المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الخامس
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
بقية سورة النساء
[سورة النساء (٤): الآیات ٧٧ الی ٨٠]
{أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ كَخَشْيَةِ اَللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتَالَ لَوْ لاَ أَخَّرْتَنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ اَلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٧٧ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ٧٨ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً ٧٩ مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ٨٠}
(بيان)
الآيات متصلة بما قبلها، و هي جميعا ذات سياق واحد، و هذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الإيمان و فيها عظة و تذكير بفناء الدنيا، و بقاء نعم الآخرة، و بيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات و السيئات.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ} - إلى قوله - {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، كف الأيدي كناية عن الإمساك عن القتال لكون القتل الذي يقع فيه من عمل الأيدي، و هذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدي الكفار و بغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك و لا يقابلوه بسل السيوف فأمرهم الله بالكف عن ذلك، و إقامة شعائر الدين من صلاة و زكاة ليشتد عظم الدين و يقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه، و لو لا ذلك لانفسخ هيكل الدين، و انهدمت أركانه، و تلاشت أجزاؤه.
ففي الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار، و لا يصبرون على الإمساك و تحمل الأذى حين لم يكن لهم من العدة و القوة ما يكفيهم للقاء عدوهم فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو و هم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتَالَ} ظاهره أنه عطف على قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} و خاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع {يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ} إلى الماضي {قَالُوا}، فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقعون للقتال، و يستصعبون الصبر فأمروا بكف أيديهم.
و من الجائز أن يكون قولهم: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتَالَ لَوْ لاَ أَخَّرْتَنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} محكيا عن لسان حالهم، كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فإن القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع.
و توصيف الأجل الذي هو أجل الموت حتف الأنف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل، و العيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا و أجلا قريبا فما لله سبحانه لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، و يعجل لهم الموت؟ و هذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التي هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضي سريعا و يعفى أثره، و دونه الحياة الآخرة التي هي الحياة الباقية الحقيقية فهي خير، و لذلك أجيب عنهم بقوله: {قُلْ} (إلخ).
قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ اَلدُّنْيَا قَلِيلٌ} (إلخ) أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد و القتل في سبيل الله تعالى، و محصله أنهم ينبغي أن يكونوا متقين في إيمانهم، و الحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة، و الآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التي هي خير على متاع الدنيا القليل لأنهم مؤمنون و على صراط التقوى، و لا يبقى لهم إلا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم و يظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير، و ليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا.
و قد ظهر بهذا البيان أن قوله: {لِمَنِ اِتَّقى} من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم، و دعوى انطباقه على المورد، و التقدير و الله أعلم : و الآخرة خير لكم لأنكم ينبغي أن تكونوا لإيمانكم أهل تقوى، و التقوى سبب للفوز بخير الآخرة فقوله: {لِمَنِ اِتَّقىَ} كالكناية التي فيها تعريض.
قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} البروج جمع برج و هو البناء المعمول على الحصون، و يستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به و عنه، و أصل معناه الظهور، و منه التبرج بالزينة و نحوها، و التشييد الرفع، و أصله من الشيد و هو الجص لأنه يحكم البناء و يرفعه و يزينه فالبروج المشيدة الأبنية المحكمة المرتفعة التي على الحصون يأوي إليها الإنسان من كل عدو قادم.
و الكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه، و جعله مثلا لكل ركن شديد تتقى به المكاره، و محصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه، و لو لجأتم منه إلى أي ملجإ محكم متين فلا ينبغي لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال و لم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت، و فاته إدراككم فإن أجل الله لآت.
قوله تعالى: {وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية جملتان أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم، و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الأمر فيما يصيب الإنسان من حسنة و سيئة.
و اتصال السياق يقضي بكون الضعفاء المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلون ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم، و لا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال
كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: ١٣١) و هو مأثور عن سائر الأمم في خصوص أنبيائهم، و هذه الأمة في معاملتهم نبيهم لا يقصرون عن سائر الأمم، و قد قال تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (البقرة: ١١٨) و هم مع ذلك أشبه الأمم ببني إسرائيل، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): «إنهم لا يدخلون جحر ضب إلا دخلتموه» و قد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.
و قد تمحل في الآيات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود و المنافقين، و أنت ترى أن السياق يدفعه.
و كيف كان فالآية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة و السيئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه، و قد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى و هو الحسنة، و قسما إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و هو السيئة فهذه الحسنات و السيئات هي الحوادث التي كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخذ في ترفيع مباني الدين و نشر دعوته و صيته بالجهاد، فهي الفتح و الظفر و الغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب و المغازي، و القتل و الجرح و البلوى في غير ذلك، و إسنادهم السيئات إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأي و رداءة التدبير إليه.
فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بأن يجيبهم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ} فإنها حوادث و نوازل ينظمها ناظم النظام الكوني، و هو الله وحده لا شريك له إذ الأشياء إنما تنقاد في وجودها و بقائها و جميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير. على ما يعطيه تعليم القرآن.
ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم و خمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة و فهمها فقال: {فَمَا لِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.
قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الأمر، صرف الخطاب عنهم لسقوط فهمهم، و وجه وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و بين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيئة لذاك الشأن، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التي هي من الأحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات، و لا أقل بين جميع الأفراد من الإنسان
من مؤمن أو كافر، أو صالح أو طالح، و نبي أو من دونه.
فالحسنات و هي الأمور التي يستحسنها الإنسان بالطبع كالعافية و النعمة و الأمن و الرفاهية كل ذلك من الله سبحانه، و السيئات و هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض و الذلة و المسكنة و الفتنة كل ذلك يعود إلى الإنسان لا إليه سبحانه فالآية قريبة مضمونا من قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: ٥٣) و لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات و السيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى كما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: {وَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول وظيفتك البلاغ، و شأنك الرسالة لا شأن لك سواها و ليس لك من الأمر شيء حتى تؤثر في ميمنة أو مشأمة، أو تجر إلى الناس السيئات، و تدفع عنهم الحسنات، و فيه رد تعريضي لقول أولئك المتطيرين في السيئات {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} تشؤما به (صلی الله عليه و أله) ثم أيد ذلك بقوله {وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً}.
قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ} استئناف فيه تأكيد و تثبيت لقوله في الآية السابقة: {وَ أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} و بمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلا رسولا منا من يطعك بما أنت رسول فقد أطاع الله، و من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا.
و من هنا يظهر أن قوله: {مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ} من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للإشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله: {وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} و على هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله: {وَ أَرْسَلْنَاكَ} إلى الغيبة في قوله: {مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ} ثم إلى الخطاب في قوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ} .
(كلام في استناد الحسنات و السيئات إليه تعالى)
يشبه أن يكون الإنسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال في أبناء نوعه الذي هو اعتدال الخلقة، و تناسب نسب الأعضاء و خاصة في الوجه ثم
في سائر الأمور المحسوسة من الطبيعيات و يرجع بالآخرة إلى موافقة الشيء لما يقصد من نوعه طبعا.
فحسن وجه الإنسان كون كل من العين و الحاجب و الأذن و الأنف و الفم و غيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركب في نفسه عليها، و كذا نسبة بعضها إلى بعض، و حينئذ تنجذب النفس و يميل الطبع إليه، و يسمى كون الشيء على خلاف هذا الوصف بالسوء و المساءة و القبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن الحسن معنى وجودي.
ثم عمم ذلك إلى الأفعال و المعاني الاعتبارية و العناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع و هو سعادة الحياة الإنسانية أو التمتع من الحياة، و عدم ملاءمتها فالعدل حسن، و الإحسان إلى مستحقه حسن، و التعليم و التربية و النصح و ما أشبه ذلك في مواردها حسنات، و الظلم و العدوان و ما أشبه ذلك سيئات قبيحة لملاءمة القبيل الأول لسعادة الإنسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه و عدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك، و هذا القسم من الحسن و ما يقابله تابع للفعل الذي يتصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الأفعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع و غرضه كذلك كالعدل، و منها ما قبحه كذلك كالظلم.
و من الأفعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال و الأوقات و الأمكنة أو المجتمعات فالضحك و الدعابة حسن عند الخلان لا عند الأعاظم، و في محافل السرور دون المأتم، و دون المساجد و المعابد، و الزنا و شرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين.
و لا تصغ إلى قول من يقول: إن الحسن و القبح مختلفان متغيران مطلقا من غير ثبات و لا دوام و لا كلية، و يستدل على ذلك في مثل العدل و الظلم بأن ما هو عدل عند أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى العدل على شيء معين فالجلد للزاني عدل في الإسلام و ليس كذلك عند الغربيين، و هكذا.
و ذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الأمر، و اشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، و لا كلام لنا مع من هذا مبلغ فهمه.
و الإنسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعية دفعة أو تدريجا و لا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل، و يسمى ظالما، و لا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه، و للكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهم منه.
ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التي تستقبل الإنسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل و هي الحوادث الفردية أو الاجتماعية التي منها ما يوافق آمال الإنسان، و يلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة أو رخاء، و تسمى حسنات، و منها ما ينافي ذلك كالبلايا و المحن من فقر أو مرض أو ذلة أو إسارة و نحو ذلك، و تسمى سيئات.
فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة و السيئة يتصف بهما الأمور أو الأفعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن و القبح وصفان إضافيان، و إن كانت الإضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة، و في بعضها متغيرة كبذل المال الذي هو حسن بالنسبة إلى مستحقه و سيئ بالنسبة إلى غير المستحق.
و أن الحسن أمر ثبوتي دائما و المساءة و القبح معنى عدمي و هو فقدان الأمر صفة الملاءمة و الموافقة المذكورة، و إلا فمتن الشيء أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة و عدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا.
فالزلزلة و السيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لأعدائهم و هما نازلتان سيئتان عليهم أنفسهم، و كل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في الأرض أو الفجار العتاة، و هو بعينه ضراء إذا نزل بالأمة المؤمنة الصالحة.
و أكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا، و هو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضا منه لفقدانه امتثال النهي الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه، أو امتثال الأمر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله، و المباشرة بين الرجل و المرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا، و سيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الإلهي فالحسنات عناوين وجودية في الأمور و الأفعال، و السيئات عناوين عدمية فيهما، و متن الشيء المتصف بالحسن و السوء واحد.
و الذي يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشيء ما خلا الله عز اسمه مخلوق لله قال تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزمر: ٦٢) و قال تعالى: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: ٢) و الآيتان تثبتان الخلقة في كل شيء، ثم قال تعالى: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: ٧) فأثبت الحسن لكل مخلوق، و هو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها.
فكل شيء له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة و الوجود، و التأمل في معنى الحسن (على ما تقدم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشيء و ملاءمته للغرض المطلوب و الغاية المقصودة منه، و أجزاء الوجود و أبعاض هذا النظام الكوني متلائمة متوافقة، و حاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه، و يبطل بعضه بعضا فيخل بالغرض المطلوب، أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الذي يبهت العقل و يحير الفكرة. و قد قال تعالى: {هُوَ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} (الزمر: ٤) و قال تعالى: {وَ هُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: ١٨) و قال تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: ٤٤) فهو تعالى لا يقهره شيء و لا يعجزه شيء في ما يريده من خلقه و يشاؤه في عباده.
فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى، و كذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى و إن كانت بحسب نسبة أخرى سيئة، و هذا هو الذي يفيده قوله تعالى: {وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: ٧٨) و قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: ١٣١) إلى غير ذلك من الآيات.
و أما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الإنسان إلى نفس الإنسان بقوله تعالى في هذه السورة: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الآية (النساء: ٧٩) و قوله تعالى: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: ٣٠) و قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
(الرعد: ١١)، و قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الأنفال: ٥٣) و غيرها من الآيات.
و توضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات أمورا حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الأشياء التي تتضرر بها فيرجع الأمر بالآخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الأشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه و تشتاق إليه بحسب طباعها، فإمساك الجود هذا هو الذي يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الأشياء المتضررة كما يوضحه كل الإيضاح قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} (فاطر: ٢).
ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة و النقيصة في إفاضة رحمته إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه، و ما يمكنه أن يستوفيه من ذلك، قال تعالى فيما ضربه من المثل: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (الرعد: ١٧) و قال: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: ٢١) فهو تعالى إنما يعطي على قدر ما يستحقه الشيء و على ما يعلم من حاله، قال: {أَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ} (الملك: ١٤).
و من المعلوم أن النعمة و النقمة و البلاء و الرخاء بالنسبة إلى كل شيء ما يناسب خصوص حاله كما يبينه قوله تعالى: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: ١٤٨) فإنما يولي كل شيء و يطلب وجهته الخاصة به و غايته التي تناسب حاله.
و من هنا يمكنك أن تحدس أن السراء و الضراء و النعمة و البلاء بالنسبة إلى هذا الإنسان الذي يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط ينتهي به بحسن السلوك و عدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.
و القرآن الكريم يصدق هذا الحدس، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الأنفال: ٥٣) فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة و الأعمال الصالحة دخل في النعمة التي خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته و قال: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: ٣٠) فلأعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل و يصيبهم من المصائب، و الله يعفو عن كثير منها.
و قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الآية (النساء: ٧٩).
و إياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزمر: ٦٢) و قوله: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: ٧) فعد كل شيء مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه و قد قال: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: ٦٤) و قال: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} (طه: ٥٢) فمعنى قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} (الآية) أن ما أصابك من حسنة و كل ما أصابك حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده و تشتهيه و إن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيئ، و استدعتها كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر.
و الآية كما تقدم و إن كانت خصت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)بالخطاب لكن المعنى عام للجميع، و بعبارة أخرى هذه الآية كالآيتين الأخريين {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً} (الآية) {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} (الآية) متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردي. فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية و إرادة و اختيارا غير ما للفرد من ذلك.
فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون و الغابرون من أفراده، و يؤاخذ متأخروهم بسيئات المتقدمين، و الأموات بسيئات الأحياء، و الفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب و هكذا، و ليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا، و قد تقدم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصيب في غزوة أحد في وجهه و ثناياه، و أصيب المسلمون بما أصيبوا، و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعة و قد خالفوا أمر الله و رسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدي مجتمعة و هو فيهم، و إن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله، و في طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات.
و كذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن و لا يرى إلا الحق، و أما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.
نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ} (الأعراف: ٩٦) و قوله: {وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: ٢٤) و قوله: {وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} (الأنبياء: ٨٦) و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
إلا إن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شيء مما يقصده من الغاية، و لا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله و هدايته قال تعالى: {اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} (طه: ٥٠) و قال تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} (النور: ٢١) و يتبين بهاتين الآيتين و ما تقدم معنى آخر لكون الحسنات لله عز اسمه، و هو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله و إيصال منه فالحسنات كلها لله و السيئات للإنسان، و به يظهر معنى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (الآية).
فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له، و الخلق و الحسن لا ينفكان، و له الحسنات بما أنها خيرات، و بيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه، و لا ينسب إليه شيء من السيئات فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة و شأنه الخلق، و إنما السيئة فقدان الإنسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدي الناس، و أما الحسنة و السيئة بمعنى الطاعة و المعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} (البقرة: ٢٦) في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و أنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام، وجدت من شتات القول و مختلف الآراء و الأهواء و أقسام الإشكالات ما يبهتك، و أرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للمتدبر في كلامه تعالى، و عليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض، و تفهم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة و السيئة، و النعمة و النقمة، و الفرق بين شخصية المجتمع و الفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.
(بحث روائي)
و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا} الآية أخرج النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف و أصحابا له أتوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا نبي الله كنا في عز و نحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} (الآية).
و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال :كان أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و هم يومئذ بمكة قبل الهجرة، يسارعون إلى القتال فقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين، و ذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك، فنهاهم نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن ذلك قال: لم أومر بذلك، فلما كانت الهجرة و أمروا بالقتل كره القوم ذلك، و صنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ اَلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
و في تفسير العياشي، عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال: الله تعالى: يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء و تقول، و بقوتي أديت إلي فريضتي، و بنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذاك أني أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذاك أني لا أسأل عما أفعل، و هم يسألون.
أقول: و قد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الأول من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} (البقرة: ٢٦) و تقدم البحث عنها هناك.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء و ما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من أشد الناس بلاء في الدنيا،؟ فقال النبيون ثم الأمثل فالأمثل، و يبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه و حسن أعماله: فمن صح إيمانه و حسن عمله اشتد بلاؤه، و من سخف إيمانه و ضعف عمله قل بلاؤه.
أقول: و من الروايات المشهورة قوله (صلی الله عليه و أله): الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر.
و فيه أيضا بعدة طرق عنهما (عليه السلام): أن الله عز و جل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا.۱
و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه.
و فيه أيضا عن الباقر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، و يحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.
و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله و بدنه نصيب.
و في العلل، عن علي بن الحسين عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و لو كان المؤمن على جبل، لقيض الله عز و جل له من يؤذيه ليأجره على ذلك.
و في كتاب التمحيص، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا تزال الهموم و الغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا. و عنه (عليه السلام) قال: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة، إلا عرض له أمر يحزنه يذكر ربه.
و في النهج، قال (عليه السلام): لو أحبني جبل لتهافت و قال (عليه السلام): من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا.
أقول: قال ابن أبي الحديد في شرحه، قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال له: لا يحبك إلا مؤمن، و لا يبغضك إلا منافق و قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه جبل لتهافت (انتهى).
و اعلم أن الأخبار في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيد ما قدمناه من البيان.
و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر و الخطيب عن ابن عمر، قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في نفر من أصحابه، فقال: يا هؤلاء أ لستم تعلمون أني رسول الله إليكم، قالوا: بلى قال: أ لستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه، أنه من أطاعني فقد أطاع الله،؟ قالوا: بلى
نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، و أن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، و إن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم، و إن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين.
أقول: قوله (صلی الله عليه و أله): و إن صلوا (إلخ)، كناية عن وجوب كمال الاتباع.
[سورة النساء (٤): الآیات ٨١ الی ٨٤ ]
{وَ يَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً ٨١ أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً ٨٢ وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ٨٣ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً ٨٤}
(بيان)
الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين و فائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا و استبصروا.
قوله تعالى: {وَ يَقُولُونَ طَاعَةٌ} إلخ {طَاعَةٌ} مرفوع على الخبرية على ما قيل و التقدير أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة و البروز الظهور و الخروج و التبييت من البيتوتة و معناه إحكام الأمر و تدبيره ليلا و الضمير في {تَقُولُ} راجع إلى {طَائِفَةٌ} أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و المعنى: و الله أعلم و يقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد أمرنا طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به و قالوا لك، أو غير ما
قلته أنت لهم و هو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
ثم أمر الله رسوله بالإعراض عنهم و التوكل في الأمر و العزيمة فقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً} و لا دليل في الآية يدل على كون المحكي عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الأمر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك.
قوله تعالى: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ} الآية تحضيض في صورة الاستفهام. التدبير هو أخذ الشيء بعد الشيء و هو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه و ذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأول أعني التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة و إن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضا.
فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية و يراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها و مدينتها و محكمها و متشابهها و يضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها فالآيات يصدق قديمها حديثها و يشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضا أو يتدافعا و لا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني و المقاصد بكون البعض أحكم بيانا و أشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود.
فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله و ليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف و ذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية و لا سيما الإنسان الذي يرتاب أهل الريب أنه من كلامه كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية و طبيعة الكون على التحرك و التغير و التكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات.
ما من إنسان إلا و هو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس و أن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم و أمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذي فيه شيء من الامتداد الوجودي كالكتاب يكتبه الكاتب و الشعر يقوله الشاعر و الخطبة يخطبها الخطيب و هكذا يوجد عند الإمعان آخره خيرا من أوله و بعضه أفضل من بعض.
فالواحد من الإنسان لا يسلم في نفسه و ما يأتي به من العمل من الاختلاف، و ليس هو بالواحد و الاثنين من التفاوت و التناقض بل الاختلاف الكثير، و هذا ناموس كلي جار في الإنسان و ما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول و التكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته و أحواله.
و من هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: {اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، و المعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا و كان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذي في كل ما هو من عند غير الله، و ليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.
و بالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشئون المرتبطة بالإنسانية من معارف المبدأ و المعاد و الخلق و الإيجاد، ثم الفضائل العامة الإنسانية، ثم القوانين الاجتماعية و الفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق و لا جليل، ثم القصص و العبر و المواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، و بآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا و عشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل و نهار، و من حضر و سفر، و من حرب و سلم، و من ضراء و سراء، و من شدة و رخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، و لا في معارفه العالية و حكمه السامية، و لا في قوانينه الاجتماعية و الفردية، بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه و أصوله، يعود تفاصيل شرائعه و حكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، و ينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.
و الإنسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضي بشعوره الحي، و قضائه الجبلي أن المتكلم بهذا الكلام ليس ممن يحكم فيه مرور الأيام و التحول و التكامل العاملان في الأكوان بل هو الله الواحد القهار.
و قد تبين من الآية (أولا): أن القرآن مما يناله الفهم العادي. و (ثانيا): أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا. و (ثالثا): أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا و لا إبطالا و لا تكميلا و لا تهذيبا، و لا أي حاكم يحكم عليه أبدا، و ذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول و التغير بالضرورة، و إذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف
فليس يقبل التحول و التغير فليس يقبل نسخا و لا إبطالا و لا غير ذلك، و لازم ذلك أن الشريعة الإسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: {وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}، الإذاعة هي النشر و الإشاعة، و في الآية نوع ذم و تعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، و في قوله في ذيل الآية: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ} (إلخ) دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة، و ليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك، و يؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال و لو بقي وحده بلا ناصر.
و يظهر به أن الأمر الذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف التي كانت تأتي بها أيدي الكفار و رسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق و الخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر و تبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.
فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، و قد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، و الآيات هاهنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: {اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ} - إلى قوله - {إِنَّمَا ذَلِكُمُ اَلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٧٥).
الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح و هو محنة أحد إلى الخروج إلى الكفار، و أن أناسا كانوا يخزلون الناس و يخذلونهم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و يخوفونهم جمع المشركين.
ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، و تعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم و يخافوا الله أن كانوا مؤمنين.
و المتدبر فيها و في الآيات المبحوث عنها أعني قوله {وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (الآية) لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر الصغرى و يعدها في جملة ما يعد من الخلال التي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتَالُ} (الآية) و قوله: {وَ قَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتَالَ} (الآية) و قوله: {وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}
(الآية) و قوله: {وَ يَقُولُونَ طَاعَةٌ} (الآية) ثم يجري على هذا المجرى قوله: {وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (الآية).
قوله تعالى: {وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لم يذكر هاهنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} الآية (النساء: ٥٩) لأن الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، و لا صنع فيه لغير الله و رسوله.
و أما الرد المذكور هاهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، و لا معنى لرده إلى الله و كتابه، بل الصنع فيه للرسول و لأولي الأمر منهم، لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه و يذكروا للرادين صحته أو سقمه و صدقه أو كذبه.
فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، و الصدق من الكذب على حد قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (المائدة: ٩٤) و قوله: {وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ} (العنكبوت. ١١).
و الاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز و المعرفة، و أصله من النبط (محركة)، و هو أول ما يخرج من ماء البئر، و على هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول و أولي الأمر بمعنى أنهم يحققون الأمر فيحصلون على الحق و الصدق و أن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعلمون حق الأمر و صدقه بإنباء الرسول و أولي الأمر لهم.
فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول و أولي الأمر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول و أولي الأمر أي إذا استصوبه المسئولون و رأوه موافقا للصلاح، و إن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه و يبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.
و أما أولوا الأمر في قوله: {وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ}، فالمراد بهم هو المراد بأولي الأمر في قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: ٥٩) على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره و قد تقدم أن أصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أن الذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.
أما القول بأن أولي الأمر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الإمارة على
سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم و دائرة عملهم، و أما أمثال ما هو مورد الآية و هو الإخلال في الأمن و إيجاد الخوف و الوحشة العامة التي كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون و إرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لأمراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.
و أما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء و هم يومئذ المحدثون و الفقهاء و القراء و المتكلمون في أصول الدين إنما خبرتهم في الفقه و الحديث و نحو ذلك، و مورد قوله: {وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ} هي الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما أفضى قبولها أو ردها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيوية و المضار الاجتماعية إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأي مصلح آخر، أو يبطل مساعي أمة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم و يضرب بالذل و المسكنة و القتل و الأسر عليهم، و أي خبرة للعلماء من حيث إنهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها و ردها إليهم؟ و أي رجاء في حل أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟ و أما القول بأن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بكر و عمر و عثمان و عليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو عام يشمله و ما بعده، و على الأول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس و من بين الصحابة خاصة، و الحديث و التاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، و على الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، و كان لازمه أن تتصدى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالأحكام الخاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا أثر في الآية من ذلك.
و أما القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل و العقد، و هذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جماعة مشخصة هم أهل الحل و العقد على حد ما يوجد بين الأمم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، و جمعية المبعوثين إلى المنتدى و غير ذلك فإن الأمة لم يكن يجري فيها إلا حكم الله و رسوله، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة و خاصة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم.
و كيف كان، يرد عليه أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يجمع في مشاورته المؤمنين و المنافقين كعبد الله
بن أبي و أصحابه، و حديث مشاورته يوم أحد معروف، و كيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله.
على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و بعده عبد الرحمن بن عوف، و هذه الآيات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين و تعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به و بأصحابه أعني قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا} (الآيات) فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف و أصحاب له، رواه النسائي في صحيحة و رواه الحاكم في مستدركه و صححه و رواه الطبري و غيره في تفاسيرهم، و قد مرت الرواية في البحث الروائي السابق. و إذا كان الأمر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر و رده إلى مثل هؤلاء؟
فالمتعين هو الذي رجحناه في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} (الآية).
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} قد تقدم أن الأظهر كون الآيات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى، و بعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف و الوحشة بين الناس و إخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبإ، و اتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.
و بذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع و جهز الجيوش فاخشوهم و لا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع، و قد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، و لم يسلم من ذلك إلا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و بعض خاصته و هو المراد بقوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً} فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل و ساروا.
و هذا الذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذي يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة.
و للمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شيء منها من فساد أو تكلف، فقد قيل: المراد بالفضل و الرحمة ما هداهم الله إليه من إيجاب طاعته و طاعة رسوله و أولي الأمر منهم، و المراد بالمستثنى هم المؤمنون أولو الفطرة السليمة و القلوب الطاهرة، و معنى الآية: و لو لا هذا الذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، و إرجاع الأمر إلى
الرسول و إلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق و الصلاح. و فيه أنه تخصيص الفضل و الرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، و هو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الآية أنه امتنان في أمر ماض منقض.
و قيل: إن الآية على ظاهرها، و المؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل و رحمة زائدين و إن كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الإلهية، و فيه أن الذي يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه و لم يدفع في الآية. و قد قال تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} (النور: ٢١) و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)و هو خير الناس: {وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ} (الإسراء: ٧٥).
و قيل: إن المراد بالفضل و الرحمة القرآن و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و قيل: المراد بهما الفتح و الظفر، فيستقيم الاستثناء لأن الأكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح و ظفر و ما أشبههما من العنايات الظاهرية الإلهية، و لا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم. و قيل: الاستثناء إنما هو من قوله: {أَذَاعُوا بِهِ} و قيل: الاستثناء من قوله: {اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} و قيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ و هو دليل على الجمع و الإحاطة، فمعنى الآية: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، و هذا نظير قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسى إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ} (الأعلى: ٧) فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، و جميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.
قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ} التكليف من الكلفة بمعنى المشقة لما فيه من تحميل المشقة على المكلف، و التنكيل من النكال، و هو على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله و ليعتبر به غيره من المكلفين.
و الفاء في قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} للتفريع و الأمر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الآيات السابقة. و هو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو و تبطئتهم في ذلك، و يدل عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} (إلخ) فإن المعنى: فإذا
كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد و يكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك، و لا يشق عليك تثاقلهم و مخالفتهم لأمر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك، و إنما يتوجه إليك تكليف نفسك لا تكليفهم، و إنما عليك في غيرك أن تحرضهم، {فَقَاتِلْ} {وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و قوله {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.
و قوله: {عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَكُفَّ} إلخ قد تقدم أن «عسى» تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن «عسى» من الله حتم.
و في الآية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، و أن يعرض عن المتثاقلين و لا يلح عليهم بالإجابة و يخليهم و شأنهم، و لا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه و تحريض المؤمنين أطاع من أطاع، و عصى من عصى.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عير أقواما بالإذاعة في قوله عز و جل: {وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} فإياكم و الإذاعة.
و فيه بإسناده عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز و جل: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} و قال: {وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فرد أمر الناس إلى أولي الأمر منهم، الذين أمر بطاعتهم و الرد إليهم.
أقول: و الرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد بأولي الأمر في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ} قال: هم الأئمة.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا (عليه السلام) في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية، و روى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص، عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قوله {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ} ، قال: الفضل رسول الله، و رحمته أمير المؤمنين.
و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، و حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: {لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ} قال: فضل الله رسوله، و رحمته ولاية الأئمة.
و فيه عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الرحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الفضل علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أقول: و الروايات من باب الجري، و المراد النبوة و الولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال و مصيدة الشيطان، إحداهما: سبب مبلغ، و الأخرى: سبب مجر، و الرواية الأخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في كتابه بالرحمة حيث قال: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الآية) (الأنبياء: ١٠٧).
و في الكافي، بإسناده عن علي بن حديد عن مرازم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله كلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه، و إن لم يجد فئة تقاتل معه، و لم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله و لا بعده، ثم تلا هذه الآية: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} .
ثم قال: و جعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز و جل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} و جعل الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعشر حسنات
و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الناس لعلي (عليه السلام)، إن كان له حق فما منعه أن يقوم به،؟ قال فقال إن الله لا يكلف هذا لإنسان واحد إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ} فليس هذا إلا للرسول، و قال لغيره: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ} فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره.
و فيه عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) شيئا
قط فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، و إن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، و لا كافي بالسيئة قط، و ما لقي سرية مذ نزلت عليه: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} إلا ولى بنفسه.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر.
[سورة النساء (٤): الآیات ٨٥ الی ٩١]
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ٨٥ وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ٨٦ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ حَدِيثاً ٨٧ فَمَا لَكُمْ فِي اَلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ٨٨ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ٨٩ إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ٩٠سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ٩١}
(بيان)
الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا (٨٥-٩١) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين و هم المنافقون منهم، و يظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم و شاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم، و اختلفت أنظار المسلمين في أمرهم، فمن قائل يرى قتالهم، و آخر يمنع منه و يشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان، و الله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال و يحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم.
و يلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال، و يستهل لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية، و ببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.
قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} النصيب و الكفل بمعنى واحد، و لما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية و نحو ذلك كانت لها نوع سببية لإصلاح شأن فلها شيء من التبعة و المثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، و هو مقصد الشفيع و المشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة، و هو قوله تعالى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً} (إلخ).
و في ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين، و تنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، و يجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر و فساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا، فإن في ترك الفساد القليل على حاله، و إمهاله في أن ينمو و يعظم فسادا معقبا لا يقوم له شيء، و يهلك به الحرث و النسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيئة و هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و النفاق و الشرك المفسدين في الأرض.
قوله تعالى: {وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (الآية) أمر بالتحية قبال
التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، و هو حكم عام لكل تحية حيي بها، غير أن مورد الآيات هو تحية السلم و الصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.
قوله تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} (إلخ) معنى الآية ظاهر، و هي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة و السيئة، و لا تبطلوا تحية من يحييكم بالإعراض و الرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه و يجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه و رده.
قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي اَلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} (الآية) الفئة الطائفة، و الإركاس الرد.
و الآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة و التمهيد أعني قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً} (الآية)، و المعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطي لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين، و تحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، و فئة تشفع لهم و تحرض على ترك قتالهم، و الإغماض عن شجرة الفساد التي تنمو بنمائهم، و تثمر برشدهم، و الله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الأعمال، أ تريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ و من يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.
و في قوله: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، و لو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به و ألقى إلى من هو بين واضح عنده و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (إلخ) هو بمنزلة البيان لقوله: {وَ اَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ} و المعنى: أنهم كفروا و زادوا عليه أنهم ودوا و أحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.
ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم و قتلهم حيث وجدتموهم، و الاجتناب عن ولايتهم و نصرتهم، و في قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} . دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، و إن تولوا فيقتلوهم.
قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} استثنى الله سبحانه من قوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ} طائفتين: (إحداهما) {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ} (إلخ) أي بينهم و بين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف و نحوه، و (الثانية) الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين و مقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين و يلقون إليهم السلم لا للمؤمنين و لا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، و قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي ضاقت.
قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم و موادعتهم، و لذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله: {فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ} بالشرط المنفي أعني قوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} (إلخ) و هذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم و معنى الآية ظاهر.
كلام في معنى التحية
الأمم و الأقوام على اختلافها في الحضارة و التوحش و التقدم و التأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها و أنواعها من الإشارة بالرأس و اليد و رفع القلانس و غير ذلك، و هي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.
و أنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها و على اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع و الهوان و التذلل يبديه الداني للعالي، و الوضيع للشريف، و المطيع لمطاعه، و العبد لمولاه، و بالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، و إن اختلفت ألوانه، و لذلك ما نرى أن هذه التحية تبدأ من المطيع و تنتهي إلى المطاع، و تشرع من الداني الوضيع و تختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.
و الإسلام كما تعلم أكبر همه إمحاء الوثنية و كل رسم من الرسوم ينتهي إليها،
و يتولد، منها و لذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية و سنة مقابلة لسنة الوثنية و رسم الاستعباد، و هو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، و دحض حريته الفطرية الإنسانية الموهوبة له فإن أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه و عرضه و ماله، و كل أمر يئول إلى أحد هذه الثلاثة.
و هذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقاؤه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (النور: ٦١) و قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النور: ٢٧) و قد أدب الله رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتسليم للمؤمنين و هو سيدهم فقال: {وَ إِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} (الأنعام: ٥٤) و أمره بالتسليم لغيرهم في قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: ٨٩).
و التحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر و نحوه، و في لسان العرب: و كانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، و أبيت اللعن، و يقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، و أنه لا حرب هنالك. ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، و أمروا بإفشائه. (انتهى).
إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه (عليه السلام) كثيرا: و لا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج و نحوه قال تعالى حكاية عنه فيما يحاور أباه: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (مريم: ٤٧) و قال تعالى: {وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} (هود: ٦٩) و القصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.
و لقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، و استعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: {سَلاَمٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ} (الصافات: ٧٩) و قال: {سَلاَمٌ عَلى إِبْرَاهِيمَ} (الصافات: ١٠٩) و قال: {سَلاَمٌ عَلى مُوسى وَ هَارُونَ} (الصافات: ١٢٠) و قال: {سَلاَمٌ عَلى إِلْيَاسِينَ} (الصافات: ١٣٠) و قال: {وَ سَلاَمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ} (الصافات: ١٨١).
و ذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} (النحل: ٣٢) و قال: {وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} (الرعد: ٢٤) و ذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: {وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} (يونس: ١٠)، و قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} (الواقعة: ٢٦).
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى {وَ إِذَا حُيِّيتُمْ} (الآية) قال: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره، عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الآية السلام و غيره من البر.
و في الكافي، بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): السلام تطوع و الرد فريضة.
و فيه بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يسلم الصغير على الكبير، و المار على القاعد، و القليل على الكثير.
و فيه بإسناده عن عيينة۱ عن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القليل يبدءون الكثير بالسلام، و الراكب يبدأ الماشي، و أصحاب البغال يبدءون أصحاب الحمير، و أصحاب الخيل يبدءون أصحاب البغال.
و فيه بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، و الماشي على القاعد، و إذا لقيت جماعة سلم الأقل على الأكثر، و إذا لقي واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة.
أقول: و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، عن البيهقي عن زيد بن أسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه بالإسناد عنه (عليه السلام) قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم،
و إذا سلم على القوم و هم جماعة، أجزأهم أن يرد واحد منهم.
و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) و هو في الصلاة فقلت: السلام عليك، فقال: السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلما انصرف قلت: أ يرد السلام و هو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.
و فيه بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سلم عليك الرجل و أنت تصلي، قال: ترد عليه خفيا كما قال.
و في الفقيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: لا تسلموا على اليهود، و لا على النصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأوثان، و لا على موائد شراب الخمر، و لا على صاحب الشطرنج و النرد، و لا على المخنث، و لا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، و لا على المصلي لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع و الرد فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل جالس على غائط و لا على الذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه.
أقول: و الروايات في معنى ما تقدم كثيرة، و الإحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات، فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، و نشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة و التعادل من استعلاء و إدحاض، و ما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، و القليل للكثير، و الواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة و إنما هو مبني على وجوب رعاية الحقوق فإن الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، و إهمال أمر الفضائل و المزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل، و حق صاحب الحق، و إنما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، و يتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.
و أما النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنما هو متفرع على النهي عن توليهم و الركون إليهم كما قال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصَارى أَوْلِيَاءَ} (المائدة: ٥١) و قال: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: ١) و قال {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} (هود: ١١٣) إلى غير ذلك من الآيات.
نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق
التسليم عليهم ليحصل به تمام الأنس و تمتزج النفوس كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك في قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ} (الزخرف: ٨٩) و كما في قوله يصف المؤمنين: {وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً} (الفرقان: ٦٣).
و تفسير الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: و عليك السلام و رحمة الله، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله، فقال: و عليك السلام و رحمة الله و بركاته، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله {وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (الآية) فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): إنك لم تترك فضلا و رددت عليك مثله.
أقول: و روي مثله في الدر المنثور، عن أحمد في الزهد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي. و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام و رحمة الله و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت.
أقول: و فيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام، و هو قول المسلم «السلام عليك و رحمة الله و بركاته» مأخوذة من حنيفية إبراهيم، (عليه السلام) و تأييد لما تقدم أن التحية بالسلام من الدين الحنيف.
و فيه عن الصادق (عليه السلام): أن من تمام التحية للمقيم المصافحة، و تمام التسليم على المسافر المعانقة.
و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، و هو يقول: يغفر الله لكم و يرحمكم، قال الله تعالى: {وَ إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (الآية)
و في المناقب: جاءت جارية للحسن (عليه السلام) بطاق ريحان، فقال لها، أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام): أدبنا الله تعالى فقال: {إِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (الآية) و كان أحسن منها إعتاقها.
أقول: و الروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.
و في المجمع: في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي اَلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (الآية) قال اختلفوا في من نزلت هذه الآية فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا: فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون، و قال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية. قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في تفسير القمي، في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} (الآية) أنها نزلت في أشجع و بني ضمرة، و هما قبيلتان، و كان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هادن بني ضمرة، و واعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كلا إنهم أبر العرب بالوالدين، و أوصلهم للرحم، و أوفاهم بالعهد.
و كان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة، و هم بطن من كنانة، و كانت أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف بالمراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه و بين بني ضمرة فأنزل الله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} .
ثم استثنى بأشجع فقال: {إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} .
و كانت أشجع محالها البيضاء و الحل و المستباح، و قد كانوا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فهابوا لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رجيلة، و هم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، و ذلك في شهر ربيع الأول
سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أسيد بن حصين و قال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.
فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة و هو رئيس أشجع فسلم على أسيد و على أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع أسيد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني و بينهم. ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، و ليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، و ضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم و وادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية {إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} إلى قوله {فَمَا جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} .
و في الكافي، بإسناده عن الفضل أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل {أَوْ جَاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} قال: نزلت في بني مدلج، لأنهم جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك لرسول الله، فلسنا معكم و لا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، و إلا قاتلهم.
و في تفسير العياشي، عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} قال: كان أبي يقول: نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لم يكونوا مع قومهم. قلت: فما صنع بهم؟ قال لم يقاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال: و {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} هو الضيق.
و في المجمع: المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: المراد بقوله تعالى {قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قال في موادعته: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا و لا تخيف من أتاك فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم.
أقول: و قد روي هذه المعاني و ما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس: في قوله: {إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ} (الآية) قال: نسختها براءة: {فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
[سورة النساء (٤): الآیات ٩٢ الی ٩٤]
{وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللَّهِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ٩٢ وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ٩٣ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا فَعِنْدَ اَللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ٩٤}
بيان
قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} الخطأ بفتحتين من غير مد، و مع المد على فعال: خلاف الصواب، و المراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الآية
التالية {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} .
و المراد بالنفي في قوله: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} نفي الاقتضاء أي ليس و لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان و حماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطإ، و الاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، و نظير هذه الجملة في سوقها لنفي الاقتضاء قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ} (الشورى: ٥١) و قوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} (النمل: ٦٠) و قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} (يونس: ٧٤) إلى غير ذلك.
و الآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط، و لا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا و حرم ذلك إلا في قتل الخطإ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد و لكن بزعم أن المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.
و قد ذكر جمع من المفسرين: أن الاستثناء في قوله: {إِلاَّ خَطَأً} منقطع، قالوا: و إنما لم يحمل قوله {إِلاَّ خَطَأً} على حقيقة الاستثناء لأن ذلك يؤدي إلى الأمر بقتل الخطإ أو إباحته. (انتهى) و قد عرفت أن ذلك لا يؤدي إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطإ، أو عدم وضع الحرمة فيه، و لا محذور فيه قطعا. فالحق أن الاستثناء متصل.
قوله تعالى: {وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} - إلى قوله - {يَصَّدَّقُوا}، التحرير جعل المملوك حرا! و الرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازا! و الدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، و المعنى: و من قتل مؤمنا بقتل الخطإ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، و إعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها و يعفوا عنها فلا تجب الدية.
قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، و القوم العدو هم الكفار المحاربون، و المعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا و أهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير و لا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا.
قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الضمير في {كَانَ} يعود إلى
المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، و الميثاق مطلق العهد أعم من الذمة و كل عهد، و المعنى: و إن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم و بينهم عهد وجبت الدية و تحرير الرقبة، و قد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} أي من لم يستطع التحرير لأنه هو الأقرب بحسب اللفظ وجب عليه صيام شهرين متتابعين.
قوله تعالى: {تَوْبَةً مِنَ اَللَّهِ} (إلخ) أي هذا الحكم و هو إيجاب الصيام توبة و عطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، و ينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع، و يمكن أن يكون قوله: {تَوْبَةً} قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفارة أعني قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (إلخ) و المعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة و عناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا. و ليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى: {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: ١٧٩).
و كذا هو توبة من الله للمجتمع و عناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا، و يرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالي بالدية المسلمة.
و من هنا يظهر أن الإسلام يرى الحرية حياة و الاسترقاق نوعا من القتل، و يرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. و سنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.
و أما تشخيص معنى الخطإ و العمد و التحرير و الدية و أهل القتيل و الميثاق و غيره المذكورات في الآية فعلى السنة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذي له، و حيث إن الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان و كان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح و هو يزعم أنه من الصيد و هو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الإنسان، و كذا إذا ضرب إنسانا بالعصا قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطإ، و على هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل و أن المقتول مؤمن.
و قد أغلظ الله سبحانه و تعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: ٤٨) أن تلك الآية، و كذا قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: ٥٣) تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الضرب هو السير في الأرض و المسافرة، و تقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد، و التبين هو التمييز و المراد به التمييز بين المؤمن و الكافر بقرينة قوله: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} و المراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الإيمان، و قرئ: «لمن ألقى إليكم السلم» بفتح اللام و هو الاستسلام.
و المراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال و الغنيمة، و قوله: {فَعِنْدَ اَللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} جمع مغنم و هو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذي يريدونه لكثرتها و بقائها فهي التي يجب عليكم أن تؤثروها.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} (إلخ) أي على هذا الوصف. و هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا كنتم من قبل أن تؤمنوا فمن الله عليكم بالإيمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم أن تبينوا، و في تكرار الأمر بالتبين تأكيد في الحكم.
و الآية مع اشتمالها على العظة و نوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذي ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر أنه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه إنما يظهر الإيمان خوفا على نفسه، و الآية توبخه بأن الإسلام إنما يعتبر بالظاهر، و يحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير.
و على هذا فقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الإيمان من غير اعتناء بأمره و تبين في شأنه حال من يريد المال و الغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالإيمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من
موجه العذر، و هذا هو الحال الذي كان عليه المؤمنون قبل إيمانهم لا يبتغون إلا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالإيمان، و من عليهم بالإسلام كان الواجب عليهم أن يتبينوا فيما يصنعون و لا ينقادوا لأخلاق الجاهلية و ما بقي فيهم من إثارتها.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (الآية) أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة، من بني عامر بن لؤي يعذب، عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج مهاجرا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلقيه عياش بالحرة، فعلاه بالسيف و هو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره فنزلت: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (الآية)، فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر.
أقول: و روي هذا المعنى بغيره من الطرق، و في بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين خرج عياش و كان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم و هم يعذبونه و لقي حارثا و قد أسلم و عياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك. و ما أثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار و أنسب لتأريخ نزول سورة النساء.
و روى الطبري في تفسيره عن ابن زيد: أن الذي نزلت فيه الآية هو أبو الدرداء، كان في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال لا إله إلا الله، فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم، ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، فأخبره فنزلت الآية.
و روي في الدر المنثور، أيضا عن الروياني و ابن مندة و أبي نعيم عن بكر بن حارثة الجهني: أنه هو الذي نزلت فيه الآية، لقصة نظيرة قصة أبي الدرداء، و الروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق.
و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل، فإن الله تعالى يقول: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث. الحديث.
و في تفسير العياشي، عن موسى بن جعفر (عليه السلام): سئل كيف تعرف المؤمنة؟ قال: على الفطرة.
و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) في رجل مسلم في أرض الشرك، فقتله المسلمون ثم علم به الإمام بعد، فقال (عليه السلام): يعتق مكانه رقبة مؤمنة و ذلك قول الله عز و جل: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} .
أقول: و روى مثله العياشي. و في قوله «يعتق مكانه»، إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الإشارة إليه.
و ربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية. فافهم ذلك.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين، فأفطر أو مرض في الشهر الأول فإن عليه أن يعيد الصيام، و إن صام الشهر الأول، و صام من الشهر الثاني شيئا، ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضي.
أقول: أي يقضي ما بقي عليه كما قيل، و قد استفيد من التتابع.
و في الكافي و تفسير العياشي عنه (عليه السلام): أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له توبة؟ فقال: إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، و إن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أشياء الدنيا، فإن توبته أن يقاد منه، و إن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول، فأقر عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية، و أعتق نسمة و صام شهرين متتابعين، و أطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز و جل.
و في التهذيب، بإسناده عن أبي السفاتج عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن الطبراني و غيره عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و الروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الآيات، و في باب القتل و القود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث.
و في المجمع في قوله تعالى: {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (الآية) قال:
نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني، وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، فأرسل معه قيس بن هلال الفهري، و قال له: قل لبني النجار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه، و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهري الرسالة فأعطوه الدية، فلما انصرف و معه الفهري وسوس إليه الشيطان، فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك، اقتل الذي معك لتكون نفس بنفس و الدية فضل، فرماه بصخرة فقتله و ركب بعيرا، و رجع إلى مكة كافرا، و أنشد يقول،
قتلت به فهرا و حملت عقله | *** | سراة بني النجار أرباب فارع |
فأدركت ثاري و اضطجعت موسدا | *** | و كنت إلى الأوثان أول راجع |
فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا أؤمنه في حل و لا حرم :رواه الضحاك و جماعة من المفسرين (انتهى. أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و سعيد بن جبير و غيرهما.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} (الآية) أنها نزلت لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزاة خيبر، و بعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود، في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، جمع أهله و ماله في ناحية الجبل فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلما رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أخبره بذلك، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، و أني رسول الله،؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فلا كشفت الغطاء عن قلبه، و لا ما قال بلسانه قبلت، و لا ما كان في نفسه علمت. فحلف أسامة بعد ذلك، أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، فتخلف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه فأنزل في ذلك: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} الآية.
أقول: و روى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدي، و روي في الدر المنثور، روايات كثيرة في سبب نزول الآية، في بعضها: أن القصة لمقداد بن الأسود و في بعضها لأبي الدرداء، و في بعضها لمحلم بن جثامة، و في بعضها لم يذكر اسم للقاتل و لا المقتول
و أبهمت القصة إبهاما، هذا، و لكن حلف أسامة بن زيد و اعتذاره إلى علي (عليه السلام) في تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ و الله أعلم.
[سورة النساء (٤): الآیات ٩٥ الی ١٠٠]
{لاَ يَسْتَوِي اَلْقَاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنى وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ٩٥ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٩٦ إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً ٩٧ إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ٩٨ فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ٩٩ وَ مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ١٠٠}
(بيان)
قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي اَلْقَاعِدُونَ} إلى قوله {وَ أَنْفُسِهِمْ} الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد و القتال كالعمى و العرج و المرض، و المراد بالجهاد بالأموال
إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين، و بالأنفس القتال.
و قوله: {وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنىَ} يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس و تحريضهم على القيام بأمر الجهاد و التسابق فيه و المسارعة إليه.
و من الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولي الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله و إن قلنا: إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد و الشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التي فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم، و بالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين و تهييج لهم، و إيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير و الفضيلة.
قوله تعالى: {فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} الجملة في مقام التعليل لقوله {لاَ يَسْتَوِي} و لذا لم توصل بعطف و نحوه، و الدرجة هي المنزلة، و الدرجات المنزلة بعد المنزلة، و قوله {وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنى} أي وعد الله كلا من القاعدين و المجاهدين، أو كلا من القاعدين غير أولي الضرر و القاعدين أولي الضرر و المجاهدين الحسنى، و الحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك، و الجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله {لاَ يَسْتَوِي} إلى قوله {دَرَجَةً} إنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من إيمانه و سائر أعماله فدفع ذلك بقوله {وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنى} .
قوله تعالى: {وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً} هذا التفضيل بمنزلة البيان و الشرح لإجمال التفضيل المذكور أولا، و يفيد مع ذلك فائدة أخرى، و هي الإشارة إلى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذي يتضمنه قوله {وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنى} فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله و الواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق و إزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة و الرحمة.
و أمر الآية في سياقها عجيب، أما أولا: فلأنها قيدت المجاهدين (أولا) بقوله: {فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ} و (ثانيا) بقوله: {بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ} و (ثالثا) أوردته من
غير تقييد. و أما ثانيا: فلأنها ذكرت في التفضيل (أولا) أنها درجة، و (ثانيا) أنها درجات منه.
أما الأول فلأن الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، و الفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس، و بالسماحة و الجود بأعز الأشياء عند الإنسان و هو المال، و بما هو أعز منه، و هو النفس، و لذلك قيل أولا: {وَ اَلْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ} ليتبين بذلك الأمر كل التبين، و يرتفع به اللبس، ثم لما قيل: {فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأن اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله: {وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنى} مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل، و هو إنفاق المال و بذل النفس على حبهما فلذا اكتفي بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: {اَلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ} و أما قوله ثالثا: {وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها و لا بعضها و لذلك تركت كلا.
و أما الثاني فقوله: {فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} {دَرَجَةً} منصوب على التمييز، و هو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة و المنزلة من غير أن يعترض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر، و قوله: {وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجَاهِدِينَ عَلَى اَلْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} كان لفظة: {فَضَّلَ} فيه مضمنة معنى الإعطاء أو ما يشابهه، و قوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} بدل أو عطف بيان لقوله: {أَجْراً عَظِيماً} و المعنى: و أعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما و هو الدرجات من الله، فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة، و يبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل و درجات كثيرة، و هي الأجر العظيم الذي يثاب به المجاهدون.
و لعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا {دَرَجَةً} و ثانيا {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} و قد ذكر المفسرون للتخلص من الإشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف.
منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر بدرجة و في ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.
و منها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيوية كالغنيمة و حسن الذكر و نحوهما و بالدرجات في آخر الآية المنازل الأخروية و هي أكثر بالنسبة إلى الدنيا، قال تعالى:.{وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} (إسراء ٢١).
و منها: أن المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عند الله، و هي أمر معنوي، و بالدرجات في ذيل الآية منازل الجنة و درجاتها الرفيعة و هي حسية، و أنت خبير بأن هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.
و الضمير في قوله: {مِنْهُ} لعله راجع إلى الله سبحانه، و يؤيده قوله: {وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً} بناء على كونه بيانا للدرجات، و المغفرة و الرحمة من الله، و يمكن رجوع الضمير إلى الأجر المذكور قبلا.
و قوله: {وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً} ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات و هي المنازل من الله سبحانه أيا ما كانت فهي مصداق المغفرة و الرحمة، و قد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة و هي الإفاضة الإلهية للنعمة تتوقف على إزالة الحاجب و رفع المانع من التلبس بها، و هي المغفرة، و لازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم، و كل درجة و منزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التي بعدها، و الدرجة التي فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الأخروية كائنة ما كانت مغفرة و رحمة من الله سبحانه، و غالب ما تذكر الرحمة و ما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله: {مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (المائدة: ٩) و قوله: {وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: ٤)، و قوله: {مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (هود: ١١)، و قوله: {وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَانٌ} (الحديد: ٢٠)، و قوله: {وَ اِغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا} (البقرة: ٢٨٦) إلى غير ذلك من الآيات.
ثم ختم الآية بقوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} و مناسبة الاسمين مع مضمون الآية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها {وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً} .
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} لفظ {تَوَفَّاهُمُ} صيغة ماض أو صيغة مستقبل و الأصل تتوفاهم حذفت إحدى التاءين من اللفظ تخفيفا نظير قوله
تعالى: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} (النحل: ٢٨).
و المراد بالظلم كما تؤيده الآية النظيرة هو ظلمهم لأنفسهم بالإعراض عن دين الله و ترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك و التوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، و القيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، و هذا هو الذي يدل عليه السياق في قوله: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآيات الثلاث.
و قد فسر الله سبحانه الظالمين (إذا أطلق) في قوله: {لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً} (الأعراف: ٤٥)، و محصل الآيتين تفسير الظلم بالإعراض عن دين الله و طلبه عوجا و محرفا، و ينطبق على ما يظهر من الآية التي نحن فيها.
قوله تعالى: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي فيما ذا كنتم من الدين، و كلمة «م» هي ما الاستفهامية حذفت عنها الألف تخفيفا.
و في الآية دلالة في الجملة على ما تسميه الأخبار بسؤال القبر، و هو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} (الآيات) (النحل: ٣٠).
قوله تعالى: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} كان سؤال الملائكة {فِيمَ كُنْتُمْ} سؤالا عن الحال الذي كانوا يعيشون فيه من الدين، و لم يكن هؤلاء المسئولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب و هو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم و بين الأخذ بشرائع الدين و العمل بها.
و لما كان هذا الذي ذكروه من الاستضعاف لو كانوا صادقين فيه إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، و كان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الأرض التي ذكروها، و لم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج و المهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الأرض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه و لزموه، و كان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، و إنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.
فقوله: {أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله: {فِيمَ كُنْتُمْ} و يمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين و المتقين جميعا، و ثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال.
و قد أضافت الملائكة الأرض إلى الله، و لا يخلو من إيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الإيمان و العمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين: {وَ مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً} (الآية).
و وصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله: {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، و لو لا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.
ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المساءلة بقوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً} .
قوله تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ} الاستثناء منقطع، و في إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذي فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم و إنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية، و في تفصيل بيانهم بالرجال و النساء و الولدان إيضاح للحكم الإلهي و رفع للبس. و قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الآلة فهي ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شيء و شيء أو حال للحصول على شيء أو حال آخر، و غلب استعماله في ما يكون على خفية و في الأمور المذمومة، و في مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته.
و المعنى: لا يستطيعون و لا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف
المشركين عن أنفسهم، و لا يهتدون سبيلا يتخلصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعم من السبيل الحسي كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكة، و السبيل المعنوي و هو كل ما يخلصهم من أيدي المشركين، و استضعافهم لهم بالعذاب و الفتنة.
(كلام في المستضعف)
يتبين بالآية أن الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور و ضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذرا عند الله سبحانه.
توضيحه: أن الله سبحانه يعد الجهل بالدين و كل ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلما لا يناله العفو الإلهي، ثم يستثني من ذلك المستضعفين و يقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثم يعرفهم بما يعمهم و غيرهم من الوصف، و هو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم، و هذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج و الهجرة إلى دار الإسلام و الالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي و نحو ذلك كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية و لم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق و لا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.
فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة و لا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق و الدين بالسيف و السوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، و لا قدرة مع الغفلة، و لا سبيل مع هذا الجهل.
هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة، و هو الذي يدل عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اَللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ} (البقرة: ٢٨٦) فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان كما أن الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الإنسان.
و هذه الآية أعني آية البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطا كليا في تشخيص مورد العذر و تمييزه من غيره، و هو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان، و لا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو، بشيء من معارفه الحقة إذا استند جهله إلى ما قصر فيه و أساء الاختيار استند إليه الترك و كان معصية، و إذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره، و لم يعد فاعلا للمعصية، متعمدا في المخالفة، مستكبرا عن الحق جاحدا له، فله ما كسب و عليه ما اكتسب، و إذا لم يكسب فلا له و لا عليه.
و من هنا يظهر أن المستضعف صفر الكف لا شيء له و لا عليه لعدم كسبه أمرا بل أمره إلى ربه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين: {فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً} و قوله تعالى: {وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (براءة: ١٠٦) و رحمته سبقت غضبه.
[بيان]
قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} هؤلاء و إن لم يكسبوا سيئة لمعذوريتهم في جهلهم لكنا بينا سابقا أن أمر الإنسان يدور بين السعادة و الشقاوة و كفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالإنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهي الذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحا أو طالحا أو لم يكن، و لذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.
و إنما اختير ذكر رجاء عفوهم ثم عقب ذلك بقوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً} اللائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الذين أوعدوا بأن مأواهم جهنم و ساءت مصيرا.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً} قال الراغب: الرغام (بفتح الراء) التراب الرقيق، و رغم أنف فلان رغما وقع في الرغام، و أرغمه غيره، و يعبر بذلك عن السخط كقول الشاعر:
إذا رغمت تلك الأنوف لم أرضها | *** | و لم أطلب العتبي و لكن أزيدها |
فمقابلته بالإرضاء مما ينبه على دلالته على الإسخاط، و على هذا قيل: أرغم الله
أنفه، و أرغمه أسخطه، و راغمة ساخطة، و تجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر ثم يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى: {يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً} أي مذهبا يذهب إليه إذا رأى منكرا يلزمه أن يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا و رغمت إليه (انتهى).
فالمعنى: {وَ مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} أي طلبا لمرضاته في التلبس بالدين علما و عملا يجد في الأرض مواضع كثيرة كلما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لإرغام المانع و إسخاطه أو لمنازعته المانع و مساخطته، و يجد سعة في الأرض.
و قد قال تعالى في سابق الآيات: {أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً} و لازم التفريع عليه أن يقال: و من يهاجر يجد في الأرض سعة إلا أنه لما زيد قوله: {مُرَاغَماً كَثِيراً} و هو من لوازم سعة الأرض لمن يريد سلوك سبيل الله قيدت المهاجرة أيضا بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، و هو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك و تهييجهم و تشجيعهم على المهاجرة و تطييب نفوسهم.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} (إلخ) المهاجرة إلى الله و رسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام التي يتمكن فيها من العلم بكتاب الله و سنة رسوله، و العمل به.
و إدراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجاته فإن الإدراك هو سعي اللاحق بالسير إلى السابق ثم وصوله إليه، و كذا وقوع الأجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الأجر و الثواب له تعالى و أخذه ذلك في عهدته، فهناك أجر جميل و ثواب جزيل سيوافي به العبد لا محالة، و الله سبحانه يوافيه بألوهيته التي لا يعزها شيء و لا يعجزها شيء و لا يمتنع عليها ما أرادته، و لا تخلف الميعاد. و ختم الكلام بقوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} تأكيدا للوعد الجميل بلزوم توفيه الأجر و الثواب.
و قد قسم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين أعني المدعين للإيمان من جهة الإقامة في دار الإيمان و دار الشرك إلى أقسام، و بين جزاء كل طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة و تنبيها ثم ترغيبا في الهجرة إلى دار الإيمان، و الاجتماع هناك، و تقوية
المجتمع الإسلامي، و الاتحاد و التعاون على البر و التقوى و إعلاء كلمة الحق و رفع راية التوحيد و أعلام الدين.
فطائفة أقامت في دار الإسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و قاعدين غير أولي الضرر، و قاعدين أولي الضرر، و كلا وعد الله الحسنى و فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة.
و طائفة أقامت في دار الشرك، و هي ظالمة لا تهاجر في سبيل الله و مأواهم جهنم و ساءت مصيرا، و طائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، و طائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله و رسوله ثم أدركها الموت فقد وقع أجرها على الله.
و الآيات تجري بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات و الأزمنة و إن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)بين هجرته إلى المدينة و فتح مكة و كانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام و هي المدينة و ما والاها فيها جماعة المسلمين أحرار في دينهم و جماعة من المشركين و غيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد و نحوه، و إلى أرض الشرك و هي مكة و ما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيتهم، و يزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، و يفتنونهم لردهم عن دينهم.
لكن الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائما فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكن فيه من تعلم معالم الدين، و يستطيع إقامة شعائره و العمل بأحكامه، و أن يهجر الأرض التي لا علم فيها بمعارف الدين، و لا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمى اليوم دار الإسلام أو دار شرك فإن الأسماء تغيرت اليوم و هجرت مسمياتها و صار الدين جنسية، و الإسلام مجرد تسم من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.
و القرآن الكريم إنما يرتب الأثر على حقيقة الإسلام دون اسمه و يكلف الناس من العمل ما فيه شيء من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: ١٢٤)، و قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى وَ اَلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٦٢).
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، و كانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، و قتل بعض، فقال المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، و أكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية.
قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، و أنه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فأنزلت فيهم هذه الآية: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا، و أيسوا من كل خير فنزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا، فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا و قتل من قتل.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: هم أناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، و خرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يوم بدر فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
و فيه أخرج ابن جرير عن ابن زيد :في الآية قال: لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ظهر، و نبع الإيمان نبع النفاق معه، فأتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رجال، فقالوا: يا رسول الله لو لا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا، و يفعلون و يفعلون لأسلمنا، و لكن نشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له، فلما كان يوم بدر قام المشركون، فقالوا لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره و استبحنا ماله، فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) معهم فقتلت طائفة منهم، و أسرت طائفة.
قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} (الآية) كلها، {أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} و تتركوا، هؤلاء الذين يستضعفونكم، {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً} .
ثم عذر الله أهل الصدق فقال: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا، {فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} إقامتهم بين ظهري المشركين.
و قال الذين أسروا: يا رسول الله، إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله، و أن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا، فقال الله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ} صنيعكم الذي صنعتم، خروجكم مع المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، {وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ} خرجوا مع المشركين فأمكن منهم.
و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و ابن جرير عن عكرمة في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} - إلى قوله - {وَ سَاءَتْ مَصِيراً} ، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبي العاص بن منبه بن الحجاج، و علي بن أمية بن خلف،.
قال: لما خرج المشركون من قريش و أتباعهم، لمنع أبي سفيان بن حرب و عير قريش، من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه، و أن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا، و اجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفارا، و رجعوا عن الإسلام و هم هؤلاء الذين سميناهم.
أقول: و الروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، و هي و إن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنه تطبيق حسن.
و من أهم ما يستفاد منها، و كذا من الآيات بعد التدبر وجود منافقين بمكة قبل الهجرة و بعدها. فإن لذلك تأثيرا في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان بمكة
رجل يقال له ضمرة من بني بكر، و كان مريضا، فقال لأهله أخرجوني من مكة فإني أجد الحر، فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكة فنزلت هذه الآية: {وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ} .
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة إلا أن فيها اختلافا شديدا في تسمية هذا الذي أدركه الموت، ففي بعضها ضمرة بن جندب، و في بعضها أكثم بن صيفي، و في بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقي، و في بعضها ضمرة بن العيص من بني ليث، و في بعضها جندع بن ضمرة الجندعي، و في بعضها أنها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجرا إلى حبشة فنهشته حية في الطريق فمات.
و في بعض الروايات عن ابن عباس: أنه أكثم بن صيفي. قال الراوي: قلت فأين الليثي؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان، و هي خاصة عامة.
أقول: يعني أنها نزلت في أكثم خاصة ثم جرت في غيره عامة، و المتحصل من الروايات أن ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفي، و ليثي، و خالد بن حزام، و أما نزول الآية في أي منهم فكأنه تطبيق من الراوي.
