدة، و ما أحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء، و أنومه في قبره و أنزل عليه منكرا و نكيرا حتى يسألاه، و لا يرى غم الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطلع، ثم أنصب له ميزانه و أنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا ثم لا أجعل بيني و بينه ترجمانا، فهذه صفات المحبين.
يا أحمد اجعل همك هما واحدا، و اجعل لسانك لسانا واحدا، و اجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا، من يغفل عني لا أبالي بأي واد هلك».
و الروايات الثلاثة الأخيرة و إن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلا أنا إنما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفي بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر أمورا من المواهب الإلهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة.
و هي أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الإلهي على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (الآية)، قال: قال (عليه السلام): أصلحوا أنفسكم و لا تتبعوا عورات الناس و لا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون.
أقول: و الرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الآية متوجهة إلى النهي عن التعرض لإصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و في نهج البيان عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: نزلت هذه الآية في التقية.
أقول: مفاد الرواية أن الآية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعا بعدم التقية، و قد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الآية لا تساعد على ذلك.
و قد روي في الدر المنثور، عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود و ابن عمر و أبي بن كعب و ابن عباس و مكحول، و ما روي في ذلك من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير دالة على ذلك.
و هي ما عن الترمذي و صححه و ابن ماجة و ابن جرير و البغوي في معجمه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبي الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: ۱ قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ - لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} قال: أما و الله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، و هوى متبعا، و دنيا مؤثرة، و إعجاب كل ذي رأي برأيه - فعليك بخاصة نفسك و دع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.
أقول: و في هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الرواية إنما تدل على أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لم يرتفعا بالآية.
و في الدر المنثور: أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي عامر الأشعري: أنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} قال: فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم.
أقول: و الرواية كما ترى تخص الأمر في الآية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق و تصرفها عن الترخيص في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة و ما يتبعها من آيات الجهاد و نحوها لا تقصر في الإباء عن ذلك عن آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قول الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} فقال نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لم يجيء تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى بن مريم (عليه السلام).
أقول: و الكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم.
و فيه: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن حذيفة: في قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ} قال: إذا أمرتم بالمعروف و نهيتم عن المنكر).
أقول: و هو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، و روي مثله عن سعيد بن المسيب.
(بحث علمي) [عرفان النفس في تسعة فصول]
ملفق من إشارات تاريخية و أبحاث أخر نفسية و غير ذلك في فصول:
١ - لم يزل الإنسان فيما نعلم حتى الإنسان الأولي يقول في بعض قوله: «أنا» و «نفسي» يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونية و هو لا محالة يدري ما يقول و يعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية و اشتغاله بالأعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكي عنها بقوله: «أنا» و «نفسي» و ربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير.
و ربما وجد الإنسان أن الفارق بين الحي و الميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذي يتنفس به الإنسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشيء و بطل وجوده و انعدمت شخصيته و إنيته فأذعن أن النفس هو النفس (محركة) و هو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا، و قضى أن الإنسان هو المجموع من الروح و البدن.
أو رأى أن الحس و الحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرائين و أوردة و أن الحياة التي ترتحل الإنسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الأحمر وجودا و عدما فحكم بأن النفس هو الدم
فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة.
و ربما دعا الإنسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المني حينما يلتقمه الرحم و يطرؤه التطور الكوني طورا بعد طور هو الذي يصير إنسانا، أن يذهب إلى أن النفس الإنسانية هي الأجزاء الأصلية المجتمعة في النطفة، و هي باقية في البنية البدنية مدى الحياة، و ربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير و البطلان، و أن الإنسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان و لا أنها تقبل البطلان و الانعدام مع أن النفس الإنسانية لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله.
فهذه الأقاويل و أمثالها لا تنافي ما يناله الإنسان و هو إنسان من حقيقة قوله: «أنا» و «نفسي» و لا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته و واقع أمره تفصيلا فنخطئ فيه عند ذاك؛ فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان على الرغم من السوفسطائيين و الشكاكين ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف.
و كذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة و هم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير خصوصيات وجوده.
و بالجملة مما لا ريب فيه أن الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا و نفسي، و إذا لطف نظره و تعمق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الأمور الجسمانية القابلة للتغير و الانقسام و الاقتران بالمكان و الزمان، و وجده غير هذا البدن المادي المحكوم بأحكام المادة بأعضائه و أجزائه فإنه ربما نسي أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه و هو لا ينسى نفسه و لا يغفل عنها، دع عنك ما ربما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة، أ لا ترى أنك تسند النسيان و الغفلة و الذهول حينئذ إلى نفسك و تحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر و غفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن و نحوه؟
و دع عنك ما ربما يتوهم أن المغمى عليه يغفل عن ذاته و نفسه فإن الذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنه يذكر أنه كان غير شاعر بها، و بين المعنيين فرق، و ربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا بشبه الرؤيا التي نذكرها من حال المنام.
و كيف كان لا ينبغي الارتياب في أن الإنسان بما أنه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذي يمثل له حقيقة نفسه التي يعبر عنها بأنا، و لو أنه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية و أمانيه المادية قضى بما تقدم أن نفسه أمر مغاير لسنخ المادة و الماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه و آثارها لخواص الأمور المادية و آثارها.
غير أن الاشتغال بالمشاغل اليومية و صرف الهم إلى أماني الحياة المادية و رفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الأمر و الإذعان بشيء من تلك الآراء الساذجة الأبجدية و الوقف على إجمال المشاهدة.
٢ - الفرد العادي من الإنسان و إن كان شغله هم الغذاء و المسكن و الملبس و المنكح عن الغور في حقيقة نفسه و البحث في زوايا ذاته، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره و الخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذي تنزعج به النفس عن كل شيء و ترجع إلى نفسها كالآخذة الممسكة عليها حذرا من الفناء و الزوال، و كالسرور و الترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به، و كالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلا همه، و كالاضطرار الشديد الذي ينقطع به الإنسان عن كل شيء إلى نفسه؛ إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية.