و في الكافي، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المستضعف، فقال: هو الذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن، و لا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان، و من الرجال و النساء، على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.
أقول: و الحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكليني، و الصدوق، و العياشي، بعدة طرق عنه.
و فيه بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله، قال: الدين واسع، و لكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: نعم، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند الله تعالى، و أتولاكم، و أبرأ من أعدائكم و من ركب رقابكم، و تأمر عليكم، و ظلمكم حقكم. فقال: و الله ما
جهلت شيئا، هو و الله الذي نحن عليه، فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: إلا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال نساؤكم و أولادكم.
ثم قال: أ رأيت أم أيمن؟، فإني أشهد أنها من أهل الجنة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه.
و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها، و الخادم تقول لها: صلي فتصلي لا تدري إلا ما قلت لها، و الجليب الذي لا يدري إلا ما قلت له، و الكبير الفاني، و الصبي، و الصغير، هؤلاء المستضعفون، فأما رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء و البيع، لا تستطيع أن تعينه في شيء تقول: هذا المستضعف؟ لا، و لا كرامة.
و في المعاني، عن سليمان عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون، و يصلون، تعف بطونهم و فروجهم، و لا يرون أن الحق في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، إذا كانوا آخذين بالأغصان، و أن يعرفوا أولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته، و إن عذبهم فبضلالتهم.
أقول: قوله: «لا يرون أن الحق في غيرنا»، يريد صورة النصب أو التقصير المؤدي إليه كما يدل عليه الروايات الآتية.
و فيه عن الصادق (عليه السلام): أنه ذكر أن المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، و من لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف
و فيه و في تفسير العياشي: عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون، و لا يهتدون سبيلا إلى الحق فيدخلون فيه، هؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة، و باجتناب المحارم التي نهى الله عنها، و لا ينالون منازل الأبرار
و في تفسير القمي، عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك ما حال الموحدين، المقرين بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) من المذنبين، الذين يموتون و ليس لهم إمام، و لا يعرفون ولايتكم،؟ فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها.فمن كان له عمل صالح، و لم يظهر منه عداوة، فإنه يخد له خد إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة، حتى يلقى الله فيحاسبه
بحسناته و سيئاته، فإما إلى الجنة، و إما إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله. قال و كذلك يفعل بالمستضعفين و البله، و الأطفال و أولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم.
فأما النصاب من أهل القبلة، فإنه يخد لهم خد إلى النار التي خلقها الله بالمشرق، فيدخل عليه اللهب و الشرر و الدخان، و فورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم
و في الخصال، عن الصادق عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا، إلى أن قال و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله، و لم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت (عليه السلام).
و في المعاني، و تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ}، قال: هم أهل الولاية. قلت: أي ولاية،؟ قال: أما إنها ليست بولاية في الدين، و لكنها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة، و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفار، و هم المرجون لأمر الله عز و جل.
أقول: و هو إشارة إلى قوله تعالى: {وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} الآية (التوبة: ١٠٦) و سيأتي ما يتعلق به من الكلام إن شاء الله.
و في النهج، قال (عليه السلام): و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة، فسمعتها أذنه، و وعاها قلبه.
و في الكافي، عن الكاظم (عليه السلام): أنه سئل عن الضعفاء، فكتب (عليه السلام): الضعيف من لم ترفع له حجة، و لم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف.
و فيه عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل: ما تقول في المستضعفين،؟ فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا،؟ و أين المستضعفون، فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق، إلى العواتق في خدورهن، و تحدثت به السقاءات في طريق المدينة
و في المعاني، عن عمر بن إسحاق قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام)، ما حد المستضعف الذي ذكره الله عز و جل؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن، و قد خلقه الله عز و جل خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن.
أقول: و هاهنا روايات أخر غير ما أوردناه لكن ما مر منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد، و الروايات و إن كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنها مع قطع النظر عن خصوصيات بياناتها بحسب خصوصيات مراتب الاستضعاف تتفق في مدلول واحد هو مقتضى إطلاق الآية على ما قدمناه، و هو أن الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحق من غير تقصير.
[سورة النساء (٤): الآیات ١٠١ الی ١٠٤ ]
{وَ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ١٠١ وَ إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ١٠٢ فَإِذَا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ١٠٣ وَ لاَ تَهِنُوا فِي اِبْتِغَاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ١٠٤}
(بيان)
الآيات تشرع صلاة الخوف و القصر في السفر، و تنتهي إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين و ابتغائهم، و هي مرتبطة بالآيات السابقة المتعرضة للجهاد و ما لها من مختلف الشئون.
قوله تعالى: {وَ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاَةِ} الجناح الإثم و الحرج و العدول، و القصر النقص من الصلاة، قال في المجمع: في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها و هي لغة القرآن، و قصرتها تقصيرا، أقصرتها إقصارا.
و المعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج و إثم أن تنقصوا شيئا من الصلاة، و نفي الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافي وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: ١٥٨) مع كون الطواف واجبا، و ذلك أن المقام مقام التشريع، و يكفي فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم و خصوصياته، و نظير الآية بوجه قوله تعالى: {وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (الآية) (البقرة: ١٨٤).
قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} الفتنة و إن كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكن المعهود من إطلاقها في القرآن في خصوص الكفار و المشركين التعذيب من قتل أو ضرب و نحوهما، و قرائن الكلام أيضا تؤيد ذلك فالمعنى: إن خفتم أن يعذبوكم بالحملة و القتل.
و الجملة قيد لقوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ» جُنَاحٌ} و تفيد أن بدء تشريع القصر في الصلاة إنما كان عند خوف الفتنة، و لا ينافي ذلك أن يعم التشريع ثانيا جميع صور السفر الشرعي و إن لم يجامع الخوف فإنما الكتاب بين قسما منه، و السنة بينت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات.
قوله تعالى: {وَ إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} إلى قوله {وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ}
(الآية)، تذكر كيفية صلاة الخوف، و توجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بفرضه إماما في صلاة الخوف، و هذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنه أوجز و أجمل.
فالمراد بقوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاَةَ} هو الصلاة جماعة، و المراد بقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} قيامهم في الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)بنحو الايتمام، و هم المأمورون بأخذ الأسلحة، و المراد بقوله: {فَإِذَا سَجَدُوا} (إلخ) إذا سجدوا و أتموا الصلاة ليكون هؤلاء بعد إتمام سجدتهم من وراء القوم، و كذا المراد بقوله: {وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ} أن تأخذ الطائفة الثانية المصلية مع النبي(صلى الله عليه وآله و سلم)حذرهم و أسلحتهم.
و المعنى و الله أعلم و إذا كنت أنت يا رسول الله فيهم و الحال حال الخوف فأقمت لهم الصلاة أي صليتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعا بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك و ليأخذوا معهم أسلحتهم، و من المعلوم أن الطائفة الأخرى يحرسونهم و أمتعتهم فإذا سجد المصلون معك و فرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم و الأمتعة و لتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، و ليأخذ هؤلاء المصلون أيضا كالطائفة الأولى المصلية حذرهم و أسلحتهم.
و توصيف الطائفة بالأخرى، و إرجاع ضمير الجمع المذكر إليها رعاية تارة لجانب اللفظ و أخرى لجانب المعنى، كما قيل. و في قوله تعالى: {وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ} نوع من الاستعارة لطيف، و هو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الأخذ الذي نسب إلى الأسلحة، كما قيل.
قوله تعالى: {وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ} إلى قوله: {وَاحِدَةً} في مقام التعليل للحكم المشرع، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: {وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآية. تخفيف آخر و هو أنهم إن كانوا يتأذون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من أن يضعوا أسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك أن يأخذوا حذرهم، و لا يغفلوا عن الذين كفروا فهم مهتمون بهم.
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اَللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ} و القيام و القعود جمعان أو مصدران، و هما حالان و كذا قوله: {عَلى جُنُوبِكُمْ} و هو كناية
عن الذكر المستمر المستوعب لجميع الأحوال.
قوله تعالى: {فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} (إلخ) المراد بالاطمينان الاستقرار، و حيث قوبل به قوله: {وَ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ} على ما يؤيده السياق كان الظاهر أن المراد به الرجوع إلى الأوطان، و على هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإن التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوح إلى ذلك.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} الكتابة كناية عن الفرض و الإيجاب كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة: ١٨٣) و الموقوت من وقت كذا أي جعلت له وقتا فظاهر اللفظ أن الصلاة فريضة موقتة منجمة تؤدي في أوقاتها و نجومها.
و الظاهر أن الوقت في الصلاة كناية عن الثبات و عدم التغير بإطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتابا موقوتا أنها مفروضة ثابتة غير متغيرة أصلا فالصلاة لا تسقط بحال، و ذلك أن إبقاء لفظ الموقوت على بادئ ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمس إلى التعرض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معينة مع أن قوله: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ} في مقام التعليل لقوله: {فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} فالظاهر أن المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، و لا تتغير و لا تتبدل إلى شيء آخر كالصوم إلى الفدية مثلا.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَهِنُوا فِي اِبْتِغَاءِ اَلْقَوْمِ} الوهن الضعف، و الابتغاء الطلب، و الألم مقابل اللذة، و قوله: {وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} حال من ضمير الجمع الغائب، و المعنى: أن حال الفريقين في أن كلا منهما يألم واحد، فلستم أسوأ حالا من أعدائكم، بل أنتم أرفه منهم و أسعد حيث إن لكم رجاء الفتح و الظفر و المغفرة من ربكم الذي هو وليكم، و أما أعداؤكم فلا مولى لهم و لا رجاء لهم من جانب يطيب نفوسهم، و ينشطهم في عملهم. و يسوقهم إلى مبتغاهم، و كان الله عليما بالمصالح، حكيما متقنا في أمره و نهيه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي:نزلت يعني آية صلاة الخوف لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى الحديبية يريد مكة، فلما وقع الخبر إلى قريش، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس، ليستقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، فكان يعارض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الجبال، فلما كان في بعض الطريق، و حضرت صلاة الظهر أذن بلال، و صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم، فإنهم لا يقطعون صلاتهم، و لكن يجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بصلاة الخوف في قوله: {وَ إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}.
و في المجمع في قوله: {وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} (الآية) أنها نزلت و النبي بعسفان و المشركون بضجنان فتواقفوا فصلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود فهم المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه، يعنون صلاة العصر، فأنزل الله عليه هذه الآية فصلى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد (القصة).
و فيه: ذكر أبو حمزة يعني الثمالي في تفسيره: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غزا محاربا ببني أنمار فهزمهم الله، و أحرزوا الذراري و المال، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون و لا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليقضي حاجته، و قد وضع سلاحه فجعل بينه و بين أصحابه الوادي، فإلى أن يفرغ من حاجته، و قد درأ الوادي، و السماء ترش فحال الوادي بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين أصحابه و جلس في ظل شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمد قد انقلع من أصحابه. فقال: قتلني الله إن لم أقتله، و انحدر من الجبل و معه السيف، و لم يشعر به رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا و هو قائم على رأسه و معه السيف قد سله من غمده، و قال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم): الله. فانكب عدو الله لوجهه فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخذ سيفه، و قال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال:.لا أحد. قال: أ تشهد أن لا إله إلا الله، و أني عبد الله و رسوله؟ قال: لا، و لكني أعهد أن لا أقاتلك أبدا، و لا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سيفه، فقال
له غورث: و الله لأنت خير مني. قال (صلى الله عليه وآله و سلم): إني أحق بذلك.
و خرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال: الله، أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلجني بين كتفي؟ فخررت لوجهي، و خر سيفي، و سبقني إليه محمد و أخذه، و لم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، و قرأ عليهم {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} (الآية) كلها.
و في الفقيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: صلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأصحابه في غزاة ذات الرقاع، ففرق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة بإزاء العدو و فرقة خلفه، فكبر و كبروا، فقرأ و أنصتوا، فركع و ركعوا، فسجد و سجدوا، ثم استمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قائما فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو.
و جاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فكبر و كبروا، و قرأ فأنصتوا، و ركع فركعوا، و سجد و سجدوا، ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتشهد ثم سلم عليهم فقاموا فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض، و قد قال تعالى لنبيه و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة إلى قوله: {كِتَاباً مَوْقُوتاً} فهذه صلاة الخوف التي أمر الله عز و جل بها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و قال: من صلى المغرب في خوف بالقوم صلى بالطائفة الأولى ركعة، و بالطائفة الثانية ركعتين (الحديث).
و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن صلاة الخوف و صلاة السفر تقصران جميعا؟ قال: نعم، و صلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف
و في الفقيه، بإسناده عن زرارة و محمد بن مسلم. أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول في صلاة السفر؟ كيف هي و كم هي؟ فقال: إن الله عز و جل يقول: {وَ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاَةِ} فصار التقصير في السفر
واجبا كوجوب التام في الحضر. قالا: قلنا: إنما قال الله عز و جل {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} و لم يقل: افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه السلام): أ و ليس قد قال الله: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أ لا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟ لأن الله عز و جل ذكره في كتابه، و صنعه نبيه، و كذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكره الله تعالى في كتابه.
قالا: فقلنا له: فمن صلى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال: إن كان قد قرئت عليه آية التقصير و فسرت له فصلى أربعا أعاد، و إن لم تكن قرئت عليه و لم يكن يعلمها فلا إعادة عليه.
و الصلوات كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في السفر و الحضر ثلاث ركعات (الحديث).
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن الجارود و ابن خزيمة و الطحاري و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و ابن حبان عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و قد أمن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
و فيه: أخرج عبد بن حميد و النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و البيهقي في سننه عن أمية بن خالد بن أسد :أنه سأل ابن عمر: أ رأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر: يا ابن أخي إن الله أرسل محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يفعل و قصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و صححه و النسائي عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)بين مكة و المدينة و نحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين.
و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي
عن حارثة بن وهب الخزاعي قال :صليت مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الظهر و العصر بمنى أكثر ما كان الناس و آمنه ركعتين.
و في الكافي، بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} قال: كتابا ثابتا، و ليس إن عجلت قليلا أو أخرت قليلا بالذي يضرك ما لم تضع تلك الإضاعة فإن الله عز و جل يقول: {أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .
أقول: إشارة إلى أن الفرائض موسعة من جهة الوقت كما يدل عليه روايات أخر.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): قال في صلاة المغرب في السفر: لا تترك إن تأخرت ساعة، ثم تصليها إن أحببت أن تصلي العشاء الآخرة، و إن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) صلى صلاة الهاجرة و العصر جميعا، و المغرب و العشاء الآخرة جميعا، و كان يؤخر و يقدم أن الله تعالى قال: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} إنما عنى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره، إنه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هكذا، و كان أعلم و أخبر و كان كما يقولون، و لو كان خيرا لأمر به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و قد فات الناس مع أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة، و أمرهم علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فكبروا و هللوا و سبحوا رجالا و ركبانا لقول الله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} فأمر علي (عليه السلام) فصنعوا ذلك.
أقول: و الروايات كما ترى توافق ما قدمناه في البيان السابق و الروايات في المعاني السابقة و خاصة من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) كثيرة جدا، و إنما أوردنا أنموذجا مما ورد منها.
و اعلم أن هناك من طرق أهل السنة روايات أخرى تعارض ما تقدم، و هي مع ذلك تتدافع في أنفسها، و النظر فيها و في سائر الروايات الحاكية لكيفية صلاة الخوف خاصة و صلاة القصر في السفر عامة مما هو راجع إلى الفقه.
و في تفسير القمي، في قوله: {وَ لاَ تَهِنُوا فِي اِبْتِغَاءِ اَلْقَوْمِ} (الآية) إنه معطوف على قوله
في سورة آل عمران: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} و قد ذكرنا هناك سبب نزول الآية.
[ سورة النساء (٤): الآیات ١٠٥ الی ١٢٦]
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ١٠٥ وَ اِسْتَغْفِرِ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ١٠٦ وَ لاَ تُجَادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ١٠٧ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ لاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ وَ كَانَ اَللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ١٠٨ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اَللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ١٠٩ وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ١١٠وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ١١١ وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ١١٢ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ١١٣ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اَللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ١١٤ وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً ١١٥ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ١١٦ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً ١١٧ لَعَنَهُ اَللَّهُ وَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ١١٨ وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ اَلْأَنْعَامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ١١٩ يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ١٢٠أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ لاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ١٢١ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلاً ١٢٢ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ١٢٣ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ١٢٤ وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ اِتَّخَذَ اَللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ١٢٥ وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ١٢٦}
(بيان)
الذي يفيده التدبر في الآيات أنها ذات سياق واحد تتعرض للتوصية بالعدل في
القضاء، و النهي عن أن يميل القاضي في قضائه، و الحاكم في حكمه إلى المبطلين، و يجور على المحقين كائنين من كانوا.
و ذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات، ثم البحث فيما يتعلق بذلك من الحقائق الدينية و الأمر بلزومها و رعايتها، و تنبيه المؤمنين أن الدين إنما هو حقيقة لا اسم، و إنما ينفع التلبس به دون التسمي.
و الظاهر أن هذه القصة هي التي يشير إليها قوله تعالى: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً} حيث يدل على أنه كان هناك شيء من المعاصي التي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار و نحوها، و أنه كان من المتوقع أن يهتموا بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حكمه و الله عاصمه.
و الظاهر أن هذه القصة أيضا هي التي تشير إليها الآيات الأول كما في قوله تعالى: {وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (الآية) و قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنَّاسِ} (الآية) و قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} (إلخ) فإن الخيانة و إن كان ظاهرها ما يكون في الودائع و الأمانات لكن سياق قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنَّاسِ} كما سيجيء بيانه يعطي أن المراد بها ما يتحقق في سرقة و نحوها بعناية أن المؤمنين كنفس واحدة، و ما لبعضهم من المال مسئول عنه البعض الآخر من حيث رعاية احترامه، و الاهتمام بحفظه و حمايته، فتعدي بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لأنفسهم.
فالتدبر يقرب أن القصة كأنها سرقة وقعت من بعضهم ثم رفع الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فرمى بها السارق غيره ممن هو بريء منها، ثم ألح قوم السارق عليه (صلی الله عليه و أله) أن يقضي لهم، و بالغوا في أن يغيروه (صلی الله عليه و أله) على المتهم البريء فأنزلت الآيات و برأه الله مما قالوا.
فالآيات أشد انطباقا على ما روي في سبب النزول من قصة سرقة أبي طعمة بن الأبيرق، و إن كانت أسباب النزول كما سمعت مرارا في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنية.
و يستفاد من الآيات حجية قضائه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و عصمته و حقائق أخر سيأتي بيانها
إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ} ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم و منازعاتهم مما يرجع إلى الأمور القضائية و رفع الاختلافات بالحكم، و قد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لإنزال الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمنه قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (الآية) (البقرة: ٢١٣) و قد مر تفصيل القول فيه.
فهذه الآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ} (إلخ) في خصوص موردها نظيرة تلك الآية: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في عمومها، و تزيد عليها في أنها تدل على جعل حق الحكم لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الحجية لرأيه و نظره فإن الحكم و هو القطع في القضاء و فصل الخصومة لا ينفك عن إعمال نظر من القاضي الحاكم و إظهار عقيدة منه مضافا إلى ما عنده من العلم بالأحكام العامة و القوانين الكلية في موارد الخصومة فإن العلم بكليات الأحكام و حقوق الناس أمر، و القطع و الحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر.
فالمراد بالإراءة في قوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ} إيجاد الرأي و تعريف الحكم لا تعليم الأحكام و الشرائع كما احتمله بعضهم.
و مضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب و علمك أحكامه و شرائعه و حكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي و عرفك من الحكم فتحكم بين الناس، و ترفع بذلك اختلافاتهم.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} عطف على ما تقدمه من الجملة الخبرية لكونها في معنى الإنشاء كأنه قيل: فاحكم بينهم و لا تكن للخائنين خصيما. و الخصيم هو الذي يدافع عن الدعوى و ما في حكمها، و فيه نهيه (صلی الله عليه و أله) عن أن يكون خصيما للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين و يبطل حقوق المحقين من أهل الدعوى.
و ربما أمكن أن يستفاد من عطف قوله: {وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ} على ما تقدمه
و هو أمره (صلی الله عليه و أله) أمرا مطلقا بالحكم أن المراد بالخيانة مطلق التعدي على حقوق الغير ممن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع و إن كان ربما عطف الخاص على العام لعناية ما بشأنه لكن المورد كالخالي عن العناية، و سيجيء لهذا الكلام تتمة.
قوله تعالى: {وَ اِسْتَغْفِرِ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} الظاهر أن الاستغفار هاهنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الإنسان من إمكان هضم الحقوق و الميل إلى الهوى و مغفرة ذلك، و قد مر مرارا أن العفو و المغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شئون مختلفة يجمعها جامع الذنب، و هو التباعد من الحق بوجه. فالمعنى و الله أعلم و لا تكن للخائنين خصيما و لا تمل إليهم، و اطلب من الله سبحانه أن يوفقك لذلك و يستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم و يتسلط عليك هوى النفس.و الدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات الكريمة: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} فإن الآية تنص على أنهم لا يضرون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل و إظهاره على الحق فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)في أمن إلهي من الضرر، و الله يعصمه فهو لا يجور في حكمه و لا يميل إلى الجور، و لا يتبع الهوى، و من الجور و الميل إلى الهوى المذموم أن يفرق في حكمه بين قوي و ضعيف، أو صديق و عدو، أو مؤمن و كافر ذمي، أو قريب و بعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال و تبعة منه، و لا لإشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، و لا ريب في حاجته في ذلك إلى ربه و عدم استغنائه عنه و إن كان على عصمة، فإن لله سبحانه أن يفعل ما يشاء.
و هذه العصمة مدار عملها ما يعد طاعة و معصية، و ما يحمد أو يذم عليه من الأعمال لا ما هو الواقع الخارجي، و بعبارة أخرى الآيات تدل على أنه (صلی الله عليه و أله) في أمن من اتباع الهوى، و الميل إلى الباطل، و أما إن الذي يحكم و يقضي به بما شرعه من القواعد و قوانين القضاء الظاهرية كقوله: «البينة على المدعي و اليمين على من أنكر» و نحو ذلك يصادف دائما ما هو الحق في الواقع فينتج دائما غلبة المحق، و مغلوبية المبطل في دعواه، فالآيات لا تدل على ذلك أصلا، و لا أن القوانين الظاهرية في استطاعتها أن تهدي إلى ذلك قطعا فإنها أمارات مميزة بين الحق و الباطل غالبا لا دائما، و لا معنى لاستلزام
الغالب الدائم و هو ظاهر.
و مما تقدم يظهر ما في كلام بعض المفسرين حيث ذكر في قوله تعالى: {وَ اِسْتَغْفِرِ اَللَّهَ} ، إنه أمر بالاستغفار عما هم به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الدفاع و الذب عن هذا الخائن المذكور في الآية، و قد سأله قومه أن يدفع عنه و يكون خصيما له على يهودي.و ذلك أن هذا القدر أيضا تأثير منهم بأثر مذموم، و قد نفى الله سبحانه عنه (صلی الله عليه و أله) كل ضرر.
قوله تعالى: {وَ لاَ تُجَادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ}، قيل: إن نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعا إليها، أو يعد كل معصية خيانة للنفس كما عد ظلما لها، و قد قال تعالى:.{عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: ١٨٧).
و يمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدل عليه القرآن من أن المؤمنين كنفس واحدة، و أن مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه و صونه عن الضيعة و التلف، كون تعدي بعضهم على بعض بسرقة و نحوها اختيانا لأنفسهم.
و في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، و يؤكده قوله: {أَثِيماً} فإن الأثيم آكد في المعنى من الإثم و هو صفة مشبهة تدل على الثبوت. على أن قوله: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، و كذا قوله: {لِلْخَائِنِينَ} حيث عبر بالوصف و لم يعبر بمثل قولنا: للذين خانوا، كما عبر بذلك في قوله: {فَقَدْ خَانُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (الأنفال: ٧١).
فمن هذه القرائن و أمثالها يظهر أن معنى الآية بالنظر إلى مورد النزول : و لا تكن خصيما لهؤلاء، و لا تجادل عنهم فإنهم مصرون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الإثم، و الله لا يحب من كان خوانا أثيما. و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول من نزول الآيات في أبي طعمة بن الأبيرق. كما سيجيء.
و معنى الآية مع قطع النظر عن المورد و لا تدافع في قضائك عن المصرين على الخيانة المستمرين عليها، فإن الله لا يحب الخوان الأثيم، و كما أنه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحب قليلها، و لو أمكن أن يحب قليلها أمكن أن يحب كثيرها و إذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها و أما
من خان في أمر ثم نازع في أمر آخر و هو محق في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور و لا ممنوع منه، و لا ينهى عنه قوله: {وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (الآية).
قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ لاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللَّهِ} و هذا أيضا من الشواهد على ما قدمناه من أن الآيات (١٠٥١٢٦) جميعا ذات سياق واحد، نازلة في قصة واحدة، و هي التي يشير إليها قوله: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} (الآية)، و ذلك أن الاستخفاء إنما يناسب الأعمال التي يمكن أن يرمى بها الغير كالسرقة و أمثال ذلك فيتأيد به أن الذي تشير إليه هذه الآية و ما تقدمها من الآيات هو الذي يشير إليه قوله: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} (الآية).
و الاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شيء في الأرض و لا في السماء فطرفه المقابل له أعني عدم الاستخفاء أيضا أمر اضطراري غير مقدور، و إذا كان غير مقدور لم يتعلق به لوم و لا تعيير كما هو ظاهر الآية. لكن الظاهر أن الاستخفاء كناية عن الاستحياء و لذلك قيد قوله: {وَ لاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللَّهِ} (أولا) بقوله: {وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ} فدل على أنهم كانوا يدبرون الحيلة ليلا للتبري من هذه الخيانة المذمومة، و يبيتون في ذلك قولا لا يرضى به الله سبحانه ثم قيده (ثانيا) بقوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} و دل على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال و منها حال الجرم الذي أجرموه، و التقييد بهذين القيدين أعني قوله: {وَ هُوَ مَعَهُمْ} و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ} تقييد بالعام بعد الخاص، و هو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلة خاصة ثم بأخرى عامة.
قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} (الآية) بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، و أنهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام و المراد أن الجدال عنهم لو نفعهم فإنما ينفعهم في الحياة الدنيا، و لا قدر لها عند الله، و أما الحياة الأخروية التي لها عظيم القدر عند الله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين و لا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفل تدبير أمورهم و إصلاح شئونهم.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} (الآية) فيه ترغيب و حث لأولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربهم بالاستغفار، و الظاهر أن الترديد بين السوء و ظلم النفس
و التدرج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدي على الغير، و بالظلم التعدي على النفس، أو أن السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة، و الله أعلم.
و هذه الآية و الآيتان بعدها جميعا كلام مسوق لغرض واحد، و هو بيان أمر الإثم الذي يكسبه الإنسان بعمله، يتكفل كل واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة من جهاته، فالآية الأولى تبين أن المعصية التي يقترفها الإنسان فيتأثر بتبعتها نفسه و تكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها و يستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.
و الآية الثانية تذكر الإنسان أن الإثم الذي يكسبه إنما يكسبه على نفسه و ليس بالذي يمكن أن يتخطاه و يلحق غيره برمي أو افتراء و نحو ذلك.
و الآية الثالثة توضح أن الخطيئة أو الإثم الذي يكسبه الإنسان لو رمى به بريئا غيره كان الرمي به إثما آخر وراء أصل الخطيئة أو الإثم.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} قد تقدم أن الآية مرتبطة مضمونا بالآية التالية المتعرضة للرمي بالخطيئة و الإثم فهذه كالمقدمة لتلك، و على هذا فقوله: {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ} مسوق لقصر التعيين، و في الآية عظة لمن يكسب الإثم ثم يرمي به بريئا غيره. و المعنى و الله أعلم أنه يجب على من يكسب إثما أن يتذكر أن ما يكسبه من الإثم فإنما يكسبه على نفسه لا على غيره، و أنه هو الذي فعله لا غيره و إن رماه به أو تعهد له هو أن يحمل إثمه و كان الله عليما يعلم أنه فعل هذا الكاسب، و أنه الذي فعله لا غيره المرمي به، حكيما لا يؤاخذ بالإثم إلا آثمه، و بالوزر غير وازرتها كما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ} (البقرة: ٢٨٦)، و قال: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ} (الأنعام: ١٦٤) و قال: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (العنكبوت: ١٢).
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً} قال الراغب في المفردات: إن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ
و إن وقع منه كما أراده يقال أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ. و لهذا يقال: أصاب الخطأ، و أخطأ الصواب، و أصاب الصواب، و أخطأ الخطأ. و هذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.
قال: و الخطيئة و السيئة تتقاربان لكن الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولد ذلك الفعل منه كمن يرمي صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره، و السبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر و ما يتولد عنه من الخطإ غير متجاف عنه، و سبب غير محظور كرمي الصيد، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} و قال تعالى: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} فالخطيئة هاهنا هي التي لا تكون عن قصد إلى فعلها (انتهى).
و أظن أن الخطيئة من الأوصاف التي استغني عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة و الرزية و السليقة و نحوها، و وزن فعيل يدل على اختزان الحدث و استقراره، فالخطيئة هي العمل الذي اختزن و استقر فيه الخطأ و الخطأ، الفعل الواقع الذي لا يقصده الإنسان كقتل الخطإ، هذا في الأصل، ثم وسع إلى ما لا ينبغي للإنسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطرية، فكل معصية و أثر معصية من مصاديق الخطإ على هذا التوسع، و الخطيئة هي العمل أو أثر العمل الذي لم يقصده الإنسان (و لا يعد حينئذ معصية) أو لم يكن ينبغي أن يقصده (و يعد حينئذ معصية أو وبال معصية).
لكن الله سبحانه لما نسبها في قوله: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة التي هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الآية هي التي تكون عن قصد إلى فعلها و إن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.
و قد مر في قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ} (البقرة: ٢١٩) أن الإثم هو العمل الذي يوجب بوباله حرمان الإنسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر و القمار و السرقة مما يصد الإنسان عن حيازة الخيرات الحيوية، و يوجب انحطاطا اجتماعيا يسقط الإنسان
عن وزنه الاجتماعي و يسلب عنه الاعتماد و الثقة العامة.
و على هذا فاجتماع الخطيئة و الإثم على نحو الترديد و نسبتهما جميعا إلى الكسب في قوله: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} (الآية) يوجب اختصاص كل منهما بما يختص به من المعنى، و المعنى و الله أعلم : أن من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالا كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمر وبالها كقتل النفس من غير حق و السرقة ثم يرم بها بريئا بنسبتها إليه فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا.
و في تسمية نسبة العمل السيئ إلى الغير رميا و الرمي يستعمل في مورد السهم و كذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كان المفتري يفتك بالمتهم البريء برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملا يشغله عن كل خير مدى حياته من غير أن يفارقه.
و من ما تقدم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالإثم و أخرى بالخطيئة و السوء و الظلم و الخيانة و الضلال، فكل واحد من هذه الألفاظ هو المناسب بمعناه لمحله الذي حل فيه.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ} (إلى آخر الآية) السياق يدل على أن المراد بهمهم بإضلال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو همهم أن يرضوه بالدفاع عن الذين سماهم الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين و الجدال عنهم و على هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضا هم الذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} (الآية) و ينطبق على قوم أبي طعمة على ما سيجيء.
و أما قوله: {وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} فالمراد به بقرينة قوله بعده: {وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} إن إضلال هؤلاء لا يتعدى أنفسهم و لا يتجاوزهم إليك، فهم الضالون بما هموا به لأنه معصية و كل معصية ضلال.
و لهذا الكلام معنى آخر تقدمت الإشارة إليه في الكلام على قوله: {وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران: ٦٩) في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنه لا يناسب هذا المقام.
و أما قوله: {وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ} ففيه نفي إضرارهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)نفيا مطلقا غير أن ظاهر السياق أنه مقيد بقوله: {وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ} على أن يكون جملة حالية عن الضمير في قوله: {يَضُرُّونَكَ} و إن كان الأغلب مقارنة الجملة الفعلية المصدرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة، و على هذا فالكلام مسوق لنفي إضرار الناس مطلقا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)في علم أو عمل.
قوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ظاهر الكلام كما أشرنا إليه أنه في مقام التعليل لقوله: {وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} أو لمجموع قوله: {وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} و كيف كان فهذا الإنزال و التعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلاله (صلی الله عليه و أله)، فهو الملاك في عصمته.
(كلام في معنى العصمة)
ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية و الخطإ، و بعبارة أخرى علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الأخلاق كالشجاعة و العفة و السخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن و التهور و الخمود و الشره و البخل و التبذير.
و العلم النافع و الحكمة البالغة و إن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، و التلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم و الحكمة و الفضلاء من أهل التقوى و الدين، غير أن ذلك سبب غالبي كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي فلا تكاد تجد متلبسا بكمال يحجزه كماله من النواقص و يصونه عن الخطإ صونا دائميا من غير تخلف، سنة جارية في جميع الأسباب التي نراها و نشاهدها.
و الوجه في ذلك أن القوى الشعورية المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الآخر أو ضعف التفاته إليه كما أن صاحب ملكة التقوى ما دام شاعرا بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتباع الشهوة غير المرضية، و يجري على مقتضى تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة و انجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوى أو ضعف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه التقوى
و يختار سفساف الشره، و على هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الإنسان و إلا فالإنسان لا يحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائما على ساق، و لا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه التخلفات تستند إلى مغالبة التقوى و الأسباب، و تغلب بعضها على بعض.
و من هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، و لو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور و الإدراك لتسرب إليها التخلف، و خبطت في أثرها أحيانا، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم و الإدراكات المتعارفة التي تقبل الاكتساب و التعلم.
و قد أشار الله تعالى إليه في خطابه الذي خص به نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: {وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} و هو خطاب خاص لا نفقهه حقيقة الفقه إذ لا ذوق لنا في هذا النحو من العلم و الشعور غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالى بعض الظهور كقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ} (البقرة: ٩٧) و قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: ١٩٥) أن الإنزال المذكور من سنخ العلم، و يظهر من جهة أخرى أن ذلك من قبيل الوحي و التكليم كما يظهر من قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى} (الآية) (الشورى: ١٣) و قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: ١٦٣) و قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} (الأنعام: ٥٠)، و قوله: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ} (الأعراف: ٢٠٣).
و يستفاد من الآيات على اختلافها أن المراد بالإنزال هو الوحي وحي الكتاب و الحكمة و هو نوع تعليم إلهي لنبيه (صلی الله عليه و أله) غير أن الذي يشير إليه بقوله: {وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب و الحكمة فقط فإن مورد الآية قضاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الحوادث الواقعة و الدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص، و ليس ذلك من الكتاب و الحكمة بشيء و إن كان متوقفا عليهما بل رأيه و نظره الخاص به.
و من هنا يظهر أن المراد بالإنزال و التعليم في قوله: {وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ
وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحي و نزول الروح الأمين على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)و، الآخر: التعليم بنوع من الإلقاء في القلب و الإلهام الخفي الإلهي من غير إنزال الملك و هذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و على هذا فالمراد بقوله: {وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} آتاك نوعا من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.
فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم و الشعور يغاير سائر أنواع العلوم في أنه غير مغلوب لشيء من القوى الشعورية البتة بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، و لذلك كانت تصون صاحبها من الضلال و الخطيئة مطلقا، و قد ورد في الروايات أن للنبي و الإمام روحا تسمى روح القدس تسدده و تعصمه عن المعصية و الخطيئة، و هي التي يشير إليها قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَ لاَ اَلْإِيمَانُ وَ لَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: ٥٢) بتنزيل الآية على ظاهرها من إلقاء كلمة الروح المعلمة الهادية إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نظيره قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: ٧٣) بناء على ما سيجيء من بيان معنى الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد روح القدس الإمام بفعل الخيرات و عبادة الله سبحانه.
و بان مما مر أيضا أن المراد بالكتاب في قوله: {وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس على حد قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (الآية) (البقرة: ٢١٣) و قد تقدم بيانه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و المراد بالحكمة سائر المعارف الإلهية النازلة بالوحي، النافعة للدنيا و الآخرة، و المراد بقوله: {وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} غير المعارف الكلية العامة من الكتاب و الحكمة.
و بذلك يظهر ما في كلمات بعض المفسرين في تفسير الآية. فقد فسر بعضهم الكتاب بالقرآن، و الحكمة بما فيه من الأحكام، و {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} بالأحكام و الغيب
و فسر بعضهم الكتاب و الحكمة بالقرآن و السنة، و {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} بالشرائع و أنباء الرسل الأولين و غير ذلك من العلوم إلى غير ذلك مما ذكروه، و قد تبين وجه ضعفها بما مر فلا نعيد.
[بيان]
قوله تعالى: {وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} امتنان على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قوله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ} قال الراغب: و ناجيته أي ساررته و أصله أن تخلو به في نجوة من الأرض (انتهى) فالنجوى المسارة في الحديث، و ربما أطلق على نفس المتناجين قال تعالى: {وَ إِذْ هُمْ نَجْوىَ} (الإسراء: ٤٧) أي متناجون.
و في الكلام أعني قوله: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} عود إلى ما تقدم من قوله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ} (الآية) بناء على اتصال الآيات و قد عمم البيان لمطلق المسارة في القول سواء كان ذلك بطريق التبييت أو بغيره لأن الحكم المذكور و هو انتفاء الخير فيه إنما هو لمطلق المسارة و إن لم تكن على نحو التبييت، و نظيره قوله: {وَ مَنْ يُشَاقِقِ} دون أن يقول: و من يناج للمشاقة، لأن الحكم المذكور لمطلق المشاقة أعم من أن يكون نجوى أو لا.
و ظاهر الاستثناء أنه منقطع، و المعنى: لكن من أمر بكذا و كذا فيه ففيما أمر به شيء من الخير، و قد سمى دعوة النجوى إلى الخير أمرا و ذلك من قبيل الاستعارة، و قد عد تعالى هذا الخير الذي يأمر به النجوى ثلاثة: الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس. و لعل إفراد الصدقة عن المعروف مع كونها من أفراده لكونها الفرد الكامل في الاحتياج إلى النجوى بالطبع، و هو كذلك غالبا.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اَللَّهِ} تفصيل لحال النجوى ببيان آخر من حيث التبعة من المثوبة و العقوبة ليتبين به وجه الخير فيما هو خير من النجوى، و عدم الخير فيما ليس بخير منه.
و محصله أن فاعل النجوى على قسمين: (أحدهما) من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، و لا محالة ينطبق على ما يدعو إلى معروف أو إصلاح بين الناس تقربا إلى الله،
و سوف يثيبه الله سبحانه بعظيم الأجر، و (ثانيهما) أن يفعل ذلك لمشاقة الرسول و اتخاذ طريق غير طريق المؤمنين و سبيلهم، و جزاؤه الإملاء و الاستدراج الإلهي ثم إصلاء جهنم و ساءت مصيرا.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ} المشاقة من الشق و هو القطعة المبانة من الشيء فالمشاقة و الشقاق كونك في شق غير شق صاحبك، و هو كناية عن المخالفة، فالمراد بمشاقة الرسول بعد تبين الهدى مخالفته و عدم إطاعته، و على هذا فقوله: {وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ} بيان آخر لمشاقة الرسول، و المراد بسبيل المؤمنين إطاعة الرسول فإن طاعته طاعة الله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ} (النساء: ٨٠).
فسبيل المؤمنين بما هم مجتمعون على الإيمان هو الاجتماع على طاعة الله و رسوله و إن شئت فقل على طاعة رسوله فإن ذلك هو الحافظ لوحدة سبيلهم كما قال تعالى: {وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اَللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) و قد تقدم الكلام في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب، و قال تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: ١٥٣) و إذا كان سبيله سبيل التقوى، و المؤمنون هم المدعوون إليه فسبيلهم مجتمعين سبيل التعاون على التقوى كما قال تعالى: {وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) و الآية كما ترى تنهى عن معصية الله و شق عصا الاجتماع الإسلامي، و هو ما ذكرناه من معنى سبيل المؤمنين.
فمعنى الآية أعني قوله: {وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ} يعود إلى معنى قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى} (الآية) (المجادلة: ٩).
و قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي نجره على ما جرى عليه، و نساعده على ما تلبس به من اتباع غير سبيل المؤمنين كما قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا
كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: ٢٠).
و قوله: {وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً} عطفه بالواو يدل على أن الجميع أي توليته ما تولى و إصلاءه جهنم أمر واحد إلهي بعض أجزائه دنيوي و هو توليته ما تولى، و بعضها أخروي و هو إصلاؤه جهنم و ساءت مصيرا.
قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (إلى آخر الآية) ظاهر الآية أنها في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ} بناء على اتصال الآيات فالآية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم، و أن الله لا يغفر أن يشرك به، و ربما استفيد ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ} (محمد: ٣٤) فإن ظاهر الآية الثالثة أنها تعليل لما في الآية الثانية من الأمر بطاعة الله و طاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله و طاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا، و هو الشرك.
و المقام يعطي أن إلحاق قوله: {وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إنما هو لتتميم البيان، و إفادة عظمة هذه المعصية المشئومة أعني مشاقة الرسول، و قد تقدم بعض الكلام في الآية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب.
قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} الإناث جمع أنثى يقال: أنث الحديد أنثا أي انفعل و لان، و أنث المكان أسرع في الإنبات و جاد، ففيه معنى الانفعال و التأثر، و بذلك سميت الأنثى من الحيوان أنثى و قد سميت الأصنام و كل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها كما قيل قال تعالى {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٧٤) و قال: {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً} (الفرقان: ٣).
فالظاهر أن المراد بالأنوثة الانفعال المحض الذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق
عز اسمه، و هذا الوجه أولى مما قيل: إن المراد هو اللات و العزى و منات الثالثة و نحوها، و قد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بني فلان إما لتأنيث أسمائها أو لأنها كانت جمادات و الجمادات تؤنث في اللفظ.
و وجه الأولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} كثير ملاءمة، و بين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح و برهما و بوذا.
قوله تعالى: {وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً} المريد هو العاري من كل خير أو مطلق العاري، قال البيضاوي: المارد و المريد الذي لا يعلق بخير، و أصل التركيب للملامسة، و منه صرح ممرد، و غلام أمرد، و شجرة مرداء للتي تناثر ورقها (انتهى).
و الظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة، و قد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي} (يس: ٦١) فيئول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة و دعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.
قوله تعالى: {لَعَنَهُ اَللَّهُ} اللعن هو الإبعاد عن الرحمة، و هو وصف ثان للشيطان و بمنزلة التعليل للوصف الأول.
قوله تعالى: {وَ قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} ( ص: ٨٣) و في قوله: {مِنْ عِبَادِكَ} تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن، و هو ربهم يحكم فيهم بما شاء.
قوله تعالى: {وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ} (إلى آخر الآية) التبتيل هو الشق، و ينطبق على ما نقل: أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر و السوائب لتحريم لحومها. و هذه الأمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الإضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة به، يقول: لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله و اقتراف المعاصي، و لأغرنهم بالاشتغال بالآمال و الأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم
و ما يهمهم من أمرهم، و لآمرنهم بشق آذان الأنعام و تحريم ما أحل الله سبحانه، و لآمرنهم بتغيير خلق الله و ينطبق على مثل الإخصاء و أنواع المثلة و اللواط و السحق.
و ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة و ترك الدين الحنيف، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} (الروم: ٣٠).
ثم عد تعالى دعوة الشيطان و هي طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال: {وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} و لم يقل: و من يكن الشيطان له وليا إشعارا بما تشعر به الآيات السابقة أن الولي هو الله، و لا ولاية لغيره على شيء و إن اتخذ وليا.
قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الآية السابقة: {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} و أي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقية و كمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة و الأماني الموهومة، قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} (النور. ٣٩).
أما المواعيد فهي الوساوس الشيطانية بلا واسطة، و أما الأماني فهي المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات، و لذلك قال {وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى.
ثم بين عاقبة حالهم بقوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ لاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي معدلا و مفرا من «حاص» إذا عدل.
ثم ذكر ما يقابل حالهم و هو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} (إلى آخر الآية) و في الآيات التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة، و الوجه العام فيه الإيماء إلى جلالة المقام و عظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الإشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذي كان هو الأصل، و ذلك في قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} و في ذلك نكتة أخرى، و هي الإيماء إلى قرب الحضور و عدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين و هو وليهم.
قوله تعالى: {وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلاً} فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا، و قوله صدقا.
قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} عود إلى بدء الكلام و بمنزلة النتيجة المحصلة الملخصة من تفصيل الكلام، و ذلك أنه يتحصل من المحكي من أعمال بعض المؤمنين و أقوالهم، و إلحاحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)أن يراعي جانبهم، و يعاضدهم و يساعدهم على غيرهم فيما يقع بينهم من النزاع و المشاجرة أنهم يرون أن لهم بإيمانهم كرامة على الله سبحانه و حقا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)يجب به على الله و رسوله مراعاة جانبهم، و تغليب جهتهم على غيرهم على الحق كانوا أو على الباطل، عدلا كان الحكم أو ظلما على حد ما يراه اتباع أئمة الضلال، و حواشي رؤساء الجور و بطائنهم و أذنابهم، فالواحد منهم يمتن على متبوعه و رئيسه في عين أنه يخضع له و يطيعه، و يرى أن له عليه كرامة تلتزمه على مراعاة جانبه و تقديمه على غيره تحكما.
و كذا كان يراه أهل الكتاب على ما حكاه الله تعالى في كتابه عنهم قال تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصَارى نَحْنُ أَبْنَاءُ اَللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: ١٨)، و قال تعالى: {وَ قَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارى تَهْتَدُوا} (البقرة: ١٣٥)، و قال تعالى: {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران: ٧٥).
فرد الله على هذه الطائفة من المؤمنين في مزعمتهم، و أتبعهم بأهل الكتاب و سمى هذه المزاعم بالأماني استعارة لأنها كالأماني ليست إلا صورا خيالية ملذة لا أثر لها في الأعيان فقال: ليس بأمانيكم معاشر المسلمين أو معشر طائفة من المسلمين و لا بأماني أهل الكتاب بل الأمر يدور مدار العمل إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و قدم ذكر السيئة على الحسنة لأن عمدة خطإهم كانت فيها.
قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} جيء في الكلام بالفصل من غير وصل لأنه في موضع الجواب عن سؤال مقدر، تقديره إذا لم يكن الدخول في حمى الإسلام و الإيمان يجر للإنسان كل خير، و يحفظ منافعه في الحياة، و كذا اليهودية و النصرانية فما هو السبيل؟ و إلى ما ذا ينجر حال الإنسان؟ فقيل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ} (إلخ).
و قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} مطلق يشمل الجزاء الدنيوي الذي تقرره الشريعة الإسلامية كالقصاص للجاني، و القطع للسارق، و الجلد أو الرجم للزاني إلى غير ذلك من أحكام السياسات و غيرها و يشمل الجزاء الأخروي الذي أوعده الله تعالى في كتابه و بلسان نبيه.
و هذا التعميم هو المناسب لمورد الآيات الكريمة و المنطبق عليه، و قد ورد في سبب النزول أن الآيات نزلت في سرقة ارتكبها بعض، و رمى بها يهوديا أو مسلما ثم ألحوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)أن يقضي على المتهم.
و قوله: {وَ لاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} يشمل الولي و النصير في صرف الجزاء السيئ عنه في الدنيا كالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو ولي الأمر و كالتقرب منهما و كرامة الإسلام و الدين، فالجزاء المشرع من عند الله لا يصرفه عن عامل السوء صارف، و يشمل الولي و النصير الصارف عنه سوء الجزاء في الآخرة إلا ما تشمله الآية التالية.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} هذا هو الشق الثاني المتضمن لجزاء عامل العمل الصالح و هو الجنة، غير أن الله سبحانه شرط فيه شرطا يوجب تضييقا في فعلية الجزاء و عمم فيه من جهة أخرى توجب السعة.
فشرط في المجازاة بالجنة أن يكون الآتي بالعمل الصالح مؤمنا إذ الجزاء الحسن إنما هو بإزاء العمل الصالح و لا عمل للكافر، قال تعالى: {وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ٨٨)، و قال تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: ١٠٥).
قال تعالى: {وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ} فأتى بمن التبعيضية، و هو توسعة في الوعد بالجنة، و لو قيل: و من يعمل الصالحات و المقام مقام الدقة في الجزاء أفاد أن الجنة لمن آمن و عمل كل عمل صالح، لكن الفضل الإلهي عمم الجزاء الحسن لمن آمن و أتى ببعض الصالحات فهو يتداركه فيما بقي من الصالحات أو اقترف من المعاصي بتوبة أو شفاعة كما قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: ١١٦) و قد تقدم تفصيل الكلام في التوبة و في قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ} (النساء: ١٧)
في الجزء الرابع، و في الشفاعة في قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: ٤٨) في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و قال تعالى: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} فعمم الحكم للذكر و الأنثى من غير فرق أصلا خلافا لما كانت تزعمه القدماء من أهل الملل و النحل كالهند و مصر و سائر الوثنيين أن النساء لا عمل لهن و لا ثواب لحسناتهن، و ما كان يظهر من اليهودية و النصرانية أن الكرامة و العزة للرجال، و أن النساء أذلاء عند الله نواقص في الخلقة خاسرات في الأجر و المثوبة، و العرب لا تعدو فيهن هذه العقائد فسوى الله تعالى بين القبيلين بقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} .
و لعل هذا هو السر في تعقيب قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ} بقوله: {وَ لاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} لتدل الجملة الأولى على أن النساء ذوات نصيب في المثوبة كالرجال، و الجملة الثانية على أن لا فرق بينهما فيها من حيث الزيادة و النقيصة كما قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران: ١٩٥).
قوله تعالى: {وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ} (إلى آخر الآية) كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لإسلام المسلم أو لإيمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه و حفظ منافعه و بالجملة إذا كان الإيمان بالله و آياته لا يعدل شيئا و يستوي وجوده و عدمه فما هو كرامة الإسلام و ما هي مزية الإيمان؟
فأجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، و لا يداخله شك و لا يخفى حسنه على ذي لب و هو قوله: {وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً} حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الإنسان لا مناص له عن الدين، و أحسن الدين إسلام الوجه لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض، و الخضوع له خضوع العبودية، و العمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا و هو الملة الفطرية، و قد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذي هو أول من أسلم وجهه لله محسنا و اتبع الملة الحنيفية خليلا.
لكن لا ينبغي أن يتوهم أن الخلة الإلهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق و باطل التي يفتح لهم باب المجازفة و التحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك و محيط غير محاط بخلاف الموالي و الرؤساء و الملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم و رعاياهم شيئا إلا و يملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، و يقهرون البعض بالبعض،
و يحكمون على طائفة بالأعضاد من طائفة أخرى و لذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم و بان ضعفهم.
و من هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله: {وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً} (إلخ) بقوله: {وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} .
(بحث روائي)
في تفسير القمي: أن سبب نزولها (يعني قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ} الآيات) أن قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين: بشير، و بشر، و مبشر. فنقبوا على عم قتادة بن النعمان و كان قتادة بدريا و أخرجوا طعاما كان أعده لعياله و سيفا و درعا.
فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله إن قوما نقبوا على عمي، و أخذوا طعاما كان أعده لعياله و سيفا و درعا، و هم أهل بيت سوء، و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له: «لبيد بن سهل» فقال بنو أبيرق لقتادة هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه و خرج عليهم فقال: يا بني أبيرق أ ترمونني بالسرقة؟ و أنتم أولى به مني، و أنتم المنافقون تهجون رسول الله، و تنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك بريء من ذلك.
فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له: «أسيد بن عروة» و كان منطقيا بليغا فمشى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرق و اتهمهم بما ليس فيهم فاغتم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لذلك، و جاءه قتادة فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسرقة، و عاتبه عتابا شديدا فاغتم قتادة من ذلك، و رجع إلى عمه و قال له: يا ليتني مت و لم أكلم رسول الله فقد كلمني بما كرهته. فقال عمه: الله المستعان.
فأنزل الله في ذلك على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ} إلى أن قال: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ} (قال القمي) يعني الفعل فوقع القول مقام الفعل.
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلى أن قال {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} (قال القمي) لبيد بن سهل {فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً}.
و في تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أن إنسانا من رهط بشير الأدنين قالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قالوا: نكلمه في صاحبنا أو نعذره أن صاحبنا بريء فلما أنزل الله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللَّهِ} إلى قوله: {وَكِيلاً} أقبلت رهط بشر فقالوا: يا بشر استغفر الله و تب إليه من الذنوب. فقال: و الذي أحلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً} .
ثم إن بشرا كفر و لحق بمكة، و أنزل الله في النفر الذين أعذروا بشرا و أتوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعذروه قوله: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} إلى قوله: {وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.
و في الدر المنثور: أخرج الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و صححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم «بنو أبيرق»، بشر، و بشير، و مبشر. و كان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا و كذا، قال فلان كذا و كذا، و إذا سمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ذلك الشعر قالوا: و الله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال:
أ و كلما قال الرجال قصيدة | *** | أضموا فقالوا ابن الأبيرق قالها |
قال: و كانوا أهل بيت حاجة و فاقة في الجاهلية و الإسلام، و كان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر و الشعير، و كان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة۱ من الشام من الدرمك٢ ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، أما العيال فإنما طعامهم التمر و الشعير.
فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في
مشربة له،۱ و في المشربة سلاح له: درعان، و سيفاهما، و ما يصلحهما. فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة، و أخذ الطعام و السلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا و سلاحنا.
قال: فتجسسنا في الدار و سألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، و لا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: و قد كان بنو أبيرق قالوا و نحن نسأل في الدار: و الله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح و إسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بنو أبيرق و قال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكرت ذلك له!
قال قتادة: فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، و أخذوا سلاحه و طعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سأنظر في ذلك.
فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له «أسير بن عروة» فكلموه في ذلك و اجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان و عمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام و صلاح يرميانهم بالسرقة من غير بينة و لا ثبت.
قال قتادة: فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام و صلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة و لا ثبت؟
قال قتادة: فرجعت و لوددت أني خرجت من بعض مالي، و لم أكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال، يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: الله المستعان.
فلم نلبث أن نزل القرآن {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} بني أبيرق {وَ اِسْتَغْفِرِ اَللَّهَ} أي مما قلت لقتادة.
{إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ لاَ تُجَادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} أي إنهم لو استغفروا الله لغفر لهم {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} إلى قوله: {فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً} قولهم للبيد {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} يعني أسير بن عروة و أصحابه إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فلما نزل القرآن أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالسلاح فرده إلى رفاعة .
قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، و كان شيخا قد عسا في الجاهلية و كنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا.
فلما نزل القرآن لحق بشر بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله: {وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} إلى قوله: {ضَلاَلاً بَعِيداً} فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان؟ ما كنت تأتيني بخير.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخر.
و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) طرحه على يهودي: فقال اليهودي و الله ما سرقتها يا أبا القاسم، و لكن طرحت علي و كان الرجل الذي سرق جيران يبرءونه و يطرحونه على اليهودي و يقولون: يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله و بما جئت به حتى مال عليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببعض القول.
فعاتبه الله في ذلك فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ وَ لاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَ اِسْتَغْفِرِ اَللَّهَ} مما قلت لهذا اليهودي {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} ثم أقبل على جيرانه فقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {وَكِيلاً} ثم عرض التوبة فقال: {وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ} فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} و إن كان
مشركا {فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً} إلى قوله: {وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى} قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له، و خرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه فهدمه الله عليه فقتله.
أقول: و هذا المعنى أيضا مروي بطرق كثيرة مع اختلاف يسير فيها.
و في تفسير العياشي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من عبد أذنب ذنبا فقام و توضأ و استغفر الله من ذنبه إلا كان حقيقا على الله أن يغفر له لأنه يقول: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
و قال: إن الله ليبتلي العبد و هو يحبه ليسمع تضرعه، و قال ما كان الله ليفتح باب الدعاء و يغلق باب الإجابة لأنه يقول: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} و ما كان ليفتح باب التوبة و يغلق باب المغفرة و هو يقول: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}
و فيه عن عبد الله بن حماد الأنصاري عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه مما قد ستره الله عليه، فأما إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله: {فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً}
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} (الآية) قال: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله فرض التمحل في القرآن قلت: و ما التمحل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحل له، و هو قول الله {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله. ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال و كثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ} و قال: {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} و قال: {لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}
و في تفسير العياشي، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض المعتمدين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ} يعني بالمعروف القرض.
أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره بهذا الإسناد، و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا، و على أي حال فهو من قبيل الجري و ذكر بعض المصاديق.
و في الدر المنثور: أخرج مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و البيهقي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله مرني بأمر أعتصم به في الإسلام قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا، و أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بطرف لسان نفسه.
أقول: و الأخبار في ذم كثرة الكلام و مدح الصمت و السكوت و ما يتعلق بذلك كثيرة جدا مروية في جوامع الشيعة و أهل السنة.
و فيه: أخرج أبو نصر السجزي في «الإبانة» عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله أنزل علي في القرآن يا أعرابي {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يا أعرابي الأجر العظيم الجنة. قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام
و فيه في قوله تعالى: {وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَلرَّسُولَ} (الآية) أخرج الترمذي و البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا و يد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار و فيه: أخرج الترمذي و البيهقي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا يجمع الله أمتي أو قال هذه: الأمة على الضلالة أبدا و يد الله على الجماعة.
أقول: الرواية من المشهورات و قد رواها الهادي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في رسالته إلى أهل الأهواز على ما في ثالث البحار، و قد تقدم الكلام في معنى الرواية في البيان السابق.
و في تفسير العياشي، عن حريز عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليه السلام) قال: لما
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان. فقال: لا، و نهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، وا رمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس و كرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم و ما يريدون ليصلي بهم من شاء و ائتم، قال: {فمن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً}.
و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلاً} (الآية) أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر في حديث خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى غزوة تبوك و فيه فأصبح بتبوك فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، و أوثق العرى كلمة التقوى، و خير الملل ملة إبراهيم، و خير السنن سنة محمد، و أشرف الحديث ذكر الله، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الأمور عوازمها، و شر الأمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف الموت قتل الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير العلم ما نفع، و خير الهدى ما اتبع، و شر العمى عمى القلب، و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى، و شر المعذرة حين يحضر الموت، و شر الندامة يوم القيامة، و من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا و منهم من لا يذكر الله إلا هجرا، و أعظم الخطايا اللسان الكذوب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة الله عز و جل، و خير ما وقر في القلوب اليقين، و الارتياب من الكفر، و النياحة من عمل الجاهلية، و الغلول من جثا جهنم، و الكنز كي من النار، و الشعر من مزامير إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبالة الشيطان، و الشباب شعبة من الجنون، و شر المكاسب كسب الربا، و شر المأكل مال اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقي من شقي في بطن أمه، و إنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، و الأمر بآخره، و ملاك العمل خواتمه، و شر الروايا روايا الكذب، و كل ما هو آت قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية الله، و حرمة ماله كحرمة دمه، و من يتأل على الله يكذبه، و من يغفر يغفر له، و من يعف يعف الله عنه، و من يكظم الغيظ يأجره الله، و من يصبر على الرزية يعوضه الله، و من يبتغ السمعة يسمع الله به، و من يصبر يضعف الله له و من يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي و لأمتي قالها ثلاثا
أستغفر الله لي و لكم.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) و عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله: {وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ} قال: أمر الله بما أمر به.
و فيه عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله: {وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ} قال: دين الله.
أقول: و مآل الروايتين واحد، و هو ما تقدم في البيان السابق أنه دين الفطرة.
و في المجمع في قوله: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ اَلْأَنْعَامِ} قال: ليقطعوا الأذان من أصلها. قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} (الآية) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال بعض أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أشدها من آية، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أ ما تبتلون في أموالكم و أنفسكم و ذراريكم؟ قالوا: بلى، قال: مما يكتب الله لكم به الحسنات و يمحو به السيئات.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة في جوامع أهل السنة عن الصحابة.
و في الدر المنثور: أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب و لا هم و لا حزن و لا أذى و لا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه.
أقول: و هذا المعنى مستفيض عن النبي و أئمة أهل البيت (عليه السلام).
و في العيون، بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه (عليه السلام) أنه قال: إنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه لم يرد أحدا، و لم يسأل أحدا قط غير الله عز و جل.
أقول: و هذا أصح الروايات في تسميته (عليه السلام) بالخليل لموافقته لمعنى اللفظ، و هو الحاجة فخليلك من رفع إليك حوائجه، و هناك وجوه أخر مروية.
[سورة النساء (٤): الآیات ١٢٧ الی ١٣٤]
{وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّسَاءِ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ اَللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدَانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامى بِالْقِسْطِ وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ١٢٧ وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ١٢٨ وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ١٢٩ وَ إِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اَللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كَانَ اَللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ١٣٠وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَانَ اَللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً ١٣١ وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً ١٣٢ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى ذَلِكَ قَدِيراً ١٣٣ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا فَعِنْدَ اَللَّهِ ثَوَابُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ كَانَ اَللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ١٣٤}
(بيان)
الكلام معطوف إلى ما في أول السورة من الآيات النازلة في أمر النساء من آيات الازدواج و التحريم و الإرث و غير ذلك، الذي يفيده السياق أن هذه الآيات إنما نزلت بعد تلك الآيات، و أن الناس كلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في أمر النساء حيثما نزلت آيات أول السورة فأحيت ما أماته الناس من حقوق النساء في الأموال و المعاشرات و غير ذلك.
فأمره الله سبحانه أن يجيبهم أن الذي قرره لهن على الرجال من الأحكام إنما هو فتيا إلهية ليس له في ذلك من الأمر شيء، و لا ذاك وحده بل ما يتلى عليهم في الكتاب في يتامى النساء أيضا حكم إلهي ليس لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيه شيء من الأمر، و لا ذاك وحده بل الله يأمرهم أن يقوموا في اليتامى بالقسط.
ثم ذكر شيئا من أحكام الاختلاف بين المرأة و بعلها يعم به البلوى.
قوله تعالى: {وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّسَاءِ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قال الراغب: الفتيا و الفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام، و يقال: استفتيته فأفتاني بكذا (انتهى).
و المحصل من موارد استعماله أنه جواب الإنسان عن الأمور المشكلة بما يراه باجتهاد من نظره أو هو نفس ما يراه فيما يشكل بحسب النظر البدائي الساذج كما يفيده نسبة الفتوى إليه تعالى.
و الآية و إن احتملت معاني شتى مختلفة بالنظر إلى ما ذكروه من مختلف الوجوه في تركيب ما يتلوها من قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ} (إلخ) إلا أن ضم الآية إلى الآيات الناظرة في أمر النساء في أول السورة يشهد بأن هذه الآية إنما نزلت بعد تلك.
و لازم ذلك أن يكون استفتاؤهم في النساء في عامة ما أحدثه الإسلام و أبدعه من أحكامهن مما لم يكن معهودا معروفا عندهم في الجاهلية و ليس إلا ما يتعلق بحقوق النساء في الإرث و الازدواج دون أحكام يتاماهن و غير ذلك مما يختص بطائفة منهن دون جميعهن فإن هذا المعنى إنما يتكفله قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ} إلخ فالاستفتاء إنما كان في ما يعم النساء بما هن نساء من أحكام الإرث.
و على هذا فالمراد بما أفتاه الله فيهن في قوله: {قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ما بينه تعالى
في آيات أول السورة، و يفيد الكلام حينئذ إرجاع أمر الفتوى إلى الله سبحانه و صرفه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى: يسألونك أن تفتيهم في أمرهن قل: الفتوى إلى الله و قد أفتاكم فيهن بما أفتى فيما أنزل من آيات أول السورة.
قوله تعالى: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ} إلى قوله: {وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدَانِ} تقدم أن ظاهر السياق أن حكم يتامى النساء و المستضعفين من الولدان أنما تعرض له لاتصاله بحكم النساء كما وقع في آيات صدر السورة لا لكونه داخلا فيما استفتوا عنه و إنهم إنما استفتوا في النساء فحسب.
و لازمه أن يكون قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} معطوفا على الضمير المجرور في قوله: {فِيهِنَّ} على ما جوزه الفراء و إن منع عنه جمهور النحاة، و على هذا يكون المراد من قوله: {مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ} (إلخ) الأحكام و المعاني التي تتضمنها الآيات النازلة في يتامى النساء و الولدان، المودعة في أول السورة. و التلاوة كما يطلق على اللفظ يطلق على المعنى إذا كان تحت اللفظ، و المعنى: قل الله يفتيكم في الأحكام التي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.
و ربما يظهر من بعضهم أنه يعطف قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} على موضع قوله: {فِيهِنَّ} بعناية أن المراد بالإفتاء هو التبيين، و المعنى: قل الله يبين لكم ما يتلى عليكم في الكتاب.