هذه العوامل المختلفة و الأسباب المتنوعة ربما أدى الإنسان واحدا منها أو أزيد من واحد إلى أن يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتا هائلة تهدده في نفسه، و هو الذي ربما يسمونه غولا أو هاتفا أو جنا و نحو ذلك.
و ربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة و الأسف الشديدان فحال بينه و بين
حواسه الظاهرية و ركز شعوره فيما يحبه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، أمورا مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا و خفايا تخفى على حواس غيره.
و ربما كانت الإرادة إذا شفعت باليقين و الإيمان الشديد و الإذعان الجازم تفعل أفعالا لا يقدر عليها الإنسان المتعارف، و لا أن الأسباب العادية يسعها أن تهدي إلى ذلك.
فهذه حوادث جزئية نادرة بالنسبة إلى عامة الحوادث العادية تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرت الإشارة إليها: أما أصل وقوعها فمما ليس كثير حاجة إلى تجشم الاستدلال عليه فكل منا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، و أما أن السبب الحقيقي العامل فيها ما هي؟ فليس هاهنا محل الاشتغال به.
و الذي يهمنا التنبه عليه هو أن هذه الأمور جميعا تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجة عنها و خاصة اللذائذ الجسمانية و انعطافها إلى نفسها؛ و لذا كان الأساس في جميع الارتياضات النفسانية على تنوعها و تشتتها الخارج عن الإحصاء هو مخالفة النفس في الجملة، و ليس إلا لأن انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، و يهديها إلى مشتهياتها الخارجة؛ فيوزعها عليها و يقسم شعورها بينها، فتأخذ بها و تترك نفسها.
٣ - لا ينبغي لنا أن نشك في أن العوامل الداعية إلى هذه الآثار النفسانية كما تتم لبعض الأفراد موقتا و في أحايين يسيرة، ربما تتم لبعض آخر ثابتة مستمرة أو تمكث مكثا معتدا به فكثيرا ما نجد أشخاصا متزهدين عن الدنيا و لذائذها المادية و مشتهياتها الفانية لا هم لهم إلا ترويض النفس و الاشتغال بسلوك طريق الباطن.
و لا ينبغي لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل و الاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهي من السنن اللازمة للإنسانية إلى أقدم عهودها التي نزلت في هذه الأرض على ما نحسب.
٤ - البحث عن حال الأمم و التأمل في سننهم و سيرهم و تحليل عقائدهم و أعمالهم يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان
دائرا بينهم بل مهمة نفيسة تبذل دونها أنفس الأوقات و أغلى الأثمان منذ أقدم الأعصار.
و من الدليل عليه أن الأقوام الهمجية الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقية و غيرها و يوجد بينهم حتى اليوم بقايا من أساطير السحر و الكهانة و الإذعان بحقيقتهما و أصابتهما.
و الاعتبار الدقيق فيما نقل إلينا من المذاهب و الأديان القديمة كالبرهمانية و البوذية و الصائبة و المانوية و المجوسية و اليهودية و النصرانية و الإسلام، كل ذلك يعطي أن المهمة معرفة النفس و الحصول على آثارها تسربا عميقا فيها و إن كانت مختلفة في وصفها و تلقينها و تقويمها.
فالبرهمانية و هي مذهب هند القديم - و إن كانت تخالف الأديان الكتابية في التوحيد و أمر النبوة غير أنها تدعو إلى تزكية النفس و تطهير السر و خاصة للبراهمة أنفسهم.
نقل عن البيروني في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضي سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام:
فأول القسم الأول هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه و تعريفه الواجبات عليه، و توصيته بالتزامها و اعتناقها ما دام حيا.
قال: و قد دخل في القسم الأول إلى۱ السنة الخامسة و العشرين من سنه إلى السنة الثامنة و الأربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهد و يجعل الأرض وطاءه، و يقبل على تعلم «بيذ» و تفسيره علم الكلام و الشريعة من أستاذ يخدمه آناء ليله و نهاره، و يغتسل كل يوم ثلاث مرات، و يقدم قربان النار في طرفي النهار، و يسجد لأستاذه بعد القربان، و يصوم يوما و يفطر يوما مع الامتناع عن اللحم أصلا، و يكون مقامه في دار الأستاذ، و يخرج منها السؤال و الكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي أستاذه ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه، و يحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظمة و الأنوار مقتربة.
و كذلك عند سائر الأمم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليها، و لم يثنهم
عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور.
قال: و أما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة و العشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، و فيه يأذن له الأستاذ في التأهل فيتزوج و يقصد النسل. و ذكر كيفية معاشرته أهله و الناس و ارتزاقه و سيرته.
ثم قال: و أما القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة و السبعين أو إلى التسعين، و في هذا القسم يتزهد و يخرج من زخاري الحياة و يسلم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحاري، و يستمر خارج العمران على سيرته في القسم الأول، و لا يستكن تحت سقف، و لا يلبس إلا ما يواري سوأته من لحاء الشجر، و لا ينام إلا على الأرض بغير وطاء، و لا يتغذى إلا بالثمار و النبات و أصوله، و يطول الشعر و لا يدهن.
قال: و أما القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباسا أحمر، و يأخذ بيده قضيبا، و يقبل على الفكر و تجريد القلب من الصداقات و العداوات، و يرفض الشهوة و الحرص و الغضب، و لا يصاحب أحدا البتة.
فإن قصد موضعا ذا فضل طلبا للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، و في بلد أكثر من خمسة أيام، و إن دفع له أحد شيئا لم يترك منه للغد بقية، و ليس له إلا الدءوب على شرائط الطريق المؤدي إلى الخلاص و الوصول إلى المقام الذي لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثم ذكر الأحكام العامة التي يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
و أما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الأنفاس و الأوهام۱ و كأصحاب الروحانيات و أصحاب الحكمة و غيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة و تحريم اللذائذ الشهوانية على النفس.
و أما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس و مخالفة هواها و تحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، و قد كان هذا هو الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، و هجر أريكة
العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، و اعتزل الناس، و ترك التمتع بمزايا الحياة، و أقبل على رياضة نفسه و التفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه و سنه إذ ذاك ستة و ثلاثون و عند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس و تحصيل المعرفة و لم يزل على ذلك قريبا من أربع و أربعين سنة على ما في التواريخ.