و ربما ذكروا للكلام تراكيب أخر لا تخلو عن تعسف لا يرتكب في كلامه تعالى مثله كقول بعضهم: إن قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} معطوف على موضع اسم الجلالة في قوله: {قُلِ اَللَّهُ} أو على ضمير المستكن في قوله: {يُفْتِيكُمْ} و قول بعضهم: إنه معطوف على {اَلنِّسَاءِ} في قوله: {فِي اَلنِّسَاءِ} و قول بعضهم: إن الواو في قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ} للاستيناف، و الجملة مستأنفة، و {مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} مبتدأ خبره قوله: {فِي اَلْكِتَابِ} و الكلام مسوق للتعظيم، و قول بعضهم إن الواو في قوله: {وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} للقسم و يكون قوله: {فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ} بدلا من قوله: {فِيهِنَّ} و المعنى: قل الله يفتيكم أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء (إلخ) و لا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من التعسف الظاهر.
و أما قوله: {اَللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فوصف ليتامى
النساء، و فيه إشارة إلى نوع حرمانهن، الذي هو السبب لتشريع ما شرع الله تعالى لهن من الأحكام فألغى السنة الجائرة الجارية عليهن، و رفع الحرج بذلك عنهن، و ذلك أنهم كانوا يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهن فإن كانت ذات جمال و حسن تزوجوا بها فاستمتعوا من جمالها و مالها، و إن كانت شوهاء دميمة لم يتزوجوا بها و عضلوها عن التزوج بالغير طمعا في مالها.
و من هنا يظهر (أولا): أن المراد بقوله: {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} هو الكتابة التكوينية و هو التقدير الإلهي فإن الصنع و الإيجاد هو الذي يخد للإنسان سبيل الحياة فيعين له أن يتزوج إذا بلغ مبلغه، و أن يتصرف حرا في ماله من المال و القنية، فمنعه من الازدواج و التصرف في مال نفسه منع له مما كتب الله له في خلقه هذه الخلقة.
و (ثانيا): أن الجار المحذوف في قوله: {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} هو لفظة «عن» و المراد الراغبة عن نكاحهن، و الإعراض عنهن لا الرغبة في نكاحهن فإن التعرض لذكر الرغبة عنهن هو الأنسب للإشارة إلى حرمانهن على ما يدل عليه قوله قبله: {لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} و قوله بعده: {وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدَانِ} .
و أما قوله: {وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدَانِ} فمعطوف على قوله: {يَتَامَى اَلنِّسَاءِ} و قد كانوا يستضعفون الولدان من اليتامى، و يحرمونهم من الإرث معتذرين بأنهم لا يركبون الخيل، و لا يدفعون عن الحريم.
قوله تعالى: {وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامى بِالْقِسْطِ} معطوف على محل قوله: {فِيهِنَّ} و المعنى: قل الله يفتيكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، و هذا بمنزلة الإضراب عن الحكم الخاص إلى ما هو أعم منه أعني الانتقال من حكم بعض يتامى النساء و الولدان إلى حكم مطلق اليتيم في ماله و غير ماله.
قوله تعالى: {وَ مَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} تذكرة لهم بأن ما عزم الله عليهم في النساء و في اليتامى من الأحكام فيه خيرهم، و أن الله عليم به لتكون ترغيبا لهم في العمل به لأن خيرهم فيه، و تحذيرا عن مخالفته لأن الله عليم بما يعملون.
قوله تعالى: {وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} حكم خارج عما استفتوا فيه لكنه متصل به بالمناسبة نظير الحكم المذكور في الآية التالية {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا} .
و إنما اعتبر خوف النشوز و الإعراض دون نفس تحققهما لأن الصلح يتحقق موضوعه من حين تحقق العلائم و الآثار المعقبة للخوف، و السياق يدل على أن المراد بالصلح هو الصلح بغض المرأة عن بعض حقوقها في الزوجية أو جميعها لجلب الأنس و الألفة و الموافقة، و التحفظ عن وقوع المفارقة، و الصلح خير.
و قوله: {وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ} الشح هو البخل، معناه: أن الشح من الغرائز النفسانية التي جبلها الله عليها لتحفظ به منافعها، و تصونها عن الضيعة، فما لكل نفس من الشح هو حاضر عندها، فالمرأة تبخل بما لها من الحقوق في الزوجية كالكسوة و النفقة و الفراش و الوقاع، و الرجل يبخل بالموافقة و الميل إذا أحب المفارقة، و كره المعاشرة، و لا جناح عليهما حينئذ أن يصلحا ما بينهما بإغماض أحدهما أو كليهما عن بعض حقوقه.
ثم قال تعالى: {وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} و هو موعظة للرجال أن لا يتعدوا طريق الإحسان و التقوى و ليتذكروا أن الله خبير بما يعملونه، و لا يحيفوا في المعاشرة، و لا يكرهوهن على إلغاء حقوقهن الحقة و إن كان لهن ذلك.
قوله تعالى: {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ} بيان الحكم العدل بين النساء الذي شرع لهن على الرجال في قوله تعالى في أول السورة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: ٣) و كذا يومئ إليه قوله في الآية السابقة: {وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا} (إلخ) فإنه لا يخلو من شوب تهديد، و هو يوجب الحيرة في تشخيص حقيقة العدل بينهن، و العدل هو الوسط بين الإفراط و التفريط، و من الصعب المستصعب تشخيصه، و خاصة من حيث تعلق القلوب تعلق الحب بهن فإن الحب القلبي مما لا يتطرق إليه الاختيار دائما.
فبين تعالى أن العدل بين النساء بحقيقة معناه، و هو اتخاذ حاق الوسط حقيقة مما لا يستطاع للإنسان و لو حرص عليه، و إنما الذي يجب على الرجل أن لا يميل كل الميل إلى أحد الطرفين و خاصة طرف التفريط فيذر المرأة كالمعلقة لا هي ذات زوج فتستفيد من زوجها، و لا هي أرملة فتتزوج أو تذهب لشأنها.
فالواجب على الرجل من العدل بين النساء أن يسوي بينهن عملا بإيتائهن حقوقهن
من غير تطرف، و المندوب عليه أن يحسن إليهن و لا يظهر الكراهة لمعاشرتهن و لا يسيء إليهن خلقا، و كذا كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و هذا الذيل أعني قوله: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} هو الدليل على أن ليس المراد بقوله: {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ} نفى مطلق العدل حتى ينتج بانضمامه إلى قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (الآية) إلغاء تعدد الأزواج في الإسلام كما قيل.
و ذلك أن الذيل يدل على أن المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرف أصلا بلزوم حاق الوسط حقيقة، و أن المشرع هو العدل التقريبي عملا من غير تحرج.
على أن السنة النبوية و رواج الأمر بمرأى و مسمع من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و السيرة المتصلة بين المسلمين يدفع هذا التوهم.
على أن صرف قوله تعالى في أول آية تعدد الأزواج: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنى وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} (النساء: ٣) إلى مجرد الفرض العقلي الخالي عن المصداق ليس إلا تعمية يجل عنها كلامه سبحانه.
ثم قوله: {وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} تأكيد و ترغيب للرجال في الإصلاح عند بروز أمارات الكراهة و الخلاف ببيان أنه من التقوى، و التقوى يستتبع المغفرة و الرحمة، و هذا بعد قوله: {وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ} و قوله: {وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا} تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: {وَ إِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اَللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} أي و إن تفرق الرجل و المرأة بطلاق يغن الله كلا منهما بسعته، و الإغناء بقرينة المقام إغناء في جميع ما يتعلق بالازدواج من الايتلاف و الاستيناس و المس و كسوة الزوجة و نفقتها فإن الله لم يخلق أحد هذين الزوجين للآخر حتى لو تفرقا لم يوجد للواحد منهما زوج مدى حياته بل هذه السنة سنة فطرية فاشية بين أفراد هذا النوع يميل إليها كل فرد بحسب فطرته.
و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} تعليل للحكم المذكور في قوله: {يُغْنِ اَللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} .
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللَّهَ} تأكيد في دعوتهم إلى مراعاة صفة التقوى في جميع مراحل المعاشرة الزوجية، و في كل حال، و أن في تركه كفرا بنعمة الله بناء على أن التقوى الذي يحصل بطاعة الله ليس إلا شكرا لأنعمه، أو أن ترك تقوى الله تعالى لا منشأ له إلا الكفر إما كفر ظاهر كما في الكفار و المشركين، أو كفر مستكن مستبطن كما في الفساق من المؤمنين.
و بهذا الذي بيناه يظهر معنى قوله: {وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} أي إن لم تحفظوا ما وصينا به إياكم و الذين من قبلكم و أضعتم هذه الوصية و لم تتقوا و هو كفر بالله، أو عن كفر بالله فإن ذلك لا يضر الله سبحانه إذ لا حاجة له إليكم و إلى تقواكم، و له ما في السماوات و الأرض، و كان الله غنيا حميدا.
فإن قلت: ما وجه تكرار قوله: {لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} فقد أورد ثلاث مرات.
قلت: أما الأول فإنه تعليل لقوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} و أما الثاني فإنه واقع موقع جواب الشرط في قوله: {وَ إِنْ تَكْفُرُوا} و التقدير: و إن تكفروا فإنه غني عنكم، و تعليل للجواب و قد ظهر في قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً} .
و أما الثالث فإنه استيناف و تعليل بوجه لقوله: {إِنْ يَشَأْ} .
قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً} قد مر بيان معنى ملكه تعالى مكررا، و هو تعالى وكيل يقوم بأمور عباده و شئونهم و كفى به وكيلا لا يحتاج فيه إلى اعتضاد و إسعاد، فلو لم يرتض أعمال قوم و أسخطه جريان الأمر بأيديهم أمكنه أن يذهب بهم و يأتي بآخرين، أو يؤخرهم و يقدم آخرين، و بهذا المعنى الذي يؤيده بل يدل عليه السياق يرتبط بما في هذه الآية قوله في الآية التالية {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ} .
قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ} ، السياق و هو الدعوة إلى ملازمة التقوى الذي أوصى الله به هذه الأمة و من قبلهم من أهل الكتاب يدل على أن إظهار الاستغناء و عدم الحاجة المدلول عليه بقوله: {إِنْ يَشَأْ} إنما هو في أمر التقوى.
و المعنى أن الله وصاكم جميعا بملازمة التقوى فاتقوه، و إن كفرتم فإنه غني عنكم،
و هو المالك لكل شيء المتصرف فيه كيفما شاء و لما شاء إن يشأ أن يعبد و يتقى و لم تقوموا بذلك حق القيام فهو قادر أن يؤخركم و يقدم آخرين يقومون لما يحبه و يرتضيه، و كان الله على ذلك قديرا.
و على هذا فالآية ناظرة إلى تبديل الناس إن كانوا غير متقين بآخرين من الناس يتقون الله، و قد روي۱ أن الآية لما نزلت ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يده على ظهر سلمان و قال: إنهم قوم هذا. و هو يؤيد هذا المعنى، و عليك بالتدبر فيه.
و أما ما احتمله بعض المفسرين. أن المعنى: إن يشأ يفنكم و يوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الإنس، فمعنى بعيد عن السياق. نعم، لا بأس به في مثل قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ} (إبراهيم: ٢٠).
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا فَعِنْدَ اَللَّهِ ثَوَابُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ كَانَ اَللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} بيان آخر يوضح خطأ من يترك تقوى الله و يضيع وصيته بأنه إن فعل ذلك ابتغاء ثواب الدنيا و مغنمها فقد اشتبه عليه الأمر فإن ثواب الدنيا و الآخرة معا عند الله و بيده، فما له يقصر نظره بأخس الأمرين و لا يطلب أشرفهما أو إياهما جميعا؟ كذا قيل.
و الأظهر أن يكون المراد و الله أعلم أن ثواب الدنيا و الآخرة و سعادتهما معا إنما هو عند الله سبحانه فليتقرب إليه حتى من أراد ثواب الدنيا و سعادتها فإن السعادة لا توجد للإنسان في غير تقوى الله الحاصل بدينه الذي شرعه له فليس الدين إلا طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثوابا من غير إيتائه تعالى و إفاضته من عنده و كان الله سميعا بصيرا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال و يعمل فيه، لا يرث الصغير و لا المرأة شيئا فلما
نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس و قالوا: أ يرث الصغير الذي لا يقوم في المال، و المرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّسَاءِ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ} في أول السورة: {فِي يَتَامَى اَلنِّسَاءِ اَللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (الحديث).
و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن إبراهيم في الآية قال :كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، و حبسوها من التزويج حتى تموت فيرثوها فأنزل الله هذا.
أقول: و هذه المعاني مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و قد مر بعضها في أوائل السورة.
و في المجمع في قوله تعالى: {لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} (الآية). ما كتب لهن من الميراث. قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)
و في تفسير القمي، في قوله تعالى: {وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} (الآية) نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، و كانت امرأة قد دخلت في السن، و تزوج عليها امرأة شابة و كانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة فقالت له بنت محمد بن مسلمة: أ لا أراك معرضا عني مؤثرا علي؟ فقال رافع: هي امرأة شابة، و هي أعجب إلي فإن شئت أقررت على أن لها يومين أو ثلاثا مني و لك يوم واحد فأبت بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلقها تطليقة ثم طلقها أخرى فقالت: لا و الله لا أرضى أو تسوي بيني و بينها يقول الله: {وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ} و ابنة محمد لم تطلب نفسها بنصيبها، و شحت عليه، فأعرض عليها رافع إما أن ترضى، و إما أن يطلقها الثالثة فشحت على زوجها و رضيت فصالحته على ما ذكرت فقال الله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ} فلما رضيت و استقرت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت: {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أن يأتي واحدة، و يذر الأخرى لا أيم و لا ذات بعل و هذه السنة فيما كان كذلك إذا
أقرت المرأة و رضيت على ما صالحها عليه زوجها، فلا جناح على الزوج و لا على المرأة، و إن أبت هي طلقها أو تساوى بينهما لا يسعه إلا ذلك.
أقول: و رواها في الدر المنثور، عن مالك و عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه باختصار.
و في الدر المنثور: أخرج الطيالسي و ابن أبي شيبة و ابن راهويه و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن هذه الآية فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها فتصالحه على أن يكون عندها ليلة و عند الأخرى ليالي و لا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به فإن رجعت سوى بينهما.
و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: {وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إني أريد أن أطلقك. فتقول له: لا تفعل إني أكره أن تشمت بي و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، و دعني على حالتي فهو قوله تبارك و تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} و هذا هو الصلح.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر رواها في الكافي، و في تفسير العياشي.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ} قال: قال: أحضرت الشح فمنها ما اختارته، و منها ما لم تختره.
و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ} قال: في المودة.
و في الكافي، بإسناده عن نوح بن شعيب و محمد بن الحسن قال: سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم، قال له. أ ليس الله حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين. قال: فأخبرني عن قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنى وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أ ليس هذا فرض؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قوله: {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي حكيم يتكلم
بهذا؟ فلم يكن عنده جواب.
فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: في غير وقت حج و لا عمرة، قال: نعم جعلت فداك لأمر أهمني إن ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال: و ما هي؟ قال: فأخبره بالقصة.
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) أما قوله عز و جل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنى وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} يعني في النفقة، و أما قوله: {وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسَاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني في المودة.
قال. فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره قال: و الله ما هذا من عندك.
أقول: و روي أيضا نظير الحديث عن القمي: أنه سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول عن المسألة بعينها فسافر إلى المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عنها، فأجابه بمثل الجواب فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره فقال هذا حملته من الحجاز.
و في المجمع: في قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي تذرون التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج و لا أيم: قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام):
و فيه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك.
أقول: و رواه الجمهور بعدة طرق و المراد بقوله: «ما تملك و لا أملك» المحبة القلبية لكن الرواية لا تخلو عن شيء فإن الله أجل من أن يلوم أحدا في ما لا يملكه أصلا و قد قال تعالى:. {لاَ يُكَلِّفُ اَللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: ٧) و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أعرف بمقام ربه من أن يسأله أن يوجد ما هو موجود.
و في الكافي، مسندا عن ابن أبي ليلى قال: حدثني عاصم بن حميد قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة فأمره بالتزويج قال: فاشتدت به الحاجة فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فسأله عن حاله فقال: اشتدت بي الحاجة قال: فارق. ففارق قال: ثم أتاه فسأله عن حاله فقال: أثريت و حسن حالي فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إني أمرتك بأمرين أمر الله بهما قال الله عز و جل: {وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ} إلى قوله: {وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} و قال: {وَ إِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اَللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} .
[سورة النساء (٤): آیة ١٣٥ ]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ١٣٥}
(بيان)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} القسط هو العدل، و القيام بالقسط العمل به و التحفظ له، فالمراد بالقوامين بالقسط القائمون به أتم قيام و أكمله، من غير انعطاف و عدول عنه إلى خلافه لعامل من هوى و عاطفة أو خوف أو طمع أو غير ذلك. و هذه الصفة أقرب العوامل و أتم الأسباب لاتباع الحق و حفظه عن الضيعة، و من فروعها ملازمة الصدق في أداء الشهادة و القيام بها.
و من هنا يظهر أن الابتداء بهذه الصفة في هذه الآية المسوقة لبيان حكم الشهادة ثم ذكر صفة الشهادة من قبيل التدرج من الوصف العام إلى بعض ما هو متفرع عليه كأنه قيل. كونوا شهداء لله، و لا يتيسر لكم ذلك إلا بعد أن تكونوا قوامين بالقسط فكونوا قوامين بالقسط حتى تكونوا شهداء لله.
و قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} اللام فيه للغاية أي كونوا شهداء تكون شهادتكم لله كما قال تعالى: {وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (الطلاق: ٢) و معنى كون الشهادة لله كونها اتباعا للحق و لأجل إظهاره و إحيائه كما يوضحه قوله: {فَلاَ تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا».}
قوله تعالى:. {وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوَالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ} أي و لو كانت على خلاف نفع
أنفسكم أو والديكم أو أقربائكم فلا يحملنكم حب منافع أنفسكم أو حب الوالدين و الأقربين أن تحرفوها أو تتركوها، فالمراد بكون الشهادة على النفس أو على الوالدين و الأقربين أن يكون ما تحمله من الشهادة لو أدى مضرا بحاله أو بحال والديه و أقربيه سواء كان المتضرر هو المشهود عليه بلا واسطة كما إذا تخاصم أبوه و إنسان آخر فشهد له على أبيه، أو يكون التضرر مع الواسطة كما إذا تخاصم اثنان و كان الشاهد متحملا لأحدهما ما لو أداه لتضرر به نفس الشاهد أيضا كالمتخاصم الآخر .
قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِمَا} إرجاع ضمير التثنية إلى الغني و الفقير مع وجود «أو» الترديدية لكون المراد بالغني و الفقير هو المفروض المجهول الذي يتكرر بحسب وقوع الوقائع و تكررها فيكون غنيا في واقعة، و فقيرا في أخرى، فالترديد بحسب فرض البيان و ما في الخارج تعدد، كذا ذكره بعضهم، فالمعنى أن الله أولى بالغني في غناه، و بالفقير في فقره: و المراد و الله أعلم : لا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحق إليه، و لا فقر الفقير أن تراعوا حاله بالعدول عن الحق بل أقيموا الشهادة لله سبحانه ثم خلوا بينه و بين الغني و الفقير فهو أولى بهما و أرحم بحالهما، و من رحمته أن جعل الحق هو المتبع واجب الاتباع، و القسط هو المندوب إلى إقامته، و في قيام القسط و ظهور الحق سعادة النوع التي يقوم بها صلب الغني، و يصلح بها حال الفقير.
و الواحد منهما و إن انتفع بشهادة محرفة أو متروكة في شخص واقعة أو وقائع لكن ذلك لا يلبث دون أن يضعف الحق و يميت العدل، و في ذلك قوة الباطل و حياة الجور و الظلم، و في ذلك الداء العضال و هلاك الإنسانية.
قوله تعالى: {فَلاَ تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا} أي مخافة أن تعدلوا عن الحق و القسط باتباع الهوى و ترك الشهادة لله فقوله: {أَنْ تَعْدِلُوا} مفعول لأجله و يمكن أن يكون مجرورا بتقدير اللام متعلقا بالاتباع أي لأن تعدلوا.
قوله تعالى: {وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} اللي بالشهادة كناية عن تحريفها من لي اللسان. و الإعراض ترك الشهادة من رأس.
و قرئ {وَ إِنْ تَلْوُوا} بضم اللام و إسكان الواو من ولي يلي ولاية، و المعنى: و إن وليتم أمر الشهادة و أتيتم بها أو أعرضتم فإن الله خبير بأعمالكم يجازيكم بها.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن للمؤمن على المؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقا و لو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحق، ثم قال: {فَلاَ تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} يعني عن الحق.
أقول: و فيه تعميم معنى الشهادة لقول الحق مطلقا بمعرفة عموم قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}.
و في المجمع: قيل: معناه إن تلووا أي تبدلوا الشهادة أو تعرضوا أي تكتموها: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام).
[سورة النساء (٤): الآیات ١٣٦ الی ١٤٧]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتَابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتَابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ١٣٦ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ١٣٧ بَشِّرِ اَلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ١٣٨ اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ١٣٩ وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اَللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللَّهَ جَامِعُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ١٤٠اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللَّهِ قَالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ١٤١ إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اَللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلَى اَلصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لاَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٤٢ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلى هَؤُلاَءِ وَ لاَ إِلى هَؤُلاَءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ١٤٣ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ١٤٤ إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ١٤٥ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ١٤٦ مَا يَفْعَلُ اَللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ١٤٧}
(بيان)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتَابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ} أمر المؤمنين بالإيمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الإيمان الثاني أعني قوله: {بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتَابِ} (إلخ) و أيضا بقرينة الإيعاد و التهديد على ترك الإيمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف
مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها ببعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي الموجبة لأن يخلق خلقا و يهديهم إلى ما يرشدهم و يسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، و لا يتم ذلك إلا بإرسال رسل مبشرين و منذرين، و إنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، و تبين لهم معارف المبدأ و المعاد، و أصول الشرائع و الأحكام.
فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم إلا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، و الرد لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو أظهر، و نفاق لو كتم و أخفى، و من النفاق أن يتخذ المؤمن مسيرا ينتهي به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين و يتقرب إلى مجتمع الكفار و يواليهم، و يصدقهم في بعض ما يرمون به الإيمان و أهله، أو يعترضوا أو يستهزءون به الحق و خاصته، و لذلك عقب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين و وعيدهم بالعذاب الأليم.
و ما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضي به ظاهر الآية و هو أوجه مما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم. و كذا ما ذكره بعضهم أن معنى {آمَنُوا} اثبتوا على إيمانكم، و كذا ما ذكره آخرون أن الخطاب لمؤمني أهل الكتاب أي يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل على رسوله و هو القرآن.
و هذه المعاني و إن كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها، و أردأ الوجوه آخرها.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} لما كان الشطر الأول من الآية أعني قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} إلى قوله: {مِنْ قَبْلُ} دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى أن أجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد و المعنى: و من يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشيء من أجزاء الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا.
و ليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم
واحد بمعنى أن الكفر بالمجموع من حيث إنه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض. على أن الآيات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الآية على وجه التفصيل.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}(الآية) لو أخذت وحدها منقطعة عما قبلها و ما بعدها كانت دالة على ما يجازي به الله تعالى أهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم و حالهم هذا الحال بأنه لا يغفر لهم، و لا يهديهم سبيلا، و ليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان، و جعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، و من كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على إيمان جدي يقبل منه، و إن كانوا لو آمنوا إيمانا جديا شملتهم المغفرة و الهداية فإن التوبة بالإيمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، و قد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ} (الآية) (النساء: ١٧) في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطبع و العادة، و لا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان و استقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اَللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جَاءَهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} إلى أن قال {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلضَّالُّونَ} (آل عمران: ٩٠).
و الآيات كما ترى تستثني ممن كفر بعد إيمانه، و قوبل بنفي المغفرة و الهداية، و هي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفرا بعد الإيمان، صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان و الشهادة بحقية الرسول و ظهور الآيات البينات، فهو ردة عنادا و لجاجا، و الازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد و العتو في قلوبهم، و تمكن الطغيان و الاستكبار في نفوسهم، و لا يتحقق الرجوع و التوبة ممن هذا حاله عادة.
هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الآيات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، و على هذا التقدير يكون قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} في مقام التعليل لقوله: {وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} و يكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر هو الذي آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا، و يكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد: {بَشِّرِ اَلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إلى آخر الآيات.
و على هذا يختلف المعنى المراد بقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} (إلى آخر الآيات) بحسب ما فسر به قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ} على ما تقدم من تفاسيره المختلفة:
فإن فسر بأن آمنوا بالله و رسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا المؤمنين و إذا لقوا الكفار.
و إن فسر بأن اثبتوا على الإيمان الذي تلبستم به كان المراد من الإيمان ثم الكفر و هكذا هو الردة بعد الردة المعروفة.
و إن فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله و رسوله كان المراد بالإيمان ثم الكفر و هكذا الإيمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الإيمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر (بمحمد صلى الله عليه وآله و سلم) و ما جاء به من عند ربه، كما قيل.
و إن فسر بأن ابسطوا إجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله: {اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ} فإن من اتصل بالكفار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم و الاستيناس بهم، و الشركة في محاوراتهم، و التصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه، و ينسبونه إلى الدين و أوليائه من المطاعن و المساوئ و يستهزءون و يسخرون به.
فهو كلما لقي المؤمنين و اشترك معهم في شيء من شعائر الدين آمن به، و كلما لقي
الكفار و أمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا و يكفر زمانا حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر و الله أعلم.
و إذ كان مبتلى باختلاف الحال و عدم استقراره فلا توبة له لأنه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، إلا أن يتوب و يستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف الأحوال، و لا تحركه عواصف الأهواء، و لذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقي مجالا للتغير و التحول فقال في الاستثناء الآتي: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} (الآية).
قوله تعالى: {بَشِّرِ اَلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ} (إلخ) تهديد للمنافقين، و قد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، و هذا وصف أعم مصداقا من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، و إنما يتظاهرون بالإيمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و الاتصال بهم باطنا و اتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم).
و هذا يؤيد بعض التأييد أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، و يؤيده ظاهر قوله في الآية اللاحقة: {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، و الخطاب فيه للمؤمنين، و يؤيده أيضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله: {وَ لاَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، و هو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط.
قوله تعالى: {أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} استفهام إنكاري ثم جواب بما يقرر الإنكار فإن العزة من فروع الملك، و الملك لله وحده، قال تعالى: {قُلِ اَللَّهُمَّ مَالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (آل عمران: ٢٦).
قوله تعالى: {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} إلى قوله: {مِثْلُهُمْ} يريد ما نزله في سورة الأنعام: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ}
(الأنعام:) ٦٨ فإن سورة الأنعام مكية، و سورة النساء مدنية.
و يستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة، و المراد بها ما يعم الأمة.
و قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنكم إذا قعدتم معهم و الحال هذه تكونون مثلهم، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ جَامِعُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ}.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللَّهِ} التربص: الانتظار. و الاستحواذ: الغلبة و التسلط، و هذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم إنما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين و الكافرين، يستدرون الطائفتين و يستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة و نحوها، و إن كان للكافرين نصيب قالوا: أ لم نغلبكم و نمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به و الاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه من النصيب أو منة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.
قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لأنه هو الموعود لهم، و للكافرين بالنصيب تحقيرا له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح و أن الله وليهم، و لعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.
قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} الخطاب للمؤمنين و إن كان ساريا إلى المنافقين و الكافرين جميعا، و أما قوله: {وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللَّهُ} فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، و لن ينعكس الأمر أبدا، و فيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة.
و يمكن أن يكون نفي السبيل أعم من النشأتين: الدنيا و الآخرة، فإن المؤمنين غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى: {وَ لاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٣٩).
قوله تعالى: {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اَللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ} المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.
و قوله: {وَ هُوَ خَادِعُهُمْ} في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم و يئول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان، و الاقتراب من المؤمنين، و الحضور في محاضرهم و مشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين فيستدروا منهم بظاهر إيمانهم و أعمالهم من غير حقيقة، و لا يدرون أن هذا الذي خلى بينهم و بين هذه الأعمال و لم يمنعهم منها هو الله سبحانه، و هو خدعة منه لهم و مجازاة لهم بسوء نياتهم و خباثة أعمالهم فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.
قوله تعالى: {وَ إِذَا قَامُوا إِلَى اَلصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لاَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} هذا وصف آخر من أوصافهم و هو القيام إلى الصلاة إذا قاموا إليها كسالى يراءون الناس، و الصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، و لو كانت قلوبهم متعلقه بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل و التواني في التوجه إليه و ذكره، و لم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، و لذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب و اشتغال البال.
قوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلى هَؤُلاَءِ وَ لاَ إِلى هَؤُلاَءِ}، قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهو كتحريك شيء معلق (انتهى). فكون الشيء مذبذبا أن يتردد بين جانبين من غير تعلق بشيء منهما، و هذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك أي الذي ذكر من الإيمان و الكفر لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، و لا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا.
و قوله: {وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما أن الله أضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه.
و لهذه العلة بعينها قيل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} و لم يقل: متذبذبين، أي القهر الإلهي هو الذي يجر لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنة.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اَلْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} (إلى آخر الآيتين) السلطان هو الحجة. و الدرك بفتحتين و قد يسكن الراء قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، و الدرك اعتبارا بالحدور، و لهذا قيل: درجات الجنة و دركات النار، و لتصور الحدور في النار سميت هاوية (انتهى).
و الآية كما ترى تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار و ترك ولاية المؤمنين، ثم الآية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، و ليس إلا أن الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه.
و السياق يدل على أن قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا} كالنتيجة المستنتجة مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، و هذا كالصريح في أن الآيات السابقة إنما تتعرض لحال مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان من المؤمنين و يسميهم المنافقين، و لا أقل من شمولها لهم ثم يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى و لا يتعرضوا لسخط الله، و لا يجعلوا الله تعالى على أنفسهم حجة واضحة فيضلهم و يخدعهم و يذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم و بين الكافرين في جهنم جميعا، ثم يسكنهم في أسفل درك من النار، و يقطع بينهم و بين كل نصير ينصرهم، و شفيع يشفع لهم.
و يظهر من الآيتين أولا: أن الإضلال و الخدعة و كل سخط إلهي من هذا القبيل إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة و المجازاة، و حاشا الجناب الإلهي أن يبدأهم بالشر و الشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله: {أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} يجري مجرى {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦).
و ثانيا: أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، و لا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات.
قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} استثناء من الوعيد الذي ذكر في المنافقين بقوله: {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنَّارِ} (الآية) و لازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، و لحوقهم بصف المؤمنين، و لذلك ذيل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، و ذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} .
و قد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، و ليست تنبت أصول النفاق و أعراقه إلا بها، فذكر التوبة و هي الرجوع إلى الله تعالى، و لا ينفع الرجوع و التوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس و عمل، و لا ينفع الإصلاح
إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه و سنة نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه و ما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.
و لا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم و هو الذي فيه الاعتصام لله، فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه و لا يغفر، فإذا تابوا إلى الله و أصلحوا كل فاسد منهم و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فآمنوا النفاق و اهتدوا قال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢).
و يظهر من سياق الآية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للإيمان، و قد عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله، و هذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم و نعوتهم كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (إلى آخر الآيات) (المؤمنون: ٣)، و قوله تعالى: {وَ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيَاماً} الآيات (الفرقان: ٦٤)، و قوله: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥).
فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على خلافه.
و قد قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ} و لم يقل: فأولئك من المؤمنين لأنهم بتحقق هذه الأوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، و لن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.
قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اَللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ} ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، لأن الكلام جار على خطابهم و إنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم و فرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.
و هو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، و أنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر و الإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره، و لا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم
نعمة الله بأداء واجب حقه و آمنتم به و كان الله شاكرا لمن شكره و آمن به، عليما لا يجهل مورده.
و في الآية دلالة على أن العذاب الشامل لأهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، و كذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، و لو كان شيء من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الذي يستتبعه أيضا من قبله، لأن المسبب يستند إلى من استند إليه السبب.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم: عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً} قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر ثم ازداد كفرا حين لم يبق فيه من الإيمان شيء.
و فيه عن أبي بصير قال: سمعته يقول: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} (الآية) من زعم أن الخمر حرام ثم شربها، و من زعم أن الزنا حرام ثم زنى، و من زعم أن الزكاة حق و لم يؤدها.
أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، و من مراتبه ترك الواجبات و فعل المحرمات، و تأييد لما تقدم في البيان.
و فيه عن محمد بن الفضيل: عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اَللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق و يكذب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي: عن الرضا (عليه السلام) في قول الله جل جلاله {وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قال: فإنه يقول: و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، و لقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا نبيهم بغير الحق و مع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا.
و في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن علي: {وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قال: في الآخرة.
أقول: و قد تقدم أن ظاهر السياق هو الآخرة و لو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجة في الدنيا.
و في العيون، بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن قوله {يُخَادِعُونَ اَللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ} فقال: الله تبارك و تعالى لا يخادع، و لكنه يجازيهم جزاء الخديعة.
و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل: فيما النجاة غدا؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر.
فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه شرك بالله، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له.
و في الكافي، بإسناده عن أبي المعزى الخصاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله عز و جل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية، و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: {يُرَاؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لاَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}
أقول: و هذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف.
و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن علي قال: لا يقل عمل مع تقوى، و كيف يقل ما يتقبل؟.
أقول: و هذا أيضا معنى لطيف، و مرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق.
و فيه: أخرج مسلم و أبو داود و البيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
أقول: و هذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، و كان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور و الطمأنينة في صلاته.
و المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوها من أفق الغروب كأنه يجعل النهار و الليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.
و فيه: أخرج عبد بن حميد و البخاري في تاريخه و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة و إلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع.
و فيه: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال :كل سلطان في القرآن فهو حجة.
و فيه: و أخرج ابن أبي شيبة و المروزي في زوائد الزهد و أبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
أقول: و الرواية من المشهورات، و قد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق أخرى.
و فيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن المحارم.
أقول: و الرواية مستفيضة معنى و قد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة و الشيعة عن النبي و أئمة أهل البيت (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و سنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
و في ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتتة، تركنا إيرادها لظهورها في الجري و تطبيق المصداق و الله أعلم.
[سورة النساء (٤): الآیات ١٤٨ الی ١٤٩ ]
{لاَ يُحِبُّ اَللَّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كَانَ اَللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ١٤٨ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيراً ١٤٩}
بيان
قوله تعالى: {لاَ يُحِبُّ اَللَّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} قال الراغب في مادة «جهر» يقال لظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو رأيته جهارا، قال الله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً} {أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً} إلى أن قال و أما السمع فمنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ} و السوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، و شتمه بما فيه من المساوئ و العيوب و بما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به و إظهاره، و من المعلوم أنه تعالى منزه من الحب و البغض على حد ما يوجد فينا معشر الإنسان و ما يجانسنا من الحيوان، إلا أنه لما كان الأمر و النهي عندنا بحسب الطبع صادرين عن حب و بغض كني بهما عن الإرادة و الكراهة و عن الأمر و النهي.
فقوله: {لاَ يُحِبُّ اَللَّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ} كناية عن الكراهة التشريعية أعم من التحريم و الإعانة.
و قوله: {إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، و هذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، و يظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، و أما التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية.
و المفسرون و إن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل إنه الدعاء عليه، و من قائل إنه ذكر ظلمه و ما تعدى به عليه و غير ذلك إلا أن الجميع مشمول لإطلاق الآية،
فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها.
و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} في مقام التأكيد للنهي المستفاد من قوله: {لاَ يُحِبُّ اَللَّهُ اَلْجَهْرَ} أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإن الله سميع يسمع القول عليم يعلم به.
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيراً} (الآية) لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تشمل إظهار الخير من القول شكرا لنعمة أنعمها منعم على الإنسان، و تشمل العفو عن السوء و الظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول.
فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلا كإظهار الإنفاق على مستحقه و كذا كل معروف لما فيه من إعلاء كلمة الدين و تشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولا كإظهار الشكر على المنعم و ذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير و تشويق أهل النعمة.
و إخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء و أقرب إلى الخلوص كما قال: {إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهَا وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (البقرة: ٢٧١).
و العفو عن السوء هو الستر عليه قولا بأن لا يذكر ظالمة بظلمه، و لا يذهب بماء وجهه عند الناس، و لا يجهر عليه بالسوء من القول، و فعلا بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء به، و لا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى: {فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ} (البقرة: ١٩٤).
و قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيراً} سبب أقيم مقام المسبب و التقدير: إن تعفوا عن سوء فقد اتصفتم بصفة من صفات الله الكمالية و هو العفو على قدرة فإن الله ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، و أما إبداء الخير و إخفاؤه أي إيتاؤه على أي حال فهو أيضا من صفاته تعالى بما أنه الله تعالى، و يمكن أن يلوح إليه الكلام.
(بحث روائي)
في المجمع، قال: لا يحب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلم مما يجوز الانتصار في الدين: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن أبي الجارود عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه.
و في تفسير القمي: و في حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثناء و العمل الصالح فلا تقبله منه و كذبه فقد ظلمك.
و في تفسير العياشي، بإسناده عن الفضل بن أبي قرة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: {لاَ يُحِبُّ اَللَّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} قال: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه.
أقول: و رواه في المجمع، عنه (عليه السلام) مرسلا، و روي من طرق أهل السنة عن مجاهد. و الروايات على أي حال دالة على التعميم كما استفدناه من الآية.
[سورة النساء (٤): الآیات ١٥٠الی ١٥٢]
{إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ١٥٠أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ١٥١ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ١٥٢}
(بيان)
انعطاف إلى حال أهل الكتاب، و بيان لحقيقة كفرهم، و شرح لعدة من مظالمهم، و معاصيهم و مفاسد أقوالهم.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ} هؤلاء أهل الكتاب من اليهود و النصارى فاليهود تؤمن بموسى و تكفر بعيسى و محمد، و النصارى تؤمن بموسى و عيسى
و تكفر بمحمد صلى الله عليهم أجمعين، و هؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله و ببعض رسله، و إنما يكفرون ببعض الرسل، و قد أطلق الله عليهم أنهم كافرون بالله و رسله جميعا و لذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ}.
و لذلك عطف على قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ} قوله: {وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ} بعطف التفسير و نفس المعطوف أيضا بعضه يفسر بعضه، فهم كافرون بالله و رسله لأنهم بقولهم: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ} يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله فيؤمنون بالله و بعض رسله و يكفروا ببعض رسله مع كونه رسولا من الله، و الرد عليه رد على الله تعالى.
ثم بين ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال: {وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي سبيلا متوسطا بين الإيمان بالله و رسله جميعا، و الكفر بالله و رسله جميعا، و هو الإيمان ببعض و الكفر ببعض، و لا سبيل إلى الله إلا الإيمان به و برسله جميعا فإن الرسول بما أنه رسول ليس له من نفسه شيء و لا له من الأمر شيء، فالإيمان به إيمان بالله و الكفر به كفر بالله محضا.
فالكفر بالبعض و الإيمان بالبعض و بالله ليس إلا تفرقة بين الله و بين رسله، و إعطاء الاستقلال للرسول فيكون الإيمان به غير مرتبط بالإيمان بالله، و الكفر به غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفا لا وسطا، و كيف يصح فرض الرسالة ممن لا يرتبط الإيمان به و الكفر به بالإيمان بالله و الكفر به.
فمن البين الذي لا مرية فيه أن الإيمان بمن هذا شأنه و الخضوع له شرك بالله العظيم، و لذلك ترى أنه تعالى بعد وصفهم بأنهم يريدون بالإيمان ببعض الرسل و الكفر بالبعض أن يفرقوا بين الله و رسله و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ذكر أنهم كافرون بذلك حقا فقال: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا} ثم أوعدهم فقال: {وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} .
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لما كفر أولئك المفرقين بين الله و رسله، و ذكر أنهم كافرون بالله و رسله ذكر من يقابلهم بالإيمان بالله و رسله على سبيل عدم التفرقة تتميما للأقسام.
و في الآيات التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: {وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً
مُهِيناً} ثم إلى الخطاب في قوله: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} و لعل الوجه فيه أن إسناد الجزاء إلى المتكلم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب.
و يفيد هذه الفائدة أيضا الالتفات الواقع في الآية الثانية فإن توجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)عند الوعد الجميل و هو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع
[سورة النساء (٤): الآیات ١٥٣ الی ١٦٩]
{يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَ آتَيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِيناً ١٥٣ وَ رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَ قُلْنَا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبَابَ سُجَّداً وَ قُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ١٥٤ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٥٥ وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ١٥٦ وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللَّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَ لَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّبَاعَ اَلظَّنِّ وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ١٥٧ بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ١٥٨ وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ١٥٩ فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ كَثِيراً ١٦٠وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ١٦١ لَكِنِ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاَةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ١٦٢ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هَارُونَ وَ سُلَيْمَانَ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ١٦٣ وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً ١٦٤ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ١٦٥ لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً ١٦٦ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً ١٦٧ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ١٦٨ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً ١٦٩}
(بيان)
الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوما، و نجيب عن مسألتهم.
قوله تعالى: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ} أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد و عليه فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب.
و لا ينافيه كون المظالم و الجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصة باليهود كسؤال الرؤية، و اتخاذ العجل، و نقض الميثاق عند رفع الطور و الأمر بالسجدة و النهي عن العدو في السبت و غير ذلك.
فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد و هو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى و عيسى (عليه السلام) و إن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم و العرب و الحبشة و مصر و غيرهم، و ما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى (عليه السلام).
و لعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} و لذلك أيضا عد عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى (عليه السلام) بينهم و لو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، و لذلك أيضا قيل بعد هذه الآيات: {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاَ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ} (إلخ).
و بالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا و وجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القومية و هو التحكم و القول بغير الحق و المجازفة و عدم التقيد بالعهود و المواثيق، و الكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشيء خص الكلام به.
و الذي سألوه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هو أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و لم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن و تلاوته عليهم كيف و القصة إنما وقعت في المدينة و قد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة و شطر مما نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة،
و لا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن نزل فيما نزل مشفعا بالتحدي و دعوى الإعجاز كما في سور: إسراء، و يونس، و هود، و البقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء.
فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق و لا ينقاد للحقيقة و إنما يلغو و يهذو بما قدمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، و ظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (يونس: ٢٠) {أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ} (إسراء: ٩٣).
و لهذا الذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أولا) بأنهم قوم متمادون في الجهالة و الضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم و إن عظمت، و الكفر و الجحود و إن جاءت البينة، و عن نقض المواثيق و إن غلظت و غير ذلك من الكذب و البهتان و أي ظلم، و من هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله و الإقبال على ما اقترحه.
و (ثانيا) أن الكتاب الذي أنزله الله و هو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه و ملائكته و هو الذي يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة.
فقال تعالى في جوابهم أولا: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي مما سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم، {فَقَالُوا أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً} أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، و هذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة و الهذر و الطغيان {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} و القصة مذكورة في سورة البقرة (آية: ٥٥-٥٦) و سورة الأعراف (آية: ١٥٥).
ثم قال تعالى {ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ} و هذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية و الحدوث، و هو من أفظع الجهالات البشرية {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَ آتَيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِيناً} و قد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم و لما يتم التقتيل و لما يقتل الجميع، و هو المراد بالعفو، و آتى موسى (عليه السلام) سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم و على السامري و عجله، و القصة مذكورة في سورة البقرة (آية: ٥٤).
ثم قال تعالى: {وَ رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} و هو الميثاق الذي أخذه الله منهم
ثم رفع فوقهم الطور، و القصة مذكورة مرتين في سورة البقرة (آية ٦٣ ٩٣).
ثم قال تعالى: {وَ قُلْنَا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبَابَ سُجَّداً وَ قُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} و القصتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: ٥٨-٦٥) و سورة الأعراف (١٦١-١٦٣) و ليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى القصتين و إلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللَّهَ} (الآية) (البقرة: ٨٣)، و قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (البقرة: ٨٤).
قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}، الفاء للتفريع و المجرور متعلق بما سيأتي بعد عدة آيات يذكر فيها جرائمهم من قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} و الآيات مسوقة لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي و الأخروي، و فيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيئة أولا.
و قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق و لما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.
و قوله: {وَ كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اَللَّهِ} تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى (عليه السلام) و بعده قص القرآن كثيرا منها، و من جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً} و قوله: {ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ} و إنما قدما في الصدر، و أخرا في هذه الآية لأن المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك و عبادتهم العجل أنسب به و ألصق، و هذه الآية و ما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحق و ذكر أسباب ذلك و الابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام و أقرب.
و قوله: {وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} يعني بهم زكريا و يحيى و غيرهما ممن ذكر القرآن قتلهم إجمالا من غير تسمية.
و قوله: {وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبوية، و قبول الحق لو دعيت إليه، و هذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، و إسناد
عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم و صنعهم.
و لذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله: {بَلْ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم و جحودهم للحق، و كان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم.
و قد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، و أن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم بقوميتهم و مجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، و مطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، و لا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.
قوله تعالى: {بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} و هو قذفها (عليه السلام) في ولادة عيسى بالزنا، و هو كفر و بهتان معا و قد كلمهم عيسى في أول ولادته و قال: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا} (مريم. ٣٠).
قوله تعالى: {وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللَّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَ لَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} قد تقدم في قصص عيسى (عليه السلام) في سورة آل عمران أنهم اختلفوا في كيفية قتله صلبا و غير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا ثم ذكر القتل و الصلب معا في مقام الرد و النفي لبيان النفي التام بحيث لا يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما، و لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، و قد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، و لا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله: {وَ مَا قَتَلُوهُ} قوله: {وَ مَا صَلَبُوهُ} ليؤدي الكلام حقه من الصراحة، و ينص على أنه (عليه السلام) لم يتوف بأيديهم لا صلبا و لا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح (عليه السلام) مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، و ليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجية و الهجمة و الغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره و قد قتله الجنديون من الروميين، و ليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، و مع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على غيره فأخذ و قتل مكانه.
و ربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه (عليه السلام) و الحوادث المربوطة بدعوته و قصص معاصريه من الحكام و الدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسميين بالمسيح و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة : المتقدم منهما محق غير مقتول، و المتأخر منهما مبطل مصلوب، ۱و على هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. و الله أعلم.
و قوله: {وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ} أي اختلفوا في عيسى أو في قتله، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي في جهل بالنسبة إلى أمره {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّبَاعَ اَلظَّنِّ} و هو التخمين أو رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.
و قوله: {وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، و ربما قيل: إن الضمير في قوله: {وَ مَا قَتَلُوهُ} راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقينا. و قتل العلم لغة تمحيضه و تخليصه من الشك و الريب، و ربما قيل: إن الضمير يعود إلى الظن أي ما محضوا ظنهم و ما تثبتوا فيه، و هذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.
قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} و قد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران فقال: {إِذْ قَالَ اَللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رَافِعُكَ إِلَيَّ}٢فذكر التوفي ثم الرفع.
و هذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل و الصلب عليه فقد سلم من قتلهم و صلبهم، و ظاهر الآية أيضا أن الذي ادعي إصابة القتل و الصلب إياه، و هو عيسى (عليه السلام) بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، و حفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه و روحه لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإضراب الواقع في قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ} لا يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل و الموت حتف الأنف.
فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به و أنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف و لا قتلا و صلبا بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.
و ليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح و يرفعه إليه و يحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته و حياته بين قومه، و ما يحكيه من معجزات إبراهيم و موسى و صالح و غيرهم، فكل ذلك يجري مجرى واحدا يدل الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل تحذرا من لزوم خرق العادة و تعطل قانون العلية العام، و قد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.
و بعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته (عليه السلام) و عدم توفيه بعد.
قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} {إِنْ} نافية و المبتدأ محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، و الضمير في قوله: {بِهِ} و قوله: {يَكُونُ} راجع إلى عيسى، و أما الضمير في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} ففيه خلاف.
فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كل واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن عيسى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و عبده حقا و إن كان هذا الإيمان منه إيمانا لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.
و يؤيده أن إرجاع ضمير {قَبْلَ مَوْتِهِ} إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أن عيسى حي لم يمت، و أنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} من غير مخصص، فإن مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.
و قد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى (عليه السلام) و المراد به إيمانهم به عند
نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت.
هذا ما ذكروه، و الذي ينبغي التدبر و الإمعان فيه هو أن وقوع قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} في سياق قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: {وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}۱ .
فقصر (عليه السلام) شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، و هذه الآية أعني قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} (إلخ) تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونه (عليه السلام) حيا بعد، و يعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرارا أو اختيارا.
على أن الأنسب بوقوع هذه الآية: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى: {وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَ لَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} إلى أن قال: {بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} أن تكون الآية في مقام بيان أنه لم يمت و أنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.
فهذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل موته (عليه السلام).
لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اَللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رَافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جَاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ}٢ حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى: {وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن
مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.
بل ظاهر ذيل قوله: {وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفي عيسى (عليه السلام).
لكن الإنصاف أن الآيات لا تنافي ما مر فإن قوله: {وَ جَاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل الكتاب.
و كذا قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اَللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} (الآية) إنما يدل على أن الإيمان لا يستوعبهم جميعا، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلا من كثير. على أن قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} لو دل على إيمانهم به قبل موته فإنما يدل على أصل الإيمان، و أما كونه إيمانا مقبولا غير اضطراري فلا دلالة له على ذلك.
و كذا قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (الآية) مرجع الضمير فيه إنما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: {وَ إِذْ قَالَ اَللَّهُ يَا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (الآية) (المائدة: ١١٦)، و يدل على ذلك أيضا أنه (عليه السلام) من أولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافة، و شهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.
و بالجملة، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات و ما ينضم إليها من الآيات المربوطة بها هو أن عيسى (عليه السلام) لم يتوف بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه كما تقدمت الإشارة إليه و قد تكلمنا بما تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى: {يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: ٥٥) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما أنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.
و في معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى:
منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} يرجع إلى الكتابي و أن معنى قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أن جميعهم يقولون: إن عيسى
الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.
و هذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى (عليه السلام) و صلبه و الرد عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام.
على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} لأنه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.
و منها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد قبل موت ذلك الكتابي.
و هذا في السخافة كسابقه، فإنه لم يجر لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكر في سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير. و لا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبع فيها.
قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الفاء للتفريع، و قد نكر لفظ الظلم و كأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلق على تشخيصه غرض مهم و هو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا لتحريم الطيبات عليهم، و لم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم أمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.
فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم من الطيبات بعد إحلالها.
ثم ضم إلى ذلك قوله: {وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ كَثِيراً} و هو إعراضهم المتكرر عن سبيل الله {وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ بِالْبَاطِلِ}
قوله تعالى: {وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} معطوف على قوله: {حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوي عام و هو تحريم الطيبات، و جزاء أخروي خاص بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.
قوله تعالى: {لَكِنِ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و {اَلرَّاسِخُونَ} و ما عطف عليه مبتدأ و {يُؤْمِنُونَ} خبره، و قوله: {مِنْهُمْ} متعلق بالراسخون و {مِنْ} فيه تبعيضية.
و الظاهر أن {اَلْمُؤْمِنُونَ} يشارك {اَلرَّاسِخُونَ} في تعلق قوله: {مِنْهُمْ} به معنى و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما أنزل من قبلك، و يؤيده التعليل الآتي في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (إلخ)، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك لما وجدوا أن نبوتك و الوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق.
و هذا المعنى كما ترى أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (يس: ٦).
و قوله: {وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاَةَ} معطوف على {اَلرَّاسِخُونَ} و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله: {وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ} و قوله: {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ} مبتدأ خبره قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} و لو كان قوله: {وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاَةَ} مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدأ خبره قوله: {أُولَئِكَ} .
قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريون إلى أنه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.
و قال الكسائي: موضع المقيمين جر، و هو معطوف على «ما» من قوله: {بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ} أي و بالمقيمين الصلاة.
و قال قوم: إنه معطوف على الهاء و الميم من قوله: {مِنْهُمْ} على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنه معطوف على الكاف من {قَبْلِكَ} أي مما أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.
و قيل: إنه معطوف على الكاف في {إِلَيْكَ} أو الكاف في قبلك. و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.
قال: و أما ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله: {وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاَةَ} و عن قوله: {وَ اَلصَّابِئِينَ} و عن قوله: {إِنْ هَذَانِ} فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود: «و المقيمون الصلاة» فمما لا يلتفت إليه لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الذين أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) (انتهى).
و بالجملة قوله: {لَكِنِ اَلرَّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ} استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الكتاب و الحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحق و إثباته، مع أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يأتهم إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ} (الأحقاف: ٩) و قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ} إلى أن قال {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: ١٠).
فذكر الله سبحانه في فصل من القول: أن هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجية اتباع الحق و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بينة ظلموها، و دعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحق لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية اتباع الحق يؤمنون بما
أنزل إليك و ما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزل إليك من الوحي يماثل ما نزل من قبلك على سائر النبيين: نوح و من بعده.
و من هنا يظهر (أولا) وجه توصيف من اتبع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرين على شيء من الحق و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها و إن جاءتهم البينات، فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.
و (ثانيا) وجه ذكر ما أنزل قبلا مع القرآن في قوله: {يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك} لأن المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.
و (ثالثا) أن قوله في الآية التالية: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا} (إلخ) في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.
قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} في مقام التعليل لقوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} كما عرفت آنفا. و محصل المعنى و الله أعلم أنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا لم نؤتك أمرا مبتدعا يختص من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده، و نوح أول نبي جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفية بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من أوتي بكتاب كداود أوتي زبورا و هو وحي نبوي، و موسى أوتي التكليم و هو وحي نبوي، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب أرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضا عن وحي نبوي.
و يجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرهم في أخراهم و دنياهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: {وَ اَلْأَسْبَاطِ} تقدم في قوله تعالى: {وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ} (آل عمران: ٨٤) أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.
قوله تعالى: {وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.
قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ} أحوال ثلاثة أو الأول حال و الأخيران وصفان له. و قد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجة من الله على الناس، و أن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (سورة البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قوله تعالى: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} و إذا كانت له العزة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ} (الأنعام: ١٤٩).
قوله تعالى: {لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ} استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذي ذكر الله تعالى في رد سؤالهم بقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} (إلى آخر الآيات) لازم معناه أن سؤالهم مردود إليهم، لأن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)بوحي من ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي، فمن ادعى أنه مؤمن بما جاءوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.
ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا.
و متن شهادته قوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى، لأن من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحق فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: ٢٨) و قال تعالى: {وَ إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ} (الأنعام. ١٢١).
و بالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام
لكن تقييده بقوله: {بِعِلْمِهِ} يوضح المراد كل الوضوح، و يفيد أن الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.
و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ} (البقرة: ٩٧) و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرم {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير: ٢١) فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى و هم الذين ذكرهم إذ قال: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (عبس: ١٦).
و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد و كفى بالله شهيدا.
و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (إسراء: ٨٨) و قوله: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢)، و قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (يونس. ٣٨).
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيداً} لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه و نزول كتابه من عند الله، و أنه من سنخ الوحي الذي أوحي إلى النبيين من قبله و أنه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.
و في الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث قال {وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} و فيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا و صدوا عن هذا الكتاب و الوحي الذي يتضمنه فقد كفروا و صدوا عن سبيل الله و الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله (إلخ).
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (إلخ) تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة. و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن
سبيل الله كما هو ظاهر.
و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبين فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.
(بحث روائي)
و في تفسير البرهان: في قوله تعالى: {وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟
و في تفسير القمي:في قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (الآية)، قال: حدثني أبي، عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب، قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيها الأمير أية آية هي؟ فقال: قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} و الله إني لأمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أولت قال: كيف هو: قلت: إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي و لا غيره إلا آمن به قبل موته، و يصلي خلف المهدي قال: ويحك أنى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: و الله جئت بها من عين صافية
و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} و إني أوتي بالأسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبد الله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته، عبد الله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى
آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و ايم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة، و لكني أحببت أن أغيظه.
أقول: و رواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفية، و الظاهر أنه روى عن محمد بن علي، ثم اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر (عليه السلام)، و الرواية كما ترى تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الآية
و فيه: أخرج أحمد و البخاري و مسلم و البيهقي في الأسماء و الصفات قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟.
و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله رب العالمين، و اقرءوا إن شئتم: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
أقول: و الروايات في نزول عيسى (عليه السلام) عند ظهور المهدي (عليه السلام) مستفيضة من طرق أهل السنة، و كذا من طرق الشيعة عن النبي و الأئمة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.
و في تفسير العياشي، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
أقول: ظاهره و إن كان مخالفا لظاهر سياق الآيات المتعرضة لأمر عيسى (عليه السلام) لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل كتابي أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابي عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فإيمان كل كتابي لعيسى (عليه السلام) إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أصالة و بعيسى (عليه السلام)
تبعا، فالذي يؤمن به كل كتابي حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد بعثته، و إن كان عيسى (عليه السلام) كذلك أيضا فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى.
و فيه: عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله في عيسى {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} فقال: إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه: عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قال: ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا من الأولين و الآخرين.
أقول: و كون الرواية من الجري أظهر. على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره (عليه السلام) ناظرا إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاما أورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.
و فيه: عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام و بإمامته، كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا} .
أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مروية في ذيل قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ} (فاطر: ٣٢) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
و فيه: في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (الآية) عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيين من بعده فجمع له كل وحي.
أقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) من سنخ الوحي ما يوجب تفرق
السبيل و تفاوت الدعوة، لا أن كل ما أوحي به إلى نبي على خصوصياته فقد أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فهذا مما لا معنى له، و لا أن ما أوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإن الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام): قال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} و أمر كل نبي بالسبيل و السنة.
و في تفسير العياشي، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و كان بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عز و جل: {وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء.
أقول: و رواه في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنه (عليه السلام)، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عز و جل: {رُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).
و المراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا و لا سماهم، كما قص بعض قصص المستعلنين و سمى من سمى منهم. و من الجائز أن يكون قوله: «يعني لم أسم» (إلخ) من كلام الراوي.
و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا.
أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هو من قبيل الجري و التطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته (عليه السلام)، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منه (عليه السلام).
و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، و القمي في تفسيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا} آل محمد حقهم {لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (الآية) و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {قَدْ جَاءَكُمُ اَلرَّسُولُ
بِالْحَقِّ} أي بولاية من أمر الله بولايته.
[سورة النساء (٤): الآیات ١٧٠الی ١٧٥]
{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ١٧٠يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاَ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً ١٧١ لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ١٧٢ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ١٧٣ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ١٧٤ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ١٧٥}
(بيان)
بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تنزيل كتاب من السماء ببيان أن رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، و أن الكتاب الذي جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة الناس كافة إلى نبيه و كتابه.
و قد كان بين فيما بين أن جميع رسله و أنبيائه و قد ذكر فيهم عيسى على سنة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنة الوحي من الله فاستنتج منه صحة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحدين من المؤمنين، و يقروا في عيسى بما أقروا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنهم عباد الله و رسله إلى خلقه.
فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الإيمان برسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأن المبين أولا هو صدق نبوته في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (الآيات).
ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى (عليه السلام) لأنه المتبين ثانيا في ضمن الآيات المذكورة.
ثم دعا إلى اتباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنه المبين أخيرا في قوله تعالى: {لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (الآية).
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} خطاب عام لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لأهل الكتاب، و إنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.
و قوله: {خَيْراً لَكُمْ} حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللازمة أنه خير لكم.
و قوله: {وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئا، و لا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شيء مما في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شيء من ملكه فإن في طباع كل شيء مما في السماوات و الأرض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا و كونه مملوكا شيء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شيء و هو شيء؟
و الآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها.
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاَ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ} ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح (عليه السلام) أنه خطاب للنصارى، و إنما خوطبوا بأهل الكتاب و هو وصف مشترك إشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بينه في كتبه، و مما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق.
و ربما أمكن أن يكون خطابا لليهود و النصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى في غلوهم في الدين، و قولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: {وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللَّهِ} التوبة: ٣٠، و قال تعالى: {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (التوبة: ٣١)، و قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ} إلى أن قال {وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (آل عمران: ٦٤).
و على هذا فقوله: {إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللَّهِ} (إلخ) تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.
هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: {إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللَّهِ} تعليلا لقوله: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى، و قوله: {إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ}، أي المبارك. {عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ}، تصريح بالاسم و اسم الأم ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأي معنى مغاير، و ليكون دليلا على كونه إنسانا مخلوقا كأي إنسان ذي أم. {وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ} تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة «كن» التي ألقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح و الأب، قال تعالى: {إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: ٤٧) فكل شيء كلمة له تعالى غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، و الذي اختص لأجله عيسى (عليه السلام) بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده. {وَ رُوحٌ مِنْهُ} و الروح من الأمر، قال تعالى: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (إسراء: ٨٥) و لما كان عيسى (عليه السلام) كلمة «كن» التكوينية و هي أمر فهو روح.
و قد تقدم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: {إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ} (إلخ) أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيمانا بالله بالربوبية و لرسله و منهم عيسى بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيرا لكم.
و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران.
قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} السبحان مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله: {أَنْ يَكُونَ} و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: أسبحه تسبيحا و أنزهه تنزيها من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتي به للتعظيم.
و قوله: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} حال أو جملة استيناف، و هو على أي حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذي يماثل المولد في سنخ ذاته متكونا منه، و إذا كان كل ما في السماوات و الأرض مملوكا في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيوم لكل شيء وحده فلا يماثله شيء من هذه الأشياء فلا ولد له.
و المقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عز اسمه و لازم هذا أن يكون قوله: {مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجة، و ليست مما في السماوات و الأرض بل هي نفسها.
ثم لما كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في دنياهم و أخراهم ذيل الكلام بقوله: {وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي وليا لشئونكم، مدبرا لأموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ} احتجاج آخر على نفي ألوهية المسيح (عليه السلام) مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو أنه ثالث
ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، و هذا مما لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشيء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذي ينطبق وجوده على كل منها، و قد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح (عليه السلام).
و قوله: {وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ} تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين كمشركي العرب : بكونهم بنات الله فالجملة استطرادية.
و التعبير في الآية أعني قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ} عن عيسى (عليه السلام) بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف٠و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقربون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: {وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ} (آل عمران: ٤٥).
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} حال.من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقربون عن عبادته و الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجن و الملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتقونه.
و من الدليل على أن قوله: {وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ} (إلخ) في معنى أن المسيح و الملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله: {وَ يَسْتَكْبِرْ} إنما قيد به قوله: {وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ} لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أما المسيح و الملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: {وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ} أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته (إلخ).
و قوله: {جَمِيعاً} أي صالحا و طالحا و هذا هو المصحح للتفضيل الذي يتلوه من قوله:
{فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} (إلخ).
قوله تعالى: {وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} التعرض لنفي الولي و النصير مقابلة لما قيل به من ألوهية المسيح و الملائكة.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} قال الراغب: البرهان بيان للحجة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان. و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض. انتهى، فهو على أي حال مصدر. و ربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا أطلق على نفس الدليل و الحجة.
و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} و يمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك، و الجملتان إذا تؤكد إحداهما الأخرى.
و يمكن أن يراد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و يؤيده وقوع الآية في ذيل الآيات المبينة لصدق النبي في رسالته، و نزول القرآن من عند الله تعالى، و كون الآية تفريعا لذلك و يؤيده أيضا قوله تعالى في الآية التالية: {وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ} لما تقدم في الكلام على قوله: {وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران. ١٠١) إن المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتباع لرسوله (صلى الله عليه وآله و سلم).
قوله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ} بيان لثواب من اتبع برهان ربه و النور النازل من عنده.
و الآية كأنها منتزعة من الآية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} و لعله لذلك لم يذكر هاهنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان و النور، لأنه بعينه ما ذكر في الآية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الإشعار بأن جزاء المتبعين هاهنا جزاء المتبعين هنالك، و ليس هناك إلا فريقان: المتبعون و المتخلفون.
و على هذا فقوله في هذه الآية: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} يحاذي قوله في تلك الآية: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} و هو الجنة، و أيضا قوله في هذه الآية: {وَ فَضْلٍ} يحاذي قوله في تلك الآية: {وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} و أما قوله: {وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} فهو
من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: {وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: ١٠١).
[سورة النساء (٤): آیة ١٧٦]
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاَلَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَ نِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ١٧٦}
(بيان)
آية تبين فرائض الكلالة من جهة الأبوين أو الأب على ما يفسرها به السنة، كما أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الأم بحسب البيان النبوي، و من الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة هاهنا أكثر مما ذكر هناك، و من المستفاد من الآيات أن سهام الذكور أكثر من سهام الإناث.
قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاَلَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء و الإفتاء و معنى الكلالة في الآيات السابقة من السورة.
و قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ظاهره الأعم من الذكر و الأنثى على ما يفيده إطلاق الولد وحده. و قال في المجمع: فمعناه: ليس له ولد و لا والد، و إنما أضمرنا فيه الوالد للإجماع، انتهى. و لو كان لأحد الأبوين وجود لم تخل الآية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما.
و قوله: {وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} سهم الأخت من أخيها، و الأخ من أخته، و منه يظهر سهم الأخت من أختها و الأخ من أخيه، و لو كان للفرضين الأخيرين فريضة أخرى لذكرت.
على أن قوله: {وَ هُوَ يَرِثُهَا} في معنى قولنا لو انعكس الأمر أي كان الأخ مكان الأخت لذهب بالجميع، و على أن قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَ نِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} و هو سهم الأختين، و سهم الإخوة لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت و أنوثته في السهام.
و الذي صرحت به الآية من السهام سهم الأخت الواحدة، و الأخ الواحد، و الأختين، و الإخوة المختلطة من الرجال و النساء، و من ذلك يعلم سهام باقي الفروض: منها: الأخوان يذهبان بجميع المال و يقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الأخ الواحد بالجميع، و منها الأخ الواحد مع أخت واحدة، و يصدق عليهما الإخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله {وَ إِنْ كَانُوا إِخْوَةً} على أن السنة مبينة لجميع ذلك.
و السهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الأب وحده، أو كلالة الأبوين وحده، و أما إذا اجتمعا كالأخت لأبوين مع الأخت لأب. لم ترث الأخت لأب و قد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة.
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي حذر أن تضلوا، أو لئلا تضلوا و هو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم. فعجلنا القرى أن تشتمونا.
(بحث روائي)
في المجمع، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي أو سبع فدخل علي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول الله أ لا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن، قلت: الشطر؟ قال أحسن، ثم خرج و تركني و رجع إلي فقال: يا جابر إني لا أراك ميتا من وجعك هذا، و إن الله قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين.
قالوا: و كانوا جابر يقول: أنزلت هذه الآية في.
أقول: و روي ما يقرب عنه في الدر المنثور.
و في الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ضريس و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي في الدلائل عن البراء قال": آخر سورة نزلت كاملة: براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاَلَةِ} .
أقول: و روي فيه عدة روايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصحابة كانوا يسمون الآية بآية الصيف، قال في المجمع: و ذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، و هي التي في أول هذه السورة، و أخرى في الصيف، و هي هذه الآية.
و فيه: أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الكلالة فقال: ما خلا الولد و الوالد.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن بكير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا مات الرجل و له أخت لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت، و النصف الباقي يرد عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الأخت أخ أخذ الميراث كله لقول الله {وَ هُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية، و الثلث الباقي بالرحم، و إن كانوا إخوة رجالا و نساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، و ذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة.
أقول: و روى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن بكير قال: دخل رجل على أبي جعفر (عليه السلام) فسأله عن امرأة تركت زوجها و إخوتها لأمها و أختا لأب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم، و للإخوة من الأم الثلث: سهمان، و للأخت للأب سهم.
فقال الرجل: فإن فرائض زيد و ابن مسعود و فرائض العامة و القضاة على غير ذا، يا أبا جعفر! يقولون: للأخت للأب و الأم ثلاثة أسهم نصيب من ستة يقول: إلى ثمانية.
فقال أبو جعفر: و لم قالوا ذلك؟ قال لأن الله قال: {وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقال أبو جعفر (عليه السلام): فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله؟ فإن الله سمى لها النصف، و إن الله سمى للأخ الكل فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال: {فَلَهَا اَلنِّصْفُ} و قال للأخ: {وَ هُوَ يَرِثُهَا} يعني جميع المال {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فلا تعطون
الذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا و تعطون الذي جعل الله له النصف تاما؟
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و الحاكم و البيهقي عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل توفي و ترك ابنته و أخته لأبيه و أمه فقال: للبنت النصف و ليس للأخت شيء، و ما بقي فلعصبته فقيل: إن عمر جعل للأخت النصف فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله؟ قال الله: {إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقلتم أنتم: لها النصف و إن كان له ولد.
أقول: و في المعاني السابقة روايات أخر.
(٥) «سورة المائدة مدنية و هي مائة و عشرون آية» (١٢٠)
[سورة المائدة (٥): الآیات ١ الی ٣]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ١ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اَللَّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلاَئِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوَاناً وَ إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٢ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ مَا أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَ مَا ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣}
(بيان)
الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها و مختتمها، و عامة الآيات الواقعة فيها، و الأحكام و المواعظ و القصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود و حفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، و التحذير البالغ عن نقضها و عدم الاعتناء بأمرها، و أن عادته تعالى جرت بالرحمة و التسهيل و التخفيف على من اتقى و آمن ثم اتقى و أحسن و التشديد على من بغى و اعتدى و طغا بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة، و تعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.
و لذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود و القصاص، و على مثل قصة المائدة، و سؤال المسيح، و قصة ابني آدم، و على الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل و نقضهم المواثيق المأخوذة منهم، و على كثير من الآيات التي يمتن الله تعالى فيها على الناس بأمور كإكمال الدين، و إتمام النعمة، و إحلال الطيبات، و تشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج و العسر.
و هذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في أواخر أيام حياته و قد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، و المناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده و للتثبت فيها.
قوله تعالى:.{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} العقود جمع عقد و هو شد أحد شيئين بالآخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله، و لازمه التزام أحدهما الآخر، و عدم انفكاكه عنه، و قد كان معتبرا عندهم في
الأمور المحسوسة أولا ثم أستعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، و كجميع العهود و المواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم و الالتزام فيها.
و لما كان العقد و هو العهد يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية و الأعمال العبادية و الأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء، و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد.
و بذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع و النكاح و العهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين.
و كذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة و المؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، و هذا هو الحلف الدائر بينهم.
و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة و الإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلى باللام و إطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد و حكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الأوجه.
(كلام في معنى العقد)
يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} على الأمر بالوفاء بالعقود، و هو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. و العقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي، و هو نوع ربط شيء بشيء آخر بحيث يلزمه و لا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، و ليس للبائع بعد العقد ملك و لا تصرف، و كعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، و ليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، و كالعهد
الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده و ليس له أن ينقضه.
و قد أكد القرآن في الوفاء بالعقد و العهد جميع معانيه و في جميع معانيه و في جميع مصاديقه و شدد فيه كل التشديد، و ذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، و أوعدهم إيعادا عنيفا و مدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
و قد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية، و هو كذلك.
و ليس ذلك إلا لأن العهد و الوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبدا، و الفرد و المجتمع في ذلك سيان، و إنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها و جميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام و العقود و العهود الفرعية التي تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا و لا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي و إن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، و لو صح للإنسان أن ينقض ما عقده و عهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، و هو الركن الذي يلوذ به و يأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام و الاستثمار.
و لذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد و الوفاء به قال تعالى: {وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً} (إسراء: ٣٤) و الآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد و الذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم و قوم و أمة و أمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم و البلية في نقضه أعم.
و لذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده و أهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول و أوضح البيان قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (براءة: ٥) و الآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة و قد أذل الله رقاب المشركين، و أفنى قوتهم و أذهب شوكتهم، و هي تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها و ظهروا عليها من قذارة الشرك، و تهدر دماء المشركين من دون أي قيد و شرط إلا أن يؤمنوا، و مع ذلك تستثني قوما من المشركين بينهم و بين المسلمين عهد عدم التعرض، و لا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا و استذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع و لا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد و مراعاة لجانب التقوى.
نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه و يتلقى هباء باطلا، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ} إلى أن قال {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (براءة: ١٢)، و قال تعالى: {فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ} (البقرة: ١٩٤)، و قال تعالى: {وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ} (المائدة: ٢).
و جملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد و وجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم و أوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه و الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام و الاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لإماطتها.
و لعمري إن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الإنسانية في حكمها و التحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع
الإنساني إلا على أساسه و إماطة مظلمة الاستخدام و الاستثمار، و قد صرح به الكتاب العزيز و سار به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)في سيرته الشريفة، و لو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة و السلام في ذلك، و عليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته و تاريخ حياته.
و إذا قايست بين ما جرت عليه سنة الإسلام من احترام العهد و ما جرت عليه سنن الأمم المتمدنة و غير المتمدنة و لا سيما ما نسمعه و نشاهده كل يوم من معاملة الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم و معاقداتهم و حفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم و نقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق و خدمة الحقيقة.
و من الحري بالدين ذاك و بسننهم ذلك فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان و في رعايته منافع المجتمع، و منطق يقول: إن منافع الأمة تجب رعايتها بأي وسيلة اتفقت و إن دحضت الحق، و أول المنطقين منطق الدين، و ثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية و الديموقراطية و الشيوعية و غيرها.
و قد عرفت مع ذلك أن الإسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بني عليه بناء و يوصي برعايته و لهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.
[بيان]
قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} (إلخ) الإحلال هو الإباحة و البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر و البحر على ما في المجمع، و على هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الإنسان و جنس الحيوان، و قيل: البهيمة جنين الأنعام، و عليه فالإضافة لامية. و كيف كان فقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ} أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها، و قوله: {إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} إشارة إلى ما سيأتي من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ} (الآية).
و قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ} حال من ضمير الخطاب في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ}
و مفاده حرمة هذا الذي أحل إذا كان اصطياده في حال الإحرام، كالوحشي من الظباء و البقرة و الحمر إذا صيدت، و ربما قيل: إنه حال من قوله: {أَوْفُوا} أو حال من ضمير الخطاب في قوله: {يُتْلى عَلَيْكُمْ} و الصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اَللَّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلاَئِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوَاناً} خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى.
و الإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة و المنزلة، و يتعين معناه بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله دم احترامها و تركها، و إحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته و القتال فيه و هكذا.
و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و كان المراد بها أعلام الحج و مناسكه. و الشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية و هي: المحرم و رجب و ذو القعدة و ذو الحجة. و الهدي ما يساق للحج من الغنم و البقر و الإبل. و القلائد جمع قلادة، و هي ما يقلد به الهدي في عنقه من نعل و نحوه ليعلم أنه هدي للحج فلا يتعرض له. و الآمين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، و المراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. و قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً} حال من {آمِّينَ} و الفضل هو المال، أو الربح المالي فقد أطلق عليه في قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (آل عمران: ١٧٤) و غير ذلك أو هو الأجر الأخروي أو الأعم من المال و الأجر.
و قد اختلفوا في تفسير الشعائر و القلائد و غيرهما من مفردات الآية على أقوال شتى، و الذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية، و لا جدوى في التعرض لتفاصيل الأقوال.
قوله تعالى: {وَ إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع، و الحل و الإحلال مجردا و مزيدا فيه بمعنى و هو الخروج من الإحرام.
قوله تعالى: {وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} يقال: جرمه يجرمه أي حمله، و منه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها، و للعقوبة
المالية و غيرها لأنها محمولة على المجرم. و ذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع. و الشنآن العداوة و البغض. و قوله: {أَنْ صَدُّوكُمْ} أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن، و محصل معنى الآية: و لا يحملنكم عداوة قوم و هو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم.
قوله تعالى: {وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ} المعنى واضح، و هذا أساس السنة الإسلامية، و قد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالإيمان و الإحسان في العبادات و المعاملات، كما مر في قوله تعالى: {وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ} (الآية) (البقرة: ١٧٧) و قد تقدم الكلام فيه. و التقوى مراقبة أمر الله و نهيه، فيعود معنى التعاون على البر و التقوى إلى الاجتماع على الإيمان و العمل الصالح على أساس تقوى الله، و هو الصلاح و التقوى الاجتماعيان، و يقابله التعاون على الإثم الذي هو العمل السيئ المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة، و على العدوان و هو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم و قد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا} (الآية) (آل عمران: ٢٠٠) في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم و العدوان بقوله: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} و هو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ} هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام و النحل و هما مكيتان، و سورة البقرة و هي أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الأنعام: ١٤٥) و قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللَّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة: ١٧٣).
و الآيات جميعا كما ترى تحرم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية و تماثل الآية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: {فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ
فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها و بين تلك مؤكدة لتلك الآيات.
بل النهي عنها و خاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الأنعام و النحل المكيتين، فإن آية الأنعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، و قد قال تعالى في سورة المدثر و هي من السور النازلة في أول البعثة : {وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: ٥).
و كذلك ما عده تعالى بقوله: {وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ مَا أَكَلَ اَلسَّبُعُ} جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فإنما ذكرت في الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة و مزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير أن تتضمن الآية فيها على تشريع حديث.
و كذلك ما عده الله تعالى بقوله: {وَ مَا ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} فإنهما و إن كانا أول ما ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما على احتمال ضعيف بالفسق، و قد حرم الفسق في آية الأنعام، و كذا قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} يدل على تحريم ما ذكر في الآية لكونه إثما، و قد دلت آية البقرة على تحريم الإثم، و قال تعالى أيضا: {وَ ذَرُوا ظَاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ} (الأنعام: ١٢٠)، و قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ} (الأعراف: ٣٣).
فقد اتضح و بان أن الآية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الآيات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الأطعمة من اللحوم و نحوها.
قوله تعالى: {وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ مَا أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} المنخنقة هي البهيمة التي تموت بالخنق، و هو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختيارا، و من أن يكون بأي آلة و وسيلة كانت كحبل يشد على عنقها و يسد بضغطة مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة و أمثالها دائرة بينهم في الجاهلية.
و الموقوذة هي التي تضرب حتى تموت، و المتردية هي التي تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر و نحوهما.
و النطيحة هي التي ماتت عن نطح نطحها به غيرها، و ما أكل السبع هي التي أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الأكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه و السبع هو الوحش الضاري كالأسد و الذئب و النمر و نحوها.
و قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فري الأوداج الأربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس و نحو ذلك و الاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالأخير من غير دليل عليه.
و هذه الأمور الخمسة أعني المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع كل ذلك من أفراد الميتة و مصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردي و النطح، و الدليل على ذلك قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فإن من البديهي أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، و إنما تؤكلان بعد زهوقها و حينئذ فإما أن تذكيا أو لا، و قد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، و أما لو تردت شاة مثلا في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، و استند هلاكها إلى الوصف الذي ذكر لها كالانخناق و الوقذ و التردي و النطح.
و الوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها و الذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع، و هو ما إذا ماتت بمرض و نحوه من غير أن يكون لمفاجاة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه الأفراد و المصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس و تتضح الحرمة.
قوله تعالى: {وَ مَا ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ} قال الراغب في المفردات: نصب الشيء وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح و البناء و لحجر، و النصيب الحجارة تنصب على الشيء، و جمعه نصائب و نصب، و كان للعرب حجارة تعبدها و تذبح عليها قال: {كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ} قال: {وَ مَا ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ} و قد يقال في جمعه: أنصاب قال {وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ} و النصب و النصب: التعب.
فالمراد من النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها و يذبحون عليها، و كان من سنن الوثنية.
قوله تعالى: {وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ} و الأزلام هي القداح، و الاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور أو بهيمة أخرى على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممن لا سهم له، و في تشخيص نفس السهام المختلفة و هو الميسر، و قد مر شرحه عند قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ} (الآية) (البقرة: ٢١٩) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسما و قسمة، و قسمة الميراث و قسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} {وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} و استقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: {وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ} و ما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا، و المعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام التي هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الآلة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال. فالمراد بالاستقسام بالأزلام المنهي عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور و نحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.
و أما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير و الشر في الأفعال، و تمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه قالوا: و كان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، و ذلك نوع من الطيرة، و سيأتي زيادة شرح له في البحث الروائي التالي ففيه: أن سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، و ذلك أن الآية و هي مقام عد محرمات الأطعمة، و قد أشير إليها قبلا في قوله: {إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} تعد من محرماتها عشرا، و هي الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به و المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع و ما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، و من معناه استعلام الخير و الشر في الأمور، فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح و القرائن المتوالية
في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا و هل يرتاب عارف بالكلام في ذلك.
نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، و لها معنى آخر و هو زيارة البيت الحرام، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: ١١٩) إلا المعنى الأول، و الأمثلة في ذلك كثيرة.
و قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} يحتمل الإشارة إلى جميع المذكورات، و الإشارة إلى الأخيرين المذكورين بعد قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} لحيلولة الاستثناء، و الإشارة إلى الأخير و لعل الأوسط خير الثلاثة.
قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ}، أمر الآية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الآية أعني قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} و أضفت إليه ذيلها أعني قوله: {فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه و إفادة المراد منه إلى شيء من قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} (إلخ) أصلا، و ألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الآيات الواقعة في سورة الأنعام و النحل و البقرة المبينة لمحرمات الطعام، ففي سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللَّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} و يماثله ما في سورتي الأنعام و النحل.
و ينتج ذلك أن قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} (إلخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها و بيانها، سواء قلنا: إن الآية نازلة في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)هو الذي أمر كتاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين و اختلافهما نزولا. أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل معترضا إذا قيس إلى صدر الآية و ذيلها.
و يؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول لو لم يكن كلها، و هي أخبار جمة يخص قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} (إلخ) بالذكر من غير أن يتعرض
لأصل الآية أعني قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ} أصلا، و هذا يؤيد أيضا نزول قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ} (إلخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر و الذيل، و إن وقوع الآية في وسط الآية مستند إلى تأليف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو إلى تأليف المؤلفين بعده.
و يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن عبد بن حميد عن الشعبي قال: نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية و هو بعرفة {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و كان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: و كان جبرئيل يعلمه كيف ينسك. ثم إن هاتين الجملتين أعني قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} و قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين و بين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، و قبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الأجزاء، متصل الأطراف بعضها ببعض، مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق.
و يؤيد ذلك ما نرى أن السلف و الخلف من مفسري الصحابة و التابعين و المتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما، بعضا و ليس ذلك إلا لأنهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، و بنوا على نزولهما معا، و اجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.
و ينتج ذلك أن هذه الآية المعترضة أعني قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} إلى قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر البتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوي غرضين، و إن اليوم المتكرر في قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و في قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار و أكمل فيه الدين.
ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} فهل المراد به زمان ظهور الإسلام ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين و أتم عليكم النعمة و أيأس منكم الكفار؟.
لا سبيل إلى ذلك لأن ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، و كان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه و آمن
المسلمين و أنه كان ناقصا فأكمله الله و أتم نعمته عليهم و لم يكن لهم قبل الإسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله و يتم نعمته عليهم.
على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} على قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} ، حتى يستقيم الكلام في نظمه.
أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش و أذهب شوكتهم، و هدم فيه بنيان دينهم، و كسر أصنامهم فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، و يضادوا الإسلام و يمانعوا نفوذ أمره و انتشار صيته.
لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الآية تدل على إكمال الدين و إتمام النعمة و لما يكمل الدين بفتح مكة و كان في السنة الثامنة من الهجرة فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، و كم من حلال أو حرام شرع فيما بينه و بين رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
على أن قوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} يعم جميع مشركي العرب و لم يكونوا جميعا آيسين من دين المسلمين، و من الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات و المواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها و احترامها، و كانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، و كانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (عليه السلام) بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية.
أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب تقريبا، و عفت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين و مناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الأمر، و أبدلهم الله بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا.
لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب و إن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة و طي بساط الشرك من الجزيرة و إعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد و قد نزلت فرائض و أحكام بعد ذلك و منها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، و قد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و فيها شيء كثير من أحكام الحلال و الحرام و الحدود و القصاص.
فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع مما
يناسب مفاد الآية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الإسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها، و هو يوم نزول السورة إن كان قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالآية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي (صلی الله علیه و آله)، و ذلك لمكان قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} .
فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني و الثالث المتقدمين.
أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين و به ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، و إن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة و هو في السنة التاسعة من الهجرة، و إن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم و ذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين بعد، و لما يظهر للإسلام قوة و شوكة و غلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.
و من جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم و هو يوم عرفة تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة من الشأن الذي يناسب قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} في الآية.
فربما أمكن أن يقال: إن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بنفسه فيه و تعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول.
لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم و قد أمرهم بحج التمتع و لم يلبث دون أن صار مهجورا، و قد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة و صوم و حج و زكاة و جهاد و غير ذلك لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، و كيف يصح أن يسمى تعليم شيء من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين.
على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الأولى أعني قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} بهذه الفقرة أعني قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و أي ربط
ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حج التمتع للناس.
و ربما أمكن أن يقال إن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده و لا حرام، و بإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، و لاحت آثاره على وجوههم.
لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الآية بقوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} على هذا التقدير و أنهم من هم؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الإسلام عمهم يومئذ و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام و هو الإسلام حقيقة، فمن هم الكفار الآيسون؟.
و إن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الأمم و الأجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.
ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة و انقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام و فرائض بعد اليوم كما في آية الصيف۱ و آيات الربا، حتى أنه روي عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولا آية الربا، و إنه مات رسول الله و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث
و روى البخاري في الصحيح، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات.
و ليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الآية عليها، لأن الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه و إنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه و هذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند.
أو يقال: إن المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، و إجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون و هم لا يخالطهم المشركون.
و فيه: أنه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما
للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين، و أي معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، و ليس الدين إلا مجموعة من عقائد و أحكام، و ليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها و أبعاضها عدد؟ و أما صفاء الجو لإجرائها، و ارتفاع الموانع و المزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.
و يمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون، و يجتنبوها و لا يخشوا الكفار في ذلك لأنهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، و إظهار دينهم و تغليبهم على الكفار.
توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرمات الأربعة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية و ترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث و التشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الإسلام، و لا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن من فقرائهم و هم أكثر السابقين الأولين.
جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الإسلام، و توسعة الله على أهله و إعزازهم و بعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، و زال طمعهم في الظهور عليهم، و إزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، و لا يخافوهم على دينهم و على أنفسهم.
فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، و هو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما بقي من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية و خبائثها و أوهامها، و المبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، و لا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.
فالله سبحانه يخبرهم في الآية أن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم و أنه ينبغي لهم و قد بدلهم بضعفهم قوة، و بخوفهم أمنا، و بفقرهم غنى أن لا يخشوا غيره تعالى، و ينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.
و فيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورط بين المحاذير برمتها و أفسد لفظ الآية و معناها جميعا.
فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام و قوته و هو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} و قد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، و إنما اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آيسون.
و ذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام، و قاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الآية أعني آيات البقرة و الأنعام و النحل، و أن المنخنقة و الموقوذة (إلخ) من أفراد ما ذكر فيها.
و إن أريد به التدرج من حيث البيان الإجمالي و التفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففي غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به أغلب مصداقا، و أكثر ابتلاء، و أوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة و الموقوذة و غيرها، و هي أمور نادرة التحقق و شاذة الوجود، فما بال تلك الأربعة و هي أهم و أوقع و أكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقي من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، و يخاف من التصريح بها.
على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين، و هل يصح أن يسمى تشريع الأحكام دينا و إبلاغها و بيانها إكمالا للدين؟ و لو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين و إتمام لبعض النعمة لا للكل و الجميع، و قد قال تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فأطلق القول من غير تقييد.
على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في أيام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين و إتمام النعمة.
أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الآية المبينة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الأحكام النازلة ما بين نزول المائدة و رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ بل ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمل فيه.
و بعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} و تقديره: اليوم رضيت (إلخ) لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ و ما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضي فيه الإسلام دينا، و لا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضا؟.
و بعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الإشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه و لا نطيل بالإعادة.
أو أن المراد باليوم واحد من الأيام التي بين عرفة و بين ورود النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار و معنى إكمال الدين.
و فيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم.
فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه معناها، و لنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب.
قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} و اليأس يقابل الرجاء، و الدين إنما نزل من عند الله تدريجا يدل على أن الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين و هو الإسلام، و كانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد و زمان، و إن أمرهم ذلك كان يهدد الإسلام حينا بعد حين، و كان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، و إن ذلك كان من حقه أن يحذر منه و يخشاه المؤمنون.
فقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، و من تسر به على خشية، قال تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} (آل عمران: ٦٩)، و قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٩).
و الكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، و لم يكن يضيق صدورهم و ينصدع قلوبهم إلا من جهة أن الدين كان يذهب بسؤددهم و شرفهم و استرسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، و تألفه و تعتاد به نفوسهم، و يختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد و شرط.
فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين إلا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين و إفناء جمعهم بل إطفاء نور الله و تحكيم أركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، و رد المؤمنين كفارا كما مر في قوله: {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} (الآية) قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ} الصف: ٩).
و قال تعالى: {فَادْعُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ} (المؤمن: ١٤).
و لذلك لم يكن لهم هم إلا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، و يهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين و تسرية النفاق في جماعتهم و بث الشبه و الخرافات بينهم لإفساد دينهم.
و قد كانوا يأخذون بادئ الأمر يفترون عزيمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يستمحقون همته في الدعوة الدينية بالمال و الجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} (ص: ٦) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: ٩)، و قوله: {وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (إسراء: ٧٤)، و قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: ٣) على ما ورد في أسباب النزول.
و كان آخر ما يرجونه في زوال الدين، و موت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره و لا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة، و سلطنة في لباس الدعوة و الرسالة، فلو مات أو قتل لانقطع أثره و مات ذكره و ذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين و الجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالي و التجبر و ركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، و سننهم و قوانينهم الحاكمة بين الناس و عليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ} (الكوثر: ٣)
على ما ورد في أسباب النزول.
فقد كان هذه و أمثالها أماني تمكن الرجاء من نفوسهم، و تطمعهم في إطفاء نور الدين، و تزين لأوهامهم أن هذه الدعوة الطاهرة ليست إلا أحدوثة ستكذبه المقادير و يقضي عليها و يعفو أثرها مرور الأيام و الليالي، لكن ظهور الإسلام تدريجا على كل ما نازله من دين و أهله، و انتشار صيته، و اعتلاء كلمته بالشوكة و القوة قضى على هذه الأماني فيئسوا من إفساد عزيمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و إيقاف همته عند بعض ما كان يريده، و تطميعه بمال أو جاه.
قوة الإسلام و شوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب أسباب: الرجاء إلا واحدا، و هو أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، و يقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، و ذلك أن من البديهي أن كمال الدين من جهة أحكامه و معارفه و إن بلغ ما بلغ لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، و أن سنة من السنن المحدثة و الأديان المتبعة لا تبقى على نضارتها و صفائها لا بنفسها و لا بانتشار صيتها و لا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي و لا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها و حفظتها و القائمين بتدبير أمرها.
و من جميع ما تقدم يظهر أن تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)في حفظه و تدبير أمره، و إرشاد الأمة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي، و يكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، و إتماما لهذه النعمة، و ليس يبعد أن يكون قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٩) باشتماله على قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ} إشارة إلى هذا المعنى.
و هذا يؤيد ما ورد من الروايات أن الآية نزلت يوم غدير خم، و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي (عليه السلام)، و على هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، و لا يرد عليه شيء من الإشكالات المتقدمة.
ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أن اليوم: في قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} ظرف متعلق بقوله: {يَئِسَ} و إن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، و تعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيم النوعي، و من صفة الظهور و الحدوث إلى صفة البقاء و الدوام.
و لا يقاس الآية بما سيأتي من قوله: {اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ} (الآية) فإن سياق الآيتين مختلف فقوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ} في سياق الاعتراض، و قوله: {اَلْيَوْمَ أُحِلَّ} في سياق الاستيناف، و الحكمان مختلفان: فحكم الآية الأولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه و التحذير من وجه آخر، و حكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ} يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى و هو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين، و المراد بالذين كفروا كما تقدمت الإشارة إليه مطلق الكفار من الوثنيين و اليهود و النصارى و غيرهم لمكان الإطلاق.
و أما قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ} فالنهي إرشادي لا مولوي، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم و من المعلوم أن الإنسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه و لا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيهفأنتم في أمن من ناحية الكفار، و لا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم و اخشوني.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {وَ اِخْشَوْنِ} بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لو لا يأسهم و هو الدين و نزعه من أيديكم، و هذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، و لهذا لم نحمل الآية على الامتنان.
و يؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير أن يتعلق بوضع دون وضع، و شرط دون شرط، فلا وجه للإضراب من قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} إلى قوله: {وَ اِخْشَوْنِ} لو لا أنها خشية خاصة في مورد خاص.
و لا تقاس الآية بقوله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٧٥)، لأن الأمر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالإيمان، و الخطاب مولوي، و مفاده أنه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب أن يخافوا الله سبحانه وحده.
فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق و هو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله أم لا، و لذلك يعلل ثانيا الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، و هو قوله: {إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} و هذا بخلاف قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ} فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، و ليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها و هو عدم يأس الكفار منه قد ارتفع و سقط أثره فالنهي عنه إرشادي، فكذا الأمر بخشية الله نفسه، و مفاد الكلام أن من الواجب أن تخشوا في أمر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم و قد يئسوا اليوم و انتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده فافهم ذلك.
فالآية لمكان قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ} لا تخلو عن تهديد و تحذير، لأن فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير و في جميع الأحوال فلننظر في خصوصية هذه الخشية، و أنه ما هو السبب الموجب لوجوبها و الأمر بها؟
لا إشكال في أن الفقرتين أعني قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ} و قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} في الآية مرتبطان مسوقتان لغرض واحد، و قد تقدم بيانه فالدين الذي أكمله الله اليوم، و النعمة التي أتمها اليوم و هما أمر واحد بحسب الحقيقة هو الذي كان يطمع فيه الكفار و يخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه و أكمله و أتمه و نهاهم عن أن يخشوهم فيه فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه و هو أن ينزع الله الدين من أيديهم، و يسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
و قد بين الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، و هدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: ٥٣) و قال تعالى: {وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} (البقرة: ٢١١) و ضرب مثلا كليا لنعمه و ما يئول إليه أمر الكفر بها فقال: {وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللَّهِ فَأَذَاقَهَا اَللَّهُ لِبَاسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: ١١٢).
فالآية أعني قوله: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ} إلى قوله: {دِيناً} تؤذن بأن دين المسلمين في أمن
من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، و أنه لا يتسرب إليه شيء من طوارق الفساد و الهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، و إن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، و رفضهم هذا الدين الكامل المرضي، و يومئذ يسلبهم الله نعمته و يغيرها إلى النقمة، و يذيقهم لباس الجوع و الخوف، و قد فعلوا و فعل.
و من أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ} فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا و أعراقها.
و لِآيات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الآية من التحذير و الإيعاد و لم يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة: {وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: ٣٠٢٨) و تعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.
قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشيء حصول ما هو الغرض منه. و قال: تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، و الناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه.
و لك أن تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، و هو أن آثار الأشياء التي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه إن كان له أجزاء بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالإمساك في بعض النهار، و يسمى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيَامَ إِلَى اَللَّيْلِ} (البقرة: ١٨٧) و قال: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً} (الأنعام: ١١٥).
و ضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الأثر ما هو بحسبه، و لو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: ١٩٦) و قال:
{وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ} (البقرة: ١٨٥) فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كله، و يقال: تم لفلان أمره و كمل عقله: و لا يقال تم عقله و كمل أمره.
و أما الفرق بين الإكمال و التكميل، و كذا بين الإتمام و التتميم فإنما هو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو أن الإفعال بحسب الأصل يدل على الدفعة و التفعيل على التدريج، و إن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الإمداد و التمديد و الإفراط و التفريط، و غير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال.
و ينتج ما تقدم أن قوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف و الأحكام المشرعة و قد أضيف إلى عددها اليوم شيء و إن النعمة أيا ما كانت أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصا غير ذي أثر فتمم و ترتب عليه الأثر المتوقع منه.
و النعمة بناء نوع و هي ما يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه، و الأشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، و أكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (إبراهيم: ٣٤) و قال: {وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً} (لقمان: ٢٠).
إلا أنه تعالى وصف بعضها بالشر و الخسة و اللعب و اللهو و أوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: {وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران: ١٧٨)، و قال: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ} (العنكبوت: ٦٤)، و قال: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ} (آل عمران: ١٩٧) إلى غير ذلك.
و الآيات تدل على أن هذه الأشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهي من خلقتها لأجل الإنسان فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للإنسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، و هي القرب منه سبحانه بالعبودية و الخضوع للربوبية، قال
تعالى: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦).