و أما الصابئون و نعني بهم أصحاب الروحانيات و أصنامها فهم و إن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقا لا تختلف كثيرا عن طرق البراهمة و البوذيين، قالوا - على ما في الملل و النحل -: إن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، و نهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية و الغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا و بين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، و نعرض أحوالنا عليهم، و نصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا و خالقهم و رازقنا و رازقهم، و هذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا و رياضتنا و فطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمدادا من جهة الروحانيات، و الاستمداد هو التضرع و الابتهال بالدعوات، و إقامة الصلوات، و بذل الزكوات، و الصيام عن المطعومات و المشروبات، و تقريب القرابين و الذبائح، و تبخير البخورات، و تعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد و استمداد من غير واسطة، انتهى.
و هؤلاء و إن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق و الإيجاد لكنهم متفقو الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة و سعادة النشأة.
و أما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي و هبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان، و أن سعادتها و كمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختيارا بالترويض النفساني، و إما اضطرارا بالموت الطبيعي، معروف.
و أما أهل الكتاب و نعني بهم اليهود و النصارى و المجوس فكتبهم المقدسة و هي العهد العتيق و العهد الجديد و أوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس و تهذيبها و مخالفة هواها.
و لا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا و الاشتغال بتطهير السر، و لا يزال
يتربى بينهم جم غفير من الزهاد و تاركي الدنيا جيلا بعد جيل، و خاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية.
و قد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}: المائدة: ٨٢ و قال تعالى: {وَ رَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغَاءَ رِضْوَانِ اَللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}: الحديد: ٢٧، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اَللَّهِ آنَاءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ أُولَئِكَ مِنَ اَلصَّالِحِينَ}: آل عمران: ١١٤.
و أما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات و الأعمال النفسية كأصحاب السحر و السيمياء و أصحاب الطلسمات و تسخير الأرواح و الجن و روحانيات الحروف و الكواكب و غيرها و أصحاب الإحضار و تسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعا من السلطة على أمر النفس.۱
و جملة الأمر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان و المذاهب و الأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها و الاشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق و الأحوال غير المناسبة للمطلوب.
٥ - لعلك ترجع و تقول: إن الذي ثبت من سنن أرباب المذاهب و الطرق و سيرهم هو الزهد في الدنيا و هو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذي تقدم البحث عنه.
و بلفظ أوضح: الذي يندب إليه الأديان و المذاهب التي تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الإنسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة و ترك الهوى و الآثام و رذائل الأخلاق ليتهيأ بذلك لأحسن الجزاء إما في الآخرة كما يصرح به الأديان النبوية كاليهودية و النصرانية و الإسلام أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية و مذهب
التناسخ و غيرهما.
فالمتعبد على حسب الدستور الديني يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفسا مجردة و أن لها نوعا من المعرفة، فيه سعادتها و كمال وجودها.
و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها و سننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الأعمال و لا هم له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها و التسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الإرادة مثلا و هو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.
على أن في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادي طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الأجزاء الأصلية، و من يرى أن النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، و هو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟
لكنه ينبغي لك أن تتذكر ما تقدم ذكره أن الإنسان في جميع هذه المواقف التي يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالأمور الخارجية و التمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص و آثار لا توصل إليها الأسباب المادية و العوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الانفصال عن العلل و الأسباب الخارجية، و الاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها.
فالمتدين المتزهد في دينه يرى أن من الواجب الإنساني أن يختار لنفسه سعادته الحقيقية و هي الحياة الطيبة الأخروية عند المنتحلين بالمعاد، و الحياة السعيدة الدنيوية التي تجمع له الخير و تدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية و أصحاب التناسخ، ثم يرى أن الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، و لا تسلك به إلى غرضه؛ فلا محيص له عن رفض الهوى و ترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، و الانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الأسباب المادية العادية بالتقرب إليه و الاتصال به، و أن هذا التقرب و الاتصال إنما يتأتى بالخضوع له و التسليم لأمره و ذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال و تروك بدنية، و هذه هي العبادة الدينية من صلاة و نسك أو ما يرجع إلى ذلك.
فالأعمال و المجاهدات و الارتياضات الدينية ترجع جميعا إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، و الإنسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئا و لا يترك شيئا إلا لنفع نفسه، و قد تقدم أن الإنسان لا يخلو، و لا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه و حضور ذاته و أنه لا يخطئ في شعوره هذا البتة، و إن أخطأ فإنما يخطئ في تفسيره بحسب الرأي النظري و البحث الفكري؛ فظهر بهذا البيان أن الأديان و المذاهب على اختلاف سننها و طرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.
و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات و المجاهدات و إن لم يكن منتحلا بديلا و لا مؤمنا بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التي يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، و ليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال و التروك التي يأتي بها ارتباطا طبيعيا نظير الارتباط الواقع بين الأسباب الطبيعية و مسبباتها، بل هو ارتباط إرادي غير مادي متعلق بشعور المرتاض و إرادته المحفوظين بنوع العمل الذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض و بين النتيجة الموعودة؛ فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس و تكميلها في شعورها و إرادتها للنتيجة المطلوبة، و إن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة و تمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقا أو أرادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.
و إلى هذا الباب يرجع معنى ما روي: «أنه ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن بعض أصحاب عيسى (عليه السلام) كان يمشي على الماء فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء» فالحديث كما ترى يؤمئ إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه و إمحاء الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.
و من أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق (عليه السلام): ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، و قال (صلى الله عليه وآله و سلم) في الحديث المتواتر: «إنما الأعمال بالنيات».
فقد تبين أن الآثار الدينية للأعمال و العبادات و كذلك آثار الرياضات و المجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها و بين النفس الإنسانية بشئونها الباطنية، فالاشتغال بشيء منها
اشتغال بأمر النفس.
و من زعم أن رابطة السببية و المسببية إنما هي بين أجساد هذه الأعمال و بين الغايات الأخروية مثلا من روح و ريحان و جنة نعيم، أو بينها و بين الغايات الدنيوية الغريبة التي لا تعمل الأسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس و أنواع إرادتها و التحريكات من غير محرك و الاطلاع على الضمائر و الحوادث المستقبلة و الاتصال بالروحانيات و الأرواح و نحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الأثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه.
٦ - إياك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان و التصوف أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوي الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية و العرفان و هو الدين.
و ذلك أن الذي يعقد عليه الدين أن للإنسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة و رفض الاقتصار على التمتعات المادية، و قد أنتجت الأبحاث السابقة: أن الأديان أيا ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس و سوقهم إلى السعادة التي تعدهم إياها و تدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحا و تهذيبا يناسب المطلوب، و أين هذا من كون عرفان النفس هو الدين.
فالدين يدعو إلى عبادة الإله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء و الشركاء لأن فيها السعادة الإنسانية و الحياة الطيبة التي لا بغية للإنسان دونها، و لا ينالها الإنسان و لن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات و التمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس و تطهيرها ليستعد المنتحل به المتربي في حجره للتلبس بالخير و السعادة، و لا يكون كمن يتناول الشيء بإحدى يديه و يدفعه بالأخرى، فالدين أمر و عرفان النفس أمر آخر وراءه، و إن استلزم الدين العرفان نوعا من الاستلزام.
و بنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة و المجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضا غير عرفان النفس و إن ارتبط البعض بالبعض نحوا من الارتباط.
نعم لنا أن نقضي بأمر و هو أن عرفان النفس بأي طريق من الطرق فرض السلوك
إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين كما أن البحث البالغ الحر يعطي أن الأديان على اختلافها و تشتتها إنما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإنسانية و هو دين التوحيد.
فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالإغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته و ارتباط أجزائه في عين تشتتها ينتهي إلى سبب واحد فوق الأسباب، و هو الحق الذي يجب الخضوع لجانبه و ترتيب السلوك الحيوي على حسب تدبيره و تربيته، و هو الدين المبني على التوحيد.
و التأمل العميق في جميع الأديان و النحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية، و الثنوية و إنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل و الإصابة و الإخطاء فيه؛ فمن قائل مثلا: أنه أقرب إلينا من حبل الوريد و هو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي و لا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، و من قائل: إن تسفل الإنسان الأرضي و خسة جوهره لا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، و أين التراب و رب الأرباب؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة و هم روحانيات الكواكب أو أرباب الأنواع أو المقربون من الإنسان و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفىَ}.
و إذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب و الأصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، و على هذا القياس في سائر الأديان و الملل فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عز اسمه.
و من المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس و إن انشعبت أي انشعاب فرض و اختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، و تنتهي بالأخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانية و هو التوحيد؛ فدين التوحيد أبو الأديان و هي أبناء له صالحة أو طالحة.
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الإنسانية التي يدعو إليها و هي معرفة الإله التي هي المطلوب الأخير عنده، و بعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الديني لا يرتضي الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، و إن الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية؟
و من هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الإنسانية حتى ينتهي فروعه و أغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.
و يمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر و هو أن الإنسانية و إن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع و المدنية لإسعاد الحياة، و أثبت النقل و البحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سننا اجتماعية، و أجروها بين أممهم كسنن القبائل و السنة الملوكية و الديمقراطية و نحوها، و لم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس و تهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري.
نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر و الأرواح و نحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة و تصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه و السلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب و يسهل الوعر منه.
٧ - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة و حوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، و مشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، و استجابة للدعوة و شفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، و النجاة من المخاطر و المهالك من غير طريق العادة، و قد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة و نفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون و هم على غفلة من سببه القريب، و إنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، و استناد ـ
الأمور إليه تعالى، و إن كان حقا لا محيص عن الاعتراف به لكن نفي الأسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه.
و ربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء و نحوه بالتصرف في نفس صبي - على ما هو المتعارف - و هو كغيره يرى أن الصبي إنما يبصره بالبصر الحسي، و أن بين أبصار سائر الناظرين و بين الروح المحضر حجابا مضروبا لو كشف عنه لكانوا مثل الصبي في الظفر بمشاهدته.
و ربما وجدوا الأرواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجبا لأن عالم الأرواح عالم الطهارة و الصفاء لا سبيل للكذب و الفرية و الزور إليه.
و ربما أحضروا روح إنسان حي فيستنطقونه بأسراره و ضمائره و صاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله و حوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه.
و ربما نوم الإنسان تنويما مغناطيسيا ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ و مضى لشأنه أتى بالعمل الذي لقنه على الشريطة التي أريد بها و هو غافل عما لقنوه و عن إنعامه بقبوله.
و بعض الروحيين لما شاهدوا صورا روحية تماثل الصور الإنسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة و ظرف الطبيعة المتغيرة، و خاصة بعض من لا يرى لغير الأمر المادي وجودا، حتى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الأرواح، كل ذلك استنادا منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادي أو خاصة لمبدإ مادي يفعل بالشعور و الإرادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة و الشعور حتى اليوم.
و نظير هذه الفرضية فرضية من يرى أن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته و أشكاله لما وجدوا أن الإنسان يرى نفسه في المنام و هو على هيئته في اليقظة، و ربما يمثل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالا خارج أبدانهم و هي مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري ما دام الإنسان حيا فإذا فارق البدن كان هو الموت.
و قد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الإنسان نظيرة صورته التي يدركها من بدنه، و نظيرة صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، و ربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، و ربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التي تتراءى لأرباب المجاهدات أنها صورة الروح.
و حقيقة الأمر أن هؤلاء نالوا شيئا من معارف النفس و فاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطئوا في تفسير ما نالوه و ضلوا في توجيه أمره، و الحق الذي يهدي إليه البرهان و التجربة أن حقيقة النفس التي هي هذا الشعور المتعقل المحكي عنه بقولنا «إنا» أمر مغاير في جوهره لهذه الأمور المادية كما تقدم، و أن أقسام شعوره و أنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه و ظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس و الإدراك من البدن فإنها أفعال و انفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة و الشعور، فهذه الأمور المشهودة الخاصة بالصلحاء و أرباب المجاهدات و الرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، و إنما الشأن في أن هذه المعلومات و المعارف كيف استقرت في النفس و أين محلها منها؟ و أن للنفس سمة علية لجميع الحوادث و الأمور المرتبطة بها ارتباطا ما، فجميع هذه الأمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة و المجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم و مشيئتهم، و الإرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإنساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به و الأمور المماسة له.
٨ - فمن الحري أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون بالاشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب و المسببات المادية، كأصحاب السحر و الطلسمات و أصحاب تسخير روحانيات الكواكب و الموكلين على الأمور و الجن و أرواح الآدميين و أصحاب الدعوات و العزائم و نحو ذلك.
و الثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الأمور الخارجة عنها و الانجذاب نحوها للغور فيها و مشاهدة جوهرها و شئونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم و مسالكهم.
و ليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنه يوجد بين الأمم التي
تتقدمهم في النشوء كالنصارى و غيرهم حتى الوثنية من البرهمانية و البوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم.
لكن لا بمعنى الأخذ و التقليد العادي كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض و أمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الأديان و المذاهب؛ و ذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدي إلى الزهد و الزهد يرشد إلى عرفان النفس؛ فاستقرار الدين بين أمة و تمكنه من قلوبهم يعدهم و يهيؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، و يأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أمة من الأمم برهة معتدا بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة و إن انقطعوا عن غيرهم من الأمم الدينية كل الانقطاع، و ما هذا شأنه لا ينبغي أن يعد من السنن الموروثة التي يأخذها جيل عن جيل.
٩ - ثم ينبغي أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين و هم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين:
فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئا من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لأنهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها و هو الله عز اسمه الذي هو السبب الحق الآخذ بناصية النفس في وجودها و آثار وجودها و كيف يسع الإنسان تمام معرفة شيء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده و خاصة السبب الذي هو سبب كل سبب؟ و هل هو إلا كمن يدعي معرفة السرير على جهل منه بالنجار و قدومه و منشاره و غرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟
و من الحري بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس و آثارها.
و طائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، و طريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدين في الجملة و هي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه و أقرب آية، و تكون النفس طريقا مسلوكا و الله سبحانه
هو الغاية التي يسلك إليها {وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىَ}.
و هؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الأمم و النحل، و ليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم و طرائقهم التي يسلكونها، و أما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أنهيت بحسب الأصول إلى خمس و عشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، و قد استندوا فيها إلا في واحدة إلى علي عليه أفضل السلام، و هناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل و يسمون الأويسية (نسبة إلى أويس القرني) و هناك آخرون منهم لا يتسمون باسم و لا يتظاهرون بشعار.
و لهم كتب و رسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم و طرقهم، و النواميس و الآداب التي لهم و عن رجالهم، و ضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، و أعربوا فيها عن حججهم و مقاصدهم التي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها. و أما البحث عن تفصيل الطرق و المسالك و تصحيح الصحيح و نقد الفاسد فله مقام آخر، و قد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس.
و اعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظري، و أما علم النفس الذي دونه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئا، و كذلك فن النفس العملي الذي دونه المتأخرون حديثا فإنما هو شعبة من فن الأخلاق على ما دونه القدماء، و الله الهادي.
[سورة المائدة (٥): الآیات ١٠٦ الی ١٠٩]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبىَ
وَ لاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اَللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ ١٠٦فَإِنْ عُثِرَ عَلىَ أَنَّهُمَا اِسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَ مَا اِعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ ١٠٧ذَلِكَ أَدْنىَ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلىَ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ ١٠٨يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ١٠٩}
(بيان)
الآيات الثلاث الأول في الشهادة، و الأخيرة لا تخلو عن اتصال ما بها بحسب المعنى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى آخر الآيتين، محصل مضمون الآيتين أن أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصي فعليه أن يشهد حين الوصية شاهدين عدلين من المسلمين و إن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميت في أمر الوصية يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه و ترفع بذلك الخصومة، فإن اطلعوا على أن الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الأمر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الأولين فيشهدان على خلافهما و يقسمان بالله على ذلك.
فهذا ما تفيده الآيتان بظاهرهما فقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} خطاب للمؤمنين و الحكم مختص بهم {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي شهادة بينكم ذوي عدل منكم ففي جانب الخبر مضاف مقدر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، و المراد أن عدد الشهود اثنان فالمصدر الشهادة بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل و رجلان عدل.
و حضور الموت كناية عن حضور داعي الوصية فإن الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الأمور من غير حضور أمر يوجب الظن بالموت، و هو عادة المرض الشديد الذي يشرف الإنسان به على الموت.
و قوله: {حِينَ اَلْوَصِيَّةِ} ظرف متعلق بالشهادة أي الشهادة حين الوصية، و المراد بالعدل و هو مصدر الاستقامة في الأمر، و قرينة المقام تعطي أن المراد به الاستقامة في أمر الدين، و يتعين بذلك أن المراد بقوله: {مِنْكُمْ} و قوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} المسلمون و غير المسلمين، دون القرابة و العشيرة فإن الله سبحانه قابل بين قوله: {اِثْنَانِ} و قوله: {آخَرَانِ}، ثم وصف الأول بقوله {ذَوَا عَدْلٍ} و قوله: {مِنْكُمْ} و لم يصف الثاني إلا بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} دون أن يصفه بالعدالة، و الاتصاف بالاستقامة في الدين و عدمه إنما يختلف في المسلم و غير المسلم، و لا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له و إلغائها إذا كان الشاهد أجنبيا.
و على هذا فقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، و إن لم يكن إلا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كل ذلك بالاستفادة من قرينة المقام.
و هذه القرينة بعينها هي التي توجب أن يكون قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ} قيدا متعلقا بقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فإن المسلم لما كان بالطبع إنما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمس الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر و الضرب في الأرض فإنها مظنة وقوع أمثال هذه الوقائع و الاضطرار و مسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها.
و قرينة المقام أعني المناسبة بين الحكم و الموضوع بالذوق المتخذ من كلامه تعالى تدل على أن المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصة لأن كلامه تعالى لا يشرف المشركين بكرامة.
و قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاَةِ} أي توقفونهما، و الحبس الإيقاف، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي الشاهدان {إِنِ اِرْتَبْتُمْ} أي شككتم فيما يظهره الوصي من أمر الوصية أو المال الذي تعلقت به الوصية أو في كيفية الوصية، و المقسم عليه هو قوله:
{لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى} أي لا نشتري بالشهادة للوصي فيما يدعيه ثمنا قليلا و لو كان ذا قربى، و اشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحق لغاية دنيوية من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيوي، و هو الثمن القليل.
و ذكر بعضهم أن الضمير في قوله: {مُصِيبَةُ} إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمنا، و لازمه إجراء اليمين مرتين و الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك.
و قوله: {وَ لاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اَللَّهِ} أي بالشهادة على خلاف الواقع {إِنَّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ} الحاملين للإثم، و الجملة معطوفة على قوله: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} كعطف التفسير.
و إضافة الشهادة إلى الله في قوله: {شَهَادَةَ اَللَّهِ} إما لأن الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما و الله أحق بالملك فهو شهادته تعالى حقا و بالأصالة و شهادتهما تبعا، و قد قال تعالى: {وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً}: النساء: ٧٩ و قال تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}: البقرة: ٢٥٥.
و إما لأن الشهادة حق مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، و هذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أن العباد هم المتلبسون به، قال تعالى: {وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ}: الطلاق: ٣ و قال: {وَ لاَ تَكْتُمُوا اَلشَّهَادَةَ}: البقرة: ٢٨٣.
و قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اِسْتَحَقَّا إِثْماً} العثور على الشيء الحصول عليه و وجدانه، و هذه الآية بيان و تفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين و كذبهما في شهادتهما.
و المراد باستحقاق الإثم الاجرام و الجناية يقال: استحق الرجل أي أذنب، و استحق فلان إثما على فلان كناية عن إجرامه و جنايته عليه و لذا عدي بعلى في قوله تعالى ذيلا: {اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيَانِ} أي أجرما و جنيا عليهم بالكذب و الخيانة، و أصل معنى قولنا: استحق الرجل طلب أن يحق و يثبت فيه الإثم أو العقوبة فاستعماله الكنائي من قبيل إطلاق الطلب و إرادة المطلوب و وضع الطريق موضع الغاية، و إنما
ذكر الإثم في قوله: {اِسْتَحَقَّا إِثْماً} بالبناء على ما تقدم في قوله: {إِنَّا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ}.
و قوله تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي إن عثر على أن الشاهدين استحقا بالكذب و الخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب و الخيانة.
و قوله: {مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيَانِ} في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الذين استحق عليهم أي أجرم و جنى عليهم الشاهدان الأولان اللذين هما الأوليان الأقربان بالميت من جهة الوصية كما ذكره الرازي في تفسيره، و المراد بالذين استحق عليهم الأوليان أولياء الميت، و حاصل المعنى أنه إن عثر على أن الشاهدين أجرما على أولياء الميت بالخيانة و الكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميت الذين أجرم عليهم الشاهدان الأولان الأوليان بالموت قبل ظهور استحقاقهما الإثم.
هذا على قراءة {اِسْتَحَقَّ} بالبناء للفاعل و هو قراءة عاصم على رواية حفص، و أما على قراءة الجمهور {اِسْتَحَقَّ} بضم التاء و كسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الأوليان مبتدأ خبره قوله: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ} «إلخ»، قدم عليه لتعلق العناية به، و المعنى إن عثر على أنهما استحقا إثما فالأوليان بالميت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم.
و في قراءة عاصم من طريق أبي بكر و حمزة و خلف و يعقوب «الأولين» جمع الأول مقابل الآخر، و هو بظاهره بمعنى الأولياء و المقدمين، وصف أو بدل من قوله: {اَلَّذِينَ}.
و قد ذكر المفسرون في تركيب أجزاء الآية وجوها كثيرة جدا لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور، و قد ذكر الزجاج فيما نقل عنه: أنها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب.
و الذي أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللفظ من غير تعسف في الفهم، و أضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لأن تكثيرها لا يزيد اللفظ إلا إبهاما، و لا الباحث إلا حيرة۱.
و قد فرع على قوله: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ}، «إلخ» تفريع الغاية على ذي الغاية قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي الشاهدان الآخران من أولياء الميت {لَشَهَادَتُنَا} بما يتضمن كذبهما و خيانتهما {أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي من شهادة الشاهدين الأولين بما يدعيان من أمر الوصية {وَ مَا اِعْتَدَيْنَا} عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه {إِنَّا إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ}.
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} (الآية) في مقام بيان حكمة التشريع و هي أن هذا الحكم على الترتيب الذي قرره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، و أقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما و يخافا من أن يتغير الأمر عليهما برد شهادتهما بعد قبولها.
فإن الإنسان ذو هوى يدعوه إلى التمتع بكل ما يسعه التمتع به و القبض على كل ما يتهوسه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حق يستحقه أو جورا، عدلا أو ظلما و تعديا على غيره بإبطال حقه و الغلبة عليه، و إنما ينصرف الإنسان عن هذا التعدي و التجاوز إما لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، و إما لرادع يردعه من نفسه؛ و أقوى رادع نفساني هو الاعتقاد بالله الذي إليه مرجع العباد و حساب الأعمال و القضاء الفصل و الجزاء المستوفى.
و إذا كان الواقع من أمر الوصية بحسب فرض المقام مجهولا لا طريق إلى كشفه إلا شهادة من أشهدهما الميت من الشاهدين فأقوى ما يقرب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بأيمانهما بالله تعالى و هو اليمين، و أن يرد اليمين إلى الورثة الأولياء مع يمينهما على تقدير انكشاف كذبهما و خيانتهما عند الورثة، فهذان أعني يمينهما أولا ثم رد اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما و خوفهما فضيحة رد اليمين، و الرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف.
ثم عقب تعالى القول بالموعظة و الإنذار فقال: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} و المعنى واضح.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ} (الآية) لا تأبى الاتصال بما قبلها فإن ظاهر قوله تعالى في ذيل الآية السابقة: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِسْمَعُوا}، إلخ و إن كان مطلقا لكنه بحسب الانطباق على المورد نهي عن
الانحراف و الجور في الشهادة و الاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجري بينه سبحانه و بين رسله يوم القيامة و هم شهداء على أممهم و أفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الذي أجابهم به أممهم و هم أعلم الناس بأعمال أممهم و الشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ}.
فإذا كان الأمر على هذه الوتيرة، و كان الله سبحانه هو العالم بكل شيء حق العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: و لا ينحرفوا عن الحق الذي رزقهم الله العلم به، و لا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الآثمين و الظالمين و الفاسقين.
فقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ}، «إلخ» ظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ}، «إلخ» و ذكر جمع الرسل دون أن يقال: «يوم يقول الله للرسل» لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}.
و أما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ} فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن المنفي ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ} يدل على أنه لتعليل النفي، و من المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضي رفع كل علم عن غيره و خاصة إذا كان علما بالشهادة، و المسئول عنه أعني كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.
فقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا} ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذي لا يخلو عن التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه و متعلقاته، و الواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الأمر الواقع في الخارج و ما يحيط به مما يصاحبه زمانا فالعلم بأمر من الأمور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالي من أن يحيط به شيء، و هذا أمر وراء الطاقة الإنسانية.
فلم يرزق الإنسان من العلم في هذا الكون الذي يبهته التفكير في سعة ساحته، و تهوله النظرة في عظمة أجرامه و مجراته، و يطير لبه الغور في متون ذرأته، و يأخذه الدوار إذا أراد الجري بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في
مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الأرض.
فما يتعلق به علم الإنسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف أطراف و هكذا كل ذلك في غيب من إدراك الإنسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشيء إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود، و لا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}: البقرة: ٢١٦ فدل على أن من طبع الإنسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا مقدرا كما قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}: الحجر: ٢١- و هو قوله (عليه السلام): حيث سئل عن علة احتجاب الله عن خلقه فقال: لأنه بناهم بنية على الجهل، و قال تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}: البقرة: ٢٥٥ فدل على أن العلم كله لله، و إنما يحيط منه الإنسان بما شاء الله، و قال تعالى: {وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}: الإسراء: ٨٥ فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الإنسان إلا قليلا منه.
فإذن حقيقة الأمر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، و إذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الأشياء بحقائقها على ما تفيده الآيات الواصفة لأمره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ}: النبأ - ٣٩ كان من الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم: {مَا ذَا أُجِبْتُمْ} أن يجيبوا بنفي العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، و يثبتوه لربهم سبحانه بقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ}.
و هذا الجواب منهم (عليه السلام) نحو خضوع لحضرة العظمة و الكبرياء و اعتراف بحاجتهم الذاتية و بطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لأدب الحضور و إظهارا لحقيقة الأمر، و ليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة:
أما أولا فلأن الله سبحانه جعلهم شهداء على أممهم كما ذكره في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلى هَؤُلاَءِ شَهِيداً}: النساء: ٤١ و قال: {وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ}: الزمر: ٦٩ و لا معنى لجعلهم شهداء
إلا ليشهدوا على أممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: {لاَ عِلْمَ لَنَا} جري على الأدب العبودي قبال الملك الحق الذي له الأمر و الملك يومئذ، و بيان لحقيقة الحال و هو أنه هو يملك العلم لذاته و لا يملك غيره إلا ما ملكه، و لا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال أممهم، و هذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ} (الآية): البقرة: ١٤٣ في الجزء الأول من هذا الكتاب: أن هذا العلم و الشهادة ليسا من نوع العلم و الشهادة المعروفين عندنا و أنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.
و أما ثانيا فلأن الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ}: الروم: ٥٦ و قال تعالى: {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}: الأعراف: ٤٦ و قال تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: الزخرف: ٨٧ و عيسى بن مريم (عليه السلام) ممن تعمه الآية و هو رسول فهو ممن يشهد بالحق و هم يعلمون، و قال تعالى: {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً}: الفرقان: ٣١ و المراد بالرسول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية من السؤال أعني قوله تعالى: {فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ} فظهر أن قول الرسل (عليه السلام): «لا علم لنا» ليس جوابا نهائيا كما تقدم.
و أما ثالثا فلأن القرآن يذكر السؤال عن المرسلين و المرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ}: الأعراف: ٦ ثم ذكر عن الأمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، و الجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره، و قال أيضا فيهم: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ}: ق: ٢٢، و قال أيضا: {وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}: السجدة: ١٢ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و إذا كانت الأمم و خاصة المجرمون منهم على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام (عليه السلام) فالمصير إلى ما قدمناه.
(كلام في معنى الشهادة)
الاجتماع المدني الدائر بيننا و التفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الأرضية بين قوانا الفعالة يسوقنا و لا محيص إلى أنواع الاختلافات و الخصومات فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الآخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو مكانه فتاقت إليه نفسه و نازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الإنسان لوجوب اعتبار القضاء و الحكم ليرتفع به هذه الخصومات.
و أول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا و الوقائع على النحو الذي وقعت و تضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير و التبدل ليقع عليه قضاء القاضي، هذا مما لا شك فيه.
و يتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدي ما تحمله عند اللزوم و الاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات أخر معمولة لذلك اهتدى الإنسان إلى التوصل بها.
و تفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ و الضبط أولا بأن غير الشهادة من الأسباب أمور غير عامة فإن أعمها و أعرفها الكتابة و هي لم تستوعب الإنسانية حتى اليوم فكيف بغيرها و هذا بخلاف الشهادة و التحمل.
و ثانيا بأن الشهادة و هو البيان اللساني من نفس الشاهد عن تحمله و حفظه أبعد من عروض الخلل و أمنع جانبا من طرو أنواع الآفات بالقياس إلى الكتابة و غيره من أسباب الحفظ و الضبط.
و لذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها أمة من الأمم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية و السلائق القومية و الملية و التقدم و التأخر في الحضارة و التوحش، فهي لا تخلو عن اعتبار ما عندهم.
و الاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الأمة و جزءا من الجماعة، و لذلك لا يعبأ بشهادة الصبي غير المميز و لا بشهادة المجنون الذي لا يدري ما يقول مثلا، و لذلك
أيضا لا يعبأ بعض الأمم الهمجية بشهادة النسوان لما لم يعدوا المرأة جزء من المجتمع، و على ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعية في الأمم القديمة كالروم و اليونان و غيرهم.
و الإسلام و هو دين الفطرة يعتبر الشهادة و يعطيها وحدها من بين سائر الأسباب الحجية، و أما سائر الأسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم، قال تعالى: {وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ}: الطلاق: ٢ و قال تعالى: {وَ لاَ تَكْتُمُوا اَلشَّهَادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}: البقرة: ٢٨٣ و قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}: المعارج: ٣٣.
و قد اعتبر الإسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال تعالى: {وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اَلْأُخْرى وَ لاَ يَأْبَ اَلشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَ لاَ تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتَابُوا} البقرة: ٢٨٢، فأفاد أن ما بينته الآية و اعتبرته من أحكام الشهادة و منها ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين أكثر مطابقة للقسط و قيام الشهادة و رفع الريب.
ثم لما كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع و بعبارة أخرى في اعتباره الواحد الذي يتكون منه المجتمع الإنساني يعد المرأة جزءا مشمولا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذي كونه أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف و المرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق و الوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الآية السابقة: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اَلْأُخْرى}، و قد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأة في الإسلام ما ينفع في المقام، و للشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.
(كلام في العدالة)
كثيرا ما يعثر الباحث في الأحكام الإسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة و ربما وجد للفظ تعريفات مختلفة و تفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين و مسالكهم.
لكن الذي يلائم مقامنا هذا من البحث و هو بحث قرآني في تحليل معناها و كيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التي عليها بني الإسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول:
إن للعدالة و هي الاعتدال و التوسط بين النمطين: العالي و الداني، و الجانبين: الإفراط و التفريط قيمة حقيقية و وزنا عظيما في المجتمعات الإنسانية، و الوسط العدل هو الجزء الجوهري الذي يركن إليه التركيب و التأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذي يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، و يمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل و الواحد بعد الواحد، و من المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر، و لا تتم به كينونته و إن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد.
و الفرد الدنيء الخسيس الذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، و لا يتحقق فيه القدر المتوسط من أماني المجتمع ممن لا داعي له يدعوه إلى رعاية الأصول العامة الاجتماعية التي بها حياة المجتمع، و لا رادع له يردعه عن اقتحام الآثام الاجتماعية التي تهلك الاجتماع و تبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، و بالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع و لا وثوق بتأثيره الحسن و نصيحته الصالحة.
و إنما الحكم لأفراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع و تتحقق فيهم مقاصده و مآربه، و تظهر بهم آثاره الحسنة التي لم تأتلف أجزاؤه و أعضاؤه إلا للحصول عليها و التمتع بها.
هذا كله مما لا يرتاب فيه الإنسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب.
فمن الضروري عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الأمور و الاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين و مخالفة السنن و الآداب الجارية من غير مبالاة و انقباض في أبواب كثيرة كالحكومة و القضاء و الشهادات و غيرها في الجملة.
و هذا الحكم الضروري أو القريب من الضروري عند الفطرة هو الذي يعتبره الإسلام في الشاهد، قال تعالى: {وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ}: الطلاق: ٢، و قال تعالى: {شَهَادَةُ
بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} «المائدة: ١٠٦ و الخطاب في الآيتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوي عدل منهم مفاده كونهما ذوي حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الديني، و أما بالقياس إلى المجتمع القومي و البلدي فالإسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينية، و ظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الديني هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}: النساء: ٣١، و قد تكلمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
و على هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله: {وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: النور: ٥.
و نظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَدَاءِ}: البقرة: ٢٨٢ فإن الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الديني، و من المعلوم أن المجتمع الديني بما هو ديني لا يرضى أحدا إلا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.
و هذا هو الذي نسميه في فن الفقه بملكة العدالة و هي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فن الأخلاق فإن العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي و التي في فن الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.
و الذي استفدناه من معنى العدالة هو الذي يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت (عليه السلام) على ما ورد من طرقهم:
ففي الفقيه بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: إن تعرفوه۱ بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد
الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك.
و الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته بين الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة.
فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لأوقاتها في مصلاه؛ فإن ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك أن الصلاة ستر و كفارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي إذا كان لا يحضر مصلاه و لا يتعاهد جماعة المسلمين.
و إنما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع، و لو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأن من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هم بأن يحرق قوما في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين و قد كان منهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عز و جل و من رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ و قد كان يقول (صلى الله عليه وآله و سلم). لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة.
أقول: و رواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، و الستر و العفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، و الرواية كما ترى تجعل أصل العدالة أمرا معروفا بين المسلمين و تبين أن الأثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة النفسية هو ترك محارم الله و الكف عن الشهوات الممنوعة، و معرف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين على ما بينه (عليه السلام) تفصيلا.
و فيه، عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.
و فيه: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا.
و في الكافي، بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن مواليك قد اختلفوا فأصلي معهم جميعا؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه.
أقول: دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة، و فيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام.
(كلام في اليمين)
حقيقة معنى قولك: «لعمري إن كذا و كذا، و حياتي إن الأمر على ما أخبرته» أنك تعلق ما أخبرت به من الخبر و تقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك و حياتك التي لها مكانة و احترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود و العدم، و لو كنت كاذبا في خبرك أبطلت مكانة حياتك و احترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانية الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.
و معنى قولك: «أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا» إنك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة و العزة التي لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى و إذهابا لحرمة الإيمان به.
و كذا معنى ق