فكل ما تصرف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله و ابتغاء مرضاته فهو نعمة، و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه، فالأشياء في نفسها عزل، و إنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، و دخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشئون العبد، و لازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، و أن الشيء إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شيء منها، قال تعالى: {اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} (البقرة: ٢٥٧)، و قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلى لَهُمْ} (محمد: ١١) و قال في حق رسوله: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) إلى غير ذلك.
فالإسلام و هو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، و هو من جهة اشتماله من حيث العمل به على ولاية الله و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده نعمة.
و لا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله، و لا ولاية رسوله إلا بولاية أولي الأمر من بعده، و هي تدبيرهم لأمور الأمة الدينية بإذن من الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: ٥٩) و قد مر الكلام في معنى الآية، و قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة: ٥٥) و سيجيء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.
فمحصل معنى الآية: اليوم و هو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية التي هي إدارة أمور الدين و تدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله، و هي أنما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو ولي الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)القيم على أمور الدين و الأمة.
فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر
بعد النبي.
و إذا كمل الدين في تشريعه، و تمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله و لا يطاع فيه و الطاعة عبادة إلا الله و من أمر بطاعته من رسول أو ولي.
فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. و إذا تدبرت قوله تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ} (النور: ٥٥) ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} (إلخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: {وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ} .
و سورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك و آية الجد و آية الحجاب و غير ذلك.
قوله تعالى: {فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمخمصة هي المجاعة، و التجانف هو التمايل من الجنف بالجيم و هو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل.
و في سياق الآية دلالة أولا على أن الحكم حكم ثانوي اضطراري، و ثانيا على أن التجويز و الإباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار و يسكن به ألم الجوع، و ثالثا على أن صفة المغفرة و مثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشئها، و هو الحكم الذي يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب.
(بحث علمي في فصول ثلاثة)
١ - العقائد في أكل اللحم
لا ريب أن الإنسان كسائر الحيوان و النبات مجهز بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه و ينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد و البلع إلا أن يمتنع منه لتضرر أو تنفر.
أما التضرر فهو كان يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية و نحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التي في الأديان و الشرائع المختلفة، و هذا القسم امتناع عن الأكل فكري.
و أما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، و قد شوهد ذلك في بعض الأطفال و المجانين، و يلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، و النصارى يستطيبونه، و يتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان و الضفدع و الفأر و غيرها، و هذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني و القريحة المكتسبة.
فتبين أن الإنسان في التغذي باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، و أن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه أنما هو عن فكر أو طبع ثانوي.
و قد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، و هذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من إفريقية و غيرها إنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.
و قد كانت العرب تأكل لحوم الأنعام و غيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر و الوزغ، و تأكل من الأنعام ما قتلته بذبح و نحوه، و تأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة
و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع، و كان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه و لا تأكلون مما قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم و اللحم إذا لم يتضرر به بدن الإنسان و لو بعلاج طبي فنى؟ فجهاز التغذي لا يفرق بين هذا و ذاك.
و كانت العرب أيضا تأكل الدم، كانوا يملئون المعى من الدم و يشوونه و يطعمونه الضيف، و كانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال و شربوا ما ينزل من الدم، و أكل الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.
و أهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنة، فهم على ما ينقل يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب و الهر و حتى الديدان و الأصداف و سائر الحشرات.
و قد أخذ الإسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيعه الطباع المعتدلة من الإنسان، ثم فسره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن و المعز و البقر و الإبل على كراهية في بعضها كالفرس و الحمار، و في الطير بغير الجوارح مما له حوصلة و دفيف و لا مخلب له، و في حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.
ثم حرم دماءها و كل ميتة منها و ما لم يذك بالإهلال به لله عز اسمه، و الغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، و هي إقبال الإنسان على أصل أكل اللحم، و يحترم الفكر الصحيح و الطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، و تجويز ما يستقذر و يتنفر منه.
٢ - كيف أمر بقتل الحيوان و الرحمة تأباه؟
ربما يسأل السائل فيقول إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب و مرارة الفناء و الموت و غريزة حب الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه و الفرار من ألم العذاب و الموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا، و يشق عليهم ما يشق علينا، و النفوس سواء.
و هذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، و نبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، و نحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ و الله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان و هما جميعا في أنهما خلقه سواء؟
و الجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق و التشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.
توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها و بقائها تابعة لناموس التحول، فما من شيء إلا و في إمكانه أن يتحول إلى آخر، و أن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، لا يوجد واحد إلا و يعدم آخر، و لا يبقى هذا إلا و يفني ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، و التبدل و إن شئت فقل: عالم الآكل و المأكول.
فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها و تصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها و تفنيها.
ثم النبات يتغذى بالأرض و يستنشق الهواء ثم الأرض تأكله و تجزئه إلى أجزائه الأصلية و عناصره الأولية، و لا يزال أحدهما يراجع الآخر.
ثم الحيوان يتغذى بالنبات و الماء و يستنشق الهواء، و بعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، و جوارح الطير تأكل أمثال الحمام و العصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، و هي تتغذى بالحبوب و أمثال الذباب و البق و البعوض و هي تتغذى بدم الإنسان و سائر الحيوان و نحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.
فنظام التكوين و ناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم و نحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، و هو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان و النبات جميعا. و في مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع و الكسر و النهش و الطحن من ثنايا و رباعيات و أنياب و طواحن، فلا هو مثل الغنم و البقر من الأنعام لا تستطيع قطعا و نهشا، و لا هو كالسباع لا تستطيع طحنا و مضغا.
ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم و تشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية و إباحة من مؤتمن الخلقة، و هل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، و إباحة العمل المهدي إليه بتسليم أحدهما و إنكار الآخر؟
و الإسلام دين فطري لا هم له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة و تقضي به الفطرة.
و هو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، و هو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم، و حكم الإحساسات و العواطف الباطنية بالتحذر و الامتناع عما يستقذره و يتنفر منه الطباع المستقيمة، و هذان الحكمان أيضا ينتهي أصولهما إلى تصرف من التكوين، و قد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، و حرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني، مثل ما أهل به لغير الله، و ما اكتسب من طريق الميسر و الاستقسام بالأزلام و نحو ذلك، و حرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.
و أما حديث الرحمة المانعة من التعذيب و القتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان و كثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة و تطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، و لو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام و الأسقام و المصائب و أنواع العذاب.
ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل، و لو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازي مجرما على جرمه و لا أن نقابل عدوانا بعدوان و فيه هلاك الأرض و من عليها.
و مع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، و نهى عن زجر الحيوان في القتل، و نهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح و سلخه قبل زهاق روحه و من هذا الباب تحريم المنخنقة و الموقوذة و نهى عن قتل الحيوان و آخر ينظر إليه، و وضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح و أمر بعرض الماء عليه و نحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
و مع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني و لا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، و مرجع ذلك
إلى اتباع حكم العقل.
و أما حديث الرحمة الإلهية و أنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، و لذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى و بالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.
فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم و في القيود التي قيد بها الإباحة و الشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!.
٣ - لما ذا بني الإسلام على التذكية؟
و هذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم، و هو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة و الخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة و نحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيئه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، و حكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية و الذبح؟.
و قد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق. و قد عرفت أن الإسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع.
على أن الاقتصار على إباحة الميتة و أمثالها مما لا ينتج التغذي به إلا فساد المزاج و مضار الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة، و بعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه. ـ
(بحث روائي)
في تفسير العياشي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلا و علي شريفها و أميرها، و لقد عاتب الله أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) في غير مكان و ما ذكر عليا إلا بخير.
أقول: و روي في تفسير البرهان، عن موفق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس: مثله إلى قوله: و أميرها. و رواه أيضا العياشي عن عكرمة. و قد نقلنا الحديث سابقا عن الدر المنثور. و في بعض الروايات عن الرضا (عليه السلام) قال: ليس في القرآن {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلا في حقنا و هو من الجري أو من باطن التنزيل.
و فيه عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: العهود.
أقول: و رواه القمي، أيضا في تفسيره عنه.
و في التهذيب، مسندا عن محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ} فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر و أوبر فذكاته ذكاة أمه الذي عنى الله تعالى.
أقول: و الحديث مروي في الكافي، و الفقيه، عنه عن أحدهما، و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما، و عن زرارة عن الصادق (عليه السلام)، و رواه القمي في تفسيره، و رواه في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اَللَّهِ} (الآية) الشعائر: الإحرام و الطواف و الصلاة في مقام إبراهيم و السعي بين الصفا و المروة، و المناسك كلها من شعائر الله، و من الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها أو قلدها ليعلم الناس أنها هدي فلا يتعرض لها أحد. و إنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، و قوله: {وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرَامَ} و هو ذو الحجة و هو من الأشهر الحرم، و قوله: {وَ لاَ اَلْهَدْيَ} و هو الذي يسوقه إذا أحرم المحرم، و قوله: {وَ لاَ اَلْقَلاَئِدَ} قال:
يقلدها النعل التي قد صلى فيها. قوله: {وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ} قال: الذين يحجون البيت
و في المجمع، قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم.
قال: و قال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وحده و خلف خيله خارج المدينة فقال: إلى ما تدعو؟ و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما أجابه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال؟ أنظرني لعلي أسلم و لي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه و انطلق به و هو يرتجز و يقول:
قد لفها الليل بسواق حطم | *** | ليسبراعي إبل و لا غنم |
و لا بجزار على ظهر وضم | *** | باتوا نياما و ابن هند لم ينم |
بات يقاسيها غلام كالزلم | *** | خدلج الساقين ممسوح القدم |
ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: {وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ} .
قال: و قال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل الله تعالى الآية.
أقول: روى الطبري القصة عن السدي و عكرمة، و القصة الثانية عن ابن زيد و روي في الدر المنثور، القصة الثانية عن ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم و فيه: أنه كان يوم الحديبية. و القصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين و أهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله: {إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (البراءة: ٢٨)، و قوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (البراءة: ٥) الآيتان جميعا نازلتين قبل قوله: {وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ} و لا محل حينئذ للنهي عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام.
و لعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس و مجاهد
و قتادة و الضحاك: أن قوله: {وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ} منسوب بقوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (الآية) و قوله: {إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ} (الآية)، و قد وقع حديث النسخ في تفسير القمي، و ظاهره أنه رواية.
و مع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله، و قد ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الآية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ و على هذا يكون مفاد قوله: {وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ} كالمفسر بقوله بعد: {وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا، و لا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بإثم كالقتل أو عدوان كالذي دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر و التقوى.
و في الدر المنثور: أخرج أحمد و عبد بن حميد: في هذه الآية يعني قوله: {وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ} (الآية) و البخاري في تاريخه، عن وابصة قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنا لا أريد أن أدع شيئا من البر و الإثم إلا سألته عنه فقال لي: يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت: يا رسول الله أخبرني قال: جئت لتسأل عن البر و الإثم، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري و يقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب و اطمأنت إليه النفس، و الإثم ما حاك في القلب، و تردد في الصدر و إن أفتاك الناس و أفتوك.
و فيه: أخرج أحمد و عبد بن حميد و ابن حبان و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي عن أبي أمامة: أن رجلا سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الإثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه.قال: فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته و سرته حسنته فهو مؤمن.
و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري في الأدب و مسلم و الترمذي و الحاكم و البيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن البر و الإثم فقال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في نفسك و كرهت أن يطلع عليه الناس.
أقول: الروايات كما ترى تبتني على قوله تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا} (الشمس: ٨) و تؤيد ما تقدم من معنى الإثم.
و في المجمع: و اختلف في هذا يعني قوله: {وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرَامَ} فقيل: منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عن أكثر المفسرين، و قيل:ما نسخ من هذه السورة شيء، و لا من هذه الآية، لأنه لا يجوز أن يبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا :ثم قال و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)
و في الفقيه، بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: الميتة و الدم و لحم الخنزير معروف، و ما أهل لغير الله به يعني ما ذبح على الأصنام، و أما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم فإذا خنقت و ماتت أكلوها، و الموقوذة كانوا يشدون أرجلها و يضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها، و المتردية كانوا يشدون عينها و يلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، و النطيحة كانوا يتناطحون بالكباش فإذا مات أحدهما أكلوه، و ما أكل السبع إلا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب و الأسد و الدب فحرم الله عز و جل ذلك، و ما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، و قريش كانوا يعبدون الشجر و الصخر فيذبحون لهما، و أن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزون عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل و السهام عشرة، و هي: سبعة لها أنصباء، و ثلاثة لا أنصباء لها.
فالتي لها أنصباء: الفذ و التوأم و المسبل و النافس و الحلس و الرقيب و المعلى، فالفذ له سهم، و التوأم له سهمان، و المسبل له ثلاثة أسهم، و النافس له أربعة أسهم، و الحلس له خمسة أسهم، و الرقيب له ستة أسهم، و المعلى له سبعة أسهم.
و التي لا أنصباء لها: السفيح، و المنيح، و الوغد و ثمن الجزور على من لم يخرج له من الأنصباء شيء و هو القمار فحرمه الله.
أقول: و ما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة و الموقوذة و المتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية، و كذا ذكر قوله:{إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} مع قوله: {وَ مَا أَكَلَ اَلسَّبُعُ} و قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} مع قوله: {وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ} لا دلالة فيه على التقييد.
و في تفسير العياشي، عن عيوق بن قسوط: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله:
{اَلْمُنْخَنِقَةُ} قال: التي تنخنق في رباطها {وَ اَلْمَوْقُوذَةُ} المريضة التي لا تجد ألم الذبح و لا تضطرب و لا تخرج لها دم {وَاَلْمُتَرَدِّيَةُ} التي تردى من فوق بيت أو نحوه {وَ اَلنَّطِيحَةُ} التي تنطح صاحبها.
و فيه عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: المتردية و النطيحة و ما أكل السبع أن أدركت ذكاته فكله.
و فيه عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك لم حرم الله الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى لم يحرم ذلك على عباده و أحل لهم ما سواه من رغبة منه تبارك و تعالى فيما حرم عليهم، و لا زهد فيما أحل لهم، و لكنه خلق الخلق، و علم ما يقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحله و أباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرهم فنهاهم عنه و حرمه عليهم ثم أباحه للمضطر و أحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.
ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد و لا يأكلها إلا ضعف بدنه، و نحل جسمه، و وهنت قوته، و انقطع نسله، و لا يموت آكل الميتة إلا فجأة.
و أما الدم فإنه يورث الكلب، و قسوة القلب، و قلة الرأفة و الرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده و والديه، و لا يؤمن على حميمه، و لا يؤمن على من صحبه.
و أما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما في صور شتى شبه الخنزير و القرد و الدب و ما كان من الأمساخ ثم نهى عن أكل مثله لكي لا ينقع بها و لا يستخف بعقوبته.
و أما الخمر فإنه حرمها لفعلها و فسادها، و قال. إن مدمن الخمر كعابد وثن و يورثه ارتعاشا و يذهب بنوره، و ينهدم مروته، و يحمله على أن يكسب على المحارم من سفك الدماء و ركوب الزنا، و لا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمة و هو لا يعقل ذلك، و الخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر.
(بحث روائي آخر)
في غاية المرام، عن أبي المؤيد موفق بن أحمد في كتاب فضائل علي، قال: أخبرني
سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي فيما كتب إلي من همدان، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الزراع، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن أبي سعيد الخدري: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، و ذلك يوم الخميس يوم دعا الناس إلى علي و أخذ بضبعه ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الآية: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الله أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الرب برسالتي و الولاية لعلي، ثم قال: اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله.
و قال حسان بن ثابت: أ تأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتا؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم | *** | بخم و أسمع بالنبي مناديا |
بأني مولاكم نعم و وليكم | *** | فقالوا و لم يبدو هناك التعاميا |
إلهك مولانا و أنت ولينا | *** | و لا تجدن في الخلق للأمر عاصيا |
فقال له قم يا علي فإنني | *** | رضيتك من بعدي إماما و هاديا |
و عن كتاب نزول القرآن، في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للحافظ أبي نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري مثله، و قال في آخر الأبيات:
فمن كنت مولاه فهذا وليه | *** | فكونوا له أنصار صدق مواليا |
هناك دعا اللهم وال وليه | *** | و كن للذي عادى عليا معاديا |
و عن نزول القرآن، أيضا يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف عن الأعمش عن عضة قال :نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في علي بن أبي طالب: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} و قد قال الله تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} .
و عن إبراهيم بن محمد الحمويني قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب علي بن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الإمام برهان الدين ناصر بن أبي المكارم المطرزي إجازة، قال: أنبأنا الإمام أخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد المكي الخوارزمي، قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلي من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوي، نبأنا محمد بن عبد الله الزراع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثني علي بن الحسين العبدي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، و ذكر مثل الحديث الأول.
و عن الحمويني أيضا عن سيد الحفاظ و أبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: نبأنا محمد بن أحمد بن علي، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: نبأنا يحيى الحماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، و ذكر مثل الحديث الأول.
قال: قال الحمويني عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبي سعيد سعد بن مالك الخدري الأنصاري.
و عن المناقب الفاخرة، للسيد الرضي رحمه الله عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه، و قال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله و رسوله، فأخذ بيد علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله لأنه مني و أنا منه، و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي و كانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} .
قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كل ما أمرهم الله من الفرائض في الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج، و صدقوه على ذلك .
قال ابن إسحاق: قلت لأبي جعفر: ما كان ذلك؟ قال لتسع۱ عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة عشرة عند منصرفه من حجة الوداع، و كان بين ذلك و بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مائة يوم و كان سمع٢ رسول الله بغدير خم اثنا عشر.
و عن المناقب، لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب الله له صيامه ستين شهرا، و هو يوم غدير خم، بها أخذ النبي بيعة علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، فأنزل الله تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ}.
و عن المناقب، لابن مردويه و كتاب سرقات الشعر، للمرزباني عن أبي سعيد الخدري مثل ما تقدم عن الخطيب.
أقول: و روى الحديثين في الدر المنثور، عن أبي سعيد و أبي هريرة و وصف سنديهما بالضعف. و قد روي بطرق كثيرة تنتهي من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و معاوية و سمرة: أن الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع و كان يوم الجمعة، و المعتمد منها ما روي عن عمر فقد رواه عن الحميدي و عبد بن حميد و أحمد البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حبان و البيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، و عن ابن راهويه في مسنده و عبد بن حميد عن أبي العالية عن عمر، و عن ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب عن عمر، و عن البزاز عن ابن عباس، و الظاهر أنه يروي عن عمر.
ثم أقول: أما ما ذكره من ضعف سندي الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا فقد أوضحنا في البيان المتقدم إن مفاد الآية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات
و المعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان و ما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهي المتعينة للأخذ.
على أن هذه الأحاديث الدالة على نزول الآية في مسألة الولاية و هي تزيد على عشرين حديثا من طرق أهل السنة و الشيعة مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}۱ )الآية( (سورةالمائدة، الآية ٦٧) و هي تربو على خمسة عشر حديثا رواها الفريقان، و الجميع مرتبط بحديث الغدير: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و هو حديث متواتر مروي عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين.
و من المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من مكة إلى المدينة.
و هذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل و التهكم) فريضة من الفرائض كالتولي و التبري اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، و إذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول الآية أعني قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} فالآية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، و لا اعتماد على ما ينافي ذلك من الروايات لو كانت منافية.
و أما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغي أن يقال فيها غير أن هاهنا أمرا يجب التنبه له، و هو أن التدبر في الآيتين الكريمتين: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (الآية) على ما سيجيء من بيان معناه، و قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الآية) و الأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما و روايات الغدير المتواترة، و كذا دراسة أوضاع المجتمع الإسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و البحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام، و كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يتقي الناس في إظهاره، و يخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيئوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغ} (الآية) فلم يمهل في ذلك.
و على هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة و فيه قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الآية) و ينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بيان الولاية إلى غدير خم، و قد كان تلا آيتها يوم عرفة و أما اشتمال بعض الروايات على
نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته (صلی الله عليه وآله) الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها.
و على هذا فلا تنافي بين الروايات أعني ما دل على نزول الآية في أمر الولاية، و ما دل على نزولها يوم عرفة كما روي عن عمر و علي و معاوية و سمرة، فإن التنافي إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، و الآخر على النزول على يوم عرفة.
و أما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الآية تدل على كمال الدين بالحج و ما أشبهه فهو من فهم الراوي لا ينطبق به الكتاب و لا بيان من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يعتمد عليه.
و ربما استفيد هذا الذي ذكرناهمما رواه العياشي في تفسيره، عن جعفر بن محمد بن محمد الخزاعي عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إن الله يقرئك السلام، و يقول لك: قل لأمتك: اليوم أكملت دينكم بولاية علي بن أبي طالب و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا و لست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج، و هي الخامسة، و لست أقبل عليكم بعد هذه الأربعة إلا بها.
على أن فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالا آخر، و هو أنها جميعا تذكر أن بعض أهل الكتاب
و في بعضها :أنه كعب قال لعمر: إن في القرآن آية لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم الذي نزلت فيه عيدا، و هي قوله: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الآية) فقال له عمر: و الله إني لأعلم اليوم و هو يوم عرفة من حجة الوداع.
و لفظ ما رواه ابن راهويه و عبد بن حميد عن أبي العالية هكذا :قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الآية، فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا، فقال عمر الحمد لله الذي جعله لنا عيدا و اليوم الثاني، نزلت يوم عرفة و اليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الأمر فعلمنا أن الأمر بعد ذلك في انتقاص. و ما يتضمنه آخر الرواية مروي بشكل آخر ففي الدر المنثور: عن ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و ذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال: صدقت.
و نظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور، عن أحمد عن علقمة بن عبد الله المزني قال: حدثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ينعت الإسلام؟ قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن الإسلام بدئ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان.
فهذه الروايات كما ترى تروم بيان أن معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين و استقلاله بمكة في الموسم، و تفسير إكمال الدين و إتمام النعمة بصفاء جو مكة و محوضة الأمر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم و يتحذروا منهم.
و بعبارة أخرى المراد بكمال الدين و تمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف و الأحكام، و كذا المراد بالإسلام ظاهر الإسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل.و إن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، و كذا في الإسلام، فإن هذا المعنى هو الذي يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.
و أما كليات المعارف و الأحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد الذي يشير إليه قوله في الرواية: «أنه لم يكمل شيء قط إلا نقص» فإن ذلك سنة كونية تجري أيضا في التاريخ و الاجتماع بتبع الكون، و أما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن و النواميس إلا عند من قال: إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية.
إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا: أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و قد مر بيانه.
و ثانيا: أنه كيف يمكن أن يعد الله سبحانه الدين بصورته التي كان يتراءى عليها كاملا و ينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الأرض من ظاهر المشركين، و كون المجتمع على ظاهر الإسلام فارغا من أعدائهم المشركين، و فيهم من هو أشد من المشركين إضرارا و إفسادا، و هم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية و التسرب في داخل المسلمين، و إفساد الحال، و تقليب الأمور، و الدس في الدين، و إلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم
تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين و ما في سور البقرة و النساء و المائدة و الأنفال و البراءة و الأحزاب و غيرها.
فليت شعري أين صار جمعهم؟ و كيف خمدت أنفاسهم؟ و على أي طريق بطل كيدهم و زهق باطلهم؟ و كيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، و إتمام ظاهر النعمة عليهم، و الرضا بظاهر الإسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين، و المنافقون أعدى منهم و أعظم خطرا و أمر أثرا! و تصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم: {هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}۱.
و كيف يمتن الله سبحانه و يصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام و هي مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! و قد قال تعالى {وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً}٢ و قال في المنافقين: و لم يرد إلا دينهم {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَرْضى عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفَاسِقِينَ}٣ و الآية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الإكمال و الإتمام و الرضا و لا الدين و الإسلام و النعمة بجهة دون جهة.
فإن قلت: الآية كما تقدمت الإشارة إليه إنجاز للوعد الذي يشتمل عليه قوله تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}٤ (الآية).
فالآية كما ترى تعدهم بتمكين دينهم المرضي لهم، و يحاذي ذلك من هذه الآية قوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و قوله: {وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} فالمراد بإكمال دينهم المرضي تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، و أما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، و هذا هو المعنى الذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، و يذكر القوم أن المراد به تخليص الأعمال الدينية و العاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.
قلت كون آية: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ} من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (الآية) و كذا كون قوله في هذه الآية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} محاذيا لقوله: {وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ} في تلك الآية و مفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه.
إلا أن آية سورة النور تبدأ بقوله: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ}
و هم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، و ما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي و ينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع، فتمكين دينهم المرضي لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله و إرادته من الدين المرضي بإفراغه في قالب التشريع، و جمع أجزائه عندهم بالإنزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم.
و هذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الآية لا تخليص أعمالهم و خاصة حجهم من أعمال المشركين و حجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. و بعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بكراع الغميم، فأقامها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة.
أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في المجمع، عن الإمامين: الباقر و الصادق (عليه السلام) و رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبد الله (عليه السلام)، عن علي أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: بناء الإسلام على خمس خصال: على الشهادتين، و القرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟ قال: الصلاة و الزكاة فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، و الصيام و حج بيت الله من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز و جل: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاَمَ دِيناً} .
و في روضة الواعظين، للفتال ابن الفارسي عن أبي جعفر (عليه السلام) و ذكر قصة خروج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة و نزول الآية، و فيه خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم الغدير و هي خطبة طويلة جدا.
أقول: روى مثله الطبرسي في الإحتجاج، بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، و روى نزول الآية في الولاية أيضا الكليني في الكافي، و الصدوق في العيون،
جميعا مسندا عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (عليه السلام)، و روى نزولها فيها أيضا الشيخ في أماليه بإسناده عن ابن أبي عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام)، و روى ذلك أيضا الطبرسي في المجمع، بإسناده عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، و روى ذلك الشيخ في أماليه، بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن علي (عليه السلام) و قد تركنا إيراد الروايات على طولها إيثارا للاختصار فمن أرادها فليراجع محالها و الله الهادي.
[ سورة المائدة (٥): الآیات ٤ الی ٥ ]
{يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ وَ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اَللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٤ اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ وَ طَعَامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَ لاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٥}
(بيان)
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ} سؤال مطلق أجيب عنه بجواب عام مطلق فيه إعطاء الضابط الكلي الذي يميز الحلال من الحرام، و هو أن يكون ما يقصد التصرف فيه بما يعهد في مثله من التصرفات أمرا طيبا، و إطلاق الطيب أيضا من غير تقييده بشيء يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الأفهام
المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الأفهام العادية فهو طيب، و جميع ما هو طيب حلال.
و إنما نزلنا الحلية و الطيب على المتعارف المعهود لمكان أن الإطلاق لا يشمل غيره على ما بين في فن الأصول.
قوله تعالى: {وَ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اَللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهِ} قيل: إن الكلام معطوف على موضع الطيبات أي و أحل لكم ما علمتم من الجوارح أي صيد ما علمتم من الجوارح، فالكلام بتقدير مضاف محذوف اختصارا لدلالة السياق عليه.
و الظاهر أن الجملة معطوفة على موضع الجملة الأولى. و {مَا} في قوله: {وَ مَا عَلَّمْتُمْ} شرطية و جزاؤها قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} من غير حاجة إلى تكلف التقدير.
و الجوارح جمع جارحة و هي التي تكسب الصيد من الطير و السباع كالصقر و البازي و الكلاب و الفهود، و قوله: {مُكَلِّبِينَ} حال، و أصل التكليب تعليم الكلاب و تربيتها للصيد أو اتخاذ كلاب الصيد و إرسالها لذلك، و تقييد الجملة بالتكليب لا يخلو من دلالة على كون الحكم مختصا بكلب الصيد لا يعدوه إلى غيره من الجوارح.
و قوله: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} التقييد بالظرف للدلالة على أن الحل محدود بصورة صيدها لصاحبها لا لنفسها.
و قوله: {وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهِ} تتميم لشرائط الحل و أن يكون الصيد مع كونه مصطادا بالجوارح و من طريق التكليب و الإمساك على الصائد مذكورا عليه اسم الله تعالى.
و محصل المعنى أن الجوارح المعلمة بالتكليب أي كلاب الصيد إذا كانت معلمة و اصطادت لكم شيئا من الوحش الذي يحل أكله بالتذكية و قد سميتم عليه فكلوا منه إذا قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، و أما دون القتل فالتذكية بالذبح و الإهلال به لله يغني عن هذا الحكم.
ثم ذيل الكلام بقوله: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} إشعارا بلزوم اتقاء الله فيه حتى لا يكون الاصطياد إسرافا في القتل، و لا عن تله و تجبر كما في صيد اللهو و نحوه فإن الله سريع الحساب يجازي سيئة الظلم و العدوان في الدنيا قبل الآخرة، و لا
يسلك أمثال هذه المظالم و العدوانات بالاغتيال و الفك بالحيوان العجم إلا إلى عاقبة سوأى على ما شاهدنا كثيرا.
قوله تعالى: {اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ وَ طَعَامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} إعادة ذكر حل الطيبات مع ذكره في الآية السابقة، و تصديره بقوله: {اَلْيَوْمَ} للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم للمؤمنين.
و كأنّ ضم قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ} إلى قوله: {وَ طَعَامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} (إلخ) من قبيل ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه لإيجاد الطمأنينة في نفس المخاطب و إزالة ما فيه من القلق و الاضطراب كقول السيد لخادمه: لك جميع ما ملكتكه و زيادة هي كذا و كذا فإنه إذا ارتاب في تحقق ما يعده سيده من الإعطاء شفع ما يشك فيه بما يقطع به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم، و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيَادَةٌ}۱ و قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ}٢.
فكأن نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حل طعام أهل الكتاب لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التام في معاشرتهم و مخالطتهم و مساسهم و ولايتهم حتى ضم إلى حديث حل طعامهم أمر حل الطيبات بقول مطلق ففهموا منه أن طعامهم من سنخ سائر الطيبات المحللة فسكن بذلك طيش نفوسهم، و اطمأنت قلوبهم و كذلك القول في قوله: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
و أما قوله: {وَ طَعَامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فالظاهر أنه كلام واحد ذو مفاد واحد، إذ من المعلوم أن قوله: {وَ طَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ليس في مقام تشريع حكم الحل لأهل الكتاب، و توجيه التكليف إليهم و إن قلنا بكون الكفار مكلفين بالفروع الدينية كالأصول، فإنهم غير مؤمنين بالله و رسوله و بما جاء به رسوله و لا هم يسمعون و لا هم يقبلون، و ليس من دأب القرآن أن يوجه خطابا أو يذكر حكما إذا استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لغوا و التكليم معه يذهب سدى. اللهم إلا إذا أصلح ذلك بشيء من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبي و نحو ذلك
كقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ}۱ و قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً}٢ إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة ليس المراد بقوله: {وَ طَعَامُ اَلَّذِينَ} بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين حكما مستقلا و حل طعام المسلمين لأهل الكتاب حكما مستقلا آخر، بل بيان حكم واحد و هو ثبوت الحل و ارتفاع الحرمة عن الطعام، فلا منع في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}٣ أي لا حل في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين.
ثم إن الطعام بحسب أصل اللغة كل ما يقتات به و يطعم لكن قيل: إن المراد به البر و سائر الحبوب ففي لسان العرب: و أهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة. قال: و قال الخليل: العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، انتهى.
و هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية، و لهذا ورد في أكثر الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليه السلام): أن المراد بالطعام في الآية هو البر و سائر الحبوب إلا ما في بعض الروايات مما يظهر به معنى آخر و سيجيء الكلام فيه في البحث الروائي الآتي.
و على أي حال لا يشمل هذا الحل ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير، أو يقبلها من ذبائحهم لكنهم لم يذكوها كالذي لم يهل به لله، و لم يذك تذكية إسلامية فإن الله سبحانه عد هذه المحرمات المذكورة في آيات التحريم و هي الآي الأربع التي في سور البقرة و المائدة و الأنعام و النحل رجسا و فسقا و إثما كما بيناه فيما مر، و حاشاه سبحانه أن يحل ما سماه رجسا أو فسقا أو إثما امتنانا بمثل قوله: {اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبَاتُ}.
على أن هذه المحرمات بعينها واقعة قبيل هذه الآية في نفس السورة، و ليس لأحد أن يقول في مثل المورد بالنسخ و هو ظاهر، و خاصة في مثل سورة المائدة التي ورد فيها أنها ناسخة غير منسوخة.
قوله تعالى: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الإتيان في متعلق الحكم بالوصف أعني ما في قوله: {اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} من غير أن يقال: من اليهود و النصارى مثلا أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية