7

تفسير الميزان ج7

تفسير الميزان ج7 3460
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير سورة الأنعام كاملة
/۳٩٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۷

1
  •  

تفسير الميزان ج۷

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء السابع

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۷

3
  •  

تفسير الميزان ج۷

4
  •  

تفسير الميزان ج۷

5
  • (سورة الأنعام - مكية و هي مائة و خمس و ستون آية)(٦) (١٦٥) 

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١ الی ٣]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ وَ اَلنُّورَ ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ١ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى‌ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ٢ وَ هُوَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ٣}  

  • (بيان) 

  • غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعم أعني أن للإنسان ربا هو رب العالمين جميعا منه يبدأ كل شي‌ء و إليه ينتهي و يعود كل شي‌ء، أرسل رسلا مبشرين و منذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، و لذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد و المعاد و النبوة، و اشتملت على إجمال الوظائف الشرعية و المحرمات الدينية. 

  • و سياقها على ما يعطيه التدبر سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدي إلى نزولها نجوما. 

  • و هذا يدل على نزولها جملة واحدة، و أنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذي وجه الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين. 

  • و قد اتفق المفسرون و الرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روي عن بعضهم أنها مدنية. و هي قوله تعالى: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (آية - ٩١) إلى تمام ثلاث آيات، و قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}(آية - ١٥١) إلى تمام ثلاث آيات. 

تفسير الميزان ج۷

6
  • و قيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، و هما قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} و التي بعدها. 

  • و قيل: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، و هو الذي قال: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} (الآية). 

  • و قيل: إنها كلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، و هو قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةَ} (الآية). 

  • و هذه الأقوال لا دليل على شي‌ء منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق و اتصال آيات السورة، و سنبينها بما نستطيعه، و قد ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) و كذا عن أبي و عكرمة و قتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة. 

  • قوله تعالى: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ وَ اَلنُّورَ} افتتح بالثناء على الله و هو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، و ذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، و تضمينه العجب منهم و لومهم على أن عدلوا به غيره و الامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ و الإنذار و التخويف. 

  • و قد أشار في هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في المعارف الحقيقية التي هي بمنزلة المادة للشريعة، و تنحل إلى نظامات ثلاث: 

  • نظام الكون العام و هو الذي تشير إليه الآية الأولى، و نظام الإنسان بحسب وجوده، و هو الذي تشتمل عليه الآية الثانية، و نظام العمل الإنساني و هو الذي تومئ إليه الآية الثالثة. 

  • فالمتحصل من مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذي يعيش فيه الإنسان، و بما خلق عالما صغيرا هو وجود الإنسان المحدود من حيث ابتدائه بالطين و من حيث انتهائه بالأجل المقضي، و بما علم سر الإنسان و جهره و ما يكسبه. 

  • و ما في الآية الثالثة: {وَ هُوَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ}، بمنزلة الإيضاح لمضمون 

تفسير الميزان ج۷

7
  • الآيتين، السابقتين و التمهيد لبيان علمه بسر الإنسان و جهره و ما تكسبه نفسه. 

  • فقوله: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ وَ اَلنُّورَ} إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء على كثرتها و تفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلا عالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور و الظلمات اللذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله و تكامله فلا يزال يتولد شي‌ء من شي‌ء، و يتقلب شي‌ء إلى شي‌ء، و يظهر واحد و يخفى آخر، و يتكون جديد و يفسد قديم، و ينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء، و تسير بها إلى مستقرها. 

  • و الجعل‌ في قوله: {وَ جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ} إلخ، بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل، و لعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات و الأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة و النور، و لذا خصا باستعمال الجعل، و الله أعلم. 

  • و قد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، و لعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فإنها عدم النور فيما من شأنه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور و بعده بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية، و تكثيره تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده و تكثره حقيقة. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات و الأرض و جعله الظلمات و النور متوحد بالألوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شي‌ء و لا يشاركه، و من العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بأن الخلق و التدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم و يسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك. 

  • و بذلك يظهر وجه الإتيان بثم الدال على التأخير و التراخي فكأن المتكلم لما وصف تفرده بالصنع و الإيجاد و توحده بالألوهية و الربوبية ذكر مزعمة المشركين و أصحاب الأوثان أن هذه الحجارة و الأخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب 

تفسير الميزان ج۷

8
  • زمانا و كفه عن التكلم ثم جرى في كلامه و أشار إلى وجه سكوته، و أن حيرة التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى‌ أَجَلاً} يشير إلى خلقه العالم الإنساني الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان و دبر أمره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه و إن كان بقاء نسله جاريا على سنة الازدواج و الوقاع كما قال تعالى: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (السجدة: ٨). 

  • و بين الأجل المقضي الذي يقارن الموت كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت: ٥٧) و من الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فإن القرآن الكريم كأنه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون - ١١٤)، و قال أيضا: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، و قال {اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الروم: ٥٦). 

  • و قد أبهم أمر الأجل بإتيانه منكرا في قوله: {ثُمَّ قَضى أَجَلاً} للدلالة على كونه مجهولا للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية. 

  • قوله تعالى: {وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} تسمية الأجل‌ تعيينه فإن العادة جرت في العهود و الديون و نحو ذلك بذكر الأجل‌ و هو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه، و هو الأجل المسمى، قال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: ٢٨٢) و هو الأجل بمعنى آخر المدة المضروبة، و كذا قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} (العنكبوت: ٥) و قال تعالى في قصة موسى و شعيب: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} -إلى أن قال- {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} (القصص: ٢٨) و هو الأجل بمعنى تمام المدة المضروبة. 

تفسير الميزان ج۷

9
  • و الظاهر أن الأجل بمعنى آخر المدة فرع الأجل بمعنى تمام المدة استعمالا أي أنه استعمل كثيرا «الأجل المقضي» ثم حذف الوصف و اكتفي بالموصوف فأفاد الأجل معنى الأجل المقضي، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان «أجل» فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، و أصله استيفاء الأجل، انتهى. 

  • و كيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالأجل و الأجل المسمى هو آخر مدة الحياة لإتمام المدة كما يفيده قوله: {فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} (الآية). 

  • فتبين بذلك أن الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمى عند الله تعالى. 

  • و هذا هو الذي لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله: {عِنْدَهُ} و قد قال تعالى: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} (النحل: ٩٦) و هو الأجل المحتوم الذي لا يتغير و لا يتبدل قال تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس: ٤٩). 

  • فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة. 

  • و التدبر في الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) يفيد أن الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، و غير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو و الإثبات، و سيأتي إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، و لوح المحو و الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها. 

  • و اعتبر ما ذكر من أمر السبب التام و الناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات و تطلع علينا الشمس فتضي‌ء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الإضاءة، و أما إذا كانت الشمس فوق الأفق و لم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض و بينها فإنها تضي‌ء وجه الأرض لا محالة. 

تفسير الميزان ج۷

10
  • فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو و الإثبات، و طلوعها مع حلول وقته و عدم أي حائل مفروض بينها و بين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ. 

  • فالتركيب الخاص الذي لبنية هذا الشخص الإنساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمر العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة و عشرين سنة و هذا هو المكتوب في لوح المحو و الإثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا و تأثيرا في الوجود الإنساني فربما تفاعلت الأسباب و الموانع التي لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعي، و هو المسمى بالموت الاخترامي. 

  • و بهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمى و غير المسمى جميعا، و أن الإبهام الذي بحسب الأجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب الأجل المسمى، و أن الأجل غير المسمى و المسمى ربما توافقا و ربما تخالفا و الواقع حينئذ هو الأجل المسمى البتة. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في قوله: {ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} و للمفسرين تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية: 

  • منها: أن المراد بالأجل الأول ما بين الخلق و الموت و الثاني ما بين الموت و البعث،، ذكره عدة من الأقدمين و ربما روي عن ابن عباس. 

  • و منها: أن الأجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، و الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، و نسب إلى المجاهد و الجبائي و غيرهما. 

  • و منها: أن الأجل الأول أجل من مضى، و الثاني أجل من بقي من سيأتي، و نسب إلى أبي مسلم. 

  • و منها: أن الأجل الأول النوم، و الثاني الموت. 

  • و منها: أن المراد بالأجلين واحد، و تقدير الآية الشريفة: ثم قضى أجلا و هذا أجل مسمى عنده. 

  • و لا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه و أشباهها و سقمها يسوغه 

تفسير الميزان ج۷

11
  • الوقت على ضيقه، و لا يسمح بإباحته العمر على قصره. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} من المرية بمعنى الشك و الريب، و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى الحضور، و كأن الوجه فيه أن الآية الأولى تذكر خلقا و تدبيرا عاما ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، و كان يكفي في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الآية الثانية تذكر الخلق و التدبير الواقعين في الإنسان خاصة فكان من الحري الذي يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب و يلومهم بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك أمرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم فيه و هو الذي خلقكم و قضى فيكم أجلا و أجل مسمى عنده؟. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ} الآيتان السابقتان تذكران الخلق و التدبير في العوالم عامة و في الإنسان خاصة، و يكفي ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في خلقه و تدبيره. 

  • لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهة أخرى و شفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة و إله الرزق و إله البر و إله البحر و غير ذلك، و كذا للأنواع و الأقوام و الأمم المتشتتة كإله السماء و إله هذه الطائفة و إله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله: {وَ هُوَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ}

  • فالآية نظيرة قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلَهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ}(الزخرف: ٨٤) مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات و في الأرض من غير تفاوت أو تحديد، و هي إيضاح لما تقدم و تمهيد لما يتلوها من الكلام. 

  • قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} السر و الجهر متقابلان و هما وصفان للأعمال، فسرهم ما عملوه سرا و جهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر. 

  • و أما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذي يكسبه الإنسان بعمله السري و الجهري من حسنة أو سيئة فالسر و الجهر المذكوران كما عرفت وصفان صوريان لمتون الأعمال الخارجية، و ما يكسبونه حال روحي معنوي قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية 

تفسير الميزان ج۷

12
  • و المعنوية، و لعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر العلم في قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}

  • و الآية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة و المعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما يأتي به الإنسان من عمل سرا أو جهرا، و كان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شر، و كان إليه زمام التربية و التدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدى‌} (الليل: ١٢). 

  • و كذا هو تعالى لما كان عالما بالأعمال و بتبعاتها في نفس الإنسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ( ص: ٢٨). 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فعظموها و بجلوها فإن اسم الله عز و جل فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها. 

  • أقول: و رواه العياشي عنه (عليه السلام) مرسلا. و في تفسير القمي، قال حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) قال: نزلت الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة. 

  • أقول: و رواه في المجمع، أيضا عن الحسين بن خالد عنه (عليه السلام): إلا أنه قال سبحوا له إلى يوم القيامة. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن سورة 

تفسير الميزان ج۷

13
  • الأنعام نزلت جملة واحدة و شيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فعظموها و بجلوها فإن اسم الله عز و جل فيها سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها. (الحديث). 

  • و في جوامع الجامع، للطبرسي قال: في حديث أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما و ليلة:. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عنه بعدة طرق. 

  • و في الكافي، بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، و خلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، و خلق الرحمة قبل الغضب، و خلق الخير قبل الشر و خلق الأرض قبل السماء، و خلق الحياة قبل الموت، و خلق الشمس قبل القمر، و خلق النور قبل الظلمة. 

  • أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى، و أما نسبة الخلق إلى الطاعة و المعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة و المعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، و كيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن إحاطته و سلطانه و منعزل عن مشيته و إذنه.؟

  • و لا دليل على انحصار الخلق في الإيجاد و الصنع الذي لا واسطة فيه حتى يكون تعالى مستقلا بإيجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل مثلا أنه أبطل إرادة الإنسان العادل أو القاتل، و استقل هو بالعدل و القتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، و قد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و بنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير و الشر أيضا، سواء كانا خيرا و شرا في الأمور التكوينية أو في الأفعال. 

  • و أما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، و كذا الخير قبل الشر فيجري أيضا في 

تفسير الميزان ج۷

14
  • بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم و الملكة، و العدم يتوقف في تحققه على الملكة و يظهر به أن خلق الحياة قبل الموت. 

  • و بذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة و الخير و الغضب متعلق بالمعصية و الشر، و الطاعة و الخير قبل المعصية و الشر. 

  • و أما خلق الأرض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: {خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} - -إلى أن قال- - {ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (حم السجدة: ١٢). 

  • و أما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: {وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحَاهَا وَ اَلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} (الشمس: ٢) و قد رجحت الأبحاث الطبيعية اليوم أن الأرض مشتقة من الشمس و القمر مشتق من الأرض. 

  • و في تفسير العياشي، عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: لكل صلاة وقتان، و وقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الآية: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ وَ اَلنُّورَ ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} قال: يعدلون بين الظلمات و النور و بين الجور و العدل. 

  • أقول: و هذا معنى آخر للآية، و بناؤه على جعل قوله: {بِرَبِّهِمْ} متعلقا بقوله {كَفَرُوا} دون {يَعْدِلُونَ}

  • و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله عز و جل: {قَضى‌ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قال: هما أجلان أجل محتوم و أجل موقوف. 

  • و في تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {قَضىَ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى} قال: فقال: هما أجلان أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، و أجل محتوم. 

  • و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {ثُمَّ 

تفسير الميزان ج۷

15
  • قَضى‌ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قال: الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، و أما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها قال: فذلك قول الله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.

  • و فيه عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: {أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قال: المسمى ما سمي لملك الموت في تلك الليلة، و هو الذي قال الله {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ} و هو الذي سمي لملك الموت في ليلة القدر، و الآخر له فيه المشية إن شاء قدمه، و إن شاء أخره.

  •  أقول: و في هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) ، و الذي يدل عليه من معنى الأجل المسمى و غيره هو الذي تقدمت استفادته من الآيات الكريمة. 

  • و في تفسير علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله و حتمه، و المسمى هو الذي فيه البداء يقدم ما يشاء و يؤخر ما شاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير. 

  • أقول: و قد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى و فسر كلا من المسمى و غيره بمعنى الآخر. على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها. 

  • و في تفسير العياشي، عن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {قَضى‌ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأجل الأول هو ما نبذه إلى الملائكة و الرسل و الأنبياء، و الأجل المسمى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق. 

  • أقول: و مضمون الرواية ينافي ما تقدمت من الروايات ظاهرا، و لكن من الممكن أن يستفاد من قوله: «نبذه» أن المراد أنه تعالى أعطاهم الأصل الذي تستنبط منه الآجال غير المسماة و أما الأجل المسمى فلم يسلط أحدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، و إن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لأنبيائه و رسله إذا شاء، و ذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، و هو مع ذلك يكشف عن شي‌ء منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك. 

تفسير الميزان ج۷

16
  • و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر - أظنه محمد بن النعمان - قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ هُوَ اَللَّهُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ} قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته؟ قال: ويحك إن الأماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار و غير ذلك. 

  • و لكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما و قدرة و إحاطة و سلطانا و ليس علمه بما في الأرض بأقل مما في السماء، و لا يبعد منه شي‌ء، و الأشياء له سواء علما و قدرة و سلطانا و ملكا و إرادة. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٤ الی ١١]

  • {وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ٤ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٥ أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَ جَعَلْنَا اَلْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ٦ وَ لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ٧ وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ ٨ وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ٩ وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ١٠قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ اُنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ ١١}  

تفسير الميزان ج۷

17
  • (بيان) 

  • الآيات إشارة إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول و تماديهم في تكذيب الحق و الاستهزاء بآيات الله سبحانه ثم موعظة لهم و تخويف و إنذار، و جواب عن بعض ما لغوا به في إنكار الحق الصريح. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} إشارة إلى أن سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الإعراض عن الآيات الدالة على الحق فلا يلتفتون إلى آية من الآيات من غير تفاوت بين آية و آية لأنهم كذبوا بالأصل المقصود الذي هو الحق، و هو قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}

  • قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} تخويف و إنذار فإن الذي يستهزءون به حق، و الحق يأبى إلا أن يظهر يوما و يخرج من حد النبإ إلى حد العيان قال تعالى: {وَ يَمْحُ اَللَّهُ اَلْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (الشورى: ٢٤)، و قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ. هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‌ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ} (الصف: ٩) و قال في مثل ضربه{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} (الرعد: ١٧). 

  • و من المعلوم أن الحق إذا ظهر لم يستو في مساسه المؤمن و الكافر، و الخاضع و المستهزئ، قال تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ اَلْمُنْذَرِينَ} (الصافات: ١٧٧). 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} إلى آخر الآية، قال الراغب: القرن‌ القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون انتهى. 

  • و قال أيضا: قال تعالى: {وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً} {يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} و أصله من الدر - بالفتح - و الدرة - بالكسر - أي اللبن، و يستعار ذلك للمطر استعارة أسماء البعير و أوصافه فقيل: لله دره و در درك، و منه أستعير قولهم 

تفسير الميزان ج۷

18
  • غسوق دره أي نفاق - بالفتح - انتهى. 

  • و في قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} التفات من الغيبة إلى الحضور، و الوجه فيه ظاهرا رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله: {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: {مَكَّنَّاهُمْ} و إلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، و قد تقدم الكلام في الالتفات الواقع في قوله: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}

  • و في قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} دلالة على أن للسيئات و الذنوب دخلا في البلايا و المحن العامة، و في هذا المعنى و كذا في معنى دخل الحسنات و الطاعات في إفاضات النعم و نزول البركات آيات كثيرة. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} إلى آخر الآية، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو أنزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر و السمع، و تأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم: {وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ} (الإسراء: ٩٣). 

  • و قد نكر الكتاب في قوله: {كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} لأن هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما و تدريجا، و قيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه، و أبعد مما يختلج في صدورهم أن الآيات النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما يذكره الله سبحانه: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: ١٩٥). 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ} قولهم {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} تحضيض للتعجيز، و قد أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذي جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (كورت: ٢١) إلى غيرها من الآيات. 

  • فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لأحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه: 

تفسير الميزان ج۷

19
  • أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ} (حم السجدة: ١٣) و قال: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} -إلى أن قال- {إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ( ص: ٧٠). 

  • و لما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة، و لا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا و لن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار القضاء بينهم بالقسط، و لا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى: {وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ}

  • على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم و اختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها و هو الموت كما قال تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} (الفرقان: ٢٢) و هذا هو يوم الموت أو ما هو بعده بدليل قوله بعده {أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً} (الفرقان: ٢٤). 

  • و قال تعالى بعده - و ظاهر السياق أنه يوم آخر - {وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَ كَانَ يَوْماً عَلَى اَلْكَافِرِينَ عَسِيراً} (الفرقان: ٢٦) و لع لهم إياه كانوا يعنون بقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} (الإسراء: ٩٢). 

  • و بالجملة فقوله تعالى: {وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ} إلخ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم، و على هذا ينبغي أن يضم إليه ما وعده الله هذه الأمة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه الآيات من سورة يونس: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} -إلى أن قال- {وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (يونس: ٥٣) و في هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله. 

  • و قال تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}

تفسير الميزان ج۷

20
  • (الأنفال: ٣٣). 

  • فالمتحصل من الآية أنهم يسألون نزول الملك، و لا نجيبهم إلى ما سألوه لأنه لو نزل الملك لقضي بينهم و لم ينظروا و قد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا يومهم، و سيوافيهم ما سألوه فيقضي الله بينهم. 

  • و يمكن أن يقرر معنى الآية على نحو آخر و هو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، و يكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد و الاستكبار و حينئذ قضي بينهم و هم لا ينظرون، و هم لا يريدون ذلك. 

  • و ثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لأعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله: {وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}(الفرقان: ٧) فإنهم يريدون أن الذي هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام و اكتساب الرزق بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية و عيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي و شقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته و واقعية رسالته. 

  • و هذا هو الذي تجيب عنه الآية التالية: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً} إلخ. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} اللبس‌ بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك و اللبس‌ بالضم التغطية على الحق، و كأن المعنى استعاري و الأصل واحد. 

  • قال الراغب في المفردات: لبس الثوب استتر به و ألبسه غيره -إلى أن قال- و أصل اللبس (بضم اللام) ستر الشي‌ء و يقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره قال: {وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} و قال: {وَ لاَ تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، {لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} و، يقال: في الأمر لبسه أي التباس، انتهى. 

تفسير الميزان ج۷

21
  • و معمول يلبسون محذوف، و ربما استفيد من ذلك العموم و التقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه، و لبس البعض على البعض الآخر. 

  • أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم و كما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه: {يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْ لاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ اَلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (الزخرف: ٥٤) و قوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} (المؤمن: ٢٩). 

  • و أما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أن الحق باطل و أن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الإنسان و إن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التي فطر الناس عليها، و كان تلهم نفسه فجورها و تقواها غير أن تقويته جانب الهوى و تأييده روح الشهوة و الغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق، و الاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه، و تغتر بعمله، و لا تدعه يلتفت إلى الحق و يسمع دعوته، و عند ذاك يزين له عمله، و يلبس الحق بالباطل و هو يعلم كما قال تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} (الجاثية: ٢٣) و قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: ١٠٤). 

  • و هذا هو المصحح لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الإنسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع و هو غير معقول. 

  • على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة و ليس ذلك إلا من الضلال على علم، و لبس الحق بالباطل على النفس و التلهي باللذة الخيالية و التوله إليها عن التثبت على الحق و العمل به، أعاننا الله تعالى على مرضاته. 

  • و على أي حال فقوله تعالى: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} إلخ، الجواب عن 

تفسير الميزان ج۷

22
  • مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به. 

  • و محصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار، و اكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره، و سلوك أي الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك. 

  • قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} (الدهر: ٣) فإنما هي هداية و إراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق و التمرد من غير أن يضطر إلى شي‌ء من الطريقين و يلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث، قال تعالى: {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى‌} (النجم: ٤١) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك و إن كان شرا أمضاه له، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (الشورى: ٢٠). 

  • و بالجملة هذه الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار و إلجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة و المعصية من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه و إن قدر على ذلك كما قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء: ٤). 

  • فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم و يخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم و على أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك و يلبس عليهم كما لبسوا، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصف: ٥). 

  • فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع و الأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري، و يكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله: 

تفسير الميزان ج۷

23
  • {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}

  • فظهر مما تقدم من التوجيه أولا: أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا و جعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الإنساني في الدعوة الدينية الإلهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية و بدل الغيب شهادة كان من الإلجاء الذي لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية. 

  • و ثانيا: أن الذي تدل عليه الآية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الإنسانية الذي ربما يحيله عدة من الباحثين أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا، و تمثل الملائكة الكرام لإبراهيم و لوط (عليه السلام) في صورة الضيفين من الآدميين. 

  • و جل الآيات الواردة في مورد الملائكة و إن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى: {وَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (الزخرف: ٦٠) لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الأول، و للبحث ذيل ينبغي أن يطلب من محل آخر. 

  • و ثالثا: أن قوله تعالى: {وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} من قبيل قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصف: ٥) فهو إضلال إلهي لهم بعد ما استحبوا الضلال لأنفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه. 

  • و رابعا: أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم و لبس بعضهم على بعض. 

  • و خامسا: أن محصل الآية احتجاج عليهم بأنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فإن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشري و هم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسألة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشري الذي هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا و إذا صار الملك على هذا النعت و لا محالة فهم لا ينتفعون بذلك شيئا. 

  • و سادسا: أن في التعبير: {لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} و لم يقل: لجعلناه بشرا ليشمل الرجل و المرأة جميعا إشعارا - كما قيل - بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو 

تفسير الميزان ج۷

24
  • من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الإنسان دون انقلاب هويته إلى هوية الإنسان كما قيل. 

  • و غالب المفسرين وجهوا الآية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤية الملك في صورته الأصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو أرسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا، و حينئذ كان يبدو لهم من اللبس و الشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر و لم ينتفعوا به شيئا. 

  • و هذا التوجيه لا يفي باستقامة الجواب، و إن سلمنا أن الإنسان العادي لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الأصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} (الفرقان: ٢٢). 

  • و ذلك أن شهود الملك في صورته الأصلية لو كان محالا على الإنسان لم يختلف فيه حال الأفراد الإنسانية بالجواز و الامتناع، و قد ورد في روايات الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رأى جبرئيل في صورته الأصلية مرتين، و من المقدور لله أن يقوي سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم و يؤمنوا بهم، و لا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الإلجاء فهو المحذور الذي يجب أن يدفع بالآية كما تقدم. 

  • و كذا مشاهدة الملك في صورة الآدميين لا تلازم جواز الشك و اللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم و لوط (عليه السلام) أنهما عاينا الملائكة في صورة الآدميين ثم عرفهم و لم يشكا في أمرهم، و كذا أخبر عن مريم أنها شاهدت الروح ثم عرفته و لم تشك فيه و لا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم (عليه السلام) في معاينة الملك في صورة الإنسان ثم معرفته و اليقين بأمره؟ لو لا أن جعل نفوس الناس جميعا كنفس إبراهيم و لوط و مريم يستلزم إمحاء غرائزهم و فطرهم، و تبديلها نفوسا طاهرة قادسة، و فيه محذور الإلجاء، فالإلجاء هو المحذور الذي لا يبقى معه موضوع الامتحان، و هو الذي يجب دفعه بالآية كما تقدم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} إلى آخر الآيتين، الحيق‌ الحلول و الإصابة، و في مفردات الراغب: قيل و أصله حق فقلب نحو زل و زال، و قد قرئ: {فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطَانُ} فأزالهما، و على هذا ذمه و ذامه، انتهى. 

تفسير الميزان ج۷

25
  • و قد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذي كانوا ينذرونهم بنزوله و حلوله فحاق بهم عين ما استهزءوا به، و في الآية الأولى تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و إنذار للمشركين، و في الآية الثانية أمر بالاعتبار و عظة. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٢ الی ١٨] 

  • {قُلْ لِمَنْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‌ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٢ وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ١٣ قُلْ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٤ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٥ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ ١٦ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ١٧ وَ هُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ ١٨} 

  • (بيان) 

  • فريق من الآيات تحتج على المشركين في أمر التوحيد و المعاد فالآيتان الأوليان تتضمنان البرهان على المعاد، و بقية الآيات و هي خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي. 

  • قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} شروع في البرهنة على المعاد، و محصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات و الأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف 

تفسير الميزان ج۷

26
  • شاء و أراد، و قد اتصف سبحانه بصفة الرحمة و هي رفع حاجة كل محتاج و إيصال كل شي‌ء إلى ما يستحقه و إفاضته عليه و عدة من عباده و منهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه و رحمته سيتصرف فيهم بحشرهم و إعطائهم ما يستحقونه البتة. 

  • فقوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة و قوله: {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} يتضمن مقدمة أخرى، و قوله: {وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} إلخ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة. 

  • فقوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلخ، يأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم عمن يملك السماوات و الأرض و له التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، و هو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام و أرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها و أمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات و الأرض جميعا. 

  • و لكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل و المسئول جميعا و الخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم و اعترافه به بلسانه، و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يذكر هو الجواب و يتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم. 

  • و السؤال عن الخصم، و مباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذي أطعمك و سقاك و كساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك و من بها عليك و أنت تجازيني بالكفر. 

  • و بالجملة ثبت بهذا السؤال و الجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء و رزق و إماتة و بعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل و موت و غيبة و اختلال و غير ذلك. و بهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الأخرى و هي قوله: {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ}

  • قوله تعالى: {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} الكتابة هو الإثبات و القضاء الحتم، و إذ كانت الرحمة - و هي إفاضة النعمة على مستحقها و إيصال الشي‌ء إلى سعادته التي تليق به 

تفسير الميزان ج۷

27
  • من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى، و المعنى: أوجب على نفسه الرحمة و إفاضة النعم و إنزال الخير لمن يستحقه. 

  • و نظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة و نحوها قوله تعالى: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي} (المجادلة: ٢١) و قوله: {فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} (الذاريات: ٢٣) و أما صفات الذات كالحياة و العلم و القدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة و نحوها البتة لا يقال: كتب على نفسه الحياة و العلم و القدرة. 

  • و لازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدم - أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم و أعمالهم فيفوز به المؤمنون و يخسر غيرهم. 

  • و لذلك ذيل بقوله و هو كالنتيجة في الحجة: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم و نون التأكيد و قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}

  • ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين و الخسران على غيرهم فقال: {اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}

  • و الحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ( ص: ٢٨) فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، و من جهة أن التسوية بين المؤمن و الكافر و المتقي و الفاجر ظلم لا يليق به تعالى، و هما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة و الشقاوة، و هذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة. 

  • قوله تعالى: {وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} السكون في الليل و النهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل و النهار، و يجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، و عمل التحولات النورية فيه بالقرب و البعد و الكثرة و القلة و الحضور و الغيبة و المسامتة و غيرها. 

  • فالليل و النهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية و مواليدها تربية تسوق كل جزء من أجزائها و كل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له، و تكملها روحا و جسما. 

تفسير الميزان ج۷

28
  • و كما أن للمسكن عاما و خاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق، و يرتزق مما يخرج منها من حب و فاكهة و ما يتربى فيها من حيوان، و يشرب من مائها، و يستنشق من هوائها، و يفعل و ينفعل من كيفيات منطقتها، و ينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل و النهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما. 

  • و الإنسان من الأشياء الساكنة في الليل و النهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة و مركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا و بقاء بحياة تقوم على شعور فكري و إرادة يتهيئان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع و دفع المضار، و تدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات و التباني على اتباع السنن و القوانين و العادات في المعاشرات و المعاملات، و احترام الآراء و العقائد العامة في الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و الجزاء و العفو. 

  • و إذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل و النهار و ما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل و النهار، و هو المالك الحق لجميع الليل و النهار و سكانهما و ما يستعقب وجودها من الحوادث و الأفعال و الأقوال، و له النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات و إشارات، و العليم بأعمالنا و أفعالنا بما لها من صفتي الحسن و القبح، و العدل و الظلم و الإحسان و الإساءة، و ما تكتسبه النفوس من سعادة و شقاء. 

  • و كيف يمكنه الجهل بذلك و قد نشأ الجميع في ملكه و بإذنه؟ و نحو وجود هذا النوع من الأمور أعني الحسن و القبح و العدل و الظلم و الطاعة و المعصية، و كذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، و لذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا و لا قبيحا و لا طاعة و لا معصية، و الصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به و قصدنا وجهه. 

  • و كيف يمكن أن يملك شي‌ء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه و لا يعلم به؟ (أجد التأمل فيه). 

  • و الله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة 

تفسير الميزان ج۷

29
  • و العنصرية و المركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا و أسكننا الليل و النهار ثم كثرنا و أجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، و اعتبار السنن و وضع الاعتبارات، و لم يزل يصاحبنا و يصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، و يجارينا و إياها في مسير الليل و النهار لحظة لحظة، و ساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة. 

  • حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، و أجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، و أسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه، و سار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، و فهم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، و هو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد و الإحصاء قائد و سائق و هاد و حفيظ و رقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، و ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شي‌ء عليم. 

  • و كذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب و أم يولدانه تحت مراقبة الاختيار و الإرادة، و قد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا و أمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعله، و أرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به، و لم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، و الأرض قبضته و السماوات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، و أخذ موضعه من مسكن الليل و النهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية، و الله سبحانه عليه شهيد و به محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير. 

  • و مما تقدم يظهر أن قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} بمنزلة النتيجة لقوله: {وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ}

  • و السمع و العلم و إن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم و كذا السمع و البصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات و هي التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة 

تفسير الميزان ج۷

30
  • كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة المتوقفة على وجود مخلوق و مرزوق و حي و ميت. 

  • و الأشياء لما كانت بأنفسها و أعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتا سمع و مسموعة له تعالى، و إن كانت أنوارا و ألوانا بصر و مبصرة له تعالى، و الجميع كائنة ما كانت علم و معلومة له تعالى، و هذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، و لا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى و تقدس لأنها لا تعدو مقام الفعل، و لا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي، فافهم ذلك. 

  • و الآية أعني قوله: {وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} إلخ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد و إن تمت بقوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزما لعلمه بها و سمعه بما يسمع منها كالأصوات و الأقوال. 

  • و لذلك نبه عليه بتكرار ملك السماوات و الأرض، و تفريع السمع و العلم عليه فقال: {وَ لَهُ مَا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} - و هو في معنى قوله: «له ما في السماوات و الأرض - و هو السميع العليم» فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة. 

  • و الآية - على أنا لم نستوف حقها و لن يستوفي - من أرق الآيات القرآنية معنى و أدقها إشارة و حجة، و أبلغها منطقا. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لاَ يُطْعَمُ} شروع في الاحتجاج على وحدانيته تعالى و أن لا شريك له. 

  • و الذي يتحصل من تاريخ الوثنية و اتخاذ الأصنام و الآلهة أنهم كانوا إنما دانوا بذلك و خضعوا للآلهة لأحد أمرين: إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام و اللباس و المسكن و الأزواج و الأولاد و العشيرة و نحو ذلك، و عمدتها الطعام الذي حاجة الإنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج، و قد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقا بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى و الكلأ 

تفسير الميزان ج۷

31
  • لدوابهم و يمنع بالخصب لأنفسهم، و السبب الذي يدبر أمر السهل و الجبل أو يلقي بالمحبة و الألفة أو إليه أمر البحر و السفائن الجارية فيه. 

  • ثم وجدوا أن قوتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم و اتخاذه إلها ثم عبادته. 

  • و إما لأنهم وجدوا هذا الإنسان الأعزل غرضا لسهام الحوادث محصورا بمكاره و شرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل و الزلزلة و الطوفان و القحط و الوباء، و ببلايا و محن أخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض و الأوجاع و السقوط و الفقر و العقم و العدو و الحاسد و الشانئ و غير ذلك، ثم وضعوا لها أسبابا قاهرة هي المرسلة لها إليهم، و القاصمة بها ظهورهم، و المكدرة لصفوة عيشهم، و هي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع و أرواح الكواكب و الأجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفا من سخطهم و عذابهم، و عبدوها ليستميلوها بالعبادة و يرضوها بالخضوع و الاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره و الرزايا و يأمنوا شرورها و المضار النازلة منها إليهم. 

  • و الآية أعني قوله: {قُلْ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} إلخ، و الآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة و تعدها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده، و ينفى عنه كل شريك موضوع. 

  • فقوله تعالى: {قُلْ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لاَ يُطْعَمُ} إشارة إلى الحجة من المسلك الأول، و هو مسلك الرجاء أن يعبد الإله لأنه منعم فيكون عبادته شكرا لإنعامه سببا لمزيده. 

  • أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبين لهم في صورة الاستفهام و السؤال أن الله سبحانه وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإنسان و غيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم و لا يطعم، و الدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات و الأرض، و أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، و أنعم عليها بنعمة التحقق و الثبوت، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإبقاء وجودها، و منها الإطعام للإنسان و غيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإنسان و غيره، و الأسباب التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطرة و إيجاده الأشياء و الأسباب و مسبباتها 

تفسير الميزان ج۷

32
  • جميعا من صنعه. 

  • فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإنسان الإطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره. 

  • فظهر بما بيناه أولا: أن التعبير عن العبودية و التأله باتخاذ الولي في قوله: {أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإطعام. 

  • و ثانيا: أن التعلق بقوله: {فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إنما هو لبيان سبب انحصار الإطعام به تعالى كما تقدم تقريره، و ربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله: {وَ لاَ يُطْعَمُ} فإن فيه تعريضا بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى و غيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه. 

  • و من الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعا، و محصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، و إلى فطرة ينتهي كل شي‌ء فيجب الخضوع له. 

  • و وجه كون هذا المسلك أشرف: هو أن المسلكين الآخرين و إن كانا أنتجا توحيد الإله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شي‌ء، و هو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعا في النعمة أو خوفا من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى و تقدس، و أما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه. 

  • و ثالثا: أن اختصاص الإطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش و منه الإنسان. 

  • ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية، و هو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإله على الطريق الذي يهدي إليه العقل و هو التوحيد، و نهاه صريحا أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ثم قال: {وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}

  • بقي هنا أمران: 

تفسير الميزان ج۷

33
  • أحدهما: أن قوله: {أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم ص قبل أمته، و إن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبة دون الزمان. 

  • و ثانيهما: أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية و هي نوع خضوع و تسليم كان استعمال لفظة الإسلام في المقام أولى من لفظة الإيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة، و هو الخضوع. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} و هذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة، و هو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها و نزول عذابها. 

  • و قد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب و أمره و هو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات و الأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإنسان بحسب بادئ النظر من النعم، و هو الإطعام. 

  • و قد قيل: {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} دون أن يقال: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة: {وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} من نهيه (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب علي عقلا أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم، و هذا الذي دل عليه العقل دلني عليه الوحي من ربي. 

  • و بهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولا ثم تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك، و هذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفى في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله: {عَصَيْتُ} موضع أشركت. 

  • قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} إلخ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة. 

تفسير الميزان ج۷

34
  • فيلوح لنظر المغفل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصا بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضا بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد و نفي الشريك على غيرك، و تصير الحجة عليك لا على غيرك. 

  • فأفاد بقوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصة به (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} إلى آخر الآية، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أخذتا أنموذجا مما يرجوه الإنسان و هو الإطعام و أنموذجا مما يخافه و هو عذاب يوم القيامة، و تممتا بهما البيان، و لم تتعرضا لسائر أنواع الضر و أقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الإنسان، و الكل من الله عز اسمه. 

  • فالآية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإنسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه، و أن من الخير ما يمس الله به الإنسان و لا راد لفضله و لا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شي‌ء، و رجاء الخير يوجب على الإنسان أن يتخذه سبحانه إلها معبودا. 

  • و لما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الإنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبودا، و الخصم لا ينكر ذلك‌۱. و أما قصر الألوهية و المعبودية فيه تعالى فلا لأن ما اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة و شفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الإنسان أن يتقرب إليها خوفا من شرها أو رجاء لخيرها. 

  • دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد و لا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره، و كذا أفعالهم و آثارهم لا يعملون عملا من خير أو شر إلا بإذنه و مشيته غير مستقلين بأمر البتة و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا غير ذلك، فما 

    1. الخاصة من الوثنية و إن كانوا يجوزون عبادته تعالى استنادا إلى أنه غير محدود الوجود لا يتعلق به التوجه العبادي لكن العامة منهم ربما عبدوه في عرض سائر الآلهة كما يظهر من تلبية مشركي مكة في الحج: 
      لبيك لا شريك لك الله شريكا هو لك تملكه و له ملك.

تفسير الميزان ج۷

35
  • يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيرا أو شرا ينتهي إلى أمره و مشيته و إذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه و عزته من الاستناد. 

  • فالآيتان جميعا تتممان معنى واحدا، و هو أن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية، و المتفرد بالمعبودية لا إله غيره، و لا معبود سواه. 

  • و قد عبر عن إصابة الضر و الخير بالمس الدال على الحقارة في قوله: {إِنْ يَمْسَسْكَ} {وَ إِنْ يَمْسَسْكَ} ليدل به على أن ما يصيب الإنسان من ضر أو من خير شي‌ء يسير مما تحمله القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شي‌ء، و لا يطيقها و لا يتحملها مخلوق محدود. 

  • و كأن قوله تعالى في جانب الخير: {فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} وضع موضع نحو من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض، و تنكشف به علة قوله: {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} إذ لو كشف غيره تعالى شيئا مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه، و كذلك قدرته على كل شي‌ء تقتضي أن لا يقوى شي‌ء على دفع ما يمس به من خير. 

  • و تخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} و يفيد قوله: {وَ هُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} من التعميم نظير ما أفاد قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ}

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ} القهر هو نوع من الغلبة، و هو أن يظهر شي‌ء على شي‌ء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعا أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود، و النار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته. و إذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها، و هي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها و بها، يصدق عليها عامة أنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها. 

تفسير الميزان ج۷

36
  • فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أن بين قهره تعالى و قهر غيره فرقا، و هو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضا و هما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما و درجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق و الاشتعال، و هما معا موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهي تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه. 

  • و الله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوق و الإحاطة على الإطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا إحراق جسم و إشعاله كالحطب مثلا إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به، قاهر عليه بالخواص و الكيفيات التي أعطاها له و عبأه بها بيده، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإحراقه و إشعاله، و هو المالك لجميع ما للنار من ذات و أثر، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب، و وضع الاحتراق و الاشتعال موضعه فلا مقاومة و لا تعصي و لا جموح و لا شبه ذلك قبال إرادته و مشيته لكونها من أفق أعلى. 

  • فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شي‌ء شيئا و هما متزاملان. و قد صدق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسما له تعالى في موضعين من هذه السورة و هما هذه الآية و آية (٦١). 

  • و قيد الاسم في كلا الموضعين بقوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} و الغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي العقل بخلاف الغلبة، و لذا فسره الراغب بالتذليل، و الذلة في أولي العقل أظهر، و لا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية. 

  • و الله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر و بالخير و يذللهم لمطاوعته و قاهر فوق عباده فيما يفعلونه و يؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملكهم و القادر على ما عليه أقدرهم. 

  • و لما نسب في الآيتين إليه المس بالضر و الخير، و قد ينسبان إلى غيره، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية: {وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ} فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافا و جهلا، الخبير لا يخطئ و لا يغلط كغيره. 

  •  

تفسير الميزان ج۷

37
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٩ الی ٢٠] 

  • {قُلْ أَيُّ شَيْ‌ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللَّهِ آلِهَةً أُخْرى‌ قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ١٩ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٢٠} 

  • (بيان) 

  • احتجاج على الوحدانية من طريق الوحي فإن وحدة الإله و انتفاء الشريك عنه و إن كانت مما يناله العقل بوجوه من النيل فلا مانع من إثباته من طريق الوحي الصريح الذي لا مرية فيه، فالمطلوب هو اليقين بأنه تعالى إله واحد لا شريك له، و إذا فرض حصوله من طريق الوحي الذي لا يداخله ريب في كونه وحيا إلهيا كالقرآن المتكئ على التحدي فلا مانع من الاستناد إليه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْ‌ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} أمر نبيه أن يسألهم عن أكبر الأشياء من حيث الشهادة، و الشهادة هي تحمل الخبر عن نوع من العيان كالإبصار و نحوه، و أداء ما تحمل كذلك بالإخبار و الإنباء، و إذ كان التحمل و الأداء - و خاصة التحمل - مما يختلف بحسب إدراك المتحملين و بحسب وضوح الخبر الذي تحمله المتحمل، و بحسب قوة المؤدى بيانا و ضعفه اختلافا فاحشا. 

  • فليس المتحمل الذي يغلب على مزاجه السهو و النسيان أو الغفلة كالذي يحفظ ما يعيه سمعه و يقع عليه بصره، و ليس الصاحي كالسكران و لا الخبير الأخصائي بأمر كالأجنبي الأعزل. 

  • و إذا كان الأمر على ذلك فلا يقع ريب في أن الله سبحانه هو أكبر من كل شي‌ء 

تفسير الميزان ج۷

38
  • شهادة فإنه هو الذي أوجد كل ما دق و جل من الأشياء، و إليه ينتهي كل أمر و خلق، و هو المحيط بكل شي‌ء و مع كل شي‌ء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات و الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر لا يضل و لا ينسى. 

  • و لكون الأمر بينا لا يقع فيه شك لم يحتج إلى إيراد الجواب في اللفظ بأن يقال: قل الله أكبر شهادة، كما قيل: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} (الأنعام - ١٢) أو يقال: سيقولون الله، كما قيل: {قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (المؤمنون: ٨٥). 

  • على أن قوله: {قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} يدل عليه و يسد مسده، و ليس من البعيد أن يكون قوله {شَهِيدٌ} خبرا لمبتدإ، محذوف هو الضمير العائد إلى الله، و التقدير: «قل الله هو شهيد بيني و بينكم» فتشتمل الجملة على جواب السؤال و على ما استؤنف من الكلام. 

  • و قوله: {قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} على أنه يشتمل على إخباره (صلى الله عليه وآله و سلم) بشهادة الله تعالى هو بنفسه شهادة لمكان قوله: {قُلْ} إذ أمره بأن يخبرهم بشهادته تعالى بالنبوة لا ينفك عن الشهادة بذلك، و على هذا فلا حاجة إلى التشبث بأنواع ما وقع في القرآن الكريم من شهادة الله تعالى على نبوته (صلى الله عليه وآله و سلم) و على نزول القرآن من عنده كقوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} (المنافقون: ١) أو قوله: {لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: ١٦٦) و غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك تصريحا أو تلويحا بلفظ الشهادة أو بغيره. 

  • و تقييد شهادته تعالى بقوله: {بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} يدل على توسطه تعالى بين طرفين متخاصمين هما النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قومه، و النبي لم ينعزل عنهم و لم يتميز منهم في جانب إلا في دعوى النبوة و الرسالة و دعوى نزول القرآن لكن نزول القرآن بالوحي قد ذكر بعد في قوله: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ} فالمراد بشهادته تعالى بينه و بينهم شهادته بنبوته، و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} على ما سيجي‌ء إن شاء الله. 

  • قوله تعالى: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} من مقول القول 

تفسير الميزان ج۷

39
  • و هو معطوف على قوله: {اَللَّهُ شَهِيدٌ} إلخ، و جعل الإنذار غاية لنزول القرآن الكريم أخذ بمسلك الخوف في الدعوة النبوية، و هو الأوقع في أفهام عامة الناس فإن مسلك الرجاء و الوعد و إن كان أحد الطريقين في الدعوة، و قد استعمله الكتاب العزيز في الجملة لكن رجاء الخير لا يبعث إلى طلبه بعثا إلزاميا و إنما يورث شوقا و رغبة بخلاف الخوف لوجوب دفع الضرر المحتمل عقلا. 

  • و لأن دعوة الإسلام إنما هي إلى دين الفطرة، و هو مخزون مكنوز في فطرة الناس و إنما حجبهم عنه ما ابتلوا به من الشرك و المعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة و نزول السخط الإلهي فالأقرب إلى الحكمة و الحزم في دعوتهم أن تبدأ بالإنذار، و لهذا كله ربما حصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الإنذار كما في قوله: {إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} (الفاطر - ٢٣) و قوله: {وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (العنكبوت: ٥٠). 

  • هذا في عامة الناس و أما الخاصة من عباد الله، و هم الذين يعبدونه حبا له لا خوفا من نار و لا طمعا في جنة فإنهم يتلقون من الدعوة بالخوف و الرجاء أمرا آخر فإنهم يتلقون من النار أنها دار بعد و سخط فيخافونها لذلك، و من الجنة أنها ساحة قرب و رضوان فيشتاقون إليها لذلك. 

  • و ظاهر قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} أنه خطاب لمشركي مكة أو لقريش أو للعرب عامة إلا أن التقابل بين ضمير الخطاب و بين من بلغ و المراد بمن بلغ هو من لم يشافهه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالدعوة في زمن حياته أو بعده يدل على أن المراد بالمخاطبين في قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} هم الذين شافههم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالدعوة ممن تقدم دعاؤه على نزول الآية أو قارنه أو تأخر عنه. 

  • فقوله: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} يدل على عموم رسالته (صلى الله عليه وآله و سلم) بالقرآن لكل من سمعه منه أو سمعه من غيره إلى يوم القيامة، و إن شئت فقل: تدل الآية على كون القرآن الكريم حجة من الله و كتابا له ينطق بالحق على أهل الدنيا من لدن نزوله إلى يوم القيامة. 

  • و قد قيل: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} و لم يقل: لأنذركم بقراءته فالقرآن حجة على من سمع لفظه و عرف معناه و اهتدى إلى مقاصده، أو فسر له لفظه و قرع سمعه بمضامينه 

تفسير الميزان ج۷

40
  • فليس من شرط كتاب مكتوب إلى قوم أن يكون بلسانهم بل أن تقوم عليهم حجته و تشملهم مضامينه، و قد دعا (صلى الله عليه وآله و سلم) بكتابه إلى مصر و الحبشة و الروم و إيران و لسانهم غير لسان القرآن، و قد كان فيمن آمن به في حياته و قبل إيمانهم سلمان الفارسي و بلال الحبشي و صهيب الرومي و عدة من اليهود و لسانهم عبري هذا كله مما لا ريب فيه. 

  • قوله تعالى: {أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لاَ أَشْهَدُ} إلى آخر الآية، لما ذكر شهادة الله و هو أكبر شهادة على رسالته و لم يرسل إلا ليدعوهم إلى دين التوحيد، و ليس لأحد بعد شهادة الله سبحانه على أن لا شريك له في ألوهيته أن يشهد أن مع الله آلهة أمر نبيه أن يسألهم سؤال متعجب منكر: هل يشهدون بتعدد الآلهة، و هذا هو الذي يدل عليه تأكيد المسئول عنه بأن و اللام، كأن النفس لا تقبل أن يشهدوا به بعد أن سمعوا شهادة الله تعالى. 

  • ثم أمره أن يخالفهم في الشهادة فينفي عن نفسه الشهادة بما شهدوا به فقال: {قُلْ لاَ أَشْهَدُ} أي بما شهدتم به بقرينة المقام، ثم قال: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} و هو شهادة على وحدانيته تعالى، و البراءة مما يدعون له من شركاء. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} و هذا إخبار عما شهد به الله سبحانه في الكتب المنزلة على أهل الكتاب، و علمه علماء أهل الكتاب مما عندهم من كتب الأنبياء من البشارة بعد البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وصفه بما لا يعتريه شك و لا يطرأ عليه ريب. 

  • فهم بما استحضروا من نعته (صلى الله عليه وآله و سلم) يعرفونه بعينه كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ} (الأعراف: ١٥٧) و قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ}(الفتح: ٢٩)، و قال تعالى: {أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: ١٩٧). 

  • و لما كان بعض علمائهم يكتمون ما عندهم من بشاراته و نعوته (صلى الله عليه وآله و سلم) و يستنكفون عن الإيمان به بين الله تعالى خسرانهم في أمرهم فقال: {اَلَّذِينَ خَسِرُوا 

تفسير الميزان ج۷

41
  • أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} 

  • و قد تقدم بعض الكلام في تفسير نظيرة الآية من سورة البقرة (آية ١٤٦) و بينا هناك وجه الالتفات من الحضور إلى الغيبة و سيأتي تمام الكلام في سورة الأعراف (آية ١٥٦) إن شاء الله تعالى.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن الله عز و جل أ شي‌ء أم لا شي‌ء؟ قال: قلت: قد أثبت الله عز و جل نفسه شيئا حيث يقول: {قُلْ أَيُّ شَيْ‌ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} و أقول: إنه شي‌ء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عنه نفيه و إبطاله: قال لي: صدقت و أحسنت. 

  • قال الرضا (عليه السلام): للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، و تشبيه، و إثبات بغير تشبيه فمذهب النفي لا يجوز، و مذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك و تعالى لا يشبهه شي‌ء، و السبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه.

  • أقول: المراد بمذهب النفي نفي معاني الصفات عنه تعالى كما ذهبت إليه المعتزلة، و في معناه إرجاع الصفات الثبوتية إلى نفي ما يقابلها كالقول بأن معنى القادر أنه ليس بعاجز، و معنى العالم أنه ليس بجاهل إلا أن يرجع إلى ما ذكره (عليه السلام) من المذهب الثالث. 

  • و المراد بمذهب التشبيه أن يشبهه تعالى بغيره و ليس كمثله شي‌ء أي أن يثبت له من الصفة معناه المحدود الذي فينا المتميز من غيره من الصفات بأن يكون قدرته كقدرتنا و علمه كعلمنا، و هكذا، و لو كان ما له من الصفة كصفتنا احتاج كاحتياجنا فلم يكن واجبا تعالى عن ذلك. 

  • و المراد بمذهب الإثبات من غير تشبيه أن يثبت له من الصفة أصل معناه و تنفى 

تفسير الميزان ج۷

42
  • عنه خصوصيته التي قارنته في الممكنات المخلوقة أي تثبت الصفة و ينفي الحد. 

  • و في تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): {قُلْ أَيُّ شَيْ‌ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} و ذلك أن مشركي أهل مكة قالوا: يا محمد ما وجد الله رسولا أرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول ذلك في أول ما دعاهم و هم يومئذ بمكة قالوا: و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم، فأتنا بمن يشهد أنك رسول الله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ}.

  • و في تفسير العياشي، عن بكير عن محمد عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} قال: علي (عليه السلام) ممن بلغ. 

  • أقول: ظاهره أن {مَنْ بَلَغَ} معطوف على ضمير {بَيْنَكُمْ}، و لقد ورد في بعض الروايات أن المراد بمن بلغ هو الإمام، و لازمه عطف {مَنْ بَلَغَ} على فاعل {لِأُنْذِرَكُمْ} المقدر، و ظاهر الآية هو الأول. 

  • و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن يحيى بن عمران الحلبي عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله عز و جل: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} قال: بكل لسان.

  •  أقول: قد مر وجه استفادته من الآية. 

  • و في تفسير المنار أخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا: لا، فخلى سبيلهم ثم قرأ: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} ثم قال: خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا.

  • و في تفسير القمي:أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام: هل تعرفون محمدا في كتابكم؟ قال: نعم و الله نعرفه بالنعت الذي نعته الله لنا إذ رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه مع الغلمان. 

  • و الذي يحلف به ابن سلام: لأنا بمحمد هذا أشد معرفة مني بابني. 

  •  

تفسير الميزان ج۷

43
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٢١ الی ٣٢ ]

  • {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‌ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ ٢١ وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٢٢ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣ اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٢٤ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاؤُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٢٥ وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ ٢٦ وَ لَوْ تَرى‌ إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٢٧ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ٢٨ وَ قَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٢٩ وَ لَوْ تَرى‌ إِذْ وُقِفُوا عَلى‌ رَبِّهِمْ قَالَ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى‌ وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ٣٠قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ 

تفسير الميزان ج۷

44
  • اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلى‌ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلى‌ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ ٣١ وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٣٢} 

  • (بيان) 

  • تعود الآيات إلى أصل السياق و هو الحضور فتلتفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالخطاب فتذكر له مظالم المشركين في أصول العقائد الطاهرة و هي التوحيد و الاعتقاد بالنبوة و المعاد، و ذلك قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ} إلخ، و قوله: {وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} إلخ، و قوله: {وَ قَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا} إلخ. 

  • ثم تبين أن ذلك منهم أشد الظلم و إهلاك لأنفسهم و خسران لها، و تبين كيف تنعكس إليهم و توافيهم هذه المظالم يوم القيامة فيكذبون على أنفسهم بإنكار ما قالوا في الدنيا و يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا الصالحات، و يبدون التحسر على ما فرطوا في جنب الله سبحانه. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‌ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} الظلم من أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضي أن سائر الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار ما فيها من معنى الظلم، و هو الانحراف و الخروج عن الوسط العدل. 

  • و الظلم كما يكبر و يصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف حاله بالكبر و الصغر من جهة من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه و عظم شأنه كان الظلم أكبر و أعظم، و لا أعز قدرا و أكرم ساحة من الله سبحانه و لا من آياته الدالة عليه، فلا أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه، و لا يظلم إلا نفسه. 

  • و قد صدق الله سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى 

تفسير الميزان ج۷

45
  •  اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أما افتراء الكذب عليه تعالى فبإثبات الشريك له، و لا شريك له، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه كذبا و ابتداعا، و أما تكذيب آياته الدالة عليه فكتكذيب النبي الصادق في دعواه المقارنة للآيات الإلهية أو إنكار الدين الحق، و منه إنكار الصانع أصلا. 

  • و الآية تنطبق على المشركين، و هم أهل الأوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج من جهة أنهم أثبتوا لله سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر أمور في الكون، و إليهم ينتهي تدبير شئون العالم مستقلين بذلك، و من جهة أنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على النبوة و المعاد. 

  • و ربما ألحق بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو الطاهرين من ذريته أو الأولياء الكرام من أمته فقضى بكون الاستشفاع بهم في شي‌ء من حوائج الدنيا أو الآخرة شركا تشمله الآية و ما يناظرها من الآيات الشريفة. 

  • و كأنه خفي عليهم أنه تعالى أثبت الشفاعة إذا قارنت الإذن في كلامه من غير أن يقيده بدنيا أو آخرة، فقال عز من قائل: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}(البقرة: (٢٥٥). 

  • على أنه تعالى قال: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: ٨٦) فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء بالحق، و القدر المتيقن منهم الأنبياء و منهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله: {وَ جِئْنَا بِكَ عَلى هَؤُلاَءِ شَهِيداً} (النساء: ٤١) و نص على علمه حيث قال: {وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} (النحل: ٨٩)، و قال: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ}(الشعراء: ١٩٤) و هل يعقل نزول الكتاب الذي هو تبيان كل شي‌ء على قلب من غير علم به، أو بعثه تعالى إياه شهيدا و ليس بشهيد بالحق؟ و قال الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ} (البقرة: (١٤٣)، و قال: {وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} (آل عمران: ١٤٠)، و قال تعالى: {وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ} (العنكبوت: ٤٣) فأثبت في هذه الأمة شهداء علماء و لا يثبت إلا الحق. 

  • و قال تعالى في أهل بيته (عليهم السلام ): {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ 

تفسير الميزان ج۷

46
  • أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: ٣٣) فبين أنهم مطهرون بتطهيره، ثم قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: ٧٩) فعدهم العلماء بالقرآن الذي هو تبيان كل شي‌ء و المطهرون هم القدر المتيقن من هذه الأمة في الشهادة بالحق التي لا سبيل للغو و التأثيم إليها، و قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب فليراجع. 

  • قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} الفلاح‌ و الفوز و النجاح‌ و الظفر و السعادة ألفاظ قريبة المعنى، و لهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك البغية الذي هو معنى السعادة تقريبا، قال في المفردات: الفلح‌: الشق، و قيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق، و الفلاح الأكار لذلك و الفلاح الظفر و إدراك البغية، و ذلك ضربان دنيوي و أخروي: 

  • فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العز و إياه قصد الشاعر بقوله: 

  • أفلح بما شئت فقد يدرك بال***ضعف و قد يخدع الأريب‌ 
  • و فلاح أخروي، و ذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل. انتهى، فمن الممكن أن يقال: إن الفلاح هو السعادة سميت به لأن فيها الظفر و إدراك البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب. 

  • و هذا معنى جامع ينطبق على موارد الاستعمال كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ}(المؤمنون: ١)، و قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (الشمس: ٩)، و قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ} (المؤمنون: ١١٧) إلى غير ذلك من الموارد. 

  • فقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} - و قد أخذ الظلم وصفا - معناه أن الظالمين لا يدركون بغيتهم التي تشبثوا لأجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدي الظالم إلى ما يبتغيه من السعادة و الظفر بواسطة ظلمه. 

  • و ذلك أن السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية و مطلوبا بحسب واقع الأمر و خارج الوجود، و يكون حينئذ الشي‌ء الذي يطلب هذه البغية و السعادة بحسب وجوده طبيعة كونه مجهزا بما يناسب هذه السعادة المطلوبة من الأسباب و الأدوات 

تفسير الميزان ج۷

47
  • كالإنسان الذي من سعادته المطلوبة أن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من بنيته ثم هو مجهز بجهاز التغذي الدقيق الذي يناسب ذلك، و الأدوات و الأسباب الملائمة له، ثم في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالأسباب و الأدوات المهيأة لذلك، ثم يصفيه و يبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن تاما بعد نقصانه، و هذا حكم عام جار في جميع الأنواع الخارجية التي تناله حواسنا و يسعه استقراؤنا من غير تخلف و اختلاف البتة. 

  • و على هذا يجري نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة و سعادة مقصودة طريق خاص لا يسلك إليها إلا منه، و لو توصل إليها من غير سببه الذي يألفها النظام أوجب ذلك العطل في السبب و بطلان الطريق، و في عطله و بطلانه فساد جميع ما يرتبط و يتعلق به من الأسباب و العلائق كالإنسان الذي فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير طريق التناول و الالتقام و الهضم فإن ذلك يفضي إلى عطل قوته الغاذية، و في عطله انحراف قوتيه المنمية و المولدة مثلا جميعا. 

  • و قد اقتضت العناية الإلهية في هذه الأنواع التي تعيش بالشعور و الإرادة أن تعيش بتطبيق أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما كان في ذلك بطلان العمل، و لو تكرر ذلك بطلت الذات كالإنسان المريد للأكل إذا غلط و حسب السم غذاء أو الطين خبزا و نحو ذلك. 

  • و للإنسان عقائد و آراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا و يطبق عمله عليها كالعائد الراجعة إلى المبدإ و المعاد، و الأحكام العملية التي يجعلها مقاييس لأعماله من العبادات و المعاملات. 

  • و هذه طرق إلى السعادات الإنسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها الإنسان أدرك بغيته و ظفر بسعادته، و لو انحرف عنها إلى غيرها - و هو الظلم - لم يوصله إلى بغيته و لئن أوصله إليه لم يثبت عليه، و لم يدم له ذلك فإن سائر الطرق و السبل مربوطة به فتنازعه في ذلك، و تخالفه و تضاده بجميع ما لها من الوسع و الطاقة، ثم أجزاء الكون الخارجي الذي هو السبب لانتشاء هذه الآراء و الأحكام لا توافقه في عمله، و لا تزال على هذا الحال حتى تقلب له الأمر، و تفسد عليه سعادته، و تنغص عليه عيشته. 

تفسير الميزان ج۷

48
  • فالظالم ربما دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالإثم و القدرة الكاذبة في الحصول على بغية و سعادة من غير طريقه المشروع، فيخالف الاعتقاد الحق لتوحيد الله سبحانه، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما، أو إلى أعراض الناس فيهتك أستارهم عنوة، أو إلى دمائهم و نفوسهم فيتصرف فيها من غير حق أو يعصي في شي‌ء من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة أو صوم أو حج أو غيرها، أو يقترف شيئا من الذنوب المتعلقة بذلك، كالكذب و الفرية و الخدعة و نحوها. 

  • يأتي بشي‌ء من ذلك و ربما أدرك ما قصده، و هو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه بحسب زعمه، و قد ذهب عن خسران صفقته و خيبة مسعاه في دنياه و آخرته. 

  • أما في دنياه فلأن ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج و المرج و اختلال النظام إذ لو كان طريقا حقا لعم و لو عم أبطل النظام، و لو بطل النظام بطلت حياة المجتمع الإنساني فالنظام الذي يضمن بقاء النوع الإنساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه بعمله غير المشروع، و لا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله و نتيجة سعيه المشئوم عاجلا أو على مهل و لن يدوم ظلمه البتة. 

  • و أما في الآخرة فلأن ظلمه مكتوب في صحيفة عمله، و هو منقوش في لوح نفسه بما يورد عليها من الأثر ثم هو مجزي به عائش على وتيرته، و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله. 

  • قال الله تعالى: {أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذَابِ وَ مَا اَللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: ٨٥)، و قال: {كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اَللَّهُ اَلْخِزْيَ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(الزمر: ٢٦) و قال: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (الحج: ١٠) إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة. 

  • و الآيات - كما ترى - تشمل المظالم الاجتماعية و الفردية فهي تصدق ما تقدم من 

تفسير الميزان ج۷

49
  • البحث، و أشملها مضمونا الآية المبحوث عنها: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ}

  • قوله تعالى: {وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} إلى آخر الآيتين، الظرف متعلق بمقدر و التقدير: و اذكر يوم «إلخ»، و قد تعلقت العناية في الكلام بقوله {جَمِيعاً} للدلالة على أن العلم و القدرة لا يتخلفان عن أحد منهم، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما و قدرة سيحصيهم و يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا. 

  • و الجملة في مقام بيان قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} كأنه لما قيل: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} سئل فقيل: و كيف ذلك؟ فقيل: لأن الله سيحشرهم و يسألهم عن شركائهم فيضلون عنهم و يفقدونهم فينكرون شركهم و يقسمون لذلك بالله كذبا، و لو أفلح هؤلاء الظالمون في اتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم، و لم يكذبوا على أنفسهم بل وجدوهم على ما ادعوا من الشركة و الشفاعة و نالوا شفاعتهم. 

  • و قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} إلخ، قيل: المراد بالفتنة الجواب أي لم يكن جوابهم إلا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و المراد: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان إلا أن قالوا «إلخ»، و قيل: المراد بالفتنة المعذرة، و لكل من الوجوه وجه. 

  • قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة، و المراد أنهم سيكذبون على أنفسهم و يفقدون ما افتروا به، و لو أفلحوا في ظلمهم و سعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد ذلك و إنكاره على أنفسهم. 

  • أما كذبهم على أنفسهم فلأنهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما ادعوه في الدنيا من أن لله سبحانه شركاء، و هم كانوا يصرون عليه و يعرضون فيه عن كل حجة واضحة و آية بينة ظلما و عتوا، و هذا كذب منهم على أنفسهم. 

  • و أما ضلال ما كانوا يفترونه عنهم فلأن اليوم يوم ينجلي فيه عيانا أن الأمر و الملك و القوة لله جميعا ليس لغيره من شي‌ء إلا ذلة العبودية، و الفقر و الحاجة من غير أي استقلال قال تعالى: {وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ 

تفسير الميزان ج۷

50
  •  اَلْعَذَابِ} (البقرة: ١٦٥)، و قال: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} (المؤمن: ١٦) و قال: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانفطار: ١٩). 

  • فيشاهدون عندئذ مشاهدة عيان أن الألوهية لله وحده لا شريك له، و يظهر لهم أوثانهم و شركاؤهم و هم لا يملكون ضرا و لا نفعا لأنفسهم و لا لغيرهم، و وجدوا الأوصاف التي أثبتوها لهم من الربوبية و الشفاعة و غيرهما إنما هي لله وحده، و قد كان اشتبه عليهم الأمر فتوهموها لغيره و ضل عنهم ما كانوا يفترون. 

  • فإن استمدوا منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى: {وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (النحل: ٨٧) و قال تعالى: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}(الفاطر: ١٤) و قال تعالى: {وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (يونس: ٣٠). 

  • و بالتدبير في هذه الآيات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف الشركة و الشفاعة و تبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن إلا ظهورا سرابيا كما قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} (النور: ٣٩). 

  • فإن قلت: إن الآيات المتعرضة لوصف يوم القيامة - كما تقدم - ظاهرة في بروز الحقائق و خروجها عن مكمن الخفاء و الالتباس الذي هو من لوازم النشأة الأولى الدنيوية كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى‌ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ} (المؤمن: ١٦) فأي نفع حينئذ لكذبهم؟ و كيف يكذبون و ما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا؟ و قد قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} (آل عمران: ٣٠). 

تفسير الميزان ج۷

51
  • قلت: كذبهم و حلفهم على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة، و مثل الآية قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} (المجادلة: ١٨) و ليس كذبهم و حلفهم عليه للتوصل به إلى الأغراض الفاسدة و ستر الحق كما يتوصل إليها بالكذب في الدنيا فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل و اكتساب. 

  • لكنهم لكونهم اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات و المهالك و يجلبوا المنافع إليهم بالأيمان الكاذبة و الأخبار المزورة خدعة و غرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب، و الملكة إذا رسخت في النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه، و ذلك كما أن البذي الفحاش إذا استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه و إن عزم عليه و المستكبر اللجوج العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع، و إن خضع في موقف المهلكة و الذلة أحيانا فإنما يخضع ظاهرا و بلسانه، و أما باطنا و في قلبه فهو على حاله لم يتغير و لن يتغير البتة. 

  • و هذا هو السر في كذبهم يوم القيامة لأنه يوم تبلى فيه السرائر و السريرة المعقودة على الكذب ليس فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى: {وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: ٤٢) و نظيره التخاصم الدائر بين أهل الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم القيامة بينهم، و قد قص الله سبحانه ذلك في مواضع كثيرة من كلامه، و أجمله في قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ} ( ص: ٦٤) هذا في أهل العذاب و أما أهل المغفرة و الجنة فيظهر منهم هناك ما كان في نفوسهم هاهنا من الصفا و السلامة، قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} (الواقعة: ٢٦) فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية، الأكنة جمع كن بكسر الكاف و هو الغطاء الذي يكن فيه الشي‌ء و يغطى، و الوقر هو الثقل في السمع، و الأساطير جمع أسطورة بمعنى الكذب و المين على ما نقل عن المبرد، و كان أصله السطر و هو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس غلب استعماله فيما جمع و نظم و رتب من الأخبار الكاذبة. 

  • و كان ظاهر السياق أن يقال: يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، و لعل الإظهار للإشعار بالسبب في هذا الرمي و هو الكفر. 

تفسير الميزان ج۷

52
  •  قوله تعالى: {وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ} ينهون عنه أي عن اتباعه، و النأي‌ الابتعاد، و القصر في قوله: {وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} من قصر القلب، فإنهم كانوا يحسبون أن النهي عنه و النأي عنه إهلاك له و إبطال للدعوة الإلهية، و يأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من حيث لا يشعرون. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنَّارِ} إلى آخر الآيتين. بيان لعاقبة جحودهم و إصرارهم على الكفر و الإعراض عن آيات الله تعالى. 

  • و قوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} إلخ، على قراءة النصب في {نُكَذِّبَ} و {نَكُونَ} تمن منهم للرجوع إلى الدنيا و الانسلاك في سلك المؤمنين ليخلصوا به من عذاب النار يوم القيامة، و هذا القول منهم نظير إنكارهم الشرك بالله و حلفهم بالله على ذلك كذبا من باب ظهور ملكاتهم النفسانية يوم القيامة فإنهم قد اعتادوا التمني فيما لا سبيل لهم إلى حيازته من الخيرات و المنافع الفائتة عنهم، و خاصة إذا كان فوتها مستندا إلى سوء اختيارهم و قصور تدبيرهم في العمل، و نظيره أيضا ما سيجي‌ء من تحسرهم على ما فرطوا في أمر الساعة. 

  • على أن التمني يصح في المحالات المتعذرة كما يصح في الممكنات المتعسرة كتمني رجوع الأيام الخالية و غير ذلك قال الشاعر: 

  • ليت و هل ينفع شيئا ليت***ليت الشباب بوع فاشتريت‌ 
  • و قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} إلخ، ظاهر الكلام أن مرجع الضمائر أعني ضمائر {لَهُمْ} و {كَانُوا} و {يُخْفُونَ} واحد و هو المشركون السابق ذكرهم، و أن المراد بالقبل هو الدنيا فالمعنى أنه ظهر لهؤلاء المشركين حين وقفوا على النار ما كانوا هم أنفسهم يخفونه في الدنيا فبعثهم ظهور ذلك على أن تمنوا الرد إلى الدنيا، و الإيمان بآيات الله، و الدخول في جماعة المؤمنين. 

  • و لم يبد لهم إلا النار التي وقفوا عليها يوم القيامة فقد كانوا أخفوها في الدنيا بالكفر و الستر للحق و التغطية عليه بعد ظهوره لهم كما يشير إليه نحو قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: ٢٢). 

تفسير الميزان ج۷

53
  • و أما نفس الحق الذي كفروا به في الدنيا مع ظهوره لهم فهو كان بادئا لهم من قبل و السياق يأبى أن يكون مجرد ظهور الحق لهم مع الغض عن ظهور النار و هول يوم القيامة باعثا لهم على هذا التمني. 

  • و يشعر بذلك بعض ما في نظير المقام من كلامه تعالى كقوله: {وَ إِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ اَلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا اَلسَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (الجاثية: ٣٣)، و قوله: {وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذَابِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (الزمر: ٤٨). 

  • و قد ذكروا في الآية أعني قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} وجوها كثيرة أنهاها في المنار إلى تسعة أوجه قال:« و فيه أقوال: الأول أنه أعمالهم السيئة و قبائحهم الشائنة ظهرت لهم في صحائفهم، و شهدت بها عليهم جوارحهم. 

  • الثاني: أنه أعمالهم التي كانوا يفترون بها و يظنون أن سعادتهم فيها إذ يجعلها الله تعالى هباء منثورا. 

  • الثالث: أنه كفرهم و تكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}

  • الرابع: أنه الحق أو الإيمان الذي كانوا يسرونه و يخفونه بإظهار الكفر و التكذيب عنادا للرسول و استكبارا عن الحق، و هذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا}

  • الخامس: أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل بدا للأتباع الذين كانوا مقلدين لهم، و منه كتمان بعض أهل الكتاب لرسالة نبينا (صلى الله عليه وآله و سلم) و صفاته و بشارة أنبيائهم به. 

تفسير الميزان ج۷

54
  • السادس: أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من أسرار الكفر و إظهار الإيمان و الإسلام. 

  • السابع: أنه البعث و الجزاء و منه عذاب جهنم، و أن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به، و هو المعنى الأصلي لمادة الكفر. 

  • الثامن: أن في الكلام مضافا محذوفا أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر و السيئات و نزل بهم عقابه فتبرموا و تضجروا و تمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا، و ترك ما أفضي إليه من التكذيب بالآيات و عدم الإيمان كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب في نفسه، و نحن لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال بل الصواب عندنا قول آخر، و هو: 

  • التاسع: أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم و لأشباههم من الكفار ما كان يخفيه في الدنيا ما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، انتهى.» ثم عمم الكلام لرؤساء الكفار و أتباعهم المقلدة و للمنافقين و الفساق ممن يقترف الفواحش و يخفيها عن الناس أو يترك الواجبات و يعتذر بأعذار كاذبة و يخفي حقيقة الحال في كلام طويل. 

  • و بالرجوع إلى ما قدمناه من الوجه و التأمل فيه يظهر ما في كل واحد من هذه الأقوال من وجوه الخلل فلا نطيل. 

  • و قوله: {وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} تذكير لفعل ما تقرر في نفوسهم من الملكات الرذيلة في نشأة الدنيا فإن الذي بعثهم إلى تمني الرجوع إلى الدنيا و الإيمان فيها بآيات الله و الدخول في جماعة المؤمنين إنما هو ظهور الحق المتروك بجميع ما يستتبعه من العذاب يوم القيامة، و هو من مقتضيات نشأة الآخرة المستلزمة لظهور الحقائق الغيبية ظهور عيان. 

  • و لو عادوا إلى الدنيا لزمهم حكم النشأة، و أسدلت عليهم حجب الغيب، و رجعوا إلى اختيارهم، و معه هوى النفس و وسوسة الشيطان و قرائح العباد و الاستكبار و الطغيان فعادوا إلى سابق شركهم و عنادهم مع الحق فإن الذي دعاهم و هم في الدنيا إلى 

تفسير الميزان ج۷

55
  • مخالفة الحق و التكذيب بآيات الله تعالى هو على حاله مع فرض ردهم إلى الدنيا بعد البعث، فحكمه حكمه من غير فرق. 

  • و قوله: {وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي في قولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} إلخ، و التمني و إن كان إنشاء لا يقع فيه الصدق و الكذب إلا أنهم لما قالوا: {نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ} أي ردنا الله إلى الدنيا و لو ردنا لم نكذب، و لم يقولوا: نعود و لا نكذب، كان كلامهم مضمنا للمسألة و الوعد أعني مسألة الرد و وعد الإيمان و العمل الصالح كما صرح بذلك في قوله: {وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة: ١٢) و قوله: {وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (الفاطر: ٣٧). 

  • و بالجملة قولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ} إلخ، في معنى قولهم ربنا ردنا إلى الدنيا لا نكذب بآياتك و نكن من المؤمنين، و بهذا الاعتبار يحتمل الصدق و الكذب، و يصح عدهم كاذبين. 

  • و ربما وجه نسبة الكذب إليهم في تمنيهم بأن المراد كذب الأمل و التمني و هو عدم تحققه خارجا كما يقال: كذبك أملك، لمن تمنى ما لا يدرك. 

  • و ربما قيل: إن المراد كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم من إصابة الواقع و اعتقاد الحق، هو كما ترى. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا} إلى آخر الآيتين. ذكر لإنكارهم الصريح للحشر و ما يستتبعه يوم القيامة من الإشهاد و أخذ الاعتراف بما أنكروه، و الوثنية كانت تنكر المعاد كما حكى الله عنهم ذلك في كلامه غير مرة، و قولهم بشفاعة الشركاء إنما كان في الأمور الدنيوية من جلب المنافع إليهم و دفع المضار و المخاوف عنهم. 

  • فقوله: {وَ قَالُوا إِنْ هِيَ} إلخ، حكاية لإنكارهم أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة بعدها، و ما نحن بمبعوثين بعد الممات، و قوله: {وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا} كالجواب و هو بيان ما يستتبعه قولهم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ}، إلخ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في صورة التمني لمكان قوله: 

تفسير الميزان ج۷

56
  • {وَ لَوْ تَرى} و هو أنهم سيصدقون بما جحدوه، و يعترفون بما أنكروه بقولهم: {وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} إذ يوقفون على ربهم فيشاهدون عيانا هذا الموقف الذي أخبروا به في الدنيا، و هو أنهم مبعوثون بعد الموت فيعترفون بذلك بعد ما أنكروه في الدنيا. 

  • و من هنا يظهر أن الله سبحانه فسر البعث في قوله: {وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ} بلقاء الله، و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: {قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ} إلخ، حيث بدل الحشر و البعث و القيامة المذكورات في سابق الكلام لقاء ثم ذكر الساعة أي ساعة اللقاء. 

  • و قوله: {أَ لَيْسَ هَذَا} أي أ ليس البعث الذي أنكرتموه في الدنيا و هو لقاء الله {بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} به و تسترونه. 

  • قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، قال في المجمع: كل شي‌ء أتى فجأة فقد بغت يقال: بغته الأمر يبغته بغتة انتهى، و قال الراغب في المفردات: الحسر كشف الملبس عما عليه يقال: حسرت عن الذراع، و الحاسر من لا درع عليه و لا مغفر، و المحسرة المكنسة -إلى أن قال- و الحاسر المعيا لانكشاف قواه -إلى أن قال- و الحسرة الغم على ما فاته و الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه. انتهى موضع الحاجة. 

  • و قال: الوزر (بفتحتين) الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلى‌ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ} و الوزر (بالكسر فالسكون) الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل، قال {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} )الآية( كقوله: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}، انتهى. 

  • و الآية تبين تبعة أخرى من تبعات إنكارهم البعث و هو أن الساعة سيفاجئهم فينادون بالحسرة على تفريطهم فيها و يتمثل لهم أوزارهم و ذنوبهم و هم يحملونها على ظهورهم و هو أشق أحوال الإنسان و أردؤها ألا ساء ما يزرون و يحملونه من الثقل أو من الذنب أو من وبال الذنب. 

تفسير الميزان ج۷

57
  • و الآية أعني قوله: {قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ} بمنزلة النتيجة المأخوذة من قوله: {وَ قَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا} إلى آخر الآيتين، و هي أنهم بتعويضهم راحة الآخرة و روح لقاء الله من إنكار البعث و ما يستتبعه من أليم العذاب خسروا صفقة. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ} إلخ، تتمة للكلام فيه بيان حال الحياتين: الدنيا و الآخرة و المقايسة بينهما فالحياة الدنيا لعب و لهو ليس إلا فإنها تدور مدار سلسلة من العقائد الاعتبارية و المقاصد الوهمية كما يدور عليه اللعب فهي لعب، ثم هي شاغلة للإنسان عما يهمه من الحياة الأخرى الحقيقية الدائمة فهي لهو، و الحياة الآخرة لكونها حقيقية ثابتة فهي خير و لا ينالها إلا المتقون فهي خير لهم.

  • (بحث روائي) 

  • و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال أحد حتى يقول أهل الشرك: {وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}

  • و في المجمع في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا} (الآية) أن المراد: لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا: إلخ، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ} (الآية)، قال: قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يمنعون قريشا، و ينأون أي يباعدون عنه و لا يؤمنون. 

  • أقول: و الرواية تقرب مما روي عن عطاء و مقاتل:أن المراد أبو طالب عم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه كان ينهى قريشا عن النبي و ينأى عن النبي و لا يؤمن به. 

  • و السياق يأبى ذلك فإن ظاهر الآية أن الضمير راجع إلى القرآن دون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). على أن الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام ) متظافرة بإيمانه. 

  • قال في المجمع: قد ثبت إجماع أهل البيت (عليهم السلام ) بإيمان أبي طالب، 

تفسير الميزان ج۷

58
  • و إجماعهم حجة، لأنهم أحد الثقلين الذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالتمسك بهما بقوله: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا. 

  • و يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر:أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ لا تركت الشيخ فآتيه؟ و كان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، و الذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك، فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): صدقت. 

  • و روى الطبري، بإسناده:أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اجتمعوا عليه و قالوا: جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا، و سفه أحلامنا فنقتله، فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فأغذوه، و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله، و قال: 

  • منعنا الرسول رسول المليك***ببيض تلألأ كلمع البروق
  • أذود و أحمي رسول المليك***حماية حام عليه شفيق‌
  • و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله: 

  • أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا***نبيا كموسى خط في أول الكتب
  • أ ليس أبونا هاشم شد أزره***و أوصى بنيه بالطعان و بالحرب‌
  • و قوله من قصيدة: 

  • و قالوا لأحمد أنت امرؤ***خلوف اللسان ضعيف السبب
  • ألا إن أحمد قد جاءهم***بحق و لم يأتهم بالكذب
  • و قوله في حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): 

  • و قد كان في أمر الصحيفة عبرة***متى ما يخبر غائب القوم يعجب
  • محا الله منها كفرهم و عقوقهم***و ما نقموا من ناطق الحق معرب
  • و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا***على سخط من قومنا غير معتب‌

تفسير الميزان ج۷

59
  • و قوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي و الصبر في طاعته: 

  • صبرا أبا يعلى على دين أحمد***و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
  • فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن***فكن لرسول الله في الله ناصرا 
  • و قوله من قصيدة: 

  • أقيم على نصر النبي محمد***أقاتل عنه بالقنا و القنابل 
  • و قوله يحض النجاشي على نصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): 

  • تعلم مليك الحبش أن محمدا وزير***لموسى و المسيح بن مريم 
  • أتى بهدى مثل الذي أتيا به***و كل بأمر الله يهدي و يعصم
  • و إنكم تتلونه في كتابكم***بصدق حديث لا حديث المرجم
  • فلا تجعلوا لله ندا و أسلموا***و إن طريق الحق ليس بمظلم‌ 
  • و قوله في وصيته و قد حضرته الوفاة: 

  • أوصى بنصر النبي الخير مشهده***عليا ابني و شيخ القوم عباسا
  • و حمزة الأسد الحامي حقيقته***و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا
  • كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت***في نصر أحمد دون الناس أتراسا 
  • و أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبه يطول بها الكتاب، انتهى. 

  • و العمدة في مستند من قال بعدم إسلامه بعض روايات واردة من طريق الجمهور في ذلك، و في الجانب الآخر إجماع أهل البيت (عليهم السلام ) و بعض الروايات من طريق الجمهور، و أشعاره المنقولة عنه، و لكل امرئ ما اختار. 

  • و في تفسير العياشي، عن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل. 

  • و فيه عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام) ، قال: إن الله قال للماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي و أهل طاعتي، و قال للماء: كن ملحا أجاجا أخلق 

تفسير الميزان ج۷

60
  • منك ناري و أهل معصيتي فأجرى المائين على الطين ثم قبض قبضة بيده و هي يمين فخلقهم خلقا كالذر ثم أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم و عليكم طاعتي؟ قالوا: بلى، فقال للنار: كوني نارا فإذا نارا تأجج‌۱، و قال لهم: قعوا فيها فمنهم من أسرع، و منهم من أبطأ في السعي، و منهم من لم يبرح مجلسه فلما وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد. 

  • ثم قبض قبضة بيده فخلقهم خلقا مثل الذر مثل أولئك ثم أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الآخرين، ثم قال لهم: قعوا في هذه النار فمنهم من أبطأ، و منهم من أسرع و منهم من مر بطرف العين فوقعوا فيها كلها٢، فقال: اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يصبهم شي‌ء .

  • و قال الآخرون: يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا، قال: قد أقلتكم فمنهم من أسرع في السعي، و منهم من لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرة الأولى، فذلك قوله: {وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

  • أقول: هذه الرواية و التي قبلها من روايات الذر و سيأتي استيفاء البحث عنها في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‌} (الآية). 

  • و محصلها أنه كما أن لنظام الثواب و العقاب في الآخرة ارتباطا تاما بنشأة أخرى قبلها و هي نشأة الدنيا من حيث الطاعة و المعصية كذلك للطاعة و المعصية في الدنيا ارتباط تام بنشأة أخرى قبلها رتبة، و هي عالم الذر. 

  • فالمراد بقوله في الرواية: فذلك قوله تعالى: {وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} إلخ، أن معنى الآية و لو ردوا من عرصات الحشر إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون من عالم الذر إذ كذبوا الله فيه، و هذا هو المراد بعينه بقوله (عليه السلام) في الرواية الأولى: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل أي في عالم الذر لكذبهم فيه. 

  • و على هذا فالروايتان تشتملان على وجه رابع في تفسير الآية غير الوجوه الثلاثة 

    1. تأججت ظ.
    2. كلهم ظ.

تفسير الميزان ج۷

61
  • المتقدمة في البيان السابق. 

  • و في المجمع، عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَنَا عَلى‌ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} (الآية)، قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا، اه. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٣٣ الی ٣٦ ]

  • {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَ لَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ ٣٣ وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‌ مَا كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ وَ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ ٣٤ وَ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي اَلسَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدى‌ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ ٣٥ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتى‌ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ٣٦} 

  • (بيان) 

  • تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن هفوات المشركين في أمر دعوته، و تطييب لنفسه بوعد النصر الحتمي، و بيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الإنساني فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر فالقدرة و المشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على القبول، و لو شاء الله لجمعهم على الهدى. 

  • قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ} إلى آخر الآية، «قد» حرف 

تفسير الميزان ج۷

62
  • تحقيق في الماضي، و تفيد في المضارع التقليل و ربما استعملت فيه أيضا للتحقيق، و هو المراد في الآية، و حزنه كذا و أحزنه بمعنى واحد، و قد قرئ بكلا الوجهين. 

  • و قوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} قرئ بالتشديد من باب التفعيل، و بالتخفيف، و الظاهر أن الفاء في قوله: {فَإِنَّهُمْ} للتفريع و كأن المعنى قد نعلم أن قولهم ليحزنك لكن لا ينبغي أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لأنك لا تدعو إلا إلينا و ليس لك فيه إلا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا و يجحدونها. 

  • فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} في معنى قوله تعالى: {وَ مَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ} (لقمان: ٢٣) و قوله: {فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ} (يس: ٧٦) و غير ذلك من الآيات النازلة في تسليته (صلى الله عليه وآله و سلم)، هذا على قراءة التشديد. 

  • و أما على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، و لا يبطلون حجتك بحجة و إنما يظلمون آيات الله بجحدها و إليه مرجعهم. 

  • و قوله: {وَ لَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} كان ظاهر السياق أن يقال: و لكنهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور و جهل و غير ذلك فليس إلا عتوا و بغيا و طغيانا و سيبعثهم الله ثم إليه يرجعون. 

  • و لذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة فقيل: {بِآيَاتِ اَللَّهِ} و لم يقل: بآياتنا، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الألوهية و استعلاء عليه و هو المقام الذي لا يقوم له شي‌ء. 

  • و قد قيل في تفسير معنى الآية وجوه أخرى: 

  • أحدها: ما عن الأكثر أن المعنى: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، و إنما يظهرون التكذيب بأفواههم عنادا. 

  • و ثانيها: أنهم لا يكذبونك و إنما يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي و لست 

تفسير الميزان ج۷

63
  • مختصا به، و هذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه و إن كان قريبا منه، و الوجهان جميعا على قراءة التشديد. 

  • و ثالثها: أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب: قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء، و الوجه ما تقدم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا} إلى آخر الآية. هداية له (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى سبيل من تقدمه من الأنبياء، و هو سبيل الصبر في ذات الله، و قد قال تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ} (الأنعام: ٩٠). 

  • و قوله: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بيان غاية حسنة لصبرهم، و إشارة إلى الوعد الإلهي بالنصر، و في قوله: {وَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ} تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد و حتم له، و إشارة إلى ما ذكره بقوله: {كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي}(المجادلة: ٢١)، و قوله: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ}(الصافات: ١٧٢). 

  • و وقوع المبدل في قوله: {وَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ} في سياق النفي ينفي أي مبدل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل مشيته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه و يقهره على خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم و يغيره بوجه من الوجوه. 

  • و من هنا يظهر أن هذه الكلمات التي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور خارجة عن لوح المحو و الإثبات، فكلمة الله و قوله و كذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الذي لا مطمع في تغييره و تبديله، قال تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} (ص: ٨٤) و قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ} (الأحزاب: ٤) و قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ} (يونس: ٥٥) و قال تعالى: {لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ اَلْمِيعَادَ} (الزمر: ٢٠) و قد مر البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى و ما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللَّهُ} (البقرة: ٢٥٣). 

  • و قوله في ذيل الآية: {وَ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ} تثبيت و استشهاد لقوله: 

تفسير الميزان ج۷

64
  • {وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} إلخ، و يمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكية التي تقص قصص الأنبياء كسورة الشعراء و مريم و أمثالهما، و هذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق و المدثر قطعا فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكة قبل الهجرة، و الله أعلم. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} - إلى قوله - {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} قال الراغب: النفق‌ الطريق النافذ و السرب في الأرض النافذ فيه قال: {فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ}، و منه نافقاء اليربوع، و قد نافق اليربوع و نفق، و منه النفاق و هو الدخول في الشرع من باب و الخروج عنه من باب، و على ذلك نبه بقوله: {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ} أي الخارجون من الشرع، و جعل الله المنافقين شرا من الكافرين فقال: {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنَّارِ}، و نيفق السراويل معروف، انتهى. 

  • و قال: السلم‌ ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شي‌ء رفيع كالسبب قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ}، و قال: {أَوْ سُلَّماً فِي اَلسَّمَاءِ}، و قال الشاعر: و لو نال أسباب السماء بسلم،. انتهى. 

  • و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، و التقدير كما قيل: و إن استطعت أن تبتغي كذا و كذا فافعل. 

  • و المراد بالآية في قوله تعالى: {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} (الآية) التي تضطرهم إلى الإيمان فإن الخطاب عنى قوله: {وَ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} إلخ، إنما ألقي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طريق القرآن الذي هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته، و يقرب إعجازه من فهمهم و هم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغي أن يكبر و يشق عليك إعراضهم فإن الدار دار الاختيار، و الدعوة إلى الحق و قبولها جاريان على مجرى الاختيار، و أنك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان و تلزمهم على ذلك فإن الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان و الطاعة، و لو شاء الله لآمن الناس جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس و لا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهية. 

  • و أما ما احتمله بعضهم: أن المراد: فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أرسلناك 

تفسير الميزان ج۷

65
  • بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية و خاصة قوله {وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدى} فإنه ظاهر في الاضطرار. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطروا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة. 

  • لكنه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى: {وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة: ١٣) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} ( ص: ٨٥) فبين تعالى أن عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه سيغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين. 

  • و قد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم و إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٤٣) و قد نسب ذلك إليهم إبليس أيضا فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة: {وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} -إلى أن قال- {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} (إبراهيم: ٢٢). 

  • فالآيات تبين أن المعاصي و منها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان و الغواية تنتهي إلى نفس الإنسان، و لا ينافي ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الإنسان ليس له أن يشاء إلا أن يشاء الله منه المشية كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} (الإنسان: ٣٠)، و قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} (التكوير: ٢٩). 

  • فمشية الإنسان في تحققها و إن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا يشاء منه المشية إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته، و تعرض منه لرحمته، قال تعالى: 

تفسير الميزان ج۷

66
  • {وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد: ٢٧) أي انعطف و رجع إليه، و أما الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته و لا يغشاه برحمته كما قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦) و قال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (الصف: ٥) و قال: {وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} (الأعراف: ١٧٦). 

  • و بالجملة فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار، و الآيات الإلهية لا تنزل إلا مع مراعاة الاختيار، و لا يهدي الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته و استعد لهدايته من طريق الاختيار. 

  • و بهذا تنحل شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال، و هي أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان و تضطرهم إلى قبول الدعوة الدينية ينافي أساس الاختيار الذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصة أن يشاءوا ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى، و تلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم و حريتهم في العمل. 

  • و ذلك أنه و إن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافي الناموس العام في عالم الأسباب، و نظام الاستعداد و الإفاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله و زكى نفسه و قد أفلح من زكاها و لا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه و دس نفسه و قد خاب من دساها، و أصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: ٢٠) أي ممنوعا فالله سبحانه يمد كل نفس من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه و إن أراد الشر أوتيه أي منع من الخير، و لو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير و تنكب على الإيمان و التقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام و إفساد أمر الأسباب. 

  • و تؤيد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ} 

تفسير الميزان ج۷

67
  • إلى آخر الآية على ما سيجي‌ء من معناها. 

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (الآية) كالبيان لقوله: {وَ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} إلى آخر الآية فإن ملخصه أنك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض، و الحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان، فبين في هذه الآية أنهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم و لا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية و يسمعوا دعوة الداعي و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • فهذه الهياكل المتراءات من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، و إنما يستجيب الذين يسمعون، و صنف منهم أموات لا يسمعون و إن كانوا ظاهرا في صور الأحياء و هؤلاء يتوقف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، و سوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة: ١٢) 

  • فالكلام مسوق سوق الكناية، و المراد بالذين يسمعون المؤمنون و بالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين و غيرهم، و قد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة و السمع، و وصف الكفار بالموت و الصمم كما قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}(الأنعام: ١٢٢) و قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لاَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}(النمل: ٨١) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. 

  • و قد تكرر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف التي حملها الجمهور من المفسرين على الكناية و التشبيه، و أن لها معنى من الحقيقة فليراجع. 

  • و في الآية دلالة على أن الكفار و المشركين سيفهمهم الله الحق و يسمعهم دعوته في الآخرة كما فهم المؤمنين و أسمعهم في الدنيا، فالإنسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له عن فهم الحق عاجلا أو آجلا. 

تفسير الميزان ج۷

68
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يحب إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و جهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {وَ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} - إلى قوله - {نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ}، يقول: سربا.

  •  أقول: و الرواية على ما بها من ضعف و إرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة، و إن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الإشارة بالآية إلى السبب المحقق بعنوان الانطباق‌ 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٣٧ الی ٥٥]

  • {وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ قَادِرٌ عَلى‌ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٧ وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ٣٨ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اَللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٣٩ قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ أَ غَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٠بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ٤١ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى‌ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ 

تفسير الميزان ج۷

69
  • لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ٤٢ فَلَوْ لاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَ لَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٤٣ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٤٥ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصَارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى‌ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ٤٦ قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظَّالِمُونَ ٤٧ وَ مَا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٤٨ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ اَلْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ٤٩ قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى‌ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ٥٠وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‌ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٥١ وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ مَا مِنْ 

تفسير الميزان ج۷

70
  • حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ ٥٢ وَ كَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هَؤُلاَءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ٥٣ وَ إِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‌ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥٤ وَ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ ٥٥} 

  • (بيان) 

  • احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد و آية النبوة. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ قَادِرٌ} إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لما صدر هذا القول منهم و بين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة و آية آية، و يتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم: {لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} هي آية غير القرآن، و أنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم و ترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات و التهوسات. 

  • و قد حملهم التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم، فقالوا: {لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} و لم يقولوا: من ربنا أو من الله و نحوهما إزراء بأمره و تأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه و يدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه و لينصره و لينزل عليه آية تدل على حقية دعواه. 

  • و الذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أن الوثنية يرون لآلهتهم استقلالا في الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام 

تفسير الميزان ج۷

71
  • الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الأمر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره، و كذلك إله البر و إله البحر و إله الحب و إله البغض و سائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الأمر بين أعضاده و إن كان هؤلاء شفعاءه و هو رب الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفي ألوهيتها. 

  • و كان يحضهم على هذه المزعمة و يؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شي‌ء من النظام الجاري، و خرق العادة المألوفة في عالم الأسباب. 

  • و ثانيهما: أن الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا و اليد البيضاء لموسى و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و خلق الطير لعيسى، و القرآن الكريم لمحمد (صلى الله عليه وآله و عليهم). 

  • لكن الآية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها و إلا نزل عليهم العذاب و لم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح و هود و صالح و غير ذلك، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، كقوله تعالى: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ} (الأنعام: ٨) و قوله: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ اَلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}(الإسراء: ٥٩). 

  • و قد أشير في الآية الكريمة أعني قوله: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ قَادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، إلى الجهتين جميعا. 

  • فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء، و كيف يمكن أن يفرض من هو مسمى باسم «الله» و لا تكون له القدرة المطلقة، و قد بدل في الجواب لفظة «الرب» إلى اسم «الله» للدلالة على برهان الحكم، فإن الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة، و الجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز. 

  • على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، و أن اجتراءهم 

تفسير الميزان ج۷

72
  • على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم و قطع دابرهم، و الدليل على أن هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} (الأنعام: ٥٨). 

  • و في قوله تعالى: {نُزِّلَ} و {يُنَزِّلَ} مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} -إلى أن قال- {أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ} الآيات: (الإسراء: ٩٣) و قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا} (الفرقان: ٢١) و قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الفرقان: ٣٢). 

  • و روي عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إلى آخر الآية، الدابة كل حيوان يدب على الأرض و قد كثر استعماله في الفرس، و الدب‌ بالفتح و الدبيب‌ هو المشي الخفيف. 

  • و الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، و جمعه الطير كالراكب، و الركب و الأمة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، و الأصل في معناها، القصد يقال: أم يؤم إذا قصد، و الحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء و نحوه من الأمور الاجتماعية. 

  • و الظاهر أن توصيف الطائر بقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} محاذاة لتوصيف الدابة بقوله: {فِي اَلْأَرْضِ} فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضي و لا هوائي، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} 

تفسير الميزان ج۷

73
  • (كلام في المجتمعات الحيوانية) 

  • و الخطاب في الآية للناس، و قد ذكر فيها أن الحيوانات أرضية كانت أو هوائية هي أمم أمثال الناس، و ليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة و عدد فإن الأمة لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري أو اختياري يقصده أفراده، و لا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من الحياة و الرزق و السفاد و النسل و المأوى و سائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من الاشتراك و إن صحح الحكم بمماثلتها الإنسان لكن قوله في ذيل الآية: {ثُمَّ إِلى‌ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء و السفاد و الإواء بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، و ليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للإنسان خدا إلى سعادته و شقائه، فإن الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء و أوفق النكاح و أنضر المسكن و لا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم و الفجور أو أن يحيط به جماع المحن و الشدائد و البلايا و هو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانية و نور العبودية. 

  • بل حياة الإنسان الشعورية و إن شئت فقل: الفطرة الإنسانية و ما يؤيدها من دعوة النبوة تسن للإنسان سنة مشروعة من الاعتقاد و العمل إن أخذ بها و جرى عليها و وافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا و الآخرة، و إن استن بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة معا، و إن لم يعمل بها و تخلف عن الأخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا و الآخرة. 

  • و هذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير و الطاعة، و الزجر عن الشر و المعصية، و إن شئت قلت: الدعوة إلى العدل و الاستقامة، و النهي عن الظلم و الانحراف عن الحق فإن الإنسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو غيره، و يستقبح أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها و يشرح له تفاصيلها. 

  • و هذا محصل ما تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة، و كثير من الآيات القرآنية 

تفسير الميزان ج۷

74
  • تفيد ذلك و تؤيده كقوله تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: ١٠)، و قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: ٢١٣). 

  • و الإمعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الإنسان في كثير من شئون الحياة، و أحوال نوع منها في مسير حياتها و تعيشها يدلنا على أن لها كالإنسان عقائد و آراء فردية و اجتماعية تبني عليها حركاتها و سكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد و الآراء. 

  • فالواحد منا يشتهي الغذاء و النكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه، و أن يتزوج و أن ينسل و هكذا، و أن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر و هكذا فيتحرك و يسكن على طبق ما تخدّ له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق. 

  • كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء و السفاد و المأوى بما لا نشك به في أن له شعورا بحوائجه و ما يرتفع به حاجته، و آراء و عقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع و دفع المضار كما في الإنسان، و ربما عثرنا فيها من أنواع الحيل و المكائد للحصول على الصيد و النجاة من العدو من الطرق الاجتماعية و الفردية ما لم يتنبه إليه الإنسان إلا بعد طي قرون و أحقاب من عمره النوعي. 

  • و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل و النحل و الأرضة على عجائب من آثار المدنية و الاجتماع، و دقائق من الصنعة و لطائف من السنن و السياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة و المدنية من الإنسان. 

  • و قد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان و التفكر في خلقها و أعمالها عامة كقوله 

تفسير الميزان ج۷

75
  • تعالى: {وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: ٤) و دعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام و الطير و النحل و النمل. 

  • و هذه الآراء و العقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة و مقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة و الزاجرة لم تخل عن استحسان أمور و استقباح أمور، و لم تخل عن معنى العدل أو الظلم. 

  • و هو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس و الفرس و بين الكبش و الكبش و بين الديك و الديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب و لين العريكة. 

  • و كذا يؤيده جزئيات أخرى من حب و بغض و عطوفة و رحمة أو قسوة أو تعد و غير ذلك مما نجدها بين الأفراد من نوع و قد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، و وجدناها مؤثرة في الاعتقاد بالحسن و القبح في الأفعال، و العدل و الظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة الإنسان الأخروية، و ملاكا لحشره و محاسبة أعماله و الجزاء عليها بنعمة أو نقمة أخروية. 

  • و ببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للإنسان حشرا فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل و الظلم و التقوى و الفجور على أعمال الإنسان ملاكا للحشر و يستدل به عليه كما في قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: ٢٨) بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من السماء و الأرض و ما بينهما بطلانا لفعله و صيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية السابقة على هذه الآية: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ} (ص: ٢٧). 

  • فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للإنسان حشرا إليه؟ ثم إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله و توزن و ينعم بعد ذلك في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ و هل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل و إنزال الأحكام؟ و هل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان؟. 

تفسير الميزان ج۷

76
  • هذه و جوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف: 

  • أما السؤال الأول (هل للحيوان غير الإنسان حشر؟) فقوله تعالى في الآية: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يتكفل الجواب عنه، و يقرب منه قوله تعالى: {وَ إِذَا اَلْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (كورت: ٥). 

  • بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجن و الحجارة و الأصنام و سائر الشركاء المعبودين من دون الله، و الذهب و الفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة و جنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة. 

  • و أما السؤال الثاني، و هو أنه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث و تحضر أعماله و يحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد و سوقهم إلى أمر بالإزعاج، و أما مثل السماء و الأرض و ما يشابههما من شمس و قمر و حجارة و غيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} (إبراهيم: ٤٨) و قوله: {وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: ٦٧) و قوله: {وَ جُمِعَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ} (القيامة: ٩) و قوله: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} (الأنبياء: ٩٩). 

  • على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (السجدة: ٢٥) و قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (آل عمران: ٥٥) و غير ذلك من الآيات. 

  • و مرجع الجميع إلى إنعام المحسن و الانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله: {إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة: ٢٢) و قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} (إبراهيم: ٤٨) و هذان الوصفان أعني الإحسان و الظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة. 

تفسير الميزان ج۷

77
  • و يؤيده ظاهر قوله تعالى: وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى} (نحل: ٦۱) فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم و الظلم شائع بين كل ما يسمى دابة: الإنسان و سائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا و إن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان. 

  • و لا يلزم من شمول الأخذ و الانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور و الإرادة، و يرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته و روحياته، و الضرورة تدفع ذلك، و الآثار البارزة منها و من الإنسان تبطله. 

  • و ذلك أن مجرد الاشتراك في الأخذ و الانتقام و الحساب و الأجر بين الإنسان و غيره لا يقضي بالمعادلة و المساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقة و المناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل و السفيه و الرشيد و المستضعف في موقف واحد. 

  • على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم و دقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه و التعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلى وَادِ اَلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (النمل: ١٨) و ما حكاه من قول هدهد له (عليه السلام) في قصة غيبته عنه: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} إلى آخر الآيات (النمل: ٢٤) فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم و الشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم و الشعور يتوقف على معارف جمة و إدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني و مركباتها. 

  • و ربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم و تربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة و فكر عميق و شعور حاد. 

تفسير الميزان ج۷

78
  • و أما السؤال الثالث و الرابع أعني أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه و وحي ينزل عليه؟ و هل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه و لا نتيجة له إلا الرجم بالغيب، و الكلام الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شي‌ء من ذلك، و لا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي و الأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله و سلم) ما يعتمد عليه في ذلك. 

  • فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية و يمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الإنسان للحشر و الجزاء، و إن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الإنسان و تؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان و أفضليته من عامة الحيوان - أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية و لا كلف بدقائق التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان. 

  • و لنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى: {وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعية شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور و الإرادة كالإنسان. 

  • و ليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي و النمو و توليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت و يتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة و الشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور و الإرادة. 

  • و ربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، و لذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، و الهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب 

تفسير الميزان ج۷

79
  • كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة و الشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان. 

  • لكن التأمل في معنى الاختيار و الحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة و ذلك أن الشعور و الإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، و لذلك جهزته العناية الإلهية بالشعور و الإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع و لا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى أزيد من وجدانه و حصول العلم به إرادة من فوره و فعله و تصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، و أما ما كان من الأمور غير بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشي‌ء من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته و فعله لعدم الجزم بالانتفاع به. 

  • فهذه الأمور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها من النواقص و الموانع و التروي فيها ليميز بذلك إنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها و فعلت كما لو كانت بينة النفع غير محتاجة إلى التروي فيها، و ذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ و أنه هل هو ماله نفسه و لا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم و نحوه أو مال غيره و لا يجوز التصرف فيه؟ و حينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، و لا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه. 

  • و إن لم يشك في أمره و كان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي إرادة إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، و لم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا. 

  • فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي و التفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، 

تفسير الميزان ج۷

80
  • و أما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل و لم يحتج إلى ترو أصلا فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو و لا تروي إلا لرفع الموانع عن الحكم. 

  • ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ اختيارهم أعني الصفات الروحية و الأحوال الباطنية من شجاعة و جبن و عفة و شره و نشاط و كسل و وقار و خفة، و كذا في قوة التعقل و ضعفه و إصابة النظر و خطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، و ربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفي عنه الاختيار، و لا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر و أي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، و لا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، و ربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور، واه و لا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا و لعبا، و أفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي و لا يعبأ بها و بأمرها البالغ الرشيد، و كثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، و النومة يعتذر بالكسل و السارق أو الخائن يعتذر بالفقر. 

  • و هذا الاختلاف الفاحش في مبادئ الاختيار و أسبابه و العرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين و سائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا، و يبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر و النهي و العقاب و الثواب و نفوذ التصرف و غير ذلك، و يعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي و الأسباب، و هو المتوسط من الاستطاعة و الفهم. 

  • فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع و إن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك. 

  • و الإمعان فيما تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة و إن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار 

تفسير الميزان ج۷

81
  • و ذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات و خاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل و كذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل و الترك، و هو الملاك في أصل الاختيار و إن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط. 

  • و إذا صح أن الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة و إن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الإنعام عليها عند الموافقة، و مؤاخذتها و الانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.

  • [بيان] 

  • و قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} جملة معترضة، و ظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، و لفظ {مِنْ شَيْ‌ءٍ} بيان للفرط الذي يقع التفريط به، و المعنى لا يوجد شي‌ء تجب رعاية حاله و القيام بواجب حقه و بيان نعته في الكتاب إلا و قد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل. 

  • و المراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شي‌ء مما كان و ما يكون و ما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الأممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبني عليها خلقة الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا و لا يذهب وجودها سدى، و لا تكون هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال. 

  • فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: ٢٠) و قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود: ٥٦). 

  • و إن كان هو القرآن الكريم و قد سماه الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدي إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الإرشاد إلى صريح الحق و محض الحقيقة لم يفرط فيه في 

تفسير الميزان ج۷

82
  • بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم و آخرتهم كما قال تعالى: {وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} (النحل: ٨٩). 

  • و مما يجب أن يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر و هو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الأممي في الدنيا، و أن ذلك هو الذي يجدونه بين أنفسهم و يجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، و يترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى و لطيف قدرته و عنايته بأمر الخليقة و النظام العام الجاري في العالم، و من أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، و بعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان و ما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الإنسان ثم الإنسان. 

  • و قد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان و النظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب، و عد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية و هو اليقين بالله سبحانه حيث قال: {وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: ٤) و الآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم. 

  • و من الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، و يكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شي‌ء، أما في كتاب التكوين فإنه يقضي و يقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالأنواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، و أما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس و سعادة عاجلهم و آجلهم و لا يفرط في ذلك، و من ذلك أنه لم يفرط في أمر الأمم الحيوانية، و بين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالإنسان. 

  • و قوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيان لعموم الحشر لهم و أن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك، و لذلك أرجع الضمير المستعمل في أولي الشعور و العقل، فقال: {إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} إشارة إلى 

تفسير الميزان ج۷

83
  • أن أصل الملاك و هو الأمر الذي يدور عليه الرضا و السخط و الإثابة و المؤاخذة موجود فيهم. 

  • و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ثم إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى، و التدبر فيها يعطي أن الأصل في السياق الغيبة و إنما تحول السياق في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما فرغ منه رجع إلى أصل السياق. 

  • و من عجيب ما قيل في الآية استدلال بعضهم بها على التناسخ و هو أن تتعلق نفس الإنسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذي رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار بدن ثعلب، و نفس المفسد الحقود ببدن الذئب، و نفس من يتبع سقطات الناس و عوراتهم ببدن خنزير، و نفس الشره الأكول ببدن البقر، و هكذا و لا تزال تنتقل من بدن إلى بدن و تعذب بذلك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيلة، و إن كانت سعيدة تعلقت بعد الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان و معنى الآية على هذا: ما من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات. 

  • و قد ظهر مما تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الآية: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث لا طائل في التعرض لها و البحث عن صحتها و سقمها. 

  • و من عجيب ما قيل فيها أيضا: إن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت و البعث. أما الأول فينفيه ظاهر قوله: {إِلى رَبِّهِمْ} إذ لا معنى للموت إلى الله، و أما الثاني فهو من الالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى، و لا أن في الآية ما يستوجبه. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُمَاتِ} إلى آخر الآية يريد تعالى أن المكذبين لآياته محرومون من نعمة السمع و التكلم و البصر لكونهم في ظلمات لا يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق و أن يستجيبوا له، و لبكمهم لا يستطيعون أن يتكلموا بالقول الحق و يشهدوا بالتوحيد و الرسالة، و لإحاطة 

تفسير الميزان ج۷

84
  • الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا. 

  • و في قوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اَللَّهُ يُضْلِلْهُ} إلخ، دلالة على أن هذا الصمم و البكم و الوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله سبحانه جعل إضلاله المنسوب إليه من قبيل الجزاء، كما في قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦). 

  • فتكذيب آيات الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الأمر بالعكس و على هذا فالمراد بالإضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات و المراد بمن شاء الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته. 

  • و بالمقابلة يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به فيجيب داعي الله بلسانه و يتبصر بالحق ببصره، و أن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله سبحانه فمن يشأ الله يضلله و لا يشاء إلا إضلال من يستحقه و من يشأ يجعله على صراط مستقيم و لا يشاء ذلك إلا لمن تعرض لرحمته. 

  • و قد تقدم البحث عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم و البكم و العمى و ما يشابه ذلك من الصفات، و قد عني في الآية بنكتة أخرى، و هي ما يفيده الوصل و الفصل في قوله: {صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُمَاتِ} حيث ذكر الصمم و هو من أوصافهم ثم ذكر البكم و عطفه عليه و هو صفة ثانية، ثم ذكر كونهم في الظلمات و لم يعطفها و هي صفة ثالثة، و بالجملة وصل بعض الصفات و فصل بعضها، و قد أتى في مثل الآية بحسب المعنى بالفصل أعني قوله في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (البقرة: ١٨) و في آية أخرى يماثلها بالعطف و هي قوله في الكفار: {خَتَمَ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (البقرة: ٧). 

  • و لعل النكتة في الآية التي نحن فيها أعني قوله: {صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُمَاتِ}، الإشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم الجهلاء المقلدون الذين يتبعون كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة الحقة، و البكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد و بطلان الشرك، غير أنهم لعنادهم و بغيهم بكم 

تفسير الميزان ج۷

85
  • لا تنطلق ألسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق و الشهادة بها، و الطائفتان جميعا تشتركان في أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق، و لا يسع غيرهما أن يبصرهما بشي‌ء من الإشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الإشارة. 

  • و يؤيد ذلك أن الكلام المسرود في الآيات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله تعالى في الآيات السابقة: {وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ} (آية: ٢٦)، و كذا قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (آية: ٣٧). 

  • هذا في الآية التي نحن فيها، و أما آية المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، فالعناية فيها باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة، و أما آية الكفار: {خَتَمَ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فقد تعلقت العناية فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم القلوب كما حكاه عنهم في قوله: {وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ} (حم السجدة: ٥) و ربما وجهت الآية بغير ذلك من الوجوه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ} إلى آخر الآيتين لفظ {أَ رَأَيْتَكُمْ} بهمزة الاستفهام و صيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية و ضمير الجمع المخاطب، أخذه أهل الأدب بمعنى أخبرني، قال الراغب في المفردات: و يجري «أ رأيت‌» مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف و يترك التاء على حالته في التثنية و الجمع و التأنيث، و يسلط التغيير على الكاف دون التاء، قال تعالى: {أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي} {قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ}، انتهى. 

  • و في الآية تجديد احتجاج على المشركين، و إقامة حجة على بطلان شركهم من وجه، و هو أنها تفرض عذابا آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم يدعون في ذلك من يكشف العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الإنسان أنه يتوجه بالمسألة إذا بلغت به الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه. 

  • ثم تسألهم أنه من الذي تدعونه و تتوجهون إليه بالمسألة إن كنتم صادقين؟ أ غير الله تدعون من أصنامكم و أوثانكم التي سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون؟ و هيهات أن تدعوا غيره و أنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالأحكام الكونية مثلكم لا 

تفسير الميزان ج۷

86
  • ينفعكم دعاؤها شيئا. 

  • بل تنسون هؤلاء الشركاء المسمين آلهة لأن الإنسان إذا أحاطت به البلية و هزهزته الهزاهز ينسى كل شي‌ء دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية، و الرافع الذي يرجو رفعها منه هو ربه، فتنسون شركاءكم و تدعون من يرفعها من دونهم و هو الله عز اسمه فيكشف الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه، و ليس هو تعالى بمحكوم على الاستجابة و لا مضطرا إلى الكشف إذا دعي بل هو القادر على كل شي‌ء في كل حال. 

  • فإذا كان الله سبحانه هو الرب القدير الذي لا ينساه الإنسان و إن نسي كل شي‌ء إلا نفسه و يضطر إلى التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره من الشركاء المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها. 

  • فمعنى الآية {قُلْ} يا محمد {أَ رَأَيْتَكُمْ} أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ} فرض إتيان عذاب من الله و لا ينكرونه، و فرض إتيان الساعة و لم يعبأ بإنكارهم لظهوره {أَ غَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ} لكشفه، و قد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب في الدنيا و يوم القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الإنسان {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} و جئتم بالنصفة {بَلْ إِيَّاهُ} الله سبحانه دون غيره من أصنامكم {تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} من العذاب {إِنْ شَاءَ} أن يكشفه كما كشف لقوم يونس، و ليس بمجبر و لا مضطرا إلى القبول لقدرته الذاتية {وَ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} من الأصنام و الأوثان على ما في غريزة الإنسان أن يشتغل عند إحاطة البلية به عن كل شي‌ء بنفسه، و لا يهم إلا بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى بما لا ينفعه، فاشتغاله و الحال هذه بدعاء الله سبحانه و نسيانه الأصنام أصرح حجة أنه تعالى هو الله لا إله غيره و لا معبود سواه. 

  • و بما تقدم من تقرير معنى الآية يتبين أولا: أن إتيان العذاب أو الساعة، و كذا الدعاء لكشفه مفروضان في حجة الآية، و المطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله عز اسمه دون الأصنام، و أما أصل الدعاء عند الشدائد و المصائب، و أن للإنسان توجها جبليا عند ما تطل عليه البلية و يتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة أخرى 

تفسير الميزان ج۷

87
  • غير هذه الحجة، و المطلوب بهذه الحجة و هي التي في هذه الآية التوحيد و بتلك الحجة إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده، و إن تلازم المطلوبان. 

  • و ثانيا: أن تقييد قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ}، بقوله: {إِنْ شَاءَ} لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة التي لا ريب فيها، فإن قضاءه الحتم لأمر من الأمور و إن كان يحتمه و يوجبه لكنه لا يسلب عنه القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به، و ما لم يقض به و مثل الساعة في ذلك كل عذاب غير مردود و أمر محتوم إن يشأ يأت به و إن لم يشأ لم يأت به و إن كان يشاء دائما ما قضى به قضاء حتما و وعده وعدا جزما و الله لا يخلف الميعاد فافهم ذلك. 

  • و له سبحانه أن لا يجيب دعوة أي داع دعاه و إن عرف نفسه بأنه مجيب، فقال: {وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: ١٨٦) و وعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا، فقال: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (المؤمن: ٦٠) فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم الاستجابة و إن كان يستجيب دائما كل من دعاه بحقيقة الدعاء، و تجري على ذلك سنته صراطا مستقيما لا تخلف فيه. 

  • و من هنا يظهر فساد ما استشكل على الآية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه نصوص الكتاب و السنة أن الساعة لا ريب فيها و لا محيص عن وقوعها و أن عذاب الاستئصال لا مرد له، و قد قال تعالى: {وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} (المؤمن: ٥٠) 

  • وجه الفساد أن الآية لا تدل على أزيد من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء و أنه قادر على كل شي‌ء، و أما أنه يشاء كل شي‌ء و يفعل كل شي‌ء فلا دلالة فيها على ذلك و لا ريب أن قضاءه الحتمي بوقوع الساعة أو بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على خلافه فله أن يخالف إن شاء و إن كان لا يخلف الميعاد و لا ينقض ما أراد. 

  • و أما قوله تعالى: {وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} فهو دعاؤهم في جهنم لكشف عذابها و تخفيفه عنهم، و من المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم و فصل القضاء لا يتحقق بحقيقته فإن سؤال أن لا يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة أن يسأل الله سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الألوهية أن يرجع 

تفسير الميزان ج۷

88
  • إليه الخلق على حسب أعمالهم فلمثل هذه الأدعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة معناها، و أما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقة و يتعلق ذلك الدعاء بالله حقيقة كما هو ظاهر قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (الآية)، فإن ذلك لا يرد البتة، و الدعاء على هذا النعت لا يدع الكافر كافرا و لو حين الدعاء كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: ٦٥). 

  • فما في قوله: {وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} دعاء منهم و هم على الكفر فإن الثابت من ملكة الكفر لا يفارقهم في دار الجزاء و إن كان من الجائز أن يفارقهم في دار العمل بالتوبة و الإيمان. 

  • فدعاؤهم لكشف العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم القيامة بقولهم كما حكى الله {وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، و لا ينفع اليوم كذب غير أنهم اعتادوا ذلك في الدنيا و رسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر، و نظير أكلهم و شربهم و خصامهم في النار، و لا غنى لهم في شي‌ء من ذلك، كما قال تعالى: {تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ لاَ يُسْمِنُ وَ لاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } (الغاشية: ٧) و قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا اَلضَّالُّونَ اَلْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ اَلْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ اَلْهِيمِ} (الواقعة: ٥٥) و قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ} ( ص: ٦٤)، فهذا كله من قبيل ظهور الملكات فيهم. 

  • و ما قبل الآية يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته و هو قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذَابِ قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلى قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} (المؤمن: ٥٠) فإن مسألتهم خزنة النار أن يدعوا الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون من استجابة دعائهم أنفسهم، و الدعاء مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء و مسألة حقيقية إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون البتة. 

  • و ثالثا: أن النسيان في قوله: {وَ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} حقيقة معناه على ما هو 

تفسير الميزان ج۷

89
  • المشهود من حال الإنسان عند ما تغشاه الشدائد و الخطوب إذ يشتغل بنفسه و ينسى كل أمر دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم: أن المراد بقوله: {وَ تَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} تعرضون عنها إعراض من نسي الشي‌ء عنه. 

  • و إن كان لا مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمة النسيان، و قد استعمل في القرآن النسيان بمعنى الإعراض عن الشي‌ء و عدم الاعتناء به كثيرا كما قال تعالى: {وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (الجاثية: ٣٤) إلى غير ذلك من الآيات. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} البأساء و البأس و البؤس‌ هو الشدة و المكروه، إلا أن البؤس يكثر استعماله في الحرب و نحوه و البأس و البأساء في غيره كالفقر و الجدب و القحط و نحوها، الضر و الضراء هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم و جهل أو ما يرجع إلى البدن كمرض و نقص بدني أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال، و لعل المقصود من الجمع بين البأساء و الضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب و السيل و الزلزلة، و ما يعود إلى الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف و الفقر و رثاثة الحال. 

  • و الضراعة هي المذلة و التضرع‌ التذلل و المراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف ما نزل عليهم من نوازل الشدة و الرزية. 

  • و الله سبحانه يذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته في الأمم التي من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات: أنه كان يرسل إليهم الرسل فيذكرونهم بتوحيد الله سبحانه و التضرع و إخلاص الإنابة إليه ثم يبتليهم بأنواع الشدة و المحن و يأخذهم بالبأساء و الضراء و لكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع و لا يضطرهم إلى الابتهال و الاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، و يلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية و عن الإخلاد إلى الأسباب الظاهرية لكنهم لم يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم و زين لهم الشيطان أعمالهم، و أنساهم ذلك ذكر الله. 

  • فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شي‌ء و صب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من النعم و اغتروا و استقلوا بأنفسهم من دون الله 

تفسير الميزان ج۷

90
  • أخذهم الله بغتة و من حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط ما عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين. 

  • و هذه السنة سنة الاستدراج و المكر الذي لخصها الله تعالى في قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: ١٨٣) 

  • و بالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الآية و التدبر في سياقها يظهر أن الآية لا تنافي سائر الآيات الناطقة بأن الإنسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من فطرته و جبلته إلى الإقرار به و التوجه إليه عند الانقطاع عن الأسباب الكونية كما قال تعالى: {وَ إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: ٣٢). 

  • و ذلك أن الآية لا تريد من البأساء و الضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة و المهابة مبلغا يذهلون به عن كل سبب و ينسون به كل وسيلة عادية، و من الدليل على ذلك قوله في الآية: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} إذ «لعل» كلمة رجاء و لا رجاء مع الإلجاء و الاضطرار، و كذا قوله تعالى: {وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فإن ظاهره أنهم اغتروا بذلك و توسلوا في رفع البأساء و الضراء إلى أعمالهم التي عملوها بأيديهم و دبروها بتدابيرهم للغلبة على موانع الحياة و أضداد العيش فاشتغلوا بالأسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى الله سبحانه و الاعتصام به، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} (المؤمن: ٨٤) فالآية الأولى كما ترى تحكي عنهم نظير ما تحكيه الآية التي نحن فيها من الإعراض عن التضرع و الاغترار بالأعمال، و الآية الثانية تحكي ما تحكيه الآيات الأخرى من التوحيد في حال الاضطرار. 

  • و من هنا يظهر فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الآية كون الأمم السابقة مستنكفة عن التوحيد معرضة عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الآية: أقسم الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، و أشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة الضيق، 

تفسير الميزان ج۷

91
  • و ينسون ما اتخذوه من الأولياء و الأنداد، و أما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، و لم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم، انتهى. 

  • و لازم ما ذكره أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الأوهام الشاغلة و الانقطاع عن الأسباب الظاهرة أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله، و قد قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} (الروم: ٣٠) فأفاد أن دين التوحيد فطري، و أن الفطرة لا تقبل التغيير بمغير و أيد ذلك بآيات أخر ناصة على أن الإنسان عند انقطاعه عن الأسباب يتوجه إلى ربه بالدعاء مخلصا له الدين لا محالة. 

  • على أن الإقرار بالإله الواحد عند الشدة و الانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا ضروريا و لا يختلف في ذلك الإنسان الأولي و إنسان اليوم البتة. 

  • قوله تعالى: {فَلَوْ لاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَ لَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} إلخ، {فَلَوْ لاَ} للتحضيض أو للنفي، و على أي حال تفيد في المقام فائدة النفي بدليل قوله: {وَ لَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} و قسوة القلب مقابل لينه، و هو كون الإنسان لا يتأثر عن مشاهدة ما يؤثر فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير. 

  • و المعنى: فلم يتضرعوا حين مجي‌ء البأس و لم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت نفوسهم أن تتأثر عنه، و تلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه، و أخلدوا إلى الأسباب الظاهرة التي كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} إلخ، المراد بفتح أبواب كل شي‌ء إيتاؤهم من كل نعمة من النعم الدنيوية التي يتنافس فيها الناس للتمتع من مزايا الحياة من المال و البنين و صحة الأبدان و الرفاهية و الخصب و الأمن و الطول و القوة، كل ذلك توفيرا من غير تقتير و منع كما أن خزانة المال إذا أعطي منها أحد بقدر و ميزان فتح بابها فأعطي ما أريد ثم سد، و أما إذا أريد الإعطاء من غير تقدير فتح بابها و لم يسد على وجه قاصده بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على ما يساعده المقام. 

تفسير الميزان ج۷

92
  • على أن فتح الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات و النعم و أما السيئات و النقم فإنما تتحقق بالمنع و يناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر: ٢). 

  • و مبلسون من أبلس إبلاسا، قال الراغب: الإبلاس‌ الحزن المعترض من شدة اليأس -إلى أن قال- و لما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت و ينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان إذا سكت و إذا انقطعت حجته، انتهى. و على هذا المعنى المناسب لقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أي خامدون منقطعوا الحجة. 

  • و معنى الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة استدراجا حتى إذا تمت لهم النعم و فرحوا بما أوتوا منها أخذناهم فجأة فانخمدت أنفاسهم و لا حجة لهم لاستحقاقهم ذلك. 

  • قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} دبر الشي‌ء مقابل قبله و هما الجزءان: المقدم و المؤخر من الشي‌ء، و لذا يكنى بهما عن العضوين المخصوصين، و ربما توسع فيهما فأطلقا على ما يلي الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن الشي‌ء، و قد اشتق منهما الأفعال بحسب المناسبة نحو أقبل و أدبر و قبل و دبر و تقبل و تدبر و استقبل و استدبر، و من ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشي‌ء و يليه من ورائه، و يقال: أمس الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال: عام قابل، و يطلق الدابر بهذا المعنى على أثر الشي‌ء كدابر الإنسان على أخلافه و سائر آثاره، فقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي إن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا و لا أثرا أو أبادهم جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى: {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (الحاقة: ٨). 

  • و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} دون أن يقال: دابرهم للدلالة على سبب الحكم و هو الظلم الذي أفنى جمعهم و قطع دابرهم، و هو مع ذلك يمهد السبيل إلى إيراد قوله: {وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}

  • و من هذه الآية بما تشتمل على وصفهم بالظلم و على حمده تعالى بربوبيته تتحصل الدلالة على أن اللوم و السوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لأنهم القوم الذين ظلموا، و أنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لأنه لم يأت في تدبير 

تفسير الميزان ج۷

93
  • أمرهم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة، و لم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه إلا إلى ما ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزي و السوء على الكافرين، و أن الحمد لله رب العالمين. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصَارَكُمْ} إلى آخر الآية، أخذ السمع و الأبصار هو سلب قوتي السمع و الإبصار و هو الإصمام و الإعماء و الختم على القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها معه شي‌ء من خارج حتى تتفكر في أمرها، و تميز الواجب من الأعمال من غير: و الخير النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية و هو صلاحية التعقل و إلا كان جنونا و خبلا. 

  • و إذ كان هؤلاء المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه و لا يبصرون آياته الدالة على أنه واحد لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شي‌ء من واردات السمع و البصر حتى تعرف بذلك الحق من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الإله تعالى و وحدته. 

  • و ملخصها أن القول بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه و ذلك أن القول بالشركاء لإثبات الشفاعة، و هي أن تشفع و تتوسط في جلب المنافع و دفع المضار، و إذ كانت الشركاء شفعاء على الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة مانع يمانعه أو ضد يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم فعل ذلك و لم يعارضه أحد من شركائكم لأنها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة، و لو فعل ذلك و سلب ما سلب لم يقدر أحد منها أن يأتيكم به لأنها شفعاء وسائط لا مصادر للخلق و الإيجاد. 

  • و إذا لم يقدر على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى ألوهيتها فليس الإله إلا من يوجد و يعدم و يتصرف في الكون كيف شاء، و إنما اضطرت الفطرة الإنسانية إلى الإقرار بأن للعالم إلها من جهة الحصول على مبدإ حوادث الخير و الشر التي تشاهدها في الوجود، و إذ كان شي‌ء لا يضر و لا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا لغوا من القول. 

  • و ليس لإنسان صحيح العقل و التمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية 

تفسير الميزان ج۷

94
  • أو فلزية عملته يد الإنسان و صنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه بالإيجاد و الإعدام و كذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع الاعتراف بكونه عبدا مربوبا. 

  • و الحجة تعود بتقرير آخر إلى أن معنى الألوهية يأبى عن الصدق على الشريك بمعنى الشفيع المتوسط فإن مبدئية الصنع و الإيجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف و التعين في استحقاق خضوع المصنوع المربوب، و الواسطة المفروضة إن كان لها استقلال في العمل كانت أصلا و مبدأ لا واسطة و شفيعا و إن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت أداة آلة لها مبدأ و إلها. 

  • و لذا كانت الأسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الإله و الأداة كسببية الأكل للشبع و الشرب للري و الوالدين للولد و القلم للكتابة و المشي لانطواء المسافة و هكذا. 

  • و قوله: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} تصريف‌ الآيات تحويلها إلى نحو أفهامهم، و الصدوف‌ الإعراض، يقال: صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشي‌ء. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} إلى آخر الآية، الجهرة الظهور التام الذي لا يقبل الارتياب و لذا قابلت البغتة التي هي إتيان الشي‌ء فجأة لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه و غشيانه فلا يترك له مجال التحذر. 

  • و هذه حجة بين فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا لا يتخطاهم، و لا يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم، ثم بين أنهم هم الظالمون لفسقهم عن الدعوة الإلهية و تكذيبهم بآيات الله تعالى. 

  • و ذلك أن معنى العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه و يدمره من جزاء إجرامه و لا إجرام إلا مع ظلم فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون، فهذا ما يدل عليه الآية ثم بين الآيتين التاليتين أنهم هم الظالمون. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ} إلى آخر الآيتين يبين بالآيتين أنهم هم الظالمون، و لا يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم. 

تفسير الميزان ج۷

95
  • و لذا غير سياق الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليكون هو المخبر عن شأن عذابه فيكون أقطع للعذر و جي‌ء بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة العظمة و الكبرياء. 

  • فكان ملخص المضمون أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم عذاب الله لم يهلك إلا الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله: إنا نحن الملقين إليك الحجة الآتين بالعذاب نخبرك أن إرسالنا الرسل إنما هو للتبشير و الإنذار فمن آمن و أصلح فلا عليه، و من كذب بآياتنا فهو الذي يمسه عذابنا لفسقه و خروجه عن طور العبودية فلينظروا في أمر أنفسهم من أي الفريقين هم؟ 

  • و قد تقدم في المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الإيمان و الإصلاح و الفسق و معنى نفي الخوف و الحزن عن المؤمنين. 

  • قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ} (الإسراء: ١٠٠) و خزائن الرحمة هذه هي ما يكشف عن أثره، قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} (الآية) (فاطر: ٢) و هي فائضة الوجود التي تفيض من عنده تعالى على الأشياء من وجودها، و آثار وجودها و قد بين قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: ٨٢) أن مصدر هذا الأثر الفائض هو قوله، و هو كلمة {كُنْ} الصادرة عن مقام العظمة و الكبرياء، و هذا هو الذي يخبر عنه بلفظ آخر في قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: ٢١). 

  • فالمراد بخزائن الله هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شي‌ء من غير أن ينفد بإعطاء وجود أو يعجزه بذل و سماحة، و هذا مما يختص بالله سبحانه، و أما غيره كائنا ما كان و من كان فهو محدود و ما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل، و ما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أي فقير، و إرضاء أي طالب، و إجابة أي سؤال. 

  • و أما قوله: {وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ} فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحي و ذلك أنه تعالى يثبت الوحي في ذيل الآية بقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ}، و قد 

تفسير الميزان ج۷

96
  • بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب، كقوله تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ} (الجن: ٢٦) و كقوله بعد سرد قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: ١٠٢) و قوله في قصة مريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}(آل عمران: ٤٤) و قوله بعد قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (هود: ٤٩). 

  • فالمراد بنفي علم الغيب نفي أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت. 

  • و أما قوله: {وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فهو كناية عن نفي آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل و شرب و نكاح و ما يلحق بذلك، و قد عبر عنه في مواضع أخرى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} (الكهف: ١١٠) و إنما عبر عن ذلك هاهنا بنفي الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) بمثل قولهم: {مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ} (الفرقان: ٧). 

  • و من هنا يظهر أن الآية بما في سياقها من النفي بعد النفي - كأنها - ناظرة إلى الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من سؤال الآيات المعجزة و الاعتراض بما كان يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله: {وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} (الفرقان: ٨) و قوله: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} -إلى أن قال- {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً}(الإسراء: ٩٣) و قوله: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ}(الإسراء: ٥١)، و كقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (الأعراف: ١٨٧) 

تفسير الميزان ج۷

97
  • فمعنى قوله: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ} إلخ، قل: لم أدع فيما أدعوكم إليه و أبلغكموه أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الإنسان حتى تبكتوني بإلزامي بما تقترحونه مني فلم أدع أني أملك خزائن الألوهية حتى تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا من زخرف، و لا ادعيت أني أعلم الغيب حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت أستار الغيوب كقيام الساعة و لا ادعيت أني ملك حتى تعيبوني و تبطلوا قولي بأكل الطعام و المشي في الأسواق للكسب. 

  • قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه به من الدعوى من جهة دعواه الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولي: إني رسول الله إليكم أن عندي خزائن الله و لا أني أعلم الغيب و لا أني ملك بل إن الله يوحي إلي بما يوحي. 

  • و لم يثبته في صورة الدعوى بل قال: {إِنْ أَتَّبِعُ} إلخ، ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه ليس له إلا اتباع ذلك فكأنه لما قال: لا أقول لكم كذا و لا كذا و لا كذا قيل له: فإذا كان كذلك و كنت بشرا مثلنا و عاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا فما ذا تريد منا؟ فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أن أبشركم و أنذركم فأدعوكم إلى دين التوحيد. 

  • و الدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق: أني و إن ساويتكم في البشرية و العجز لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم فأنا و أنتم كالبصير و الأعمى و لا يستويان في الحكم و إن كانا متساويين في الإنسانية فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى، و العالم يجب أن يتبعه الجاهل. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ} إلى آخر الآية الضمير في {بِهِ} راجع إلى القرآن و قد دل عليه قوله في الآية السابقة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} و قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ} حال و العامل فيه يخافون أو يحشرون. 

تفسير الميزان ج۷

98
  • و المراد بالخوف معناه المعروف دون العلم و ما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب ظاهر المعنى المتبادر من السياق، و الأمر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لا ينافي عموم الإنذار لهم و لغيرهم كما يدل عليه قوله في الآيات السابقة: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} (آية: ١٩) بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا لنفوسهم على القبول و مقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الأمر بالإنذار بهم و وصفهم هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم و تحريضا له أن لا يسامح في أمرهم و لا يضعهم موضع غيرهم بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لأن موقفهم أقرب من الحق و إيمانهم أرجى فالآية بضميمة سائر آيات الأمر بالإنذار العام تفيد من المعنى: أن أنذر الناس عامة و لا سيما الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. 

  • و قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ} نفي مطلق لولاية غير الله و شفاعته فيقيده الآيات الأخر المقيدة كقوله: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٥٥) و قوله: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى}(الأنبياء: ٢٨) و قوله: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف ٨٦. 

  • و إنما لم يستثن في الآية لأن الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية الأوثان و شفاعتها، و لم يكونوا يقولون بذلك بالإذن و الجعل فإن الولاية و الشفاعة عن إذن يحتاج القول به إلى العلم به، و العلم إلى الوحي و النبوة، و هم لم يكونوا قائلين بالنبوة، و أما الذي أثبتوه من الولاية و الشفاعة فكأنه أمر متهيئ لأوليائهم و شركائهم بالضرورة من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع من التصرف في ضعفائه بالطبع و إن لم يأذن به الله سبحانه، و إن شئت قلت: لازمه أن يكون إيجادها إذنا اضطراريا في التصرف في ما دونها. 

  • و بالجملة قيل: «ما لهم من دونه ولي و لا شفيع» و لم يقل: إلا بإذنه، لأن المشركين إنما قالوا إن الأوثان أولياء و شفعاء من غير تقييد فنفي ما ذكروه من الولي و الشفيع من دون الله محاذاة بالنفي لإثباتهم، و أما الاستثناء فهو و إن كان صحيحا كما وقع في مواضع من كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض هاهنا. 

  • و قد تبين مما تقدم أن الآية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار 

تفسير الميزان ج۷

99
  • خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر كالمؤمنين من أهل الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين و غيرهم لكنه يحتمله فيغشى الخوف نفسه بالاحتمال أو المظنة فإن الخوف من شي‌ء يتحقق بمجرد احتمال وجوده و إن لم يوقن بتحققه. 

  • و قد اختلفت أنظار المفسرين في الآية فمن قائل: إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر، و أنهم هم الذين عنوا في الآية التالية بقوله: {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ}. و من قائل: إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت و إن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق.، و من قائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، و إنما خص هؤلاء المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجب عليهم لاعترافهم بالمعاد. 

  • لكن الآية لم تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر، و لا يتوقف الخوف من الشي‌ء على العلم بتحققه و لا الاعتراف بوجوده بل الشك و هو الاحتمال المتساوي طرفاه و المظنةو هي الإدراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف كالعلم و هو ظاهر. 

  • فالآية إنما تحرض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي طائفة كان لأن بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر و إقامة المحاسبة على السيئة و الحسنة و المجازاة عليهما، و أدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه فيخافه، و كلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف و قوي التأثير حتى يتلبس باليقين و ينتفي احتمال الخلاف بالكلية، فهناك التأثير التام. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى آخر الآية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الآية التالية: {وَ كَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} إلخ، أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله و سلم) اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به فنهاه الله تعالى في هذه الآية عن ذلك. 

  • و ذلك منهم نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم من رسلهم أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء و الفقراء من المؤمنين استكبارا و تعززا، و قد حكى الله تعالى ذلك 

تفسير الميزان ج۷

100
  • عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته (عليه السلام) حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى: {فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ وَ مَا نَرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ. قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} -إلى أن قال- {وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} -إلى أن قال- {وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ} (هود - ٣١). 

  • و التطبيق بين هذه الآيات و الآيات التي نحن فيها يقضي أن يكون المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة و العشي و يريدون وجهه هم المؤمنين، و إنما ذكر دعاءهم بالغداة و العشي و هو صلاتهم أو مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى و ليوضح ما سيذكره من قوله: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}

  • و قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي وجه الله، قال الراغب في مفرداته: أصل الوجه‌ الجارحة قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ}، {وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ}، و لما كان الوجه أول ما يستقبلك و أشرف ما في ظاهر البدن استعمل في مستقبل كل شي‌ء و في أشرفه و مبدئه فقيل: وجه كذا و وجه النهار، و ربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله: {وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ}، قيل: ذاته و قيل أراد بالوجه هاهنا التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة. 

  • و قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ}، {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، {يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ}، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ}، قيل: إن الوجه في كل هذا ذاته و يعني بذلك كل شي‌ء هالك إلا هو و كذا في أخواته، و روي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه و معناه: كل شي‌ء من أعمال العباد هالك و باطل إلا ما أريد به الله، و على هذا الآيات الأخر، و على هذا قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، {يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ}، انتهى. 

  • أقول: أما الانتقال الاستعمالي من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشي‌ء غيره توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الألفاظ في معانيها لكن النظر 

تفسير الميزان ج۷

101
  • الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشي‌ء أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشي‌ء من ظواهر نفسه من صفاته و أسمائه، و هي التي تتعلق بها المعرفة فإنا إنما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته مساسا على الاستقامة. 

  • فإنا إنما ننال معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال و تخاطيط و كيفيات و غير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي القيمة لأعراضها و أوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها و يحفظها ففي الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلا معناه الشي‌ء الذي نسبته إلى أوصاف زيد و خواصه كنسبتنا إلى أوصافنا و خواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من القياس و النسبة. 

  • و إذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكري إلا من طريق أوصافها و آثارها بضرب من القياس و النسبة فالأمر في الله سبحانه و لا حد لذاته و لا نهاية لوجوده أوضح و أبين، و لا يقع العلم على شي‌ء إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به تعالى قال: {وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} (طه: ١١١) و قال: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: ١١٠). 

  • لكن وجه الشي‌ء لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشي‌ء الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به، و بهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان و هذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ} و قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ} و غير ذلك، و كذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة و الخلق و الرزق و الهداية و نحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة و العلم و القدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها و يتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى: {وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ} (الرحمن: ٢٧) فإن ظاهر الآية أن قوله: {ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ} نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك. 

تفسير الميزان ج۷

102
  • و إذا صح أن ناحيته تعالى جهته و وجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب كأسمائه و صفاته و كدينه، و كالأعمال الصالحة و كذا كل من يحل في ساحة قربه كالأنبياء و الملائكة و الشهداء و كل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى. 

  • و بذلك يتبين أولا: معنى قوله سبحانه: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} (النحل: ٩٦) و قوله: {وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (الأنبياء: ١٩) و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ} (الأعراف: ٢٠٦)، و قوله فيمن يقتل في سبيل الله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: ١٦٩) و قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}(الحجر: ٢١) فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك و البوار إليها، ثم قال تعالى: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: ٨٨) فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك كله وجه لله سبحانه و بعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه و ناحيته. 

  • و ثانيا: أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوَاناً} (المائدة: ٢) و قوله: {اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} (الإسراء: ٢٨) و قوله: {وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ} (المائدة: ٣٥) فكل ذلك وجهه تعالى لأن صفات فعله تعالى كالرحمة و المرضاة و الفضل و نحو ذلك من وجهه، و كذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم، و قال تعالى: {إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ اَللَّهِ} (البقرة: ٢٧٢). 

  • و قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} الحساب‌ هو استعمال العدد بالجمع و الطرح و نحو ذلك، و لما كان تمحيص الأعمال و تقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة و نحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمي ذلك حسابا للأعمال. 

  • و إذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء، و الجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى أي في عهدته و كفايته كما قال: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي} (الشعراء: ١١٣)، و قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية: ٢٦) و عكس في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَسِيباً} (النساء: ٨٦) للدلالة على سلطانه تعالى و هيمنته على كل شي‌ء. 

  • و على هذا فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو 

تفسير الميزان ج۷

103
  • الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم و كره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكبارا و استعلاء عليهم طردهم، و على هذا فكل من الجملتين: {مَا عَلَيْكَ} إلخ، «و ما عليهم» إلخ، مقصودة في الكلام مستقلة. 

  • و ربما أمكن أن يستفاد من قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله و ذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شي‌ء من ثقل أعمالهم عليك، و على هذا فاستتباعه بقوله: {وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} و لا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه إنما هو لتتميم أطراف الاحتمال و تأكيد مطابقة الكلام، و من الممكن أيضا أن يقال: إن مجموع الجملتين أعني قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} كناية عن نفي الارتباط بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بينهم من حيث الحساب. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال و المراد: ليس عليك حساب رزقهم، و إنما الله يرزقهم و عليه حساب رزقهم، و قوله: {وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ} إلخ، جي‌ء به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق، و الوجهان و إن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول. 

  • و قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرع قوله: {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ}، على قوله في أول الآية: {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ} إلخ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع و المتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله: {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} بنحو الاتصال و يرتفع اللبس. 

  • فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشي‌ء على نفسه فإن ملخصه: و لا تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم، و ذلك أن إعادة الطرد ثانيا لإيصال الفرع أعني قوله: {فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ}، إلى أصله كما عرفت. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا} إلى آخر الآية، الفتنة هي 

تفسير الميزان ج۷

104
  • الامتحان، و السياق يدل على أن الاستفهام في قوله: {أَ هَؤُلاَءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} للتهكم و الاستهزاء، و معلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره و يستهينون موقعه من المجتمع، و لم يكن ذلك إلا لفقرهم و مسكنتهم و انحطاط قدرهم عند الأقوياء و الكبرياء منهم. 

  • فالله سبحانه يخبر نبيه أن هذا التفاوت و الاختلاف إنما هو محنة إلهية يمتحن بها الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران و الاستكبار في الفقراء المؤمنين: {أَ هَؤُلاَءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصف بما عند المستن بها من الشرافة و الخسة، و كذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعي فالطريقة المسلوكة عند الفقراء و الأذلاء و العبيد يستذلها الأغنياء و الأعزة، و العمل الذي أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتني به أولو الطول و القوة. 

  • فانتحال الفقراء و الأجراء و العبيد بالدين، و اعتناء النبي بهم و تقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين و أنه دون أن يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء و الأعزة. 

  • و قوله تعالى: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد، بقولهم: {أَ هَؤُلاَءِ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} و محصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم و لذلك قدم هؤلاء لمنه و أخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون، و من المسلم أن المنعم إنما يمن و ينعم على من يشكر نعمته و قد سمى الله تعالى توحيده و نفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف (عليه السلام): {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا وَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ:»}(يوسف: ٣٨). 

  • فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة و العزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال و بنين و جاه، و لا قدر لها عند الله و لا كرامة، و إنما الأمر يدور مدار صفة الشكر و النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآية، 

تفسير الميزان ج۷

105
  • قد تقدم معنى السلام، و المراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة، و الإصلاح‌ هو التلبس بالصلاح فهو لازم و إن كان بحسب الحقيقة متعديا و أصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل. 

  • و الآية ظاهرة الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) - بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطف بهم و يسلم عليهم و يبشر من تاب منهم عن سيئة توبة نصوحا بمغفرة الله و رحمته فتطيب بذلك نفوسهم و يسكن طيش قلوبهم. 

  • و يتبين بذلك أولا: أن الآية و هي من آيات التوبة إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي و السيئات دون الكفر و الشرك بدليل قوله: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ} أي المؤمنين بآيات الله. 

  • و ثانيا: أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود و العناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة و العشي يريد وجهه و هو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكبارا و استعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب. 

  • و ثالثا: أن تقييد قوله: {تَابَ} بقوله: {وَ أَصْلَحَ} للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه و اللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذي تطهر منه التائب الراجع، و ليست التوبة قول: «أتوب إلى الله» قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان، و قد قال تعالى: {وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ} (البقرة: ٢٨٤). 

  • و رابعا: أن صفاته الفعلية كالغفور و الرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه و إن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر و لا تؤثر أثرها إلا إذا عمل بعض عباده سوءا بجهالة ثم تاب من بعده و أصلح. 

  • و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ} إلى آخر الآيتين (النساء: ١٧) في الجزء الرابع من الكتاب ما له تعلق بالمقام. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ} تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية و تخليصها من الإبهام و الاندماج، و قوله: {وَ لِتَسْتَبِينَ 

تفسير الميزان ج۷

106
  •  سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ} اللام فيه للغاية، و هو معطوف على مقدر طوي عن ذكره تعظيما و تفخيما لأمره و هو شائع في كلامه تعالى، كقوله: {وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: ١٤٠) و قوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} (انعام: ٧٥). 

  • فالمعنى: و كذلك نشرح و نميز المعارف الإلهية بعضها من بعض و نزيل ما يطرأ عليها من الإبهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا، و على هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات الناطقة بتوحيد الله سبحانه و المعارف الحقة التي تتعلق به و هي سبيل الجحود و العناد و الإعراض عن الآيات و كفران النعمة. 

  • و ربما قيل إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين، و هي سنة الله فيهم من لعنهم في الدنيا و إنزال العذاب إليه بالآخرة، و سوء الحساب و أليم العقاب في الآخرة، و المعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي، بإسناده فيه رفع عن الرضا (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل لم يقبض نبينا حتى أكمل له الدين، و أنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شي‌ء بين فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام، و جميع ما يحتاج إليه الناس كملا، و قال عز و جل: {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}

  • و في تفسير القمي، حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَ بُكْمٌ} يقول: صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير {فِي اَلظُّلُمَاتِ} يعني ظلمات الكفر {مَنْ يَشَأِ اَللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و هو رد على قدرية هذه الأمة يحشرهم الله يوم القيامة من۱ الصابئين و النصارى و المجوس فيقولون {رَبِّنَا مَا كُنَّا 

    1. مع ظ.

تفسير الميزان ج۷

107
  • مُشْرِكِينَ}، يقول الله: {اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ألا إن لكل أمة مجوسا و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة إليهم و لهم.

  • قال في البرهان، عند نقل الحديث: و في نسخة أخرى من تفسير علي بن إبراهيم في الحديث هكذا: قال: فقال: ألا إن لكل أمة مجوسا، و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة ليست لهم و لا عليهم، و في نسخة ثالثة، يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة ليست إليهم و لا لهم‌، انتهى. 

  • أقول: مسألة القدر من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر القدر - و هو أن لإرادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد - قوم و أثبتوا المشية و القدرة المستقلتين للإنسان في فعله و أنه هو الخالق له المستقل به، و سموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر، و قد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: «القدرية مجوس هذه الأمة، و انطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الإنسان و لغيرها خالقا هو الله سبحانه و هو قول الثنوية و هم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، و خالق للشر. 

  • و هناك روايات أخر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن أئمة أهل بيته (عليهم السلام ) تفسر الرواية بالمعنى الذي تقدم، و تثبت أن هناك قدرا و أن لله مشية في أفعال عباده كما يثبته القرآن. 

  • و قد أول المعتزلة و هم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر، و هم كالمجوس في إسنادهم الخير و الشر كله إلى خالق غير الإنسان، و قد تقدم بعض الكلام في ذلك، و سيجي‌ء استيفاؤه إن شاء الله تعالى. 

  • و مما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر، و القول بأنه ليست المشية و القدرة للإنسان و لا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان بالمشية و الاستطاعة، و القول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية و القدرة. 

  • و على هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، و قولهم: إن المشية و القدرة ليست لهم و لا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ، و قد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله: «لا قدر» و غير الباقي. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني في 

تفسير الميزان ج۷

108
  • الكبير و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا و هو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ}.(الآية) و الآية التي بعدها. 

  • و فيه أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله تبارك و تعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد و العفاف و إذا أراد بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين. 

  • و فيه أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود: خفني على كل حال، و أخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.

  •  أقول: قوله: لا أصرعك نهي يفيد التحذير، و قوله: ثم لا أنظر «إلخ» منصوب للتفريع على النهي. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} (الآية)، قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة، و أصاب أصحابه الجهد و العلل و المرض فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {قُلْ} لهم يا محمد {أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظَّالِمُونَ} أي لا يصيبكم إلا الجهد و الضر في الدنيا فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين. 

  • أقول: الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة. على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة و الذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ} (الآية) قال قال الصادق (عليه السلام): أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.

  •  أقول: و ظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله: «من دونه» إلى القرآن، و هو معنى صحيح و إن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمي إماما. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن 

تفسير الميزان ج۷

109
  • مردويه و أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال:مر الملأ من قريش على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عنده صهيب و عمار و بلال و خباب و نحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أ رضيت بهؤلاء من قومك؟ أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أ نحن نكون تبعا لهؤلاء: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: {وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ} إلخ. 

  • أقول: و رواه في المجمع، عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا. 

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و قرظة بن عبد عمرو بن نوفل و الحارث بن عامر بن نوفل و مطعم بن عدي بن خيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا و عسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا و أطوع له عندنا و أدنى لاتباعنا إياه و تصديقه. 

  • فذكر ذلك أبو طالب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم؟ و ما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله: {وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ} - إلى قوله - {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}

  • قال: و كانوا بلالا و عمار بن ياسر و سالما مولى أبي حذيفة و صبحا مولى أسيد، و من الحلفاء ابن مسعود و المقداد بن عمرو و واقد بن عبد الله الحنظلي و عمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين و مرثد بن أبي مرثد و أشباههم. 

  • و نزلت في أئمة الكفر من قريش و الموالي و الحلفاء: {وَ كَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا} (الآية) فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله: {وَ إِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} (الآية). 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و ابن ماجة و أبو يعلى و أبو نعيم في الحلية و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قاعدا مع بلال و صهيب و عمار و خباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم 

تفسير الميزان ج۷

110
  • عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة و دعا عليا ليكتب، و نحن قعود في ناحية 

  • إذ نزل جبرئيل بهذه الآية: {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ}إلى قوله {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه و هو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله: {وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الآية). قال: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم. 

  • أقول: و رواه في المجمع عن سلمان و خباب، و في معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر، و الرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها و دفعة لحدوث تلك الواقعة و رفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أن الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة و نظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: {وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ} (الآية) فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة و عنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين و في مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها. 

  • و على هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص و الحوادث الواقعة في زمنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة و الواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث و التوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول و خاصة في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط 

تفسير الميزان ج۷

111
  • للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه (صلى الله عليه وآله و سلم). و لا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع و الدس في هذه الروايات و الضعف الذي فيها و ما سامح به القدماء في أخذها و نقلها. 

  • و قد روى في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاجر:أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الضعفاء من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة، و يضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة و في مكة قبل الهجرة. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة و منقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، {وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}

  • و في تفسير البرهان، روي عن ابن عباس:في قوله تعالى: {وَ إِذَا جَاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} (الآية) نزلت في علي و حمزة و زيد. 

  • أقول: و في عدة من الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت (عليه السلام) و الظاهر أنها جميعا من قبيل الجري و التطبيق أو الأخذ بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول و لذلك طوينا عن إيرادها، و الله أعلم. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٥٦ الی ٧٣]

  • {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ ٥٦ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ ٥٧ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي 

تفسير الميزان ج۷

112
  • وَ بَيْنَكُمْ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ٥٨ وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَ لاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٥٩ وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى‌ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٦٠وَ هُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ٦١ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحَاسِبِينَ ٦٢ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ ٦٣ قُلِ اَللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ٦٤ قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى‌ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ٦٥ وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ٦٦ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ٦٧ وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى‌ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٦٨ 

تفسير الميزان ج۷

113
  • وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ لَكِنْ ذِكْرى‌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٦٩ وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيٌّ وَ لاَ شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ٧٠قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَ لاَ يَضُرُّنَا وَ نُرَدُّ عَلى‌ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اِئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى‌ وَ أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٧١ وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّقُوهُ وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٧٢ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ ٧٣} 

  •  (بيان) 

  • الآيات من تتمة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد و ما يرتبط به من المعارف في النبوة و المعاد، و هي ذات سياق متصل متسق. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية. أمر بأن خبرهم بورود النهي عليه عن عبادة شركائهم هو نهي عن عبادتهم بنوع من الكناية 

تفسير الميزان ج۷

114
  • ثم أشار إلى ملاك النهي عنها بقوله: {قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} و هو أن عبادتهم اتباع للهوى و قد نهي عنه ثم أشار بقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ} إلى سبب الاستنكاف عن اتباع الهوى و هو الضلال و الخروج عن جماعة المهتدين و هم الذين اتصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه، و عرفوا بذلك، فاتباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس الإنسان، و يمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقا ثابتا ينتفع به. 

  • و قد تلخص بذلك كله بيان تام معلل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم، و هو أن في عبادتها اتباعا للهوى، و في اتباع الهوى الضلال و الخروج عن صف المهتدين بالهداية الإلهية. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ} إلى آخر الآية. البينة هو الدلالة الواضحة من البيان و هو الوضوح، و الأصل في معنى هذه المادة هو انعزال شي‌ء عن شي‌ء و انفصاله عنه بحيث لا يتصلان و لا يختلطان، و منه البين و البون و البينونة و غير ذلك، قد سميت البينة بينة لأن الحق يبين بها عن الباطل فيتضح و يسهل الوقوف عليه من غير تعب و مئونة. 

  • و المراد بمرجع الضمير في قوله: {وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ} هو القرآن و ظاهر السياق أن يكون التكذيب إنما تعلق بالبينة التي هو (صلى الله عليه وآله و سلم) عليها على ما هو ظاهر اتصال المعنى، و يؤيده قوله بعده: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} إلخ، فإن المحصل من الكلام مع انضمام هذا الذيل: أن الذي أيد الله به رسالتي من البينات و هو القرآن تكذبون به، و الذي تقترحونه علي و تستعجلون به من الآيات ليس في اختياري و لا مفوضا أمره إلي فليس بيننا ما نتوافق فيه لما أني أوتيت ما لا تريدون و أنتم تريدون ما لم أوت. 

  • فمن هنا يظهر أن الضمير المجرور في قوله: {وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ} راجع إلى البينة لكون المراد به القرآن، و أن قوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أريد به نفي التسلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإن الغالب فيما يقدر الإنسان عليه و خاصة في باب الإعطاء و الإنفاق أن يكون ما يعطيه و ينفقه حاضرا عنده أو مذخورا لديه و تحت تسلطه ثم ينفق منه ما ينفق فقد أريد بقوله: {مَا عِنْدِي} نفي التسلط و القدرة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم. 

  • و قوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} إلخ، بيان لسبب النفي، و لذلك جي‌ء فيه بالنفي 

تفسير الميزان ج۷

115
  • و الاستثناء المفيد للحصر ليدل بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ الحكم شي‌ء قط و أنه إلى الله سبحانه فحسب.

  • (كلام في معنى الحكم و أنه لله وحده) 

  • مادة الحكم تدل على نوع من الإتقان يتلاءم به أجزاء و ينسد به خلله و فرجه فلا يتجزى إلى الأجزاء و لا يتلاشى إلى الأبعاض حتى يضعف أثره و ينكسر سورته، و إلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقاته كالإحكام و التحكيم و الحكمة و الحكومة و غير ذلك. 

  • و قد تنبه الإنسان على نوع تحقق من هذا المعنى في الوظائف المولوية و الحقوق الدائرة بين الناس فإن الموالي و الرؤساء إذا أمروا بشي‌ء فكأنما يعقدون التكليف على المأمورين و يقيدونهم به عقدا لا يقبل الحل و تقييدا لا يسعهم معه الانطلاق، و كذلك مالك سلعة كذا أو ذو حق في أمر كذا كان بينه و بين سلعته أو الأمر الذي فيه نوعا من الالتيام و الاتصال الذي يمنع أن يتخلل غيره بينه و بين سلعته بالتصرف أو بينه و بين مورد حقه فيقصر عنه يده، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادعاه لنفسه أو ذا الحق في حقه فأراد إبطال حقه فقد استوهن هذا الإحكام و ضعف هذا الإتقان ثم إذا عقد الحكم أو القاضي الذي رفعت إليه القضية الملك أو الحق لأحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكما أي إتقانا بعد فتور، و قوة إحكاما بعد ضعف و وهن، و قوله: ملك السلعة لفلان أو الحق في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع و المشاجرة، و لا يتخلل غير المالك و ذي الحق بين الملك و الحق و بين ذيهما، و بالجملة الآمر في أمره و القاضي في قضائه كأنهما يوجدان نسبة في مورد الأمر و القضاء يحكمانه بها و يرفعان به وهنا و فتورا، و هو الذي يسمى الحكم. 

  • فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه و قدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا و أغصانا و تورق و تثمر و كون النطفة تتبدل جسما ذا حياة و حس و هكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه و قضاء، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم و هو إثبات شي‌ء لشي‌ء أو إثبات شي‌ء عند شي‌ء. 

  • و نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة 

تفسير الميزان ج۷

116
  • التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، و إن كان الانتساب مختلفا باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، و كذلك العلم و القدرة و الحياة و المشية و الرزق و الحسن إلى غير ذلك، و بالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذي هو نوع من التأثير و الجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، و قد أيد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: ٥٧ يوسف: ٦٧) و قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ} (الأنعام: ٦٢) و قوله: {لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ} (القصص: ٧٠) و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: ٤١) و لو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه و يعارض مشيته، و قوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ} (المؤمن: ١٢) إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى. 

  • و يدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}(يوسف: ٤٠) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه ما مر من الآيات غير أنه تعالى ربما ينسب الحكم و خاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (المائدة: ٩٥) و قوله لداود (عليه السلام): {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ} (ص: ٢٦) و قوله للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} (المائدة: ٤٩) و قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} (المائدة: ٤٨) و قوله: {يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ} (المائدة: ٤٤) إلى غير ذلك من الآيات و ضمها إلى القبيل الأول يفيد أن الحكم الحق لله سبحانه بالأصالة و أولا لا يستقل به أحد غيره، و يوجد لغيره بإذنه و ثانيا، و لذلك عد تعالى نفسه أحكم الحاكمين و خيرهم لما أنه لازم الأصالة و الاستقلال و الأولية فقال: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَحْكَمِ اَلْحَاكِمِينَ} (التين: ٨) و قال {وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ} (الأعراف: ٨٧). 

  • و الآيات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن و نحوه كما ترى تختص بالحكم الوضعي الاعتباري، و أما الحكم التكويني فلا يوجد فيها - على ما أذكر - ما يدل على نسبته إلى غيره و إن كانت معاني عامة الصفات و الأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره نوعا من الانتساب بإذنه و نحوه كالعلم و القدرة و الحياة و الخلق و الرزق و الإحياء و المشية و غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها. 

تفسير الميزان ج۷

117
  • و لعل ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لإشعار الصفة بنوع من الاستقلال الذي لا مسوغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة كما أن القضاء و الأمر التكوينيين كذلك، و نظيرتها في ذلك ألفاظ البديع و البارئ و الفاطر و ألفاظ أخر يجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص، و إنما كف عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية.

  • [بيان] 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} أريد بالحكم فيه القضاء التكويني، و الجملة تعليل للنفي في قوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} و المعنى على ما يعطيه السياق أن الحكم لله وحده و ليس إلي أن أقضي بيني و بينكم، و هو الذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون علي من الآية. 

  • و على هذا فقوله: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} مستعمل استعمال الكناية كأنهم باقتراحهم إتيان آية أخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقضي بينه و بينهم و لعل هذا هو السر في تكرار لفظ الموصول و الصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} و كان مقتضى ظاهر السياق أن يقال: لو أن عندي ذلك، و ذلك أنه أريد بقوله: {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} في الآية الأولى لازم الآية و هو القضاء بينه و بينهم على ما جرت به السنة الإلهية، و في الآية الثانية نفس الآية، و من المحتمل أيضا أن يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الآية الأولى، و الآية بالتكنية في الآية الثانية. 

  • و قوله: {يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ} قرأ عاصم و نافع و ابن كثير من السبعة بالقاف و الصاد المهملة من القص و هو قطع شي‌ء و فصله من شي‌ء و منه قوله تعالى: {وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (القصص: ١١) و قرأ الباقون بالقاف و الضاد المعجمة من القضاء، و قد حذف الياء من الرسم على حد قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِ اَلنُّذُرُ} (القمر: ٥) و لكن من القراءتين وجه، و مآلهما من حيث المعنى واحد فإن قص الحق و فصله من الباطل لازم القضاء و الحكم بالحق و إن كان قوله: {وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ} أنسب مع القص بمعنى الفصل. 

  • و أما أخذ قوله {يَقُصُّ اَلْحَقَّ} من القص‌ بمعنى الإخبار عن الشي‌ء أو بمعنى تتبع الأثر على ما احتمله بعض المفسرين فمما لا يلائم المورد: 

تفسير الميزان ج۷

118
  • أما الأول فلأن الله سبحانه و إن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء و أممهم غير أن المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له و توصيفه تعالى به. 

  • و أما الثاني فلأن محصل معناه أن سنته تعالى أن يتبع الحق و يقتفي أثره في تدبير مملكته و تنظيم أمور خليقته، و الله سبحانه و إن كان لا يحكم إلا الحق و لا يقضي إلا الحق إلا أن أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع و الاقتفاء إليه تعالى، و قد قال تعالى فيما قال: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (آل عمران: ٦٠) و لم يقل: الحق مع ربك، لما في التعبير بالمعية من شائبة الاعتضاد و التأيد و الإيهام إلى الضعف.

  • (كلام في معنى حقيقة فعله و حكمه تعالى) 

  • فعله و حكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له، بيان ذلك أن الشي‌ء إنما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الذي هو أحد الموجودات الخارجية و الأرض التي يعيش عليها و النبات و الحيوانات التي يغتذي بها، و الخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن إدراكنا و الحكم و القضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الآمر بشي‌ء أو قضى القاضي بشي‌ء فإنما يكون حكم هذا و قضاء ذاك حقا مطلقا إذا وافق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون، و يكون حقا نسبيا إذا وافق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي. 

  • فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدي الأشياء إلى سعادتها و خيرها، و قد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيا، و قضى على كل مجتمع مركب من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه و لا يزاحم بعضها بعضا، و لا يفسد طرف منه طرفا، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، و يتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، و يطابقها الأمر بالعدل و النهي عن الظلم فكل منهما حكم حق، و لا يطابقها الأمر بالظلم و النهي عن العدل فهما من الباطل، و التوحيد حق لأنه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقية، و الشرك باطل لأنه يجر الإنسان إلى شقاء مهلك و عذاب خالد. 

  • و كذلك القضاء بين متخاصمين إنما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى 

تفسير الميزان ج۷

119
  • فيه المصلحة الإنسانية المطلقة أو مصلحة قوم خاص أو أمة خاصة، و المصلحة الحقيقية - كما عرفت - مأخوذة من السنة الجارية في الكون مطلقا أو نسبيا. 

  • فقد تبين أن الحق أيا ما كان إنما هو مأخوذ من الكون الخارجي و النظام المنبسط عليه و السنة الجارية فيه، و لا ريب أن الكون و الوجود مع ما له من النظام و السنن و النواميس فعله سبحانه منه يبتدئ و به يقوم، و إليه ينتهي، فالحق أيا ما كان و المصلحة كيفما فرضت يتبعان فعله و يقتفيان أثره، و يثبتان بالاستناد إليه لا أنه تعالى يتبع الحق في فعله و يقفو أثره فهو تعالى حق بذاته و كل ما سواه حق به. 

  • و نحن معاشر الآدميين لما كنا نطلب بأفعالنا الاختيارية تتميم نواقص وجودنا و رفع حوائج حياتنا، و كانت أفعالنا ربما طابقت سعادتنا المطلوبة لنا و ربما خالفت اضطررنا في ذلك إلى رعاية جانب المصلحة التي نذعن بأنها مصلحة أي فيها صلاح حالنا و سعادة جدنا و أدى ذلك إلى الإذعان بقوانين جارية و أحكام عامة، و اعتبار شرائع و سنن اجتماعية لازمة المراعاة واجبة الاتباع لموافاتها المصلحة الإنسانية و موافقتها السعادة المطلوبة. 

  • و أدى ذلك إلى الإذعان بأن للمصالح و المفاسد ثبوتا واقعيا و ظروفا من التحقق منحازا عن العالمين: - الذهن و الخارج - منعزلا عن الدارين: العلم و العين و هي تؤثر أثرها في خارج الكون بالموافقة و المخالفة فإذا طابقت أفعالنا أو أحكامنا المصالح الواقعية الثابتة في نفس الأمر ظهرت فيها المصلحة و انتهت إلى السعادة، و إذا خالفتها و طابقت المفاسد الواقعية الحقيقية ساقتنا إلى كل ضر و شر، و هذا النحو من الثبوت ثبوت واقعي غير قابل للزوال و التغير فللمصالح و المفاسد الواقعية و كذا لما معها من الصفات الداعية إلى الفعل و الترك كالحسن و القبح و كذا للأحكام المنبعثة منها كوجوب الفعل و الترك مثلا لكل ذلك ثبوت واقعي يتأبى عن الفناء و البطلان، و يمتنع عن التغير و التبدل و هي حاكمة فينا باعثة لنا إلى أفعال كذا أو صارفة، و العقل ينال هذه الأمور النفس الأمرية كما ينال سائر الأمور الكونية. 

  • ثم لما وجدوا أن الأحكام و الشرائع الإلهية لا تفارق الأحكام و القوانين الإنسانية المجعولة في المجتمعات من جهة معنى الحكم، و كذا أفعاله تعالى لا تختلف مع أفعالنا من جهة معنى الفعل حكموا بأن الأحكام الإلهية و الأفعال المنسوبة إلى الله سبحانه كأفعالنا في الانطباق 

تفسير الميزان ج۷

120
  • على المصالح الواقعية و الاتصاف بصفة الحسن، فللمصالح الواقعية تأثير في أفعاله تعالى و حكومة على أحكامه و خاصة من حيث إنه تعالى عالم بحقائق الأمور بصير بمصالح عباده. 

  • و هذا كله من إفراط الرأي، و قد عرفت مما تقدم أن هذه أحكام و علوم اعتبارية غير حقيقية اضطرنا إلى اعتبارها و جعلها الحوائج الطبيعية و ضرورة الحياة الاجتماعية لا خبر عنها في الخارج عن ظرف الاجتماع، و لا قيمة لها إلا أنها أمور متقررة في ظرف الوضع و الاعتبار يميز بها الإنسان ما ينفعه من الأعمال مما يضره، و ما يصلح شأنه مما يفسده، و ما يسعده مما يشقيه. 

  • و قد ساقت العصبية المذهبية الطائفتين الباحثتين عن المعارف الدينية في صدر الإسلام إلى تقابل عجيب بالإفراط و التفريط في هذا المقام فطائفة و هم المفوضة أثبتوا مصالح و مفاسد نفس أمرية و حسنا و قبحا واقعيين هي ثابتة ثبوتا أزليا أبديا غير متغير و لا متبدل و هي حاكمة على الله سبحانه بالإيجاب و التحريم، مؤثرة في أفعاله تكوينا و تشريعا بالحظر و الترخيص فأخرجوه تعالى عن سلطانه، و أبطلوا إطلاق ملكه. 

  • و طائفة و هم المجبرة نفت ذلك كله، و أصرت على أن الحسن في الشي‌ء إنما هو تعلق الأمر به، و القبح تعلق النهي به، و لا غرض و لا غاية في تكوين و لا تشريع، و أن الإنسان لا يملك من فعله شيئا و لا قدرة قبل الفعل عليه كما أن الطائفة الأولى ذهبت إلى أن الفعل مخلوق للإنسان و أن الله سبحانه لا يملك من فعل الإنسان شيئا و لا تتعلق به قدرته. 

  • و القولان - كما ترى - إفراط و تفريط فلا هذا و لا ذاك بل حقيقة الأمر أن هذه و نظائرها أمور اعتبارية وضعية لها أصل حقيقي و هو أن الإنسان و نظيره سائر الحيوانات الاجتماعية كل على قدره - في مسيره الحيوي الذي لا يريد به إلا إبقاء الحياة و نيل السعادة ناقص محتاج يرفع جهات نقصه و حاجته بأعماله الاجتماعية الصادرة عن الشعور و الإرادة فاضطره ذلك إلى أن يصف أعماله و الأمور التي تتعلق بها أعماله في طريق الوصول إلى غاية سعادته و التجنب عن شقائه بأوصاف الأمور الخارجية من حسن و قبح و وجوب و حرمة و جواز و ملك و حق و غير ذلك و يجري فيها نواميس الأسباب و المسببات فيضع في إثر ذلك قوانين عامة و خاصة، و يعتقد لذلك نوعا من الثبوت الذي يعتقده للأمور الحقيقية حتى يتم له بذلك أمر حياته الاجتماعية. 

تفسير الميزان ج۷

121
  • فترانا نعتقد أن العدل حسن كما أن الورد حسن جميل، و الظلم قبيح شاءه كما أن الميتة المنتنة كذلك، و أن المال لنا كما أن أعضاءنا لنا، و العمل الكذائي واجب كما أن الآثار واجبة لعللها التامة، و على هذا القياس، و لذلك ترى أن هذه الآراء تختلف بين الأقوام إذا اختلفت مقاصد مجتمعاتهم فترى هؤلاء يحسنون ما يقبحه آخرون و تجد طائفة تلغي من الأحكام ما تعتبره أخرى، و تلفى أمة تنكر ما تعرفه أمة أو تعجبها ما يستشنعه غيرها، و ربما تترك سنة مأخوذة ثم تؤخذ ثم تترك في أمة واحدة على نسق الدوران بحسب مراحل السير الاجتماعي و مساسه بلوازم الحياة، هذا في المقاصد التي تختلف في المجتمعات، و أما المقاصد العامة التي لا يختلف فيه اثنان كأصل الاجتماع و العدل و الظلم و نحو ذلك فما لها من وصف الحسن و القبح و الوجوب و الحرمة و غيرها لا تختلف البتة و لا يختلف فيه، هذا فيما يرجع إلينا. 

  • و الله سبحانه لما قلب دينه في قالب السنن العامة الاجتماعية اعتبر في بيانه المعارف الحقيقية المسبوكة في قالب السنن الاجتماعية ما نعتبره نحن في مسير حياتنا فأراد منا أن نفكر فيما يرجع إلى معارفه، و نتلقى ما يلقيه إلينا من الحقائق كما نفكر و نتلقى ما عندنا من سنن الحياة فعد نفسه ربا معبودا، و عدنا عبادا مربوبين، و ذكرنا أن له دينا مؤلفا من عقائد أصلية و قوانين عملية تستعقب ثوابا و عقابا و أن في اتباعه صلاح حالنا، و حسن عاقبتنا، و سعادة جدنا على نحو المسلك الذي نسلكه في آرائنا الاجتماعية. 

  • فهناك عقائد أصلية يجب علينا أن نعتقد بها و نلزمها، و هناك وظائف عملية و قوانين إلهية في العبادات و المعاملات و السياسات يجب علينا أن نعمل بها و نراعيها كما أن الأمر في جميع المجتمعات الإنسانية على ذلك. 

  • و هذا هو الذي يسوغ لنا أن نبحث عن المعارف الدينية اعتقادية أو عملية كما نبحث عن المعارف الاجتماعية اعتقادية أو عملية، و أن نستند في المعارف الدينية من الآراء العقلية و القضايا العملية بعين ما نستند إليه في المعارف الاجتماعية فالله سبحانه لا يختار لعباده من الوظائف و التكاليف إلا ما فيه المصلحة التي تصلح شأنهم في دنياهم و آخرتهم، و لا يأمر إلا بالحسن الجميل، و لا ينهى إلا عن القبيح الشائه الذي فيه فساد دين أو دنيا، و لا يفعل إلا ما يؤثره العقل، و لا يترك إلا ما ينبغي أن يترك. 

  • إلا أنه تعالى ذكرنا مع ذلك بأمرين: 

تفسير الميزان ج۷

122
  • أحدهما: أن الأمر في نفسه أعظم من ذلك و أعظم فإن ذلك كله معارف مأخوذة من مواد الآراء الاجتماعية و هي في الحقيقة لا تتعدى طور الاجتماع، و لا ترقى إلى عالم السماء كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: ٤) و قال في مثل ضربه: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ} (الآية) (الرعد: ١٧) و قال (صلى الله عليه وآله و سلم): إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم‌، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب و السنة. 

  • و ليس معنى هذا البحث نفي الحسن و المصلحة مثلا عن أفعاله تعالى بمعنى إثبات ما يقابله حتى يستتبع ذلك إثبات القبح و المفسدة أو سقوط أفعاله عن الاعتبار العقلائي كأفعال الصبيان تعالى عن ذلك كما أن نفي البصر بمعنى الجارحة عن العقل لا يوجب إثبات العمى له أو سقوطه عن مرتبة الإدراك بل تنزيه عن النقص. 

  • و ثانيهما: أن جهات الحسن و مزايا المصالح و إن كانت تعلل بها أفعاله تعالى و شرائع أحكامه و تبين بها وظائف العبودية كما تعلل بها ما عندنا من الأحكام و الأعمال العقلائية إلا أن بين البابين فرقا و هو أنها في جانبنا حاكمة على الإرادة مؤثرة في الاختيار فنحن بما أنا عقلاء إذا وجدنا فعلا ذا صفة حسن مقارنا لمصلحة غير مزاحمة بعثنا ذلك إلى اقتراف العمل و إذا وجدنا حكما على هذا النعت لم نتردد في تقنينه و حكمنا به و أجريناه في مجتمعنا مثلا. 

  • و ليست هذه الوجوه و العلل أعني جهات الحسن و المصلحة إلا معاني أخذناها من سنة التكوين و الوجود الخارجي الذي هو منفصل من أذهاننا مستقل دوننا فأردنا في اختيار الأعمال الحسنة ذوات المصلحة أن لا نخبط في مسيرنا و تنطبق أعمالنا على سنة التكوين و تقع في صراط الحقيقة، فهذه الجهات و المصالح معان منتزعة من خارج الأعيان متفرعة عليه، و أعمالنا متفرعة على هذه الجهات محكومة لها متأثرة عنها، و الكلام في أحكامنا المجعولة لنا نظير الكلام في أعمالنا. 

  • و أما فعله تعالى فهو نفس الكون الخارجي و الوجود العيني الذي كنا ننتزع منه وجوه الحسن و المصلحة و كانت تتفرع عليه بما أنها انتزعت منه فكيف يمكن أن يعد فعله تعالى متفرعا عليها محكوما لها متأثرا عنها، و كذلك أحكامه تعالى المشرعة تستتبع الواقع لا أنها 

تفسير الميزان ج۷

123
  • تتبع الواقع فافهم ذلك. 

  • فقد تبين: أن جهات الحسن و المصلحة و ما يناظرها في عين أنها موجودة في أفعاله تعالى و أحكامه، و في أفعالنا و أحكامنا بما نحن عقلاء تختلف في أنها بالنسبة إلى أعمالنا و أحكامنا حاكمة مؤثرة، و إن شئت قلت دواع و علل غائية، و بالنسبة إلى أفعاله و أحكامه تعالى لازمة غير منفكة و إن شئت قلت: فوائد مطردة، فنحن بما أنا عقلاء نفعل ما نفعل و نحكم ما نحكم لأنا نريد به تحصيل الخير و السعادة و تملك ما لا نملكه بعد، و هو تعالى يفعل ما يفعل و يحكم ما يحكم لأنه الله، و يترتب على فعله ما يترتب على فعلنا من الحسن و المصلحة، و أفعالنا مسئول عنها معللة بغاياتها و مصالحها، و أفعاله غير مسئول عنها و لا معللة بغاية لا يملكها بل مكشوفة بلوازمها و نعوتها اللازمة و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون فافهم ذلك. 

  • و هذا هو الذي يهدي إليه كلامه عز اسمه كقوله تعالى: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) و قوله: {لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ} (القصص: ٧٠) و قوله: {وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: ٢٧) و قوله: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: ٤١). 

  • و لو كان فعله تعالى كأفعالنا العقلائية لكان لحكمه معقب إلا أن يعتضد بمصلحة محسنة و لم يكن له ليفعل ما يشاء بل ما تشير إليه المصلحة المقارنة، و قوله: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: ٢٨) و قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: ٢٤) و غير ذلك من الآيات التي تعلل الأحكام بوجوه الحسن و المصلحة.

  • [بيان]‌ 

  • قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} إلى آخر الآية، أي لو قدرت على ما تقترحونه علي من الآية و الحال أنها بحيث إذا نزلت على رسول لم تنفك عن الحكم الفصل بينه و بين أمته لقضي الأمر بيني و بينكم، و نجي بذلك أحد المتخاصمين المختلفين و عذب الآخر و أهلك، و لم يعذب بذلك و لا يهلك إلا أنتم لأنكم ظالمون، و العذاب الإلهي إنما يأخذ الظالمين بظلمهم، و هو سبحانه أنزه ساحة من أن يشتبه عليه الأمر و لا يميز الظالمين من غيرهم فيعذبني دونكم. 

  • ففي قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} نوع تكنية و تعليل أي إنكم أنتم المعذبون 

تفسير الميزان ج۷

124
  • لأنكم ظالمون و العذاب الإلهي لا يعدو الظالمين إلى غيرهم، و في الجملة إشارة إلى ما تقدم من قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظَّالِمُونَ}(محمد: ٤٧). 

  • قوله تعالى: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} إلى آخر الآية. ذكروا في وجه اتصال الآية بما قبلها أن الآية السابقة لما ختمت بقوله: {وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} زاد الله سبحانه في بيانه فذكر أن خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن عنده سبحانه لا يعلمها إلا هو، و يعلم كل دقيق و جليل. 

  • و هذا الوجه لا يتضح به معنى الحصر الذي يدل عليه قوله: {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فالأولى أن يوجه الاتصال بما يشتمل عليه مجموع الآيتين السابقتين أعني قوله: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} - إلى قوله - {وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} حيث يدل المجموع على أن ما كانوا يقترحونه من الآية و ما يستتبعه من الحكم الفصل و القضاء بينه و بينهم إنما هو عند الله لا سبيل إليه لغيره فهو العالم بذلك الحاكم به، و لا يغلط في حكمه الفصل و تعذيب الظالمين لأنه أعلم بهم فهو عالم بالغيب لا يشاركه فيه غيره، و عالم بكل ما جل و دق لا يضل و لا ينسى، ثم زاد ذلك بيانا بقوله: «و عنده مفاتح الغيب» (الآية) فبين به اختصاصه تعالى بعلم الغيب و شمول علمه كل شي‌ء، ثم تمم البيان بالآيات الثلاث التي تتلوها. 

  • و بذلك تصير الآيات جارية مجرى ما سيقت إليه نظائرها في مثل المورد كقوله تعالى في قصة هود و قومه: {قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ. قَالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}(الأحقاف: ٢٣). 

  • ثم نقول: المفاتح‌ جمع مفتح بفتح الميم و هو الخزينة، و ربما احتمل أن يكون جمع مفتح بكسر الميم و هو المفتاح، و يؤيده ما قرئ شاذا: «و عنده مفاتيح الغيب» و مآل المعنيين واحد فإن من عنده مفاتيح الخزائن هو عالم بما فيها قادر على التصرف فيها كيف شاء عادة كمن عنده نفس الخزائن إلا أن سائر كلامه تعالى فيما يشابه هذا المورد يؤيد المعنى الأول فإنه تعالى كرر في كلامه ذكر خزائنه و خزائن رحمته و ذلك في سبعة مواضع و لم يذكر لها مفاتيح في شي‌ء من كلامه قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} (الطور: ٣٧) و قال: {لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ} (الأنعام: ٥٠) و قال: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} (الحجر: ٢١) و قال: {وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}

تفسير الميزان ج۷

125
  • (المنافقون: ٧) و قال: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} (ص: ٩) فالأقرب أن يكون المراد بمفاتح الغيب خزائنه. 

  • و كيف كان فقوله: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} مسوق لبيان انحصار العلم بالغيب فيه تعالى إما لأن خزائن الغيب لا يعلمها إلا الله، و إما لأن مفاتيح الغيب لا يعلمها غيره تعالى فلا سبيل لغيره إلى تلك الخزائن إذ لا علم له بمفاتيحها التي يتوصل بها إلى فتحها و التصرف فيها. 

  • و صدر الآية و إن أنبأ عن انحصار علم الغيب فيه تعالى لكن ذيلها لا يختص بعلم الغيب بل ينبئ عن شمول علمه تعالى بكل شي‌ء أعم من أن يكون غيبا أو شهادة فإن كل رطب و يابس لا يختص بما يكون غيبا و هو ظاهر فالآية بمجموعها يبين شمول علمه تعالى لكل غيب و شهادة، غير أن صدرها يختص ببيان علمه بالغيوب، و ذيلها ينبئ عن علمه بكل شي‌ء أعم من الغيب و الشهادة. 

  • و من جهة أخرى صدر الآية يتعرض للغيوب التي هي واقعة في خزائن الغيب تحت أستار الخفاء و أقفال الإبهام، و قد ذكر الله سبحانه في قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}(الحجر: ٢١) أن التي في خزائن الغيب عنده من الأشياء أمور لا يحيط بها الحدود المشهودة في الأشياء، و لا يحصرها الأقدار المعهودة، و لا شك أنها إنما صارت غيوبا مخزونة لما فيها من صفة الخروج عن حكم الحد و القدر فإنا لا نحيط علما إلا بما هو محدود و مقدر، و أما التي في خزائن الغيب من الأشياء فهي قبل النزول في منزل الشهود و الهبوط إلى مهبط الحد و القدر، و بالجملة قبل أن يوجد بوجوده المقدر له غير محدودة مقدرة مع كونها ثابتة نوعا من الثبوت عنده تعالى على ما تنطق به الآية. 

  • فالأمور الواقعة في هذا الكون المشهود المسجونة في سجن الزمان هي قبل وقوعها و حدوثها موجودة عند الله ثابتة في خزائنه نوعا من الثبوت مبهما غير مقدر و إن لم نستطع أن نحيط بكيفية ثبوتها فمن الواقع في مفاتح الغيب و خزائنه الأشياء قبل حدوثها و استقرارها في منزلها المقدر لها من منازل الزمان، و لعل هناك أشياء أخر مذخورة مخزونة لا تسانخ ما عندنا من الأمور الزمانية المشهودة المعهودة، و لنسم هذا النوع من الغيب غير الخارج إلى عرصة الشهود بالغيب المطلق. 

  • و أما الأشياء بعد تلبسها بلباس التحقق و الوجود و نزولها في منزلها بالحد و القدر 

تفسير الميزان ج۷

126
  • فالذي في داخل حدودها و أقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب و يرجع إلى الغيب المطلق، و أما هي مع ما لها من الحد و القدر فهي التي من شأنها أن يقع عليها شهودنا و يتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة و عند ما نجهل بها تصير غيبا، و من الحري أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لأن هذا الوصف الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب و الإضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها، و من قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها، و كذا الأضواء و الألوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر، و من الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع، و المسموعات التي ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه و غيب بالنسبة إلى البصر، و محسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما في بدنه و من الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسي. 

  • و التي عدها تعالى في الآية بقوله: {وَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَ لاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ} من هذا الغيب النسبي فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا و لا أن يكون مشهودة لنا فهي من الغيب النسبي. 

  • و قد دلت الآية على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟ أ هو هذه الأشياء من جهة شهادتها و غيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط؟ و بعبارة أخرى: الكتاب المبين أ هو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شي‌ء منها و إن غاب بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في الكتاب من الغيب المطلق. 

  • و بلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أ هي واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف و الرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين.؟

  • لكن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (الحديد: ٢٢) يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، و يقرب منه قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج۷

127
  • {وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(يونس: ٦١) و قوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سبأ: ٣) و قوله: {قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسى} (طه: ٥٢) إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فالكتاب المبين أيا ما كان هو شي‌ء غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من المغايرة، و هو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها و انقضائها كالبرنامجات المكتوبة للأعمال التي تشتمل على مشخصات الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع. 

  • على أن هذه الموجودات و الحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة و الآيات تدل على عدم جواز التغير و الفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) و قوله: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: ٢٢) و قوله: {وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (ق: ٤) فالآيات كما ترى تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث و خصوصيات الأشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه و لا يتسرب إليه أي تغير و فساد. 

  • و من هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب و خزائن الأشياء التي عند الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح و الخزائن بأنها غير مقدرة و لا محدودة، و أن القدر إنما يلحق الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى الشهادة، و وصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء و حدود الحوادث، فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه، و إنما هو شي‌ء مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الأشياء و يحفظها بعد نزولها من الخزائن و قبل بلوغها منزل التحقق و بعد التحقق و الانقضاء. 

  • و يشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الأشياء و الحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، و أما الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه و المفاتح التي عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: ٧٩). 

تفسير الميزان ج۷

128
  • فما من شي‌ء مما خلقه الله سبحانه إلا و له في خزائن الغيب أصل يستمد منه، و ما من شي‌ء مما خلقه الله إلا و الكتاب المبين يحصيه قبل وجوده و عنده و بعده غير أن الكتاب أنزل درجة من الخزائن، و من هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين - في عين أنه كتاب محض - ليس من قبيل الألواح و الأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت و كيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شي‌ء في مدى الأبد. 

  • فقد بان بما مر من البحث أولا: أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل على الأشياء قبل تفريغها في قالب الأقدار، و هي تشتمل على غيب كل شي‌ء على حد ما يدل عليه قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: ٢١). 

  • و ثانيا: أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين و تقدير للأشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء و معها و بعدها، و هو المشتمل على علمه تعالى بالأشياء علما لا سبيل للضلال و النسيان إليه، و لذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء و تحققها الخارجي الذي لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع، و هو الذي يقال: إن الشي‌ء لا يتغير عما وقع عليه. 

  • و بالجملة هذا الكتاب يحصي جميع ما وقع في عالم الصنع و الإيجاد مما كان و ما يكون و ما هو كائن من غير أن يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث تقدرها و تحددها، و وراء ذلك ألواح و كتب تقبل التغيير و التبديل، و تحتمل المحو و الإثبات كما يدل عليه قوله تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} فإن المحو و الإثبات - و خاصة إذا قوبلا بأم الكتاب - إنما يكونان في الكتاب. 

  • و عند ذلك يتضح اتصال الآية أعني قوله: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين السابقتين أن الذي تقترحونه علي من الآيات القاضية بيني و بينكم ليس في مقدرتي، و لا الحكم الحق راجع إلي بل هو عند ربي في علمه و قدرته و لو كان ذلك إلي لقضي بيني و بينكم و أخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا الظالمين لأن الله يعلم أنكم أنتم الظالمون و هو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف و التسلط على ما يريده و يقضيه من آية قاضية فلأن مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا 

تفسير الميزان ج۷

129
  • هو، و أما أنه أعلم بالظالمين و لا يخطئهم إلى غيرهم فلأنه يعلم ما في البر و البحر و يعلم كل دقيق و جليل، و الكل في كتاب مبين. 

  • فقوله تعالى: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} راجع إلى الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، و قوله: {لاَ يَعْلَمُهَا} «إلخ» حال و هو يدل على أن مفاتح الغيب من قبيل العلم غير أن هذا العلم من غير سنخ العلم الذي نتعارفه فإن الذي يتبادر إلى أذهاننا من معنى العلم هو الصورة المأخوذة من الأشياء بعد وجودها و تقدرها بأقدارها و مفاتح الغيب كما تبين علم بالأشياء و هي غير موجودة و لا مقدرة بأقدارها الكونية أي علم غير متناه من غير انفعال من معلوم. 

  • و قوله: {وَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ} تعميم لعلمه بما يمكن أن يتعلق به علم غيره مما ربما يحضر بعضه عند بعض و ربما يغيب بعضه عن بعض، و إنما قدم ما في البر لأنه أعرف عند المخاطبين من الناس. 

  • و قوله: {وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} اختص بالذكر لأنه مما يستصعب الإنسان حصول العلم به لأن الكثرة البالغة التي في أوراق الأشجار تعجز الإنسان أن يميز معها بعضها من بعض فيراقب كلا منها فيما يطرأ عليه من الأحوال، و يتنبه على انتقاصها بالساقط منها إذا سقط. 

  • و قوله: {وَ لاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ} إلخ، معطوفات على قوله: {مِنْ وَرَقَةٍ} على ظاهر السياق، و المراد بظلمات الأرض بطونها المظلمة التي تستقر فيها الحبات فينمو منها ما ينمو و يفسد ما يفسد فالمعنى: و لا تسقط من حبة في بطون الأرض المظلمة و لا يسقط من رطب و لا من يابس أيا ما كانا إلا يعلمها، و على هذا فقوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} بدل من قوله: {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} سد مسده، و تقديره إلا هو واقع مكتوب في كتاب مبين. 

  • و توصيف الكتاب بالمبين إن كان بمعنى المظهر إنما هو لكونه يظهر لقارئه كل شي‌ء على حقيقة ما هو عليه من غير أن يطرأ عليه إبهام التغير و التبدل و سترة الخفاء في شي‌ء من نعوته، و إن كان المبين بمعنى الظاهر فهو ذلك أيضا لأن الكتاب في الحقيقة هو المكتوب، و المكتوب هو المحكي عنه، و إذا كان ظاهرا لا سترة عليه و لا خفاء فيه فالكتاب كذلك. 

تفسير الميزان ج۷

130
  •  قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} التوفي‌ أخذ الشي‌ء بتمامه، و يستعمله الله سبحانه في كلامه بمعنى أخذ الروح الحية كما في حال الموت كما في قوله في الآية التالية: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}

  • قد عد الإنامة توفيا كما عد الإماتة توفيا على حد قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (الزمر: ٤٢) لاشتراكهما في انقطاع تصرف النفس في البدن كما أن البعث بمعنى الإيقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الإحياء بعد الموت في عود النفس إلى تصرفها في البدن بعد الانقطاع، و في تقييد التوفي بالليل كالبعث بالنهار جري على الغالب من أن الناس ينامون بالليل و يستيقظون بالنهار. 

  • و في قوله تعالى {يَتَوَفَّاكُمْ} دلالة على أن الروح تمام حقيقة الإنسان الذي يعبر عنه بأنا لا كما ربما يتخيل لنا أن الروح أحد جزئي الإنسان لا تمامه أو أنها هيئة أو صفة عارضة له، و أوضح منه دلالة قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة: ١١) فإن استبعاد الكفار مبني على أن حقيقة الإنسان هو البدن الذي يتلاشى و يفسد بانحلال التركيب بالموت فيضل في الأرض، و الجواب مبني على كون حقيقته هو الروح (النفس) و إذ كان ملك الموت يتوفاه و يقبضه فلا يفوت منه شي‌ء. 

  • و قوله: {وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} الجرح‌ هو الفعل بالجارحة و المراد به الكسب أي يعلم ما كسبتم بالنهار، و الأنسب أن يكون الواو حالية و الجملة حالا من فاعل يتوفاكم، و يتصل حينئذ قوله:{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} بقوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} إلخ، من غير تخلل معنى أجنبي فإن الآيتين في مقام شرح وقوع التدبير الإلهي بالإنسان في حياته الدنيا و عند الموت و بعده حتى يرد إلى ربه، و الأصل العمدة من جمل الآيتين المسرودة لبيان هذا المعنى قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار { لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى}{وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ} فهذا هو الأصل في المقصود، و ما وراء ذلك مقصود بالتبع، و المعنى و هو الذي يتوفاكم بالليل و الحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار، ثم يبعثكم في النهار إلخ. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى} إلخ. سمي الإيقاظ و التنبيه بعثا محاذاة لتسمية الإنامة توفيا و جعل الغرض من البعث قضاء الأجل المسمى و هو الوقت 

تفسير الميزان ج۷

131
  • المعلوم عند الله الذي لا يتخطاه حياة الإنسان الدنيوية كما قال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: ٣٤). 

  • و إنما جعل قضاء الأجل المسمى غاية لأنه تعالى أسرع الحاسبين، و لو لا تحقق قضاء سابق لأخذهم بسيئات أعمالهم و وبال آثامهم، كما قال: {وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (الشورى: ١٤) و القضاء السابق هو الذي يشتمل عليه قوله تعالى في قصة هبوط آدم (عليه السلام): {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ} (الأعراف: ٢٤). 

  • فالمعنى أن الله يتوفاكم بالليل و الحال أنه يعلم ما كسبتم في النهار من السيئات و غيرها لكن لا يمسك أرواحكم ليديم عليها الموت بل يبعثكم في النهار بعد التوفي لتقضى آجالكم المسماة ثم إليه مرجعكم بنزول الموت و الحشر فينبئكم بما كنتم تعملون. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} قد تقدم الكلام فيه في تفسير الآية ١٧ من السورة. 

  • قوله تعالى: {وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} إلخ، إطلاق إرسال الحفظة من غير تقييد لا في الإرسال و لا في الحفظة ثم جعله مغيا بمجي‌ء الموت لا يخلو عن دلالة على أن هؤلاء الحفظة المرسلين شأنهم حفظ الإنسان من كل بلية تتوجه إليه و مصيبة تتوخاه، و آفة تقصده فإن النشأة التي نحن فيها نشأة التفاعل و التزاحم، ما فيه من شي‌ء إلا و هو مبتلى بمزاحمة غيره من شي‌ء من جميع الجهات لأن كلا من أجزاء هذا العالم الطبيعي بصدد الاستكمال و استزادة سهمه من الوجود، و لا يزيد في شي‌ء إلا و ينقص بنسبته من غيره فالأشياء دائما في حال التنازع و التغلب، و من أجزائه الإنسان الذي تركيب وجوده ألطف التراكيب الموجودة فيه و أدقها فيما نعلم فرقباؤه في الوجود أكثر و أعداؤه في الحياة أخطر فأرسل الله إليه من الملائكة حفظة تحفظه من طوارق الحدثان و عوادي البلايا و المصائب و لا يزالون يحفظونه من الهلاك حتى إذا جاء أجله خلوا بينه و بين البلية فأهلكته على ما في الروايات. 

  • و أما ما ذكره في قوله: {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }(الانفطار: ١٢) فإنما يريد به الحفظة على الأعمال غير أن بعضهم أخذ الآيات مفسرة لهذه الآية، و الآية و إن لم تأب هذا المعنى كل الإباء لكن قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ} 

تفسير الميزان ج۷

132
  • إلى آخر الآية، كما تقدم يؤيد المعنى الأول. 

  • و قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} الظاهر أن المراد من التفريط هو التساهل و التسامح في إنفاذ الأمر الإلهي بالتوفي فإن الله سبحانه وصف ملائكته بأنهم يفعلون ما يؤمرون، و ذكر أن كل أمة رهن أجلهم فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون فالملائكة المتصدون لأمر التوفي لا يقصرون عن الحد الواجب المحدود المكشوف لهم من موت فلان في الساعة الفلانية على الشرائط الكذائية فهم لا يسامحون في توفي من أمروا بتوفيه و لا مقدار ذرة فهم لا يفرطون. 

  • و هل هذه الرسل هم الرسل المذكورون أولا حتى تكون الحفظة هم الموكلين على التوفي؟ الآية ساكتة عن ذلك إلا ما فيها من إشعار ضعيف بالوحدة غير أن هؤلاء الرسل المأمورين بالتوفي كائنين من كانوا هم من أعوان ملك الموت لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: ١١). 

  • و نسبة التوفي إلى هؤلاء الرسل ثم إلى ملك الموت في الآية المحكية آنفا ثم إلى الله سبحانه في قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ} (الزمر: ٤٢) من قبيل التفنن في مراتب النسب فالله سبحانه ينتهي إليه كل أمر و هو المالك المتصرف على الإطلاق، و لملك الموت التوسل إلى ما يفعله من قبض الأرواح بأعوانه الذين هم أسباب الفعل و وسائله و أدواته كالخط الذي يخط القلم و ورائه اليد و وراءهما الإنسان الكاتب. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ} إشارة إلى رجوعهم إلى الله سبحانه بالبعث بعد الموت، و توصيفه تعالى بأنه مولاهم الحق للدلالة على علة جميع ما تقدم من تصرفاته تعالى بالإنامة و الإيقاظ و التدبير و الإماتة و البعث، و فيه تحليل لمعنى المولى ثم إثبات حق المولوية له تعالى، فالمولى هو الذي يملك الرقبة فيكون من حقه جواز التصرف فيها كيفما شاء، و إذ كان له تعالى حقيقة الملك، و كان هو المتصرف بالإيجاد و التدبير و الإرجاع فهو المولى الحق الذي يثبت له معنى المولوية ثبوتا لا زوال له بوجه البتة. 

  • و الحق من أسماء الله الحسنى لثبوته تعالى بذاته و صفاته ثبوتا لا يقبل الزوال و يمتنع عن التغير و الانتقال و الضمير في {رُدُّوا} راجع إلى الآحاد الذي يومئ إليه سابق الكلام من قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ} فإن حكم الموت يعم كل واحد و يجتمع به آحادهم 

تفسير الميزان ج۷

133
  • نفس الجماعة، و من هنا يظهر أن قوله: {ثُمَّ رُدُّوا} ليس من قبيل الالتفات من الخطاب السابق إلى الغيبة. 

  • قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ} إلخ، لما بين تعالى اختصاصه بمفاتح الغيب و علمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شي‌ء، و تدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا إلى أن يرجعوا إليه تبين أن الحكم إليه لا إلى غيره، و هو الذي ذكره فيما مر من قوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} أعلن نتيجة بيانه فقال {أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ} ليكون منبها لهم مما غفلوا عنه. 

  • و كذلك قوله: {وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحَاسِبِينَ} نتيجة أخرى لسابق البيان فإنه تبين به أنه تعالى لا يؤخر حساب أعمال الناس عن الوقت الصالح له، و إنما يتأخر ما يتأخر ليدرك الأجل الذي أجل له. 

  • قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ} إلى آخر الآية كأن المراد بالتنجية من ظلمات البر و البحر هو التخليص من الشدائد التي يبتلى بها الإنسان في خلال الأسفار إذا ضرب في الأرض أو ركب البحر كالبرد الشديد و الأمطار و الثلوج و قطاع الطريق و الطوفان و نحو ذلك، و أشق ما يكون ذلك على الإنسان في الظلمات من ليل أو سحاب أو ريح تثير عجاج الأرض فيزيد في اضطراب الإنسان و حيرته و ضلاله طريق الاحتيال لدفعه، و لذلك علقت التنجية على الظلمات، و كان أصل المعنى الاستفهام عمن ينجي الإنسان من الشدائد التي يبتلى بها في أسفاره في البر و البحر فأضيفت الشدائد إلى البر و البحر بعناية الظرفية ثم أضيفت إلى ظلمات البر و البحر لأن للظلمات تأثيرا تاما في تشديد هذه المكاره، ثم حذفت الشدائد و أقيمت الظلمات مقامها فعلقت التنجية عليها فقيل: ينجيكم من ظلمات البر و البحر. 

  • و إنما خصت الظلمات بالذكر و إن كان المنجي من كل مكروه و غم هو الله سبحانه كما يذكره في الآية التالية لأن أسفار البر و البحر معروف عند الإنسان بالعناء و الوعثاء و الكريهة. 

  • و التضرع‌ إظهار الضراعة و هو الذل و الخضوع على ما ذكره الراغب، و لذلك قوبل بالخفية  و هو الخفاء و الاستتار فالتضرع و الخفية في الدعاء هما الإعلان و الإسرار فيه، و الإنسان إذا نزلت به المصيبة يبتدئ فيدعو للنجاة بالإسرار و المناجاة ثم إذا اشتدت به و لاح بعض آثار اليأس و الانقطاع من الأسباب لا يبالي بمن حوله ممن يطلع على ذلته و استكانته فيدعو بالتضرع و المناداة ففي ذكر التضرع و الخفية إشارة إلى أنه تعالى هو المنجي من مصائب البر و البحر شديدتها و يسيرتها. 

تفسير الميزان ج۷

134
  • و في قوله: {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ} إشارة إلى أن الإنسان يضيف في هذه الحالة التي يدعو لكشفها إلى دعائه عهدا يقدمه إلى ربه و وعدا يعده به أن لو كشف الله عنه ليكونن من الشاكرين و يرجع عن سابق كفره. 

  • و أصل هذه العدة مأخوذ من العادة الجارية بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض فإن الواحد منا إذا أعيته المذاهب و أحاطت به البلية من مصيبة قاصمة أو فقر أو عدو و استغاث لكشف ما به من كرب إلى أحد الأقوياء القادرين على كشفه بزعمه وعده بما يطيب به نفسه و يقوي باعث عزيمته و فتوته، و ذلك بثناء جميل أو مال أو طاعة أو وفاء كل ذلك لما أن الأعمال الاجتماعية التي تدور بيننا كلها معاملات قائمة بطرفين يعطي فيها الإنسان شيئا و يأخذ شيئا لأن الحاجة محيطة بالإنسان ليس له أن يعمل عملا أو يؤثر أثرا إلا لنفع عائد إلى نفسه، و مثله سائر أجزاء الكون. 

  • لكن الله سبحانه أكرم ساحة أن تمسه حاجة أو يطرأ عليه منقصة لا يفعل فعلا إلا ليعود نفعه إلى غيره من خليقته فوجه التوحيد في مقابلة الإنسان له بوعد الشكر و الطاعة في دعائه الفطري هو أن الإنسان إذا نزلت به النازلة، و انقطعت عنه الأسباب و غابت عن مسرح نظره وسائل الخلاص وجد أن الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي يقدر على كشف ما به من غم، و أنه الذي يدبر أمره منذ خلقه و يدبر أمر كل سبب فوجد نفسه ظالما مفرطا في جنب الله سبحانه لا يستحق كشف الغم و رفع الحاجة من قبله تعالى لما كسبت يداه من السيئات، و حملت نفسه من وبال الخطيئة فعندئذ يعد ربه الشكر و الطاعة ليصحح ذلك استحقاقه لاستجابة دعائه و كشف ضره. 

  • و لذلك نجده أنه إذا نجي مما نزل به النائبة ذهب لوجهه ناسيا لما عهد به ربه و وعده من الشكر كما قال تعالى في ذيل الآية التالية: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}

  • قوله تعالى: {قُلِ اَللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} قال الراغب في مفرداته: الكرب‌ الغم الشديد، قال تعالى: {وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ} و الكربة كالغمة، و أصل ذلك من كرب الأرض بسكون الراء و هو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك و قيل في مثل: الكراب على البقر و ليس ذلك من قولهم: الكلاب على البقر، في شي‌ء، و يجوز أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب، و قولهم: إناء كربان أي قريب نحو قربان أي قريب من المل‌ء، أو من الكرب (بفتحتين) و هو عقد غليظ في رشا الدلو، و قد يوصف الغم بأنه عقد على القلب يقال: أكربت الدلو، انتهى. 

تفسير الميزان ج۷

135
  • و قد أضيف في هذه الآية كل كرب إلى ظلمات البر و البحر ليعم الجميع فإن إنسانا ما لا يخلو في مدى حياته من شي‌ء من الكروب و الغموم فالمسألة و الدعاء عام فيهم سواء أعلنوا به أو أسروا. 

  • فملخص المراد بالآية أنكم في الشدائد النازلة بكم في ظلمات البر و البحر و غيرها إذا انقطعتم عن الأسباب الظاهرة و أعيت بكم الحيل تشاهدون بالرجوع إلى فطرتكم الإنسانية أن الله سبحانه هو ربكم لا رب سواه و تجزمون أن عبادتكم لغيره ظلم و إثم و الشاهد على ذلك أنكم تدعونه حينئذ تضرعا و خفية، و تعدونه أن تشكروه بعد ذلك و لا تكفروا به إن أنجاكم لكنكم بعد الإنجاء تنقضون ميثاقكم الذي واثقتموه به و تستمرون على سابق كفركم، ففي الآيتين احتجاج على المشركين و توبيخ لهم على حنث اليمين و خلف الوعد. 

  • قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: أصل البعث‌ إثارة الشي‌ء و توجيهه يقال: بعثته فانبعث، و يختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته و سيرته، و قوله عز و جل: {وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ} أي يخرجهم و يسيرهم إلى القيامة -إلى أن قال- فالبعث ضربان: بشري كبعث البعير و بعث الإنسان في حاجة، و إلهي و ذلك ضربان: أحدهما: إيجاد الأعيان و الأجناس و الأنواع عن ليس و ذلك يختص به الباري تعالى و لم يقدر عليه أحد، و الثاني إحياء الموتى و قد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى (عليه السلام) و أمثاله، انتهى. 

  • و بالجملة في لفظه شي‌ء من معنى الإقامة و الإنهاض، و بهذه العناية يستعمل في التوجيه و الإرسال لأن التوجيه إلى حاجة و الإرسال نحو قوم يكون بعد سكون و خمود غالبا، و على هذا فبعث العذاب لا يخلو من إشعار على أنه عذاب من شأنه أن يتوجه إليهم و يقع بهم، و إنما يمنع عن هذا الاقتضاء مانع كالإيمان و الطاعة، و للكلام تتمة سنوافيك. 

  • و قال في المجمع: لبست‌ عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه و خلطت بعضه ببعض و لبست‌ الثوب ألبسه، و اللبس‌ اختلاط الأمر و اختلاط الكلام، و لابست‌ الأمر خالطته، و الشيع‌ الفرق، و كل فرقة شيعة على حدة، و شيعة فلان تبعته، و التشيع‌ الاتباع على وجه التدين و الولاء، انتهى. 

  • و على هذا فالمراد بقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أن يضرب البعض بالبعض و يخلط 

تفسير الميزان ج۷

136
  • حال كونهم شيعا و فرقا مختلفة. 

  • فقوله: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} ظاهره إثبات القدرة لله سبحانه على بعث العذاب عليهم من فوق أو من تحت، و القدرة على الشي‌ء لا تستلزم فعله، و هو أعني إثبات القدرة على الفعل الذي هو العذاب كاف في الإخافة و الإنذار لكن المقام يعطي أن المراد ليس هو إثبات مجرد القدرة بل لهم استحقاق لمثل هذا العذاب، و في العذاب اقتضاء أن ينبعث عليهم إن لم يجتمعوا على الإيمان بالله و آياته كما مر من استفادة ذلك من معنى البعث، و يؤيده قوله بعد: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فإنه تهديد صريح. 

  • على أنه تعالى يهدد هذه الأمة صريحا بالعذاب في موارد مشابهة لهذا المورد من كلامه كقوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} -إلى أن قال- {وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} الآيات (يونس: ٤٧-٥٣) و قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إلى آخر الآيات: (الأنبياء: ٩٣-٩٧) و قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} -إلى أن قال- {وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً} إلى آخر الآيات: (الروم: ٣٠-٤٥). 

  • و قد قيل: إن المراد بالعذاب الذي من فوقهم هو الصيحة و الحجارة و الطوفان و الريح كما فعل بعاد و ثمود و قوم شعيب و قوم لوط، و بالذي من تحت أرجلهم الخسف كما فعل بقارون، و قيل: إن المراد بما من فوقهم العذاب الآتي من قبل كبارهم أو سلاطينهم الجبابرة و بما من تحت أرجلهم ما يأتيهم من قبل سفلتهم أو عبيدهم السوء، و قيل: المراد بما من فوق و بما من تحت الأسلحة النارية القتالة التي اخترعها البشر أخيرا من الطيارات و المناطد التي تقذف القنابل المحرقة و المخربة و غيرها و مراكب تحت البحر المغرفة للسفائن و الباخرات فإن الإنذار إنما وقع في كلامه تعالى و هو أعلم بما كان سيحدث في مملكته. 

  • و الحق أن اللفظ مما يقبل الانطباق على كل من المعاني المذكورة و قد وقع بعد النزول ما ينطبق عليه اللفظ، و المحتد الأصلي لهذه الوقائع الذي مهد لها الطريق هو اختلاف الكلمة و التفرق الذي بدأت به الأمة و جبهت به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما كان يدعوهم إليه من الاتفاق على كلمة الحق، و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم. 

تفسير الميزان ج۷

137
  • قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ظاهره أنه أريد به التحزبات التي نشأت بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، فأدى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوعة ألبست لباس العصبية و الحمية الجاهلية و استتبعت حروبا و مقاتل يستبيح كل فريق من غيره كل حرمة و يطرده بمزعمته من حرمة الدين و بيضة الإسلام. 

  • و على هذا فقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ} إلخ، عذاب واحد لا عذابان و إن أمكن بوجه عد كل من إلقاء التفرق في الكلمة و إذاقة البعض بأس بعض عذابا مستقلا برأسه فللتفرقة بين الأمة أثر سوء آخر و هو طرو الضعف و نفاد القوة و تبعض القدرة لكن المأخوذ في الآية المعدود عذابا أعني قوله: {وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ} إلخ، حينئذ بالنسبة إلى مجرد إلقاء الاختلاف بمنزلة المقيد بالنسبة إلى المطلق، و لا يحسن مقابلة المطلق بالمقيد إلا بعناية زائدة في الكلام، على أن العطف بواو الجمع يؤيد ما ذكرناه. 

  • فبالجملة معنى الآية: قل يا رسول الله مخاطبا لهم منذرا لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع تحت لواء التوحيد و استماع دعوة الحق إن لشأنكم هذا عاقبة سيئة في قدرة الله سبحانه أن يأخذكم بها و هو أن يبعث عليكم عذابا لا مفر لكم منه و لا ملاذ تلوذون به و هو العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعا و فرقا مختلفين متنازعين و متحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض، ثم تمم البيان بقوله خطابا لنبيه: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هم قريش أو مضر أو عامة العرب و المستفاد من فحوى بعض كلامه تعالى في موارد أخر أن المراد بقومه (صلى الله عليه وآله و سلم) هم العرب كقوله: {وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلى بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (الشعراء: ٢٠٢) و قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: ٤). 

  • و كيف كان فقوله: {وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ} بمنزلة التمهيد لتحقيق النبإ الذي يتضمنه الإنذار السابق كأنه قيل: يا أيتها الأمة اجتمعوا في توحيد ربكم و اتفقوا في اتباع كلمة الحق و إلا فلا مؤمن يؤمنكم عذابا يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف 

تفسير الميزان ج۷

138
  • و تحزب يستتبع سيفا و سوطا من بعضكم على بعض، ثم خوطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقيل: إن قومك كذبوا بذلك فليستعدوا لعذاب بئيس أو بأس شديد يذوقونه. 

  • و من هنا يظهر أولا: أن الضمير في قوله: {وَ كَذَّبَ بِهِ} راجع إلى العذاب كما نسبه الآلوسي إلى غالب المفسرين، و ربما قيل: إنه عائد إلى تصريف الآيات أو إلى القرآن و هو بعيد، و ليس من البعيد أن يرجع إلى النبإ باعتبار ما تشتمل عليه الآية السابقة. 

  • و ثانيا: أن هذا الخبر أعني قوله: {وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ} بحسب ما يعطيه المقام في معنى ذكر أول خبر يمهد الطريق لنبإ موعود كأنه قيل: يجب على أمتك أن يجتمعوا على الإيمان بالله و آياته و يكونوا على تحرز و تحذر من أن يتسرب إليهم الكفر بالله و آياته و يدب فيهم اختلاف حتى لا ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثم قيل: إن قومك من بين جميع أمتك و من عاصرك أو جاء من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان يجب عليهم أن يبرموه و كذبوا النبأ فانثلم بذلك الأمر فسوف يعلمون ذلك أن المكذبين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الأعراب خاصة و هم قومه (صلى الله عليه وآله و سلم) بل كذبته اليهود و أمم من غيرهم في زمانه و بعده و كان تكذيبهم و اختلافهم جميعا ذا أثر مثبت في ما هددوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه بالذكر و الحال هذه يفيد ما ذكرناه. 

  • و البحث التحليلي عن نفسية المجتمع الإسلامي يؤيد هذا الذي استفدناه من الآية فإن ما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم من الانحطاط في نفسيتهم و الوهن في قوتهم و التشتت في كلمتهم ينتهي بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات و المشاجرات في الصدر الأول بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم يصعد ذلك إلى حوادث أول الهجرة و قبل الهجرة مما لقيه النبي من قومه، و ما جبهوه به من التكذيب و تسفيه الرأي. 

  • و هؤلاء و إن تجمعوا حول راية الدعوة الإسلامية و استظلوا بظلها بعد ما ظهرت كلمة الحق و أنارت مشعلته لكن المجتمع الطيب الديني لم يصف من خبث النفاق، و قد نطقت آيات جمة من القرآن الكريم بذلك، و كان أهل النفاق لا يستهان بعددهم و من المحال أن يسلم بنية المجتمع من سي‌ء أثرهم في نفسية أجزائه و لم يقدر على هضمهم هضما تاما يحيلهم إلى أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لم يمكث وقودهم دون أن اشتعل ثم زاد اشتعالا و لم يزل، و الجميع يرجع إلى ما بدأ منه، و كل الصيد في جوف الفراء. 

تفسير الميزان ج۷

139
  • و ثالثا: أن قوله تعالى: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} مسوق سوق الكناية أي أعرض عنهم و قل: إن أمركم غير مفوض إلي و لا محمول علي حتى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة لكم، و إنما الذي إلي بحسب مقامي أن أنذركم عذابا شديدا هو كمين لكم. 

  • و من هنا يظهر أيضا: أن قوله: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} من مقول القول و تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقومه كما يؤيده الخطاب في قوله: {وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فإن القوم إنما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا بالنسبة إليه تعالى. 

  • و قوله: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تصريح بالتهديد و إنباء عن الوقوع الحتمي و قد ظهر مما تقدم وجه صحة خطاب المشركين بما سيبتلى به الأمة الإسلامية من تفرق الكلمة و نزول الشدة فإن الأعراق تنتهي إليهم و ليس الناس إلا أمة واحدة يؤخذ آخرهم بما اكتسبه أولهم و يعود إلى أولهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا، أبصروا من أنفسهم ذلك أو عموا قال تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى اَلنَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ اَلذِّكْرى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُوا اَلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (الدخان: ١٥). 

  • تدبر في الآيات كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أولهم أو هي في عداد ما تقدم نقله من آيات سورة يونس و الأنبياء و الروم، و في القرآن الشريف شي‌ء كثير من الآيات المنبئة عما سيوافي الأمة من وخيم العاقبة و وبال السيئة ثم إدراك العناية الإلهية و من أسوإ التقصير إهمال الباحثين منا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها و أهميتها و شدة مساسها بحال الأمة و سعادة جدها في دنياها و آخرتها. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ذكر الراغب في المفردات، أن الخوض‌ هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار في الأمور، و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، انتهى. و هو الدخول في باطل الحديث و التوغل فيه كذكر الآيات الحقة و الاستهزاء بها و الإطالة في ذلك. 

  • و المراد بالإعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم و الخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة، و تقييد النهي بقوله: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي 

تفسير الميزان ج۷

140
  •  حَدِيثٍ غَيْرِهِ} للدلالة على أن المنهي عنه ليس مطلق مجالستهم و القعود معهم، و لو كان لغرض حق، و إنما المنهي عنه مجالستهم ما داموا مشتغلين بالخوض في آيات الله سبحانه. 

  • و من هنا يظهر أن في الكلام نوعا من إيجاز الحذف فإن تقدير الكلام: و إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا يخوضون فيها فأعرض عنهم «إلخ»، فحذفت الجملة المماثلة للصلة استغناء بها عنها، و المعنى - و الله أعلم - و إذا رأيت أهل الخوض و الاستهزاء بآيات الله يجرون على خوضهم و استهزائهم بالآيات الإلهية فأعرض عنهم و لا تدخل في حلقهم حتى يخوضوا في حديث غيره فإذا دخلوا في حديث غيره فلا مانع يمنعك من مجالستهم، و الكلام و إن وقع في سياق الاحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعممه فيشمل غيرهم كما يشملهم، و قد وقع في آخر الآية قوله: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} فالخوض في آيات الله ظلم و الآية إنما نهت عن مشاركة الظالمين في ظلمهم، و قد ورد في مورد آخر من كلامه تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} (النساء: ١٤٠). 

  • فقد تبين: أن الآية لا تأمر بالإعراض عن الخائضين في آيات الله تعالى بل إنما تأمر بالإعراض عنهم إذا كانوا يخوضون في آيات الله ما داموا مشتغلين به. 

  • و الضمير في قوله: {غَيْرِهِ} راجع إلى الحديث الذي يخاض فيه في آيات الله باعتبار أنه خوض و قد نهي عن الخوض في الآية. 

  • قوله تعالى: {وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} و {إِمَّا} في قوله: {إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ} زائد يفيد نوعا من التأكيد أو التقليل و النون للتأكيد، و الأصل و إن ينسك، و الكلام في مقام التأكيد و التشديد للنهي أي حتى لو غفلت عن نهينا بما أنساكه الشيطان ثم ذكرت فلا تهاون في القيام عنهم و لا تلبث دون أن تقوم عنهم فإن الذين يتقون ليس لهم أي مشاركة للخائضين اللاعبين بآيات الله المستهزئين بها. 

  • و الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المقصود غيره من الأمة فقد تقدم في البحث عن عصمة الأنبياء (عليه السلام) ما ينفي وقوع هذا النوع من النسيان و هو نسيان حكم إلهي و مخالفته عملا بحيث يمكن الاحتجاج بفعله على غيره و التمسك به نفسه عنهم (عليه السلام) . 

  • و يؤيد ذلك عطف الكلام في الآية التالية إلى المتقين من الأمة حيث يقول: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إلى آخر الآية. 

تفسير الميزان ج۷

141
  • و أوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء: {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اَللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللَّهَ جَامِعُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} (النساء: ١٤٠) فإن المراد في الآية و هي مدنية بالحكم الذي نزل في الكتاب هو ما في هذه الآية من سورة الأنعام و هي مكية و لا آية غيرها، و هي تذكر أن الحكم النازل سابقا وجه به إلى المؤمنين، و لازمه أن يكون الخطاب الذي في قوله: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} إلخ موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المقصود به غيره على حد قولهم: إياك أعني و اسمعي يا جارة. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إلى آخر الآية. يريد أن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يحمل إلا على أنفسهم و لا يتعداهم إلى غيرهم إلا أن يماثلوهم و يشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب بعمل إلا عامله و لكن نذكرهم ذكرى لعلهم يتقون فإن الإنسان إذا حضر مجلسهم و إن أمكنه أن لا يجاريهم فيما يخوضون و لا يرضى بقلبه بعملهم و أمكن أن لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم تأييدا لهم في قولهم لكن مشاهدة الخلاف و معاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس و تصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين، و إذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها فإن للنفس في كل معصية هوى و من الواجب على المتقي بما عنده من التقوى و الورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل الهتك و الاجتراء على الله كما يجب على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله لئلا تهون عليه الجرأة على الله و آياته فتقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه. 

  • و من هذا البيان يظهر أولا: أن نفي الاشتراك في الحساب مع الخائضين عن الذين يتقون فحسب مع أن غير العامل لا يشارك العامل في جزاء عمله إنما هو للإيماء إلى أن من شاركهم في مجلسهم و قعد إليهم لا يؤمن من مشاركتهم في جزاء عملهم و المؤاخذة بما يؤاخذون به، فالكلام في تقدير قولنا: و ما على غير الخائضين من حسابهم من شي‌ء إذا كانوا يتقون الخوض معهم و لكن إنما ننهاهم عن القعود معهم ليستمروا على تقواهم من الخوض أو ليتم لهم التقوى و الورع عن محارم الله سبحانه. 

  • و ثانيا: أن المراد بالتقوى في قوله: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ} التقوى‌ العام و هو الاجتناب و التوقي عن مطلق ما لا يرتضيه الله تعالى، و في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} التقوى 

تفسير الميزان ج۷

142
  • من خصوص معصية الخوض في آيات الله، أو المراد بالتقوى الأول أصل التقوى و بالثاني تمامه، أو الأول إجمال التقوى و الثاني تفصيله بفعلية الانطباق على كل مورد و منها مورد الخوض في آيات الله، و هاهنا معنى آخر و هو أن يكون المراد بالأول تقوى المؤمنين و بالتقوى الثاني تقوى الخائضين و تقدير الكلام و لكن ذكروا الخائضين ذكرى لعلهم يتقون الخوض. 

  • و ثالثا: أن قوله: ذكرى مفعول مطلق لفعل مقدر و التقدير و لكن نذكرهم بذلك ذكرى أو ذكروهم ذكرى أو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: و لكن هذا الأمر ذكرى أو مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: و لكن عليك ذكراهم و أوسط الوجوه أسبقها إلى الذهن. 

  • قوله تعالى: {وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً} إلى آخر الآية، قال الراغب: البسل‌ ضم الشي‌ء و منعه و لتضمنه لمعنى الضم أستعير لتقطيب الوجه فقيل: هو باسل‌ و مبتسل الوجه، و لتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم و المرتهن بسل‌، و قوله تعالى: {وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}، أي تحرم الثواب، و الفرق بين الحرام و البسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم و القهر، و البسل هو المنوع منه بالقهر قال عز و جل: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أي حرموا الثواب، انتهى. 

  • و قال في المجمع، يقال: أبسلته‌ بجريرته أي أسلمته، و المستبسل‌ المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص -إلى أن قال- قال الأخفش: تبسل‌ أي تجازى، و قيل: تبسل أي ترهن و المعاني متقاربة، انتهى. 

  • و المعنى: «و اترك الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا» عد تدينهم بما يدعوهم إليه هوى أنفسهم لعبا و تلهيا بدينهم، و فيه فرض دين حق لهم و هو الذي دعتهم إليه فطرتهم فكان يجب عليهم أن يأخذوا به أخذ جد و يتحرزوا به عن الخلط و التحريف و لكنهم اتخذوه لعبا و لهوا يقلبونه كيف شاءوا من حال إلى حال و يحولونه حسب ما يأمرهم به هوى أنفسهم من صورة إلى صورة. 

  • ثم عطف على اتخاذهم الدين لعبا و لهوا قوله: {وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا} لما بينهما من الملازمة لأن الاسترسال في التمتع من لذائذ الحياة المادية و الجد في اقتنائها يوجب الإعراض عن الجد في الدين الحق و الهزل و اللعب به. 

تفسير الميزان ج۷

143
  • ثم قال: {وَ ذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن حذرا من أن تبسل أي تمنع نفس بسبب ما كسبت من السيئات أو تسلم نفس مع ما كسبت للمؤاخذة و العقاب، و تلك نفس ليس لها من دون الله ولي و لا شفيع و إن تعدل كل عدل و تفد كل فدية لا يؤخذ منها لأن اليوم يوم الجزاء بالأعمال لا يوم البيع و الشري أولئك الذين أبسلوا و منعوا من ثواب الله أو أسلموا لعقابه لهم شراب من حميم و عذاب أليم بما كانوا يكفرون. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَ لاَ يَضُرُّنَا} احتجاج على المشركين بنحو الاستفهام الإنكاري، و إنما ذكر من أوصاف شركائهم كونها لا تنفع و لا تضر لأن اتخاذ الآلهة كما تقدم كان مبنيا على أحد الأساسين: الرجاء و الخوف و إذ كانت الشركاء لا تنفع و لا تضر فلا موجب لدعائها و عبادتها و التقرب منها. 

  • قوله تعالى: {وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ} - إلى قوله - {اِئْتِنَا} الاستهواء طلب الهوى و السقوط، و الرد على الأعقاب كناية عن الضلال و ترك الهدى فإن لازم الهداية الحقة الوقوع في مستقيم الصراط و الشروع في السير فيه فالارتداد على الأعقاب ترك السير في الصراط و العود إلى ما خلف من المسير و هو الضلال، و لذا قال: و نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله فقيد الرد بكونه بعد الهداية الإلهية. 

  • و من عجيب الاستدلال احتجاج بعض بهذه الآية أعني قوله: {وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اَللَّهُ} (الآية) و ما يجري مجراها من الآيات كقول شعيب (عليه السلام) على ما حكاه الله تعالى في قصته بقوله: {قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا}(الأعراف: ٨٩). 

  • فقد احتجوا بها على أن الأنبياء (عليه السلام) كانوا قبل البعثة و التلبس بلباس النبوة على الكفر لما في لفظ الرد على الأعقاب بعد إذ هدى الله، و العودة في ملة الشرك بعد إذ نجاهم الله منها من الدلالة على كونهم منتحلين بها واقعين فيها قبل النجاة و هو احتجاج فاسد فإن ذلك تكلم منهم بلسان المجتمع الديني الذي كانت أفراده على الشرك حتى هداهم الله بواسطة أنبيائه و لسنا نعني أن غلبة الأفراد الذين كانوا على الشرك في أول عهدهم سوغ 

تفسير الميزان ج۷

144
  • أن ينسب كفرهم السابق إلى الجميع حتى يكون تغليبا لشركهم على إيمان نبيهم فإن كلامه الحق لا يحتمل ذلك بل نعني أن مجتمع الدين الشامل للنبي و أمته يصدق عليه أن أفراده إنما نجوا من الشرك بعد هداية الله سبحانه إياهم و ليس لهم من دونه إلا الضلال أما الأمة فإنهم كانوا على الشرك في زمان قبل زمان اهتدائهم بالدين، و أما أنبياؤهم فإنما اهتداؤهم بالله سبحانه، و ليس لهم من أنفسهم لو لا الهداية الإلهية إلا الضلال فإن غيره تعالى لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا فمن الصادق في حقهم أن ليس لهم أن يرتدوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله أو يعودوا إلى الشرك بعد إذ نجاهم الله منه. 

  • و بالجملة الكلمة صادقة عليهم بنحو الحقيقة و إن لم يكن بعض مجتمعهم و هو النبي الذي فيهم كافرا قبل نبوته فإن الإيمان و الاهتداء على أي حال لهم من الله سبحانه بعد الحال الذي لهم من أنفسهم و حالهم من أنفسهم هو الضلال كما عرفت. 

  • على أنك قد عرفت فيما تقدم من البحث المتنوع في عصمة الأنبياء أن القرآن الشريف ناص على طهارة ساحتهم عن أصغر المعاصي الصغيرة فكيف بالكبيرة و بأكبر الكبائر الذي هو الشرك بالله العظيم. 

  • و قوله: {كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيَاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرَانَ} «إلخ» تمثيل مثل به حال الإنسان المتحير الذي لم يؤت بصيرة في أمره و عزيمة راسخة على سعادته فترك أحسن طريق و أقومه إلى مقصده، و قد ركبه قبله أصحاب له مهتدون به و بقي متحيرا بين شياطين يدعونه إلى الردى و الهلاك، و أصحاب له مهتدين قد نزلوا في منازلهم أو أشرفوا على الوصول يدعونه إلى الهدى أن ائتنا فلا يدري ما يفعل و هو بين مهبط و مستوى؟ 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى} إلى آخر الآية أي إن كان الأمر دائرا بين دعوة الله سبحانه و هي التي توافق الفطرة و تسميه الفطرة هدى الله، و بين دعوة الشياطين و هي التي فيها الهوى و اتخاذ الدين لعبا و لهوا فهدى الله هو الهدى الحقيقي دون غيره. 

  • أما أن ما يوافق دعوة الفطرة هو هدى الله فلا شك يعتريه لأن حق الهداية هو الذي ينطق به الصنع و الإيجاد الذي ليس إلا لله و لا نروم شيئا من دين أو اعتقاد إلا لابتغاء مطابقة الواقع و الواقع لله فلا يعدوه هداه، و أما أن هدى الله هو الهدى الحقيقي الذي يجب أن يؤخذ به دون الدعوة الشيطانية فظاهر أيضا لأن الله سبحانه هو الذي إليه 

تفسير الميزان ج۷

145
  • أمرنا كله من جهة مبدئنا و منتهانا و ما نحتاج إليه في دنيا أو آخرة. 

  • و قوله: {وَ أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} قال في المجمع: تقول العرب: أمرتك لتفعل و أمرتك أن تفعل و أمرتك بأن تفعل فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق و المعنى وقع الأمر بهذا الفعل، و من قال: أمرتك أن تفعل حذف الجار، و من قال: أمرتك لتفعل فالمعنى أمرتك للفعل، و قال الزجاج: التقدير أمرنا كي نسلم. 

  • و الجملة أعني قوله: {وَ أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} إلخ، عطف تفسير لقوله: {إِنَّ هُدَى اَللَّهِ هُوَ اَلْهُدى} فالأمر بالإسلام هو مصداق لهدى الله، و المعنى: أمرنا الله لنسلم له و إنما أبهم فاعل الفعل ليكون تمهيدا لوضع قوله: {لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} موضع الضمير فيدل به على علة الأمر فالمعنى أمرنا من ناحية الغيب أن نسلم لله لأنه رب العالمين جميعا ليس لها جميعا أو لكل بعض منها - كما تزعمه الوثنية رب آخر و لا أرباب أخر. 

  • و ظاهر الآية أن المراد بالإسلام هو تسليم عامة الأمور إليه تعالى لا مجرد التشهد بالشهادتين، و هو ظاهر قوله: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ} (آل عمران: ١٩) كما مر في تفسير الآية. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّقُوهُ} تفنن في سرد الكلام بأخذ الأمر بمعنى القول و الجري في مجرى هذه العناية كأنه قيل: و قيل لنا: أن أسلموا لرب العالمين و أن أقيموا الصلاة و اتقوه. 

  • و قد أجمل تفاصيل الأعمال الدينية ثانيا في قوله: {وَ اِتَّقُوهُ} غير أنه صرح من بينها باسم الصلاة تعظيما لأمرها و اعتناء بشأنها و اهتمام القرآن الشريف بأمر الصلاة ظاهر لا شك فيه. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فمن الواجب أن يسلم له و يتقى لأن الرجوع إليه، و الحساب و الجزاء بيده. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية. بضعة أسماء و أوصاف له سبحانه مذكورة أريد بذكرها بيان ما تقدم من القول و تعليله فإنه تعالى ذكر أن الهدى هداه ثم فسره نوع تفسير بالإسلام له و الصلاة و التقوى و هو تمام الدين ثم بين السبب في كون هداه هو الهدى الذي لا يجوز التجافي عنه و هو أن حشر الجميع إليه 

تفسير الميزان ج۷

146
  • ثم بينه أتم بيان بقوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ} إلخ، فهذه أسماء و نعوت له تعالى لو انتفى واحد منها لم يتم البيان. 

  • فقوله: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ} إلخ، يريد به أن الخلقة جميعا فعله و إنما أتى به بالحق لا بالباطل، و الفعل إذا لم يكن باطلا لم يكن مندوحة من ثبوت الغاية له فللخلقة غاية و هو الرجوع إليه تعالى و هذا هو إحدى الحجتين اللتين ذكرهما في قوله عز من قائل: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخر الآيتين: (ص: ٢٧) فخلقة السماوات و الأرض بخلقة حقة تؤدي إلى أن الخلق يحشرون إليه. 

  • و قوله: {يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} السياق يدل على أن المراد بالمقول له هو يوم الحشر و إن كان كل موجود مخلوق على هذه الصفة كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: ٨٢) و يوم ظرف متعلق بالقول و المعنى: يوم يقول ليوم القيامة: كن فيكون، و ربما قيل: إن المقول له هو الشي‌ء و التقدير: يوم يقول لشي‌ء كن فيكون، و ما ذكرناه أوفق للسياق. 

  • و قوله: {قَوْلُهُ اَلْحَقُّ} تعليل عللت به الجملة التي قبله، و الدليل عليه فصل الجملة، و الحق هو الثابت بحقيقة معنى الثبوت و هو الوجود الخارجي و الكون العيني و إذ كان قوله هو فعله و إيجاده كما يدل عليه قوله: {وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} فقوله تعالى هو نفس الحق فلا مرد له و لا مبدل لكلماته قال تعالى: {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} (ص: ٨٤). 

  • قوله تعالى: {وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ} يريد به يوم القيامة قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} (المؤمن: ١٦) و المراد بثبوت الملك له تعالى يوم النفخ مع أن له الملك دائما إنما هو ظهور ذلك بتقطع الأسباب و انبتات الروابط و الأنساب و قد تقدم شذور من البحث في ذلك فيما تقدم و سيجي‌ء استيفاء البحث عنه و عن معنى الصور في الموضع المناسب لذلك إن شاء الله تعالى. 

  • و قوله {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ} قد تقدم معناه، و هو اسم يتقوم بمعناه الحساب و الجزاء، و كذلك الاسمان: الحكيم و الخبير فهو تعالى بعلمه بالغيب و الشهادة يعلم ظاهر الأشياء و باطنها فلا يخفى عليه ظاهر لظهوره و لا باطن لبطونه، و بحكمته يتقن تدبير الخليقة و يميز الواجب من الجزاء كما ينبغي فلا يظلم و لا يجازف، و بخبرته لا يفوت عنه دقيق لدقته و لا جليل لجلالته. 

تفسير الميزان ج۷

147
  • فهذه الأسماء و النعوت تبين بأتم البيان أن الجميع محشورون إليه و أن هداه هو الهدى و دين الفطرة الذي أمر به هو الدين الحق فإنه تعالى خلق العالم لغاية مطلوبة أرادها منه و هو الرجوع إليه، و إذ كان يريدها فسيقول لها كن فيكون لأن قوله حق لا مرد له، و يظهر اليوم أن الملك له لا سلطنة لشي‌ء غيره على شي‌ء، و عند ذلك يتميز بتمييزه من أطاعه ممن عصاه لأنه يعلم كل غيب و شهادة عن حكمة و خبرة. 

  • و قد بان مما تقدم أولا: أن قوله: {بِالْحَقِّ} أريد به أن خلق السماوات و الأرض خلق حق أي إن الحق وصفه، و قد تقدم قريبا معنى كون فعله و قوله تعالى حقا، و أما ما قيل: إن المعنى خلق السماوات و الأرض بالقول الحق فبعيد. 

  • و ثانيا: أن ظاهر قوله: {وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} بدلالة السياق بيان لأمر يوم القيامة و إن كان الأمر في خلق جميع الأشياء على هذه الطريقة. 

  • و ثالثا: أن اختصاص نفخ الصور من بين أوصاف القيامة بالذكر في قوله: {وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ} للإشارة إلى معنى الإحضار العام الذي هو المناسب لبيان قوله في ذيل الآية السابقة: {وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فإن الحشر هو إخراج الناس و تسييرهم مجتمعين بنوع من الإزعاج، و الصور إنما ينفخ فيه لاجتماع أفراد العسكر لأمر يهمهم، و لذلك ينفخ الصور أعني النفخة الثانية يوم القيامة ليحضروا عرصة المحشر لفصل القضاء قال تعالى: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}- -إلى أن قال- - {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (يس: ٥٤). 

  • و ليس اليوم في الموضعين بمعنى واحد فاليوم الأول أريد به مطلق الظرف كالظرف ليوم القيامة بنوع من العناية الكلامية كقولنا: يوم خلق الله الحركة و حين خلق الله الأيام و الليالي و إنما اليوم من فروع الحركة متفرع عليه، و الحين هو اليوم و الليل، و المراد باليوم الثاني نفس يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج۷

148
  • بحث روائي 

  • في الدر المنثور، في قوله تعالى: {يَقُصُّ اَلْحَقَّ} (الآية) أخرج الدارقطني في الإفراد و ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: أقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رجلا: {يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفَاصِلِينَ}

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الآية)، أخرج أحمد و البخاري و حشيش بن أصرم في الاستقامة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، و لا يعلم متى تغيض الأرحام إلا الله، و لا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، و لا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله و، لا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تبارك و تعالى. 

  • أقول: و لا ينبغي أن تعد الرواية على تقدير صحتها منافية لما تقدم من عموم الآية لأن العدد لا مفهوم له، و ما في الرواية من المفاتيح يجمعها العلم بالحوادث قبل حدوثها، و للغيب مصاديق أخر غير الخمس بدلالة من نفس الآية. 

  • و فيه أخرج الخطيب في تاريخه بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما من زرع على وجه الأرض و لا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان ابن فلان، و ذلك قوله تعالى: {وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَ لاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}

  • أقول: و الرواية على ضعف سندها لا ينطبق مضمونها على الآية ذاك الانطباق. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} - إلى قوله - {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، قال: الورقة السقط، و الحبة الولد، و ظلمات الأرض الأرحام و الرطب ما يحيى، و اليابس ما يغيض، و كل ذلك في كتاب مبين. 

  • أقول: و رواه أيضا الكليني و الصدوق عن أبي الربيع عنه، و القمي مرسلا و الرواية لا تنطبق على ظاهر الآية، و نظيرتها رواية أخرى رواها العياشي عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام). 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} 

تفسير الميزان ج۷

149
  • قال: السلاطين الظلمة {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} العبيد السوء و من لا خير فيه قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): 

  • و قال: في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قيل: عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبية و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام): و قال: في قوله: {وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قيل: هو سوء الجوار و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و في تفسير القمي: و قوله: {يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: السلطان الجائر {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: السفلة و من لا خير فيه {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قال: العصبية {وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال سوء الجوار.

  • قال القمي: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: هو الدخان و الصيحة {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال قال: و هو الخسف {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} و هو اختلاف في الدين و طعن بعضكم على بعض {وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} و هو أن يقتل بعضكم بعضا فكل هذا في أهل القبلة يقول الله: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}.

  • و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و البخاري و الترمذي و النسائي و نعيم بن حماد في الفتن و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أعوذ بوجهك {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}قال: أعوذ بوجهك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: هذا أهون أو أيسر. 

  • أقول: و روي أيضا ما يقرب منه عن ابن مردويه عن جابر.

  • و فيه أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و نعيم بن حماد في الفتن و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في هذه الآية: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أما إنها كائنة و لم يأت تأويلها بعد. 

  • أقول: و هناك روايات كثيرة مروية من طرق أهل السنة و روايات أخرى من 

تفسير الميزان ج۷

150
  • طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) أن ما أوعده الله في الآية من العذاب النازل من فوقهم و من تحت أرجلهم أعني الصيحة و الخسف سيقع على هذه الأمة، و أما لبسهم شيعا و إذاقة بعضهم بأس بعض فوقوعه مفروغ عنه. 

  • و قد روى السيوطي في الدر المنثور، و ابن كثير في تفسيره أخبارا كثيرة دالة على أنه لما نزلت الآية: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} إلى آخرها استعاذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى ربه و دعاه أن لا يعذب أمته بما أوعدهم من أنواع العذاب فأجابه ربه إلى بعضها و لم يجبه إلى بعض آخر و هو أن لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض. 

  • و هذه الروايات - على كثرتها - و إن اشتملت على القوية و الضعيفة من حيث أسنادها موهونة جميعا بمخالفتها لظاهر الآية فإن قوله تعالى في الآيتين التاليتين: {وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد صريح بالوقوع و قد نزلت الآيات و هي من سورة الأنعام دفعة و قد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغ ذلك أمته و لو كان هناك بداء برفع البلاء لكان من الواجب أن نجده في كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و ليس من ذلك أثر بل الأمر على خلافه كما تقدم في البيان السابق أن عدة من آيات القرآن الكريم تؤيد هذه الآيات في مضمونها كالتي في سورة يونس و الروم و غيرهما. 

  • على أنها تعارض روايات أخر كثيرة من طرق الفريقين دالة على وقوع ذلك و نزوله على الأمة في مستقبل الزمان. 

  • على أن هذه الروايات - على كثرتها - و اتفاق كثير منها في أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما دعا بهذه المسائل عقيب نزول هذه الآية: {قُلْ هُوَ اَلْقَادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ} (الآية) لا تتفق لا في عدد المسائل ففي بعضها أنها كانت ثلاثا و في بعضها أنها كانت أربعا، و لا في عدد ما أجيب إليه ففي بعضها أنه كان واحدا و في بعضها أنه كان اثنين، و لا في نفس المسائل ففي بعضها أنها كانت هي الرجم من السماء و الغرق من الأرض و أن لا يلبسهم شيعا و أن لا يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنها الغرق و السنة و جعل بأسهم بينهم، و في بعضها أنها السنة العامة و أن يسلط عليهم عدوا من غيرهم و أن يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أن المسائل هي أن لا يجمع أمته على ضلالة و أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم و أن 

تفسير الميزان ج۷

151
  • لا يهلكهم بالسنين و أن لا يلبسهم شيعا و يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنها أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم و أن لا يهلكهم بغرق و أن لا يجعل بأسهم بينهم، و في بعضها أنها أن لا يهلكهم بما أهلك به من قبلهم و أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم و أن لا يلبسهم شيعا و يذيق بعضهم بأس بعض، و في بعضها أنها العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم و أن يلبسهم شيعا و أن يذيق بعضهم بأس بعض. 

  • على أن في كثير منها أن دعاءه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان في حرة بني معاوية قرية من قرى الأنصار بالعالية و لازمه كونه بعد الهجرة و سورة الأنعام من السور النازلة بمكة قبل الهجرة دفعة، و في الروايات اختلافات أخرى تظهر لمن راجعها. 

  • و إن كان و لا بد من أخذ شي‌ء من الروايات فالوجه هو اختيار ما رواه عن عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله زوي لي الأرض حتى رأيت مشارقها و مغاربها، و إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، و إني أعطيت الكنزين: الأحمر و الأبيض، و إني سألت ربي أن لا يهلك قومي بسنة عامة و أن لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، و إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة و لا أسلط عليهم عدوا من سواهم فيهلكوهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا و بعضهم يقتل بعضا، و بعضهم يسبي بعضا . 

  • فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة.

  • فهذه الرواية و ما في مضمونها خالية عن غالب الإشكالات السابقة، و ليس فيها أن الدعاء كان إثر نزول الآية، و ينبغي مع ذلك أن يحمل على أن المراد رفع الهلاك العام و السنة العامة التي تبيد الأمة، و إلا فالسنين و المثلات و المقاتل الذريعة التي لقيتها الأمة في حروب المغول و الصليب و بأندلس و غيرها مما لا سبيل إلى إنكارها، و ينبغي أيضا أن تحمل على أن الدعاء و المسألة كان في أوائل البعثة قبل نزول السورة و إلا فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أعلم بمقام ربه و أجل قدرا من أن يتلقى هذه الآيات بالوحي ثم يراجع ربه في تغيير ما قضى به و أمره بتبليغه و إنذار أمته به. 

تفسير الميزان ج۷

152
  • و بعد اللتيا و التي فالقرآن الشريف يدل بآياته على حاق الأمر و هو أن هذا الدين قائم إلى يوم القيامة، و أن الأمة لا تبيد عامة، و أن أمثال ما ابتلى الله به الأمم السالفة تبتلي بها هذه الأمة حذو النعل بالنعل من غير أي اختلاف و تخلف. 

  • و الروايات المستفيضة المروية عن النبي و الأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله و سلم) القطعية في صدورها و دلالتها ناطقة بذلك. 

  • و في الدر المنثور، أخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس:في قوله: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قال: نسخ هذه الآية آية السيف: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

  • أقول: قد عرفت مما تقدم من البيان أن قوله: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} مسوق تمهيدا للتهديد الذي يتضمنه قوله: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} و هذا المعنى لا يقبل نسخا. 

  • و في تفسير القمي، في قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} (الآية) بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم فإن الله يقول في كتابه: {إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ}.

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و أبو نعيم في الحلية، عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.

  • و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله. 

  • و في تفسير العياشي، عن ربعي بن عبد الله عمن ذكره عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} قال: الكلام في الله و الجدال في القرآن {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} قال: منه القصاص.

  •  أقول: و الروايات - كما ترى - تعمم الآية و هو أخذ بالملاك. 

  • و في المجمع، قال أبو جعفر (عليه السلام): لما أنزل {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ 

تفسير الميزان ج۷

153
  •  اَلظَّالِمِينَ} قال المسلمون: كيف نصنع؟ إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله تعالى: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا.

  •  أقول: و الرواية - كما ترى - مبنية على أخذ قوله: {ذِكْرى} مفعولا مطلقا و إرجاع الضميرين في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إلى المشركين و التقدير: و لكن ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون، و يبقى على الرواية كون السورة نازلة دفعة واحدة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن ابن جريح قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزءوا، فنزلت {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (الآية) قال: فجعلوا إذا استهزءوا قام فحذروا و قالوا: لا تستهزءوا فيقوم فذلك قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أن يخوضوا فتقوم و نزل: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إن تقعد معهم و لكن لا تقعد ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} - إلى قوله - {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} نسخ قوله: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}(الآية). 

  • أقول: لو كانت آية النساء: {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} (الآية) و هي عين قوله: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ} (الآية) معنى ناسخة لقوله: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الآية) فهو أعني قوله: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الآية) ناسخ لقوله: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ} (الآية) و هو ظاهر، و يأباه نزول السورة دفعة. 

  • على أن الذي ذكره من المعنى لا يوجب تنافيا بين الآيات الثلاث يؤدي إلى النسخ حتى تكون الثانية ناسخة للأولى و منسوخة بالثالثة و هو ظاهر. 

  • و نظير الرواية ما رواه أيضا في الدر المنثور، عن النحاس في ناسخه عن ابن عباس: في قوله تعالى: {وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، قال: هذه مكية نسخت بالمدينة بقوله: {وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اَللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا}(الآية). 

  • و في تفسير البرهان، في قوله تعالى: {قَوْلُهُ اَلْحَقُّ وَ لَهُ اَلْمُلْكُ} (الآية) عن ابن بابويه بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز 

تفسير الميزان ج۷

154
  • و جل: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ} فقال: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ} ما لم يكن {وَ اَلشَّهَادَةِ} ما قد كان. 

  • أقول: فيه ذكر أعرف مصاديق الغيب و الشهادة عندنا، و قد تقدم في البيان المتقدم آنفا و غيره أن للغيب مصاديق أخر.

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٧٤ الی ٨٣ ]

  • {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٧٤ وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ ٧٥ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ ٧٦ فَلَمَّا رَأَى اَلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ ٧٧ فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ٧٨ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ٧٩ وَ حَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَ تُحَاجُّونِّي فِي اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ وَ لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ٨٠وَ كَيْفَ أَخَافُ مَا 

تفسير الميزان ج۷

155
  • أَشْرَكْتُمْ وَ لاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨١ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ٨٢ وَ تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلى‌ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ٨٣} 

  • (بيان) 

  • عشر آيات ذكر الله سبحانه فيها ما آتاه النبي العظيم إبراهيم (عليه السلام) من الحجة على المشركين بما هداه إلى توحيده و تنزيهه ثم ذكر هدايته أنبياءه بتطهير سرهم من الشرك، و قد سمى بينهم نوحا (عليه السلام) و هو قبل إبراهيم (عليه السلام) و ستة عشر نبيا من ذرية نوح (عليهم السلام ) . 

  • و الآيات في الحقيقة بيان لمصداق كامل من القيام بدين الفطرة و الانتهاض لنشر عقيدة التوحيد و التنزيه عن شرك الوثنية و هو الذي انتهض له إبراهيم (عليه السلام) و حاج له على الوثنية حينما أطبقت الدنيا على الوثنية ظاهرا، و نسوا ما سنه نوح (عليه السلام) و التابعون له من ذريته الأنبياء من طريقة التوحيد فالآيات بما تشتمل عليه من تلقين الحجة و الهداية إلى دين الفطرة كالتبصر لما تقدمها من الحجج التي لقنها الله: سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في هذه السورة بقوله: قل كذا و قل كذا فقد كررت لفظة «قل» في هذه السورة الكريمة أربعين مرة نيف و عشرون منها قبل هذه الآيات فكأنه قيل: و اذكر فيما تقوله لقومك و تحاجهم به من أدلة التوحيد و نفي الشريك بتلقيننا إياك ما قاله إبراهيم لأبيه و قومه مما آتيناه من حجتنا على قومه بما كنا نريه من ملكوت السماوات و الأرض فقد كان يحاجهم عن إفاضة إلهية عليه بالعلم و الحكمة و إراءة منه تعالى لملكوته مبنية على اليقين لا عن فكرة تصنيعية لا تعدو حد التخيل و التصور، و لا تخلو عن التكلف و التعسف الذي لا تهتف به الفطرة الصافية. 

  • و لحن كلام إبراهيم (عليه السلام) فيما حكاه الله سبحانه في هذه الآيات إن تدبرنا فيها بأذهان 

تفسير الميزان ج۷

156
  • خالية عن التفاصيل الواردة في الروايات و الآثار على اختلافها الفاحش، غير مشوبة بالمشاجرات التي وقعت للباحثين من أهل التفسير على خلطهم تفسير الآيات بمضامين الروايات و محتويات التواريخ و ما اشتملت عليه التوراة و أخرى تشايعها من الإسرائيليات إلى غير ذلك، و بالجملة لحن كلامه (عليه السلام) في ما حكي عنه في هذه الآيات يشعر إشعارا واضحا بأنه كلام صادر عن ذهن صاف غير مملوء بزخارف الأفكار و الأوهام المتنوعة أفرغته في قالب اللفظ فطرته الصافية بما عندها من أوائل التعقل و التفكير و لطائف الشعور و الإحساس. 

  • فالواقف في موقف النصفة من التدبر في هذه الآيات لا يشك أن كلامه المحكي عنه مع قومه أشبه شي‌ء بكلام إنسان أولي فرضي عاش في سرب من أسراب الأرض أو كهف من كهوف الجبال لم يعاشر إلا بعض من يقوم بواجب غذائه و لباسه لم يشاهد سماء بزواهر نجومها و كواكبها، و البازغ من قمرها و شمسها، و لم يمكث في مجتمع إنساني بأفراده الجمة و بلاده الوسيعة، و اختلاف أفكاره، و تشتت مقاصده و مآربه، و أنواع أديانه و مذاهبه، ثم ساقه الاتفاق أن دخل في واحد من المجتمعات العظيمة، و شاهد أمورا عجيبة لا عهد له بها من أجرام سماوية، و أقطار أرضية، و جماعات من الناس عاكفين على مشاغلهم كادحين نحو مآربهم و مقاصدهم، لا يصرفهم عن ذلك صارف بين متحرك و ساكن، و عامل و معمول له، و خادم و مخدوم، و آمر و مأمور، و رئيس، و مرءوس منكب على الكسب و العمل، و متزهد متعبد يعبد الإله. 

  • فبهته عجيب ما يراه و استغرقه غريب ما يشاهده فصار يسأل من أنس به عن شأن الواحد بعد الواحد مما اجتذبت إليه نفسه، و وقع عليه بصره، و كثر منه إعجابه نظير ما نراه من حال الصبي إذا نظر إلى جو السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة و زواهرها اللامعة، و عقود كواكبها المنثورة في حالة مطمئنة نراه يسأل أمه: ما هذه التي أشاهدها و أمتلئ من حبها و الإعجاب بها؟ من الذي علقها هناك؟ من الذي نورها؟ من الذي صنعها؟. 

  • غير أن الذي لا نرتاب فيه أن هذا الإنسان إنما يبدأ في سؤاله من حقائق الأشياء التي يشاهدها و يتعجب منها بالذي يقرب مما كان يعرفها في حال التوحش و الانعزال عن المجتمع و إنما يسأل عن المقاصد و الغايات التي لا يقع عليها الحواس. 

  • و ذلك لأن الإنسان إنما يستعلم حال المجهولات بما عنده من مواد العلم الأولية فلا ينتقل من المجهولات إلا إلى ما يناسب بعض ما عنده من المعلومات، و هذا أمر ظاهر 

تفسير الميزان ج۷

157
  • محسوس من حال بعض بسائط العقول كالصبيان و أهل البدو إذا صادفوا أمورا ليس لهم بها عهد فإنهم يبدءون باستعلام حال ما يستأنسون بأمره بعد الاستيناس فيسألون عن حقيقته و عن أسبابه و غاياته. 

  • و الإنسان المفروض و هو الإنسان الفطري الأولي تقريبا لما لم يشتغل إلا بأبسط أسباب المعيشة لم يشغل ذهنه ما يشغل ذهن الإنسان المدني الحضري الذي أحاطت به هذه الأشغال الكثيرة الطبيعية الخارجة عن الحد و الحصر التي لا فراغ له عنها و لو لحظة، و لذلك كان الإنسان المفروض في فراغ من الفكر و خلاء من الذهن، و الحوادث الجمة السماوية و الأرضية الكونية محيطة به من غير أن يعرف أسبابها الطبيعية فلذلك كان ذهنه أشد استعدادا للانتقال إلى سببها الذي هو أعلى من الأسباب الطبيعية و هو الذي يتنبه له الإنسان الحضري بعد الفراغ عن إحصاء الأسباب الطبيعية لحوادث الكون فوق هذه الأسباب لو وجد فراغا، و لذا كان الأسبق إلى ذهن هذا الإنسان المفروض هو الانتقال إلى هذا السبب الأعلى لو شاهد من الناس الحضريين الاشتغال به و التنسك و العبادة له. 

  • و من الشواهد على هذا الذي ذكرنا ما نجد أن الاشتغال بالمراسم الدينية و البحث عن اللاهوت في آسيا أكثر رواجا و أغلى قدرا منه في أوروبا، و في القرى و البلاد الصغيرة أحكم موقعا منه في البلاد العظيمة و على هذه النسبة في البلاد العظيمة و السواد الأعظم لما أن المجتمع كلما اتسع نطاقه زادت فيه الحوائج الحيوية، و كثرت و تراكمت الأشغال الإنسانية فلم تدع للإنسان فراغا تستريح فيه نفسه إلى معنوياتها و تتوجه إلى البحث عن مبدئها و معادها. 

  • و بالجملة إذا راجعنا قصة إبراهيم (عليه السلام) المودعة في هذه الآيات و ما يناظرها من آيات سورة مريم و الأنبياء و الصافات و غيرها وجدنا حاله (عليه السلام) فيما يحاج به أباه و قومه أشبه شي‌ء بحال الإنسان البسيط المفروض نجده يسأل عن الأصنام و يباحث القوم في شأنها و يتكلم في أمر الكوكب و القمر و الشمس سؤاله من لا عهد له بما يصنعه الناس و خاصة قومه الوثنيون في الأصنام يقول لأبيه و قومه: {مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: ٥٢) و يقول لأبيه و قومه: {مَا تَعْبُدُونَ. قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ. قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: ٧٤). 

تفسير الميزان ج۷

158
  • فهذا كلام من لم ير صنما و لم يشاهد وثنيا يعبد صنما و قد كان (عليه السلام) في مهد الوثنية و هو بابل كلدان، و قد عاش بينهم برهة من الزمان فهل كان مثل هذا التعبير منه (عليه السلام): {مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ} تحقيرا للأصنام و إيماء إلى أنه لا يضعها الموضع الذي يضعها عليه الناس و لا يقر لها بما أقروا به من القداسة و الفضل كأنه لا يعرفها كقول فرعون لموسى (عليه السلام): {وَ مَا رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} (الشعراء: ٢٣) و قول كفار مكة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما حكى الله تعالى: {وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الأنبياء: ٣٦). 

  • لكن يبعده أن إبراهيم (عليه السلام) ما كان يستعمل في خطاب أبيه آزر إلا جميل الأدب حتى إذا طرده أبوه و هدده بالرجم قال له إبراهيم: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (مريم: ٤٧). 

  • فمن المستبعد أن يلقي إليه أول ما يواجهه من الكلام ما يتضمن تحقير شأن آلهته المقدسة عنده في لحن التشويه و الإهانة فيثير به عصبيته و نزعته الوثنية، و قد نهى الله سبحانه في هذه الملة التي هي ملة إبراهيم حنيفا عن سب آلهة المشركين لئلا يثير ذلك منهم ما يواجهون المسلمين بمثله قال تعالى: {وَ لاَ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: ١٠٨). 

  • ثم إنه (عليه السلام) بعد الفراغ مما حاج به أباه آزر و قومه في أمر الأصنام يشتغل بأربابها و هي الكوكب و القمر و الشمس فيقول لما رأى كوكبا: {هَذَا رَبِّي} ثم يقول لما رأى القمر بازغا: {هَذَا رَبِّي} ثم يقول لما رأى الشمس بازغة: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} و هذه التعبيرات أيضا تعبير من كأنه لم ير كوكبا و لا قمرا و لا شمسا، و أوضح التعبيرات دلالة على هذا المعنى قوله (عليه السلام) في الشمس: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} فإن هذا كلام من لا يعرف ما هي الشمس و ما هما القمر و الكوكب غير أنه يجد الناس يخضعون لها و يعبدونها و يقربون لها القرابين كما يرويه التاريخ عن أهل بابل، و هذا كما إذا رأيت شبح إنسان لا تدري أ رجل هو أو امرأة تسأل و تقول: من هذا؟ تريد الشخص لأنك لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان فيقال: امرأة فلان أو هو فلان، و إذا رأيت شبحا لا تدري إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول ما هذا؟ تريد الشبح أو المشار إليه إذ لا 

تفسير الميزان ج۷

159
  • علم لك من حاله إلا بأنه شي‌ء جسماني أيا ما كان فيقال لك: هذا زيد أو هذه امرأة فلان أو هو شاخص كذا ففي جميع ذلك تراعي - و أنت جاهل بالأمر من شأن أولي العقل و غيره و الذكورية و الأنوثية مقدار ما لك به علم، و أما المجيب العالم بحقيقة الحال فعليه أن يراعي الحقيقة. 

  • فظاهر قوله (عليه السلام): {هَذَا رَبِّي} و قوله: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أنه ما كان يعرف من حال الشمس إلا أنه شي‌ء طالع أكبر من القمر و الكوكب يقصده الناس بالعبادة و النسك و الإشارة إلى مثل هذا المعلوم إنما هو بلفظة {هَذَا} بلا ريب، و أما أنها شمس أي جرم أو صفحة نورانية تدبر العالم الأرضي بضوئها و ترسم الليل و النهار بسيرها بحسب ظاهر الحس أو أنه قمر أو كوكب يطلع كل ليلة من أفق الشرق و يغيب فيما يقابله من الغرب فلم يكن يعرف ذلك على ما يشعر به هذا الكلام، و لو كان يعرف ذلك لقال في الشمس: هذه ربي هذه أكبر أو قال: إنها ربي إنها أكبر كما راعى هذه النكتة بعد ذلك فيما حاج الملك نمرود و قد كان يعرفها اليوم: {فَإِنَّ اَللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ} (البقرة: ٢٥٨) فلم يقل: فأت به من المغرب. 

  • و كما قال لأبيه و قومه على ما حكى الله: {مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: ٧٤) فبدأ يسأل عن معبودهم بلفظة {مَا} إذ لا علم له عندئذ بشي‌ء من حاله إلا أنه شي‌ء ثم لما ذكروا الأصنام و هم لا يعتقدون لها شيئا من الشعور و الإرادة قالوا: {فَنَظَلُّ لَهَا} بالتأنيث، ثم لما سمع ألوهيتها منهم و من الواجب أن يتصف الإله بالنفع و الضرر و السمع لدعوة من يدعوه عبر عنها تعبيرا أولي العقل، ثم لما ذكروا له في قصة كسر الأصنام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ} حذاء قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} سلب عنها شأن أولي العقل فقال: {أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: ٦٧). 

  • و لا يسعنا أن نتعسف فنقول: إنه (عليه السلام) أراد بقوله: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} الجرم أو المشار إليه أو أنه روعي في ذلك حال لغته التي تكلم بها و هي السريانية ليس يراعى فيها التأنيث كأغلب اللغات العجمية فإن ذلك تحكم، على أنه (عليه السلام) قال للملك في 

تفسير الميزان ج۷

160
  • خصوص الشمس بعينها: {فَإِنَّ اَللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ} (البقرة: ٢٥٨) فلم يحك القرآن ما لهج به بالوصف الذي في لغته فما بال هذا المورد {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} اختص بهذه الحكاية. 

  • و نظير السؤال آت في قوله يسأل قومه عن شأن الأصنام: {مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: ٥٢) و كذا قوله في دعائه: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ} (إبراهيم: ٣٦). 

  • و كذا لا يسعنا القول بأنه (عليه السلام) في تذكيره الإشارة إلى الشمس صان الإله عن وصمة الأنوثية تعظيما أو أن الكلام من باب إتباع المبتدإ للخبر الذي هو مذكر أعني قوله: {رَبِّي}، و قوله: {أَكْبَرُ} فكل ذلك تحكم لا دليل عليه، و سيجي‌ء تفصيل البحث فيها. 

  • و الحاصل أن الذي حكاه الله تعالى في هذه الآيات و ما يناظرها من قول إبراهيم (عليه السلام) لأبيه و قومه في توحيده تعالى و نفي الشريك عنه كلام يدل بسياقه على أنه (عليه السلام) إنما عاش قبل ذلك في معزل من الجو الذي كان يعيش فيه أبوه و قومه و لم يكن يعرف ما يعرفه معاشر المجتمعين من تفاصيل شئون أجزاء الكون و السنن الاجتماعية الدائرة بين الناس المجتمعين، و أنه كان إذ ذاك في أوائل زمن رشده و تمييزه ترك معزله و لحق بأبيه، و وجد عنده أصناما فسأله عن شأنها فلما أوقفه على ذلك شاجره في ألوهيتها و ألزمه الحجة، ثم حاج قومه في أمر الأصنام فبكتهم، ثم رجع إلى عبادتهم لأرباب الأصنام من الكوكب و القمر و الشمس فجاراهم في افتراض ربوبيتها الواحد منها بعد الواحد، و لم يزل يراقب أمرها، و كلما غرب واحد منها رفضه و أبطل ربوبيته و افترض ربوبية غيره مما يعبدونه حتى أتى في يومه و ليلته على آخرها على ما هو ظاهر الآيات، ثم عاد إلى التوحيد الخالص بقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} و كأنه تم له ذلك في يومين و ليلة بينهما تقريبا على ما سنبين إن شاء الله تعالى. 

  • و كان (عليه السلام) على بصيرة من أن للعالم خالقا فاطرا للسماوات و الأرض هو الله وحده لا شريك له في ذلك، و إنما يبحث عن أنه هل للناس و منهم إبراهيم نفسه رب غير الله هو بعض خلقه كشمس أو قمر أو غيرها يربهم و يدبر أمرهم و يشارك الله في أمره أو 

تفسير الميزان ج۷

161
  • أنه لا رب لهم غير الله سبحانه وحده لا شريك له. 

  • و في جميع هذه المراحل التي طواها كان الله سبحانه يمده و يسدده بإراءته ملكوت السماوات و الأرض و عطف نفسه الشريفة إلى الجهة التي ينتسب منها الأشياء إلى الله سبحانه خلقا و تدبيرا فكان إذا رأى شيئا رأى انتسابه إلى الله و تكوينه و تدبيره بأمره قبل أن يرى نفسيته و آثار نفسيته كما هو ظاهر سياق قوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية)، و قوله في ذيل الآيات: {وَ تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الآية)، و قوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} (الأنبياء: ٥١). 

  • و قول إبراهيم لأبيه فيما حكى الله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} (مريم: ٤٣) إلى غير ذلك من الآيات. 

  • ثم حاج الملك نمرود في دعواه الربوبية على ما كان ذلك من دأب كثير من جبابرة السلف و من نظائر ذلك نشأت الوثنية و كانت لقومه آلهة كثيرة لها أصنام يعبدونها، و فيهم من كان يعبد أرباب الأصنام كالشمس و القمر و الكوكب الذي ذكره القرآن الكريم و لعله الزهرة. 

  • هذا ملخص ما يستفاد من الآيات الكريمة و سنبحث عن مضامينها تفصيلا بحسب ما نستطيعه إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} القراءات السبع في آزر بالفتح فيكون عطف بيان أو بدلا من أبيه و في بعض القراءات {آزَرَ} بالضم و ظاهره أنه منادى مرفوع بالنداء، و التقدير: يا آزر أ تتخذ أصناما آلهة، و قد عد من القراءات «أ أزرا تتخذ» مفتتحا بهمزة الاستفهام، و بعده «أزرا» بالنصب مصدر أزر يأزر بمعنى قوي و المعنى: و إذ قال إبراهيم لأبيه أ تتخذ أصناما للتقوي و الاعتضاد. 

  • و قد اختلف المفسرون على القراءة الأولى المشهورة و الثانية الشاذة في «آزر» أنه اسم علم لأبيه أو لقب أريد بمعناه المدح أو الذم بمعنى المعتضد أو بمعنى الأعرج أو المعوج 

تفسير الميزان ج۷

162
  • أو غير ذلك و منشأ ذلك ما ورد في عدة روايات أن اسم أبيه «تارح» بالحاء المهملة أو المعجمة و يؤيده ما ضبطه التاريخ من اسم أبيه، و ما وقع في التوراة الموجودة أنه (عليه السلام) ابن تارخ. 

  • كما اختلفوا أن المراد بالأب هو الوالد أو العم أو الجد الأمي أو الكبير المطاع و منشأ ذلك أيضا اختلاف الروايات فمنها ما يتضمن أنه كان والده و أن إبراهيم (عليه السلام) سيشفع له يوم القيامة و لكن لا يشفع بل يمسخه الله ضبعا منتنا فيتبرأ منه إبراهيم، و منها ما يدل على أنه لم يكن والده، و أن والده كان موحدا غير مشرك، و ما يدل على أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا جميعا موحدين غير مشركين إلى غير ذلك من الروايات، و قد اختلفت في سائر ما قص من أمر إبراهيم اختلافا عجيبا حتى اشتمل بعضها على نظائر ما ينسبه إليه العهد العتيق مما تنزهه عنه الخلة الإلهية و النبوة و الرسالة. 

  • و قد أطالوا هذا النمط من البحث حتى انجر إلى غايات بعيدة تغيب عندها رسوم البحث التفسيري الذي يستنطق الآيات الكريمة عن مقاصدها عن نظر الباحث، و على من يريد الاطلاع على ذلك أن يراجع مفصلات التفاسير و كتب التفسير بالمأثور. 

  • و الذي يهدي إليه التدبر في الآيات المتعرضة لقصصه (عليه السلام) أنه (عليه السلام) في أول ما عاشر قومه بدأ بشأن رجل يذكر القرآن أنه كان أباه آزر، و قد أصر عليه أن يرفض الأصنام و يتبعه في دين التوحيد فيهديه حتى طرده أبوه عن نفسه و أمره أن يهجره قال تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} -إلى أن قال- {قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا} (مريم: ٤٦) فسلم عليه إبراهيم و وعده أن يستغفر له، و لعله كان طمعا منه في إيمانه و تطميعا له في السعادة و الهدى قال تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (مريم: ٤٨) و الآية الثانية أحسن قرينة على أنه (عليه السلام) إنما وعده أن يستغفر له في الدنيا لا أن يشفع له يوم القيامة و إن بقي كافرا أو بشرط أن لا يعلم بكفره. 

تفسير الميزان ج۷

163
  • ثم حكى الله سبحانه إنجازه (عليه السلام) لوعده هذا و استغفاره لأبيه في قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ اَلنَّعِيمِ وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ وَ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: ٨٩) و قوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ} يدل على أنه (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء لأبيه بعد موته أو بعد مفارقته إياه و هجره له لمكان قوله: {كَانَ} و ذيل كلامه المحكي في الآيات يدل على أنه كان صورة دعاء أتى بها للخروج عن عهدة ما وعده و تعهد له فإنه (عليه السلام) يقول: اغفر لهذا الضال يوم القيامة ثم يصف يوم القيامة بأنه لا ينفع فيه شي‌ء إلا القلب السليم. 

  • و قد كشف الله سبحانه عن هذه الحقيقة بقوله: - و هو في صورة الاعتذار - {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: ١١٤) و الآية بسياقها تشهد على أن هذا الدعاء إنما صدر منه (عليه السلام) في الدنيا و كذلك التبري منه لا أنه سيدعو له ثم يتبرأ منه يوم القيامة فإن السياق سياق التكليف التحريمي العام و قد استثنى منه دعاء إبراهيم، و بين أنه كان في الحقيقة وفاء منه (عليه السلام) بما وعده، و لا معنى لاستثناء ما سيقع مثلا يوم القيامة عن حكم تكليفي مشروع في الدنيا ثم ذكر التبري يوم القيامة. 

  • و بالجملة هو سبحانه يبين دعاء إبراهيم (عليه السلام) لأبيه ثم تبريه منه، و كل ذلك في أوائل عهد إبراهيم و لما يهاجر إلى الأرض المقدسة بدليل سؤاله الحق و اللحوق بالصالحين و أولادا صالحين كما يستفاد من قوله في الآيات السابقة: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (الآية) و قوله تعالى و يتضمن التبري عن أبيه و قومه و استثناء الاستغفار أيضا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةُ وَ اَلْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} (الممتحنة: ٤). 

  • ثم يذكر الله تعالى عزمه (عليه السلام) على المهاجرة إلى الأرض المقدسة و سؤاله أولادا 

تفسير الميزان ج۷

164
  • صالحين بقوله: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ} (الصافات: ١٠٠). 

  • ثم يذكر تعالى ذهابه إلى الأرض المقدسة و رزقه صالح الأولاد بقوله: {وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} (الأنبياء: ٧٢) و قوله: {فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا} (مريم: ٤٩). 

  • ثم يذكر تعالى آخر دعائه بمكة و قد وقع في آخر عهده (عليه السلام) بعد ما هاجر إلى الأرض المقدسة و ولد له الأولاد و أسكن إسماعيل مكة و عمرت البلدة و بنيت الكعبة، و هو آخر ما حكي من كلامه في القرآن الكريم: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} -إلى أن قال- {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} -إلى أن قال- {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ} -إلى أن قال- {رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسَابُ} (إبراهيم: ٤١). 

  • و الآية بما لها من السياق و بما احتف بها من القرائن أحسن شاهد على أن والده الذي دعا له فيها غير الذي يذكره سبحانه بقوله: {لِأَبِيهِ آزَرَ} فإن الآيات كما ترى تنص على أن إبراهيم (عليه السلام) استغفر له وفاء بوعده ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله، و لا معنى لإعادته (عليه السلام) الدعاء لمن تبرأ منه و لاذ إلى ربه من أن يمسه فأبوه آزر غير والده الصلبي الذي دعا له و لأمه معا في آخر دعائه. 

  • و من لطيف الدلالة في هذا الدعاء أعني دعاءه الأخير ما في قوله: {وَ لِوَالِدَيَّ} حيث عبر بالوالد و الوالد لا يطلق إلا على الأب الصلبي و هو الذي يلد و يولد الإنسان مع ما في دعائه الآخر: {وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ} و الآيات الآخر المشتملة على ذكر أبيه آزر فإنها تعبر عنه بالأب و الأب ربما تطلق على الجد و العم و غيرهما، و قد اشتمل القرآن الكريم على هذا الإطلاق بعينه في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَ إِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: ١٣٣) فإبراهيم جد 

تفسير الميزان ج۷

165
  • يعقوب و إسماعيل عمه و قد أطلق على كل منهما الأب، و قوله تعالى فيما يحكي من كلام يوسف (عليه السلام): {وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} (يوسف: ٣٨) فإسحاق جد يوسف و إبراهيم (عليه السلام) جد أبيه و قد أطلق على كل منهما الأب. 

  • فقد تحصل أن آزر الذي تذكره الآية ليس أبا لإبراهيم حقيقة و إنما كان معنونا ببعض الأوصاف و العناوين التي تصحح إطلاق الأب عليه، و أن يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بيا أبت، و اللغة تسوغ إطلاق الأب على الجد و العم و زوج أم الإنسان بعد أبيه و كل من يتولى أمور الشخص و كل كبير مطاع، و ليس هذا التوسع من خصائص اللغة العربية بل يشاركها فيه و في أمثاله سائر اللغات كالتوسع في إطلاق الأم و العم و الأخ و الأخت و الرأس و العين و الفم و اليد و العضد و الإصبع و غير ذلك مما يهدي إليه ذوق التلطف و التفنن في التفهيم و التفهم. 

  • فقد تبين أولا: أن لا موجب للاشتغال بما تقدمت الإشارة إليه من الأبحاث الروائية و التاريخية و الأدبية في أبيه و لفظة آزر و أنه هل هو اسم علم أو لقب مدح أو ذم أو اسم صنم فلا حاجة إلى شي‌ء من ذلك في الحصول على مراد الآية. 

  • على أن غالب ما أوردوه في هذا الباب تحكم لا دليل عليه مع ما فيه من إفساد ظاهر الآية و إخلال أمر السياق باعتبار التراكيب العجيبة التي ذكروها للجملة {آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} من تقديم و تأخير و حذف و تقدير. 

  • و ثانيا: أن والده الحقيقي غير آزر لكن القرآن لم يصرح باسمه، و إنما وقع في الروايات و يؤيده ما يوجد في التوراة أن اسمه «تارخ». 

  • و من عجيب الوهم ما ذكره بعض الباحثين أن القرآن الكريم كثيرا ما يهمل فيما يذكره من تاريخ الأنبياء و الأمم و يقصه من قصص الماضين أمورا مهمة هي من جوهريات القصص كذكر تاريخ الوقوع و محله و الأوضاع الطبيعية و الاجتماعية و السياسية و غيرها المؤثرة في تكون الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع و منها ما في مورد البحث فإن من العوامل المقومة لمعرفة حقيقة هذه القصة معرفة اسم أبي إبراهيم و نسبه و تاريخ زمن نشوئه و نهضته و دعوته و مهاجرته. 

  • و ليس ذلك إلا لأن القرآن سلك في قصصه المسلك الجيد الذي يهدي إليه فن القصص الحقيقي و هو أن يختار القاص في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته و مقصده إيصالا حسنا، و يمثل المطلوب تمثيلا تاما بالغا من غير أن يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من سقيمه، و يحصي جميع ما هو من جوهريات القصة كتأريخ الوقوع و مكانه و سائر نعوته 

تفسير الميزان ج۷

166
  • اللازمة فمن الجائز أن يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده و هو الهداية إلى السعادة الإنسانية قصصا دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر الدعوة و إن لم يوثق بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية كما قيل بذلك في قصة موسى و فتاه و في قصة الملإ الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت و غير ذلك فالفن القصصي لا يمنع شيئا من ذلك بعد ما ميز القاص أن القصة أبلغ وسيلة و أسهل طريقة إلى النيل بمقصده. 

  • و هذا خطأ فإن ما ذكره من أمر الفن القصصي حق غير أن ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم فليس القرآن كتاب تاريخ و لا صحيفة من صحف القصص التخييلية و إنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و قد نص على أنه كلام الله سبحانه، و أنه لا يقول إلا الحق، و أن ليس بعد الحق إلا الضلال، و أنه لا يستعين للحق بباطل، و لا يستمد للهدى بضلال، و أنه كتاب يهدي إلى الحق و إلى صراط مستقيم، و أن ما فيه حجة لمن أخذ به و على من تركه في آيات جمة لا حاجة إلى إيرادها فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد القرآن أن يجوز اشتماله على رأي باطل أو قصة كاذبة باطلة أو خرافة أو تخييل. 

  • لست أريد أن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و بما جاء به رسوله أن ينفى عن القرآن أن يشتمل على باطل أو كذب أو خرافة و إن كان ذلك، و لا أن الواجب على كل إنسان سليم العقل صحيح الفكر مستقيم الأمر أن تخضع نفسه للقرآن بتصديقه و نفي كل خطإ و زلة عنه في وسائل من المعارف توسل بها إلى مقاصده، و في نفس تلك المقاصد و إن كان كذلك. 

  • و إنما أقول: إنه كتاب يدعي لنفسه أنه كلام إلهي موضوع لهداية الناس إلى حقيقة سعادتهم يهدي بالحق و يهدي إلى الحق و من الواجب على من يفسر كتابا هذا شأنه و يستنطقه في مقاصده و مطالبه أن يفترضه صادقا في حديثه مقتصرا على ما هو الحق الصريح في خبره و كل ما يسوقه من بيان أو يقيمه من برهان على مقاصده و أغراضه هاديا إلى الصراط الذي لا يتخلله باطل موصلا إلى غاية لا يشوبها شي‌ء من غير جنس الحق و لا يداخلها أي وهن و فتور. 

  • و كيف يكون مقصد من المقاصد حقا على الإطلاق و قد تسرب باطل ما إلى طريقه 

تفسير الميزان ج۷

167
  • الذي يدعو إليه المقصد و لا يدعو على ما يراه إلا إلى حق؟ و كيف يكون قضية من القضايا قولا فصلا ما هو بالهزل و قد تسرب إلى البيان المنتج لها شي‌ء من المسامحة و المساهلة؟ و كيف يمكن أن يكون حديث أو نبأ كلاما لله الذي يعلم غيب السماوات و الأرض و قد دب فيه جهل أو خبط أو خطاء؟ و هل ينتج النور ظلمة أو الجهل معرفة؟. 

  • فهذا هو المسلك الوحيد الذي لا يحل تعديه في استنطاق القرآن الكريم في مضامين آياته و هو يرى أنه كلام حق لا يشوبه باطل في غرضه و طريق غرضه. 

  • و أما البحث عن أنه هل هو صادق فيما يدعيه لنفسه: أنه كلام الله، و أنه محض الحق في طريقه و غايته؟ و أنه ما ذا يقضي به الكتب المقدسة الأخرى كالعهدين و أوستا و غيرها في قضايا قضى بها القرآن؟ و أنه ما ذا تهدي إليه الأبحاث العلمية الأخر التاريخية أو الطبيعية أو الرياضية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو غيرها؟ فإنما هذه و أمثالها أبحاث خارجة عن وظيفة التفسير ليس من الجائز أن تخلط به أو يقام بها مقامه. 

  • نعم قوله تعالى: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) ينطق بأن هناك شبهات عارضة و أوهاما متسابقة إلى الأذهان تسول لها أن في القرآن اختلافا كان يتراءى من آية أنها تخالف آية، أو أن يستشكل في آية أنها بمضمونها تخالف الحق و الحقيقة و إذ كان القرآن ينص على أنه يهدي إلى الحق فيختلف الآيتان بالآخرة، هذه تدل على أن كل ما تنبئ عنه آية فهو حق و هذه بمضمونها تنبئ نبأ غير حق لكن الآية أعني قوله: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ} إلخ، تصرح القول بأن القرآن تكفي بعض آياته لدفع المشكلة عن بعضها الآخر و يكشف جزء منه عما اشتبه على بعض الأفهام من حال جزء آخر فعلى الباحث عن مراده و مقصده أن يستعين بالبعض على البعض و يستشهد بالبعض على البعض و يستنطق البعض في البعض و القرآن الكريم كتاب دعوة و هداية لا يتخطى عن صراطه و لو خطوة و ليس كتاب تاريخ و لا قصة و ليست مهمته مهمة الدراسة التاريخية و لا مسلك الفن القصصي، و ليس فيه هوى ذكر الأنساب و لا مقدرات الزمان و المكان، و لا مشخصات أخر لا غنى للدرس التاريخي أو القصة التخييلية عن إحصائها و تمثيلها. 

  • فأي فائدة دينية في أن ينسب إبراهيم أنه إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاذ بن سام بن نوح؟ أو أن يقال: إنه ولد في أور 

تفسير الميزان ج۷

168
  • الكلدانيين حدود سنة ألفين تقريبا قبل الميلاد في عهد فلان الملك الذي ولد في كذا و ملك كذا مدة و مات سنة كذا. 

  • و سنجمع في ذيل البحث عن آيات القصة جملا من قصة إبراهيم (عليه السلام) منثورة في القرآن ثم نتبعها بما في التوراة و غيرها من تاريخ حياته و شخصيته فلينظر الباحث المتدبر بعين النصفة ثم ليقض فيما اختاره القرآن منها و حققه ما هو قاض. 

  • و القرآن الكريم مع ذلك لم يهمل الواجب في حق العلوم النافعة، و لم يحرم البحث عن العالم و أجزائه السماوية و الأرضية، و لا منع من استطلاع أخبار الأمم الماضية و سنن المجتمعات و القرون الخالية، و الاستعانة بها على واجب المعرفة و لازم العلم و الآيات تمدح العلم أبلغ المدح، و تندب إلى التفكر و التفقه و التذكر كثرة لا حاجة معها إلى إيرادها هاهنا. 

  • قوله تعالى: {أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} قال الراغب في المفردات: الصنم‌ جثة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها متقربين به إلى الله تعالى و جمعه أصنام قال الله تعالى: {أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً}، {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}، انتهى، و ما ذكره من اتخاذه من فضة أو نحاس أو خشب إنما هو من باب المثال لا ينحصر فيه اتخاذها بل كان يتخذ من كل ما يمكن أن يمثل به تمثال من أقسام الفلزات و الحجارة و غيرها، و قد روي أن بني حنيفة من اليمامة كانوا قد اتخذوا صنما من أقط، و ربما كانوا يتخذونه من الطين و ربما كان صورة مصورة. 

  • و كيف كان فقد كانت الأصنام ربما يمثل بها موضوع اعتقادي غير محسوس كإله السماء و الأرض و إله العدل، و ربما يمثل بها موضوع محسوس كصنم الشمس و صنم القمر، و قد كانت من النوعين جميعا أصنام لقوم إبراهيم (عليه السلام) على ما تؤيده الآثار المكشوفة منهم في خرائب بابل و قد كانوا يعبدونها تقربا بها إلى أربابها، و بأربابها إلى الله سبحانه، و هذا أنموذج بارز من سفه أحلام البشر أن يخضع أعلى حد الخضوع - و هو خضوع العبد للرب لمثال مثل به موضوعا يستعظم أمره و يعظمه، و حقيقته منتهى درجة خضوع المصنوع المربوب لصانعه من صانع لمصنوع نفسه كان الواحد منهم يأخذ خشبة فينحت بيده منه صنما ثم ينصبه فيعبده و يتذلل له و يخضع و لذلك جي‌ء بلفظة الأصنام في قوله المحكي: {أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} نكرة ليدل على هوان أمرها و حقارته من جهة أنها مصنوعة 

تفسير الميزان ج۷

169
  • لهم مخلوقة بأيديهم كما يشير إليه قوله (عليه السلام) لقومه فيما حكى الله: {أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: ٩٥) و من جهة أنها فاقدة لأظهر صفات الربوبية و هو العلم و القدرة كما في قوله لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم: ٤٢). 

  • فقوله: {أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً} إلخ، معناه: أ تتخذ أصناما لا خطر في أمرها آلهة و الإله هو الذي في أمره خطر عظيم إني أراك و قومك في ضلال مبين، و كيف لا يظهر هذا الضلال و هو عبادة و تذلل عبودي من صانع فيه آثار العلم و القدرة لمصنوعه الذي يفقد العلم و القدرة. 

  • و الذي تشتمل عليه الآية أعني قوله: {أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} إلخ، من الحجاج و إن كان بمنزلة التلخيص لعدة احتجاجات واجه بها إبراهيم (عليه السلام) أباه و قومه على ما حكي تفصيلها في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أنه أول ما حاج به أباه و قومه فإن الذي حكاه الله سبحانه من محاجته هو حجاجه أباه و حجاجه قومه في أمر الأصنام و حجاجهم في ربوبية الكوكب و القمر و الشمس و حجاجه الملك. 

  • أما حجاجه في ربوبية الكوكب و القمر و الشمس فالآيات دالة على كونه بعد الحجاج في أمر الأصنام، و الاعتبار و التدبر يعطي أن يكون حجاجه الملك بعد ما ظهر أمره و شاع مخالفته لدين الوثنية و الصابئة و كسر الأصنام، و أن يكون مبدأ أمره مخالفته أباه في دينه و هو معه و عنده قبل أن يواجه الناس و يخالفهم في نحلتهم فقد كان أول ما حاج به في التوحيد هو ما حاج به أباه و قومه في أمر الأصنام. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلخ، ظاهر السياق أن تكون الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} إلى ما تضمنته الآية السابقة: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ} إلخ، أنه (عليه السلام) أري الحق في ذلك، فالمعنى: على هذا المثال من الإراءة نري إبراهيم ملك السماوات و الأرض. 

  • و بمعونة هذه الإشارة و دلالة قوله في الآية التالية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ} الدالة على ارتباط ما بعده بما قبله يظهر أن قوله: {نُرِي} لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ} (القصص: ٥). ـ 

تفسير الميزان ج۷

170
  • فالمعنى: أنا أرينا إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض فبعثه ذلك أن حاج أباه و قومه في أمر الأصنام و كشف له ضلالهم، و كنا نمده بهذه العناية و الموهبة و هي إراءة الملكوت و كان على هذه الحال حتى جن عليه الليل و رأى كوكبا. 

  • و بذلك يظهر أن ما يتراءى من بعضهم: أن قوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي} إلخ، كالمعترضة لا يرتبط بما قبله و لا بما بعده، و كذا قول بعضهم: إن إراءة الملكوت أول ما ظهر من أمرها في إبراهيم (عليه السلام) أنه لما جن عليه الليل رأى كوكبا إلخ، فاسد لا ينبغي أن يصار إليه. 

  • و أما ملكوت السماوات و الأرض فالملكوت‌ هو الملك مصدر كالطاغوت و الجبروت و إن كان آكد من حيث المعنى بالنسبة إلى الملك كالطاغوت و الجبروت بالنسبة إلى الطغيان و الجبر أو الجبران. 

  • و المعنى الذي يستعمله فيه القرآن هو المعنى اللغوي بعينه من غير تفاوت كسائر الألفاظ المستعملة في كلامه تعالى غير أن المصداق غير المصداق و ذلك أن الملك و الملكوت و هو نوع من السلطنة إنما هو فيما عندنا معنى افتراضي اعتباري بعثنا إلى اعتباره الحاجة الاجتماعية إلى نظم الأعمال و الأفراد نظما يؤدي إلى الأمن و العدل و القوة الاجتماعيات و هو في نفسه يقبل النقل و الهبة و الغصب و التغلب كما لا نزال نشاهد ذلك في المجتمعات الإنسانية. 

  • و هذا المعنى على أنه وضعي اعتباري و إن أمكن تصويره في مورده تعالى من جهة أن الحكم الحق في المجتمع البشري لله سبحانه كما قال تعالى: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: ٥٧) و قال: {لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ} (القصص: ٧٠) لكن تحليل معنى هذا الملك الوضعي يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال و الانتقال كما أن الواحد منا يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه و بصره و سائر قواه و أفعاله بحيث إن سمعه إنما يسمع و بصره إنما يبصر بتبع إرادته و حكمه لا بتبع إرادة غيره من الأناسي و حكمه و هذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال و الانتقال كما عرفت فالإنسان يملك قوى نفسه و أفعال نفسه و هي جميعا تبعات وجوده قائمة به غير مستقلة عنه و لا مستغنية عنه فالعين إنما تبصر 

تفسير الميزان ج۷

171
  • بإذن من الإنسان الذي يبصر بها و كذا السمع يسمع بإذن منه، و لو لا الإنسان لم يكن بصر و لا إبصار و لا سمع و لا استماع كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما يتصرف فيه بإذن من الملك أو ولي الأمر، و لو لم تكن هذه القوة المدبرة التي تتوحد عندها أزمة المجتمع لم يكن اجتماع، و لو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن له أن يتصرف و لا نفذ منه ذلك، و لا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذي إليه تكوين الأعيان و تدبير النظام فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه و لا في توابع نفسه من قوى و أفعال، و لا استقلال له لا منفردا و لا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون و ارتباط قوى العالم و امتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا النظام العام المشاهد. 

  • قال تعالى: {قُلِ اَللَّهُمَّ مَالِكَ اَلْمُلْكِ} (آل عمران: ٢٦) و قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} (المائدة: ١٢٠) و قال تعالى: {تَبَارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيَاةَ} -إلى أن قال- {اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: ٣) و الآيات كما ترى تعلل الملك بالخلق فكون وجود الأشياء منه و انتساب الأشياء بوجودها و واقعيتها إليه تعالى هو الملاك في تحقق ملكه و هو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره و لا يزول عنه إلى غيره و لا يقبل نقلا و لا تفويضا يغني عنه تعالى و ينصب غيره مقامه. 

  • و هذا هو الذي يفسر به معنى الملكوت في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} (يس: ٨٣) فالآية الثانية تبين أن ملكوت كل شي‌ء هو كلمة كن الذي يقوله الحق سبحانه له، و قوله فعله، و هو إيجاده له. 

  • فقد تبين أن الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه و قيامها به، و هذا أمر لا يقبل الشركة و يختص به سبحانه وحده، فالربوبية التي هي الملك و التدبير لا تقبل تفويضا و لا تمليكا انتقاليا. 

  • و لذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية كما قال تعالى: {أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: ١٨٥) 

تفسير الميزان ج۷

172
  • و الآية - كما ترى - تحاذي أول سورة الملك المنقول آنفا. 

  • فقد بان أن المراد بإراءة إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض على ما يعطيه التدبر في سائر الآيات المربوطة بها هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه، و إذ كان استنادا لا يقبل الشركة لم يلبث دون أن حكم عليها أن ليس لشي‌ء منها أن يرب غيره و يتولى تدبير النظام و أداء الأمور فالأصنام تماثيل عملها الإنسان و سماها أسماء لم ينزل الله عليها من سلطان، و ما هذا شأنه لا يرب الإنسان و لا يملكه و قد عملته يد الإنسان، و الأجرام العلوية كالكوكب و القمر و الشمس تتحول عليها الحال فتغيب عن الإنسان بعد حضورها، و ما هذا شأنه لا يكون له الملك و تولي التدبير تكوينا كما سيجي‌ء بيانه. 

  • قوله تعالى: {وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} اللام للتعليل، و الجملة معطوفة على أخرى محذوفة و التقدير: ليكون كذا و كذا و ليكون من الموقنين. 

  • و اليقين هو العلم الذي لا يشوبه شك بوجه من الوجوه، و لعل المراد به أن يكون على يقين بآيات الله على حد ما في قوله: {وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: ٢٤) و ينتج ذلك اليقين بأسماء الله الحسنى و صفاته العليا. 

  • و في معنى ذلك ما أنزله في خصوص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (الإسراء: ١) و قال: {مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى} (النجم: ١٨) و أما اليقين بذاته المتعالية فالقرآن يجله تعالى أن يتعلق به شك أو يحيط به علم و إنما يسلمه تسليما. 

  • و قد ذكر في كلامه تعالى من خواص العلم اليقيني بآياته تعالى انكشاف ما وراء ستر الحس من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى كما في قوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ} (التكاثر: ٦) و قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ} (المطففين: ٢١). 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات أصل الجن (بفتح الجيم) ستر الشي‌ء عن الحاسة يقال: جنه الليل 

تفسير الميزان ج۷

173
  • و أجنه و جن عليه: فجنه ستره، و أجنه جعل له ما يجنه كقولك: قبرته و أقبرته و سقيته و أسقيته، و جن عليه كذا ستر عليه قال عز و جل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً}، انتهى. فجن الليل إسداله الظلام لا مجرد ما يحصل بغروب الشمس. 

  • و قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ} تفريع على ما تقدم من نفيه ألوهية الأصنام بما يرتبطان بقوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} و محصل المعنى على ذلك أنا كنا نريه الملكوت من الأشياء فأبطل ألوهية الأصنام إذ ذاك، و دامت عليه الحال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال كذا و كذا. 

  • و قوله: {رَأى كَوْكَباً} كأن تنكير الكوكب إنما هو لنكتة راجعة إلى مرحلة الإخبار و التحدث فلا غرض في الكلام يتعلق بتعيين هذا الكوكب و أنه أي كوكب كان من السيارات أو الثوابت لأن الذي أخذه في الحجاج يجري في أي كوكب من الكواكب يطلع و يغرب لا أن إبراهيم (عليه السلام) أشار إلى كوكب ما من الكواكب من غير أن يمتاز بأي مميز مفروض: أما أولا فلأن اللفظ لا يساعده فلا يقال لمن أشار إلى كوكب بين كواكب لا تحصى كثرة فقال: هذا ربي: إنه رأى كوكبا قال هذا ربي، و أما ثانيا فلأن ظاهر الآيات أنه كان هناك قوم يعبدون الكوكب الذي أشار إليه و قال فيه ما قال، و الصابئون ما كانوا يعبدون أي كوكب و لا يحترمون إلا السيارات. 

  • و الذي يؤيده الاعتبار أنه كان كوكب الزهرة، و ذلك لأن الصابئين ما كانوا يحترمون و ينسبون حوادث العالم الأرضي إلا إلى سبعة من الأجرام العلوية التي كانوا يسمونها بالسيارات السبع: القمر، و عطارد، و الزهرة، و الشمس، و المريخ، و المشتري، و زحل و إنما كان أهل الهند هم الذين يحترمون النجوم الثوابت و ينسبون الحوادث إليها، و نظيرهم في ذلك بعض أرباب الطلسمات و وثنية العرب و غيرهم. 

  • فالظاهر أن الكوكب كان أحد السبعة و القمر و الشمس مذكوران بعد، و عطارد مما لا يرى إلا شاذا لضيق مداره فقد كان أحد الأربعة: الزهرة، و المريخ و المشتري، و زحل، و الزهرة من بينها هي الكوكبة الوحيدة التي يمنعها ضيق مدارها أن تبتعد من الشمس أكثر من سبع و أربعين درجة، و لذلك كانت كالتابعة الملازمة للشمس فأحيانا تتقدمها فتطلع قبيل طلوعها و تسمى عند العامة حينئذ نجمة الصباح ثم تغيب بعد 

تفسير الميزان ج۷

174
  • طلوعها، و أحيانا تتبعها فتظهر بعد غروب الشمس في أفق المغرب ثم لا تلبث إلا قليلا في أول الليل دون أن تغيب، و إذا كانت على هذا الوضع و الليلة من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري كليلة ثماني عشرة و تسع عشرة و العشرين فإنها تجامع بغروبها طلوع القمر فترى أن الشمس تغرب فتظهر الزهرة في الأفق الغربي ثم تغرب بعد ساعة أو ساعتين مضتا من غروب الشمس ثم يطلع القمر عند ذلك أو بعد ذلك بيسير. 

  • و هذه الخصوصية من بينها إنما هي للزهرة بحسب نظام سيرها و في غيرها كالمشتري و المريخ و زحل أمر اتفاقي ربما يقع في أوضاع خاصة لا يسبق إلى الذهن فيشبه من هنا أن الكوكب كان هو الزهرة. 

  • على أن الزهرة أجمل الكواكب الدرية و أبهجها و أضوؤها أول ما يجلب نظر الناظر إلى السماء بعد جن الليل و عكوف الظلام على الآفاق يجلب إليها. 

  • و هذا أحسن ما يمكن أن تنطبق عليه الآية بحسب ما يتسابق إلى الذهن من قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ} -إلى أن قال- {فَلَمَّا رَأَى اَلْقَمَرَ بَازِغاً} «إلخ» حيث وصل ظاهرا بين أفول الكوكب و بزوغ القمر. 

  • و يتأيد هذا الذي ذكرناه بما ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) أن الكوكب كان هو الزهرة. 

  • و على هذا فقد كان (عليه السلام) رأى الزهرة و القوم يتنسكون بواجب عبادتها من خضوع و صلاة و قربان، و كانت الزهرة وقتئذ تتلو الشمس في غروبها، و الليلة من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري جن عليه الليل فرأى الزهرة في الأفق الغربي حتى أفلت فرأى القمر بازغا بعده. 

  • و قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي} المراد بالرب هو مالك الأشياء المربوبين، المدبر لأمرهم لا الذي فطر السماوات و الأرض و أوجد كل شي‌ء بعد ما لم يكن موجودا فإنه الله سبحانه الذي ليس بجسم و لا جسماني و لا يحويه مكان و لا يقع عليه إشارة، و الذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه و له من العلم بالله و آياته ما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم و التمثل و المحدودية، قال تعالى حكاية عنه في محاورة له مع أبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ 

تفسير الميزان ج۷

175
  •  اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} إلى آخر الآيات: (مريم: ٤٣). 

  • على أن الوثنيين و الصابئين لا يثبتون لله سبحانه شريكا في الإيجاد يكافئ بوجوده وجوده تعالى بل إنما يثبتون الشريك بمعنى بعض من هو مخلوق لله مصنوع له و لا أقل مفتقر الوجود إليه فوض إليه بعد تدبير الخليقة كإله الحسن و إله العدل و إله الخصب أو تدبير بعض الخليقة كإله الإنسان أو إله القبيلة أو إله يخص بعض الملوك و الأشراف و قد دلت على ذلك آثارهم المستخرجة و أخبارهم المروية، و الموجودون منهم اليوم على هذه الطريقة فقوله (عليه السلام) بالإشارة إلى الكوكب: {هَذَا رَبِّي} أراد به إثبات أنه رب يدبر الأمر لا إله فاطر مبدع. 

  • و عليه يدل ما حكي عنه في آخر الآيات المبحوث عنها: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى. 

  • فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه (عليه السلام) سلم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا واحدا لا شريك له في الفطر و الإيجاد و هو الله تعالى، و أن للإنسان ربا يدبر أمره لا محالة، و إنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر للأمر أ هو الله سبحانه و إليه يرجع التدبير كما إليه يرجع الإيجاد أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه و فوض إليه أمر التدبير. 

  • و في إثر ذلك ما كان منه (عليه السلام) من افتراض الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثم القمر ثم الشمس و النظر في أمر كل منها هل يصلح لأن يتولى أمر التدبير و إدارة شئون الناس؟ 

  • و هذا الافتراض و النظر و إن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة فإن النتيجة فرع يتأخر طبعا عن الحجة النظرية لكنه لا يضر به (عليه السلام) فإن الآيات كما استفدناه فيما تقدم تقص أول أمر إبراهيم و الإنسان في أول زمن يأخذ بالتمييز و يصلح لتعلق التكليف الإلهي بالنظر في أمر التوحيد و سائر المعارف الأصلية كاللوح الخالي عن النقش و الكتابة غير مشغول بنقش مخالف فإذا أخذ في الطلب و شرع يثبت شيئا و ينفي شيئا لغاية الحصول على الاعتقاد الحق و الإيمان الصحيح فهو بعد في سبيل الحق لا بأس عليه في زمن يمر عليه بين الانتزاع من قصور التمييز و بين الاعتصام بالمعرفة الكاملة 

تفسير الميزان ج۷

176
  • و العلم التام بالحق. 

  • و من ضروريات حياة الإنسان أن يمر عليه لحظة هي أول لحظة ينتقل فيها من قصور الجهل بواجب الاعتقاد إلى بلوغ العلم بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى الطلب و النظر، و هذه سنة عامة في الحياة الإنسانية المتدرجة من النقص إلى الكمال لا يختلف فيها إنسان و إنسان، و إن أمكن أن يظهر من بعض الأفراد بعض ما يخالف ذلك من أمارات الفهم و العلم قبل المتعارف من سن التمييز و البلوغ كما يحكيه القرآن عن المسيح و يحيى (عليه السلام) فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية و ما كل إنسان على هذا النعت و لا كل نبي فعل به ذلك. 

  • و بالجملة ليس الإنسان من أول ما ينفخ فيه الروح الإنساني واجدا لشرائط التكليف بالاعتقاد الحق أو العمل الصالح، و إنما يستعد لذلك على سبيل التدريج حتى يستتم الشرائط فيكلف بالطلب و النظر فزمن حياته منقسم لا محالة إلى قسمين هما قبل التمييز و البلوغ و بعد التمييز و البلوغ و هو الزمان الذي يصلح لأن يشغله الاعتقاد كما أن ما يقابله يقابله فيه، و بين الزمانين الصالح لإشغاله بالاعتقاد و غير الصالح له لا محالة زمان متخلل يتوجه إليه فيه التكليف بالطلب و النظر، و هو الفصل الذي يبحث فيه عن واجب الاعتقاد بما تهدي إليه فطرته من طريق الاستدلال فيفرض نفسه أو العالم مثلا بلا صانع مرة و مع الصانع أخرى، و يفرض الصانع وحده مرة و مع الشريك أخرى و هكذا ثم ينظر ما ذا تؤيده الآثار المشهودة في العالم من كل فرض فرضه أو لا تؤيده فيأخذ بذاك و يترك هذا. 

  • فهو ما لم يتم له الاستدلال غير قاطع بشي‌ء و لا بان على شي‌ء و إنما هو مفترض و مقدر لما افترضه و قدره. 

  • و على هذا فقول إبراهيم (عليه السلام) في الكوكب: {هَذَا رَبِّي} و كذا قوله الآتي في القمر و الشمس ليس من القطع و البناء اللذين يعدان من الشرك، و إنما هو افتراض أمر للنظر إلى الآثار التي تثبته و تؤيده، و من الدليل على ذلك ما في الآيات من الظهور في أنه (عليه السلام) كان على حالة الترقب و الانتظار، فهذا وجه. 

  • و لكن الذي يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته أباه: {يَا أَبَتِ إِنِّي 

تفسير الميزان ج۷

177
  • قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (مريم: ٤٧) أنه (عليه السلام) كان على علم بحقيقة الأمر و أن الذي يتولى تدبير أمره و يحفي عليه و يبالغ في إكرامه هو الله سبحانه دون غيره. 

  • و على هذا فقوله: {هَذَا رَبِّي} جار مجرى التسليم و المجاراة بعد نفسه كأحدهم و مجاراتهم و تسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم و بطلان قولهم، و هذا الطريق من الاحتجاج أجلب لإنصاف الخصم، و أمنع لثوران عصبيته و حميته، و أصلح لإسماع الحجة. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} الأفول‌ الغروب و فيه إبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه و لا يستقيم تدبير كوني مع الانقطاع. 

  • على أن الربوبية و المربوبية بارتباط حقيقي بين الرب و المربوب و هو يؤدي إلى حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه و تبعيته له، و لا معنى لحب ما يفنى و يتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله، و ما يشاهد من أن الإنسان يحب كثيرا الجمال المعجل و الزينة الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه و زواله فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوقة التي تحيا و تموت و تثبت و تزول و تطلع و تغرب و تظهر و تخفى و تشب و تشيب و تنضر و تشين، و هذا وجه برهاني و إن كان ربما يتخيل أنه بيان خطابي أو شعري فافهم ذلك. 

  • و على أي حال فهو (عليه السلام) أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له إما بالتكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لأن المربوبية و العبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا يحب شيئا أن يعبده‌ و قد ورد في المروي عن الصادق (عليه السلام): «هل الدين إلا الحب؟» و قد بينا ذلك فيما تقدم. 

  • و إما لكون الحجة متقومة بعدم الحب و إنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية لأن الربوبية و الألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي 

تفسير الميزان ج۷

178
  • الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، و هذا الوجه هو الظاهر يتكئ عليه سياق الاحتجاج في الآية. 

  • ففي الكلام أولا إشارة إلى التلازم بين الحب و العبودية أو المعبودية. 

  • و ثانيا أنه أخذ في إبطال ربوبية الكوكب وصفا مشتركا بينه و بين القمر و الشمس ثم ساق الاحتجاج و كرر ما احتج به في الكوكب في القمر و الشمس أيضا، و ذلك إما لكونه (عليه السلام) لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر و الشمس و أنهما يطلعان و يغربان كالكوكب كما تقدمت الإشارة إليه و إما لكون القوم المخاطبين في كل من المراحل الثلاث غير الآخرين. 

  • و ثالثا أنه اختار للنفي وصف أولي العقل حيث قال: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} و كأنه للإشارة إلى أن غير أولي الشعور و العقل لا يستحق الربوبية من رأس كما يؤمي إليه في قوله المحكي: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم: ٤٢) و قوله الآخر: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: ٧٤) فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا يعلم من أمرها شيئا فأجابوه بما يشعر بأنها أجساد و هياكل غير عاقلة و لا شاعرة فسألهم ثانيا عن علمها و قدرتها و هو يعبر بلفظ أولي العقل للدلالة على أن المعبود يجب أن يكون على هذه الصفة صفة العقل. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى اَلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} إلى آخر الآية، البزوغ‌ هو الطلوع تقدم الكلام في دلالة قوله: {فَلَمَّا رَأَى} إلخ، على اتصال القضية بما قبلها، و قوله: {هَذَا رَبِّي}على سبيل الافتراض أو المجاراة و المماشاة و التسليم نظير ما تقدم في الآية السابقة. 

  • و أما قوله بعد أفول القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ} فهو موضوع وضع الكناية فهو (عليه السلام) أبطل ربوبية الكوكب بما يعم كل غارب و لما غرب القمر ظهر عندئذ رأيه في أمر ربوبيته بما كان قد قاله قبل ذلك في الكوكب: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} فقوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} إلخ، إشارة إلى أن الوضع الذي ذكره في القمر بقوله: {هَذَا رَبِّي} كان ضلالا لو دام و أصر عليه كان أحد أولئك الضالين القائلين بربوبيته و الوجه في كونه ضلالا ما قاله في الكوكب حيث عبر بوصف لا يختص به بل يصدق في 

تفسير الميزان ج۷

179
  • مورده و كل مورد يشابهه. 

  • و في الكلام إشارة أولا إلى أنه كان هناك قوم قائلون بربوبية القمر كالكوكب كما أن قوله في الآية التالية بعد ذكر أمر الشمس: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} لا يخلو عن الدلالة على مثله. 

  • و ثانيا: أنه (عليه السلام) كان وقتئذ في مسير الطلب راجيا للهداية الإلهية مترقبا لما يفيض ربه عليه من النظر الصحيح و الرأي اليقيني سواء كان ذلك بحسب الحقيقة كما لو حملنا الكلام على الافتراض لتحصيل الاعتقاد، أو بحسب الظاهر كما لو حملناه على الوضع و التسليم لبيان الفساد، و قد تقدم الوجهان آنفا. 

  • و ثالثا: أنه (عليه السلام) كان على يقين بأن له ربا إليه تدبير هدايته و سائر أموره، و إنما كان يبحث واقعا أو ظاهرا ليعرفه: أ هو الذي فطر السماوات و الأرض بعينه أو بعض من خلقه، و إذ بان له أن الكوكب و القمر لا يصلحان الربوبية لأفولها توقع أن يهديه ربه إلى نفسه و يخلصه من ضلال الضالين. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} الكلام في دلالة اللفظ على الاتصال بما قبله لمكان قوله: {فَلَمَّا} و كون قوله: {هَذَا رَبِّي} مسوقا للافتراض أو التسليم كما تقدم في الآية السابقة. 

  • و قد كان تكرر قوله: {هَذَا رَبِّي} في القمر لما رآه بازغا بعد ما رأى الكوكب، و لذلك ضم قوله: {هَذَا أَكْبَرُ} إلى قوله {هَذَا رَبِّي} في الشمس في المرة الثالثة ليكون بمنزلة الاعتذار للعود إلى فرض الربوبية لها مع تبين خطإ افتراضه مرة بعد مرة. 

  • و قد تقدمت الإشارة إلى أن إشارته إلى الشمس بلفظة {هَذَا} تشعر بأنه (عليه السلام) ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدنا أنه جرم سماوي يطلع و يغرب بحسب ظاهر الحس في كل يوم و ليلة، و إليها تستند النهار و الليل و الفصول الأربعة السنوية إلى غير ذلك من نعوتها. 

  • فإن الإتيان في الإشارة بلفظ المذكر هو الذي يستريح إليه من لا يميز المشار إليه في نوعه كما تقول فيمن لاح لك شبحه و أنت لا تدري أ رجل أم امرأة: من هذا؟ و نظيره ما يقال في شبح لا يدرى أ من أولي العقل هو أو لا: ما هذا؟ فلعله إنما كان ذلك من إبراهيم (عليه السلام) أول ما خرج من مختفى أخفي فيه إلى أبيه و قومه، و لم يكن عهد مشاهد الدنيا 

تفسير الميزان ج۷

180
  • الخارجة و المجتمع البشري فرأى جرما هو كوكب و جرما هو القمر و جرما هو الشمس، و كلما شاهد واحدا منها - و لم يكن يشاهد إلا جرما مضيئا لامعا - قال: هذا ربي، على سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامة كما سمعت. 

  • و يؤيده بعض التأييد قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} فإن فيه إشعارا بأنه (عليه السلام) مكث بانيا على كون الكوكب ربا حتى شاهد غروبه فحكم بأن الفرض باطل و أنه ليس برب، و لو كان عالما بأنه سيغرب أبطل ربوبيته مقارنا لفرض ربوبيته كما فعل ذلك في أمر الأصنام على ما يدل عليه قوله لأبيه: {أَ تَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} و قوله أيضا: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}

  • و إن أمكن أن يقال: إنه أراد بتأخير قوله. {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} إلى أن يأفل أن يحاجهم بما وقع عليه الحس كما أراد بما فعل بالأصنام حيث جعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم أن يريهم عجز الأصنام و كونها أجسادا ميتة لا تدفع عن أنفسها الضر و الشر. 

  • و للمفسرين في تذكير الإشارة في قوله: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} مسالك من التوجيه مختلفة: 

  • فمنهم من قال: تذكير الإشارة إنما هو بتأويل المشار إليه أو الجرم النير السماوي أي هذا المشار إليه أو هذا الجرم النير ربي و هو أكبر. 

  • و فيه أنه لا ريب في صحة الاستعمال بهذا التأويل لكن الشأن في النكتة التي تصحح هذا التأويل، و لا يجوز ذلك من غير نكتة مسوغة، و لو جاز ذلك في اللغة من غير اعتماد على نكتة لجاز تذكير كل مؤنث قياسي و سماعي في إرجاع الضمير و الإشارة إليه بتأويل الشخص و نحوه و في ذلك نسخ اللغة قطعا. 

  • و منهم من قال: إنه من قبيل إتباع المبتدإ للخبر في تذكيره فإن الرب و أكبر مذكران فأتبع اسم الإشارة للخبر المذكر كما عكس في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا} (الآية) فأتبع المذكر للمؤنث. 

  • و فيه أنهم كانوا يرون من الآلهة إناثا كما يثبتون ذكورا و يسمون الأنثى من الآلهة إلهة و ربة و بنت الله و زوجة الرب فكان من الواجب أن يطلق على الشمس ربة لمكان التأنيث، و أن يقال: هذه ربتي أو آلهتي، فالكلام في تذكير الخبر في قوله: {هَذَا رَبِّي} كالكلام في تذكير المبتدإ، و لا معنى حينئذ لحديث الإتباع. 

تفسير الميزان ج۷

181
  • و كذا قوله: {هَذَا أَكْبَرُ} الخبر فيه من صيغ التفضيل و حكم صيغة التفضيل إذا وقعت خبرا أن يجاء بأفعل و يستوي فيه المذكر و المؤنث يقال زيد أفضل من عمر و ليلى أجمل من سلمى، و ما هذا شأنه لا نسلم أنه من صيغ المذكر الذي يجري فيه الإتباع. 

  • و منهم من قال: إن تذكير الإشارة إنما هو لتعظيم الشمس حيث نسب إليها الربوبية صونا للإله عن وصمة التأنث. 

  • و فيه: أنهم كانوا يعدون الأنوثية من النواقص التي يجب أن ينزه عنها الإله و قد كان لأهل بابل أنفسهم آلهة أنثى كالإلهة «نينو» إلهة الأمهات الخالفة، و الإلهة «نين كاراشا» ابنة الإله «آنو» و الإلهة «مالكات» زوجة الإله «شاماش» و الإلهة «زاربانيت» إلهة الرضاع، و الإلهة «آنوناكي». و كانت طائفة من مشركي العرب تعبد الملائكة و تعدهم بنات الله، و قد رووا في تفسير قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً}(النساء: ١١٧) أنهم كانوا يسمون آلهتهم إناثا، و كانوا يقولون: أنثى بني فلان يعنون به الصنم الذي يعبدونه. 

  • و منهم من قال: إن قوم إبراهيم (عليه السلام) كانوا يعدون الشمس من الذكور و قد أثبتوا لها زوجة يسمونها «أنونيت» فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم. 

  • و فيه: أن اعتقادهم بكون الشمس ذكرا لا يصحح تبديل تأنيث لفظها تذكيرا. 

  • على أن قوله (عليه السلام) للملك: {فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ} (البقرة: ٢٥٨) و هو يريد الشمس ينافي ذلك. 

  • و منهم من قال: إن إبراهيم (عليه السلام) كان يتكلم باللغة السريانية و هي لغة قومه، و لا يفرق فيها في الضمائر و أسماء الإشارة بالتذكير و التأنيث بل الجميع على صفة التذكير، و قد احتفظ القرآن الكريم في حكاية قوله على ما أتى به من التذكير. 

  • و فيه: منع جواز ذلك فإنه أمر راجع إلى أحكام الألفاظ المختلفة باختلاف اللغات بل إنما يجوز ذلك فيما يرجع إلى المعنى الذي لا يؤثر في الخصوصية اللفظية، على أنه تعالى حكى عن إبراهيم (عليه السلام) احتجاجات كثيرة و أدعية وافرة في القرآن و فيها موارد كثيرة اعتبر فيها التأنيث فما بال هذا المورد اختص من بينها بإلغاء جهة التأنيث؟ حتى أن قوله فيما يحاج به ملك بابل: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قَالَ أَنَا 

تفسير الميزان ج۷

182
  • أُحْيِي وَ أُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اَللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ} (البقرة: ٢٥٨) و يتضمن ذكر الشمس و تأنيث الضمير العائد إليها. 

  • و من عجيب ما أورد على هذا الوجه ما ذكره بعض المفسرين و أصر عليه: أن إبراهيم (عليه السلام) و كذا إسماعيل و هاجر كانوا يتكلمون باللغة العربية القديمة، و أنها كانت لغة قومه، قال ما ملخصه: إنه ثبت عند علماء الآثار القديمة، أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان و مصر و غلبت لغتهم فيهما، و صرح بعضهم بأن الملك حموربي الذي كان معاصرا لإبراهيم (عليه السلام) عربي و حموربي هذا ملك البر و السلام و وصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي، و ذكر فيه أنه بارك إبراهيم، و أن إبراهيم أعطاه العشرة من كل شي‌ء، قال: و من المعروف في كتب الحديث و التاريخ العربي أن إبراهيم أسكن إسماعيل ابنه (عليه السلام) مع أمه هاجر المصرية في الواد الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك، و أن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك، و أن إبراهيم (عليه السلام) كان يزورهما، و أنه هو و ولده إسماعيل بنيا بيت الله الحرام و نشرا دين الإسلام في البلاد العربية، و في الحديث: أن إبراهيم (عليه السلام) جاء مكة ليزور ابنه و قد خرج إلى الصيد - فكلم زوجته و كانت جرهمية فلم يرتض أمرها ثم جاءها بعد مدة ليزوره فلم يجده فكلم زوجته الأخرى فدعته إلى النزول و غسل رأسه فارتضى أمرها و دعا لها، و كل ذلك يدل على أنه كان يتكلم بالعربية، هذا ملخص ما ذكره. 

  • و فيه: أن مجاورة عرب الجزيرة مصر و كلدان و اختلاطهم بهم أو استعمارهم و استيلاؤهم عليهم لا يوجب تبدل لغاتهم إلى العربية، و قد كانت لغة مصر قبطية و لغة كلدان و الآشوريين سريانية، نعم ربما أوجب ذلك دخول أسماء و ألفاظ من لغة بعضهم في لغة بعض كما يوجد في القرآن الكريم أمثال القسطاس و الإستبرق و غيرهما و هي من الدخيل. 

  • و أما ما ذكره من أمر حموربي و معاصرته لإبراهيم (عليه السلام) فلا يطابق ما هو الصحيح من تاريخه و يؤيده الآثار المكشوفة من خرائب بابل و النصب المستخرجة التي كتبت فيها شريعته التي وضعها و أجراها في مملكته و هي أقدم القوانين المدونة في العالم على ما بلغنا، و قد ذكر بعضهم أن أيام ملكه كانت بين (١٧٢٨) ق م و (١٦٨٦) ق 

تفسير الميزان ج۷

183
  • م، و ذكر آخرون: أنه تملك بابل سنة (٢٢٨٧-٢٢٣٢) ق م۱ و كان إبراهيم (عليه السلام) يعيش في حدود سنة (٢٠٠٠) ق م، و حموربي هذا وثني، و قد استمد فيما وجد من كلامه المنقوش في ذيل شريعته المنقوشة على النصب بعده من الآلهة لبقاء شريعته و عمل الناس بها و تدمير من أراد نسخها أو مخالفتها٢ 

  • و أما ما ذكره من حديث إسكانه ابنه و أم ولده بتهامة و بناء بيت الله الحرام و نشر دين الله و تفاهمه مع العرب فشي‌ء من ذلك لا يدل على كونه (عليه السلام) متكلما باللغة العربية و هو ظاهر. 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قوله: {فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً} إلخ - كما سمعت - يدل على اتصال ما بعد {فَلَمَّا} بما قبله و هو قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ} فهو يدل على أن القمر قد كان غرب حينما رأى (عليه السلام) الشمس بازغة، و هذا إنما يكون في الخريف أو الشتاء في العرض الشمالي الذي كانت فيه بلاد كلدان حين يطول الليالي و خاصة إذا كان القمر في شي‌ء من البروج الجنوبية كالقوس و الجدي فعند ذلك يجيز الوضع السماوي أن يغرب القمر في النصف الأخير من الشهر القمري قبل طلوع الشمس، و قد تقدم سابقا في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى اَلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} أن ظاهر الكلام المؤيد بالاعتبار يدل على أن الليلة كانت من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري، و كان الكوكب هي الزهرة، شاهدها أولا في المغرب حال الانحطاط ثم شاهد غروبها و طلوع القمر من ناحية المشرق. 

  • فيتحصل من الآيات أن إبراهيم (عليه السلام) حاج قومه في أمر الأصنام يوم حاجهم و اشتغل بهم يومه ذلك حتى جن عليه الليل فلما جن عليه الليل رأى الزهرة و قوم يعبدونها فجاراهم في ربوبيتها و أخذ ينتظر ما يحل بها من حال حتى أفلت بعد سويعات فحاجهم 

    1. سيأتي ذكر الاختلاف في تعيين عهد ملكه في ذيل ما ننقله من التوراة من قصص إبراهيم عليه السلام.
    2. راجع في ذلك كتاب شريعة حموربي» تأليف صاحب الفضيلة الدكتور عبد الرحمن الكيالي و سائر ما ألف في هذا الشأن. 

تفسير الميزان ج۷

184
  • به و تبرأ من ربوبيتها، ثم رأى القمر بازغا و هناك قوم يعبدونه فجاراهم في ربوبيته بقوله: {هَذَا رَبِّي} و أخذ يراقب ما يحدث به حتى أفل، و كانت الليلة من الليالي الطوال في النصف الثاني من الشهر القمري و لعل القمر كان يسير في قوس قصير من أقواس المدارات الجنوبية فلما أفل تبرأ من ربوبيته، و أخذ يستهدي ربه و يستعيذ به من الضلال حتى طلعت الشمس فرآها بازغة و أكبر بالنسبة إلى ما تقدمها من الكوكب و القمر فعاد كذلك إلى مجاراتهم في ربوبيتها مع ما لاح له من بطلان ربوبية الكوكب و القمر و هما مثلها في كونها جرما سماويا نيرا لكنه اتخذ كونها أكبر منها عذرا يعتذر به فيما يفترضه أو يسلمه من ربوبيتها فقال: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} و أخذ ينتظر مستقبل الأمر حتى أفلت فتبرأ من ربوبيتها و شرك قومه فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ثم أثبت الربوبية لله سبحانه كما كان يثبت الألوهية بمعنى إيجاد السماوات و الأرض و فطرها له تعالى فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} و هو العبودية قبال الربوبية {لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً} غير منحرف من حاق الوسط إلى يمين أو يسار {وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}بإشراك شي‌ء من خلقه و مفطوراته له تعالى في العبادة و الإسلام . 

  • و قد تقدم أن قوله تعالى في ضمن الآيات محفوفا بها: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} يدل على أنه (عليه السلام) إنما كان يأخذ ما يلقيه من الحجة على أبيه و قومه مما كان يشاهده من ملكوت السماوات و الأرض، و قد أفاض الله سبحانه اليقين الذي ذكره غاية لإراءته الملكوت على قلبه بهذه المشاهدة و الرؤية. 

  • و هذا أوضح شاهد على أن الذي ذكره (عليه السلام) من الحجة كانت حجة برهانية ترتضع من ثدي اليقين، و قد أورد في ذلك قوله: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} و تقدمت الإشارة إلى تقريره. 

  • فتبين من جميع ما تقدم: 

  • أولا: أن قوله (عليه السلام): {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} حجة برهانية يقينية بني الكلام فيه على عدم حبه للآفلين، و منافاة الأفول للربوبية، و يظهر من كلام بعضهم أنه يأخذه حجة عامية غير برهانية إذ يقول: و الصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا لا برهانا نظريا جليا يعرض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يتحجب عنهم، و لا 

تفسير الميزان ج۷

185
  • يدري شيئا من أمر عبادتهم، و هذا هو السبب في جعله الأفول منافيا للربوبية دون البزوغ و الظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا و إن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه، هذا. 

  • و قد خفي عليه أولا: أن وضع قوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} بين الآيات المتضمنة لحججه (علیهم السلام) أدل دليل على كون حججه مأخوذة من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله و آياته و كيف يتصور مع ذلك كونها حجة عامية غير برهانية. 

  • و خفي عليه ثانيا أن الحجة بنيت على الحب و عدمه لا على الأفول مضافا إلى أن البناء على الأفول أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو (عليه السلام) إنما ذكر سبب براءته من ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربة و هو لا يحب الآفلين فلا يعبدها، و من المعلوم أن عبادة الإنسان لربه إنما هي لأنه رب أي لأنه يدبر أمر الإنسان فيفيض عليه الحياة و الرزق و الصحة و الخصب و الأمن و القدرة و العلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق الوجود بربه من كل جهة، و من فطريات الإنسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه و أن يحب من يسعده بذلك لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لأن الإنسان يحبه لجلبه المنافع إليه أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا. 

  • و من فطريات الإنسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص أو شبق أو نحوهما نظره إلى جهة اللذة و يصرفه عن التأمل و الإمعان في جهة فنائه و زواله، و قد استعمل القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا، و ردع الناس عن التعلق المفرط بزينتها و الانهماك في شهواتها كقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ اَلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ اَلنَّاسُ وَ اَلْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس: ٢٤) و قوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} (النحل: ٩٦) و قوله: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى} (الشورى: ٣٦). 

  • فهو (عليه السلام) يفيد بقوله: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} أن الذي من شأنه أن يفقده الإنسان و يغيب عنه و لا يبقى و لا يثبت له لا يستحق أن يحبه الإنسان و تتعلق به نفسه، و الرب 

تفسير الميزان ج۷

186
  • الذي يعبده الإنسان يجب أن يحبه فيجب أن لا يكون من شأنه أن يأفل عنه و يفقد فهذه الأجرام الآفلة لا تستحق اسم الربوبية، و هذه - كما ترى حجة يعرفها العامة و الخاصة. 

  • و قد خلط ثالثا بين البزوغ و الظهور فحكم أنه غير مناف للربوبية بل القول مبني عليه فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا إلى آخر ما قال فإن الذي ذكر في الآية - و لم يبن الحجة عليه - هو البزوغ و هو الطلوع و الظهور بعد خفاء المنافي للربوبية فيبقى السؤال: لم بنى الكلام على الأفول دون البزوغ؟ على حاله. 

  • و ثانيا: أن أخذ الأفول في الحجة دون البزوغ إنما هو لأن البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذي بنى الحجة عليه بخلاف الأفول، و بذلك يظهر ما في قول الكشاف في وجه العدول، قال: «فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ و كلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء و احتجاب» انتهى. فإن الاحتجاج كما عرفت إنما هو بعدم تعلق الحب لا بالأفول حتى يوجه العدول إليه من البزوغ بما ذكره. 

  • و ثالثا: أن الاحتجاج إنما أريد به نفي ربوبية الأجرام الثلاثة بمعنى تدبيرها للعالم الأرضي أو العالم الإنساني لا الربوبية بمعنى المقام الذي ينتهي إليه الإيجاد و التدبير جميعا فإن الوثنية و عبدة الكواكب لا ينكرون أن آلهتهم ليست أربابا بهذا المعنى، و أنه الله الواحد لا شريك له. 

  • و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن الأفول إنما أخذ مبدأ للبرهان لأنه يستلزم الإمكان، و كل ممكن محتاج يجب أن يقف سلسلة حاجته عند موجود واجب الوجود، و كذا ما في قول آخرين: إن الأفول إنما ينفي الربوبية عن المتصف به لأنه حركة، و لا بد لكل حركة من محرك، و ينتهي لا محالة إلى محرك غير متحرك و ثابت غير متغير بذاته و هو الله عز اسمه. 

  • و ذلك أنهما و إن كانا حجتين برهانيتين غير أنهما تنفيان عن الممكنات و عن المتحركات الربوبية بمعنى العلية الأولى التي ينتهي إليها جميع العلل، و سببية الإيجاد و التدبير التي يقف عندها جميع الأسباب، و عبدة الكواكب من الصابئين و غيرهم و إن 

تفسير الميزان ج۷

187
  • ذهبوا إلى أن كل جرم سماوي قديم زماني غير قابل للكون و الفساد متحرك بحركة دائمة غير أنهم لا ينكرون أن جميعها معلولة لإمكانها غير مستغنية لا في وجودها و لا في آثار وجودها عن الواجب عز اسمه. 

  • فالحجتان إنما هما قائمتان على منكري وجود الصانع من الطبيعيين لا الصابئين و عبدة أرباب الأنواع و غيرهم من الوثنيين، و إبراهيم (عليه السلام) إنما كان يحاج هؤلاء دون أولئك. 

  • على أنك عرفت أن الحجة لم تركب من جهة الأفول بل من جهة عدم تعلق الحب بشي‌ء من شأنه الأفول و الغروب. 

  • و أما من دفع ما ذكروه من تقرير الحجة من جهة الإمكان أو الحركة بأن تفسير الأفول بذلك تفسير للشي‌ء بما يباينه فإن العرب لا يعرفون الأفول بمعنى الإمكان أو الحدوث و كذلك تفسير الأفول بالتغير و الحركة غلط كسابقه. 

  • فقد خفي عليه أن هؤلاء لا يقولون: إن الأفول في الآية بمعنى الإمكان أو بمعنى الحركة، و إنما يقولون: إن الأفول إنما احتج به لاستلزامه الإمكان أو الحركة و التغير، و أما الأفول بمعنى الغيبة بعد الحضور و الخفاء بعد الظهور مع قطع النظر عن استلزامه الإمكان أو التغير غير اللائقين بساحة الواجب جل ثناؤه فليس ينافي الربوبية كما اعترف به هذا المورد نفسه. 

  • و ذلك أن الواجب تعالى أيضا غائب عن مشاعرنا من غير أن يتحول عليه الحال و يطرأ عليه التغير بالغيبة بعد الحضور و الخفاء بعد الظهور، و لا ينفع القول بأن الغيبة و الخفاء فيه تعالى من جهتنا لا من جهته و لاشتغالنا بما يصرفنا عنه لا لمحدودية وجوده و قصور استيلائه فإن غيبة هذه الأجرام السماوية و خاصة الشمس بالحركة اليومية أيضا من قبلنا حيث أنا أجزاء من الأرض التي تتحرك بحركتها اليومية فتحولنا بها من مسامتة هذه الأجرام و مواجهتها إلى خلاف ذلك فنغرب عنها في الحقيقة بعد طلوعنا عليها و إن كان الخطأ الحسي يخيل لنا غيره. 

  • و قد أراد الرازي أن يجمع بين الوجوه جميعا فقال في تفسيره ما نصه: الأفول عبارة عن غيبوبة الشي‌ء بعد ظهوره و إذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول: الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة، و على هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا 

تفسير الميزان ج۷

188
  • على الحدوث فلم ترك إبراهيم (عليه السلام) الاستدلال على حدوثها بالطوع و عول في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟. 

  • و الجواب: لا شك أن الطلوع و الغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد و أن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي و الغبي و العاقل، و دلالة الحركة على الحدوث و إن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق، أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم. 

  • و أيضا قال بعض المحققين: الهوي في خطرة الإمكان أفول و أحسن الكلام ما تحصل فيه حصة الخواص و حصة الأوساط و حصة العوام: فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان و كل ممكن محتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: {وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى}

  • و أما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث، و كل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي يحتاج إليه ذلك الآفل. 

  • و أما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، و هم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول و الغروب فإنه يزول نوره، و ينتقص ضوؤه، و يذهب سلطانه، و يكون كالمعزول، و من يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} كلمة مشتملة على نصيب المقربين و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل و أفضل البراهين. 

  • و فيه دقيقة أخرى، و هو أنه (عليه السلام) إنما كان يناظرهم و هم كانوا منجمين، و مذهب أصحاب النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي و يكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير، أما إذا كان غربيا و قريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز و كماله إلى النقصان، و مذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص 

تفسير الميزان ج۷

189
  • التأثير عاجز عن التدبير، و ذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته» انتهى موضع الحاجة من كلامه على طوله. 

  • و أنت بالتأمل في ما تقدم تقف على أن ما تفنن به من تقسيم البرهان إلى حصص مختلفة باختلاف النفوس، و تقريره بوجوه شتى لا لفظ الآية يدل عليه، و لا شبهة الصابئين و أصحاب النجوم تندفع به فإنهم لا يرون الجرم السماوي إلها واجب الوجود غير متناهي القدرة ذا قوة مطلقة، و إنما يرونه ممكنا معلولا ذا حركة دائمة يدبر بحركته ما دونه من العالم الأرضي، و شي‌ء مما ذكره من الوجوه لا يدفع هذه النظرية، و كأنه تنبه لهذا الإشكال بعد كلامه المنقول آنفا فبسط في الكلام و أطنب في الخروج من العويصة بما لا يجدي شيئا. 

  • على أن الحجة الثانية على ما قرره حجة غير تامة فإن الحركة إنما تدل على حدوث المتحرك من حيث وصفه و هو التحرك لا من حيث ذاته، و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله، و المصير إلى ما قدمناه في تقرير الحجة من جهة الحركة. 

  • و رابعا: أن إبراهيم (عليه السلام) إنما ساق هذه الحجج بحسب ما كان الله سبحانه يريه ملكوت السماوات و الأرض، و بحسب ما يسمح له جريان محاجته أباه و قومه آخذا بالمحسوس المعاين إما لأنه لم يكن رأى تفصيل الحوادث السماوية و الأرضية اليومية كما تقدمت الإشارة إليه أو لأنه أراد أن يحاجهم بما تحت حسهم فأورد قوله: {هَذَا رَبِّي} لما شاهد شيئا من الأجرام الثلاثة لامعا بازغا، و أورد قوله: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} أو ما في معناه لما شاهد أفولها. 

  • و بذلك يظهر الجواب عما يمكن أن يقال: إن قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} يدل على أنه (عليه السلام) كان في النهار المتصل بذلك الليل شاهد قومه فما باله لم يذكر الشمس لينفي ربوبيتها. 

  • فإن من المحتمل أن يكون قد خرج إلى قومه للمحاجة و الوقت لا يسع أزيد مما حاج به أباه و قومه في أمر الأصنام فكان يحاجهم طول النهار أو مدة ما أدركه من النهار عند قومه حتى إذا تمم الحجاج لم يلبث دون أن جن عليه الليل، و هناك محتملات أخر 

تفسير الميزان ج۷

190
  • كغيم في الهواء أو حضور قومه للصلوات و القرابين في أول الطلوع فحسب و قد كان يريد أن يواجههم فيما يلقيه إليهم. 

  • و خامسا: أن الآيات كما قيل تدل على أن الهداية من الله سبحانه و أما الإضلال فلم ينسب إليه تعالى في هذه الآيات بل دل قوله: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ} بعض الدلالة على أن من شأن الإنسان بحسب ما يقتضيه نقص نفسه أن يتصف بالضلال لو لم يهده ربه، و هو الذي يستفاد من قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} (النور: ٢١) و قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (القصص: ٥٦) إلى غير ذلك من الآيات. 

  • نعم هناك آيات تنسب إليه تعالى الإضلال لكن أمثال قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦) تبين أن الضلال المنسوب إليه تعالى هو الإضلال الواقع بحسب المجازاة دون الإضلال الابتدائي، و قد تقدم البحث في تفسير الآية في الجزء الأول من هذا الكتاب. 

  • و سادسا: أنه (عليه السلام) أخذ في حجته لإبطال ربوبية الأجرام الثلاثة أنه لا يحب الآفل لأفوله و هو أن يفقده الإنسان بعد أن يجده فهو الوصف الذي لا يتعلق به الحب المسوغ للعبادة، و إذ كان ذلك وصفا مطردا في جميع الجسمانيات التي تسير إلى الزوال و الفوت و الهلاك و البيد كانت الحجة قاطعة على كل شرك و وثنية حتى على ما يظهر من بعض الوثنيين من القول بألوهية أرباب الأنواع و الموجودات النورية التي يذعنون بوجودها و أنها فوق المادة و الطبيعة متعالية عن الجسمية و الحركة فإنهم يصرحون بأنها على ما لها من صفاء الجوهر و شرف الوجود مستهلكة تجاه النور القيومي، مستذلة تحت القهر الأحدي، و إذ كان هذه صفة ما يدعونه فلو توجه تلقاءها حب لم يتعلق إلا بمن يدبر أمرها و يصلح شأنها لا بها. 

  • قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} إلى آخر الآية. ذكر الراغب في المفردات: أن أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا قال: {هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} أي اختلال و وهي فيه، و ذلك قد يكون على سبيل الفساد، و قد يكون على سبيل الصلاح قال: السماء منفطر به كان وعده مفعولا. 

  • و فطرت الشاة حلبتها بإصبعين، و فطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، و منه 

تفسير الميزان ج۷

191
  • الفطرة، و فطر الله الخلق و هو إيجاده الشي‌ء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع و ركز في الناس من معرفته تعالى، و فطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ}، انتهى. و ذكر أيضا: أن الحنف‌ هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة و الجنف‌ ميل عن الاستقامة إلى الضلال قال: و سمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم (عليه السلام) و الأحنف‌ من في رجله ميل، قيل: سمي بذلك على التفاؤل و قيل: بل أستعير للميل المجرد، انتهى. 

  • لما تبرأ (عليه السلام) من شركهم و شركائهم بقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ} إلخ، و قد سلك إليه تدريجا بإظهار عدم تعلق قلبه بالشريك حيث قال: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} ثم الإيماء إلى كون عبادة الشريك ضلالا حيث قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ} ثم التبري الصريح من ذلك بقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} رجع إلى توحيده التام في الربوبية، و هو إثبات الربوبية و المعبودية للذي فطر السماوات و الأرض، و نفي الشرك عن نفسه فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً}

  • فتوجيه الوجه كناية عن الإقبال إلى الله سبحانه بالعبادة فإن لازم العبودية و المربوبية أن يتعلق العبد المربوب بربه في قوته و إرادته، و يدعوه و يرجع إليه في جميع أعماله، و لا يكون دعاء و لا رجوع إلا بتوجيه الوجه و الإقبال إليه فكنى بتوجيه الوجه عن العبادة التي هي دعاء و رجوع. 

  • و ذكر ربه و هو الله سبحانه الذي وجه وجهه إليه، بنعته الذي يخصه بلا نزاع فيه و هو فطر السماوات و الأرض، و جاء بالموصول و الصلة ليدل على العهد فلا يشتبه الأمر على أحد منهم فقال: {لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} أي إني أقبلت بعبادتي على من ينتهي إليه إيجاد كل شي‌ء و إبداعه، و هو الذي يثبته و يثبتونه فوق الجميع. 

  • ثم نفى غيره مما يدعونه شريكا بقوله: {حَنِيفاً} أي مائلا إليه عن غيره نافيا للشريك عنه، و أكده بقوله: {وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} فأفاد مجموع قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ} إلخ، إثبات المعبودية لله تعالى و نفي الشريك عنه قريبا مما تفيده الكلمة الطيبة: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ}

تفسير الميزان ج۷

192
  • و اللام في قوله: {لِلَّذِي} للغاية و تفيد معنى إلى، و كثيرا ما تستعمل في الغاية اللام كما تستعمل «إلى» قال: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} (البقرة: ١١) {وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللَّهِ} (لقمان: ٢٢). 

  • و في تخصيص فطر السماوات و الأرض من بين صفاته تعالى الخاصة و كذا من بين الألفاظ الدالة على الخلقة كالباري و الخالق و البديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم (عليه السلام) من دين الفطرة و قد كرر توصيف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف و دين الفطرة أي الدين الذي بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الإنسان و نوع وجوده الذي لا يقبل التبدل و التغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية و السعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشي‌ء حسب تركب وجوده و تجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيا، و حاشا أن يسعد الإنسان أو أي شي‌ء آخر من الخليقة بأمر و لم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذي أو النكاح أو ترك المعاشرة و الاجتماع و قد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك و لم يجهز بما يوافقه. 

  • فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة و حاشا ساحة الربوبية أن يهدي الإنسان أو أي مخلوق آخر مكلف بالدين إن كان إلى غاية سعيدة مسعدة و لا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الإسلام و هو الخضوع لله بحسب ما يهدي إليه و يدل عليه صنعه و إيجاده. 

  • قوله تعالى: {وَ حَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَ تُحَاجُّونِّي فِي اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ}. قسم تعالى حججه(عليهم السلام) إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاج الناس، و ثانيهما ما بدأ به الناس فكلموه به بعد ما تبرأ من آلهتهم، و هذا الذي تعرض له في الآية و ما بعده هو القسم الثاني. 

  • لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجة لكنه لوح إليه بقوله حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): {وَ لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف و قد تقدم و سيجي‌ء أن الذي بعثهم إلى اتخاذ الآلهة و عبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها و قهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضي، أو رجاء البركة و السعادة 

تفسير الميزان ج۷

193
  • منها، و أشد الأمرين تأثيرا في نفوسهم هو الأمر الأول أعني الخوف و ذلك أن الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة و السعادة المادية ملك أنفسهم إما مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال و اكتساب المقام و الجاه أو مما ملكهم إياه الجد الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالا من مورثه أو صادف كنزا فتملكه أو ساد قومه برئاسة أبيه. 

  • فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبودية حتى أن المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل الإلهي يتأثرون من الوعد و البشارة أقل مما يتأثرون من الوعيد و الإنذار، و لذلك بعينه نرى أن القرآن يذكر الإنذار من وظائف الأنبياء أكثر من ذكر التبشير، و كلا الأمرين من وظائفهم و الطرق التي يستعملونها في الدعوة الدينية. 

  • و بالجملة اختار قوم إبراهيم (عليه السلام) في محاجتهم إياه عند ما كلموه في أمر الآلهة سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الآلهة و سخطها و وعظوه بسلوك سبيلهم و لزوم طريقهم في التقرب بالآلهة و رفض القول بربوبية الله سبحانه، و إثباته في المقام الذي أثبتوه فيه و هو أنه الذي ينتهي إليه الكل فحسب. 

  • و لما وجد (عليه السلام) كلامهم ينحل إلى جزءين: الردع عن القول بربوبية الله سبحانه و التحريض على القول بربوبية آلهتهم احتج عليهم من الجهتين جميعا لكن لا غنى للجهة الأولى عن الثانية كما سيجي‌ء. 

  • و ما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله: {أَ تُحَاجُّونِّي فِي اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ} أي إني واقع في أمر مفروغ عنه و مهتد بهداية ربي حيث آتاني العلم بما أراني من ملكوت السماوات و الأرض و ألهمني بذلك حجة أنفي بها ربوبية غيره من الأصنام و الكواكب، و إني لا أستغني عن رب يدبر أمري فأنتج لي أنه هو الرب وحده لا شريك له، و إذ هداني إليه فأنا في غنى عن الإصغاء إلى حجتكم و البحث عن الربوبية ثانيا فإن البحث إنما ينفع الطالب و لا طلب بعد الوصول إلى الغاية. 

  • هذا ما يعطيه ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكن هناك معنى أدق من ذلك يظهر بالتدبر و هو أن قوله: {وَ قَدْ هَدَانِ} استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن 

تفسير الميزان ج۷

194
  • الاستدلال و تقريره أن الله هداني بما علمني من الحجة على نفي ربوبية، غيره و إثبات ربوبيته و نفس هدايته دليل على أنه رب و لا رب غيره فإن الهداية إلى الرب من جملة التدبير فهي شأن من هو رب، و لو لم يكن الله سبحانه هو ربي لم يكن ليهديني و لأقام بها إلى الذي هو الرب لكن الله هو هداني فهو ربي. 

  • و لم يكن لهم أن يقولوا: إن الذي علمك ما علمت و ألهمك الحجة هو بعض آلهتنا لأن الشي‌ء لا يهدي إلى ما يضره و يميت ذكره و يفسد أمره فاهتداؤه (عليه السلام) إلى نفي ربوبيتها لا يصح أن ينسب إليها، هذا. 

  • و لكن كان لهم أن يقولوا أو أنهم قالوا: إن ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهرا و سخطا أبعدك عن القول بربوبيتها و لقنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك و علة نفسك نظير ما شافهت به عاد هودا (عليه السلام) لما دعاهم إلى توحيد الله سبحانه و احتج عليهم بأن الله هو الذي يجب أن يرجى و يخاف، و أن آلهتهم لا تنفع و لا تضر فردوا عليه بأن بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصتهم حكاية عن هود (عليه السلام): {وَ يَا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قَالُوا يَا هُودُ}- -إلى أن قال- - {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللَّهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ} (هود: ٥٥). 

  • فقوله (عليه السلام): {وَ لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} إلخ، ينفي هذه الشبهة و كما أنه ينفي هذه الشبهة فإنه حجة تامة تنفي ربوبية شركائهم. 

  • و محصله: أنكم تدعونني إلى القول بربوبية شركائكم و رفض القول بربوبية ربي بما تخافونني من أن تمسني شركاؤكم بسوء، و ترهبونني بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به، و إني لا أخاف ما تشركون به لأنها جميعا مخلوقات مدبرة لا تملك نفعا و لا ضرا و إذ لم أخفها سقطت حجتكم و ارتفعت شبهتكم. 

  • و لو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لأنها لا تقدر على شي‌ء بل كان من صنع ربي و كان هو الذي شاء أن أخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلا آخر على ربوبيته و آية أخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له 

تفسير الميزان ج۷

195
  • لا دليلا على ربوبية شركائكم و حجة توجب عبادتها. 

  • و الدليل على أن ذلك من ربي أنه وسع كل شي‌ء علما فهو يعلم كل ما يحدث و يجري من خير و شر في مملكته التي أوجدها لغايات صحيحة متقنة، و كيف يمكن أن يعلم في ملكه بشي‌ء ينفع أو يضر فيسكت و لا يستقبله بأحد أمرين: إما المنع أو الإذن ؟

  • فلو حصل في نفسي شي‌ء من الخوف لكان بمشية من الله و إذن على ما يليق بساحة قدسه، و كان ذلك من التدبير الدال على ربوبيته و نفي ربوبية غيره أ فلا تتذكرون و ترجعون إلى ما تدركونه بعقولكم و تهدي إليه فطرتكم. 

  • فهذا وجه في تقرير الحجة المودعة في قوله: {وَ لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} و على ذلك فقوله: {وَ لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} كالمتمم للحجة في قوله: {أَ تُحَاجُّونِّي فِي اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ}و هو مع ذلك حجة تامة في نفسه لإبطال ربوبية شركائهم بعدم الخوف منها، و قوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} كالكلام في الحجة على تقدير التسليم أي تحتجون على وجوب عبادتها بالخوف و لا خوف في نفسي، و لو فرض خوف لكان دليلا على ربوبية ربي لا على ربوبية شركائكم فإنه عن مشية من ربي، و قوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً} بيان و تعليل لكون الخوف المفروض مستندا إلى مشية ربه فإن فاطر السماوات و الأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلا بإذن منه فهو الذي يدبر أمره و يقوم بربوبيته، و قوله: {أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} استفهام توبيخي و إشارة إلى أن الحجة فطرية، هذا. 

  • و للمفسرين في الآية أقوال: 

  • أما قوله تعالى: {قَالَ أَ تُحَاجُّونِّي فِي اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانِ} فقد أورد أكثرهم فيه الوجه الأول من الوجهين اللذين قدمناهما، و محصله أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غني عن المحاجة في ذلك فإن الله هداه و لا حاجة معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام المحاجة و لازمه أن كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج. 

  • و أما قوله تعالى: {لاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} فقد ذكروا في الصدر قريبا مما قدمناه، و أما الاستثناء فقيل: معناه إلا أن يغلب ربي هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها و يقدرها فتضر و تنفع فيكون ضررها و نفعها إذ ذاك دليلا 

تفسير الميزان ج۷

196
  • على حدوثها و على توحيد الله سبحانه، و بعبارة أخرى: المعنى أني لا أخافها في حال من الحالات إلا أن يشاء ربي أن تحيا هؤلاء الشركاء فتضر و تنفع فأخافها و إذ ذاك كانت الربوبية لله و تبين حدوث شركائكم. 

  • و هذا الوجه و إن كان قريبا مما قدمناه بوجه لكن نسبة النفع و الضر إلى الشركاء لو كانت أحياء - مع أن بعضها أحياء عندهم كالملائكة و أرباب الأنواع و بعضها يضر و ينفع بحسب ظاهر النسبة كالشمس - تخالف التعليم الإلهي في كتابه فإن القرآن يصرح أن لا يملك نفعا و لا ضررا إلا الله سبحانه. 

  • و كذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضر أهل الأوثان فإنهم كما عرفت لا ينكرون كون الأصنام و لا أربابها معلولة لله مخلوقة له، و القول بالقدم الزماني في بعضها لا ينافي إمكانها و لا معلوليتها عندهم. 

  • و قيل: إن معنى الاستثناء أني لا أخاف شركاءكم و أستثني من عموم الخوف في الأوقات أن يشاء ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداء، و بعبارة أخرى الجملة استثناء من معنى أعم مما يدل عليه الجملة السابقة فقد دل قوله: {وَ لاَ أَخَافُ} إلخ، على نفي الخوف من شركائهم، و قوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ} إلخ، استثناء من كل خوف فالتقدير: لا أخاف ما تشركون به و لا شيئا آخر إلا من أن يشاء ربي شيئا أكرهه ابتداء أو جزاء فإني أخافه، و وجه التعسف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان. 

  • و أما قوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً} فقد قيل. إنه ثناء منه (عليه السلام) لربه بعد إتمام الحجة. 

  • و قيل: إنه تعريض بأصنامهم حيث إنها لا تعلم شيئا و لا تشعر، و يرد عليه أن التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى العلم؟ و الإشكال جار في الوجه السابق. 

  • و قيل: إنه لما استثنى ما يشاؤه ربه مما يقع عليه من المكاره بين بقوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً} أنه تعالى علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح و الخير و الحكمة. و فيه أن الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم و لا أقل من أن يذكر الحكمة مع العلم كما في أغلب الموارد. 

تفسير الميزان ج۷

197
  • و قيل: إنه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء تكون سببه الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجه أو تؤثر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله، و فيه أن التمسك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم. 

  • و قيل: معناه أن علم ربي وسع كل شي‌ء و أحاط به و مشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم و قدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن أن يكون لشي‌ء من المخلوقات التي تعبدونها و لا لغيرها تأثير ما في صفاته، و لا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة و لا غيرها و إنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شي‌ء فيعلمه الشفعاء و الوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع أو العطاء أو المنع. 

  • قال هذا القائل: أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل قوله: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}. قال: و هذا أرجح الوجوه، و هو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، انتهى ملخصا. 

  • و محصله أن قوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً} بيان و تعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة و غيرها كأنه قال: لا أخاف ضر شي‌ء من آلهتكم و غيرها من المخلوقات فإن ربي يعلم كل شي‌ء فيتمه بمشيئته و ينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتى يكون لها تأثير في أفعاله تعالى و شفاعة. 

  • و أنت تعلم أن نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة و المشيئة - و المشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل - فما ذا تنفع سعة العلم لو لم يكن لقدرته و مشيئته إطلاق، و الشاهد عليه نفس كلامه الذي قرر فيه الوجه بالعلم و المشيئة و القدرة جميعا. 

  • و بالجملة هذا الوجه لا يتم بسعة العلم وحدها و إنما يتم بها و بإطلاق القدرة و المشيئة، و قد ذكرت في الآية سعة العلم وحدها. 

  • و أما ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لإثبات الشفاعة بمعنى التوسط في السببية بإذن من الله سبحانه لا أنها تنفيها كما خيل إليه فزعم أنه 

تفسير الميزان ج۷

198
  • يفسر القرآن، بالقرآن و كيف لا؟ و الطمع في ارتفاع الأسباب عن العالم المشهود طمع فيما لا مطمع فيه، و القرآن الكريم من أوله إلى آخره يتكلم عن السببية و يبني على أصل العلية و المعلولية العام، و قد تقدم الكلام في هذه المعاني كرارا في الأجزاء السابقة من الكتاب. 

  • قوله تعالى: {وَ كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَ لاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} إلخ، ثم كر (عليه السلام) عليهم بحجة أخرى تثبت المناقضة بين قولهم و فعلهم و بعبارة أخرى: حالهم يكذب مقالهم و محصله أنكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه، و أنتم أنفسكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم و لم آتمر بأمركم. 

  • أما كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلأن الأصنام و أربابها لا دليل على كونها مستقلة بالضر و النفع حتى توجب الخوف منها، و أما كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فإنكم أنفسكم أثبتم لله سبحانه شركاء في الربوبية و لم ينزل الله في ذلك عليكم برهانا يمكن أن يعتمد عليه فإن الصنع و الإيجاد لله سبحانه فله الملك و له الحكم فلو كان اتخذ بعض مخلوقاته شريكا لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى غيره أن يبين لنا ذلك و يكشف عن وجه الحقيقة فيه، و الطريق فيه أن يقارنه بعلائم و آيات تدل على أن له شركة في كذا و كذا، و ذلك إما وحي أو برهان يتكئ على آثار خارجية، و شي‌ء من ذلك غير موجود. 

  • و على هذا التقرير فقوله تعالى: {مَا أَشْرَكْتُمْ} مقيد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيد به قوله: {أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} و إنما ذكر هذا القيد عند ذكر عدم خوفهم من شركهم لأن الحجة إلى ذكره هناك أحوج و هو ظاهر. و قوله: {فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} من تتمة الحجة، و المجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوته (عليه السلام) إلى أن يخاف آلهتهم فإنهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب و هم أنفسهم لا يخافون فيما يجب. 

  • و بالبيان السابق يظهر أن وصف شركائهم بأن الله لم ينزل بها عليهم سلطانا افتراض استدعاه نوع الحجة التي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان أن يأمر الله باتخاذ الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا: لا دليل لكم على ما ادعيتم، في جواب من يخوفنا 

تفسير الميزان ج۷

199
  • من موضوع خرافي يدعي أنه ربما ينفع و يضر، و لنا أن نبدل قولنا ذلك لو أردنا التكلم بلسان التوحيد بقولنا: ما أنزل الله على ذلك دليلا، و الكلام بحسب التحليل المنطقي يئول إلى قياس استثنائي استثني فيها نقيض المقدم في الشرطية لإنتاج نقيض التالي نحوا من قولنا: لو كان الله نزل بها عليكم سلطانا يدل على قدرتهم على الضر لكان اتخاذكم الشركاء خوفا منها في محله لكنه لم ينزل سلطانا فليس اتخاذكم الشركاء في محله، و من المعلوم أن لا مفهوم في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأن التقييد بقوله: {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} للتهكم، أو للإشارة إلى أن هذا وصف لازم لشركائهم على حد قوله تعالى: {وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}(المؤمنون: ١١٧) إلى غير ذلك من التحملات. 

  • و الباء في قوله {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} للمعية أو السببية و قد كنى (عليه السلام) عنهم و عن نفسه بالفريقين و لم يقل: أنا و أنتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحمية و تهييج العصبية كما قيل، و ليدل على تفرقهما و شقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الأصول و أم المعارف الحقيقية بحيث لا يأتلفان بعد ذلك في شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجة عمن هو أحق بالأمن حيث قال: {فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم أجابهم عما سألهم لكون الجواب واضحا لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان و الجواب الذي هذا شأنه لا بأس بأن يبادر السائل إلى إيراده من غير أن ينتظر المسئول فإن المسئول لا يخالف السائل في ذلك حتى يخاف منه الرد، و قد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصة كسر الأصنام: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: ٦٥). 

  • هذا ما يقتضيه سياق الكلام أن تكون الآية من كلام إبراهيم (عليه السلام) و مقولة لقوله، و أما كونها من كلام قومه و جوابا محكيا عنهم، و كذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فمما لا يساعد عليه السياق البتة. 

  • و كيف كان فالكلام متضمن تأكيدا قويا من جهة إسنادات متعددة في جمل اسمية و هي ما في قوله: {لَهُمُ اَلْأَمْنُ} جملة اسمية هي خبر لقوله: {أُولَئِكَ} و المجموع جملة اسمية 

تفسير الميزان ج۷

200
  • هي خبر لقوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، و المجموع جملة اسمية، و كذلك ما عطف على قوله: {لَهُمُ اَلْأَمْنُ} من قوله: {وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} فينتج أنه لا شك في اختصاص الذين آمنوا و لم يستروا إيمانهم بظلم بالأمن و الاهتداء و لا ريب. 

  • و لا ريب أن الآية تدل على أن خاصة الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان مشروطا بأن لا يلبس بظلم، و اللبس‌ الستر كما ذكر الراغب في المفردات و أصل اللبس بفتح اللام الستر، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أن هذا الظلم لا يبطل أصل الإيمان فإنه فطري لا يقبل البطلان من رأس، و إنما يغطي عليه و يفسد أثره و لا يدعه يؤثر أثره الصحيح. 

  • و الظلم‌ و هو الخروج عن وسط العدل و إن كان في الآية نكرة واقعة في سياق النفي و لازمه العموم و عدم اقتران الإيمان بشي‌ء مما يصدق عليه الظلم على الإطلاق لكن السياق حيث دل على كون الظلم مانعا من ظهور الإيمان و بروزه بآثاره الحسنة المطلوبة كان ذلك قرينة على أن المراد بالظلم هو نوع الظلم الذي يؤثر أثرا سيئا في الإيمان دون الظلم الذي لا أثر له فيه. 

  • و ذلك أن الظلم و إن كان المظنون أن أول ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعي و هو التعدي إلى حق اجتماعي بسلب الأمن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من غير حق مسوغ لكن الناس توسعوا بعد ذلك فسموا كل مخالفة لقانون أو سنة جارية ظلما بل كل ذنب و معصية لخطاب مولوي ظلما من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله سبحانه لما له من حق الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلما و إن كان عن سهو أو نسيان أو جهل و إن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف و عقابه على ما أتى به بل يعدون من خالف النصيحة و الأمر الإرشادي و لو اشتبه عليه الأمر و أخطأ في مخالفته من غير تعمد ظالما لنفسه حتى أن من سامح في مراعاة الدساتير الصحية الطبية أو خالف شيئا من العوامل المؤثرة في صحة مزاجه و لو من غير عمد عد ظالما لنفسه و إن كان ظلما من غير شعور، و الملاك في جميع ذلك التوسع في معنى الظلم من جهة تحليله. 

  • و بالجملة للظلم عرض عريض - كما عرفت - لكن ما كل فرد من أفراده بمؤثر أثرا سيئا في الإيمان فإن أصنافه التي لا تتضمن ذنبا و معصية و لا مخالفة مولوية كما إذا كان صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلا فتلك كلها مما لا يؤثر في 

تفسير الميزان ج۷

201
  • الإيمان الذي شأنه التقريب من السعادة و الفلاح الحقيقي و الفوز برضى الرب سبحانه و هو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شي‌ء من ذلك. 

  • فقوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ} معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كل ذنب و معصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هاهنا دقيقة و هي أن الذنب الاختياري - كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب - أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم و ليس بها عند آخرين. فالواقف في منشعب طريقي الشرك و التوحيد مثلا و هو الذي يرى أن للعالم صانعا هو الذي فطر أجزاءها و شق أرجاءها و أمسك أرضها و سماءها، و يرى أنه نفسه و غيره مخلوقون مربوبون مدبرون، و أن الحياة الإنسانية الحقيقية إنما تسعد بالإيمان به و الخضوع له فالظلم اللائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله و الإيمان بغيره بالربوبية كالأصنام و الكواكب و غيرها على ما يثبته إبراهيم (عليه السلام) بقوله: {وَ كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَ لاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} فالإيمان الذي يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنما يشترط في إعطائه الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك و معصيته. 

  • و من طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين و أكل مال اليتيم و قتل النفس المحترمة و الزنا و شرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم، و قد وعده الله أن يكفر عنه السيئات و المعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} (النساء: ٣١) و فساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي و إن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعا إما بحلول أجله و إما بشفاعة و نحوها. 

  • و من تزود هذا الزاد من التقوى و حصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسئولا بأصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات و ترك المستحبات و التوغل في المباحات، و فوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة و الملكات الربانية و وراء ذلك الذنوب التي تعترض سبيل الحب، و تحف بساط القرب، فالإيمان في كل من هذه المراتب إنما يؤمن المتلبس به و يدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة. 

تفسير الميزان ج۷

202
  • فلقوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} إطلاق من حيث الظلم لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الإيمان و إذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق الظلم المنفي على ظلم الشرك فحسب و الأمن الذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن مما يخاف منه من الشقاء المؤبد و العذاب المخلد، و الآية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية المورد تفيد أن الأمن و الاهتداء إنما يترتب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الذي يلبسه و يستر أثره بالمعنى الذي تقدم بيانه. 

  • و أما الإيمان المذكور في الآية ففيه إطلاق و المراد به الإيمان بالربوبية الصالح للتقيد بما يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله: {وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أفاد الإيمان بربوبية الله سبحانه و رفض غيره من شركائهم فإن إبراهيم (عليه السلام) ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أن قولهم بربوبية شركائهم و إيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله و لا سلطان و أنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا و يستأمنون شقاء ليس لها أن تدفعها لأنها لا تضر و لا تنفع، و أما هو (عليه السلام) فقد خاف و آمن بمن هو فاطره و هو المتصرف بالهداية و المدبر الذي له في كل أمر إرادة و مشية لسعة علمه، ثم سألهم: أي الفريقين أحق بالأمن و الناجح بالإيمان بالرب، و لكل من الفريقين إيمان بالرب، و إن اختلفا من جهة الرب، و الذي آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل، و مؤمن برب لا دليل على ربوبيته بل الدليل على خلافه. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالإيمان في قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا} مطلق الإيمان بالربوبية ثم بتقيده بقوله: {وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يتعين في الإيمان بالله سبحانه الذي هو حق الإيمان فافهم. 

  • فقد اتضح بما تقدم أولا: أن المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبية دون الإيمان بوجود صانع العالم خلافا لمنكري وجوده. 

  • و ثانيا: أن الظلم في الآية مطلق ما يضر الإيمان و يفسده من المعاصي، و كذا المراد بالأمن مطلق الأمن من شقاء المعاصي و الذنوب، و بالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها و إن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصة. 

  • و ثالثا: أن إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان. 

تفسير الميزان ج۷

203
  • قال بعض المفسرين في معنى عموم الظلم في الآية: إن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه و عدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى: الذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في إيمانهم و لا في أعمالهم البدنية و النفسية من دينية أو دنيوية و لا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء و العجماوات أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي و المنكرات، و عقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسببات كالفقر و الأسقام و الأمراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم عرضة للعقاب و إن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، و يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به. 

  • قال: و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، و يترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني و الدنيوي أو الشرعي و القدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين دع خوف الهيبة و الإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال. 

  • قال: و أما معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أن الذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم و هو الشرك بالله أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين و هو الخلود في دار العذاب و هم فيما دون ذلك بين الخوف و الرجاء. 

  • قال: و ظاهر الآية هو العموم و استدل عليه بفهم الصحابة على‌ ما روي: أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس و قالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم (صلى الله عليه وآله و سلم): أن المراد به الشرك، و ربما أشعر بذلك السياق و كون الموضوع هو الإيمان، انتهى ملخصا. 

  • و فيه مواقع للإشكال فأولا: أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو غير ما قرره من معنى العموم فإن الذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية، و الذي قرره هو أعم من ذلك. 

  • و ثانيا: أن ما قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شي‌ء ثم حكم بصحة تفسير الآية به أجنبي عن مدلول الآية فإن الآية في مقام بيان أن الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان و لكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره و يفسد أثره، و هذا الظلم إنما هو المعصية بوجه، و أما ما لا يعد معصية كأكل الغذاء المضر بصحة 

تفسير الميزان ج۷

204
  • البدن خطاء فمن المعلوم أنه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن و الاهتداء، و ليس المراد بالآية بيان آثار الظلم أيا ما كانت و لو مع قطع النظر عن الإيمان فإنه تعالى قال: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فجعل الإيمان هو الموضوع و قيده بعدم الظلم و جعل أثره الأمن و الاهتداء، و لم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره. 

  • فالآية سيقت لبيان الآثار التي تترتب على الإيمان الصحيح، و أما الظلم بما له من العرض العريض و ما له من الأثر المترتب عليه فالآية غير متعرضة لذلك البتة، فقوله: «و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه» فاسد البتة. 

  • و ثالثا: أن قوله: «و يترتب عليه أن الأمن المطلق لا يصح لأحد من المكلفين» صريح في أن الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الذي قرره، و لازمه سقوط الكلام عن الفائدة، و أي فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا؟. 

  • و رابعا: أن الذي اختاره في معنى الآية أن المراد به هو الظلم الخاص و هو الشرك ليس بمستقيم فإن الآية من جهة عموم لفظها و إن دلت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر أثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص، و أما إرادة المعنى الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة فمما لا ترتضيه صناعة البلاغة و هو ظاهر. 

  • و أما ما أشار إليه من قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «إنما هو الشرك» فليس بصريح في أن الشرك مراد لفظي من الآية و إنما هو الانطباق، و سيجي‌ء البحث عن الحديث في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} إلخ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم و تعظيم لأمرها لكونها حجة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها. 

  • و أما قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} فالدرجات كما قيل هي مراقي السلم ثم توسع فيها فأطلق على مراتب الكمال من المعنويات كالعلم و الإيمان و الكرامة و الجاه 

تفسير الميزان ج۷

205
  • و غير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنوية و فضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم و التقوى و غير الكسبية كالنبوة و الرسالة و الرزق و غيرها. 

  • و الدرجات لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم و الهداية فقد رفع الله إبراهيم (عليه السلام) بهدايته و إراءته ملكوت السماوات و الأرض و إيتائه اليقين و الحجة القاطعة، و الجميع من العلم، و قد قال تعالى في درجات العلم: {يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١). 

  • ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة منه تعالى و علم كما أن الحجج التي آتاها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المذكورة في السورة قبل هذه الحجة من حكمته و علمه تعالى، و في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تثبيت المعارف المذكورة فيه. 

  • (بحث روائي) 

  • في العيون: حدثنا نعيم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه قال: حدثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيشابوري عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فسأله عن آيات من القرآن فيه فكان فيما سأله أن قال له: فأخبرني عن قول الله عز و جل في إبراهيم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى‌ كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي}فقال الرضا (عليه السلام): إن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، و صنف يعبد القمر، و صنف يعبد الشمس و ذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال: {هَذَا رَبِّي} على الإنكار و الاستخبار فلما أفل الكوكب قال: {لاَ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ} لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم فلما رأى القمر بازغا قال: {هَذَا رَبِّي} على الإنكار و الاستخبار فلما أفل قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي 

تفسير الميزان ج۷

206
  • لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضَّالِّينَ}، فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} من الزهرة و القمر على الإنكار و الاستخبار لا على الإخبار و الإقرار فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة و القمر و الشمس: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‌ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}

  • و إنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، و يثبت عندهم أن العبادة لا يحق لما كان بصفة الزهرة و القمر و الشمس، و إنما يحق العبادة لخالقها و خالق السماوات و الأرض، و كان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز و جل و آتاه كما قال عز و جل: {وَ تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلى قَوْمِهِ}. فقال المأمون: لله درك يا بن رسول الله. 

  • أقول: و تأييد الرواية بمضمونها عدة من الأمور التي استفدناها من سياق الآيات الكريمة ظاهر، و سيأتي أيضا بعض ما يؤيدها من الروايات، و أما ما في الرواية من كون قول إبراهيم (عليه السلام): {هَذَا رَبِّي} واقعا على سبيل الإنكار و الاستخبار دون الإخبار و الإقرار فوجه من الوجوه التي تقدمت في تفسير الآيات أورده (عليه السلام) في قطع حجة المأمون، و لا ينافي صحة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي. 

  • و كذا قوله: «لأن الأفول من صفات المحدث» إلخ، ليس بظاهر في أن الحجة مأخوذة من الأفول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجة مأخوذة من عدم الحب و ملاكه كون الأفول من صفات المحدث التي لا ينبغي أن يتعلق بها حب فافهم. 

  • و في كمال الدين: أبي و ابن الوليد معا عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو إبراهيم منجما لنمرود بن كنعان، و كان نمرود لا يصدر إلا عن رأيه فنظر في النجوم ليلة من الليالي فأصبح فقال: لقد رأيت في ليلتي هذه عجبا فقال له نمرود: ما هو؟ فقال: رأيت مولودا يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه، و لا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به فعجب من ذلك نمرود و قال: هل حمل به النساء؟ فقال: لا، و كان فيما أوتي من العلم أنه سيحرق بالنار، و لم يكن أوتي أن الله سينجيه. 

  • قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يترك امرأة إلا جعلت بالمدينة حتى لا يخلص إليهن الرجال، قال: و باشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به فظن أنه صاحبه فأرسل إلى 

تفسير الميزان ج۷

207
  • نساء من القوابل لا يكون في البطن شي‌ء إلا علمنا به فنظرنا إلى أم إبراهيم فألزم الله تبارك و تعالى ذكره ما في الرحم الظهر فقلن: ما نرى شيئا في بطنها. 

  • فلما وضعت أم إبراهيم أراد أبوه أن يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتى يأتي عليه أجله و لا تكون أنت تقتل ابنك فقال لها: فاذهبي فذهبت به إلى غار ثم أرضعته ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشرب لبنا، و جعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة، و يشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر، و يشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث. 

  • ثم إن أمه قالت لأبيه: لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبي فأراه فعلت قال: ففعل‌۱ فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم و إذا عيناه تزهران كأنهما سراجان فأخذته و ضمته إلى صدرها و أرضعته ثم انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبي فقالت: قد واريته في التراب. 

  • فمكثت تعتل فتخرج في الحاجة، و تذهب إلى إبراهيم فتضمه إليها أصل لازم و ترضعه ثم تنصرف فلما تحرك أتته أمه كما كانت تأتيه، و صنعت كما كانت تصنع فلما أرادت الانصراف أخذ ثوبها فقالت له: ما لك؟ فقال: اذهبي بي معك فقالت له: حتى استأمر أباك فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيا بشخصه كاتما لأمره حتى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره، و أظهر الله قدرته فيه

  • أقول: و روي في قصص الأنبياء، عن الصدوق عن أبيه و ابن الوليد ثم ساق السند إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان آزر عم إبراهيم منجما لنمرود و كان لا يصدر إلا عن رأيه قال: لقد رأيت في ليلتي عجبا قال: ما هو؟ قال: إن مولودا يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه فحجب الرجال عن النساء، و كان تارخ وقع على أم إبراهيم فحملت ثم ساق الحديث إلى آخره.

  • و قد حمل وحدة السند في الحديثين، و وحدة المضمون إلا في أبي إبراهيم صاحب 

    1. أي فعل الإذن أي أذن لها.

تفسير الميزان ج۷

208
  • البحار أن قال: الظاهر أن ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه، و إنما غيره ليستقيم على أصول الإمامية، انتهى. ثم حمل الرواية و ما في مضمونها من الروايات الدالة على أن آزر الوثني كان والدا لإبراهيم صلبيا على التقية. 

  • و قد روى مثل المضمون السابق القمي في تفسيره، و العياشي في تفسيره، و روي من طرق أهل السنة عن مجاهد، و رواه الطبري في تاريخه و الثعلبي في قصص الأنبياء، عن عامة السلف و أهل العلم. 

  • و كيف كان فالذي ينبغي أن يقال: إن علماء الحديث و الآثار كأنهم مجمعون على أن إبراهيم (عليه السلام) كان في بادي عمره قد أخفي في سرب خوفا من أن يقتله الملك نمرود، ثم خرج عنه بعد حين فحاج أباه و قومه في أمر الأصنام و الكوكب و القمر و الشمس و حاج الملك في دعواه الربوبية، و قد تقدم أن سياق آيات القصة يؤيد هذا المعنى. 

  • و أما أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة - و آزر إما لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم. 

  • و ذكروا أن هذا المشرك الذي سماه القرآن أبا إبراهيم و ذكر محاجته إياه كان هو تارخ أباه الصلبي و والده الحقيقي و وافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث و الكلام من أهل السنة، و خالفهم جمع منهم، و الشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى من بعض المحدثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم، و عمدة ما احتج به القائلون بأن آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم، و إنما كان عمه أو جده لأمه الأخبار الواردة من طرق الفريقين في أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك، و قد طالت المشاجرة بين الفريقين. 

  • أقول: من البحث على هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيري و إن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده و استنتاج حق ما ينتجه لكنا في غنى عن ذلك فقد تقدم أن الآيات دالة على أن آزر المشرك الذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والدا حقيقيا لإبراهيم (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج۷

209
  • فالروايات الدالة على كون آزر أباه الحقيقي على ما فيها من الاختلاف في سرد القصة روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها، و لا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقية إن صح الحمل مع هذا الاختلاف بين القوم. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} (الآية) قال: حدثني أبي عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كشط له عن الأرض و من عليها، و عن السماء و من عليها، و الملك الذي يحملها، و العرش و من عليه، و فعل ذلك برسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام). 

  • أقول: و روى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبد الله بن مسكان و أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و بطريق عن عبد الرحيم عن الباقر (عليه السلام) و رواه العياشي عن زرارة و أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و عن زرارة و عبد الرحيم القصير عن الباقر (عليه السلام) و رواه في الدر المنثور، عن ابن عباس و مجاهد و السدي من مفسري السلف، و سيأتي في الكلام على العرش‌ حديث علي (عليه السلام) المروي في الكافي في معنى العرش و فيه قال: و الذين يحملون العرش و من حوله هم العلماء الذين حملهم الله علمه قال: و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه، و أراه خليله (عليه السلام) فقال: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} (الحديث).

  • و في الحديث تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت و تأييد لما قدمناه في البيان السابق، و سيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما رأى ملكوت السماوات و الأرض التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم: إن دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت لم أخلقهم إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبد يعبدني و لا يشرك بي شيئا، و عبد يعبد غيري فلن يفوتني، و عبد يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني. 

تفسير الميزان ج۷

210
  • أقول: و الرواية مستفيضة و رواه في الكافي مسندا عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و رواه الصدوق في العلل عنه (عليه السلام) و الطبرسي في الاحتجاج عن العسكري (عليه السلام) و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و عن أبي الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن عدة من المفسرين موقوفا.

  • و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: في إبراهيم إذ رأى كوكبا قال: إنما كان طالبا لربه و لم يبلغ كفرا، و أنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته.

  • و في تفسير القمي، قال: و سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول إبراهيم: {هَذَا رَبِّي} هل أشرك في قوله: {هَذَا رَبِّي}؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم شرك، و إنما كان في طلب ربه و هو من غيره شرك. 

  • أقول: و يقابل الذي هو طالب من تم له البيان و قامت له الحجة الواضحة فهو غير طالب، و ليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك. 

  • و في تفسير العياشي، عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيابة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول إبراهيم: {هَذَا رَبِّي} و أنه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: لم يكن من إبراهيم شرك إنما كان في طلب ربه، و هو من غيره شرك.

  • و فيه عن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله فيما أخبر عن إبراهيم: {هَذَا رَبِّي} قال: لم يبلغ به شيئا، أراد غير الذي قال.

  •  أقول: المراد به ظاهرا أنه أراد به أن قوله: {هَذَا رَبِّي} لا يتعدى مفهوم نفسه و ليس له وراء ذلك معنى يحكي عنه أي أنه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • في الدر المنثور، في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الآية)، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الدارقطني في الأفراد و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله و أينا لا يظلم نفسه؟ 

تفسير الميزان ج۷

211
  • قال: إنه ليس الذي تعنون أ لم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟ إنما هو الشرك. 

  • أقول: المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان. و في الحديث دلالة على أن سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان، و قد تقدم أن كون المراد هو الشرك إنما هو الانطباق بحسب المورد و الشرك ذنب لا تتعلق به مغفرة أصلا بخلاف غيره كائنا ما كان، و الدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروايات. 

  • و فيه أخرج أحمد و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا فانتهى إلينا فسلم فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من أين أقبلت؟ فقال: من أهلي و ولدي و عشيرتي أريد رسول الله. قال: قد أصبته قال: علمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت قال: قد أقررت. 

  • ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى و وقع الرجل على هامته فمات فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذا من الذين عملوا قليلا و أجروا كثيرا، هذا من الذين قال الله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} إني رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة فعلمت أن الرجل مات جائعا. 

  • أقول: و رواه أيضا عن الحكيم الترمذي و ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه و رواه العياشي في تفسيره عن جابر الجعفي عمن حدثه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثله.

  • و فيه أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي: أن رجلا سأل عنها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فسكت حتى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلا قليلا حتى قاتل فاستشهد فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم):هذا منهم من الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم. 

  • و فيه أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم و أصحابه خاصة ليس في هذه الأمة.

  •  أقول: و الرواية لا توافق بظاهرها الأصول الكلية المستخرجة من الكتاب و السنة 

تفسير الميزان ج۷

212
  • فإن الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاص تختص به أمة دون أمة كالأحكام الفرعية التشريعية التي ربما تختص بزمان دون زمان، و أما الإيمان بما له من الأثر على مراتبه، و كذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنما ذلك أمر مودع في الفطرة الإنسانية لا يختلف باختلاف الأزمنة و الأمم. 

  • و قال بعض المفسرين في توجيه الحديث: لعل مراده أن الله خص إبراهيم و قومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط، و لعل سبب هذا إن صح أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية و الأدبية و غيرها. 

  • و قد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم و باركه و أخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها و أما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين و أما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها، انتهى. 

  • و في كلامه من التحكم ما لا يخفى فقد تقدم أن الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف و سبعمائة قبل المسيح، و إبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريبا كما ذكره. 

  • و حمورابي هذا و إن كان ملكا صالحا في دينه عادلا في رعيته ملتزما العمل بقوانين وضعها و عمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء و إنفاذ، و هي أقدم القوانين المدنية الموضوعة على ما قيل إلا أنه كان وثنيا، و قد استمد بعده من آلهة الوثنيين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل، و الآلهة التي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون، و شكرها في أن آتته الملك العظيم و وفقته لبسط العدل و وضع الشريعة، و استعان بها و استمد منها في حفظ شريعته عن الزوال و التحريف هي «ميروداخ» إله الآلهة، و أي إله القانون و العدل و الإله «زماما» و الإله «إشتار» إله الحرب و «شاماش» الإله القاضي في السماء و الأرض و «سين» إله السماوات، و «حاداد» إله الخصب و «نيرغال» إله النصر و «بل» إله القدر و الآلهة «بيلتيس» و الآلهة «نينو» 

تفسير الميزان ج۷

213
  • و الإله «ساجيلا» و غيرها. 

  • و الذي ذكره من أن الله لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية «إلخ» يكذبه أن القرآن يحكي عن لسان إبراهيم (عليه السلام) الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم و يذكر أن الله أوحى إليه فعل الخيرات و إيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء، و أنه شرع الحج و أباح لحوم الأنعام كما في سورة الحج، و كان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة، و كان ينهى عن كل ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام و غيرها، و من شرعه التطهر كما تشير إليه سورة الحج و وردت الأخبار أنه (عليه السلام) شرع الحنيفية و هي عشر خصال: خمس في الرأس و خمس في البدن و منها الختنة، و كان يحيي بالسلام كما في سورة هود و مريم. 

  • و قد قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج: ٧٨) و قال: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (البقرة: ١٣٥) فوصف هذا الدين على ما له من الأصول و الفروع بأنه ملة إبراهيم (عليه السلام) ، و هذا و إن لم يدل على أن هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الأحكام كان مشرعا في زمن إبراهيم (عليه السلام) بل الأمر بالعكس كما يدل عليه قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى}(الشورى: ١٣) إلا أنه يدل على أن شرائعه راجعة إلى أصل أو أصول كلية تهدي إليها الفطرة مما ترتضيه و تأمر به أو لا ترتضيه و تنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججا على الشرك و جملا من الأوامر و النواهي الكلية مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}(الأنعام: ١٦١). 

  • و لو كان الأمر على ما ذكره أن الله لم يشرع لإبراهيم (عليه السلام) شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدني الدائر و هو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوبة من عند الله، و كانت من أجزاء دين إبراهيم (عليه السلام) بل الدين الإسلامي الذي شرع في القرآن لأنه هو ملة إبراهيم حنيفا فكانت إحدى الشرائع الإلهية و نوعا من الكتب السماوية. 

  • و الحق الذي لا مرية فيه أن الوحي الإلهي كان يعلم الأنبياء السالفين و أممهم 

تفسير الميزان ج۷

214
  • أصولا كلية في المعاش و المعاد كأنواع من العبادة و سننا كلية في الخيرات و الشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة و التجنب عن الظلم و الإسراف و إعانة المستكبرين و نحوها، ثم يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الذي جهزوا به، و الدعوة إلى أخذ الخير و الصلاح و رفض الشر و الفحشاء و الفساد سواء كانت المجتمعات التي دخلوا فيها يدبرها استبداد الظلمة و الطغاة أو رأفة العدول من السلاطين و سياستهم المنظمة. 

  • و لم يشرع تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلامي إلا في التوراة و فيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أن التوراة نزلها الله على موسى (عليه السلام) و كانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصر التي أفنت جمعهم و خربت هيكلهم و لم يبق منهم إلا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل فاستعبدوا و اسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل و أعتقهم من الأسر و أجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، و أن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما أعدمت نسخها و نسيت متون معارفها، و قد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيين. 

  • و مع هذا الحال كيف يحكم بأن الله أمضى في الشريعة الكليمية كثيرا من شرائع حمورابي، و القرآن إنما يصدق من هذه التوراة بعض ما فيها، و بعد ذلك كله لا مانع من كون بعض القوانين غير السماوية مشتملا على بعض المواد الصالحة و الأحكام الحقة. 

  • و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى‌{اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}) قال: هو الشرك

  • و فيه بطريق آخر عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في الآية قال: بشك. 

  • أقول: و رواه العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي بصير عنه (عليه السلام). 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممن لبس إيمانه بظلم، ثم قال: أولئك الخوارج و أصحابهم. 

  • و فيه عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، قال: الضلال و ما فوقه. 

تفسير الميزان ج۷

215
  • أقول: كأن المراد بالضلال في الرواية الشرك الذي هو أصل كل بما ظلم فوقه و ما يزيد عليه من المعاصي و المظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقق به الظلم من المعاصي، و بما فوقه الشرك الذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإن كل معصية ضلال. 

  • و الروايات كما ترى تتفنن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسرها بالشرك و تارة بالشك و تارة بما عليه الخوارج، و في بعضها: أن منه ولاية أعدائهم، و كل ذلك من شواهد ما قدمنا أن الظلم في الآية مطلق و هو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.

  • (كلام في قصة إبراهيم (عليه السلام) و شخصيته) 

  • و فيه أبحاث مختلفة قرآنية و أخرى علمية و تاريخية و غير ذلك. 

  • ١- قصة إبراهيم (عليه السلام) في القرآن:

  • كان إبراهيم (عليه السلام) في طفوليته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثم خرج إليهم و لحق بأبيه فوجده و قومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه و منهم ذلك و قد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من الله سبحانه بالشهود الحق و إراءة ملكوت كل شي‌ء و بالجملة و بالقول الحق و العمل الصالح. 

  • فأخذ يحاج أباه في عبادته الأصنام و يدعوه إلى رفضها و توحيد الله سبحانه و اتباعه حتى يهديه إلى مستقيم الصراط و يبعده من ولاية الشيطان، و لم يزل يحاجه و يلح عليه حتى زبره و طرده عن نفسه و أوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء و الرغبة عنها. 

  • فتلطف إبراهيم (عليه السلام) إرفاقا به و حنانا عليه و قد كان ذا خلق كريم و قول مرضي فسلم عليه و وعده أن يستغفر له و يعتزله و قومه و ما يعبدون من دون الله (مريم: ٤١، ٤٨) 

  • و قد كان من جانب آخر يحاج القوم في أمر الأصنام (الأنبياء: ٥١-٥٦، الشعراء: ٦٩-٧٧، الصافات: ٨٣-٨٧) و يحاج أقواما آخرين منهم يعبدون الشمس و القمر و الكوكب في أمرها حتى ألزمهم الحق و شاع خبره في الانحراف عن الأصنام و الآلهة (الأنعام: ٧٤ - ٨٢) حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد و اعتل هو بالسقم فلم يخرج معهم و تخلف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضربا باليمين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما تراجعوا و علموا بما حدث بآلهتهم و فتشوا عمن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. 

تفسير الميزان ج۷

216
  • فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، و قد كان أبقى كبير الأصنام و لم يجده و وضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام. 

  • و إنما قال (عليه السلام) ذلك و هو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك و هم يعلمون أنه جماد لا يقدر على ذلك لكنه قال ما قال ليعقبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتى يعترفوا بصريح القول بأنهم جمادات لا حياة لهم و لا شعور، و لذلك لما سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أ فتعبدون من دون الله ما لا يضركم و لا ينفعكم أف لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون. 

  • قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم فبنوا له بنيانا و أسعروا فيه جحيما من النار و قد تشارك في أمره الناس جميعا و ألقوه في الجحيم فجعله الله بردا عليه و سلاما و أبطل كيدهم (الأنبياء: ٥٧-٧٠، الصافات: ٨٨-٩٨) و قد أدخل في خلال هذه الأحوال على الملك، و كان يعبده القوم و يتخذونه ربا فحاج إبراهيم في ربه فقال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت فغالطه الملك و قال: أنا أحيي و أميت كقتل الأسير و إطلاقه فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر (البقرة: ٢٥٨). 

  • ثم لما أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة و قد سمى الله تعالى منهم لوطا و منهم زوجته التي هاجر بها و قد كان تزوج بها قبل الخروج من الأرض إلى الأرض المقدسة۱

  • ثم تبرأ هو (عليه السلام) و من معه من المؤمنين من قومهم و تبرأ هو من آزر الذي كان 

    1. الدليل على إيمان جمع من قومه به قوله تعالى: «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم» (الممتحنة: ٤) و الدليل على تزوجه قبل الخروج إلى الأرض المقدسة سؤاله الولد الصالح من ربه في قوله: «و قال إني ذاهب الى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين» (الصافات: ١٠٠).

تفسير الميزان ج۷

217
  • يدعوه أبا و لم يكن بوالده الحقيقي‌۱ و هاجر و معه زوجته و لوط إلى الأرض المقدسة ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (الممتحنة: ٤ الأنبياء: ٧١) و بشره الله سبحانه هناك بإسماعيل و بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب و قد شاخ و بلغه كبر السن فولد له إسماعيل ثم ولد له إسحاق و بارك الله سبحانه فيه و في ولديه و أولادهما. 

  • ثم إنه (عليه السلام) بأمر من ربه ذهب إلى أرض مكة و هي واد غير ذي زرع فأسكن فيه ولده إسماعيل و هو صبي و رجع إلى الأرض المقدسة فنشأ إسماعيل هناك و اجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك و بنيت بذلك بلدة مكة. 

  • و كان (عليه السلام) ربما يزور إسماعيل في أرض مكة قبل بناء مكة و البيت و بعد ذلك (البقرة: ١٢٦، إبراهيم: ٣٥-٤١) ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل و هي أول بيت وضع للناس من جانب الله مباركا و هدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا (البقرة: ١٢٧-١٢٩، آل عمران: ٩٦-٩٧) و أذن في الناس بالحج و شرع نسك الحج (الحج: ٢٦ - ٣۰). 

  • ثم أمره الله بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام) فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما و تله للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا و فداه الله سبحانه بذبح عظيم (الصافات: ١٠١-١٠٧). 

  • و آخر ما قص القرآن الكريم من قصصه (عليه السلام) أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة المنقولة في سورة إبراهيم (آية: ٣٥-٤١) و آخر ما ذكر فيها قوله (عليه السلام): {رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسَابُ}.

  • ٢ منزلة إبراهيم عند الله سبحانه و موقفه العبودي: 

  • أثنى الله تعالى على إبراهيم (عليه السلام) في كلامه أجمل ثناء و حمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، و كرر ذكره باسمه في نيف و ستين موضعا من كتابه و ذكر من مواهبه و نعمه عليه شيئا كثيرا. و هاك جملا من ذلك: آتاه الله رشده من قبل (الأنبياء: ٥١) و اصطفاه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (البقرة: ١٣٠-١٣١) و هو الذي وجه وجهه إلى ربه 

    1. و قد تقدم استفادة ذلك من دعائه المنقول في سورة إبراهيم.

تفسير الميزان ج۷

218
  • حنيفا و ما كان من المشركين (الأنعام: ٧٩) و هو الذي اطمأن قلبه بالله و أيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات و الأرض (البقرة: ٢٦٠، الأنعام: ٧٥). 

  • و اتخذه الله خليلا (النساء: ١٢٥) و جعل رحمته و بركاته عليه و على أهل بيته و وصفه بالتوفية (النجم: ٣٧) و مدحه بأنه حليم أواه منيب (هود: ٧٣-٧٥) و مدحه أنه كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم و آتاه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: ١٢٠-١٢٢). 

  • و كان صديقا نبيا (مريم: ٤١) و عده الله من عباده المؤمنين و من المحسنين و سلم عليه (الصافات: ٨٣-١١١) و هو من الذين وصفهم بأنهم أولو الأيدي و الأبصار و أنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار ( ص: ٤٥-٤٦). 

  • و قد جعله الله للناس إماما (البقرة: ١٢٤) و جعله أحد الخمسة أولي العزم الذين آتاهم الكتاب و الشريعة (الأحزاب: ٧، الشورى: ١٣، الأعلى: ١٨-١٩) و آتاه الله العلم و الحكمة و الكتاب و الملك و الهداية و جعلها كلمة باقية في عقبه (النساء: ٥٤، الأنعام: ٧٤-٩٠، الزخرف: ٢٨) و جعل في ذريته النبوة و الكتاب (الحديد: ٢٦) و جعل له لسان صدق في الآخرين (الشعراء: ٨٤، مريم: ٥٠) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الإلهية و مقامات العبودية و لم يفصل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء و الرسل المكرمين و كراماتهم ما فصل من نعوته و كراماته (عليه السلام) . 

  • و ليراجع في تفسير كل من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختص به فيما تقدم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به هاهنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث. 

  • و قد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة و شخصيته الدينية بما سمى هذا الدين القويم بالإسلام كما سماه (عليه السلام) و نسبه إليه قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج: ٧٨) و قال: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: ١٦١). 

  • و جعل الكعبة البيت الحرام الذي بناها قبلة للعالمين و شرع مناسك الحج و هي في الحقيقة أعمال ممثلة لقصة إسكانه ابنه و أم ولده و تضحية ابنه إسماعيل و ما سعى به إلى ربه و التوجه له و تحمل الأذى و المحنة في ذاته كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى: {وَ إِذْ 

تفسير الميزان ج۷

219
  •  جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} (الآية) (البقرة: ١٢٥) في الجزء الأول من الكتاب. 

  • ٣ - أثره المبارك في المجتمع البشري: 

  • و من مننه (عليه السلام) السابغة أن دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان و عند من كان فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، و ينتهي إلى الكليم موسى بن عمران (عليه السلام) و ينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) ، و دين النصرانية و ينتهي إلى المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) و هو من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ، و دين الإسلام و الصادع به هو محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)و ينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل (عليه السلام) ، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب المبارك، و يشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة و الزكاة و الحج و إباحة لحوم الأنعام و التبري من أعداء الله، و السلام، و الطهارات العشر الحنيفية البيضاء خمس‌۱ منها في الرأس و خمس منها في البدن: أما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال و أما التي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء. 

  • و البحث المستوفى يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد و العمل في المجتمع البشري كائنة ما كانت من آثار النبوة الحسنة كما تكررت الإشارة إليه في المباحث المتقدمة، فلإبراهيم (عليه السلام) الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.

  • ٤ - ما تقصه التوراة الموجودة في إبراهيم: 

  • قالت التوراة: و عاش تارح (أبو إبراهيم) سبعين سنة و ولد أبرام و ناحور و هاران، و هذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام و ناحور و هاران، و ولد هاران لوطا، و مات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في «أور» الكلدانيين و اتخذ أبرام و ناحور لأنفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام «ساراي» و اسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران أبي ملكة و أبي بسكة، و كانت ساراي عاقرا ليس لها ولد و أخذ تارح أبرام ابنه و لوطا بن هاران ابن ابنه، و ساراي كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان - فأتوا إلى حاران و أقاموا هناك، و كانت أيام تارح مائتين و خمس سنين، و مات تارح في حاران. 

  • قالت التوراة: و قال الرب لأبرام: اذهب من أرضك و من عشيرتك و من بيت 

    1. رواها في مجمع البيان نقلا عن تفسير القمي. 

تفسير الميزان ج۷

220
  • أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة و أباركك و أعظم اسمك و تكون بركة -و أبارك مباركيك، و لاعنك ألعنه، و يتبارك فيك جميع قبائل الأرض، فذهب أبرام كما قال له الرب، و ذهب معه لوط، و كان أبرام ابن خمس و سبعين سنة لما خرج من حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته و لوطا ابن أخيه و كل مقتنياتهما التي اقتنيا و النفوس التي امتلكا في حاران، و خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان. 

  • و اجتاز أبرام في أرض إلى مكان «شكيم» إلى «بلوطة مورة» و كان الكنعانيون حينئذ في الأرض، و ظهر الرب لأبرام و قال: لنسلك أعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي «بيت إيل» و نصبت خيمته و له «بيت إيل» من المغرب و «عاي» من المشرق فبنى هناك مذبحا للرب و دعا باسم الرب، ثم ارتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب. 

  • و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدا، و حدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني و يستبقونك، قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك، فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون فأخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيرا بسببها و صار له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و أتن و جمال. 

  • فضرب الرب فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لما ذا قلت: هي أختي أخذتها لتكون زوجتي؟ و الآن هو ذا امرأتك خذها و اذهب، فأوصى عليه رجالا فشيعوه و امرأته و كل ما كان له. 

  • ثم ذكرت التوراة: أن أبرام خرج من مصر و معه ساراي و لوط و معهم الأغنام و الخدم و الأموال العظيمة و وردوا «بيت إيل» المحل الذي كانت فيه خيمته مضروبة بين «بيت إيل» و «عاي» ثم بعد حين تفرق هو و لوط لأن الأرض ما كانت تسعهما - فسكن أبرام كنعان، و كان الكنعانيون و الفرزيون ساكنون هناك، و نزل لوط أرض سدوم. 

تفسير الميزان ج۷

221
  • ثم ذكرت: أنه في تلك الأيام نشبت حرب في أرض سدوم بين «أمرافل» ملك شنعار و معه ثلاثة من الملوك، و بين بارع ملك سدوم و معه أربعة من الملوك المتعاهدين فانهزم ملك سدوم و من معه انهزاما فاحشا و هربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم و نهبت أموالهم و سبيت نساؤهم و ذراريهم، و كان فيمن أسر لوط و جميع أهله و نهبت أمواله. 

  • قالت التوراة: فأتى من نجى و أخبر أبرام العبراني و كان ساكنا عند «بلوطات ممري» الآموري أخو «أشكول» و أخي «عانر» و كانوا أصحاب عهد مع أبرام، فلما سمع أبرام أن أخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة و ثمانية عشر و تبعهم إلى «دان» و انقسم عليهم هو و عبيده فكسرهم - و تبعهم إلى «حوبة» التي عن شمال دمشق و استرجع كل الأموال و استرجع لوطا أخاه أيضا - و أملاكه و النساء أيضا و الشعب. 

  • فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من «كسرة كدر لعومر» و الملوك الذين معه إلى عمق «شوى» الذي هو عمق الملك، و ملكي‌۱ صادق ملك «شاليم» أخرج خبزا و خمرا و كان كاهنا لله العلي و باركه و قال: مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات و الأرض و مبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك - فأعطاه عشرا من كل شي‌ء. 

  • و قال ملك سدوم لأبرام: أعطني النفوس، و أما الأملاك فخذها لنفسك فقال أبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الرب الإله العلي ملك السماء و الأرض لا آخذن لا خيطا و لا شراك نعل و لا من كل ما هو لك فلا تقول: أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الذي أكله الغلمان و أما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي «عابر» و «أسلول» و «ممرا» فهم يأخذون نصيبهم. 

  • إلى أن قالت: و أما ساراي فلم تلد له و كانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراي لأبرام: هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان و أعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت. 

  • ثم ذكرت: أن هاجر لما حبلت حقرت ساراي و استكبرت عليها فشكت ساراي 

    1. اسم لأحد الملوك المعاصر له عليه السلام.

تفسير الميزان ج۷

222
  • ذلك إلى أبرام ففوض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيدتها و أخبرها أنها ستلد ولدا ذكرا و تدعو اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتها، و أنه يكون إنسانا وحشيا يضاد الناس و يضادونه، و ولدت هاجر لأبرام ولدا و سماه أبرام إسماعيل و كان أبرام ابن ست و سبعين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام. 

  • قالت التوراة: و لما كان أبرام ابن تسع و تسعين سنة ظهر الرب لأبرام و قال له: أنا الله القدير سر أمامي و كن كاملا فأجعل عهدي بيني و بينك و أكثرك كثيرا جدا فسقط أبرام على وجهه و تكلم الله معه قائلا: أما أنا فهو ذا عهدي معك و تكون أبا لجمهور من الأمم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم و أثمرك كثيرا جدا و أجعلك أمما: و ملوك منك يخرجون، و أقيم عهدي بيني و بينك و بين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا لأكون إلها لك و لنسلك من بعدك و أعطي لك و لنسلك من بعد أرض غربتك كل أرض - كنعان ملكا أبديا و أكون إلههم. 

  • ثم ذكرت: أن الرب جعل في ذلك عهدا بينه و بين إبراهيم و نسله أن يختتن هو و كل من معه و يختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم و هو ابن تسع و تسعين سنة و ختن ابنه إسماعيل و هو ابن ثلاث عشرة سنة و سائر الذكور من بنيه و عبيده. 

  • قالت التوراة: و قال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة و أباركها و أعطيت أيضا منها ابنا، و أباركها فتكون أمما و ملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه و ضحك و قال في قلبه: و هل يولد لابن مائة سنة ؟ هل تلد سارة و هي بنت تسعين سنة؟. 

  • و قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا و تدعو اسمه إسحاق، و أقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده و أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه و أثمره و أكثره كثيرا جدا، اثنا عشر رئيسا يلد و أجعله أمة كبيرة، و لكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية، فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم. 

  • ثم ذكرت قصة نزول الرب مع الملكين لإهلاك أهل سدوم قوم لوط و أنهم وردوا على إبراهيم فضافهم و أكلوا من الطعام الذي عمله لهم من عجل قتله و الزبد و اللبن اللذين 

تفسير الميزان ج۷

223
  • قدمهما إليهم ثم بشروه و بشروا سارة بإسحاق و ذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه و كان بعده هلاك قوم لوط. 

  • ثم ذكرت أن إبراهيم انتقل إلى أرض «حرار» و تغرب فيها و أظهر لملكه «أبي مالك» أن سارة أخته فأخذها الملك منه فعاتبها الرب في المنام فأحضر إبراهيم و عاتبه على قوله: إنها أختي فاعتذر أنه إنما قال ذلك خوفا من القتل و اعترف أنه في الحقيقة أخته من أبيه دون أمه تزوج بها فرد إليه سارة و أعطاهما مالا جزيلا (نظير ما قص في فرعون). 

  • قالت التوراة: و افتقد الرب سارة كما قال و فعل الرب لسارة كما تكلم فحبلت سارة و ولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه و دعا إبراهيم اسم ابنه الذي ولدته له سارة إسحاق، و ختن إبراهيم إسحاق ابنه و هو ابن ثمانية أيام كما أمره الله، و كان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، و قالت سارة: فقد صنع إلي الله، ضحكا - كل من يسمع يضحك لي، و قالت من قال لإبراهيم: سارة ترضع بنين حتى ولدت ابنا في شيخوخته فكبر الولد و فطم و صنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق. 

  • و رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية و ابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام و من أجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنه بإسحاق يدعى لك نسل و ابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك. 

  • فبكر إبراهيم صباحا و أخذ خبزا و قربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برية بئر سبع و لما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار و مضت و جلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لأنها قالت: لا أنظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء، و قال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي و احملي الغلام و شدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة، و فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت و ملأت القربة ماء و سقت الغلام، و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في 

تفسير الميزان ج۷

224
  • البرية، و كان ينمو رامي قوس، و سكن في برية فاران، و أخذت له أمه زوجة من أرض مصر۱

  • قالت التوراة: و حدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق و اذهب إلى أرض المريا و أصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، فبكر إبراهيم صباحا و شد على حماره و أخذ اثنين من غلمانه معه و إسحاق معه و شقق حطبا لمحرقة و قام و ذهب إلى الموضع الذي قال له الله، و في اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه و أبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار، أما أنا و الغلام فنذهب إلى هناك و نسجد و نرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة و وضعه على إسحاق ابنه و أخذ بيده النار و السكين فذهبا كلاهما معا، و كلم إسحاق أباه إبراهيم و قال له: يا أبي فقال: ها أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار و الحطب و لكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معا. 

  • فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح و رتب الحطب و ربط إسحاق ابنه و وضعه على المذبح فوق الحطب ثم مد إبراهيم يده و أخذ السكين لذبح ابنه فناداه ملاك الرب من السماء و قال: إبراهيم إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمد يدك إلى الغلام و لا تفعل به شيئا لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه - فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضا عن ابنه فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه برأه» حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب «برى»، و نادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء و قال: بذاتي أقسمت يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر و لم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة و أكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء و كالرمل الذي على شاطئ البحر و يرث نسلك باب أعدائه و يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي - ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا و ذهبوا معا إلى بئر سبع و سكن إبراهيم في بئر سبع. 

  •  

    1. و الواقع في روايات المسلمين أنه تزوج من الجرهم و هم من عشائر العرب اليمنيين. 

تفسير الميزان ج۷

225
  • ثم ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثم موت سارة و هي بنت مائة و سبع و عشرين في حبرون، ثم ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة و إيلادها عدة من البنين، ثم موت إبراهيم و هو ابن مائة و خمس و سبعين سنة، و دفن ابنيه إسحاق و إسماعيل إياه في غار «مكفيلة» و هو مشهد الخليل اليوم. 

  • ٥ – [تطبيق ما في التوراة من قصته من ما في القرآن] 

  • فهذه خلاصة قصص إبراهيم (عليه السلام) و تاريخ حياته المورد في التوراة (سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر - الإصحاح الخامس و العشرون) و على الباحث الناقد أن يطبق ما ورد منه فيها على ما قصه القرآن الكريم ثم يرى رأيه. 

  • ٥ - الذي تشتمل عليه من القصة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها و التناقض بين أطرافها مما يصدق القرآن الكريم فيما ادعاه أن هذا الكتاب المقدس لعبت به أيدي التحريف. 

  • فمن عمدة ما فيها من المغمض أنها أهملت ذكر مجاهداته في أول أمره و حجاجاته قومه و ما قاساه منهم من المحن و الأذايا، و هي طلائع بارقة لماعة من تاريخه (عليه السلام). 

  • و من ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرفة و جعله حرما آمنا و تشريعه الحج، و لا يرتاب أي باحث ديني و لا ناقد اجتماعي أن هذا البيت العتيق الذي لا يزال قائما على قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهية التي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه و آياته، و تستحفظ كلمة الحق دهرا طويلا، و هو أول بيت لله تعالى وضع للناس مباركا و هدى للعالمين. 

  • و ليس إهمال ذكره إلا لنزعة إسرائيلية من كتاب التوراة و مؤلفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة؟ و إحصاء ما بناه من المذابح و مذبح بناه بأرض شكيم، و آخر بشرقي بيت إيل، و آخر بجبل الرب. 

  • ثم الذي وصفوا به النبي الكريم إسماعيل: أنه كان غلاما وحشيا يضاد الناس و يضادونه، و لم يكن له من الكرامة إلا أنه كان مطرودا من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره. 

  • و من ذلك: ما نسبته إليه مما لا يلائم مقام النبوة و لا روح التقوى و الفتوة 

تفسير الميزان ج۷

226
  • كقولها: إن ملكي صادق ملك «شاليم» أخرج إليه خبزا و خمرا و كان كاهنا لله العلي و باركه.۱ 

  • و من ذلك قولها: إن إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة أخته و وصى سارة أن تصدقه في ذلك إذ قال لها: قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك، و أظهر تارة أخرى لأبي مالك ملك حرار أنها أخته، فأخذها للزوجية فرعون تارة، و أبو مالك أخرى، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله: «إنها أختي» مرة بأنها أختي في الدين، و أخرى أنها ابنة أبي من غير أمي فصارت لي زوجة. 

  • و أيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (و حاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون و أبي مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة و هي ذات بعل و ينال هو بذلك جزيل العطاء و يستدرهما بما عندهما من الخير!. 

  • على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ و خاصة حينما أخذها أبو مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو أكثر، و العادة تقضي أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها و وضاءة جمالها، و الملوك و الجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا الطرية حسنا. 

  • و ربما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات‌ ففي صحيحي البخاري و مسلم عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لم يكذب إبراهيم النبي (عليه السلام) قط إلا ثلاث كذبات 

    1. ربما وجهوا أن ملكي صادق هذا كاهن الرب هو أمرافل» ملك شنعار المذكور في أول القصة و هو «حمورابي» الملك صاحب الشريعة الذي هو أحد السلالة الأولى من ملوك بابل، و قد اختلف في تاريخ ملكه اختلافا شديدا لا ينطبق أكثر ما قيل فيه زمان حياة إبراهيم و هو (٢٠٠) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الإسلام أنه تملك بابل سنة ٢٢٨٧-٢٢٣٢ ق م و في شريعة حمورابي نقلا عن كتاب أقدم شرائع العالم للأستاذ ف. إدوارد أن سني ملكه ٢٢٠٥-٢١٦٧ ق. م، و في قاموس أعلام الشرق و الغرب أنه تولى سلطنة بابل سنة ١٧٢٨-١٦٨٦ ق م و في قاموس الكتاب المقدس أنه تولاها سنة ١٩٧٥-١٩٢٠ق م. 
      و أوضح ما ينافي هذا الحدث أن الذي اكتشفوه من النصب في خرائب بابل و عليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدة من آلهة البابليين، و يدل على كون حمورابي من الوثنيين، و لا يستقيم عليه أن يكون كاهنا للرب.

تفسير الميزان ج۷

227
  • اثنتين في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} و قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} و واحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار و معه سارة و كانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيرك و غيري، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي و لا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين‌۱. الأوليين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت فأطلقت يده و دعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان و لم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي و أعطها هاجر. 

  • قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم (عليه السلام) انصرف و قال لها: مهيم فقالت: خيرا كف الله يد الفاجر و أخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. 

  • و في صحيح البخاري، بطرق كثيرة عن أنس و أبي هريرة، و في صحيح مسلم، عن أبي هريرة و حذيفة، و في مسند أحمد، عن أنس و ابن عباس و أخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبراني عن عبادة بن الصامت و ابن أبي شيبة عن سلمان، و الترمذي عن أبي هريرة، و أبو عوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم القيامة، و هو حديث طويل فيه: أن أهل الموقف يأتون الأنبياء واحدا بعد واحد يسألونهم الشفاعة عند الله، و كلما أتوا نبيا و سألوه الشفاعة ردهم إلى من بعده و اعتذر بشي‌ء من عثراته حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فيجيبهم إلى مسألتهم و في الحديث: أنهم يأتون إبراهيم (عليه السلام) يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هنأكم إني كذبت ثلاث كذبات: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} و قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} و قوله لامرأته: «أخبريه أني أخوك».

  • و الاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أن الأقاويل الثلاث التي وصفت فيهما أنها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل التوريات و المعاريض البديعية كما ربما يلوح من بعض ألفاظ الحديث‌ كالذي ورد في 

    1. كذا في الأصل المنقول عنه و كأن فيه سقطا

تفسير الميزان ج۷

228
  • بعض طرقه من قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله» و كذا قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «ما منها كذبة إلا ماحل‌۱ بها عن دين الله» فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه و مانعة عن القيام بأمر الشفاعة و يعتذر بها عنها؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله و حسناته في الدين لو جاز لنبي من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء (عليه السلام) قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم و أحاديثهم من أصلها. 

  • على أن هذا النوع من الإخبار لو جاز عده كذبا و منعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله (عليه السلام) لما رأى كوكبا و القمر و الشمس: هذا ربي و هذا ربي أولى بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى. 

  • على أن قوله (عليه السلام) على ما حكاه الله تعالى بقوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} لا يظهر بشي‌ء من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله (عليه السلام) كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الأصنام. 

  • و كذا قوله (عليه السلام) للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم: {أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فأجابهم و هم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذي لا شعور فيه و لا إرادة له: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ثم أردفه بقوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، و لذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (الأنبياء: ٦٧). 

  • و لو كان المراد أن الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، و نحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل ٢ من الكلام في منزلة إبراهيم (عليه السلام) عند الله تعالى و موقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل الثناء و حمد مقامه أبلغ الحمد. 

  •  

    1. أي جادل‌

تفسير الميزان ج۷

229
  • و ليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} (مريم: ٤١) على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب الله سبحانه في حق أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك). 

  • و أما الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم (عليه السلام) عما نسب إليه من الكذب و سائر ما لا يلائم قدس ساحته، و من أجمع ما يتضمن قصة الخليل (عليه السلام) ما في الكافي، عن علي عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مولده بكوثار۱ و كان أبوه من أهلها، و كانت أم إبراهيم و أم لوط (عليه السلام) و سارة و ورقة و في نسخة رقبة أختين و هما ابنتان للاحج، و كان لاحج نبيا منذرا و لم يكن رسولا. 

  • و كان إبراهيم (عليه السلام) في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عز و جل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك و تعالى إلى دينه و اجتباه، و أنه تزوج سارة ابنة لاحج و هي ابنة خالته و كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة و أرض واسعة و حال حسنة، و كانت قد ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه و أصلحه و كثرت الماشية و الزرع حتى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه. 

  • و إن إبراهيم (عليه السلام) لما كسر أصنام نمرود و أمر به نمرود فأوثق و عمل له حيرا٢ و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم (عليه السلام) في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم (عليه السلام) سليما مطلقا من وثاقه فأخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام) من بلاده، و أن يمنعوه من الخروج بماشيته و ماله فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على إبراهيم (عليه السلام) أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام) ما ذهب من عمره في بلادهم، و أخبر بذلك نمرود 

    1. كانت قرية من أعمال الكوفة و ضبطه الجزري كوثي.
    2. الحير مخفف الحائر و هو الحائط. 

تفسير الميزان ج۷

230
  • فأمرهم أن يخلوا سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم و لوطا (عليه السلام) معه من بلادهم إلى الشام. 

  • فخرج إبراهيم و معه لوط لا يفارقه و سارة، و قال لهم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى‌ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يعني إلى بيت المقدس فتحمل إبراهيم بماشيته و ماله و عمل تابوتا و جعل فيه سارة و شد عليها الأغلاق غيرة منه عليها و مضى حتى خرج من سلطان نمرود، و سار إلى سلطان رجل من القبط يقال له «عزارة» فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه فلما انتهى إلى العاشر و معه التابوت قال العاشر لإبراهيم (عليه السلام): افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشره و لا نفتحه. قال: فأبى العاشر إلا فتحه قال: و غصب‌۱ إبراهيم (عليه السلام) على فتحه فلما بدت له سارة و كانت موصوفة بالحسن و الجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم (عليه السلام): هي حرمتي و ابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها و حالك. 

  • قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه و التابوت معه فحملوا إبراهيم (عليه السلام) و التابوت و جميع ما كان معه حتى أدخل على الملك: فقال له الملك افتح التابوت فقال له إبراهيم (عليه السلام): أيها الملك إن فيه حرمتي و ابنة خالتي و أنا مفتد فتحه بجميع ما معي. 

  • قال: فغصب الملك إبراهيم على فتحه فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها فأعرض إبراهيم (عليه السلام) وجهه عنها و عنه غيرة منه و قال: اللهم احبس يده عن حرمتي و ابنة خالتي فلم تصل يده إليها و لم ترجع إليه فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره الحرام، و هو الذي حال بينك و بين ما أردته من الحرام فقال له الملك: فادع إلهك يرد علي يدي فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيم (عليه السلام): إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي. قال: فرد الله عز و جل إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة 

    1. بالمعجمة فالمهملة يقال: غصبه على كذا أي قهره.

تفسير الميزان ج۷

231
  • منه، و قال: اللهم احبس يده عنها. قال: فيبست يده و لم تصل إليها. 

  • فقال الملك لإبراهيم (عليه السلام): إن إلهك لغيور و إنك لغيور فادع إلهك يرد إلي يدي فإنه إن فعل لم أعد فقال إبراهيم (عليه السلام): أسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده. 

  • فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى و رأى الآية في يده عظم إبراهيم (عليه السلام) و هابه و أكرمه و اتقاه، و قال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشي‌ء مما معك فانطلق حيث شئت و لكن لي إليك حاجة فقال إبراهيم (عليه السلام): ما هي؟ فقال له: أحب أن تأذن لي أن أخدمها - قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما قال: فأذن إبراهيم (عليه السلام) فدعا بها فوهبها لسارة و هي هاجر أم إسماعيل (عليه السلام) . 

  • فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه، و خرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إعظاما لإبراهيم و هيبة له فأوحى الله تبارك و تعالى إلى إبراهيم (عليه السلام) أن قف و لا تمش قدام الجبار المتسلط و يمشي و هو خلفك، و لكن اجعله أمامك و امش خلفه و عظمه و هبه فإنه مسلط و لا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة فوقف إبراهيم (عليه السلام) و قال للملك: 

  • امض فإن إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظمك و أهابك، و أن أقدمك أمامي و أمشي خلفك إجلالا لك فقال له الملك: أوحي إليك بهذا؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): نعم فقال له الملك: أشهد إن إلهك لرفيق حليم كريم و أنك ترغبني في دينك. 

  • قال: و ودعه الملك فسار إبراهيم (عليه السلام) حتى نزل بأعلى الشامات، و خلف لوطا (عليه السلام) في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم (عليه السلام) لما أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع إبراهيم (عليه السلام) هاجر من سارة فوقع عليها فولدت إسماعيل (عليه السلام).

  • و من ذلك ما ذكرته أعني التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل (عليه السلام) مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة و بنائه الكعبة المشرفة و تشريع عمل الحج الحاكي لما جرى عليه و على أمه من المحنة و المشقة في ذات الله، و قد اشتمل على الطواف و السعي و التضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق (عليه السلام) . 

  • و قد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود و وبخهم على قولهم بأن الذبيح هو 

تفسير الميزان ج۷

232
  • إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل ٤٤ : فكلم الله إبراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك إسماعيل و اصعد الجبل لتقدمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر و هو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل ٤٤ آية: ١١-١٢.

  • و أما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل (عليه السلام)، قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الأصنام و إلقائه في النار و جعلها بردا و سلاما: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى‌ قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلى‌ إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلى‌ إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: ١١٣). 

  • و المتدبر في الآيات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف أن الذبيح هو الذي ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} و أن البشارة الأخرى التي ذكرها أخيرا بقوله {وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ} غير البشارة الأولى، و الذي بشر به في الثانية و هو إسحاق (عليه السلام) غير الذي بشر به في الأولى و أردفها بذكر قصة التضحية به. 

  • و أما الروايات فالتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) تذكر أن الذبيح هو إسماعيل (عليه السلام) ، و التي رويت من طرق أهل السنة و الجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل و صنف يذكر إسحاق (عليه السلام) غير أنك عرفت أن الصنف الأول هو الذي يوافق الكتاب. 

  • قال الطبري في تاريخه: اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، و قال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم. و قد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: هو إسحاق أوضح و أبين منه على صحة الأخرى. 

تفسير الميزان ج۷

233
  • -إلى أن قال-: و أما الدلالة من القرآن التي قلنا: إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجته سارة قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى‌ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ} و ذلك قبل أن يعرف هاجر، و قبل أن تصير له أم إسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عز و جل الخبر عن إجابة دعائه و تبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي. 

  • و لا نعلم في كتاب الله عز و جل تبشيرا لإبراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق و ذلك قوله: {وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} و قوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَ قَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ}

  • ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة. 

  • و أما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمر بذبح إسحاق و قد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته و ولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، و ذلك أن الله تعالى إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي و جائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه. 

  • و كذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة و ذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك، انتهى كلامه. 

  • و ليت شعري كيف خفي عليه أن إبراهيم (عليه السلام) لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام و عنده سارة و لا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ} فسأل ربه الولد، و لم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال: {رَبِّ هَبْ لِي} و لم يقل: رب هب لي من سارة. 

  • و أما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب 

تفسير الميزان ج۷

234
  • أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا. فمع ما سيجي‌ء من الكلام عليه في سائر الموارد التي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله سبحانه في هذه الآيات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق و لا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم (عليه السلام) قبل إسحاق بولد له آخر و ليس إلا إسماعيل، و قد اتفق الرواة و النقلة و أهل التاريخ أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق (عليه السلام) جميعا. 

  • و من ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنها تصرح أن إسماعيل ولد لإبراهيم (عليه السلام) قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما و أن إبراهيم (عليه السلام) طرده و أمه هاجر بعد تولد إسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة إسكانهما الوادي و نفاد الماء الذي حملته هاجر و عطش إسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء، و لا يرتاب الناظر المتدبر في القصة أن إسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع إليها و التأمل فيها، و هذا هو الذي يوافق المأثور من أخبارنا.

  • ٦ – [الجواب عما استشكل على القرآن على أمره]‌ 

  • القرآن الكريم يعتني أبلغ الاعتناء بقصة إبراهيم (عليه السلام) من جهة نفسه و من جهة ابنيه الكريمين إسماعيل و إسحاق و ذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق و شعب إسرائيل، و لا يلتفت إلى إسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره و يحقر شأنه، و مع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لإبراهيم (عليه السلام) أن نسلك الباقي هو من إسحاق، و تارة أخرى خطابه أن الله بارك لنسلك من عقب إسماعيل و سيجعله أمة كبيرة، و تارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد الناس و يضاده الناس قد نشأ رامي قوس مطرودا عن بيت أبيه، و تارة تذكر أن الله معه. 

  • و بالتأمل فيما تقدم من قصته (عليه السلام) في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب العزيز. 

  • الإشكال الأول: ما ذكره بعض المستشرقين‌۱ أن القرآن في سوره المكية لا 

    1. نقله النجار في قصص الأنبياء عن المستشرق هجرونييه و المستشرق فنسنك. في دائرة المعارف الإسلامية. 

تفسير الميزان ج۷

235
  • يتعرض لشأن إبراهيم و إسماعيل (عليه السلام) إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس و يدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة و صلته بإسماعيل و كونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة و الملة الحنيفية. لكن السور المدينة كالبقرة و الحج و غيرهما تذكر إبراهيم و إسماعيل متصلين اتصال الأبوة و البنوة و أبوين للعرب مشرعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام. 

  • و سر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا. هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم و بذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبلة بيهودية إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الإسلام بانيا لبيتهم المقدس الذي في مكة لما أن هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره. انتهى ملخصا. 

  • و قد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التي نسبها إلى الكتاب العزيز الذي له شهرته العالمية التي لا يتحجب معها على شرقي و لا غربي فكل باحث متدبر يشاهد أن القرآن الكريم لم يداهن مشركا و لا يهوديا و لا نصرانيا و لا غيرهم في سورة مكية و لا مدنية و لم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود و لا غيرهم بحسب مكية السور و مدنيتها. 

  • غير أن الآيات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينية، و كان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشئونهم و الإبانة عن التشديد في حقهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدنية كتفاصيل الأحكام المشرعة التي أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث. 

  • و أما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال إسماعيل بإبراهيم (عليه السلام) و بناء الكعبة و تأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة إبراهيم و هي مكية فيما حكاه من دعاء إبراهيم (عليه السلام): {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} -إلى أن قال- {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} -إلى أن قال- {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ} (إبراهيم: ٣٩) و قد مر نظيره في الآيات المنقولة من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح. 

تفسير الميزان ج۷

236
  • و أما ما ذكراه من يهودية إبراهيم (عليه السلام) فإن القرآن يرده بقوله تعالى: {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ مَا أُنْزِلَتِ اَلتَّوْرَاةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} -إلى أن قال- {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاَ نَصْرَانِيًّا وَ لَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: ٦٧). 

  • الإشكال الثاني: أن الصابئين و هم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض إبراهيم (عليه السلام) لآلهتهم بقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} إلى آخر الآيات إنما كانوا بمدينة حران التي هاجر إليها إبراهيم (عليه السلام) من بابل أو من «أور» و لازمه أن يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الأصنام و كسره الأصنام و دخوله النار، و لا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أن قصة الحجاج مع عبدة الأصنام و الكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه و قومه كما تقدم بيانه. 

  • أقول: و هذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذي تقدم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب. 

  • و مع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ و يعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئية التي كانت يومئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها و وجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها. 

  • و أما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل و وجود معابد كثيرة فيها بنيت على أسماء الكواكب و أصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ أرض بابل و ما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس و إله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف و مائتين قبل المسيح، و في نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس و إله القمر و هو مما يقرب زمن الخليل إبراهيم (عليه السلام) . 

  • و قد تقدم فيما نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيروني‌۱: أن يوذاسف ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، و أتى بالكتابة الفارسية، و دعا إلى 

    1. في بحث تاريخي في ذيل الآية ٦٢ من سورة البقرة.

تفسير الميزان ج۷

237
  • ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشدادية و بعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين و الكواكب و كليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف. 

  • و ساق الكلام -إلى أن قال-: و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظمون الأنوار، و من آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم، و كان اليونانيون و الروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتخذوها مسجدا. 

  • و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، و قران فإنها منسوبة إلى القمر و بناؤها على صورته كالطيلسان، و بقربها قرية تسمى سلمسين و اسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: و قرية أخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة. 

  • و يذكرون أن الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم و أن اللات كان باسم زحل، و العزى باسم الزهرة، انتهى. 

  • و ذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول و التكامل في دين الوثنية و أن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما، و أن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس و القمر و الزهرة و سائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الآلهة. 

  • قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند و الصين و غيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عز و جل جسم، و أن الملائكة أجسام لها أقدار و أن الله تعالى و ملائكته احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل و أصناما على صورة الباري عز و جل و بعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود و الأشكال، و منها على صورة الإنسان و على خلافها من الصور يعبدونها، و قربوا لها القرابين، و نذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى و قربها منه. 

  • فأقاموا على ذلك برهة من الزمان و جملة من الأعصار حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الأفلاك و الكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى و أنها حية ناطقة، و أن 

تفسير الميزان ج۷

238
  • الملائكة تختلف فيهما بينها و بين الله، و أن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله فعظموها و قربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا. 

  • فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار و في بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما و تماثيل على صورها و أشكالها فجعلوا لها أصناما و تماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، و كل صنف منهم يعظم كوكبا منها، و يقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للآخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الأصنام تحركت لهم الأجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، و بنوا لكل صنم بيتا و هيكلا مفردا، و سموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب. 

  • و قد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل، و إنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظما في سائر الأعصار لأنه بيت زحل، و أن زحل تولاه لأن زحل من شأنه البقاء و الثبوت، فما كان له فغير زائل و لا داثر، و عن التعظيم غير حائل و ذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها. 

  • و لما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى الله و ألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند و كان هنديا، و كان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان و بلاد زابلستان و هي بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند ثم إلى كرمان. 

  • فتنبأ و زعم أنه رسول الله، و أنه واسطة بين الله و بين خلقه، و أتى أرض فارس، و ذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، و قيل: ذلك في ملك جم، و هو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب. 

  • و قد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، و الاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس و إليها يقع الصدر من هذا العالم، و جدد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام و السجود لها لشبه ذكرها، و قرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل و الخدع. 

  • و ذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم و أخبار ملوكهم: أن جم الملك أول من عظم 

تفسير الميزان ج۷

239
  • النار و دعا الناس إلى تعظيمها، و قال: إنها تشبه ضوء الشمس و الكواكب لأن النور عنده أفضل من الظلمة، و جعل للنور مراتب. ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقربا إلى الله بذلك. 

  • ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم و هي سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، و بيت على جبل مارس بأصفهان، و بيت مندوسان ببلاد الهند، و بيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، و بيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، و بيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، و بيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلة الأولى. 

  • و اليونان و الروم القديم و الصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب كالبيت الذي بتونس للروم الذي على اسم الزهرة. 

  • ثم ذكر المسعودي أن للصابئين من الحرانيين‌۱ هياكل على أسماء الجواهر العقلية و الكواكب فمن ذلك هيكل العلة الأولى، و هيكل العقل. قال: و من هياكل الصابئة هيكل السلسلة، و هيكل الصورة و هيكل النفس و هذه مدورات الشكل، و هيكل زحل مسدس، و هيكل المشتري مثلث، و هيكل المريخ مربع مستطيل، و هيكل الشمس مربع، و هيكل عطارد مثلث الشكل، و هيكل الزهرة مثلث في جوف مربع مستطيل، و هيكل القمر مثمن الشكل، و للصابئة فيما ذكرنا رموز و أسرار يخفونها، انتهى. و قريب منه ما في الملل و النحل، للشهرستاني. 

  • و قد تبين مما نقلناه أولا: أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للآلهة و أرباب الأنواع كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب و الشمس و القمر، و كانت عندهم هياكل على أسمائها، و من الممكن أن يكون حجاج إبراهيم (عليه السلام) في أمر الكواكب و القمر و الشمس، مع الوثنية العابدين لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة أور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا. 

  • على أن ظاهر ما يقصه القرآن الكريم: أن إبراهيم (عليه السلام) حاج أباه و قومه و تحمل أذاهم في الله حتى اعتزلهم و هجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدسة من غير أن يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة، و الذي ضبطه كتب 

    1. يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقا لاشتهار حران بهذا الدين. 

تفسير الميزان ج۷

240
  • التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهر لمن تدبر تاريخ الطبري، و غيره. 

  • على أن بعضهم ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات و خابور، و هو غير حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم.۱ 

  • نعم ذكر المسعودي أن الذي بقي من هياكلهم - الصابئة - المعظمة في هذا الوقت و هو سنة اثنتين و ثلاثين و ثلاثمائة بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف «بمغليتيا» و هو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل (عليه السلام) عندهم، و للقوم في آزر و ابنه إبراهيم كلام كثير، انتهى. و لا حجة في قولهم على شي‌ء. 

  • و ثانيا: أنه كما أن الوثنية ربما كانت تعبد الشمس و القمر و الكواكب كذلك الصابئة كانت تبني بيوتا و هياكل لعبادة غير الكواكب و القمر و الشمس كالعلة الأولى و العقل و النفس و غيرها كالوثنية و تتقرب إليها مثلهم و قد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض و أن آخر الأبراج و هو أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب، و ليس في القبة شي‌ء من التماثيل و الأصنام، و لا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم الناس أن الله هو اختارها للخدمة و وظفها للملازمة. انتهى.٢ 

  • و لعله كان للعلة الأولى المنزهة عن الهيئات و الأشكال و إن كانوا ربما يصورونه بما يتوهمونه من الصور كما ذكره المسعودي. و قد ثبت أن فلاسفتهم كانوا ينزهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانية و الأشكال و الأوضاع المادية و يصفونه بما يليق به من الصفات غير أنهم كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم لتلقي ذلك، أو لمقاصد و أغراض سياسية توجب كتمان الحق. 

  •  

    1. ذكره في قاموس الكتاب المقدس في «حران».
    2. تاريخ هيرودوتوس اليوناني المؤلف في حدود ٥٠٠ق. م. 

تفسير الميزان ج۷

241
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٨٤ الی ٩٠]

  • {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى‌ وَ هَارُونَ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ٨٤ وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‌ وَ عِيسى‌ وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٨٥ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى اَلْعَالَمِينَ ٨٦ وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوَانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٨٧ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٨٨ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ٨٩ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى‌ لِلْعَالَمِينَ ٩٠} 

  • (بيان) 

  • اتصال الآيات بما قبلها واضح لا يحتاج إلى بيان فهي من تتمة حديث إبراهيم (عليه السلام) ، و الآيات و إن اشتملت على بعض الامتنان عليه و على من عد معه من الأنبياء كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} و قوله: {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} و قوله: {وَ كلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى اَلْعَالَمِينَ} إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة و الأيادي الجميلة الإلهية التي يتعقبها التوحيد الفطري و الاهتداء بالهداية الإلهية. 

تفسير الميزان ج۷

242
  • فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التي تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدي إليه الفطرة التي فطر الناس عليها، و قد تقدم أن قصة إبراهيم (عليه السلام) بالنسبة إلى الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام. 

  • و في سياق الآيات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية و عناية خاصة ربانية حفظ الله بها الفطرة الإلهية من أن تضيع بالأهواء الشيطانية، و تسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك غرض الخلقة و يذهب سدى كما يشعر بذلك قوله: {وَ وَهَبْنَا لَهُ} إلخ، و قوله: {وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ} إلخ، و قوله: {وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوَانِهِمْ} و قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ} إلخ. 

  • و في طي الآيات بيان ما تمتاز به الهداية الإلهية من غيرها من الخصائص و هي الاجتباء و استقامة الصراط و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوة على ما سيجي‌ء من البيان إن شاء الله. 

  • قوله تعالى: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} إسحاق هو ابن إبراهيم و يعقوب هو ابن إسحاق (عليه السلام) ، و قوله: {كُلاًّ هَدَيْنَا} قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الإلهية تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا أنها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم و بغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال: هدينا إبراهيم و هدينا إسحاق و هدينا يعقوب. كما قيل. 

  • قوله تعالى: {وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة و لا مبتدئة من إبراهيم (عليه السلام) بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح (عليه السلام) . 

  • قوله تعالى: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ} إلى قوله {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} الضمير في {ذُرِّيَّتِهِ} راجع إلى نوح ظاهرا لأنه المرجع القريب لفظا، و لأن في المعدودين من ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط و إلياس على ما قيل. 

  • و ربما قيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم (عليه السلام) و قد ذكر لوط و إلياس (عليه السلام) من الذرية تغليبا قال: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ} (العنكبوت: ٢٧) أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الآية 

تفسير الميزان ج۷

243
  • دون الباقين، و أما قوله: {وَ زَكَرِيَّا} إلخ، و قوله: {وَ إِسْمَاعِيلَ} إلخ، فمعطوفان على قوله: و من {ذُرِّيَّتِهِ} لا على قوله: {دَاوُدَ} إلخ، و هو بعيد من السياق. 

  • و أما قوله: {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء هو الهداية الإلهية المذكورة، و إليها الإشارة بقوله {كَذَلِكَ} و الإتيان بلفظ الإشارة البعيد لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) و المعنى نجزي المحسنين على هذا المثال. 

  • قوله تعالى: {وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} تقدم الكلام في معنى الإحسان و الصلاح فيما سلف من المباحث و في ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية نوح (عليه السلام) و هو إنما يتصل به من جهة أمه مريم دلالة واضحة على أن القرآن الكريم يعتبر أولاد البنات و ذريتهن أولادا و ذرية حقيقة، و قد تقدم استفادة نظير ذلك من آية الإرث و آية محرمات النكاح، و للكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى اَلْعَالَمِينَ} الظاهر أن المراد بإسماعيل هو ابن إبراهيم أخو إسحاق (عليه السلام) و قوله: {اَلْيَسَعَ} بفتحتين كأسد و قرئ «الليسع» كالضيغم أحد أنبياء بني إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل (عليه السلام) كما في قوله: {وَ اُذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيَارِ} (ص: ٤٨) و لم يذكر شيئا من قصته في كلامه. 

  • و أما قوله: {وَ كلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى اَلْعَالَمِينَ} فالعالم‌ هو الجماعة من الناس كعالم العرب و عالم العجم و عالم الروم، و معنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم لما أن الهداية الخاصة الإلهية أخذتهم بلا واسطة، و أما غيرهم فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، و يمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الإلهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن الهداية الإلهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس، و قد شملت المذكورين من الأنبياء و من لحق بهم من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم فالمجتمع الحاصل منهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهي. 

تفسير الميزان ج۷

244
  • و بالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الإلهية التي لا واسطة فيها، و الأنبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى و كالأئمة على ما تقدم في البحث عن قوله تعالى: {وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} (البقرة: ١٢٤) في الجزء الأول من الكتاب فلا يفضل عليهم الأنبياء (عليه السلام) من هذه الحيثية و إن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة أخرى غير جهة الهداية. 

  • و من هنا يظهر: أن استدلال بعضهم بالآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ليس في محله. 

  • و يظهر أيضا أن المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الإلهية الخاصة التي أخذتهم من غير توسط أحد، و أما كونهم أهل الاجتباء و أهل الصراط المستقيم و أهل الكتاب و الحكم و النبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الآية. 

  • و اعلم أن الذي وقع في الآيات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الأنبياء بأسمائهم - و هم سبعة عشر نبيا - لم يراع فيه الترتيب الذي بينهم لا بحسب الزمان و هو ظاهر، و لا بحسب الرتبة و الفضيلة فإن فيهم نوحا و موسى و عيسى (عليه السلام) ، و هم أفضل من باقي المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و قد قدم عليهم غيرهم في الذكر. 

  • و قد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الآيات الثلاث بين الأنبياء المسمين فيها و هم أربعة عشر نبيا - ما ملخصه: أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم. 

  • فالقسم الأول: داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون، و المعنى الجامع بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك و الإمارة و الحكم و السيادة مع النبوة و الرسالة، و قد قدم ذكر داود و سليمان و كانا ملكين غنيين منعمين، و ذكر بعدهما أيوب و يوسف، و كان أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، و كان يوسف وزيرا عظيما و حاكما متصرفا، و قد ابتليا بالضراء فصبرا و بالسراء فشكرا، و بعد ذلك موسى و هارون و كانا حاكمين في قومهما و لم يكونا ملكين. 

تفسير الميزان ج۷

245
  • فكل زوجين من هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية و الترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود و سليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب و يوسف، و هما من موسى و هارون، أو الترتيب من حيث الفضل الديني فالظاهر أن موسى و هارون أفضل من أيوب و يوسف، و هما أفضل من داود و سليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء و الشكر في السراء. 

  • و القسم الثاني: زكريا و يحيى و عيسى و إلياس، و هؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في الدنيا، و الإعراض عن لذائذها، و الرغبة عن زينتها، و لذلك خصهم هنا بوصف الصالحين لأن هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم و إن كان كل نبي صالحا و محسنا على الإطلاق. 

  • و القسم الثالث: إسماعيل و اليسع و يونس و لوط، و أخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا و سلطانها ما كان للقسم الأول، و لا من المبالغة من الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا. 

  • و في تفسير الرازي، ما يقرب منه و إن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازي، و يرد على ما ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به و هو غير مستقيم فإن إسماعيل (عليه السلام) قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ}  -إلى أن قال- {إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ}(الصافات: ١٠٨) و هذا من الخصائص الفاخرة التي اختص الله بها إسماعيل (عليه السلام) ، و بلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله و ترك عليه في الآخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة و كفى به ميزا. 

  • و كذلك يونس النبي (عليه السلام) امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه و هو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. 

  • و أما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول أمره مع إبراهيم (عليه السلام) حتى هاجر قومه و أرضه في صحابته، ثم أرسله الله إلى 

تفسير الميزان ج۷

246
  • أهل سدوم و ما والاه مهد الفحشاء التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين و هو من بيت لوط خلا امرأته. 

  • و أما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، و إنما ورد في بعض الروايات أنه كان وصي إلياس و قد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم (عليه السلام) من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و قد ابتلى الله قومه بالسنة و القحط العظيم. 

  • فالأحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال: إن الطائفة الأولى المذكورين و هم ستة اختصوا بالملك و الرئاسة مع الرسالة، و الطائفة الثانية و هم أربعة امتازوا بالزهد في الدنيا و الإعراض عن زخارفها، و الطائفة الثالثة - و هم أربعة - أولو خصائص مختلفة و محن إلهية عظيمة يختص كل بشي‌ء من المميزات و الله أعلم. 

  • ثم إن الذي ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى و هارون على أيوب و يوسف، و تفضيلهما على داود و سليمان بما ذكره من الوجه، و كذا جعله الصلاح بمعنى الزهد و الإحسان كل ذلك ممنوع لا دليل عليه. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوَانِهِمْ} هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم بأبوة أو بنوة أو أخوة. 

  • قوله تعالى: {وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال الراغب في المفردات: يقال: جبيت‌ الماء في الحوض جمعته و الحوض الجامع له جابية و جمعها «جواب» قال الله تعالى: {وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ}، و منه أستعير جبيت الخراج جباية و منه قوله تعالى: {يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ}، و الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عز و جل: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ}

  • قال: و اجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، و ذلك للأنبياء و بعض من يقارنهم من الصديقين و الشهداء كما قال تعالى: {وَ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}، {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ}{وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و قوله تعالى: {ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدى}، و قال عز و جل: {يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}، انتهى. 

تفسير الميزان ج۷

247
  • و الذي ذكره من معنى الاجتباء و إن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الأصلي بحسب انطباقه على صنعه فيهم و الذي يعطيه سياق الآيات أن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الأصلي و هو الجمع من مواضع و أمكنة مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: و جمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا و انضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا و كذا. 

  • و ذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الإلهية، و المناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع و توحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الإلهية، و يهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الأحوال، و لا بحسب الأزمان، و لا بحسب الأجزاء، و لا بحسب الأشخاص السائرين فيه، و لا بحسب المقصد. 

  • و ذلك أن صراطهم الذي هداهم الله إليه و إن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة و ضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الإجمال و التفصيل و قلة استعداد الأمم و كثرته، و الجميع متفق في حقيقة واحدة و هو التوحيد الفطري و العبودية التي تهدي إليه البنية الإنسانية بحسب نوع الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك و من المعلوم أن الخلقة الإنسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير و لا تتبدل تبدلا يقضي بتبدل أصول الشعور و الإرادة الإنسانيين فحواس الإنسان الظاهرة و إحساساته و عواطفه الباطنة و مبدأ القضاء و الحكم الذي فيه و هو العقل الفطري لا تزال تجري بحسب الأصول على وتيرة واحدة و إن اختلفت الآراء و المقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذي يتعلق بالنوع و التنبه بجهات حوائج الحياة. 

  • فلا يزال الإنسان يشعر بحاجته في المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح، و يشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، و يكره ما يؤلمه و يضربه، و يأمل سعادة الحياة و يخشى الشقاء و سوء العاقبة و إن اختلفت مظاهر حياته و صور أعماله عصرا بعد عصر و جيلا بعد جيل. 

  • قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) فالدين الحنيف 

تفسير الميزان ج۷

248
  • الإلهي الذي هو قيم على المجتمع الإنساني هو الذي تهدي إليه الفطرة و تميل إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، و تلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد و العمل، و بتعبير آخر من المعارف و الأخلاق و الأعمال. 

  • و هذا أمر لا يتغير و لا يتبدل لأنه مبني على الفطرة التكوينية التي لا سبيل للتغير و التبدل إليها فلا يختلف بحسب الأحوال و الأزمان بأن يدعو إلى السعادة الإنسانية في حال دون حال أو في زمان دون زمان، و لا بحسب الأجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الآخر بتناقض أو تضاد أو أي شي‌ء آخر يؤدي إلى إبطال بعضها بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدي التوحيد الذي يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن و التأثير في تقويم الحياة الإنسانية. 

  • و لا بحسب الأشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم، و لا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم و إن اختلفت دعوتهم بالإجمال و التفصيل بحسب اختلاف أعصار الإنسانية تكاملا و رقيا كما قال تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ}(آل عمران: ١٩) و قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}(الشورى: ١٣). 

  • و لا بحسب المقصد و الغاية فإنه التوحيد الذي يئول إليه شتات المعارف الدينية و الأخلاق الفاضلة و الأحكام الشرعية قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٩٢) و قال: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٢٥). 

  • و قد ظهر بما تقدم معنى قوله تعالى: {وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} و قد نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الحمد: ٧) لتتوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة - و الاستقامة في الشي‌ء كونه على وتيرة واحدة في صفته و خاصته فالصراط الذي هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهة من الجهات و لا حال من الأحوال لما أنه صراط مبني على الفطرة كما أن الفطرة الإنسانية و هي نوع خلقته و كونه لا تختلف من حيث إنها خلقة إنسانية في الهداية و الاهتداء إلى مقاصد الإنسان التكوينية. 

  • فهؤلاء المهديون إلى مستقيم الصراط في أمن إلهي من خطرات السير و عثرات 

تفسير الميزان ج۷

249
  • الطريق إذ كان الصراط الذي يسلكونه و المسير الذي يضربون فيه لا اختلاف فيه بالهداية و الإضلال و الحق و الباطل و السعادة و الشقاوة بل هو مؤتلف الأجزاء و متساوي الأحوال يقوم على الحق و يؤدي إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، و لا يورده إلى ظلم و شقاء و معصية قال تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ}(الأنعام: ٨٢). 

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إلى آخر الآية. يبين تعالى أن الذي ذكره من صفة الهداية التي هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه الخاص به الذي يهدي به من يشاء من عباده. 

  • فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، و الهدى إنما يكون هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى و هم الأنبياء المكرمون (عليه السلام) ، و اتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد و إقامة دعوة الحق و الاتسام بسمة العبودية و التقوى. 

  • أما الطريق الذي يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض و يكفر ببعض أو يفرق فيه بين أحكام الله و شرائعه فيؤخذ فيه ببعض و يترك بعض، و الطرق التي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الإنسانية فتلك هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه و قد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال و مزالق الأهواء، و الاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه. 

  • قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا} (النساء: ١٥١) و قال: {أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتَابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذَابِ} (البقرة: ٨٥) و قال: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} (القصص: ٥٠) يريد أن الطريق الذي فيه اتباع الهوى إنما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة و ليس بهدى الله لأن فيه ظلما و الله سبحانه لم يجعل الظلم و لن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة و لا أن السعادة تنال بظلم. 

تفسير الميزان ج۷

250
  • و بالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال و لا يجامع ضلالا بالتأدية إليه، و إنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد العطايا المعمولة فيما بيننا التي ينقطع معها ملك المعطي (بالكسر) عن عطيته و ينتقل إلى المعطى (بالفتح) فيحوزه على أي حال سواء شكر أو كفر. 

  • بل هذه العطية الإلهية إنما تقوم على شريطة التوحيد و العبودية فلا كرامة لأحد عليه تعالى و لا أمن له منه إلا بالعبودية محضا و لذلك ذيل الكلام بقوله: {وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} و إنما ذكر الإشراك لأن محط البيان إنما هو التوحيد. 

  • قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ} الإشارة باللفظ المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم و رفعة مقامهم، و المراد بإيتائهم الكتاب و غيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع و إن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله: {وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ} فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الأنبياء كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى (عليه السلام) . 

  • و الكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الأنبياء (عليه السلام) نوعا من النسبة يراد به الصحف التي تشتمل على الشرائع و يقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: ٢١٣) و قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ} -إلى أن قال- {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} (المائدة: ٤٨) إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و الحكم‌ هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، و إذا كان ذلك في الأمور الاجتماعية و القضايا العملية التي تدور بين المجتمعين عد نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال يجب على الإنسان أن يفعل كذا و يحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو أحب أو أكره أن تفعل كذا فتسمى الوجوب و الحرمة و الجواز و الاستحباب و الكراهة أحكاما كما تسمى القضايا المشتملة عليها أحكاما، و لأهل الاجتماع أحكام أخر ناشئة من نسب أخرى كالملك و الرئاسة و النيابة و الكفاية 

تفسير الميزان ج۷

251
  • و الولاية و غير ذلك. 

  • و إذا قصد به المعنى المصدري أريد به إيجاد الحكم و جعله إما بحسب التشريع و التقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاما صالحة ليجري عليها الناس و يعملوا بها في مسير حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، و إما بحسب التشخيص و النظر كتشخيص القضاة و الحكام في المنازعات و الدعاوي أن المال لفلان و الحق مع فلان و كتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم و قد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالي و الملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية و الملك. 

  • و الظاهر من الحكم في الآية بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب و الحكم إعطاء شرائع الدين و القضاء بحسبها بين الناس كما هو ظاهر عدة من الآيات كقوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: ٢١٣) و قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا} (المائدة: ٤٤) و قوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ }(النساء: ١٠٥) و قوله: {وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ}(الأنبياء: ٧٨) و قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} ( ص: ٢٦) إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة، و إن كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (الشعراء: ٨٣) لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى الأعم. 

  • و أما النبوة فقد تقدم في تفسير قوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ} (الآية) (البقرة: ٢١٣) أن المراد بها التحقق بأنباء الغيب بعناية خاصة إلهية و هي الأنباء المتعلقة بما وراء الحس و المحسوس كوحدانيته تعالى و الملائكة و اليوم الآخر. 

  • و عد هذه الكرامات الثلاث التي أكرم الله سبحانه بها سلسلة الأنبياء (عليه السلام) أعني الكتاب و الحكم و النبوة في سياق الآيات الواصفة لهداه تعالى يدل على أنها من آثار هداية الله و بها يتم العلم بالله تعالى و آياته فكأنه قيل: تلك الهداية التي جمعنا عليها الأنبياء (عليه السلام) و فضلناهم بها على العالمين هي التي توردهم صراطا مستقيما و تعلمهم الكتاب المشتمل على شرائعه، و تسددهم و تنصبهم للحكم بين الناس، و تنبئهم أنباء الغيب. 

تفسير الميزان ج۷

252
  • (كلام في معنى الكتاب في القرآن) 

  • الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التي تضبط فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما۱ لكن لما كان الاعتبار في استعمال الأسماء إنما هو بالأغراض التي وقعت التسمية لأجلها أباح ذلك التوسع في إطلاق الأسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع، و الغرض من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الإنسان كلما راجعه، و هذا المعنى لا يلازم ما خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الإنسان إذا حفظه كتاب و إذا أملاه عن حفظه كتاب و إن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطة بالقلم المعهود. 

  • و على هذا التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحي الملقى إلى النبي و خاصة إذا كان مشتملا على عزيمة و شريعة و كذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث و الوقائع نوعا من الضبط عند الله سبحانه، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}( ص: ٢٩) و قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (الحديد: ٢٢) و قال تعالى: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ} (الإسراء: ١٤). 

  • و في هذه الأقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة: {وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} (الأعراف: ١٤٥) و قوله: {وَ أَلْقَى اَلْأَلْوَاحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} (الأعراف: ١٥٠) و قوله: {وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْوَاحَ وَ فِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف: ١٥٤)٢

  • القسم الأول: الكتب المنزلة على الأنبياء (عليه السلام) و هي المشتملة على شرائع الدين - كما تقدم آنفا - و قد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح (عليه السلام) في قوله: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (البقرة: ٢١٣) و كتاب إبراهيم و موسى (عليه السلام) قال: {صُحُفِ

    1. و لعل إطلاق الكتاب على غير ما خطته اليد بالقلم من قبيل التوسع.
    2. فإن ظاهر الآيات أنها كانت على طريق التخطيط 

تفسير الميزان ج۷

253
  • إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى} (الأعلى: ١٩) و كتاب عيسى و هو الإنجيل قال: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ} (المائدة: ٤٦) و كتاب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) قال؟ {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ} (الحجر: ١) و قال: {رَسُولٌ مِنَ اَللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}(البينة: ٣) و قال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (عبس: ١٦) و قال: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: ١٩٥). 

  • القسم الثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها: ما يختص بكل نفس إنسانية كالذي يشير إليه قوله تعالى: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً} (الإسراء: ١٣) و قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} (آل عمران: ٣٠) إلى غير ذلك من الآيات، و منها: ما يضبط أعمال الأمة كالذي يدل عليه قوله: {وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتَابِهَا} (الجاثية: ٢٨) و منها: ما يشترك فيه الناس جميعا كما في قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: ٢٩) لو كان الخطاب فيه لجميع الناس. 

  • لعل لهذا القسم من الكتاب تقسيما آخر بحسب انقسام الناس إلى طائفتي الأبرار و الفجار و هو الذي يذكره في قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} -إلى أن قال- {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ} (المطففين: ٢١). 

  • القسم الثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود و الحوادث الكائنة فيه فمنها الكتاب المصون عن التغير المكتوب فيه كل شي‌ء كالذي يشير إليه قوله تعالى: {وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يونس: ٦١) و قوله: {وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(يس: ١٢) و قوله: {وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (ق: ٤) و قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}(الرعد: ٣٨) و من الآجال الأجل المسمى الذي لا سبيل للتغير إليه و قوله: {وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} (آل عمران: ١٤٦). 

تفسير الميزان ج۷

254
  • و لعل هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث و الموجودات، و كتاب خاص بكل موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به الآيتان الأخيرتان و سائر الآيات الكريمة التي تشاكلهما. 

  • و منها: الكتب التي يتطرق إليها التغيير و يداخلها المحو و الإثبات كما يدل عليه قوله تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) و استيفاء البحث عن كل قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحل الذي يناسبه من الكتاب و الله المستعان.

  • (كلام في معنى الحكم في القرآن) 

  • الأصل في مادة الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع، و بذلك سمي الحكم المولوي حكما لما أن الأمر يمنع به المأمور عن الإطلاق في الإرادة و العمل و يلجمه أن يقع على كل ما تهواه نفسه، و كذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن يتزلزل بالمنازعة و المشاجرة أو يفسد بالتعدي و الجور، و كذا الحكم بمعنى التصديق يمنع القضية من تطرق الشك إليه، و الأحكام و الاستحكام يشعران عن حال في الشي‌ء يمنعه من دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الأمر الأجنبي في داخله، و الأحكام يقابل بوجه التفصيل الذي هو جعل الشي‌ء فصلا فصلا يبطل بذلك التئام أجزائه و توحدها قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: ١) و إلى ذلك يعود معنى المحكم الذي يقابل المتشابه. 

  • قال الراغب في المفردات: حكم‌ أصله منع منعا لإصلاح، و منه سميت اللجام حكمة الدابة (بفتحتين) فقيل: حكمته، و حكمت الدابة منعتها بالحكمة، و أحكمتها جعلت لها حكمة، و كذلك حكمت السفينة و أحكمتها قال الشاعر: «أ بني حنيفة أحكموا سفهاءكم». انتهى. 

  • و الحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودي و هو الإيجاد الذي يساوق الوجود الحقيقي و الواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: ٤١). 

تفسير الميزان ج۷

255
  • و قال: {وَ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة: ١١٧) و منه يوجه قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اَللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبَادِ} (المؤمن: ٤٨). 

  • و إن كان في تشريع أفاد معنى التقنين و الحكم المولوي قال تعالى: {وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اَللَّهِ} (المائدة: ٤٣) و قال: {وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللَّهِ حُكْماً} المائدة: ٥٠). 

  • و إذا نسب إلى الأنبياء (عليه السلام) أفاد معنى القضاء و هو من المناصب الإلهية التي أكرمهم بها قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ}(المائدة: ٤٨) و قال تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ}(الأنعام: ٨٩). 

  • و لعل في بعض الآيات إشعارا أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في قوله حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) في دعائه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }(الشعراء: ٨٣). 

  • و أما غير الأنبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله: {وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ فِيهِ} (المائدة: ٤٧) و الحكم بمعنى التشريع و قد ذمهم الله عليه كما في قوله: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا}- -إلى أن قال- - {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الأنعام: ١٣٦) و قوله {وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحَاكِمِينَ} (هود: ٤٥) و الآية بحسب موردها يشمل الحكم بمعنى إنجاز الوعد و إنفاذ الحكم. 

  • قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الضميران في قوله: {يَكْفُرْ بِهَا} و قوله: {وَكَّلْنَا بِهَا} راجعان إلى الهدى و يجوز فيه التذكير و التأنيث من جهة أنه هداية، أو راجعان إلى الكتاب و الحكم و النبوة التي هي من آثار الهداية الإلهية، و لا يخلو أول الوجهين عن بعد، و المشار إليه بقوله: {هَؤُلاَءِ} الكافرون بالدعوة من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المتيقن منهم بحسب مورد الآية كفار مكة الذين أشار الله سبحانه إليهم بقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (البقرة: ٦). 

  • و المعنى على الوجه الأول: فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا و هي طريقتنا فقد وكلنا بها من عبادنا من ليس يكفر بها، و الكفر و الإيمان يتعلقان بالهداية و خاصة إذا كانت 

تفسير الميزان ج۷

256
  • بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه و آياته قال تعالى: {وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدى آمَنَّا بِهِ} (الجن: ١٣) و قال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٣٨). 

  • و على الوجه الثاني: فإن يكفر بالكتاب و الحكم و النبوة - و هي التي تشتمل على الطريقة الإلهية و الدعوة الدينية - مشركو مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. 

  • و أما أن هؤلاء القوم من هم: - و في تنكير اللفظ دلالة على أن لهم خطرا عظيما - فقد اختلف فيهم أقوال المفسرين: 

  • فمن قائل: إن المراد بهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة و هم ثمانية عشر نبيا أو مطلق الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو بنعوتهم في قوله: {وَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوَانِهِمْ}، و فيه أن سياق اللفظ لا يلائمه إذ ظاهر قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} نفي الحال أو الاستمرار في النفي و المذكورون من الأنبياء (عليه السلام) لم يكونوا موجودين حال الخطاب و لو كان المراد ذلك لكان المتعين أن يقال: لم يكونوا بها بكافرين، و ليس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) معدودا منهم بحسب هذه العناية و إن كان هو منهم و أفضلهم فإن الله سبحانه يذكره (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ذلك بقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ}

  • و من قائل إن المراد بهم الملائكة و فيه - كما قيل - إن القوم و خاصة إذا أطلق من غير تقييد لا يطلق على الملائكة و لا يسبق إلى الذهن على أن في الآية بحسب السياق نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا معنى لتسليته في كفر قومه بإيمان الملائكة. 

  • و من قائل إن المراد بهم المؤمنون به (صلى الله عليه وآله و سلم) عند نزول السورة في مكة أو مطلق المهاجرين. و فيه: أن بعض هؤلاء قد ارتدوا بعد إيمانهم كالذي قال سأنزل مثل ما أنزل الله، و قد تعرض سبحانه لأمره في هذه السورة بعد آيات، و قد كان فيهم المنافق فلا ينطبق عليهم قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}

  • و من قائل: إن المراد بهم الأنصار أو المهاجرون و الأنصار جميعا أو أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المهاجرين و الأنصار و هم الذين أقاموا هذه الدعوة على ساقها و نصروا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم العسرة، و قد مدحهم الله في كتابه أبلغ المدح. و فيه: أن كرامة جماعتهم و رفعة منزلتهم بما هم جماعة مما لا يدانيه ريب لكن كان بينهم من ارتد بعد إيمانه و المنافق الذي لم يظهر حاله بعد، و لا ينطبق على من هذا نعته مثل قوله تعالى: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً 

تفسير الميزان ج۷

257
  • لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} و ظاهره أنه لا سبيل للكفر إليهم و لم يقل: فقد وكلنا بها قوما يؤمنون بها أو آمنوا بها. 

  • و ربما يستفاد من كلمات بعضهم: أن المراد به قيام الإيمان بجماعتهم و إن أمكن أن يتخلف عن إقامته آحاد منهم و بعبارة أخرى قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} وصف للمجتمع و لا ينافي خروج بعض الأبعاض اتصاف المجتمع بوصفه القائم بالمجموع من حيث هو مجموع، و المؤمنون به (صلى الله عليه وآله و سلم) من الأنصار أو منهم و من المهاجرين أو الصحابة ثبت الإيمان فيهم ثبوتا من غير زوال و إن زال عن بعض أفرادهم. 

  • و هذا الوجه لو تم لدل على أن المراد بالقوم جميع الأمة المسلمة أو المؤمنون من جميع الأمم، و لا دليل من تخصيصه بقوم دون قوم، و اختصاص بعضهم بمزايا و كرامات دينية كتقدم المهاجرين في الإيمان بالله و الصبر على الأذى في جنب الله، أو تبوء الأنصار الدار و الإيمان و إعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلا فضل اتصافهم بهذا النعت لا اختصاصه بهم و حرمان غيرهم منه مع مشاركته إياهم في معناه. 

  • إلا أنه يرد على هذا الوجه: أن المألوف من كلامه في الأوصاف الاجتماعية التي لا تستوعب جميع أفراد المجتمع أن يستثني المتخلفين عنها لو كان هناك متخلف أو يأتي بما في معنى الاستثناء كقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (التين: ٦). 

  • و قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} -إلى أن قال- {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: ٢٩) و قوله: {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنَّارِ} -إلى أن قال- {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} (النساء: ١٤٦) و قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اَللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} -إلى أن قال- {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا} (آل عمران: ٨٩) و هذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال قوله: {قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} لم يستثن منه المتخلف عن الوصف من القوم مع وجوده فيهم. 

  • و أغرب منه قول بعضهم: إن المراد بوصف القوم بأنهم ليسوا بها بكافرين - و القوم 

تفسير الميزان ج۷

258
  • على قوله هم الأنصار - الإشارة إلى أنهم و إن لم يؤمنوا بها بعد لكنهم لم يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكة. و فيه مضافا إلى أنه لا يسلم مما تقدم من الإشكال على الوجوه السابقة أن أهل المدينة من الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين يعبدون الأصنام و لا معنى لنفي الكفر عنهم اللهم إلا بمعنى الرد بعد الدعوة و هو الاستكبار و الاستنكاف و لا دليل على كون الكفر في الآية بهذا المعنى مع كون الآيات مسوقة لوصف الهداية الإلهية المقابلة للإشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله: {وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. و فيه: أن التوكيل المذكور في الآية يفيد معنى الحفظ، و لا معنى لقولنا: إن يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها و لم يردوها بعد. 

  • و من قائل: إن المراد بهم العجم و لم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ و كأنه مأخوذ من قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ} (النساء: ١٣٣) فقد ورد أن المراد بالآخرين هم العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه. 

  • و من قائل: إن المراد بالقوم هم المؤمنون من أمة محمد ص أو المؤمنون من جميع الأمم. و فيه: أنه يرد عليه ما أورد على ما قبله من الوجوه. نعم يمكن أن يوجه بأن المراد بهم نفوس من هذه الأمة أو من جميع الأمم يؤمن بالله إيمانا لا يعقبه كفر ما دامت تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون و ليسوا بها بكافرين و إن لم يمتنع الكفر عليهم لكن دوامهم على الإيمان بدعوة التوحيد من غير كفر أو نفاق يستدعي صدق قوله {قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}عليهم و يتم به معنى الآية في أنها مسوقة لتسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب قلبه الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه و استكبارهم عن إجابة دعوة الحق و الإيمان بالله و آياته، و في أنها دالة على اعتزازه تعالى بحفظ هدايته و طريقته التي أكرم بها عباده المكرمين و أنبياءه المقربين. 

  • لكن يتوجه إليه أن بناء هذا الوجه على قضية اتفاقية و هي إيمان المؤمنين بها إيمانا يتفق أن يبقى سليما من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، و لا يلائمه قوله تعالى: {وَكَّلْنَا بِهَا} فإن التوكيل يفيد معنى الاعتماد و يتضمن معنى الحفظ و الكلاءة، و لا وجه للاعتزاز و المباهاة بأمر لا ضامن لثباته و لا حافظ لاستقراره و بقائه. 

  • على أن الله سبحانه يذم كثيرا من الإيمان إذ يقول: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ 

تفسير الميزان ج۷

259
  • وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) و هذه الآيات إنما تصف التوحيد الفطري المحض و الهداية الإلهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرك و الظلم التي أكرم الله بها خليله إبراهيم و من قبله و بعده من الأنبياء المكرمين (عليه السلام) كما يذكره إبراهيم (عليه السلام) في قوله على ما يحكيه الله سبحانه عنه: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢) و الهداية التي هذا شأنها لا يعد كل متلبس بالإيمان حافظا لها موكلا بها من الله يحفظها الله به من الضيعة و الفساد البتة و فيهم الطغاة و البغاة و الفراعنة و المستكبرون و الجفاة الظلمة و أهل البدع و المتوغلون في الفجور و أنواع الفحشاء و الفسق. 

  • و الذي ينبغي أن يقال في معنى الآية أعني قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} إن الآيات لما كانت تصف التوحيد الفطري و الهداية الإلهية الطاهرة من شوب الشرك بالله سبحانه، و تذكر أن الله سبحانه أكرم بهذه الهداية سلسلة متصلة متحدة من أنبيائه و اصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه و آتاهم الكتاب و الحكم و النبوة. 

  • ثم فرع على ذلك قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} و سياقه سياق اعتزاز منه تعالى و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب لنفسه لئلا يوهنه الحزن و يفسخ عزيمته في الدعوة الدينية ما يشاهده من كفر قومه و استكبارهم و عمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه من كفرهم بهذه الهداية الإلهية و الطريقة التي تشتمل عليها الكتاب و الحكم و النبوة التي آتيناها سلسلة المهديين من الأنبياء الكرام فإنا قد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة و الزوال إلى هذه الهداية الإلهية لأنا وكلناهم بها و اعتمدنا عليهم فيها و أولئك غير كافرين بها البتة. 

  • فهؤلاء قوم لا يتصور في حقهم كفر و لا يدخل في قلوبهم شرك لأن الله وكلهم بها و اعتمد عليهم فيها و حفظها بهم و لو جاز عليهم الشرك و أمكن فيهم التخلف كان الاعتماد عليهم فيها خطاء و ضلالا و الله سبحانه لا يضل و لا ينسى. 

  • فالآية تدل و الله أعلم على أن لله سبحانه في كل زمان عبدا أو عبادا موكلين بالهداية الإلهية و الطريقة المستقيمة التي يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب و الحكم و النبوة يحفظ الله بهم دينه عن الزوال و هدايته عن الانقراض، و لا سبيل للشرك و الظلم إليهم 

تفسير الميزان ج۷

260
  • لاعتصامهم بعصمة إلهية و هم أهل العصمة من الأنبياء الكرام و أوصيائهم (عليه السلام) . 

  • فالآية خاصة بأهل العصمة و قصارى ما يمكن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون من المؤمنين ممن اعتصم بعصمة التقوى و الصلاح و محض الإيمان عن الشرك و الظلم، و خرج بذلك عن ولاية الشيطان قال تعالى. {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل: ٩٩) إن صدق عليهم أن الله وكلهم بها و اعتمد عليهم فيها. 

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ} إلى آخر الآية. عاد ثانيا إلى تعريفهم بما فيه تعريف الهدى الإلهي فالهدى الإلهي لا يتخلف عن شأنه و أثره و هو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: {فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (النحل: ٣٧). 

  • و قد أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ}بالاقتداء و هو الاتباع بهداهم لا بهم لأن شريعته ناسخة لشرائعهم و كتابه مهيمن على كتبهم، و لأن هذا الهدى المذكور في الآيات لا واسطة فيه بينه تعالى و بين من يهديه، و أما نسبة الهدى إليهم في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ} فمجرد نسبة تشريفية، و الدليل عليه قوله: {ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ} إلخ. 

  • و قد استدل بعضهم بالآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه، و فيه: أن ذلك إنما يتم لو كان قيل: فبهم اقتده، و أما قوله {فَبِهُدَاهُمُ اِقْتَدِهْ} فهو بمعزل عن الدلالة على ذلك، كما هو ظاهر. 

  • و ختم سبحانه كلامه في وصف التوحيد الفطري و الهداية الإلهية إليه بقوله خطابا لنبيه: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعَالَمِينَ} كأنه قيل: اهتد بالهدى الإلهي الذي اهتدى به الأنبياء قبلك، و ذكر به العالمين من غير أن تسألهم أجرا على ذلك، و قل لهم ذلك لتطيب به نفوسهم، و يكون أنجح للدعوة و أبعد من التهمة، و قد حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن نوح و من بعده من الأنبياء (عليه السلام) في دعواتهم. 

  • و الذكرى أبلغ من الذكر كما ذكره الراغب، و في الآية دليل على عموم نبوته (صلى الله عليه وآله و سلم) لجميع العالمين. 

تفسير الميزان ج۷

261
  • (بحث روائي) [في أن الإسلام يعد أولاد البنات أولادا و ذرية.] 

  • في قصص الأنبياء، للثعلبي: أن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يسمى اليسع بن خطوب، و كان به ضر فآوته و أخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، و اتبع اليسع إلياس فآمن به و صدقه و لزمه فكان يذهب حيثما يذهب، ثم ذكر قصة رفع إلياس، و أن اليسع ناداه عند ذلك: يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف إليه كساءه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل. 

  • قال: و نبأ الله تعالى بفضله اليسع (عليه السلام) و بعثه نبيا و رسولا إلى بني إسرائيل، و أوحى الله تعالى إليه و أيده بمثل ما أيد به عبده إلياس فآمنت به بنو إسرائيل و كانوا يعظمونه و ينتهون إلى رأيه و أمره، و حكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع. 

  • و في البحار، عن الاحتجاج و التوحيد و العيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد النوفلي عن الرضا (عليه السلام): فيما احتج به على جاثليق النصارى -إلى أن قال- (عليه السلام): إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى (عليه السلام) مشى على الماء و أحيى الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فلم يتخذه أمته ربا. الخبر. 

  • و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} لنجعلها في أهل بيته، {وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} لنجعلها في أهل بيته فأمر العقب من ذرية الأنبياء من كان قبل إبراهيم و لإبراهيم.

  •  أقول: و فيه تأييد ما قدمناه أن الآيات لبيان اتصال سلسلة الهداية. 

  • و في الكافي، مسندا و في تفسير العياشي، مرسلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: و الله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ثم تلا: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ} إلى آخر الآية و ذكر عيسى.

  • و في تفسير العياشي، عن أبي حرب عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن و الحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب الله، و قد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال: أ ليس تقرأ سورة الأنعام؟ {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ} حتى بلغ يحيى و عيسى قال: أ ليس عيسى من ذرية إبراهيم؟ 

تفسير الميزان ج۷

262
  • قال: نعم قرأت:. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن أبي الحرب بن أبي الأسود: مثله. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و الحاكم و البيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن معمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). فقال يحيى: كذبت فقال لتأتيني على ما قلت ببينة فتلا: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ} إلى قوله {وَ عِيسى وَ إِلْيَاسَ} فأخبر تعالى أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه. قال: صدقت. 

  • أقول: ذكر الآلوسي في روح المعاني، في قوله تعالى: و {عِيسى}، و في ذكره (عليه السلام) دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لأن انتسابه ليس إلا من جهة أمه. و أورد عليه: أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم و تعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية. و فيه منع ظاهر و المسألة خلافية، و الذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية، و بها احتج موسى الكاظم رضي الله عنه على ما رواه البعض عند الرشيد. 

  • و في التفسير الكبير: أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف و بآية المباهلة حيث دعا (صلى الله عليه وآله و سلم) الحسن و الحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ}. و ادعى بعضهم: أن هذا من خصائصه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة، و الذي أميل إليه القول بالدخول. انتهى. 

  • و قال في المنار: و أقول: في الباب‌ حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا: «أن ابني هذا سيد» يعني الحسن‌، و لفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، و حديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا: «و كل ولد آدم فإن عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أبوهم و عصبتهم» و قد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمة (عليه السلام): أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبناؤه و عترته و أهل بيته. انتهى. 

  • أقول: و في المسألة خلط، و قد اشتبه الأمر فيها على عدة من الأعلام فحسبوا أن المسألة لفظية يتبع فيها اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر: 

  • بنونا بنو أبنائنا و بناتنا***بنوهن أبناء الرجال الأباعد 

تفسير الميزان ج۷

263
  • و قوله: 

  • و إنما أمهات الناس أوعية***مستودعات و للأنساب آباء 
  • و قد أخطئوا في ذلك، و إنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة، و الأمم و الأقوام مختلفة في تحديدها و تشخيصها و أن المرأة هل هي داخلة في القرابة؟ و أن أولاد بنت الرجل هل هي أولاده؟ و أن القرابة هل تختص بما يحصل بالولادة أو تعمه و ما حصل بالادعاء؟ و قد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا القرابة الطبيعية التي تؤثر أثرها في الازدواج و الإنفاق و نحو ذلك، و لا ترى لها قرابة قانونية تسمح لها بالوراثة و نحوها، و أما أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة، و كانت ترى قرابة الأدعياء و تسمى الدعي ابنا لا لأن اللغة كانت تجوز ذلك بل لأنهم اتبعوا في ذلك ما تجاورهم من الأمم الراقية ترى ذلك بحسب قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم و إيران. 

  • و أما الإسلام فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى: {وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} (الأحزاب: ٤) و أدخل المرأة في القرابة و رتب على ذلك آثارها و أدخل أولاد البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث: {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} (الآية) (النساء: ١١) و قال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} (النساء: ٧) و قال في آية محرمات النكاح: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ} -إلى أن قال- {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } (النساء: ٢٤) فسمى بنت البنت بنتا و أولاد البنات أولادا من غير شك في ذلك، و قال تعالى: و {يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْيَاسَ} الآية فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح (عليه السلام) و هو غير متصل بهما إلا من جهة الأم. 

  • و قد استدل أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) بهذه الآية و آية التحريم و آية المباهلة على كون ابن بنت الرجل ابنا له و الدليل عام و إن كان الاحتجاج على أمر خاص و لأبي جعفر الباقر (عليه السلام) احتجاج آخر أصرح من الجميع‌ رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن و الحسين؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقول الله عز و جل في عيسى بن مريم: {وَ مِنْ 

تفسير الميزان ج۷

264
  • ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هَارُونَ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى} فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح. 

  • قال: فأي شي‌ء قالوا لكم؟ قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد و لا يكون من الصلب. قال: فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم){فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ} ثم قال: أي شي‌ء قالوا: قلت قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل و آخر يقول: أبناؤنا. 

  • قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): لأعطينكما۱ من كتاب الله عز و جل أنهما من صلب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يرده إلا كافر. قلت: و أين ذلك جعلت فداك؟ قال: من حيث قال الله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ} (الآية) إلى أن انتهى إلى قوله تبارك و تعالى: {وَ حَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا و فجروا، و إن قالوا: لا، فإنهما ابناه لصلبه. و روى قريبا منه القمي في تفسيره.

  • و بالجملة فالمسألة غير لفظية، و قد اعتبر الإسلام في المرأة القرابة الطبيعية٢ و التشريعية جميعا، و كذا في أولاد البنات أنهم من الأولاد و أن عمود النسب يجري من جهة المرأة كما يجري من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبي من جهة الدعاء أو من غير نكاح شرعي، و قد روى الفريقان عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: «الولد للفراش و للعاهر الحجر» غير أن مساهلة الناس في الحقائق الدينية أنستهم هذه الحقيقة و لم يبق منها إلا بعض آثارها كالوراثة و الحرمة و لم تخل السلطات الدولية في صدر الإسلام من تأثير في ذلك، و قد تقدم البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب. 

  • و في تفسير النعماني، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن صاحب هذا الأمر محفوظة له لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه، 

    1. لأعطينك ظ.
    2. المراد بالقرابة الطبيعية ليست هي الولادة و ما يتبعها بحسب الوراثة التكوينية الجارية في الحيوان بل القرابة من حيث تستتبع أحكاما تشريعية لا كثير مئونة في جعلها كاختصاص الإنسان بما ولده و حق حضانته مثلا تجاه ما في جعله مئونة زائدة، و هو نظير الحكم الطبيعي في اصطلاحهم.

تفسير الميزان ج۷

265
  • و هم الذين قال الله عز و جل: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} و هم الذين قال الله فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ}.

  •  أقول: و هو من الجري. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): قال الله عز و جل في كتابه: {وَ نُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} إلى قوله {بِكَافِرِينَ} فإنه وكل بالفضل من أهل بيته و الإخوان و الذرية، و هو قول الله تبارك و تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أمتك فقد وكلنا أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا، و لا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك و ولاة أمري بعدك، و أهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب و لا إثم و لا وزر و لا بطر و لا رياء. 

  • أقول: و رواه العياشي مرسلا و كذا الذي قبله و الحديث كسابقه من الجري. 

  • و في المحاسن، بإسناده علي بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أبو عبد الله (عليه السلام): و لقد دخلت على أبي العباس و قد أخذ القوم مجلسهم فمد يده إلي و السفرة بين يديه موضوعة فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة فدخلني بذلك ما شاء الله أن يدخلني إن الله يقول: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} قوما و الله يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يذكرون الله كثيرا. 

  • أقول: محصله استحياؤه (عليه السلام) من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة اضطرارا كأن في وطء السفرة كفرانا لنعمة الله ففيه تعميم للكفر في قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} لكفر النعمة. 

  • و في النهج: اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى. 

  • أقول: و استفادته من الآيات ظاهرة. 

  • و في تفسير القمي، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: و أحسن الهدى هدى الأنبياء. 

  •  

تفسير الميزان ج۷

266
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ٩١ الی ١٠٥ ]

  • {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى‌ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى‌ نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ٩١ وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى‌ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى‌ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٩٢ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‌ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ لَوْ تَرى‌ إِذِ اَلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ٩٣ وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى‌ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مَا نَرى‌ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٩٤ إِنَّ اَللَّهَ فَالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى‌ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ ذَلِكُمُ اَللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٩٥ فَالِقُ 

تفسير الميزان ج۷

267
  • اَلْإِصْبَاحِ وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ ٩٦ وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٩٧ وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ٩٨ وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِباً وَ مِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ اُنْظُرُوا إِلى‌ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٩٩ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ اَلْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‌ عَمَّا يَصِفُونَ ١٠٠بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ١٠١ ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ ١٠٢ لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ ١٠٣ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ١٠٤ وَ كَذَلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ١٠٥} 

تفسير الميزان ج۷

268
  • (بيان) 

  • الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقولهم: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى‌ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، و الآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الإلهية التي أكرم بها أنبياءه. 

  • فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها كالذي قال: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ}

  • ثم تذكر الآيات ما يئول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مساءلة الموت إذا غشيتهم غمراته و الملائكة باسطوا أيديهم، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى و ذكر أشياء من أسمائه الحسنى و صفاته العليا. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى‌ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} قدر الشي‌ء و قدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر و نحوهما يقال: قدرت‌ الشي‌ء قدرا و قدرته‌ بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشي‌ء و هندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس و في المجتمع أي عظمته في أعين الناس و وزنه في مجتمعهم و قيمته الاجتماعية. 

  • و إذ كان تقدير الشي‌ء و تحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر و التقدير على الوصف و على المعرفة بحال الشي‌ء - على نحو الاستعارة - فيقال قدر الشي‌ء و قدره أي وصفه، و يقال: قدر الشي‌ء و قدره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا. 

  • و لما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس و لا وهم و لا عقل و إنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف و ينال من عظمته ما دلت عليه آياته و أفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: {مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته. فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب 

تفسير الميزان ج۷

269
  • بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإيتائهم الكتاب و الحكم و النبوة، و عنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق و نعمة الهداية بين الناس زمانا بعد زمان و جيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى و إخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية بشئون عباده و هدايتهم إلى هدفهم من السعادة و الفلاح. 

  • و يؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: ٦٧). 

  • و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: ٧٤) أي و قوته و عزته و ضعف غيره و ذلته تقتضيان أن لا يحط قدره و لا يسوى هو و ما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة و أربابا فالأنسب بالآية هو المعنى الأول و إن لم يمتنع المعنيان الآخران، و أما تفسير {مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية. 

  • و لما قيد قوله تعالى: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} بالظرف الذي في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه و عدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي و الكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية و خصائص الربوبية أن ينزل الوحي و الكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط و الفوز بسعادة الدنيا و الآخرة فهي الدعوى. 

  • و قد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى و الحجاج له بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى} إلخ، و بقوله: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} و الأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء (عليه السلام) الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء (عليه السلام) نوح و من بعده، و هي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} - إلى قوله - {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعَالَمِينَ}

تفسير الميزان ج۷

270
  • و الثاني من القولين احتجاج بوجود معارف و أحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعة بما له من العواطف و الأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء و المسكن و اللباس و النكاح و جلب المنافع و دفع المضار و المكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني، و أما المعارف الإلهية و الأخلاق الفاضلة الطيبة و الشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي و أنى للشعور الاجتماعي ذلك؟ و هو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية، و مقاصده في المأكل و المشرب و المنكح و الملبس و المسكن و ما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد و الاشتراك في المنافع و رعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه، و هو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ} (الآية) (البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من الكتاب، و سنزيده وضوحا إن شاء الله. 

  • و بالجملة فالآية أعني قوله تعالى: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط و منزل السعادة بإنزال الكتاب و الوحي على بعض أفراده، و تستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا، و بوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا. 

  • قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً} القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب و المخاطبون به اليهود لا محالة، و قرئ «يجعلونه» بصيغة الغيبة، و المخاطب المسئول عنه بقوله: {مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ} إلخ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل، و المراد يجعل الكتاب قراطيس و هي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها، و إما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف و القراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا. 

تفسير الميزان ج۷

271
  • و قوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى} إلخ. جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} و الآية و إن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ}هم اليهود أيضا، و ذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى (عليه السلام) و المشركون لا يعترفون به و لا يقولون بنزوله من عند الله، و إنما القائلون به أهل الكتاب، و أيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون كثيرا، و هذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين. 

  • على أن قوله بعد ذلك: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم و سيجي‌ء إن شاء الله تعالى. 

  • و أما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى و من قبله (عليه السلام) و بنزول كتب سماوية كالتوراة و غيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من شي‌ء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه: أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، و قد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: {هَؤُلاَءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد و أساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: ٥١). 

  • و قولهم - و هو أبين سفها من سابقه - اغتياظا على النصارى: إن إبراهيم (عليه السلام) كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى: {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ مَا أُنْزِلَتِ اَلتَّوْرَاةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} -إلى أن قال- {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاَ نَصْرَانِيًّا وَ لَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: ٦٧) إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم. 

تفسير الميزان ج۷

272
  • و من كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة. 

  • و أما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة و إنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم و الدار دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس و الدين عام و دعوته شاملة لجميع الناس و القرآن ذكر للعالمين و هم و المشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما و قد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى: {وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: ٤٦) و قوله: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (النحل: ١١٨) و قد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية. 

  • و من المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة و في داخل الجزيرة طوائف من اليهود و النصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها و لا يقولوا شيئا لها أو عليها و قد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة و قرءوا سورة مريم المكية عليهم و فيها قصة عيسى و نبوته. 

  • و أما قول من قال: إن السورة يعني سورة الأنعام إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه و عامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإرجاع الضمير في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم، و لم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة «يجعلونه» إلخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب. 

  • و أما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة 

تفسير الميزان ج۷

273
  • المنزلة على موسى (عليه السلام) فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة. 

  • ففيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات و إن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق و ينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد و النبوة و المعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة و نزول الكتاب لدخوله في غرض السورة، و وقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول الدين الإلهي و إن كان القائل به من غير المشركين و عبدة الأصنام، و لعله مما لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ربما بعثوا إليهم الوفود لذلك. 

  • على أن قوله: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ} و القول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه و خاصة مع وصفها بأنها نور و هدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدعي ذلك و المصحح للخطاب هو الأول دون الثاني. 

  • و أما قراءة «يجعلونه» إلخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله {مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى}، و قوله: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} لليهود. 

  • و قد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه: إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير و أبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لأن يخاطب الله البشر بشي‌ء، و قد اعترفوا بكتاب موسى و أرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء. 

تفسير الميزان ج۷

274
  • فهو تعالى يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شي‌ء كقولهم: أ بعث الله بشرا رسولا: {مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً} انقشعت به ظلمات الكفر و الشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين {وَ هُدىً لِلنَّاسِ} أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام و الشرائع الإلهية فكانوا على النور و الهدى إلى أن اختلفوا فيه و نسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء «يجعلونه قراطيس يبدونها» فيما وافق «و يخفون كثيرا» مما لا يوافق أهواءهم. 

  • قال: و الظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة و كذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم و كتموا بشارة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شي‌ء كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد و لا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود و غيرهم بالخطاب لليهود فيقول: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً} مع عدم نسخ القراءة الأولى. 

  • قال: و بهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، و يزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصا. 

  • و أنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله و كذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} على ما أشرنا إليه، و كذا تخصيصه قوله تعالى: {نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ} باليهود فقط و كذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} كر على ما فر منه. 

  • على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم و يخاطبهم بقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً} مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة و هي إحدى آياته و مرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة و لا جزء منها، و إن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية و لا القراءة قراءة، و إن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} إلخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب و الغيبة جميعا و أن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله 

تفسير الميزان ج۷

275
  • من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو القراءة عليه و نحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر. 

  • و اعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة، و أما على ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها. 

  • قوله تعالى: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} المراد بهذا العلم الذي علموه و لم يكونوا يعلمونه هم و لا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع و الضار في الحياة مما جهز الإنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس و خيال و عقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به و لا رابطة بين حصول العلوم العادية للإنسان من الطرق المودعة فيه و بين المدعى و هو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى سعادته و تنزل على بعض أفراده الوحي و الكتاب. 

  • و ليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى: {وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ} (النحل: ٧٨) و قوله: {اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ اَلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٥)، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك. 

  • فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه، و ليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه و حملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهية و الأحكام و الشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإنسان أن تنالها. 

  • و من هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} إلخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة و الشرائع الإلهية شي‌ء بين يعرفونه و يعترفون به و الذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف، و قد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْ لاَ يُكَلِّمُنَا اَللَّهُ} (البقرة: ١١٨). 

  • فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، و ليس بموجه إلى المسلمين أما أولا: فلأن السياق سياق الاحتجاج، و لو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق الاحتجاج 

تفسير الميزان ج۷

276
  • من غير نكتة ظاهرة. 

  • و أما ثانيا: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، و العدول من خطاب المخاطبين بقوله: {مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى} إلخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: {وَ عُلِّمْتُمْ} إلخ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين و المسلمين و هم اليهود المخاطبون بصدر الآية. 

  • فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} عنادا و ابتغاء للفتنة من طريقين: 

  • أحدهما: طريق المناقضة و هو أنهم مؤمنون بالتوراة و أنها كتاب جاء به موسى (عليه السلام) نورا و هدى للناس و يناقضه قولهم: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها و يخفون كثيرا. 

  • و ثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب و لا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه و ذلك كالمعارف الإلهية و الأخلاق الفاضلة و الشرائع و القوانين الناظمة للاجتماع و المعدلة له أحسن نظم و تعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها و خاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب، و التي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد و النبوة و المعاد و الأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنساني، فمجرد العلم بشي‌ء غير دخوله في مرحلة العمل و استقراره في المستوى العام الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ المادة و غريزة استخدام كل شي‌ء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس و التسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف و الحقائق المدفونة في فطرته ثم يبني و يدوم عليها و في مسير حياته و خاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع و استقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شي‌ء من أقطاره شي‌ء من الفضائل الإنسانية، و لا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية و استسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها و صرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال 

تفسير الميزان ج۷

277
  • بالمعنويات و منعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة. 

  • و لم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم و الملل رجلا من رجال السياسة و الحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانية و المعارف الطاهرة الإلهية، و طريق التقوى و العبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها و استقامة الأمر لها، و غاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية - الديمقراطية و ما يشابهها أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل المعنوية و الكمالات و المقاصد العالية الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم و ألجأتهم الفطرة إلى إعظامها و الاحترام لها كالعدل و العفة و الصدق و حب الخير و نصح النوع الإنساني و الرأفة بالضعيف و غير ذلك فسروها بما يوافق جاري عملهم و الدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم. 

  • و بالجملة فالعقل الاجتماعي و الشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإنسان إلى هذه المعارف الإلهية و الفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإنسانية على تنوعها و تطورها تتضمن أسماء كثيرة منها و احترام معانيها و أين الإخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة و الماديات؟. 

  • فليست إلا آثارا و بقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء و مجاهداتهم في نشر كلمة الحق و بث دين التوحيد و هداية النوع الإنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية و الأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي و إنزال الكتب السماوية. 

  • فقوله تعالى: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاَ آبَاؤُكُمْ} احتجاج على اليهود في رد قول القائل منهم: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم و لا ناله و لا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق و هو طريق إنزال الكتاب و الوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه و هو المعارف الحقة و شرائع الدين، و قد كان عند اليهود من هذا القبيل شي‌ء كثير ورثوه من أنبيائهم و بثه فيهم كتاب موسى. 

تفسير الميزان ج۷

278
  • و قد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} مطلق ما ينتهي من المعارف و الشرائع إلى الوحي و الكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى (عليه السلام) و إن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة و شرائعه خلافا لبعض المفسرين. و ذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل: {وَ عُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} إلخ، و لم يقل و علمتم به أو و علمكم الله به. 

  • و قد قيل: {وَ عُلِّمْتُمْ} إلخ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه. 

  • قوله تعالى: {قُلِ اَللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب، و الجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه و لا ينتظر المسئول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتصدى هو للجواب فقال: {قُلِ اَللَّهُ} أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى و الذي علمكم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم هو الله. 

  • و لما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول و هزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق و خاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى و المباهين بالعلم و الكتاب أمره بأن يدعهم و شأنهم فقال: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}

  • قوله تعالى: {وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَهَا} لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياء (عليه السلام) ، و أن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى، و أمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي و تعليم غيبي، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية، و من الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه. 

  • و من هنا يظهر أولا: أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من نزل عليه، و لذا قال: كتاب أنزلناه و لم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: ٢٩) و غيره 

تفسير الميزان ج۷

279
  • و ثانيا: أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله: {مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ} إلخ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلا من الله و ليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة و الخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، و قوة جمعهم، و وحدة كلمتهم، و زوال الشح من نفوسهم، و الضغائن من قلوبهم، و فشوا الأمن و السلام، و رغد عيشهم، و طيب حياتهم و انجلاء الجهل و كل رذيلة عن ساحتهم، و استظلالهم بمظلة سعادتهم، و ينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم و النعيم المقيم. 

  • و لو لم يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله و ليس من عنده لم تستقر فيه و لا ترتب عليه هذه البركات الإلهية و الخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر و لن ينتج فساد صلاحا، و قد قال تعالى: {فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (النحل: ٣٧) و قال: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} (الصف: ٥) و قال: {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: ٥٨). 

  • و من أمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله. 

  • و من أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه و هو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا و الآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده، و هذا هو الذي يدل عليه قوله: {وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَهَا} فأم القرى هي مكة المشرفة، و المراد أهلها بدليل قوله: {وَ مَنْ حَوْلَهَا} و المراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل، و الكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى و هي الحرم الإلهي منه بدئ بالدعوة و انتشرت الكلمة. 

  • و من هذا البيان يظهر: أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله: {وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى} و خاصة على قراءة «لينذر» بصيغة الغيبة معطوفا على قوله: {مُصَدِّقُ} بما يشتمل عليه من معنى الغاية، و التقدير: ليصدق ما بين يديه و لتنذر أم القرى على ما ذكره 

تفسير الميزان ج۷

280
  • الزمخشري، و قيل: إنه معطوف على قوله: {مُبَارَكٌ} و التقدير: أنزلناه لتنذر أم القرى و من حولها. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ} إلخ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركا و مصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أخروي دائم و يحذرهم من عذاب خالد. 

  • ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين و هو أنهم على صلاتهم و هي عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون، و هذه هي الصفة التي ختم الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال: {اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون: ٩) كما بدأ بمعناها في أولها فقال {اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: ٢). 

  • و هذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة و هو نحو تذلل و تأثر باطني عن العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.

  • (كلام في معنى البركة في القرآن) 

  • ذكر الراغب في المفردات: أن أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير و إن استعمل في غيره و يقال له بركة - بكسر الباء - و برك‌ البعير ألقى ركبه، و اعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا و لازموا موضع الحرب، و براكاء الحرب و بروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال، و ابتركت‌ الدابة وقفت وقوفا كالبروك، و سمي محبس الماء بركة، و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشي‌ء، قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ}، و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، و المبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك: {هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ}

  • قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك و فيه بركة، و إلى هذه 

تفسير الميزان ج۷

281
  • الزيادة أشير بما روي: أنه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بيني و بينك الميزان. ثم ذكر: أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى. 

  • فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشي‌ء اللازم له كالبركة في النسل و هي كثرة الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالدا، و البركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلا، و البركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه. 

  • غير أن المقاصد و المآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية التي تنتهي إليها بالأخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي فيها هو الخير المعنوي أو ينتهي إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم (عليه السلام): {رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ} (هود: ٧٣) خيرات متنوعة معنوية كالدين و القرب و غيرهما و حسية كالمال و كثرة النسل و بقاء الذكر و غيرها و جميعها مربوطة بخيرات معنوية. 

  • و على هذا فالبركة أعني كون الشي‌ء مشتملا على الخير المطلوب كالأمر النسبي يختلف باختلاف الأغراض لأن خيرية الشي‌ء إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدي إلى شفاء و استقامة مزاج أو يكون نورا في الباطن يتقوى به الإنسان على عبادة الله و نحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شي‌ء من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب و العوامل المتعلقة به و رفعه الموانع. 

  • و من هنا يظهر أن نزول البركة الإلهية على شي‌ء و استقرار الخير فيه لا ينافي عمل سائر العوامل فيه و اجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفة أو حالة في شي‌ء أن يبطل سائر الأسباب و العلل المقتضية له - و قد مر كرارا في أبحاثنا السابقة - فإنما الإرادة الإلهية سبب في طول الأسباب الأخر لا في عرضها. فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلا هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الإنسان كيفية مزاجية يضره معها هذا الطعام، و أن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك، و ليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب و يتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيها 

تفسير الميزان ج۷

282
  • من غير توسيطها فافهم ذلك. 

  • و البركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة و كذا ورودها في السنة، و قد تكرر ذكر البركة أيضا في العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم و قد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية. 

  • و قد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالا لسبب آخر يعمل فيه أو يبطل أثرها و قد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يئول الأمر إلى تزاحم أو إبطال و نحوهما. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} إلى قوله {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} عد الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التي لا يرتاب العقل العادي في شناعتها و فظاعتها، و لذا أوردها في سياق السؤال. 

  • و الغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم و الأخذ بالنصفة و خفض الجناح لصريح الحق فكأنه يقول: قل لهم: يجب علي و عليكم أن لا نستكبر عن الحق و لا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم و أشنعه و هو الظلم في جنب الله فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذبا و تدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء؟ و كيف يسوغ لي أن أدعي النبوة و أقول: أوحي إلي إن كنت لست بنبي يوحى إليه؟ و كيف يجوز لقائل أن يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله و يستهزئ بآياته؟. 

  • و نتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك، و كف القائل {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} عن مقاله و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يصر على الوحي بقيت نبوته بلا معارض. 

  • و افتراء الكذب على الله سبحانه و هو أول المظالم المعدودة و إن كان أعم بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه و هو ثاني المظالم المعدودة، و لذا قيل: إن ذكر الثاني بعد الأول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي و إعظاما لأمره، لكن التأمل في سياق الكلام و وجهه إلى المشركين يعطي أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ 

تفسير الميزان ج۷

283
  • الشريك لله سبحانه، و إنما لم يصرح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد العام لأن الغرض في المقام - كما تقدم - هو الدعوة إلى الأخذ بالنصفة و التجافي عن عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود و إنما أبهم إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية و لا يتنبه داعي النخوة. 

  • فقوله: {مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} و قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} متباينان من حيث المراد و إن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم و أخص. 

  • و يدل على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب و السؤال عن الشركاء و الشفعاء. 

  • و أما ما قيل: إن قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ} نزل في مسيلمة حيث ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه و إن كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم. 

  • على أن سورة الأنعام مكية و دعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة إلا أن هؤلاء يرون أن الآية مدنية غير مكية و سيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله. 

  • و أما قوله: {وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} فظاهره أنه حكاية قول واقع، و أن هناك من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، و أنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالإنزال، و لم يقل: سأقول مثل ما قاله محمد أو سآتيكم بمثل ما أتاكم به. 

  • و لذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ}

  • و قال آخرون: إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح: إني أنزل مثل ما أنزل الله و الآية مدنية، و منهم من قال غير ذلك كما سيجي‌ء إن شاء الله في البحث الروائي، و الآية ليست ظاهرة الانطباق على شي‌ء من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل، و قولهم: لو نشاء لقلنا «إلخ» كلام مشروط و كذا قول عبد الله إن صحت الرواية إخبار 

تفسير الميزان ج۷

284
  • عن أمر حالي جار واقع. 

  • و كيف كان فقوله: {وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} يحكي قولا قاله بعض المشركين من العرب استكبارا على آيات الله، و إنما كرر فيه الموصول أعني قوله: {مَنْ} و لم يتكرر في قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} «إلخ» لأن المظالم المعدودة و إن كانت ثلاثة لكنها من نظرة أخرى قسمان فالأول و الثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه و الانقياد لأمره، و الثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه و الاستكبار عن آياته. 

  • [بيان‌] 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ اَلْمَوْتِ} إلى آخر الآية، الغمر أصله ستر الشي‌ء و إزالة أثره و لذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، و على الجهل المطبق، و على الشدة التي تحيط بصاحبها و الغمرات الشدائد، و منه قوله تعالى: {فِي غَمَرَاتِ اَلْمَوْتِ}، و الهون‌ والهوان‌ الذلة. 

  • و بسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي، و يختلف باختلاف الموارد فبسط الغني يده جوده بماله و إحسانه لمن يستحقه، و بسط الملك يده إدارته أمور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم و بسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو نكاله و إيذاؤه بضرب و زجر و نحوه. 

  • فبسط الملائكة أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين، و ظاهر السياق أن الذي تفعله الملائكة بهؤلاء الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ} إلخ، فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه، و التقدير: يقول الملائكة لهم أخرجوا أنفسكم «إلخ» فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم قبضا يذوقون به أليم العذاب و هذا عذابهم حين الموت و لما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها و لهم عذاب بعد ذلك و لما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون: ١٠٠). 

  • و بذلك يظهر أن المراد باليوم في قوله: {اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} هو يوم الموت الذي يجزون فيه العذاب و هو البرزخ كما ظهر أن المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم أعني افتراء الكذب على الله، و دعوى النبوة كذبا و الاستهزاء بآيات الله. 

تفسير الميزان ج۷

285
  • و يؤيد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب و هو قولهم على الله غير الحق كما هو شأن المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعي أو وحي كاذب إليه، و استكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ}

  • و كذلك قوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أمر تكويني لأن الموت و الوفاة ليس في قدرة الإنسان كالحياة حتى يؤمر بذلك قال تعالى: {وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَا} (النجم: ٤٤) فالأمر تكويني و الملائكة من أسبابه، و الكلمة مصوغة صوغ الاستعارة بالكناية و الاستعارة التخييلية كأن النفس الإنسانية أمر داخل في البدن و به حياته و بخروجه عن البدن طرو الموت و ذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست من جنس البدن و لا من سنخ الأمور المادية الجسمانية و إنما لها سنخ آخر من الوجود يتحد مع البدن و يتعلق به نوعا من الاتحاد و التعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث علمي في الجزء الأول من الكتاب و سيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله. فالمراد بقوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} قطع علقة أنفسهم من أبدانهم و هو الموت، و القول قول الملائكة على ما يعطيه السياق. 

  • و المعنى: و ليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت و سكراته و الملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم و إنبائهم بأنهم واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون و الذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق و لاستكبارهم عن آياته. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى آخر الآية الفرادى‌ جمع فرد و هو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعا من الاختلاط و يقابله الزوج‌ و هو الذي يختلط بغيره بنحو و يقرب منهما بحسب المعنى الوتر و الشفع فالوتر ما لم ينضم إلى غيره و الشفع‌ ما انضم إلى غيره، و التخويل‌ إعطاء الخول أي المال و نحوه الذي يقوم الإنسان به بالتدبير و التصرف. 

  • و المراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، و الآية تنبئ عن حقيقة الحياة الإنسانية التي ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه و أنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير 

تفسير الميزان ج۷

286
  • كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، و أن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب و الاعتضاد و الانتصار بالأموال و الأولاد و الأزواج و العشائر و الجموع، و كذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإشراك كل ذلك مزاعم و أفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلا. 

  • فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، و لا حكومة لشي‌ء من الأشياء في التدبير و التسيير الإلهي إلا أنها أسباب و علل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن تستقل بشي‌ء من التأثير. 

  • غير أن الإنسان إذا ركبته يد الخلقة و أوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة و الأسباب و الشفعاء الظاهرة و جذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها و دعته ذلك إلى التمسك بذيل الأسباب و الخضوع لها، و ألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب و فاطرها و الذي إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم و الأوهام التي أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية، و استوعب حياته اللعب بالباطل و التلهي به عن الحق كما قال تعالى: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ} (العنكبوت: ٦٤). 

  • فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإنسان إذا خرج عن زي العبودية نسي ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى: {نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ} (الحشر: ١٩). 

  • لكن الإنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب و العلل و المعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن و تتصل بها في هذه النشأة الدنيوية و شاهد عند ذلك بطلان استقلالها و اندكاك عظمتها و تأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن أمره أولا و آخرا إلى ربه لا غير و أن لا رب له سواه و لا مؤثر في شأنه دونه. 

  • فقوله تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إشارة إلى حقيقة الأمر، و قوله: {وَ تَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} إلخ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه و بين يوم يقبض فيه إلى ربه، و قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} بيان لسبب انقطاعه من الأسباب و سقوطها عن الاستقلال 

تفسير الميزان ج۷

287
  • و التأثير، و أن السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي كان الإنسان يلعب بها طول حياته الدنيا. 

  • فيتبين بذلك أن ليس لهذه الأسباب و الضمائم في الإنسان من النصيب إلا أوهام و مزاعم يتلهى و يلعب بها الإنسان. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ فَالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى} إلى آخر الآية. الفلق‌ هو الشق. لما انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها، و بطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه التي يشتغل بها الإنسان عن ربه ليست إلا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره، و لا تؤثر أثرا و لا تعمل عملا في إصلاح حياة الإنسان و سوقه إلى غايات خلقته إلا بتقدير من الله و تدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون غيره. 

  • فالله سبحانه هو يشق الحب و النوى فينبت منهما النبات و الشجر اللذين يرتزق الناس من حبه و ثمره، و هو يخرج الحي من الميت و الميت من الحي و قد مر تفسير ذلك في الكلام على الآية ٢٧ من سورة آل عمران ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون و إلى متى تصرفون من الحق إلى الباطل. 

  • قوله تعالى: {فَالِقُ اَلْإِصْبَاحِ وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً} إلى آخر الآية. الإصباح‌ بكسر الهمزة هو الصبح و هو في الأصل مصدر، و السكن‌ ما يسكن إليه، و الحسبان‌ جمع حساب، و قيل: هو مصدر حسب حسابا و حسبانا. و قوله: {وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً} عطف على قوله: {فَالِقُ اَلْإِصْبَاحِ} و لا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل و قرئ: «و جاعل». 

  • و في فلق الصبح و جعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى و دفع ما عرض لها من التعب و العي و الكلال من جهة حركاتها طول النهار، و جعل الشمس و القمر بما يظهر من الليل و النهار و الشهور و السنين من حركاتهما في ظاهر الحس حسبانا تقدير عجيب للحركات في هذه النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش الإنساني و يستقيم به أمر حياته، و لذلك ذيلها بقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ} فهو العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من تدبيره، و العليم الذي لا يجهل بشي‌ء من 

تفسير الميزان ج۷

288
  • مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد من نفسه و لا يدوم بطبعه. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} إلى آخر الآية. المعنى واضح و المراد بتفصيل الآيات إما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب البيان اللفظي. 

  • و لا تنافي بين إرادة مصالح الإنسان في حياته و عيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر الحس من حركات هذه الأجرام العظيمة العلوية و الكرات المتجاذبة السماوية، و بين كون كل من هذه الأجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة و مخلوقة بمشية تتعلق بنفسه و تخص شخصه فإن الجهات مختلفة، و تحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض آخر و الارتباط و الاتصال حاكم على جميع أجزاء العالم. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ} إلى آخر الآية، قرئ {فَمُسْتَقَرٌّ} بفتح القاف و كسرها و هو على القراءة الأولى اسم مكان بمعنى محل الاستقرار فيكون {مُسْتَوْدَعٌ} أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع و هو المكان الذي توضع فيه الوديعة. و قد وقع ذكر المستقر و المستودع في قوله تعالى: {وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود: ٦) و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير: فمنكم من هو في مستقر و منكم من هو في مستودع، و على القراءة الثانية و هي الرجحى {فَمُسْتَقَرٌّ} اسم فاعل و يكون المستودع اسم مفعول لا محالة، و التقدير فمنكم مستقر و منكم مستودع لم يستقر بعد. 

  • و الظاهر أن المراد بقوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} انتهاء الذرية الإنسانية على كثرتها و انتشارها إلى آدم الذي يعده القرآن الكريم مبدأ للنسل الإنساني الموجود، و أن المراد بالمستقر هو البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد الإنسان فاستقر في الأرض التي هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } (البقرة: ٣٦) و المراد بالمستودع من استودع في الأصلاب و الأرحام و لم يولد بعد و سيولد بعد حين فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع الأفراد النوعية من فرد واحد و من الممكن أن يؤخذ مستقر و مستودع مصدرين ميميين. 

  • و قد عبر بلفظ الإنشاء دون الخلق و نحوه و هو ظاهر في الدفعة و ما في حكمه دون 

تفسير الميزان ج۷

289
  • التدريج، و يؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى: {وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا} كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الأرض بفعلية التكون «و ما هو في طريق التكون مما لم يتكون بالفعل و لم يستقر في الأرض. 

  • فالمعنى: و هو الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة و عمر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها و بعضكم مستودع في الأصلاب و الأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها. 

  • و قد أورد المفسرون في الآية معاني أخر كقول بعضهم: إن المراد من إنشائهم من نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس و هو النفس الإنسانية أو إن المراد هو الإنشاء من نوع واحد من التركيب النفسي و البدني، و هو الحقيقة الإنسانية المؤلفة من نفس و بدن إنسانيين. 

  • و كقول بعضهم: إن المراد بالمستقر الأرحام و بالمستودع الأصلاب و قول بعض آخر: إن المستقر الأرض و المستودع القبر، و قول بعض آخر: إن المستقر هو الرحم و المستودع الأرض أو القبر، و قول بعض آخر: إن المستقر هو الروح و المستودع هو البدن، إلى غير ذلك من أقاويلهم التي لا كثير جدوى في التعرض لها. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً} إلى آخر الآية. السماء هي جهة العلو فكلما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} على ما قيل، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النبات و النمو الذي في كل شي‌ء نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كل شي‌ء نباتي كالنجم و الشجر و الإنسان و سائر الحيوان. 

  • و الخضر هو الأخضر و كأنه مخفف الخاضر، و تراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة، و الطلع‌ أول ما يبدو من ثمر النخل، و القنوان‌ جمع قنو و هو العذق بالكسر و هو من التمر كالعنقود من العنب، و الدانية أي القريبة، و المشتبه و غير المتشابه المشاكل و غير المشاكل في النوع و الشكل و غيرهما. و ينع الثمر نضجه. 

  • و قد ذكر الله سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر و بصيرة فيهتدي 

تفسير الميزان ج۷

290
  • بالنظر فيها إلى توحيده، و هي أمور أرضية كفلق الحبة و النواة و نحو ذلك، و أمور سماوية كالليل و الصبح و الشمس و القمر و النجوم، و أمر راجع إلى الإنسان نفسه و هو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر و مستودع، و أمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطر من السماء و تهيئة الغذاء من نبات و حب و ثمر و إنبات ما فيه قوة النمو كالنبات و الحيوان و الإنسان من ذلك. 

  • و قد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون، و إنشاء النفوس الإنسانية آية خاصة بقوم يفقهون، و تدبير نظام الإنبات آية لقوم يؤمنون و المناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مئونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن يتنور بنصفة الإيمان و لا يتلطخ بقذارة العناد و اللجاج، و أما النظر في النجوم و الأوضاع السماوية فمما لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم و مواقعها و سائر الأوضاع السماوية إلى حد ما و لا يناله الفهم العام العامي إلا بمئونة: و أما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها و على ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافا إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية و تعمق شديد و تثبت بالغ و هو الفقه. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ اَلْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ} إلى آخر الآية. الجن إما مفعول لجعلوا و مفعوله الآخر شركاء أو بدل من شركاء، و قوله: {وَ خَلَقَهُمْ} كأنه حال و إن منعه بعض النحاة و حجتهم غير واضحة. و كيف كان فالكلمة في مقام ردهم، و المعنى و جعلوا له شركاء الجن و هو خلقهم و المخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه. 

  • و المراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول: بأهرمن و يزدان و نظيره ما عليه اليزيدية الذين يقولون بألوهية إبليس (الملك طاووس شاه بريان) أو الجن المعروف بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون: إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة، و هذا أنسب بسياق قوله: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ اَلْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} و على هذا فالبنون و البنات هم جميعا من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم و نسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه و تعالى عما يشركون. 

  • و لو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير الإسلام فالبرهمانية و البوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوة المسيح 

تفسير الميزان ج۷

291
  • كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب، و سائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين و بنات من الآلهة على ما يدل عليه الآثار المكتشفة، و مشركو العرب كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله. 

  • قوله تعالى: {بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية. جواب عن قولهم بالبنين و البنات، و محصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة و لم يكن له تعالى صاحبة فأنى يكون له ولد؟. 

  • و أيضا هو تعالى الخالق لكل شي‌ء و فاطره، و الولد هو الجزء من الشي‌ء يربيه بنوع من اللقاح و جزء الشي‌ء و المماثل له لا يكون مخلوقا له البتة، و يجمع الجميع أنه تعالى بديع السماوات و الأرض الذي لا يماثله شي‌ء من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة يتزوج بها أو بنون و بنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذي لا سبيل للجهل إليه فهو بكل شي‌ء عليم، و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللَّهُ} الخ: (آل عمران: ٧٩) في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} إلى آخر الآيتين الجملة الأولى أعني قوله: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ} نتيجة متخذة من البيان المورد في الآيات السابقة، و المعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم لا غير، و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} كالتصريح بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه الجملة السابقة، و هو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لأنه الله الذي ليس دونه إله و كيف يكون غيره ربا و ليس بإله. 

  • و قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} تعليل لقوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي إنما انحصرت الألوهية فيه لأنه خالق كل شي‌ء من غير استثناء فلا خالق غيره لشي‌ء من الأشياء حتى يشاركه في الألوهية، و كل شي‌ء مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها. 

  • و قوله: {فَاعْبُدُوهُ} متفرع كالنتيجة على قوله {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ} أي إذا كان الله سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه، و قوله: {وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} أي هو القائم على كل شي‌ء المدبر لأمره الناظم نظام وجوده و حياته و إذا كان كذلك كان من الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله: {فَاعْبُدُوهُ} أي لا تستنكفوا 

تفسير الميزان ج۷

292
  • عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم. 

  • و أما قوله: {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ} فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله: {وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة و الخطاب معهم، و هو أنه إذا صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسمية و لوازمها، و قوله: {وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ} دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكر المادي، و أخلدوا إلى الحس و المحسوس و هو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الأبصار به خرج عن حيطة الحس و المحسوس و بطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور و العلم، و انقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشي‌ء كما لا يعلم به شي‌ء، و لا يبصر شيئا كما لا يبصره شي‌ء فأجاب تعالى عنه بقوله: {وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ} ثم علل هذه الدعوى بقوله: {وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ} و اللطيف‌ هو الرقيق النافذ في الشي‌ء، و الخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطا بكل شي‌ء بحقيقة معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شي‌ء لا يفقده ظاهر شي‌ء من الأشياء و لا باطنه، و هو مع ذلك ذو علم و خبرة كان عالما بظواهر الأشياء و بواطنها من غير أن يشغله شي‌ء عن شي‌ء أو يحتجب عنه شي‌ء بشي‌ء فهو تعالى يدرك البصر و المبصر معا، و البصر لا يدرك إلا المبصر. 

  • و قد نسب إدراكه إلى نفس الأبصار دون أولي الأبصار لأن الإدراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر مثلا الذي يتعلق بالأضواء و الألوان و يدرك به القرب و البعد و العظم و الصغر و الحركة و السكون بنحو بل الأغراض و موضوعاتها بظواهرها و بواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه و لا غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها و ما عندها و ليست تناله. 

  • ففي الآيتين من سطوح البيان و سهولة الطريق و إيجاز القول ما يحير اللب و هما مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار. 

  • (كلام في عموم الخلقة و انبساطها على كل شي‌ء) 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} ظاهره و عموم الخلقة لكل شي‌ء و انبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود و التحقق، و قد تكرر 

تفسير الميزان ج۷

293
  • هذا اللفظ أعني قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى: {قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} (الرعد: ١٦) و قال تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَكِيلٌ} (الزمر: ٦٢) و. قال تعالى {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }(المؤمن: ٦٢). 

  • و قد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين و الفلاسفة من النصارى و اليهود فضلا عن متكلمي الإسلام و فلاسفته، و لا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم و آرائهم و التكلم معهم، و إنما بحثنا هذا قرآني تفسيري لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف آياته الشريفة. 

  • نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية و الأشياء الواقعة في دار الوجود كالسماء و كواكبها و نجومها و الأرض و جبالها و وهادها و سهلها و بحرها و برها و عناصرها و معدنياتها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و المطر و البرد و النجم و الشجر و الحيوان و الإنسان لها آثار و خواص هي أفعالها و هي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله و المعلول إلى علته. 

  • و نجده يصدق أن للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه و تقوم به كالأكل و الشرب و المشي و القعود و كالصحة و المرض و النمو و الفهم و الشعور و الفرح و السرور من غير أن يفرق بينه و بين غيره من الأنواع في شي‌ء من ذلك فهو يخبر عن أعماله و يأمره و ينهاه، و لو لا أن له فعلا لم يرجع شي‌ء من ذلك إلى معنى محصل. فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالا و آثارا منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل و الشرب و المشي و نصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة و المرض و الشباب و المشيب و غير ذلك. 

  • فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا و تؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب، و هو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها و أنواعها فعالة 

تفسير الميزان ج۷

294
  • بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها و من غيرها و بذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء، و هذا هو قانون العلية العام في الأشياء، و هو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد و أن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته، و قد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون و عمومه، و لو لم يكن صحيحا أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلا، و قد استدل القرآن به على وجود الصانع و وحدانيته و قدرته و علمه و سائر صفاته. 

  • و كما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التي بينهما. و قد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها و معاليلها كقوله: {وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ}، {أَنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، {إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} و غير ذلك، و استدل أيضا على كثير من الحوادث و الأمور بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} (يونس: ٧٤) و غير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين و الكافرين و المنافقين و لو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة و ارتفعت الموانع المنافية لم يصح شي‌ء من هذه الحجج و الأدلة البتة. 

  • فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود، و أن لكل شي‌ء من الأشياء الموجودة و عوارضها و لكل حادث من الحوادث الكائنة علة أو مجموع علل بها يجب وجوده و بدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادئ التدبر. 

  • ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شي‌ء من أجزاء الكون قال تعالى: {قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} (الرعد: ١٦) إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا، و هذا ببسط عليته و فاعليته تعالى لكل شي‌ء مع جريان العلية و المعلولية الكونية بينها جميعا كما تقدم بيانه. 

  • و قال تعالى: {اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}- -إلى أن قال- - {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: ٢) و قال: {اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} (طه: ٥٠) و قال: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى} (الأعلى: ٣) إلى غير ذلك من الآيات. 

تفسير الميزان ج۷

295
  • و في هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة و أعمالها و أنواع آثارها و حركاتها و سكناتها منسوبة إلى التقدير و الهداية الإلهية فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيات أعمال الأشياء و آثارها كالإنسان يخطو و يمشي في انتقاله المكاني و الحوت يسبح و الطير يطير بجناحيه قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ} (النور: ٤٥) و الآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال الأشياء و حدودها و أقدارها تنتهي إليه تعالى، و كذلك الغايات التي تقصدها الأشياء على اختلافها فيها و تشتتها و تفننها إنما تتعين لها و تروم نحوها بالهداية الإلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، و ينتهي ذلك إلى تقدير العزيز العليم. 

  • فالأشياء في جواهرها و ذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية و حدود وجودها و تحولاتها و غاياتها و أهدافها في مسير وجودها و حياتها كل ذلك ينتهي إلى التقدير المنتهي إلى خصوصيات الخلقة الإلهية و هناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن أجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه، و هو الذي ربما سمي ببرهان اتصال التدبير. 

  • فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث المتدبر أن لا يغفل عنها و هي ثلاث: 

  • إحداها: أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه و شناعته كأنواع الظلم و الفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس و الكبرياء و القرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم و سوء في آيات كثيرة كقوله: {وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}(حم السجدة: ٤٦) و قوله: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: ٢٨) و غير ذلك، و هذا ينافي عموم الخلقة لكل شي‌ء فمن الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي و الشرعي. 

  • و ينتج ذلك أن الأفعال الإنسانية مخلوقة للإنسان و ما وراءه من الأشياء ذواتها و آثارها مخلوقة لله سبحانه. 

  • على أن كون الأفعال الإنسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان، و يبطل بذلك نظام الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و إرسال الرسل 

تفسير الميزان ج۷

296
  • و إنزال الكتب و تشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين. 

  • و قد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود و التحقق حقيقة، و الأمور الاعتبارية و الجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في الواقع، و إنما اضطر الإنسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة، و ابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع و التمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية و العدمية في الأشياء، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر و التفويض في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و الذي يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يعمم الخلقة لكل شي‌ء ثم قوله تعالى: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: ٧) يثبت الحسن لكل ما خلقه الله، و يتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شي‌ء ما خلا الله فهو مخلوق، و أن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق و الحسن متلازمان في الوجود فكل شي‌ء فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض السوء و القبح كان من جهة النسب و الإضافات و أمور أخرى غير جهة واقعيته و وجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله سبحانه و إلى فاعله المعروض له. 

  • ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة و الظلم و الذنب و غيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان و عناوين غير حقيقية لا يلحق الشي‌ء من جهة انتسابه إلى الله سبحانه و خلقه له، و إنما يلحق الموضوع الذي يقوم الأثر و العمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية و ظلم فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية و إنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر مثاله الزنا و النكاح و هما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما و وجودهما النوعي مثلا و إنما يختلفان بالموافقة و المخالفة للشرع الإلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع، و تلك أمور وضعية و جهات إضافية، و الخلقة و الإيجاد إنما يتعلق بجهة التكوين و الخارج، و أما الجهات الإضافية و العناوين الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح و المفاسد الاجتماعية المستعقبة للمدح و الذم أو الثواب و العقاب بحسب ما يشخصها و يحكم بها العقل العملي و الشعور الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع و لا يدخل في دار التكوين أصلا إلا 

تفسير الميزان ج۷

297
  • آثارها التي هي أقسام الثواب و العقاب مثلا. 

  • فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع و معصية تستتبع الذم و العقاب عند المجتمعين، و أما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإنسان و العلل الخارجية و خاصة السببية الأولى الإلهية إنما تنتج هذه الجهة التي هي جهة التكوين، و أما عنوانه القبيح و ما يلحق به فإنما هو مولود النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه الذي هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام و التقدم و نفوذ الكلمة و إدارة الأمور، و أما من حيث التكوين و الواقعية فإنما هو فرد من أفراد الإنسان لا فرق بينه و بين الفرد المرءوس أصلا، و لا خبر في هذا النظر عن الرئاسة و الآثار المرتبة عليها، و كذا الغني و الفقير و السيد و المسود و العزيز و الذليل و الشريف و الخسيس و أمثال ذلك مما لا يحصى. 

  • و بالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شي‌ء إنما تتعلق بالموضوعات و الأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها و واقعيتها الخارجية، و أما ما وراء ذلك من جهات القبح و الحسن و المعصية و الطاعة و سائر الأوصاف و العناوين الاجتماعية الطارئة على الأفعال و الموضوعات فالخلق و الإيجاد لا يتعلق بها، و ليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي و ساحة الاعتبار و الوضع. 

  • و إذا تبين أن ظرف تحقق الأمر و النهي و انتشاء الحسن و القبح و الطاعة و المعصية و تعلق الثواب و العقاب و ارتباطهما بالفعل و كذا سائر الأمور و العناوين الاجتماعية كالمولوية و العبودية و الرئاسة و المرءوسية و العزة و الذلة و نحو ذلك غير ظرف التكوين و ساحة الواقعية الخارجية التي يتعلق بها الخلق و الإيجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شي‌ء لا يستلزم شيئا من المفاسد التي ذكروها كبطلان نظام الأمر و النهي و الثواب و العقاب و غير ذلك مما تقدم ذكره. 

  • و كيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنوية و كلامه مشحون بأنه خالق كل شي‌ء و أنه الله الواحد القهار و أن قضاءه و قدره و هدايته التكوينية و ربوبيته و تدبيره شامل لكل شي‌ء لا يشذ عنه شاذ، و أن ملكه و سلطانه و إحاطته و كرسيه وسع 

تفسير الميزان ج۷

298
  • كل شي‌ء، و أن له ما في السماوات و الأرض و ما ظهر و ما بطن، و كيف يستقيم شي‌ء من هذه التعاليم الإلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته. 

  • الثانية: أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شي‌ء إليه تعالى و يحصر العلة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله، و إنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه علة من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة و البرودة على السواء، و الحرارة نسبتها إلى النار و الثلج على السواء غير أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار و البرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب و اقتضاء بوجه أصلا. 

  • و هذا النظر يبطل قانون العلية و المعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء العقلي و ببطلانه ينسد باب إثبات الصانع و لا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي يحتج به على بطلان رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء، و كيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكما صريحا عقليا و يعزل العقل عن قضائه؟ و إنما تثبت حقيته و حجيته بالحكم العقلي و القضاء الوجداني، و هو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها. 

  • و هؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية و العرضية و إنما يستحيل توارد العلتين على شي‌ء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الأخرى، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة و لا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان و لا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان بل علة معلولة لعلة. 

  • و بتقريب آخر أدق: منشأ الخطإ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه و الفاعل بمعنى ما به و لاستقصاء القول في المسألة محل آخر. 

  • الثالثة: و هي قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شي‌ء إلى نفسه، و هو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلة له دونه تعالى و إلا لزم اجتماع 

تفسير الميزان ج۷

299
  • علتين مستقلتين على معلول واحد و لا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الأشياء و بدء وجودها و لذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الإنسان بعد ما لم يكن و حدوث الأرض بعد ما لم تكن و حدوث العالم بعد ما لم يكن. 

  • و يضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالروح و كالحياة في الإنسان و الحيوان و النبات فإن الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، و البسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب و الثلوج و الأمطار و ذوات الأذناب و الزلازل و القحط و الغلاء و الأمراض العامة و نحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح لهم في شي‌ء منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره و بدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم. 

  • و هذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه، و هو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم: أنه لو جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله و تقدس، و هذا - فيما نحسب - رأي إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين و من فروع ذلك قولهم باستحالة البداء و النسخ، و الرأي جار سار بين الناس مع ذلك. 

  • و كيف كان هو من أردإ الأوهام و الاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل على وجود الصانع و وحدته بالآيات المشهودة في العالم و هو النظام الجاري في كل نوع من الخليقة و ما يجري عليه في مسير وجوده و أمد حياته من التغير و التحول و الفعل و الانفعال و المنافع التي يستدرها من ذلك و يوصلها إلى غيره كالشمس و القمر و النجوم و طلوعها و غروبها و ما يستجلبه الناس من منافعها و التحولات الفصلية الطارئة على الأرض و البحار و الأنهار و الفلك التي تجري فيها و السحب و الأمطار و ما ينتفع به الإنسان من الحيوان و النبات و ما يجري عليه من الأحوال الطبيعية و التغيرات الكونية من نطفية و جنينية و صباوة و شباب و شيب و هرم و غير ذلك. 

  • و جميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها و موضوعاتها علل أعراضها و آثارها و كل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، و حوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس. 

  • و لو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه و استقلت بما يكتنف 

تفسير الميزان ج۷

300
  • بها من الحوادث و يطرأ عليها من الآثار و الأعمال لم يستقم شي‌ء من هذه الحجج الباهرة و البراهين القاهرة و ذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البينات من جهتين: 

  • إحداهما: من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: {أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} (إبراهيم: ١٠) فإن من الضروري أن شيئا من هذه الموجودات لم يفطر ذاته و لم يوجد نفسه، و لا أوجده شي‌ء آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد موجد، و لو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في الخارج شي‌ء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الذي هو في نفسه حق لا يقبل بطلانا و لا تغيرا بوجه عما هو عليه. 

  • ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شي‌ء شيئا من قبيل تسخين المسخن مثلا حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا للوصف بقي المسخن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، و هذا هو الذي يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها و استقلت بوجه عن ربها لم يقبل الهلاك و الفساد فإن من المحال أن يستدعي الشي‌ء بطلان نفسه أو شقاءها. 

  • و هو الذي يستفاد من أمثال قوله: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: ٨٨) و قوله: {وَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً } (الفرقان: ٣) و يدل على ذلك أيضا الآيات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو المالك لكل شي‌ء لا مالك غيره، و أن كل شي‌ء مملوك له لا شأن له إلا المملوكية. 

  • فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها و حدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها و امتداد كونها و حياتها فلا يزال الشي‌ء موجودا ما يفيض عليه الوجود و إذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: ٢٠) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. 

  • و ثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله 

تفسير الميزان ج۷

301
  • و يتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها الإنسان مثلا بالنظام الجاري في الحيوان و النبات، و النبات مثلا بالنظام الجاري في الأرض و الجو المحيط بها، و تستمد الأرضيات بالسماويات و السماويات بالأرضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه و يفوز به في وجوده و تأبى الفطرة السليمة و الشعور الحي إلا أن يقضي أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم و تدبير حكيم خبير. 

  • و ليس هذا التقدير و التدبير إلا عن فطر ذواتها و إيجاد هوياتها و صوغ أعيانها بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله و يحصره في ما أريد منه في موطنه و ما يئول إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره، و الذي يقف عليه آخر ما يقف، و هي في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر و قائد القضاء. 

  • قال تعالى: {لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} (الأعراف: ٥٤) و قال: {أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ } (الأنعام: ٦٢) و قال: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: ١٤٨) و قال: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (الرعد: ٤١) و قال: {هُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: ٣٣). 

  • و كيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها و صريح مضامينها إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات و الشخصيات ثم اعتزلها و ما كان يسعه إلا أن يعتزل و يرصد فشرع الأشياء في التفاعل و التناظم بما فيها من روح العلية و المعلولية و استقلت في الفعل و الانفعال و خالقها يتأملها في معزله و ينتظر يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى و يعاقب المستكبر المستنكف، و قد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيتهم، و يمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة و الممانعة. 

  • أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدي الأسباب و العلل الكونية المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث، و ليس يداخل شيئا إلا بإبطال قانون العلية الجاري في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب و العلل كان التأثير على مزعمتهم 

تفسير الميزان ج۷

302
  • للعلل الكونية دونه تعالى، و هذا هو السر في إصرار هؤلاء على أن المعجزات و خوارق العادات و نحوهما إنما تتحقق بالإرادة الإلهية وحدها و نقض قانون العلية العام، فلا محالة يتم الأمر بنقض السببية الكونية و إبطال قانون العلية و يبطل بذلك أصل قولهم: إن الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها. 

  • فهؤلاء القوم لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين: إما القول بأن العالم على سعته و نظامه الجاري فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلا و لا تأثير له تعالى في شي‌ء من أجزائه و لا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه في أول حدوثه و قد أحدثه فارتفعت الحاجة و انقطعت الخلة. 

  • أو القول بأن الله هو الخالق لكل ما يقع عليه اسم شي‌ء و المفيض له الوجود حال الحدوث و في حال البقاء، و لا غنى عنه تعالى لذات و لا فعل طرفة عين. 

  • و قد عرفت أن البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة و السلطة الغيبية على ظاهر الأشياء و باطنها و أولها و آخرها و ذواتها و أفعالها حال حدوثها و حال بقائها جميعا فالمتعين هو الثاني من القولين و البحث العقلي الدقيق يؤيد بحسب النتيجة ما هو المتحصل من الآيات الكريمة. 

  • فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن ما يظهر من قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} على ظاهر عمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعي.

  • [بيان]‌ 

  • قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} إلخ قال في المجمع: البصيرة البينة و الدلالة التي يبصر بها الشي‌ء على ما هو به و البصائر جمعها انتهى. و قيل: البصيرة للقلب كالبصر للعين، و الأصل في الباب على أي حال هو الإدراك بحاسة البصر الذي يعد أقوى الإدراكات، و نيلا من خارج الشي‌ء المشهود، و الإبصار و العمى في الآية هو العلم و الجهل أو الإيمان و الكفر توسعا. 

  • و كأنه تعالى يشير بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى ما ذكره في الآيات السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيته و انتفاء الشريك عنه، و المعنى أن هذه الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحي إلي، و الخطاب من قبل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم ذكر للمخاطبين و هم المشركون أنهم على خيرة من أمر أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها و إن شاءوا 

تفسير الميزان ج۷

303
  • عموا عنها غير أن الإبصار لأنفسهم و العمى عليها. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم و تدبير قلوبهم إليه فهو إنما ينفي كونه حفيظا عليهم تكوينا و إنما هو ناصح لهم. و الآية كالمعترضة بين الآيات السابقة و الآية اللاحقة، و هو خطاب منه تعالى عن لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم فيؤديها إليهم و في خلال ما يؤديه يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع و الطاعة و يحثهم على الانقياد بإظهار النصح و نفي الأغراض الفاسدة عن نفسه. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ} إلخ، و قرئ: دارست بالخطاب و {دَرَسْتَ} بالتأنيث و الغيبة، قيل: إن التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، و قوله: {دَرَسْتَ} من الدرس و هو التعلم و التعليم من طريق التلاوة، و على هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني و أما قراءة {دَرَسْتَ} بالتأنيث و الغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفي الأثر أي اندرست هذه الأقوال كقولهم: أساطير الأولين. 

  • و المعنى: على هذا المثال نصرف الآيات و نحولها بيانا لغايات كثيرة و منها أن يستكمل هؤلاء الأشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب أو يقولوا: اندرست هذه الأقاويل و انقرض عهدها و لا نفع فيها اليوم، و لنبينه لقوم يعلمون بتطهير قلوبهم و شرح صدورهم به، و هذا كقوله: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} (الإسراء: ٨٢). 

  • بحث روائي 

  • في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله لا يوصف، و كيف يوصف و قال في كتابه: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شي‌ء قدير - فقد قدر الله حق قدره، و من 

تفسير الميزان ج۷

304
  • لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} يعني من بني إسرائيل قالت اليهود: يا محمد أ نزل الله عليك كتابا؟ قال نعم، قالوا: و الله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله: {قُلْ} يا محمد {مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ اَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ} إلى قوله {وَ لاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اَللَّهُ} أنزله. 

  • أقول: و المعنى الذي في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر الآية بل الظاهر أن الذين قالوا: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، هم الذين لم يقدروا الله سبحانه حق قدره. 

  • و فيه أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن السدي:في قوله: {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ‌ءٍ} قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شي‌ء.

  •  أقول: و اختلاف الحاكي و المحكي يفسد المعنى، و احتمال النقل بالمعنى مع هذا الاختلاف الفاحش لا مسوغ له. 

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف - فخاصم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أن الله يبغض الحبر السمين؟ و كان حبرا سمينا فغضب و قال: و الله ما أنزل الله على بشر من شي‌ء، فقال له أصحابه: ويحك و لا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شي‌ء، فأنزل الله: {وَ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}(الآية). 

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أم القرى مكة. و في تفسير العياشي، عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): لم سمي النبي الأمي؟ قال: نسب إلى مكة و ذلك من قول الله: {لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَهَا} و أم القرى مكة، و من حولها الطائف. 

  • أقول: و على ما في الرواية يصير قوله: {لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَهَا} من قبيل قوله: {وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: ٢١٤) و لا ينافي الأمر بإنذار طائفة خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ } (الأنعام: ١٩) و قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: ٩٠) و قوله: {قُلْ 

تفسير الميزان ج۷

305
  • يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: ١٥٨). 

  • و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتَابَ} - إلى قوله - {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً} قال: كانوا يكتمون ما شاءوا و يبدون ما شاءوا.: 

  • قال: و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون ما شاءوا و يخفون ما شاءوا. قال: كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم. 

  • أقول: أهل العلم كناية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) . 

  • و في الدر المنثور، في قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى} (الآية) أخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ} (الآية) فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له. 

  • و فيه أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن عكرمة: في قوله: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ} قال: نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع و يتكهن به. {وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكان فيما يملي {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فيكتب «غفور رحيم» فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا لما حول فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام و لحق بقريش. 

  • أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخرى أيضا غير ما مر. 

  • و في تفسير القمي، قال: حدثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان أخا لعثمان من الرضاعة قدم إلى المدينة و أسلم، و كان له خط حسن، و كان إذا نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و الله سميع بصير يكتب سميع عليم، و إذا قال: {وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يكتب بصير و كان يفرق بين التاء و الياء، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: هو واحد. 

  • فارتد كافرا و رجع مكة و قال لقريش: و الله ما يدري محمد ما يقول أنا أقول 

تفسير الميزان ج۷

306
  • مثل ما يقول فلا ينكر علي ذلك فأنا أنزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في ذلك: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ}

  • فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة أمر بقتله فجاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم أعاد فقال: 

  • هو لك، فلما مر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ لم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء: 

  • أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، و تفسير العياشي، و مجمع البيان، بطرق أخرى عن الباقر و الصادق (عليه السلام) . 

  • و ذكر بعض المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة و السدي: أن هاتين الروايتين باطلتان فإنه ليس في شي‌ء من السور المكية «سميعا عليما» و لا «عليما حكيما» و لا «عزيز حكيم» إلا في سورة لقمان المروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الأنعام و أن الآية التي ختمت بقوله تعالى {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} منها و ثنتين بعدها مدنيات كما في الإتقان. قال: و ما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه و الرواية غير صحيحة. 

  • قال: و روي: أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن، و لعله قال شيئا مما ذكر في الروايات عنه كذبا و افتراء فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شي‌ء مما روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت، و قد رجع إلى الإسلام قبل الفتح و لو تصرف في القرآن تصرفا أقره عليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام. انتهى. 

  • و قد عرفت أن الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين (عليه السلام) صريحة في وقوع قصة ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكة، و الأخبار المروية من طرق أهل السنة و الجماعة غير صريحة في وقوعها بمكة لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة، و أما ما استند إليه من رواية ابن عباس في ترتيب نزول السور القرآنية فليس بأقوى اعتبارا مما طرحه. 

  • و أما ما ذكره من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعا فقد عرفت ورود الرواية من الطريقين أنه لم يعد إلى الإسلام إلى يوم الفتح، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أهدر دمه 

تفسير الميزان ج۷

307
  • يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا. 

  • لكن يبقى على ظاهر الروايات أن قوله تعالى: {وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه: «فأنا أنزل مثل ما أنزل الله». 

  • على أن كون قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} نازلا بالمدينة لا يلائم هذا الاتصال الظاهر بينه و بين ما يتلوه إلى آخر الآية الثانية فلو كان نازلا بالمدينة كان الأقرب أن تكون الآيتان جميعا مدنيتين. 

  • و هناك رواية أخرى تعرب عن سبب للنزول آخر و هو ما رواه عبد بن حميد عن عكرمة قال: لما نزلت: {وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً}، قال النضر و هو من بني عبد الدار: و الطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا و قولا كثيرا فأنزل الله: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‌ءٌ}(الآية). 

  • و في تفسير العياشي، عن سلام عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ} قال: العطش يوم القيامة. 

  • أقول: و رواه أيضا عن الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) و فيه: قال: العطش. 

  • و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل لما أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، و أخذ من كل سماء تربة و قبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله عز و جل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه و القبضة الأخرى بشماله ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذروا و من السماوات ذروا فقال للذي بيمينه: منك الرسل و الأنبياء و الأوصياء و الصديقون و المؤمنون و الشهداء و من أريد كرامته، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال، و قال للذي بشماله: منك الجبارون و المشركون و المنافقون و الطواغيت و من أريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال. 

  • ثم إن الطينتين خلطتا جميعا و ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ فَالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى} فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته، و النوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل 

تفسير الميزان ج۷

308
  • خير، و إنما سمي النوى من أجل أنه نأى عن الحق و تباعد منه. 

  • و قال الله عز و جل: {يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ} فالحي المؤمن الذي يخرج من طينة الكافر، و الميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن و الميت الكافر و ذلك قول الله عز و جل: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر و كان حياته حين فرق الله عز و جل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز و جل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، و يخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى‌۱ النور و ذلك قول الله عز و جل: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكَافِرِينَ}

  • أقول: الرواية من أخبار الطينة و سيجي‌ء البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن شاء الله. و تفسير الحب و النوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، و قد وقع هذا المعنى في روايات أخرى غير هذه الرواية. 

  • و في تفسير العياشي، في قوله تعالى {وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً} عن الحسن بن علي بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن الله جعل الليل سكنا و جعل النساء سكنا، و من السنة التزويج بالليل و إطعام الطعام. 

  • و فيه عن علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تزوجوا بالليل فإن الله جعله سكنا و لا تطلبوا الحوائج بالليل. 

  • و في الكافي بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، و خلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين و أعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم و إن شاء سلبهم إياه. قال: و فيهم جرت {فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ} و قال: إن فلانا كان مستودعا فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه.

  •  أقول: و في تفسير المستقر و المستودع بقسمي الإيمان روايات كثيرة مروية عنهم (عليه السلام) في تفسيري العياشي و القمي، و هذه الرواية توجهها بأنها من الجري و الانطباق. 

  • و في تفسير العياشي، عن سعد بن سعيد أبي الأصبغ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام): 

    1. في ظ.

تفسير الميزان ج۷

309
  • في قوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ} قال: مستقر في الرحم و مستودع في الصلب، و قد يكون مستودع الإيمان ثم ينزع منه. الحديث. 

  • و فيه عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: {بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان، و ابتدع السماوات و الأرضين و لم يكن قبلهن سماوات و لا أرضون أ ما تسمع قوله: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ}؟. 

  • و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ} قال: إحاطة الوهم أ لا ترى إلى قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ}، ليس يعني من البصر بعينه {وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم - كما يقال: فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدراهم، و فلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين. 

  • أقول: و رواه في التوحيد بطريق آخر عنه (عليه السلام) و بإسناده عن أبي هاشم الجعفري عن الرضا (عليه السلام) . 

  • و فيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا: أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال: أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس، لا تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علما، و ليس كمثله شي‌ء؟ أ ليس محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ قال: بلى. قال: كيف يجي‌ء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله، و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علما، و ليس كمثله شي‌ء ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو على صورة البشر، أ ما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشي‌ء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر. 

  • قال أبو قرة: فإنه يقول: {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: {مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى} يقول: 

تفسير الميزان ج۷

310
  • ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: {لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى} فآيات الله غير الله و قد قال الله: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة. 

  • فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال الرضا (عليه السلام): إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، و لا تدركه الأبصار، و ليس كمثله شي‌ء

  • أقول: و هذا المعنى وارد في أخبار أخر مروية عنهم (عليه السلام) ، و هناك روايات أخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في تفسير سورة الأعراف، و إنما شدد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما أن المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانية بالبصر الجسماني التي ينفيها صريح العقل و نص الكتاب‌ ففي تفسير الطبري، عن عكرمة عن ابن عباس قال:إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رأى ربه فقال له رجل عند ذلك: أ ليس قال الله: لا تدركه الأبصار؟ فقال له عكرمة: أ لست ترى السماء؟ قال بلى، قال: فكلها ترى؟ إلى غير ذلك من الأخبار. 

  • و الذي تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر، و قد نفاها العقل و النقل، و قد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله: {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ} هو نفي الإحاطة بجميع أقطار الشي‌ء لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئا من الأشياء الجسمانية و لها سطوح مختلفة الجهات كالإنسان و الحيوان و سائر الأجسام الأرضية و الأجرام السماوية لا يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر بين الباصر و المبصر على ما تعينه قوانين الإبصار المدونة في أبحاث المناظر و المرايا. 

  • فإنا إذا أبصرنا إنسانا مثلا فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه من فوق و تحت و القدام و الخلف و اليمين و اليسار مثلا، و من المحال أن يقع البصر على جميع ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله: {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ} نفي هذا السنخ من الإدراك البصري المحال فيه و في غيره كان كلاما لا محصل له. 

  • و في التوحيد، بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن الله تبارك و تعالى 

تفسير الميزان ج۷

311
  • هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله و تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا بن الفضل إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون و كيفية، و الله خالق الألوان و الكيفيات.

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٠٦ الی ١١٣ ]

  • {اِتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ ١٠٦ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَ مَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ١٠٧ وَ لاَ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٠٨ وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠٩ وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١١٠وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى وَ حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‌ءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ١١١ وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‌ بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ ١١٢ وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ١١٣} 

تفسير الميزان ج۷

312
  • (بيان) 

  • اتصال الآيات بما قبلها واضح لا غبار عليه، و الكلام مسرود في التوحيد. 

  • قوله تعالى: {اِتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} أمر باتباع ما أوحي إليه من ربه من أمر التوحيد و أصول شرائع الدين من غير أن يصده ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق و الإعراض عن دعوة الدين. 

  • و في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة الإلهية إلا أن قوله: {مِنْ رَبِّكَ} لما كان ملحوقا بقوله: {وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} و كان ذلك ربما يوهم أن المراد: اتبع الوحي و اعبد ربك، و أعرض عنهم يعبدوا أربابهم، و لا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم و شركهم قدم على قوله: {وَ أَعْرِضْ}إلخ، قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ليندفع به هذا الوهم، و يجلو معنى قوله: {وَ أَعْرِضْ} إلخ، و يأخذ موضعه. 

  • فالمعنى: اتبع ما أوحي إليك من ربك الذي له العناية البالغة بك و الرحمة المشتملة عليك إذ خصك بوحيه و أيدك بروح الاتباع، و أعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم و ما يعبدون و تسكت راضيا بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما الإله واحد و هو ربك الذي يوحي إليك لا إله إلا هو بل إن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم على التوحيد و لا تتحمل شقا فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ و لست عليهم بحفيظ و لا وكيل، و إنما الحفيظ الوكيل هو الله و لم يشأ لهم التوحيد و لو شاء ما أشركوا لكنه تركهم و ضلالهم لأنهم أعرضوا عن الحق و استنكفوا عن الخضوع له. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَ مَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} تطييب لقلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يجد لشركهم و لا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشية لله لو شاء ما أشركوا بل تلبسوا بالإيمان عن طوع و رغبة كما تلبس من وفق للإيمان و ذلك أنهم استكبروا في الأرض و استعلوا على الله و مكروا به و قد أهلكوا بذلك أنفسهم فرد الله مكرهم إليهم و حرمهم التوفيق للإيمان و الاهتداء إذ كما أن السنة الجارية في التكوين هي سنة الأسباب و قانون العلية و المعلولية العام، و المشية الإلهية إنما تتعلق بالأشياء و تقع على الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل 

تفسير الميزان ج۷

313
  • و الشرائط و ارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذي تتعلق بتحققه المشية الإلهية و إن كان الله سبحانه له فيه المشية مطلقا إن لم يشأه لم يكن و إن شاء كان، كذلك السنة في نظام التشريع و الهداية هي سنة الأسباب فمن استرحم الله رحمه و من أعرض عن رحمته حرمه، و الهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه النفحة الإلهية و لم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق و الكفر و العناد شملته و أحيته بأطيب الحياة، و من اتبع هواه و عاند الحق و استعلى على الله، و أخذ يمكر بالله و يستهزئ بآياته حرمه الله السعادة و أنزل الله عليه الشقوة و أضله على علم و طبع عليه بالكفر فلا ينجو أبدا.

  • و لو لا جريان المشية الإلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب و قانون العلية و المعلولية و حلت الإرادة الجزافية محله و لغت المصالح و الحكم و الغايات، و أدى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لأن التشريع ينتهي بالأخرة إلى التكوين بوجه و دبيب الفساد إليه يؤدي إلى فساد أصله. 

  • و هذا كما أن الله سبحانه لو اضطر المشركين على الإيمان و خرج بذلك النوع الإنساني عن منشعب طريقي الإيمان و الكفر، و سقط الاختيار الموهوب له و لازم بحسب الخلقة الإيمان، و استقر في أول وجوده على أريكة الكمال، و تساوى الجميع في القرب و الكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة و لغو التربية و التكميل، و ارتفع الاختلاف بين الدرجات، و أدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات و الأعمال و الأحوال و الملكات و انقلب بذلك النظام الإنساني و ما يحيط به و يعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك. 

  • و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله: {وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} على الإيمان الاضطراري، و أن المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرهم إلى ذلك و ذلك أن الذي تقدم من أن المراد تعلق المشية الإلهية على تركهم الشرك اختيارا كما تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو الأوفق بكمال القدرة، و الأنسب بتسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب قلبه. 

  • فالمعنى: أعرض عنهم و لا يأخذك من جهة شركهم وجد و لا حزن فإن الله قادر أن يشاء منهم الإيمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا. على أنك لست بمسئول 

تفسير الميزان ج۷

314
  • عن أمرهم لا تكوينا و لا غيره فلتطب نفسك. 

  • و يظهر من ذلك أيضا أن قوله: {وَ مَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أيضا مسوق سوق التسلية و تطييب النفس، و كأن المراد بالحفيظ القائم على إدارة شئون وجودهم كالحياة و النشوء و الرزق و نحوها، و بالوكيل القائم على إدارة الأعمال ليجلب بذلك المنافع و يدفع المضار المتوجهة إلى الموكل عنه من ناحيتها فمحصل المراد بقوله: {وَ مَا جَعَلْنَاكَ} إلخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية و لا أمر حياتهم الدينية حتى يحزنك ردهم لدعوتك و عدم إجابتهم إلى طلبتك. 

  • و ربما يقال: إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه و بالوكيل من يجلب المنافع إلى من يتوكل عنه، و لا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختص بالتكوين و الوكيل يعم التكوين و غيره، و لا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة تكوينية، و الأخرى على ما يعمها و غيرها بل الوجه حمل الأولى على إحدى الجهتين، و الأخرى على الأخرى. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} السب معروف، قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان و العدو قال: {فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} و تارة بأجزاء المقر فيقال له العدواء يقال مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء. انتهى. 

  • و الآية تذكر أدبا دينيا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني و تتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الإهانة و الإزراء بشنيع القول و السب و الشتم و السخرية و نحوها فإن الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، و المقابلة في التعدي على من يحسبه متعديا إلى نفسه، و ربما حمله الغضب على الهجر و السب لما له عنده أعلى منزلة العزة و الكرامة فلو سب المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسب ما له عندهم كرامة الألوهية و هو الله عز اسمه ففي سب آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه و كبريائه. 

  • و عموم التعليل المفهوم من قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} يفيد عموم النهي 

تفسير الميزان ج۷

315
  • لكل قول سيئ يؤدي إلى ذكر شي‌ء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى. 

  • قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شي‌ء ضما يجلب الرغبة إليه و يحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة و ينتهي إلى الشي‌ء المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر و البرد. 

  • و قد أراد الله سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب و الفروع و يديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق إعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه و ما يضره بحواسه الظاهرة ثم يتصرف فيها بحواسه و قواه الباطنة ثم يتغذى بأكل أشياء و شرب أشياء و يهيج إلى النكاح بأعمال خاصة و يلبس و يأوي و يجلب و يدفع و هكذا. 

  • و له في جميع هذه الأعمال و ما يتعلق بها لذائذ يقارنها و غايات حيوية ينتهي إليها و آخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة الحقيقية. و هو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام و الشراب و النكاح و غير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء و لذة التقدم و الأنس و المدح و الفخر و الذكر الخالد و الانتقام و الثروة و الأمن و غير ذلك مما لا يحصى. 

  • و هذه اللذائذ أمور زينت بها هذه الأعمال و متعلقاتها، و قد سخر الله سبحانه بها الإنسان فهو يوقع الأفعال و يتوخى الأعمال لأجلها، و بتحققها يتحقق الغايات الإلهية و الأغراض التكوينية كبقاء الشخص، و دوام النسل، و لو لا ما في الأكل و الشرب و النكاح من اللذة المطلوبة لم يكن الإنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه و الثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة، و فنى الشخص، و انقطع النسل فانقرض النوع، و بطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك. 

  • و ما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي في أنواع الأغذية و لذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية، و لا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي أعطى كل شي‌ء خلقه ثم هدى. 

  • و ما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الإنسان في دنياه و لا تضره في آخرته فهي 

تفسير الميزان ج۷

316
  • منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: ٧). 

  • و ما كان منها لذة فكرية توافق الهوى و تشقي في الأخرى و الأولى بإبطال العبودية و إفساد الحياة الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الإلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة، و الأحكام الناشئة منها و الأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة و لم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية و عثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالإذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٣٩) و قال تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} (النحل: ٦٣). 

  • أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها و هداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الإنسان الكونية السليمة عقائد و آراء فكرية يبني عليها أعماله فتسعده و تحفظه عن الشقاء و خيبة المسعى، و جلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء و ينهى عن المعروف و يبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن و القبيح معا و ينهى الناس جميعا عن القبيح و الحسن معا فيختل بذلك نظام التكليف و التشريع ثم الثواب و العقاب ثم يصف الدين الذي هذه صفته بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر الناس عليها، و الفطرة بريئة من هذا التناقض و أمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه و العتاهية. 

  • فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة و المعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التي تزينت بالتقوى و تجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة و العمل الصالح، و النفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق و اكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى الفجور و الفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير و الشر و الباعث إلى الطاعة و المعصية جميعا هو الله سبحانه. 

  • قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه و هذا هو النظر في الطاعة و المعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما و بينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة 

تفسير الميزان ج۷

317
  • النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، و على تقديرها تنسب الطاعة و المعصية إليها بلا واسطة و إلى الله سبحانه بالإذن فالله سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه. 

  • و أما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة و المعصية من حيث تشريع الأحكام، و من حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: إن الله سبحانه يدعو إلى الإيمان و الكفر جميعا أو يبعث إلى الطاعة و المعصية معا؟ و هو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الإنساني المبني على الفطرة الإلهية و هذه الشرائع الإلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية، و الدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: ٢٩). 

  • و أما أنها منسوبة إليه تعالى بالإذن فإن الملك عام و السلطنة الإلهية مطلقة و حاشا أن يتأتى لأحد أن يتصرف في شي‌ء من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك و الفسق و جميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان و الاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع و مسلك الدعوة و الهداية، قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (يونس: ٣) و قال: {وَ لِيُمَحِّصَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكَافِرِينَ} (آل عمران: ١٤١). 

  • فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإذن أو بلا واسطة، و عليه يجري قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} (الآية: ١٠٨) و أوضح منه في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: ٧). 

  • و للمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الأفعال إليه تعالى أقوال في الآية. 

  • منها: أن المراد هو التزيين بالأمر و النهي و بيان الحسن و القبح فالمعنى: كما زينا لكم أيها المؤمنون أعمالكم زينا لكل أمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله و ترك سب 

تفسير الميزان ج۷

318
  • الأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق. و فيه أنه مخالف لظهور الآية في العموم، و لا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر مما تقدم. 

  • و منها: أن المعنى: و كذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق و يجتنبوا الباطل. 

  • و فيه أنه كما لا يصح إسناد الدعوة إلى الطاعة و المعصية و الإيمان و الكفر إليه تعالى بلا واسطة كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة و السيئة على وتيرة واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية و ما يشابهها و بين الدعوة التشريعية إلى القبائح و المساوي، و نسبة الأول إليه تعالى دون الثاني ليس في محله. 

  • و منها: أن المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله {وَ لَكِنَّ اَللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيَانَ} (الحجرات: ٧) أي حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه و مدح فاعليه على فعله، و كره الكفر بذكر عقابه و ذم فاعليه. و فيه: أن فيه تقييدا للأعمال بالحسنة من غير مقيد. على أنه معنى بعيد من السياق و من ظاهر لفظ التزيين. على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين. 

  • و منها: أن المراد التزيين لمطلق الأعمال حسناتها و سيئاتها ابتداء من غير واسطة و الدعوة منه تعالى إلى الطاعة و المعصية جميعا بناء على أن الإنسان مجبر في الأفعال المنسوبة إليه. 

  • و فيه: أن ظاهر الآية أوفق بالاختيار منه بالإجبار فإن الشي‌ء إنما تضم إليه الزينة ليرغب فيه الإنسان و يحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به و ترك غيره، و لو لم تكن نسبة فعله و تركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل نوع من الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه، و هو ينطبق في الطاعات و حسنات الأعمال على ما يسمى في لسان الشرع هداية و توفيقا، و في المعاصي و سيئات الأعمال على ما يعد إضلالا و مكرا إلهيا، و لا مانع من نسبة الإضلال و المكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون الإضلال و المكر الابتدائيين، و قد تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب و تقدم البحث عن الجبر و ما يقابله من التفويض و الأمر بين الأمرين في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و قوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يؤيد ما تقدم أن حكم 

تفسير الميزان ج۷

319
  • التزيين عام شامل لجميع الأعمال الباطنية كالإيمان و الكفر و الظاهرية كأعمال الجوارح الحسنة و السيئة فإن ظاهر الآية أن الإنسان إنما يقصد هذه الأعمال و يوقعها لأجل ما يرغب فيه من زينته غافلا عن الحقائق المستورة تحت هذه الزينات المضروب عليها بحجاب الغفلة ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه، و عاينوا ما هم مصروفون عنه، أما أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم مما أخفي لهم من قرة أعين، و أما أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختص بأحد القبيلين من الحسنات و السيئات. 

  • قوله تعالى: {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} - إلى قوله - {عِنْدَ اَللَّهِ} الجهد بفتح الجيم الطاقة و الأيمان‌ جمع يمين و هي القسم، و جهد الأيمان أي ما تبلغه قدرتها و هو الطاقة، و المراد أنهم بالغوا في القسم و أكدوه ما استطاعوا، و المراد بكون الآيات عند الله كونها في ملكه و تحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه. 

  • فالمعنى: و أقسموا بالله و بالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الآية و هذا اقتراح منهم للآية كناية قل إنما الآيات عند الله و هو الذي يملكها و يحيط بها و ليس إلي من أمرها شي‌ء حتى أجيبكم إليها من تلقاء نفسي. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قرئ: {لاَ يُؤْمِنُونَ} بياء الغيبة و تاء الخطاب جميعا، و الخطاب على القراءة الأولى للمؤمنين بنوع من الالتفات، و على القراءة الثانية للمشركين و الكلام من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو ظاهر. 

  • و الظاهر أن {إِنَّمَا} في قوله: {وَ مَا يُشْعِرُكُمْ} للاستفهام، و المعنى: و ما هو الذي يفيد لكم العلم بواقع الأمر و هو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمنن بها فربما آمنتم و صدقتم بحلفهم و ليس لكم علم بأنهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لأن الله لم يشأ إيمانهم فالكلام من الملاحم. 

  • و ربما قيل: إن «أن» في قوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ} إلخ، بمعنى لعل و هذا معنى شاذ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة. 

  • قوله تعالى: {وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلخ، ظاهر السياق أن الجملة عطف على قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} و هي بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم، و المراد 

تفسير الميزان ج۷

320
  • بقوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} الدعوة الأولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصور له من المرة الثانية التي هي الدعوة مع نزول الآيات. 

  • و المعنى أنهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات، و ذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا يعقلون بها كما ينبغي أن يعقلوه، و أبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه الآيات المفروضة و نذرهم في طغيانهم يترددون و يتحيرون. هذا ما يقضي به ظاهر سياق الآية. 

  • و للمفسرين في الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها و البحث عنها، من شاء الاطلاع عليها فليراجع مظانها. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى} إلى آخر الآية بيان آخر لقوله: {إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ} و أن قولهم: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} دعوى كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع الآيات التي يظنون أنها أسباب مستقلة في إيجاد الإيمان في قلوبهم و إقدارهم على التلبس به أن تودع في نفوسهم الإيمان إلا بمشية الله. 

  • فهذا السياق يدل على أن في الكلام حذفا و إيجازا، و المعنى: و لو أننا أجبناهم في مسألتهم و آتيناهم أعاجيب الآيات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، و أحيينا لهم الموتى فواجهوهم و كلموهم و أخبروهم بصدق ما يدعون إليه، و حشرنا و جمعنا عليهم كل شي‌ء قبيلا قبيلا و صنفا صنفا، أو حشرنا عليهم كل شي‌ء قبلا و مواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو القال، ما كانوا ليؤمنوا و لم يؤثر شي‌ء من ذلك في استجابتهم للإيمان إلا أن يشاء الله إيمانهم. 

  • فلا يتم لهم الإيمان بشي‌ء من الأسباب و العلل إلا بمشية الله فإن النظام الكوني على عرضه العريض و إن كان يجري على طبق حكم السببية و قانون العلية العام غير أن العلل و الأسباب مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شي‌ء من شئونها و مقتضياتها فلا يظهر لها حكم إلا بمشية الله و لا يحيى لها رسم إلا بإذنه. 

  • غير أن المشركين أكثرهم - و لعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم و يتعلقون بالأسباب على أنها مستقلة في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو أتاهم سبب الإيمان - و هو الآية المقترحة - آمنوا و اتبعوا الحق و قد اختلط عليهم الأمر بجهلهم فأخذوا 

تفسير الميزان ج۷

321
  • هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشية الله أسبابا مستقلة تامة مستغنية عنه. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ} إلى آخر الآية الشياطين‌ جمع شيطان و هو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الذي يصفه القرآن و ذريته، و الجن‌ من الجن بالفتح و هو الاستتار، و هو في عرف القرآن نوع من الموجودات ذوات الشعور و الإرادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها و هم غير الملائكة. يذكر القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم. و الوحي‌ هو القول الخفي بإشارة و نحوها، و الزخرف‌ الزينة المزوقة أو الشي‌ء المزوق فزخرف القول الكلام المزوق المموه الذي يشبه الحق و ليس به، و غرورا مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو مفعول له. 

  • و المعنى: و مثل ما جعلنا لك جعلنا لكل نبي عدوا هم شياطين الإنس و الجن يشير بعضهم إلى بعض - و كأن المراد وحي شياطين الجن بالوسوسة و النزغة إلى شياطين الإنس و وحي بعض شياطين الإنس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر و التسويل - بأقوال مزوقة و كلمات مموهة يغرونهم بذلك غرورا أو لغرورهم و إضلالهم بذلك. 

  • و قوله: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} يشير بذلك إلى أن حكم المشية عام جار نافذ فكما أن الآيات لا تؤثر في إيمانهم شيئا إلا بمشية الله كذلك معاداة الشياطين الأنبياء و وحيهم زخرف القول غرورا كل ذلك بإذن الله و لو شاء الله ما فعلوه و لم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدوا للأنبياء، و بهذا المعنى يتصل هذه الآية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقف الأمور على المشية. 

  • و قوله: {فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ} تفريع على نفوذ المشية أي إذا كانت هذه المعاداة و الإفساد بالوساوس كل ذلك بإذن الله و لم يكونوا بمعجزين لله في مشيته النافذة الغالبة فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالأمر و إفسادهم له بل اتركهم و ما يفترونه على الله من دعوى الشريك و نحوها. 

  • فقوله: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات: {وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}

  • و الكلام في قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ}  

تفسير الميزان ج۷

322
  • إلخ، حيث أسند ظاهرا جعلهم عدوا للأنبياء - و فيه التسبب إلى الشر و البعث إلى الشرك و المعصية - إلى الله سبحانه و هو منزه من كل شر و سوء نظير الكلام في إسناده تزيين الأعمال إلى الله سبحانه في قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} و قد تقدم الكلام فيه، و كذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية: {وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إلخ، حيث جعل هذه المظالم و الآثام غايات إلهية للدعوة الحقة. 

  • و للمفسرين في هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى الله سبحانه نظائر ما تقدم من أقوالهم في انتساب زينة الأعمال إليه تعالى. 

  • و قد عرفت أن الذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شي‌ء فهو مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكن الآيات المنزهة لساحة قدسه تعالى من كل سوء و قبح تعطي أن الخيرات و الحسنات جميعا مستندة إلى مشيته منسوبة إليه بلا واسطة أو معها، و الشرور و السيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان و النفس بلا واسطة، و إنما تنتسب إليه تعالى بالإذن فهي مملوكة له تعالى واقعة بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الإلهي و يتم بذلك أمر الدعوة الإلهية بالأمر و النهي و الثواب و العقاب و لو لا ذلك لبطلت و لغت السنة الإلهية في تسيير الإنسان كسائر الأنواع نحو سعادته في هذا العالم الكوني الذي لا سبيل فيه إلى الكمال و السعادة إلا بالسلوك التدريجي. 

  • قوله تعالى: {وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} إلى آخر الآية. الاقتراف‌ هو الاكتساب، و ضمير المفرد للوحي المذكور في الآية السابقة و اللازم في قوله: {لِتَصْغى} للغاية و الجملة معطوفة على مقدر، و التقدير: فعلنا ما فعلنا و شئنا ما شئنا و لم نمنع عن وحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورا لغايات مستورة و لتصغى و تجيب إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك جميعا ما يسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة، فإن الله سبحانه يمد كلا من أهل السعادة و أهل الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم و يرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}(الإسراء: ٢٠). 

تفسير الميزان ج۷

323
  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه. 

  • فانطلق أبو سفيان و أبو جهل و النضر بن الحارث و أمية و أبي ابنا خلف و عقبة بن أبي معيط - و عمرو بن العاصي و الأسود بن البختري، و بعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا و سيدنا، و إن محمدا قد آذانا و آذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا و لندعه و إلهه، فدعاه فجاءه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك و بنو عمك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا و آلهتنا و لندعك و إلهك. قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ أ رأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة أن تكلمتم بها ملكتم بها العرب و دانت لكم بها العجم الخراج؟ قال أبو جهل: و أبيك لنعطينكها و عشرة أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا و اشمأزوا. 

  • قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها - حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي و لو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا و قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك و نشتم من يأمرك، فأنزل الله: {وَ لاَ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}

  • أقول: و الرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم كانوا يسألونه الكف عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها و ترك التقرب إليها حتى إذا يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم و كان مقتضى جر الكلام أن يهددوه على دعوة إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك و يذكروا شتمه و يهددوه على ذلك و ليس في الآية إشارة إلى صدر القصة و هو أصلها. 

تفسير الميزان ج۷

324
  • على أن وقار النبوة و عظيم الخلق الذي كان في عشرته (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول، و الذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهم العن فلانا و فلانا، و كذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: {لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} (النساء: ٤٦) و قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (المدثر: ١٩) و قوله: {قُتِلَ اَلْإِنْسَانُ} (عبس: ١٧) و قوله: {أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} (الأنبياء: ٦٧) و نظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلا، و الذي ورد من قبيل قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم: ١٣) فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ربما أداهم المشاجرة و الجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيرا بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الآتي. 

  • و في تفسير القمي قال: حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء» فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال: {وَ لاَ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَسُبُّوا اَللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}

  • و في تفسير العياشي عن عمرو الطيالسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: {وَ لاَ تَسُبُّوا} (الآية). قال: فقال يا عمرو هل رأيت أحدا يسب الله؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب الله.

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، و أن عيسى كان يحيي الموتى و أن ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أي شي‌ء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم و الله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يدعو فجاء جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، و إن شئت 

تفسير الميزان ج۷

325
  • فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال: بل يتوب تائبهم فأنزل الله: {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} - إلى قوله - {يَجْهَلُونَ}.

  •  أقول: القصة المذكورة سببا للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد تقدم أن ظاهرها الإخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، و أنهم ليسوا بمفارقي الشرك و إن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإيمان و لم يشأ ذلك، و إذا كان هذا هو الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل: إن شئت صار ذهبا فإن لم يؤمنوا عذبوا، و إن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، إلخ. 

  • فالظاهر أن الآيات في معنى قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (البقرة: ٦) فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم الله بهذه الآيات و أخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالا عليهم. 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: ‌{وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ} (الآية) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية، يقول: و ننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، و نعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى: و قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفا و لم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيرا أبدا.

  •  أقول: المراد بذلك تقلب النفس في إدراكها و انعكاس أحكامها من جهة اتباع الهوى و الإعراض عن سليم العقل المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية. 

  • و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قول الله: {وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ} إلى آخر الآية أما قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإنه حين أخذ عليهم الميثاق. 

  • أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الآية) (الأعراف: ١٧٢) لكن تقدم أن ظاهر السياق أن المراد بعدم إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة. 

تفسير الميزان ج۷

326
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١١٤ الی ١٢١]

  • {أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ ١١٤ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ١١٥ وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ١١٦ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ١١٧ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ١١٨ وَ مَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ١١٩ وَ ذَرُوا ظَاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ١٢٠وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‌ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ١٢١} 

تفسير الميزان ج۷

327
  • (بيان) 

  • الآيات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: {أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} إلخ. لها فيما بينها أنفسها و هي ثمان آيات اتصال يرتبط به بعضها ببعض و يرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله و قد فصل أحكامه في كتابه، و نهيا من اتباع الناس و إطاعتهم و أن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم الظن و بنائهم على الخرص و التخمين، و في آخرها أن المشركين و هم أولياء الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، و فيها الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه و النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، و أن ذلك هو الذي فصله في كتابه و ارتضاه لعباده. 

  • و هذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس:أن المشركين خاصموا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين في أمر الميتة قائلين: أ تأكلون مما قتلتم أنتم و لا تأكلون مما قتله الله؟ فنزلت‌، فالغرض من هذه الآيات بيان الفرق و تثبيت الحكم. 

  • قوله تعالى: {أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتَابَ مُفَصَّلاً} قال في المجمع: الحكم‌ و الحاكم‌ بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق و قد يحكم الحاكم بغير حق. قال: و معنى التفصيل‌ تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، و ينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى. 

  • و في قوله: {أَ فَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت من قبله تعالى، و قد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين يديه من التوراة و الإنجيل، و المعنى: أ فغير الله من سائر من تدعون من الآلهة أو من ينتمي إليهم أطلب حكما يتبع حكمه و هو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب و هو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، و لا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْ‌ءٍ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ} (المؤمن: ٢٠). 

  • و قوله: {أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى}(يونس: ٣٥). 

تفسير الميزان ج۷

328
  •  قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ} إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما يتأكد به يقينه و يزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففي الكلام التفات، و هو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه و اطمئنان قلبه و ليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره. 

  • و قوله: {بِالْحَقِّ} متعلق بقوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} و كون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (الشعراء: ٢٢٢) أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحي الإلهي، و قد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} (الجن: ٢٨) 

  • قوله تعالى: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} الكلمة - و هي ما دل على معنى تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذي قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (يونس: ١٩) يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ} (البقرة: ٣٦) و قوله تعالى: {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } (يونس: ٩٦) يشير إلى قوله تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: ٨٥) و قد فسرها في موضع آخر بقوله: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: ١١٩) و كقوله تعالى: {وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: ١٣٧) يشير إلى ما وعدهم أنه سينجيهم من فرعون و يورثهم الأرض كما يشير إليه قوله: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ} (القصص: ٥). 

  • و ربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالإنسان مثلا كقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران: ٤٥) و العناية فيه أنه (عليه السلام) خرق عادة التدريج و خلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران: ٥٩). 

  • فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ 

تفسير الميزان ج۷

329
  • رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً} كلمة الدعوة الإسلامية و ما يلازمها من نبوة محمد ص و نزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الإلهية و كليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة: {رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ} (البقرة: ١٢٩). 

  • و أشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ} (الأعراف: ١٥٧) و بذلك يشعر قوله في الآية السابقة: {وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} و قوله: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (البقرة: ١٤٦) إلى غير من ذلك الآيات الكثيرة. 

  • فالمراد بتمام الكلمة - و الله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الإسلامية بنبوة محمد ص و نزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت و استقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة و شريعة بعد شريعة فإن الآيات الكريمة دالة على أن الشريعة الإسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع و تزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى} (الشورى: ١٣). 

  • و بذلك يظهر معنى تمام الكلمة و أن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال، و مصداقه الدين المحمدي قال تعالى: {وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ} (الصف: ٩). 

  • و تمام هذه الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التي بين بها، و عدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض و تزن الأشياء على النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف و ظلم، و لذلك بين هذين القيدين أعني {صِدْقاً وَ عَدْلاً} بقوله {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} فإن الكلمة الإلهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل 

تفسير الميزان ج۷

330
  • إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره و يقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا تقع كما قال، و عدلا لا تنحرف عن حالها التي كانت عليها وصفها الذي وصفت به فالجملة أعني قوله: {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} بمنزلة التعليل يعلل بها قوله: {صِدْقاً وَ عَدْلاً}

  • و من أقوال المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة و الكلمات القرآن، و قيل: إن المراد بالكلمة القرآن، و بالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ و الله سبحانه يقول: {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} و قيل: المراد بالكلمة الدين، و قيل: المراد الحجة، و قيل: الصدق ما كان في القرآن من الأخبار و العدل ما فيه من الأحكام، هذا. 

  • و قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل، و العليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لأقوالكم، العليم بأفعالكم. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية. الخرص‌ الكذب و التخمين، و المعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإن الجملة أعني قوله: {وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} و التي قبلها أعني قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ} واقعتان موقع التعليل لقوله: {وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} إلخ، و اتباع الظن و القول بالخرص و التخمين سببان بالطبع للضلال في الأمور التي لا يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم و اليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى و الشرائع المأخوذة من قبله. 

  • و سير الإنسان و سلوكه الحيوي في الدنيا و إن كان لا يتم دون الركون إلى الظن و الاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الإنسان الاعتبارية و العلل و الأسباب التي تدعوه إلى صوغه لها و تقليبها في قالب الاعتبار، و ارتباطها بشئونه الحيوية و أعماله و أحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الإنسان فيه إلى العلم الخالص و اليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التي ينتهي إليها مما يضطر إلى الإذعان بها و الاعتماد عليها. 

  • إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب و التخمين من جزئيات الأمور في الحياة، و أما السعادة الإنسانية التي فيه فوز هذا النوع و فلاحه، و الشقاء الذي يرتبط به الهلاك الأبدي و الخسران الدائم، و ما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم و صانعه 

تفسير الميزان ج۷

331
  • و الغرض من إيجاده و ما ينتهي إليه الأمر من البعث و النشور و ما يتعلق به من النبوة و الكتاب و الحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن و التخمين و الله سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلا العلم و اليقين، و الآيات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: ٣٦). 

  • و من أوضحها دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض لركونهم العام إلى الظن و التخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه و يأمرون به في سبيل الله و طريق عبوديته لأن الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه في أمر الربوبية و العبودية لملازمته الجهل بالواقع و عدم الاطمئنان إليه، و لا عبودية مع الجهل بالرب و ما يريده من عبده. 

  • فهذا هو الذي يقضي به العقل الصريح، و قد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في الآية التالية في معنى تعليل النهي عن الطاعة: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، و قد جمع سبحانه بين الطريقين جميعا في قوله: {وَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً} و هذا أخذ بحكم العقل - {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِهْتَدى} (النجم: ٣٠) و في ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه و حكمه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ذكروا أن {أَعْلَمُ} إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل و ربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل، و الآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين و المهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، و إن أريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال و المهتدي قدر ما أفاضه الله عليه من العلم. 

  • و تعدي أعلم بالباء في قوله: {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} يدل على أن قوله: {مَنْ يَضِلُّ} منصوب بنزع الخافض و التقدير: «أعلم بمن يضل» و يؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة النجم. 

تفسير الميزان ج۷

332
  •  قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} لما تمهد ما قدمه من البيان الذي هو حجة على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الأخذ بالحكم الذي شرعه و هو الذي يدل عليه هذه الآية، و وجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم و يجادل المؤمنين فيه بوحي الشياطين إليه، و هو الذي يدل عليه قوله: {وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية. 

  • و من هنا يظهر أن العناية الأصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الآية إلى تمام أربع آيات، و سائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي فرقوا بين المذكى و الميتة فكلوا من هذه و لا تأكلوا من ذاك، و إن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق. 

  • فقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ} تفريع للحكم على البيان السابق، و لذا أردفه بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} و المراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية، بيان تفصيلي لإجمال التفريع الذي في الآية السابقة، و المعنى: أن الله فصل لكم ما حرم عليكم و استثنى صورة الاضطرار و ليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله و إن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده و هؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم و ما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع. 

  • و يظهر بما مر أن معنى قوله: {وَ مَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا} ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا، و ما للاستفهام التعجيبي، و قيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، و ما للنفي. 

  • و يظهر من الآية أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام و قد وقعت في سورة النحل من السور المكية فهي نازلة قبل الأنعام. 

  • قوله تعالى: {وَ ذَرُوا ظَاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ بَاطِنَهُ} إلى آخر الآية، و إن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الإثم ظاهره و باطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذي لسابقتها و لاحقتها يقضي بكونها تمهيدا للنهي الآتي في قوله: {وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ 

تفسير الميزان ج۷

333
  •  يُذْكَرِ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ} و لازم ذلك أن يكون الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الإثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الإثم الظاهر أو الباطن لكن التأكيد البليغ الذي في قوله: {وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ} يفيد أنه من الإثم الباطن و إلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الأكيد. 

  • و بهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الإثم المعصية التي لا ستر على شؤم عاقبته و لا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك و الفساد في الأرض و الظلم، و بباطن الإثم ما لا يعرف منه ذلك في بادئ النظر كأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و إنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهي و ربما أدركه العقل، هذا هو الذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الإثم و باطنه. 

  • و للمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الإثم و باطنه هما المعصية في السر و العلانية، و قيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، و بالباطن أفعال القلوب، و قيل: الظاهر من الإثم هو الزنا، و الباطن اتخاذ الأخدان، و قيل: ظاهر الإثم نكاح امرأة الأب، و باطنه الزنا، و قيل: ظاهر الإثم الزنا الذي أظهر به، و باطنه الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، و إنما الفحشاء هو الذي أظهره صاحبه، و هذه الأقوال - كما ترى - على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق. 

  • و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} تعليل للنهي و إنذار بالجزاء السيئ. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} نهي هو زميل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} كما تقدم. 

  • و قوله: {وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ} إلى آخر الآية، بيان لوجه النهي و تثبيت له أما قوله: {وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ} فهو تعليل و التقدير: إنه لفسق و كل فسق يجب اجتنابه فالأكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب. 

  • و أما قوله: {وَ إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، و المراد بأولياء الشياطين هم المشركون، و معناه أن ما يجادلكم به المشركون و هو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم و لا تأكلون مما قتله الله 

تفسير الميزان ج۷

334
  • يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، و الفارق أن أكل الميتة فسق دون أكل المذكى، و أن الله حرم أكل الميتة و لم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه. 

  • و أما قوله: {وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فهو تهديد و تخويف بالخروج من الإيمان، و المعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذي يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لأنكم استننتم بسنة المشركين، أو لأنكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: ٥١). 

  • و وقوع هذه الجملة أعني قوله: {وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} إلخ، في ذيل النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور: أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المسجد الحرام يوم فتح مكة و معه مخصرة، و لكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما و يطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفئوس حتى يكسرونه و يطرحونه خارجا من المسجد و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: و تمت كلمات ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً} قال: لا إله إلا الله. 

  • و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الإمام ليسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين كتفيه: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة.

  •  أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخرى عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه أيضا القمي و العياشي في تفسيريهما عنه (عليه السلام) ، و في بعضها: أن الآية تكتب 

تفسير الميزان ج۷

335
  • بين عينيه، و في بعضها: على عضده الأيمن. 

  • و اختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الإلهي به (عليه السلام) و اختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، و بكتابتها بين كتفيه حملها عليه و إظهاره و تأييده بها و بكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعا على عمله و تقويته و تأييده بها. 

  • و هذه الرواية و الروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الآية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الإسلامية بما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزول القرآن و الإمامة من ذلك. 

  • و في تفسير العياشي، في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} (الآية) عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد و يكبر قال: هذا كله من أسماء الله. 

  • و فيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ذبيحة المرأة و الغلام هل تؤكل؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة و ذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، و إذا كان الغلام قويا على الذبح و ذكر اسم الله حلت ذبيحته، و إن كان الرجل مسلما فنسي أن يسمي فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه.

  •  أقول: و في هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة. 

  • و فيه عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في ذبيحة الناصب و اليهودي قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، أ ما سمعت قول الله: {وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و البيهقي في سننه و ابن مردويه عن ابن عباس: {وَ لاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ} فنسخ و استثنى من ذلك فقال: {وَ طَعَامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}

  • أقول: و روي النسخ عن أبي حاتم عن مكحول و قد تقدم في أول المائدة: أن الآية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الإسلام في المذكي اسم فاعل دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه و لا تنافي بين الآيتين في ذلك و للمسألة ارتباط بالفقه‌ 

تفسير الميزان ج۷

336
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٢٢ الی ١٢٧]

  • {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٢٢ وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ ١٢٣ وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ١٢٤ فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٢٥ وَ هَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ١٢٦ لَهُمْ دَارُ اَلسَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٢٧}  

  • (بيان) 

  • قوله تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الآية واضحة المعنى و هي بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن و الكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى و الضلال. 

تفسير الميزان ج۷

337
  • فالإنسان قبل أن يمسه الهدى الإلهي كالميت المحروم من نعمة الحياة الذي لا حس له و لا حركة فإن آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، و جعل له نورا يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره و نفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه و يدع ما يضره و هكذا يسير في مسير الحياة. 

  • و أما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها و لا مناص له عنها ظلمة الموت و ما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر و النافع من الضار، و نظير هذه الآية في معناها بوجه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ} (الأنعام: ٣٦) و قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: ٩٧). 

  • ففي الكلام استعارة الموت للضلال و استعارة الحياة للإيمان أو الاهتداء و الإحياء للهداية إلى الإيمان و النور للتبصر بالأعمال الصالحة، و الظلمة للجهل كل ذلك في مستوى التفهيم و التفهم العموميين لما أن أهل هذا الظرف لا يرون للإنسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانية التي هي المنشأ للشعور باللذائذ المادية و الحركة الإرادية نحوها. 

  • فهؤلاء يرون أن المؤمن و الكافر لا يختلفان في هذه الموهبة و هي فيهما شرع سواء فلا محالة عد المؤمن حيا بحياة الإيمان ذا نور يمشي به في الناس، و عد الكافر ميتا بميتة الضلال في ظلمات لا مخرج منها ليس إلا مبتنيا على عناية تخييلية و استعارة تمثيلية يمثل بها حقيقة المعنى المقصود. 

  • لكن التدبر في أطراف الكلام و التأمل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطي للآية معنى وراء هذا الذي يناله الفهم العامي فإن الله سبحانه ينسب للإنسان الإلهي في كلامه حياة خالدة أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته لا يمسه نصب و لا لغوب، و لا يذله شقاء و لا تعب، مستغرب في حب ربه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرا، و لا يواجه إلا سعادة و هو في أمن و سلام لا خوف معه و لا خطر، و سعادة و بهجة و لذة لا نفاذ لها و لا نهاية لأمدها. 

  • و من كان هذا شأنه فإنه يرى ما لا يراه الناس، و يسمع ما لا يسمعونه، و يعقل 

تفسير الميزان ج۷

338
  • ما لا يعقلونه، و يريد ما لا يريدونه و إن كانت ظواهر أعماله و صور حركاته و سكناته تحاكي أعمال غيره و حركاتهم و سكناتهم و تشابهها فله شعور و إرادة فوق ما لغيره من الشعور و الإرادة فعنده من الحياة التي هي منشأ الشعور و الإرادة ما ليس عند غيره من الناس فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره. 

  • فكما أن العامة من الإنسان في عين أنها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة و الحركة الإرادية نحوها، و يشاركها الحيوان لكنا مع ذلك لا نشك أن الإنسان نوع أرقى من سائر الأنواع الحيوانية و له حياة فوق الحياة التي فيها لما نرى في الإنسان آثاره العجيبة المترشحة من أفكار الكلية و تعقلاته المختصة به، و لذلك نحكم في الحيوان إذا قسناه إلى النبات و في النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أن لكل منهما كعبا أعلى و حياة هي أرقى من حياة ما قبله. 

  • فلنقض في الإنسان الذي أوتي العلم و الإيمان و استقر في دار الإيقان و اشتغل بربه و فرغ و استراح من غيره و هو يشعر بما ليس في وسع غيره و يريد ما لا يناله سواه أن له حياة فوق حياة غيره، و نورا يستمد به في شعوره، و إرادة لا توجد إلا معه و في ظرف حياته. 

  • يقول الله سبحانه: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: ٩٧) فلهم الحياة لكنها بطبعها طيبة وراء مطلق الحياة «و يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ اَلْغَافِلُونَ} (الأعراف: ١٧٩) فيثبت لهم أمثال القلوب و الأعين و الآذان التي في المؤمنين لكنه ينفي كمال آثارها التي في المؤمنين، و لم يكتف بذلك حتى أثبت لهم روحا خاصا بهم فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة: ٢٢). 

  • فتبين بذلك أن للحياة و كذا للنور حقيقة في المؤمن واقعية و ليس الكلام جاريا على ذاك التجوز الذي لا يتعدى مقام العناية اللفظية فما في خاصة الله من المؤمنين من الصفة الخاصة بهم أحق باسم الحياة مما عند عامة الناس من معنى الحياة كما أن حياة الإنسان كذلك بالنسبة إلى حياة الحيوان، و حياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات. 

  • فقوله: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أي ضالا من حيث نفسه أو ضالا كافرا قبل 

تفسير الميزان ج۷

339
  • أن يؤمن بربه و هو نوع من الموت فأحييناه بحياة الإيمان أو الهداية و المال واحد و جعلنا له نورا أي علما متولدا من إيمانه‌ كما قال (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما رواه الفريقان: «من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم أو علمه الله ما لم يعلم». فإن روح الإيمان إذا تمكنت من نفس الإنسان و استقرت فيها حولت الآراء و الأعمال إلى صور تناسبها و لا تخالفها و كذلك سائر الملكات أعم من الفضائل و الرذائل إذا استقرت في باطن الإنسان لم تلبث دون أن تحول آراءه و أعماله إلى أشكال تحاكيها. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالنور هو الإيمان أو القرآن و هو بعيد من السياق. 

  • و هذا النور أثره في المؤمن أنه {يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} أي يتبصر به في مسير حياته الاجتماعية المظلمة ليأخذ من الأعمال ما ينفعه في سعادة حياته، و يترك ما يضره. 

  • فهذا هو حال المؤمن في حياته و نوره فهل هو {كَمَنْ مَثَلُهُ} و وصفه أنه {فِي اَلظُّلُمَاتِ} ظلمات الضلال و فقدان نور الإيمان {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} لأن الموت لا يستتبع آثار الحياة البتة فلا مطمع في أن يهتدي الكافر إلى أعمال تنفعه في أخراه و تسعده في عقباه. 

  • و قد ظهر مما تقدم أن قوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ} إلخ، في تقدير: هو في الظلمات ليس بخارج منها، ففي الكلام مبتدأ محذوف هو الضمير العائد إلى الموصول، و قيل: التقدير: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و لا بأس به لو لا كثرة التقدير. 

  • قوله تعالى: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ظاهر سياق صدر الآية أن يكون التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ} من قبيل تشبيه الفرع بالأصل بعناية إعطاء القاعدة الكلية كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ} و قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) أي اتخذ ما ذكرناه من المثل أصلا و قس عليه كل ما عثرت به من مثل مضروب فمعنى قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ} إلخ، على هذا المثال المذكور أن الكافر لا مخرج له من الظلمات، زين للكافرين أعمالهم فقد زينت لهم أعمالهم زينة تجذبهم إليها و تحبسهم و لا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة و فسحة النور أبدا و الله لا يهدي القوم الظالمين. 

  • و قيل: إن وجه التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ} إلخ، أنه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه. فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه 

تفسير الميزان ج۷

340
  • (انتهى) و هو بعيد من سياق الصدر. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} إلى آخر الآية، كأن المراد بالآية أنا أحيينا جمعا و جعلنا لهم نورا يمشون به في الناس، و آخرين لم نحيهم فمكثوا في الظلمات فهم غير خارجين منها و لا أن أعمالهم المزينة تنفعهم و تخلصهم منها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينية و النبي و المؤمنين لكنه لا ينفعهم فإنهم في ظلمات لا يبصرون بل إنما يمكرون بأنفسهم و لا يشعرون. 

  • و على هذا فقوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مسوق لبيان أن أعمالهم المزينة لهم لا تنفعهم في استخلاصهم من الظلمات التي هم فيها، و قوله: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} إلخ، مسوق لبيان أن أعمالهم و مكرهم لا يضر غيرهم إنما وقع مكرهم على أنفسهم و ما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة. 

  • و قيل: معنى التشبيه في الآية أن مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم، و مثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، و جعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم و هؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لأن في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الأول باللطف و الثاني بالتمكين من المكر (انتهى). و لا يخلو من بعد من السياق. 

  • و الجعل في قوله: {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} كالجعل في قوله: {وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً} فالأنسب أنه بمعنى الخلق، و المعنى: خلقنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها و كون مكرهم غاية للخلقة و غرضا للجعل نظير كون دخول النار غرضا إلهيا في قوله: {وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} (الأعراف: ١٧٩) و قد مر الكلام في معنى ذلك في مواضع من هذا الكتاب. و إنما خص بالذكر أكابر مجرميها لأن المطلوب بيان رجوع المكر إلى ما كره، و المكر بالله و آياته إنما يصدر منهم، و أما أصاغر المجرمين و هم العامة من الناس فإنما هم أتباع و أذناب. 

  • و أما قوله: {وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ} فذلك أن المكر هو العمل الذي يستبطن شرا و ضرا يعود إلى الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب و يضل به سعيه و يبطل نجاح عمله، و لا غرض لله سبحانه في دعوته الدينية، و لا نفع فيها إلا ما 

تفسير الميزان ج۷

341
  • يعود إلى نفس المدعوين فلو مكر الإنسان مكرا بالله و آياته ليفسد بذلك الغرض من الدعوة و يمنع عن نجاح السعي فيها فإنما مكر بنفسه من حيث لا يشعر: و استضر بذلك هو نفسه دون ربه. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} إلى قوله: { رِسَالَتَهُ} قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ} يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بما لها من مواد الدعوة الدينية دون مجرد المعارف الدينية من أصول و فروع و إلا كان اللفظ المناسب له أن يقال: «مثل ما أوتي أنبياء الله» أو ما يشاكل ذلك كقولهم: {لَوْ لاَ يُكَلِّمُنَا اَللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} (البقرة: ١١٨) و قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا} (الفرقان: ٢١). 

  • فمرادهم أنا لن نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل، و فيه شي‌ء من الاستهزاء فإنهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم: {لَوْ لاَ نُزِّلَ هَذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: ٣١) كما أن جوابه نظير جوابه و هو قوله تعالى: {أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} (الزخرف: ٣٢) كقوله: {اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}

  • و مما تقدم يظهر أن الضمير في قوله: {وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا} إلخ، عائد إلى {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} في الآية السابقة، إذ لو رجع إلى عامة المشركين لغا قولهم: {حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ} إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه، و لم يقع قوله: {اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} موقعه بل كان حق الجواب أنه لغو من القول كما عرفت. 

  • و يؤيده الوعيد الذي في ذيل الآية: {سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} حيث وصفهم بالإجرام و علل الوعيد بمكرهم، و لم ينسب المكر في الآية السابقة إلا إلى أكابر مجرميها، و الصغار الهوان و الذلة. 

  • قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} الشرح‌هو البسط و قد ذكر الراغب في مفرداته، أن أصله بسط اللحم و نحوه، و شرح الصدر الذي يعد في الكلام وعاء للعلم و العرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة و لا يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل عليه ما ذكر في وصف الإضلال بالمقابلة و هو 

تفسير الميزان ج۷

342
  • قوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} إلخ. فمن شرح الله صدره للإسلام و هو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره و وسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل ديني صالح فلا يلقي إليه قول حق إلا وعاه و لا عمل صالح إلا أخذ به و ليس إلا أن لعين بصيرته نورا يقع على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميز حقا من باطل و لا صدقا من كذب قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ} (الحج: ٤٦). 

  • و قد بين تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب نور من الله يشرق قدامه في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله و لا يدفعه لقسوة ثم قال: {اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: ٢٣) فذكر لين القلب إلى ذكر الله و طوعه للحق و أفاد أن ذلك هو الهدى الإلهي الذي يهدي به من يشاء، و عند ذلك يرجع الآيتان أعني آية الزمر و الآية التي نحن فيها إلى معنى واحد و هو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من عباده يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق و عمل صالح و يقبله بلين و لا يدفعه بقسوة و هو نوع من النور المعنوي الذي ينور القول الحق و العمل الصالح و ينصر صاحبه فيمسك بما نوره فهذا معرف يعرف به الهداية الإلهية. 

  • و من هنا يظهر أن الآية أعني قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} بمنزلة بيان آخر لقوله: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} و التفريع الذي في قوله. {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ} إلخ. من قبيل تفريع أحد البيانين على الآخر بدعوى أنه نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة و فرعا متفرعا على الآخر، و هو عناية لطيفة. 

  • و المعنى: فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذه الصفة و هي أنه على نور من ربه يستضي‌ء به له واجب الاعتقاد و العمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع صدره لأن يسلم لربه و لا يستنكف عن عبادته فالإسلام نور من الله، و المسلمون لربهم على نور من ربهم. 

تفسير الميزان ج۷

343
  •  قوله تعالى: {وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} إلى آخر الآية، الإضلال‌ مقابل الهداية، و لذا كان أثره مقابلا لأثرها و هو التضييق المقابل للشرح و التوسعة و أثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق و الصدق، و يتحرج عن دخولهما فيه، و لذا أردف كون الصدر ضيقا بكونه حرجا. 

  • و الحرج‌ على ما في المجمع، أضيق الضيق، و قال في المفردات: أصل الحرج و الحراج مجتمع الشي‌ء و تصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج و للإثم حرج. انتهى. 

  • فقوله: {حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ} في محل التفسير لقوله: {ضَيِّقاً} و إشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق و التحرج الذي يشاهد من الظروف و الأوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها و وضعه فيها. 

  • و قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} إعطاء ضابط كلي في إضلال الذين لا يؤمنون أنهم يفقدون حال التسليم لله و الانقياد للحق، و قد أطلق عدم الإيمان و إن كان مورد الآيات عدم الإيمان بالله سبحانه و هو الشرك به لكن الذي سبق من البيان في الآية يشمل عدم الإيمان بالله و هو الشرك، و عدم الإيمان بآيات الله و هو رد بعض ما أنزله الله من المعارف و الأحكام فقد دل على ذلك كله بقوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} إلخ، و بقوله سابقا: {وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ} إلخ، و قوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} إلخ، و بقوله سابقا: {فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}

  • و قد سمي في الآية الضلال الذي يساوق عدم الإيمان رجسا و الرجس‌ هو القذر غير أنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال عليه قوله: {عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} كأن الرجس يعلوهم و يحيط بهم فيحول بينهم و بين غيرهم فيتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر. 

  • و قد استدل بالآية على أن الهدى و الضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى و هو خطأ فإن الآية - كما عرفت - في مقام بيان حقيقة الهدى و الضلال اللذين من الله و نوع تعريف لهما و تحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه و انتفائهما عن غيره كما هو المدعى و هو ظاهر. 

  • و نظير ذلك ما ذكره بعضهم: أن الآية كما تدل بلفظها على قولنا: إن الهداية 

تفسير الميزان ج۷

344
  • و الضلال من الله، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه المسألة. 

  • بيانه: أن العبد قادر على الإيمان و الكفر معا على حد سواء فيمتنع صدور أحدهما عنه بدلا من الآخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعي صدور ما يرجح به و هو الداعي القلبي الذي ليس إلا العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة و منفعة راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة، و قد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي في القلب إنما يكون من الله تعالى، و أن مجموع القدرة و الداعي يوجب العمل. 

  • إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل صدور الإيمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان الإيمان، و معه يحصل من القلب ميل إليه و من النفس رغبة فيه و هذا هو انشراح الصدر، و يمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب، و يحصل حينئذ النفرة عنه و الاشمئزاز منه و هو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الآية: أن من أراد الله منه الإيمان قوي دواعيه إليه، و من أراد منه الكفر قوي صوارفه عن الإيمان و قوي دواعيه إلى الكفر، و لما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية. انتهى ملخصا. 

  • و فيه أولا: أن انتساب الشي‌ء إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده و مقدماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى و إلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام و ببطلانه يبطل القضاء العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية و الضلال إلى غيره تعالى استنادا حقيقيا في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض. 

  • و ثانيا: أن الذي ذكرته الآية من صنعه تعالى في موردي هدايته و إضلاله هو سعة القلب و ضيقه، و هما غير رغبة النفس و نفرته البتة فالآية أجنبية عما ذكره أصلا، و مجرد استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته و كراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة القلب و ضيقه الإرادة و الكراهة بالنسبة إلى الأعمال، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد المقارنين مكان الآخر و من عجيب الكلام قوله: إن انطباق الدليل العقلي الذي أقامه بزعمه على الآية يوجب دلالة لفظ الآية عليه. 

  • و ثالثا: أنك عرفت أن الآية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو ضلالته، و أما أن كل هداية أو ضلالة فهي من الله تعالى دون غيره فذلك 

تفسير الميزان ج۷

345
  • أمر أجنبي عن غرض الآية فالآية لا دلالة لها على أن الهداية و الضلال من الله سبحانه و إن كان ذلك هو الحق. 

  • قوله تعالى: {وَ هَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} إلى آخر الآية، الإشارة إلى ما تقدم بيانه في الآية السابقة من صنعه عند الهداية و الإضلال و قد تقدم معنى الصراط و استقامته، و قد بين تعالى في الآية أن ما ذكره من شرح الصدر للإسلام إذا أراد الهداية و من جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة الإضلال هو صراطه المستقيم و سنته الجارية التي لا تختلف و لا تتخلف فما من مؤمن إلا و هو منشرح الصدر للإسلام بالله و غير المؤمن بالعكس من ذلك. 

  • فقوله: {وَ هَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} بيان ثان و تأكيد لكون المعرف المذكور في الآية السابقة معرفا جامعا مانعا للهداية و الضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي إن القول حق بين عند من تذكر و رجع إلى ما أودعه الله في نفسه من المعارف الفطرية و العقائد الأولية التي بتذكرها يهتدي الإنسان إلى معرفة كل حق و تمييزه من الباطل، و البيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذي يهدي الإنسان إلى النتيجة بعد هدايته إلى الحجة. 

  • قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ اَلسَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المراد بالسلام‌ هو معناه اللغوي - على ما يعطيه ظاهر السياق و هو التعري من الآفات الظاهرة و الباطنة، و دار السلام‌ هي المحل الذي لا آفة تهدد من حل فيه من موت و عاهة و مرض و فقر و أي عدم و فقد آخر و غم و حزن، و هذه هي الجنة الموعودة و لا سيما بالنظر إلى تقييده بقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ}

  • نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لأنهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: ٦٢) و هم لا شغل لهم إلا بربهم خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم و هم قاطنون في هذه الدنيا و هو وليهم بما كانوا يعملون و هو سيرهم في الحياة بنور الهداية الإلهية الذي جعله في قلوبهم، و نور به أبصارهم و بصائرهم. 

تفسير الميزان ج۷

346
  • و ربما قيل: المراد بالسلام هو الله، و داره الجنة، و السياق يأباه و ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى القوم في قوله: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} على ما قيل لأنه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أن التدبر في الآيات يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أن الكلام فيهم و الآيات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم، و أما القوم المتذكرون فإنما ذكروا و دخلوا في غرض الكلام بالتبع. 

  • (كلام في معنى الهداية الإلهية) 

  • الهداية بالمعنى الذي نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التي تعنون بها الأفعال و تتصف بها، تقول: هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق الذي ينتهي إليه، و هذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده و صاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة، و هذه هي الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب. 

  • فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو أقسام الأفعال التي تأتي بها من ذكر الطريق أو إراءته أو المشي مع المهدي و أما الهداية فهي عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أن ما يأتيه المهدي من الفعل في أثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من الهداية و يسمى لأجله هاديا و هو أحد الأسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى كالرحمة و الرزق و نحوهما. 

  • و هدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينية و هي التي تتعلق بالأمور التكوينية كهدايته كل نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذي خلق لأجله و إلى أفعاله التي كتبت له، و هدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدر له و الأجل المضروب لوجوده قال تعالى: {اَلَّذِي أَعْطى‌ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‌} (طه: ٥٠) و قال: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‌} (الأعلى: ٣). 

  • و النوع الثاني: الهداية التشريعية و هي التي تتعلق بالأمور التشريعية من الاعتقادات الحقة و الأعمال الصالحة التي وضعها الله سبحانه للأمر و النهي و البعث و الزجر و وعد على الأخذ بها ثوابا و أوعد على تركها عقابا. 

تفسير الميزان ج۷

347
  • و من هذه الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} (الدهر: ٣). 

  • و منها ما هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى: {وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} (الأعراف: ١٧٦) و قد عرف الله سبحانه هذه الهداية تعريفا بقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} (الآية: ١٢٥) فهي انبساط خاص في القلب يعي به القول الحق و العمل الصالح من غير أن يتضيق به، و تهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله و لا يتحرج عن حكمه. 

  • و إلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} - إلى أن قال - {ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} (الزمر: ٢٣) و قد وصفه في الآية بالنور لأنه ينجلي به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحق القول و صدق العمل عما يجب عليه أن لا يعيه و لا يقبله و هو باطل القول و فاسد العمل. 

  • و قد رسم الله سبحانه لهذه الهداية رسما آخر و هو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام و ما خصهم به من النعم العظام: {وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأنعام: ٨٨) فقد أوضحنا في تفسير الآية أن الآية تدل على أن من خاصة الهداية الإلهية أنها تورد المهتدين بها صراطا مستقيما و طريقا سويا لا تخلف فيه و لا اختلاف. 

  • فلا بعض أجزاء صراطه الذي هو دينه بما فيه من المعارف و الشرائع يناقض البعض الآخر لما أن الجميع يمثل التوحيد الخالص الذي ليس إلا حقيقة ثابتة واحدة، و لما أن كلها مبنية على الفطرة الإلهية التي لا تخطئ في حكمها و لا تتبدل في نفسها و لا في مقتضياتها. 

  • و لا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يألفون بعضا آخر فالذي يدعو إليه نبي من أنبياء الله هو الذي يدعو إليه جميعهم، و الذي يندب إليه خاتمهم و آخرهم هو الذي يندب إليه آدمهم و أولهم من غير أي فرق إلا من حيث الإجمال و التفصيل. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي، بإسناده عن زيد قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في قول الله تبارك و تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} فقال: ميت لا 

تفسير الميزان ج۷

348
  • يعرف شيئا {نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} إماما يأتم به {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} قال: الذي لا يعرف الإمام. 

  • أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق فسياق الآية يأبى إلا أن تكون الحياة هو الإيمان و النور هو الهداية الإلهية إلى القول الحق و العمل الصالح. 

  • و قد روى السيوطي في الدر المنثور، عن زيد بن أسلم:أن الآية نزلت في عمار بن ياسر. و روي أيضا عن ابن عباس و زيد بن أسلم: أنها نزلت في عمر بن الخطاب و أبي جهل بن هشام‌ و السياق يأبى كون الآية خاصة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي الدنيا و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين نزلت هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} قال: إذا أدخل الله النور القلب انشرح و انفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور و الاستعداد للموت قبل نزول الموت:. 

  • أقول: و رواه أيضا عدة من المفسرين عن جمع من التابعين كأبي جعفر المدائني و الفضل و الحسن و عبد الله بن السور عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في العيون، بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوري قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ} قال: فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا و إلى جنته و دار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله و الثقة به و السكون إلى ما وعد من ثوابه حتى يطمئن إليه، و من يرد أن يضله عن جنته و دار كرامته في الآخرة لكفره به و عصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره‌۱ و يضطرب عن اعتقاده حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

  •  أقول: و في الحديث نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدم. 

  • و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن 

    1. إيمانه ظ.

تفسير الميزان ج۷

349
  • الله عز و جل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، و فتح مسامع قلبه، و وكل به ملكا يسدده و إذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء و سد مسامع قلبه، و وكل به شيطانا يضله ثم تلا هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ}.: 

  • أقول: و رواه العياشي في التفسير مرسلا و الصدوق في التوحيد مسندا عنه (عليه السلام) .

  • و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن القلب يتلجلج في الجوف يطلب الحق فإذا جاء به اطمأن و قر ثم تلا: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} إلى قوله {فِي اَلسَّمَاءِ} 

  • أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي جميلة عن عبد الله بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) .

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن خيثمة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم ضم أصابعه ثم قرأ هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}

  • قال: و قال أبو عبد الله (عليه السلام) لموسى بن أشيم: أ تدري ما الحرج؟ قال: قلت: لا فقال‌۱ بيده و ضم أصابعه؟ كالشي‌ء المصمت لا يدخل فيه شي‌ء و لا يخرج منه شي‌ء. 

  • أقول: و روى ما يقرب منه في تفسير البرهان، عن الصدوق و روى صدر الحديث البرقي في المحاسن، عن خيثمة عن أبي جعفر (عليه السلام) و ما فسر به الحرج يناسب ما تقدم نقله من الراغب. 

  • و في الاختصاص، بإسناده عن آدم بن الحر قال: سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبره بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فخبره بخلاف ما خبر به موسى بن أشيم. 

  • ثم قال ابن أشيم: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين 

    1. كأن القول مضمن معنى الإيماء و المعني: أومأ بيده و ضم أصابعه قائلا: كالشي‌ء المصمت إلخ.

تفسير الميزان ج۷

350
  • و قلت: تركنا أبا قتادة لا يخطئ في الحرف الواحد: الواو و شبهها، و جئت لمن يخطئ هذا الخطأ كله فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فخبر بخلاف ما خبرني و خلاف الذي خبر به الذي سأله بعدي فتجلى عني و علمت أن ذلك بعمد فحدثت نفسي بشي‌ء. 

  • فالتفت إلي أبو عبد الله (عليه السلام) فقال: يا بن أشيم لا تفعل كذا و كذا فبان حديثي عن الأمر الذي حدثت به نفسي ثم قال: يا بن أشيم إن الله فوض إلى سليمان بن داود فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} و فوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد فوض إلينا يا بن أشيم {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}، أ تدري ما الحرج: فقلت لا، فقال بيده و ضم أصابعه: هو الشي‌ء المصمت الذي لا يخرج منه شي‌ء و لا يدخل فيه شي‌ء.

  •  أقول: مسألة التفويض إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من ولده و إن وردت في تفسيره عدة أحاديث لكن الذي يدل عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا ينحصر في وجه و وجهين و تسليطهم عليه بالإذن في بث ما شاءوا منها، يستفاد ذلك من تطبيق ما ذكره (عليه السلام) في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الآية الكريمة، و لا يبعد أن يكون المراد من تلاوة الآية الإشارة إلى ذلك، و إن كان الظاهر أن المراد به بيان حال القلوب بمناسبة ما ابتلي به موسى بن أشيم من اضطراب القلب و قلقه. 

  • و في تفسير القمي في الآية قال: قال: مثل شجرة حولها أشجار كثيرة فلا تقدر أن تلقي أغصانها يمنة و يسرة فتمر في السماء و يستمر حرجه. 

  • أقول: و ذلك أيضا يناسب ما فسر به الراغب معنى الحرج. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال هو الشك. 

  • أقول: و هو من قبيل التطبيق و بيان بعض المصاديق. 

  •  

تفسير الميزان ج۷

351
  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٢٨ الی ١٣٥]

  • {وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ وَ قَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنَا أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ اَلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ١٢٨ وَ كَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ١٢٩ يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلى‌ أَنْفُسِنَا وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ شَهِدُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ١٣٠ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا غَافِلُونَ ١٣١ وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ١٣٢ وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ١٣٣ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ١٣٤ قُلْ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ ١٣٥} 

  • (بيان) 

  • الآيات متصلة بما قبلها و هي تفسر معنى ولاية بعض الظالمين بعضا المجعولة من الله سبحانه كتولية الشياطين للكافرين، و أن ذلك ليس من الظلم في شي‌ء فإنهم سيعترفون 

تفسير الميزان ج۷

352
  • يوم القيامة أنهم إنما أشركوا و اقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم و اغترارهم بالحياة الدنيا بعد البيان الإلهي و إنذارهم باليوم الآخر حتى تلبسوا بالظلم، و الظالمون لا يفلحون. 

  • فالقضاء الإلهي لا يسلب عنهم الاختيار الذي عليه مدار المؤاخذة و المجازاة، و لا الاختيار الإنساني الذي عليه مدار السعادة و الشقاوة يزاحم القضاء الإلهي فمتابعة الإنسان أولياء من الشياطين باختياره و إرادته هي المقضية لا أن القضاء يبطل اختيار الإنسان في فعله أولا ثم يضطره إلى اتباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق الشقاء و انتخاب الشرك و اقتراف الذنوب و الآثام بل الله سبحانه غني عنهم لا حاجة له إلى شي‌ء مما بأيديهم حتى يظلمهم لأجله، و إنما خلقهم برحمته و حثهم عليها لكنهم ظلموا فلم يفلحوا. 

  • قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ} إلى قوله: {أَجَّلْتَ لَنَا} يقال: أكثر من الشي‌ء أو الفعل و استكثر منه إذا أتى بالكثير، و استكثار الجن من الإنس ليس من جهة أعيانهم فإن الآتي بأعيانهم في الدنيا و المحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه، و إنما للشياطين الاستكثار مما هم مسلطون عليه و هو إغواء الإنس من طريق ولايتهم عليهم و ليست بولاية إجبار و اضطرار بل من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاء لما يرى في اتباعه من الفائدة، و يتولى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدر من النفع في ولايته عليه و إدارة شئونه، فللجن نوع التذاذ من إغواء الإنس و الولاية عليهم، و للإنس نوع التذاذ من اتباع الوساوس و التسويلات ليستدروا بذلك اللذائذ المادية و التمتعات النفسانية. 

  • و هذا هو الذي يعترف به أولياء الجن من الإنس بقولهم: {رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} فتمتعنا بوساوسهم و تسويلاتهم من متاع الدنيا و زخارفها، و تمتعوا منا بما كانت تشتهيه أنفسهم حتى آل أمرنا ما آل إليه. 

  • و من هنا يظهر - كما يعطيه السياق - أن المراد بالأجل في قولهم: {وَ بَلَغْنَا أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} الحد الذي قدر لوجودهم و الدرجة التي حصلت لهم من أعمالهم دون الوقت الذي ينتهي إليه أعمارهم و بعبارة أخرى آخر درجة نالوها من فعلية الوجود لا الساعة التي ينتهي إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أن بعضنا استمتع ببعض بسوء اختياره و سيئ عمله فبلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرت لنا من الأجل، و هو أنا ظالمون كافرون. 

تفسير الميزان ج۷

353
  • فمعنى الآية: و يوم يحشرهم جميعا ليتم أمر الحجاج عليهم فيقول للجن: يا معشر الجن قد استكثرتم من ولاية الإنس و إغوائهم، و قال أولياؤهم من الإنس في الاعتراف بحقيقة الأمر: {رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} فاستمتعنا معشر الإنس من الجن بأن تمتعنا بزخارف الدنيا و ما تهواه أنفسنا بتسويلاتهم، و تمتع الجن منا باتباع ما كانوا يلقون إلينا من الوساوس و كنا على ذلك حتى بلغنا آخر ما بلغنا من فعلية الحياة الشقية و درجة العمل. 

  • فهذا اعتراف منهم بأن الأجل و إن كان بتأجيل الله سبحانه لكنهم إنما بلغوه بطيهم طريق تمتع البعض من البعض، و هو طريق سلكوه باختيارهم. و لا يبعد أن يستظهر من هنا أن المراد بالجن الشياطين الذين يوسوسون في صدور الناس من الجن. 

  • قوله تعالى: {قَالَ اَلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ} إلخ، هذا جواب منه سبحانه و قضاء عليهم، و متن ما قضى به قوله: {اَلنَّارُ مَثْوَاكُمْ} إلخ. 

  • و المثوى‌ اسم مكان من قولهم: ثوى‌ يثوي ثواء أي أقام مع استقرار فقوله: {اَلنَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي مقامكم الذي تستقرون فيه من غير خروج و لذا أكده بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} و قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ} استثناء يفيد أن القدرة الإلهية باقية مع ذلك على ما كانت فله مع ذلك أن يخرجكم منها و إن كان لا يفعل. 

  • ثم تمم الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} و هو يفيد تعليل البيان الواقع في الآية و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فيه بيان أن جعله تعالى بعض الظالمين أولياء يجري على الحقيقة المبينة في الآية السابقة، و هو أن التابع يستمتع المتبوع من طريق تسويله و إغوائه فيكسب بذلك الذنوب و الآثام حتى يجعل الله المتبوع وليا عليه و يدخل التابع في ولايته. 

  • و قوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الباء للسببية أو المقابلة، و هو يفيد أن هذه التولية إنما هي بنحو المجازاة يجازي بها الظالمين في قبال ما اكتسبوه من المظالم لا تولية ابتدائية من غير ذنب سابق نظير ما في قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} (البقرة: ٢٦) و قد التفت في الآية من الغيبة إلى التكلم ليختص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببيان هذه الحقيقة فإنهم غير لائقين بتلقيها و إنما التفت إلى التكلم لأن التكلم 

تفسير الميزان ج۷

354
  • هو المناسب للمسارة هذا و في الآيات موارد أخر من الالتفات لا يخفى وجهها على المتدبر. 

  • قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} إلى آخر الآية في هذا الخطاب دفع دخل يمكن أن يتوجه إلى الحجة السابقة المأخوذة من اعترافهم بأنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه من ولاية الشياطين بسوء اختيارهم. 

  • و هو أنهم و إن ابتلوا بذلك من طريق الاختيار لكنهم لو يكونوا يعلمون أن هذه المعاصي و التمتعات سوف توردهم مورد الهلكة و تسجل عليهم ولاية الظالمين و الشياطين و يخسرهم بالشقاء الذي لا سعادة بعده أبدا فهم كانوا على غفلة من ذلك و إن كانوا على علم في الجملة بمساءة أعمالهم و شناعة أفعالهم و مؤاخذة الغافل ظلم. 

  • فدفعه الله سبحانه بهذا الخطاب الذي يسألهم فيه عن إتيان الرسل و ذكرهم آيات الله و إنذارهم بيوم الجمع و الحساب فلما شهدوا على أنفسهم بالكفر بما جاء به الرسل تمت الكلمة و لزمت الحجة. 

  • فمعنى الآية: أنا نخاطبهم جميعا فنقول لهم: يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم أرسلناهم إليكم يقصون عليكم آياتي التي تدل على الدين الحق، و ينذرونكم لقاء يومكم هذا و هو يوم القيامة و أن الله سيوقفكم موقف المساءلة فيحاسبكم على أعمالكم ثم يجازيكم بما عملتم إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا فإذا سألناهم عن ذلك أجابونا و قالوا: شهدنا على أنفسنا أن الرسل أتونا و قصوا علينا آياتك، و أنذرونا لقاء يومنا هذا، و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بما جاء به الرسل رادين عليهم عن علم و ما كانوا غافلين. 

  • و بذلك تبين أولا: أن قوله: {مِنْكُمْ} لا يدل على أزيد من كون الرسل من جنس المخاطبين و هم مجموع الجن و الإنس لا من غيرهم كالملائكة حتى يتوحشوا منهم و لا يستأنسوا بهم و لا يفقهوا قولهم، و أما أن من كل من طائفتي الجن و الإنس رسلا منهم فلا دلالة في الآية على ذلك. 

  • و ثانيا: أن تكرار لفظ الشهادة إنما هو لاختلاف متعلقها فالمراد بالشهادة الأولى الشهادة بإتيان الرسل و قصهم آيات الله و إنذارهم بيوم القيامة، و بالشهادة الثانية الشهادة بكفرهم بما جاء به الرسل من غير غفلة. 

تفسير الميزان ج۷

355
  • و أما ما قيل: إن المراد بالشهادة الأولى الشهادة بالكفر و المعصية حال التكليف، و بالثانية الشهادة في الآخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لأن الشهادتين بالأخرة راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللفظ على حاجته إلى وجه يقتضيه. 

  • و ثالثا: أن قوله: {وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا} معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن أن يختلج ببال السامع و هو أنهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض، و كانوا غير غافلين عن إتيان الرسل و بيانهم الآيات و إنذارهم باليوم الآخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة و أهلكوا أنفسهم عن علم و اختيار؟ فأجيب بأن الحياة الدنيا غرتهم كلما لاح لقلوبهم شي‌ء من الحق و برقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الأهواء و أسدلت عليهم ظلمات الرذائل حتى ضربت حجابا بينهم و بين الحق و أعمت أبصارهم عن رؤيته و مشاهدته. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا غَافِلُونَ} الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى مضمون ما تقدم من البيان على ما يعطيه السياق و قوله: {أَنْ لَمْ يَكُنْ} بتقدير لام التعليل فالمعنى أن الذي بيناه من إرسال الرسل و التذكير بالآيات و الإنذار بيوم القيامة إنما هو لأن الله سبحانه ليس من سنته أن يهلك أهل القرى و يوردهم مورد السخط و العذاب و هم غافلون عما يريده منهم من الطاعة و يفعله بهم على تقدير المخالفة، و ذلك ظلم منه تعالى. 

  • فهم و إن نزلوا منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه و قضائه و جعله بعضهم أولياء بعض لكنه تعالى لم يسلبهم القدرة على الطاعة و لم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك و المعصية ثم أرسل إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آياته و ينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم و مكثوا على بغيهم و عتوهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضا و قضى عليهم بأن النار مثواهم فهم أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم و إرادة، و لم يهلكهم الله و هم غافلون حتى يكون يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه. 

  • و قد بان بذلك أولا: أن المراد بقوله: {لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ} نفي أن يكون ذلك من سنته تعالى فإنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بسنة جارية و صراط مستقيم، قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود: ٥٦) و في اللفظ دلالة على ذلك. 

  • و ثانيا: أن المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا و عذابهم في الآخرة على 

تفسير الميزان ج۷

356
  • ما يفيده السياق دون الهلاك بإنزال العذاب في الدنيا. 

  • و ثالثا: أن المراد بالظلم في الآية هو الظلم منه تعالى لو أهلكهم و هم غافلون دون الظلم من أهل القرى. 

  • قوله تعالى: {وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} متعلق الكل محذوف و هو الضمير الراجع إلى الطائفتين، و المعنى: و لكل طائفة من طائفتي الجن و الإنس درجات من أعمالهم فإن الأعمال مختلفة و باختلافها يختلف ما توجبه من الدرجات، و ما ربك بغافل عن أعمالهم. 

  • قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ} إلى آخر الآية. بيان عام لنفي الظلم عنه تعالى في الخلقة. 

  • و توضيحه: أن الظلم‌ و هو وضع الشي‌ء في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع عليه و بعبارة أخرى إبطال حق إنما يتحقق من الظلم بأخذ شي‌ء أو تركه لأحد أمرين إما لحاجة منه إليه بوجه من الوجوه كأن يعود إليه أو إلى من يهواه منه نفع أو يندفع عنه أو عما يعود إليه بذلك ضرر، و إما لا لحاجة منه إليه بل لشقوة باطنية و قسوة نفسانية لا يعبأ بها بما يقاسيه المظلوم من المصيبة و يكابده من المحنة، و ليس ذلك منه لحاجة بل من آثار الملكة المشومة. 

  • و الله سبحانه منزه من هاتين الصفتين السيئتين فهو الغني الذي لا تمسه حاجة و لا يعرضه فقر، و ذو الرحمة المطلقة التي ينعم بها على كل شي‌ء بما يليق بحاله فلا يظلم سبحانه أحدا، و هذا هو الذي يدل عليه قوله: {وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ} إلخ، و معنى الآية: و ربك هو الذي يوصف بالغني المطلق الذي لا فقر معه و لا حاجة، و بالرحمة المطلقة التي وسعت كل شي‌ء و مقتضى ذلك أنه قادر على أن يذهبكم بغناه و يستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق برحمته و الشاهد عليه أنه أنشأكم برحمته من ذرية قوم آخرين أذهبهم بغناه عنهم. 

  • و في قوله: {مَا يَشَاءُ} دون أن يقال: من يشاء، إبهام للدلالة على سعة القدرة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي الأمر الإلهي من البعث و الجزاء و هو الذي توعدون من طريق الوحي لآت البتة و ما أنتم بمعجزين لله حتى تمنعوا 

تفسير الميزان ج۷

357
  • شيئا من ذلك أن يتحقق ففي الكلام تأكيد للوعد و الوعيد السابقين. 

  • قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} إلى آخر الآية. المكانة هي المنزلة و الحالة التي يستقر عليها الشي‌ء، و عاقبة الشي‌ء ما ينتهي إليه، و هي في الأصل مصدر كالعقبى على ما قيل، و قولهم: كانت له عاقبة الدار كناية عن نجاحه في سعيه و تمكنه مما قصده، و في الآية انعطاف إلى ما بدئ به الكلام، و هو قوله تعالى قبل عدة آيات: {اِتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ}. 

  • و المعنى: قل للمشركين: يا قوم اعملوا على منزلتكم و حالتكم التي أنتم عليها من الشرك و الكفر - و فيه تهديد بالأمر - و دوموا على ما أنتم عليه من الظلم إني عامل و مقيم على ما أنعم عليه من الإيمان و الدعوة إلى التوحيد فسوف تعلمون من يسعد و ينجح في عمله، و أنا الناجح دونكم فإنكم ظالمون بشرككم و الظالمون لا يفلحون في ظلمهم. 

  • و ربما قيل: إن قوله: {إِنِّي عَامِلٌ} إخبار عن الله سبحانه أنه يعمل بما وعد به من البعث و الجزاء، و هو فاسد يدفعه سياق قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ}

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظَّالِمِينَ بَعْضاً} (الآية). قال: قال: نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة. 

  • و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما انتصر الله من ظالم إلا بظالم و ذلك قول الله عز و جل؟ {وَ كَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظَّالِمِينَ بَعْضاً}.

  •  أقول: دلالة الآية على ما في الرواية من الحصر غير واضحة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأمل و ابن أبي حاتم و البيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: أ لا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إن أسامة لطويل الأمل، و الذي نفسي بيده ما طرفت عيناي و ظننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض، و لا 

تفسير الميزان ج۷

358
  • رفعت طرفي و ظننت أني واضعه حتى أقبض، و لا لقمت لقمة فظننت أني أسيغها حتى أغص بالموت يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم في الموتى، و الذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين.

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٣٦ الی ١٥٠]

  • {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اَللَّهِ وَ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‌ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ١٣٦ وَ كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْتَرُونَ ١٣٧ وَ قَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَ أَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا اِفْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ١٣٨ وَ قَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ اَلْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْوَاجِنَا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ١٣٩ قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اَللَّهُ اِفْتِرَاءً عَلَى اَللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ١٤٠وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لاَ 

تفسير الميزان ج۷

359
  • تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ ١٤١ وَ مِنَ اَلْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ١٤٢ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٤٣ وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اَللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‌ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ اَلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ١٤٤ قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٤٥ وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ اَلْحَوَايَا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ ١٤٦ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ ١٤٧ سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْ‌ءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ 

تفسير الميزان ج۷

360
  • لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ١٤٨ قُلْ فَلِلَّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ١٤٩ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اَللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ١٥٠} 

  • (بيان) 

  • الآيات تحاج المشركين في عدة من الأحكام في الأطعمة و غيرها دائرة بين المشركين و تذكر حكم الله فيها. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعَامِ نَصِيباً} إلى آخر الآية، الذرء الإيجاد على وجه الاختراع و كأن الأصل في معناه الظهور، و الحرث‌ الزرع، و قوله: {بِزَعْمِهِمْ} في قوله: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} نوع من التنزيه كقوله: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} (الأنبياء: ٢٦). و الزعم‌ الاعتقاد و يستعمل غالبا فيما لا يطابق الواقع منه. 

  • و قوله: {وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا} أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين أثبتوها و اعتقدوا بها نظير أئمة الكفر و أئمتهم و أوليائهم، و قيل: أضيفت الشركاء إليهم لأنهم كانوا يجعلون بعض أموالهم لهم فيتخذونهم شركاء لأنفسهم. 

  • و كيف كان فمجموع الجملتين أعني قوله: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشُرَكَائِنَا} من تفريع التفصيل على الإجمال يفسر به جعلهم لله نصيبا من خلقه، و فيه توطئة و تمهيد لتفريع حكم آخر عليه، و هو الذي يذكره في قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اَللَّهِ وَ مَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‌ شُرَكَائِهِمْ}

  • و إذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله و كونه افتراء على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبحه بقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} و معنى الآية ظاهر. 

تفسير الميزان ج۷

361
  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} إلى آخر الآية. قرأ غير ابن عامر {زَيَّنَ} بفتح الزاي فعل معلوم، و {قَتْلَ} بنصب اللام مفعول {زَيَّنَ} و هو مضاف إلى {أَوْلاَدِهِمْ} بالجر و هو مفعول {قَتْلَ} أضيف إليه، و {شُرَكَاؤُهُمْ} فاعل {زَيَّنَ}. و المعنى أن الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين و الحب الوهمي في نفوسهم زينت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم و يجعلوهم قرابين يتقربون بذلك إلى الآلهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيين و الصابئين، و هذا غير مسألة الوأد التي كانت بنو تميم من العرب يعملون به فإن المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصة. 

  • و قيل: المراد بالشركاء الشياطين، و قيل: خدمة الأصنام، و قيل: الغواة من الناس. 

  • و قرأ ابن عامر: {زَيَّنَ} بضم الزاي مبنيا للمفعول {قَتْلَ} بضم اللام نائب عن فاعل زين {أَوْلاَدِهِمْ} بالنصب مفعول المصدر أعني {قَتْلَ} تخلل بين المضاف و المضاف إليه {شُرَكَاؤُهُمْ} بالجر مضاف إليه و فاعل للمصدر. 

  • و قوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} الإرداء: الإهلاك، و المراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله و البغي على خلقه، و خلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحق، فضمير {أَوْلاَدِهِمْ} في المواضع الثلاث جميعا راجع إلى كثير من المشركين. 

  • و قيل: المراد به الإهلاك بظاهر معنى القتل، و لازمه رجوع أول الضمائر إلى الأولاد و الثاني و الثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ} إلى آخر الآية. الحجربكسر الحاء المنع و يفسره قوله بعده: {لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ} أي هذه الأنعام و الحرث حرام إلا على من نشاء أن نأذن لهم، و روي: أنهم كانوا يقدمونها لآلهتهم و لا يحلون أكلها إلا لمن كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم. 

  • و قوله: {وَ أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} أي و قالوا: هذه أنعام حرمت ظهورها أو و لهم أنعام حرمت ظهورها، و هي السائبة و البحيرة و الحامي التي نفاها الله تعالى في قوله: 

تفسير الميزان ج۷

362
  • {مَا جَعَلَ اَللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاَ سَائِبَةٍ وَ لاَ وَصِيلَةٍ وَ لاَ حَامٍ وَ لَكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (المائدة: ١٠٣) و قيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف السابق في معناها في تفسير آية المائدة. 

  • و قوله: {وَ أَنْعَامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا} أي و لهم أنعام (إلخ) و هي الأنعام التي كانوا يهلون عليها بأصنام لا باسم الله، و قيل: هي التي كانوا لا يركبونها في الحج، و قيل: أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شأن من شئونها، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ اَلْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} إلى آخر الآية، المراد بما في البطون أجنة البحائر و السيب، فقد كانوا يحلونها إذا ولدت حية للرجال دون النساء و إن ولدت ميتة أكله الرجال و النساء جميعا، و قيل: المراد بها الألبان، و قيل: الأجنة و الألبان جميعا. 

  • و المراد بقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} سيجزيهم نفس وصفهم فإنه يعود وبالا و عذابا عليهم ففيه نوع من العناية، و قيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، و قيل: التقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلخ، رد لما حكي عنهم في الآيات السابقة من الأحكام المفتراة و هي قتل الأولاد و تحريم أصناف من الأنعام و الحرث و ذكر أن ذلك منهم خسران و ضلال من غير اهتداء. 

  • و قد وصف قتل الأولاد بأنه سفه بغير علم، و كذلك بدل الأنعام و الحرث من قوله ما رزقهم الله و وصف تحريمها بأنه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك كأنه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لأنهم سفهوا به سفها بغير علم، و خسروا في تحريمهم أصنافا من الأنعام و الحرث افتراء على الله لأنها من رزق الله و حاشاه تعالى أن يرزقهم شيئا ثم يحرمه عليهم. 

  • ثم بين تعالى ضلالهم في تحريم الحرث و الأنعام مع كونها من رزق الله بيانا تفصيليا بالاحتجاج من ناحية العقل و مصلحة معاش العباد بقوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} إلى تمام أربع آيات، ثم من ناحية السمع و نزول الوحي بقوله: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى تمام الآية. 

تفسير الميزان ج۷

363
  • فيكون محصل الآيات الخمس أن تحريمهم أصنافا من الحرث و الأنعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك حجة فلا العقل و رعاية مصلحة العباد يدلهم على ذلك، و لا الوحي النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} إلى قوله {وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ} الشجرة المعروشة هي التي ترفع أغصانها بعضا على بعض بدعائم كالكرم و أصل العرش‌ الرفع فالجنات المعروشات هي بساتين الكرم و نحوها، و الجنات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم. 

  • و قوله: {وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} أي ما يؤكل منه من الحبات كالحنطة و الشعير و العدس و الحمص. 

  • و قوله: {وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أي متشابه كل منها و غير متشابه على ما يفيده السياق، و التشابه بين الثمرتين باتحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} إلى آخر الآية، الأمر للإباحة لوروده في رفع الحظر الذي يدل عليه إنشاء الجنات و النخل و الزرع و غيرها، و السياق يدل على أن تقدير الكلام: و هو الذي أنشأ جنات و النخل و الزرع إلخ، و أمركم بأكل ثمر ما ذكر و أمركم بإيتاء حقه يوم حصاده، و نهاكم عن الإسراف. فأي دليل أدل من ذلك على إباحتها؟ 

  • و قوله: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أي الحق الثابت فيه المتعلق به فالضمير راجع إلى الثمر و أضيف إليه الحق لتعلقه به كما يضاف الحق أيضا إلى الفقراء لارتباطه بهم و ربما احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الذي بعده في قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ} و إضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله. 

  • و هذا إشارة إلى جعل حق ما للفقراء في الثمر من الحبوب و الفواكه يؤدي إليهم يوم الحصاد يدل عليه العقل و يمضيه الشرع و ليس هو الزكاة المشرعة في الإسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في الآية زكاة. على أن الآية مكية و حكم الزكاة مدني. 

  • نعم لا يبعد أن يكون أصلا لتشريعها فإن أصول الشرائع النازلة في السور المدنية 

تفسير الميزان ج۷

364
  • نازلة على وجه الإجمال و الإبهام في السور المكية كقوله تعالى بعد عدة آيات عند تعداد كليات المحرمات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} -إلى أن قال- {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ} (الأنعام: ١٥١). 

  • و قوله: {وَ لاَ تُسْرِفُوا} إلخ، أي لا تتجاوزوا الحد الذي يصلح به معاشكم بالتصرف فيه فلا يتصرف صاحب المال منكم بالإسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير موضعه من معاصي الله و هكذا، و لا يسرف الفقير الأخذ بتضييعه و نحو ذلك، ففي الكلام إطلاق، و الخطاب فيه لجميع الناس. 

  • و أما قول بعضهم: إن الخطاب في {لاَ تُسْرِفُوا} مختص بأرباب الأموال، و قول بعض آخر: إنه متوجه إلى الإمام الآخذ للصدقة، و كذا قول بعضهم: إن معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء، و قول بعض آخر: إن المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، و قول ثالث: إن المعنى لا تنفقوه في المعصية، كل ذلك مدفوع بالإطلاق و السياق. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً} إلى آخر الآية، الحمولة أكابر الأنعام لإطاقتها الحمل، و الفرش‌ أصاغرها لأنها كأنها تفترش على الأرض أو لأنها توطأ كما يوطأ الفرش، و قوله: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ} إباحة للأكل و إمضاء لما يدل عليه العقل نظير قوله في الآية السابقة: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}، و قوله: {لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي لا تسيروا في هذا الأمر المشروع إباحته باتباع الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرموا ما أحله، و قد تقدم أن المراد باتباع خطوات الشيطان تحريم ما أحله الله بغير علم. 

  • قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ} إلى آخر الآية، تفصيل للأنعام بعد الإجمال و المراد به تشديد اللوم و التوبيخ عليهم ببسطه على كل صورة من الصور و الوجوه، فقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} عطف بيان من {حَمُولَةً وَ فَرْشاً} في الآية السابقة. 

  • و الأزواج‌ جمع زوج، و يطلق الزوج على الواحد الذي يكون معه آخر و على الاثنين، و أنواع الأنعام المعدودة أربعة: الضأن و المعز و البقر و الإبل، و إذا لوحظت 

تفسير الميزان ج۷

365
  • ذكرا و أنثى كانت ثمانية أزواج. 

  • و المعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر و الأنثى و من المعز زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن و المعز حرم الله أم الأنثيين منهما أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن و المعز نبئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ} إلى قوله {اَلْأُنْثَيَيْنِ} معناه ظاهر مما مر، و قيل: المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهلي و الوحشي. 

  • قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اَللَّهُ بِهَذَا} إلى آخر الآية. هذا شق من ترديد حذف شقه الآخر على ما يدل عليه الكلام، و تقديره: أ علمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك و شافهتموه فادعيتم ذلك. 

  • و قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} إلخ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم عن الجواب و على ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، و يكون قوله: {مِمَّنِ اِفْتَرى} إلخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع إليهم ليدل به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الإنكاري و التقدير: لا أظلم منكم لأنكم افتريتم على الله كذبا لتضلوا الناس بغير علم، و إذ ظلمتم فإنكم لا تهتدون إن الله لا يهدي القوم الظالمين. 

  • قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلخ، معنى الآية ظاهر، و قد تقدم في نظيره الآية من سورة المائدة آية ٣، و في سورة البقرة آية ١٧٣ ما ينفع في المقام. 

  • قوله تعالى: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إلخ، الظفر واحد الأظفار و هو العظم النابت على رءوس الأصابع، و الحوايا المباعر قال في المجمع: موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور و تقديره: أو ما حملت الحوايا، و يحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ} فأما قوله: {أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فإن ما هذه معطوفة على ما الأولى (انتهى) و الوجه الأول أقرب. 

  • ثم قال: ذلك في قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه 

تفسير الميزان ج۷

366
  • يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، و هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر. انتهى. 

  • و الآية كأنها في مقام الاستدراك و دفع الدخل ببيان أن ما حرم الله على بني إسرائيل من طيبات ما رزقهم إنما حرمه جزاء لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلا بحسب طبعه الأولى كما يشير إلى ذلك قوله: {كُلُّ اَلطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْرَاةُ} (آل عمران: ٩٣) و قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ كَثِيراً} (النساء: ١٦٠). 

  • قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} إلى آخر الآية، معنى الآية ظاهر، و فيها أمر بإنذارهم و تهديدهم إن كذبوا بالبأس الإلهي الذي لا مرد له لكن لا ببيان يسلط عليهم اليأس و القنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، و لذلك قدم عليه قوله: 

  • {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}

  • قوله تعالى: {سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْ‌ءٍ} (الآية) تذكر احتجاجهم بهذه الحجة ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها و إنما يركنون فيها إلى الظن و التخمين، و الكلمة كلمة حق وردت في كثير من الآيات القرآنية لكنها لا تنتج ما قصدوه منها. 

  • فإنهم إنما احتجوا بها لإثبات أن شركهم و تحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجتهم أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك و التحريم لكنا مضطرين على ترك الشرك و التحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك و التحريم فلا بأس بهذا الشرك و التحريم. 

  • و هذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة و إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار و الإجبار فهم مختارون في الشرك و الكف عنه و في التحريم و تركه فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به و رفض الافتراض فلله الحجة البالغة و لا حجة لهم في ذلك إلا اتباع الظن و التخمين. 

  • قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم {لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} إلخ، و الفاء الثانية 

تفسير الميزان ج۷

367
  • للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها. 

  • و المعنى أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم و اتباعكم الظن و خرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك و ترك الافتراء عليه، و أن الحجة إنما هي لله عليكم فإنه لو شاء لهداكم أجمعين و أجبركم على الإيمان و ترك الشرك و التحريم، و إذ لم يجبركم على ذلك و أبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك و التحريم. 

  • و بعبارة أخرى: يتفرع على حجتكم أن الحجة لله عليكم لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان فهداكم أجمعين، و لم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه. 

  • و قد بين تعالى في طائفة من الآيات السابقة أنه تعالى لم يضطر عباده على الإيمان و لم يشأ منهم ذلك بالمشية التكوينية حتى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه و هذا الإذن الذي هو رفع المانع التكويني هو اختيار العباد و قدرتهم على جانبي الفعل و الترك، و هذا الإذن لا ينافي الأمر التشريعي بترك الشرك مثلا بل هو الأساس الذي يبتني عليه الأمر و النهي. 

  • قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ} إلى آخر الآية. هلم‌ شهداءكم أي هاتوا شهداءكم و هو اسم فعل يستوي فيه المفرد و المثنى و المجموع، و المراد بالشهادة شهادة الأداء و الإشارة بقوله: {هَذَا} إلى ما ذكر من المحرمات عندهم، و الخطاب خطاب تعجيزي أمر به الله سبحانه ليكشف به أنهم مفترون في دعواهم أن الله حرم ذلك فهو كناية عن عدم التحريم. 

  • و قوله: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} في معنى الترقي، و المعنى: لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتى أنهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم و لا يعبأ بشهادتهم فإنهم قوم يتبعون أهواءهم. 

  • فقوله: {وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} إلخ، عطف تفسير لقوله: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي إن شهادتك اتباع لأهوائهم كما أن شهادتهم من اتباع الأهواء، و كيف لا؟ و هم قوم كذبوا بآيات الله الباهرة، و لا يؤمنون بالآخرة و يعدلون بربهم ـ 

تفسير الميزان ج۷

368
  • غيره من خلقه كالأوثان، و لا يجترئ على ذلك مع كمال البيان و سطوع البرهان إلا الذين يتبعون الأهواء. 

  • (بحث روائي)

  • في المجمع في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اَللَّهِ} (الآية) قال: إنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا: الله أغنى، و إذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه، و إذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا: الله أغنى، عن ابن عباس و قتادة، و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) .

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} (الآية) قال: قال: يعني أن أسلافهم زينوا لهم قتل أولادهم. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ قَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ} قال: قال: الحجر المحرم. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} الآيات قال: قال: البساتين. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ} (الآية)، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: الضغث من السنبل و الكف من التمر إذا خرص. قال: و سألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته.

  • و فيه عن أحمد بن إدريس عن البرقي عن سعد بن سعد عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شي‌ء. 

  • و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في الزرع حقان: حق تؤخذ به، و حق تعطيه. قلت: و ما الذي أوخذ به؟ و ما الذي أعطيه؟ قال: أما الذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أما الذي تعطيه فقول الله عز و جل: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يعني من حصدك الشي‌ء بعد الشي‌ء و لا أعلمه إلا قال: الضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ. 

تفسير الميزان ج۷

369
  • و فيه بإسناده عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قوله الله عز و جل: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لاَ تُسْرِفُوا} قال: كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا، و كان أبي إذا حضر شي ئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة و الضغث بعد الضغث من السنبل. 

  • و فيه بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في أرض له و هم يصرمون فجاء سائل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم و إن أمسكتم فلكم.

  • و فيه بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ} فقال: كان فلان بن فلان الأنصاري و سماه و كان له حرث، و كان إذا أجذ يتصدق به و يبقى هو و عياله بغير شي‌ء فجعل الله عز و جل ذلك إسرافا.

  •  أقول: المراد انطباق الآية على عمله دون نزولها فيه فإن الآية مكية، و لعل المراد بالأنصاري المذكور ثابت بن قيس بن شماس‌ و قد روى الطبري و غيره عن ابن جريح قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته - فأطعم حتى أمسى و ليست له تمره فأنزل الله: {وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ}، و الآية كما تقدم مكية غير مدنية فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلا بالجري و الانطباق. 

  • و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال: أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلا مشرك فأعط.

  • أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أبي جعفر و أبي عبد الله و أبي الحسن الرضا (عليه السلام) كثيرة جدا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و النحاس و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: ما سقط من السنبل. 

تفسير الميزان ج۷

370
  • و فيه أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: نسخها العشر و نصف العشر. 

  • أقول: ليست النسبة بين الآية و آية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها. 

  • و فيه أخرج أبو عبيد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن.

  • أقول: الكلام فيه كسابقه. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبو الشيخ عن ميمون بن مهران و يزيد بن الأصم قال:كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجي‌ء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله: {وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ} (الآية) فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ثم فسرها في هذه الآية فقال: {مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ}{وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ} فقال (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ} عنى الأهلي و الجبلي {وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ} عنى الأهلي و الوحشي الجبلي {وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ} عنى الأهلي و الوحشي الجبلي {وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ} يعني البخاتي و العراب، فهذه أحلها الله. 

  • أقول: و روي ما يؤيد ذلك في الكافي و الاختصاص و تفسير العياشي عن داود الرقي و صفوان الجمال عن الصادق (عليه السلام) . و يبقى البحث في أن معنى الزوج في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ} (الآية) هو الذي في قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أو غيره، و سيوافيك إن شاء الله تعالى. 

  • و في تفسير العياشي، عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن سباع الطير و الوحش حتى ذكر له القنافذ و الوطواط و الحمير و البغال و الخيل فقال: ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، و قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، و إنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، و قال: قرأ هذه الآيات {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ 

تفسير الميزان ج۷

371
  •  فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ}.

  •  أقول: و في معناه أخبار أخر مروية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و في عدة منها: إنما الحرام ما حرمه الله في كتابه و لكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها. و هنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الأنياب من الوحش و ذوات المخالب من الطير و غير ذلك، و الأمر في روايات أهل السنة على هذا النحو و المسألة فقهية مرجعها الفقه، و إذا تمت حرمة ما عدا المذكورات في الآية فإنما هي مما حرمها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) استخباثا له و قد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقه، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَائِثَ} (الآية) (الأعراف: ١٥٧). 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (الآية) أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم: ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره. 

  • و في أمالي الشيخ، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (عليه السلام) و قد سئل عن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبَالِغَةُ} فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالما؟ فإن قال: نعم قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلا قال: أ فلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة.

  •  أقول: و هو من بيان المصداق. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٥١ الی ١٥٧]

  • {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ١٥١ وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ 

تفسير الميزان ج۷

372
  • بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى‌ وَ بِعَهْدِ اَللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ١٥٢ وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٥٣ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ١٥٤ وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اِتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ اَلْكِتَابُ عَلى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ١٥٦ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدى‌ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي اَلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ اَلْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ١٥٧} 

  • (بيان) 

  • تبين الآيات المحرمات العامة التي لا تختص بشريعة من الشرائع الإلهية، و هي الشرك بالله، و ترك الإحسان بالوالدين، و اقتراف الفواحش، و قتل النفس المحترمة بغير حق و يدخل فيه قتل الأولاد خشية إملاق و اقتراب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و عدم إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و الظلم في القول، و عدم الوفاء بعهد الله، و اتباع غير سبيل الله المؤدي إلى الاختلاف في الدين. 

  • و من شواهد أنها شرائع عامة أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء 

تفسير الميزان ج۷

373
  • أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى و عيسى و غيرهم (عليه السلام) ، و قد قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‌ وَ عِيسى‌ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) و من ألطف الإشارة التعبير عما أوتي نوح و إبراهيم و موسى و عيسى (عليه السلام) بالتوصية ثم التعبير في هذه الآيات الثلاث التي تقص أصول المحرمات الإلهية أيضا بالتوصية حيث قال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

  • على أن التأمل فيها يعطي أن الدين الإلهي لا يتم أمره و لا يستقيم حاله بدون شي‌ء منها و إن بلغ من الإجمال و البساطة ما بلغ و بلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ. 

  • قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} قيل: تعال‌ مشتق من العلو و هو أمر بتقدير أن الأمر في مكان عال و إن لم يكن الأمر على ذلك بحسب الحقيقة، و التلاوة قريب المعنى من القراءة، و قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلق بقوله: {أَتْلُ} أو قوله: {حَرَّمَ} على طريق التنازع في المتعلق، و ربما قيل: إن {عَلَيْكُمْ} اسم فعل بمعنى خذوا و قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُوا} معموله و النظم: عليكم أن لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا «إلخ»، و هو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق. 

  • و لما كان قوله: {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ} إلخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحي في مورد المحرمات من النهي في بعضها و الأمر بالخلاف في بعضها الآخر فقال: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} كما قال: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ} {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ} إلخ، و قال: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} كما قال: {وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ} {وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} إلخ. 

  • و قد قدم الشرك على سائر المحرمات لأنه الظلم العظيم الذي لا مطمع في المغفرة الإلهية معه قال: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) و إليه ينتهي كل معصية كما ينتهي إلى التوحيد بوجه كل حسنة. 

  • قوله تعالى: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي أحسنوا بالوالدين إحسانا، و في المجمع: أي و أوصى بالوالدين إحسانا، و يدل على ذلك أن في «حرم كذا» معنى أوصى بتحريمه 

تفسير الميزان ج۷

374
  • و أمر بتجنبه. انتهى. 

  • و قد عد في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تاليا للتوحيد و نفي الشرك فأمر به بعد الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك به كقوله: {وَ قَضى‌ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: ٢٣) و قوله: {وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} (لقمان: ١٤) و غير ذلك من الآيات. 

  • و يدل ذلك على أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، و الاعتبار يهدي إلى ذلك فإن المجتمع الإنساني الذي لا يتم للإنسان دونه حياة و لا دين هو أمر وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه و بقائه إلا حب النسل الذي يتكئ على رابطة الرحمة المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب و بالأولاد من جانب آخر، و الأولاد إنما يحتاجون إلى رحمتهما و إحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو الأولاد بحسب الطبع، و كفى به داعيا و محرضا لهما إلى الإحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رأفة الأولاد و رحمتهم فإنها بالطبع يصادف كبرهما و يوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب حياتهما و شباب الأولاد و قوتهم على ما يعنيهم. 

  • و جفاء الأولاد للوالدين و عقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم و رجائهما منهم و انتشار ذلك بين النوع يؤدي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد و التربية، و يدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل و انقطاع النسل، و من جهة إلى كراهية تأسيس البيت و التكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، و الاستنكاف عن حفظ سمة الأبوة و الأمومة، و ينجر إلى تكون طبقة من الذرية الإنسانية لا قرابة بينهم و لا أثر من رابطة الرحم فيهم، و يتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، و يتشتت شملهم، و يتفرق جمعهم، و يفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون جار و لا سنة دائرة، و يرتحل عنهم سعادة الدنيا و الآخرة، و سنقدم إليك بحثا ضافيا في هذه الحقيقة الدينية إن شاء الله. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ} الإملاق‌ الإفلاس من المال و الزاد و منه التملق، و قد كان هذا كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب و القحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدده الإفلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفا من أن يراهم على ذلة العدم و الجوع. 

تفسير الميزان ج۷

375
  • و قد علل النهي بقوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ} أي إنما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم و لستم برازقين لهم بل الله يرزقكم و إياهم جميعا فلا تقتلوهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ} الفواحش‌ جمع فاحشة و هي الأمر الشنيع المستقبح، و قد عد الله منها في كلامه الزنا و اللواط و قذف المحصنات، و الظاهر أن المراد مما ظهر و مما بطن العلانية و السر كالزنا العلني و اتخاذ الأخدان و الأخلاء سرا. 

  • و في استباحة الفاحشة إبطال فحشها و شناعتها، و في ذلك شيوعها لأنها من أعظم ما تتوق إليه النفس الكارهة لأن يضرب عليها بالحرمان من ألذ لذائذها و تحجب عن أعجب ما تتعلق به و تعزم به شهوتها، و في شيوعها انقطاع النسل و بطلان المجتمع البيتي و في بطلانه بطلان المجتمع الكبير الإنساني، و سوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من المحل. 

  • و كذلك استباحة القتل و ما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العام و في بطلانه انهدام بنية المجتمع الإنساني و تبدد أركانه. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي حرم الله قتلها أو حرمها بالحرمة المشرعة لها التي تقيها و تحميها من الضيعة في دم أو حق، قيل: إنه تعالى أعاد ذكر القتل و إن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه و تعظيما لأمره، و نظيره الكلام في قتل الأولاد خشية الإملاق اختص بالذكر عناية به، و قد كانت العرب تفعل ذلك بزعمهم أن خشية الإملاق تبيح للوالد أن يقتل أولاده، و يصان به ماء وجهه من الابتذال، و الأبوة عندهم من أسباب الملك. 

  • و قد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة التي هي نفس المسلم و المعاهد قتلها بالحق و هو القتل بالقود و الحد الشرعي. 

  • ثم أكد تحريم المذكورات في الآية بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سيجي‌ء الوجه في تعليل هذه المناهي الخمس بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} النهي عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحل أكل ماله و لا استعماله و لا أي تصرف فيه إلا بالطريقة التي هي أحسن الطرق المتصورة لحفظه، و يمتد هذا النهي و تدوم الحرمة إلى أن 

تفسير الميزان ج۷

376
  • يبلغ أشده فإذا بلغ أشده لم يكن يتيما قاصرا عن إدارة ماله و كان هو المتصرف في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الولي لماله. 

  • و من هنا يظهر أن المراد ببلوغه أشده هو البلوغ و الرشد كما يدل عليه أيضا قوله: {وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتَامى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا اَلنِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَ لاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَ بِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} (النساء: ٦). 

  • و يظهر أيضا أنه ليس المراد بتحديد حرمة التصرف في مال اليتيم بقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} رفع الحرمة بعد بلوغ الأشد و إباحة التصرف حينئذ بل المراد بيان الوقت الذي يصلح للاقتراب من ماله، و ارتفاع الموضوع بعده فإن الكلام في معنى: و أصلحوا مال اليتيم الذي لا يقدر على إصلاح ماله و إنمائه حتى يكبر و يقدر. 

  • قوله تعالى: {وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} الإيفاء بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس، و قوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: إن الإيفاء بالقسط و الوقوع في العدل الحقيقي الواقعي لا يمكن للنفس الإنسانية التي لا مناص لها عن أن تلتجئ في أمثال هذه الأمور إلى التقريب فأجيب بأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها، و من الجائز أن يتعلق قوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} بالحكمين جميعا أعني قوله: {وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} إلخ، و قوله: {وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ}

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى} ذكر ذي القربى و هو الذي تدعو عاطفة القرابة و الرحم إلى حفظ جانبه و صيانته من وقوع الشر و الضرر في نفسه و ماله يدل على أن المراد بالقول هو القول الذي يمكن أن يترتب عليه انتفاع الغير أو تضرره كما أن ذكر العدل في القول يؤيد ذلك، و يدل على أن هناك ظلما، و أن القول متعلق ببعض الحقوق كالشهادة و القضاء و الفتوى و نحو ذلك. 

  • فالمعنى: و راقبوا أقوالكم التي فيها نفع أو ضرر للناس و اعدلوا فيها، و لا يحملنكم رحمة أو رأفة أو أي عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرفوا الكلام و تجاوزوا الحق فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه و إبطال حق من تكرهونه. 

  • قال في المجمع: و هذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير 

تفسير الميزان ج۷

377
  • و الشهادات، و الوصايا، و الفتاوى، و القضايا، و الأحكام، و المذاهب، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر. 

  • قوله تعالى: {وَ بِعَهْدِ اَللَّهِ أَوْفُوا} قال الراغب في المفردات: العهد حفظ الشي‌ء و مراعاته حالا بعد حال. انتهى. و لذا يطلق على الفرامين و التكاليف المشرعة و الوظائف المحولة و على العهد الذي هو الموثق و على النذر و اليمين. 

  • و كثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الإلهية، و إضافته في الآية إلى الله سبحانه، و مناسبة المورد و فيه بيان الأحكام و الوصايا الإلهية العامة كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بقوله: {وَ بِعَهْدِ اَللَّهِ أَوْفُوا} التكاليف الدينية الإلهية، و إن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا و كذا، قال تعالى: {وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً} (الإسراء: ٣٤) فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة الشهادة إليه في قوله: {وَ لاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اَللَّهِ} (المائدة: ١٠٦) للإشارة إلى أن المعاملة فيه معه سبحانه. ثم أكد التكاليف المذكورة في الآية بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} إلى آخر الآية، قرئ: {وَ أَنَّ} بفتح الهمزة و تشديد النون و تخفيفها و كأنه بالعطف على موضع قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} و قرئ بكسر الهمزة على الاستئناف. 

  • و الذي يعطيه سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتلوها عليهم و يخبرهم بها حيث قيل: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، و لازم ذلك أن يكون قوله: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} مسوقا لا لتعلق الغرض به بنفسه لأن كليات الدين قد تمت في الآيتين السابقتين عليه بل ليكون توطئة و تمهيدا لقوله بعده: {وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ} كما أن هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فالمراد بالآية أن لا تتفرقوا عن سبيله و لا تختلفوا فيه، فتكون الآية مسوقة سوق قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) فالأمر في الآية بإقامة الدين هو ما وصى من الدين المشروع كأنه أعيد ليكون تمهيدا للنهي عن التفرق بالدين. 

تفسير الميزان ج۷

378
  • فالمعنى: و مما حرم ربكم عليكم و وصاكم به أن لا تتبعوا السبل التي دون هذا الصراط المستقيم الذي لا يقبل التخلف و الاختلاف و هي غير سبيل الله فإن اتباع السبل دونه يفرقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه. 

  • و مقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: {صِرَاطِي} صراط النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه هو الذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربه إذ يقول: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} إلخ، فهو المتكلم معهم المخاطب لهم، و لله سبحانه في الآيات مقام الغيبة حتى في ذيل هذه الآية إذ يقول: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} و لا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عباده الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين في قوله: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الحمد: ٧). 

  • لكن المفسرين كأنهم تسلموا أن ضمير التكلم في قوله: {صِرَاطِي} لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله: {صِرَاطِي} بل في قوله: {عَنْ سَبِيلِهِ} فإن معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصاكم به ربكم و هو أنه يقول لكم: «إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه» أو وصيته «إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي» فالالتفات كما مر إنما هو في قوله: {عَنْ سَبِيلِهِ}

  • و كيف كان فهو تعالى في الآية يسمي ما ذكره من كليات الدين بأنه صراطه المستقيم الذي لا تخلف في هداية سالكيه و إيصالهم إلى المقصد و لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرقون البتة ثم ينهاهم عن اتباع سائر السبل فإن من شأنها إلقاء الخلاف و التفرقة لأنها طرق الأهواء الشيطانية التي لا ضابط يضبطها، بخلاف سبيل الله المبني على الفطرة و الخلقة و لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. ثم أكد سبحانه حكمه في الآية بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

  • و قد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الأولى بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} و الثانية بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} و الثالثة بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

تفسير الميزان ج۷

379
  • و لعل الوجه في ذلك أن الأمور المذكورة في الآية الأولى و هي الشرك بالله العظيم و عقوق الوالدين و قتل الأولاد من إملاق و قربان الفواحش الشنيعة و قتل النفس المحترمة من غير حق مما تدرك الفطرة الإنسانية حرمتها في بادئ نظرها و لا يجترئ عليها الإنسان الذي يتميز من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الأهواء و أحاطت به العواطف المظلمة التي تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة و الخروج عن خالصة الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها و شامتها على الإنسان بما هو إنسان، و لذلك ختمت بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

  • و ما ذكر منها في الآية الثانية و هي الاجتناب عن مال اليتيم، و إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و العدل في القول، و الوفاء بعهد الله: أمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الأولى من الظهور بل يحتاج الإنسان ـ مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها ـ إلى التذكر و هو الرجوع إلى المصالح و المفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعه، المشرفة به و بسائر بني نوعه إلى التهلكة؛ فماذا يبقى من الخير في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير و الضعيف، و يطفف فيه الكيل و الوزن، و لا يعدل فيه في الحكم و القضاء، و لا يصغي فيه إلى كلمة الحق؟! و لهذه النكتة ختمت الآية بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

  • و الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرق و الاختلاف في الدين باتباع سبل غير سبيل الله، و اتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الديني لا يتم إلا بالاجتناب عنه. 

  • و ذلك أن التقوى الديني إنما يحصل بالتبصر في المناهي الإلهية و الورع عن محارمه بالتعقل و التذكر، و بعبارة أخرى بالتزام الفطرة الإنسانية التي بني عليها الدين، و قد قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا} (الشمس: ٨) و قد وعد الله المتقين إن اتقوا يمددهم بما يتضح به سبيلهم و يفرق به بين الحق و الباطل عندهم فقال: {وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (الطلاق: ٢) و قال: {إِنْ تَتَّقُوا اَللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: ٢٩). 

  • فهو على صراط التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل و التذكر جاريا على مجرى الفطرة، و إذا انحرف إلى الخارج من هذا الصراط و ليس إلا اتباع الأهواء و الإخلاد إلى 

تفسير الميزان ج۷

380
  • الأرض و الاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء و العواطف إلى الاسترسال و العكوف على مخالفة العقل السليم و ترك التقوى الديني من غير مبالاة بما يهدده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل و لا ما يفعل به. 

  • و الأهواء النفسانية مختلفة لا ضابط يضبطها و لا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها و لذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، و قد عد الله سبحانه لهم في كلامه سبلا شتى كقوله: {وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ} (الأنعام: ٥٥) و قوله: {وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: ١٤٢) و قوله: {وَ لاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (يونس: ٨٩) و قوله في المشركين: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ اَلْهُدى} (النجم: ٢٣) و أنت إن تتبعت آيات الهدى و الضلال و الاتباع و الإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئا كثيرا. 

  • و بالجملة التقوى الديني لا يحصل بالتفرق و الاختلاف، و الورود في أي مشرعة شرعت، و السلوك من أي واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الذي لا تخلف فيه و لا اختلاف فذلك هو الذي يرجى معه التلبس بلباس التقوى، و لذلك عقب الله سبحانه قوله: {وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

  • و قال في روح المعاني: و ختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} و هذه - يعني الثانية - بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك و قتل الأولاد و قربان الزنا و قتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين و لا عاقلين قبحها فنهاهم لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها و يتركوها، و أما حفظ أموال اليتامى عليهم و إيفاء الكيل و العدل في القول و الوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه و يفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازي. انتهى. 

  • و أنت خبير بأن الذي ذكره من اتصافهم بحفظ أموال اليتامى و إيفاء الكيل و العدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهلية، على أن الذي فسر به التذكر إنما هو معنى الذكر دون التذكر في عرف القرآن. 

  • ثم قال: و قال الإمام - يعني الرازي - في التفسير الكبير: السبب في ختم كل آية 

تفسير الميزان ج۷

381
  • بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها و تفهمها و التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية يعني الثانية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد و الفكر الكثير حتى يقف على موضوع الاعتدال و هو التذكر. انتهى. 

  • و ما ذكره من الوجه قريب المأخذ مما قدمناه غير أن الأمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية مما يناله الإنسان بأدنى تأمل، و ليست بذلك الخفاء و الغموض الذي وصفه، و لذا التجأ إلى إرجاع التذكر إلى الوقوف على حد الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك معنى الآية فإن مقتضى السياق رجوع رجاء التذكر إلى أصل ما وصى به فيها، و الذي يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حد اعتداله هما الأمران الأولان أعني قربان مال اليتيم و إيفاء الكيل و الوزن، و قد تدورك أمرهما بقوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فافهم ذلك. 

  • ثم قال في الآية الثالثة: قال أبو حيان: و لما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف و أمر سبحانه باتباعه و نهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، و حصل على السعادة السرمدية انتهى. 

  • و هو مبني على جعل الأمر باتباع الصراط المستقيم في الآية مما تعلق به القصد بالأصالة و قد تقدم أن مقتضى السياق كونه مقدمة للنهي عن التفرق باتباع السبل الأخرى. و توطئة لقوله: {وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

  • قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ} إلى آخر الآية، لما كان ما ذكره و وصى به من كليات الشرائع تكاليف مشرعة عامة لجميع ما أوتي الأنبياء من الدين، و هي أمور كلية مجملة صحح ذلك الالتفات إلى بيان أنه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالا فصلها حيث اقتضت تفصيلها لموسى (عليه السلام) أولا فيما أنزل عليه من الكتاب، و للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثانيا فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} إلخ. 

  • فمعنى الآية: أنا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينية آتينا موسى الكتاب تماما تتم به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الإجمالي و تفصيلا يفصل به كل شي‌ء من فروع هذه الشرائع الإجمالية مما يحتاج إليه بنو إسرائيل و هدى و رحمة لعلهم 

تفسير الميزان ج۷

382
  • بلقاء ربهم يؤمنون. هذا هو الذي يعطيه سياق الآية المتصل بسياق الآيات الثلاث السابقة. 

  • فقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ} رجوع إلى السياق السابق الذي قبل قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيات، و هو خطاب الله لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بصيغة المتكلم مع الغير، و قد أفيد بالتأخير المستفاد من لفظة {ثُمَّ} أن هذا الكتاب إنما أنزل ليكون تماما و تفصيلا للإجمال الذي في تلك الشرائع العامة الكلية. 

  • و قد وجه المفسرون قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ} بوجوه غريبة: 

  • منها: أن في الكلام حذفا و التقدير: ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب. 

  • و منها: أن التقدير: ثم أخبركم أن موسى أعطي الكتاب. 

  • و منها: أن التقدير: ثم أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب. 

  • و منها: أنه متصل بقوله في قصة إبراهيم: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} و النظم: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب ثم آتينا موسى الكتاب». 

  • و الذي دعاهم إلى هذه التكلفات أن التوراة قبل القرآن و لفظة {ثُمَّ} تقتضي التراخي و لازمه نزول التوراة بعد القرآن و قد قيل قبل ذلك: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}. و ما تقدم من البيان يكفيك مئونة هذه الوجوه. 

  • و قوله: {تَمَاماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ} يبين أن إنزال الكتاب لتتم به نقيصة الذين أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلية العامة، و قد قال تعالى في قصة موسى بعد نزول الكتاب: {وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (الأعراف: ١٤٥) و قال: {وَ اُدْخُلُوا اَلْبَابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ} (البقرة: ٥٨) و على هذا فالموصول في قوله: {عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ} يفيد الجنس. 

  • و قد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخرى فقيل: المعنى: تماما على إحسان موسى بالنبوة و الكرامة، و قيل: المعنى: إتماما للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين، و قيل: المعنى: إتماما للنعمة على الأنبياء الذين أحسنوا، و قيل: المعنى: تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا، و قيل: المعنى تماما على الذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة 

تفسير الميزان ج۷

383
  • بالنبوة و غيرها، و قيل: إنه متصل بقصة إبراهيم و المعنى: تماما للنعمة على إبراهيم. و ضعف الجميع ظاهر. 

  • و قوله: {وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ} أي مما يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم ممن بعدهم، و هدى يهتدي به و رحمة ينعمون بها. و قوله: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله و اليوم الآخر، و مما يؤيده أن التوراة الحاضرة التي يذكر القرآن أنها محرفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة، و قد ذكر بعض المورخين منهم أن شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد. 

  • قوله تعالى: {وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} إلى آخر الآية، أي و هذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتبعوه «إلخ». 

  • قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ اَلْكِتَابُ عَلى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} إلخ، {أَنْ تَقُولُوا} معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، و هو شائع في الكلام، و هو متعلق بقوله في الآية السابقة: {أَنْزَلْنَاهُ}

  • و قوله: {طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} يراد به اليهود و النصارى أنزل عليهما التوراة و الإنجيل، و أما كتب الأنبياء النازلة قبلهما مما يذكره القرآن مثل كتاب نوح و كتاب إبراهيم (عليه السلام) فلم يكن فيها تفصيل الشرائع و إن اشتملت على أصلها، و أما سائر ما ينسب إلى الأنبياء (عليه السلام) من الكتب كزبور داود (عليه السلام) و غيره فلم تكن فيها شرائع و لا لهم بها عهد. 

  • و المعنى أنا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إن الكتاب الإلهي المفصل لشرائعه إنما أنزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود و النصارى و إنا كنا غافلين عن دراستهم و تلاوتهم، و لا بأس علينا مع الغفلة. 

  • قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} إلى آخر الآية أي من الذين أنزل إليهم الكتاب قبلنا، و قوله: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} تفريع لقوليه: {أَنْ تَقُولُوا} {أَوْ تَقُولُوا} جميعا، و قد بدل الكتاب من البينة ليدل به على ظهور حجته و وضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر و لا علة لمتعلل، و الصدف 

تفسير الميزان ج۷

384
  • الإعراض و معنى الآية ظاهر.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي جعفر (عليه السلام) و هو متك على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات التي لم ينسخهن شي‌ء من الأنعام قال: شيعها سبعون ألف ملك: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلاه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى ثلاث آيات. 

  • ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله، و من انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، و من أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء عفا عنه. 

  • أقول: و الرواية لا تخلو عن شي‌ء فإن فيما ذكر في الآيات الشرك بالله و لا تكفي فيه عقوبة الدنيا و لا تناله مغفرة في الآخرة بنص القرآن، قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: ٤٨) و قال: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} (البقرة: ١٦٢). 

  • على أن ظاهر الرواية كون هذه الأحكام مما يختص بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة و التابعين‌ كالذي رواه في الدر المنثور، عن جمع عن ابن مسعود قال ":من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}- إلى قوله - {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، و نظيره ما روي عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم. 

  • و في تفسير العياشي، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام): {اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ} قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب و ما بطن منها الزنا.

  •  أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق. 

تفسير الميزان ج۷

385
  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائي و البزاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط و عن شماله - ثم قال: و هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ - وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}

  • و فيه أخرج أحمد و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فخط خطا هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله، و خطين عن يمينه و خطين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثم وضع يده في الخط الأوسط و قرأ: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}(الآية). 

  • و في تفسير القمي: أخبرنا الحسن بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمد بن سنان عن أبي خالد القماط عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} قال نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.

  •  أقول: و هو من الجري، و الذي ذكره (عليه السلام) مستفاد من قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى} (الشورى: ٢٣). إذا انضم إلى قوله: {قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان: ٥٧). 

  • و قد وردت عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن عليا هو الصراط المستقيم، و قد تقدمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأول من الكتاب. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٥٨ الی ١٦٠]

  • {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنَّا 

تفسير الميزان ج۷

386
  • مُنْتَظِرُونَ ١٥٨ إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‌ءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اَللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ١٥٩ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزى‌ إِلاَّ مِثْلَهَا وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ١٦٠} 

  • (بيان) 

  • الآيات متصلة بما قبلها و هي تتضمن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم و تفرق شيعا، و تبرئة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المفرقين دينهم، و وعدا حسنا لمن جاء بالحسنة و إنجازا للجزاء. 

  • قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} استفهام إنكاري في مقام لا تنفع فيه عظة و لا تنجح فيه دعوة فالأمور المذكورة في الآية لا محالة أمور لا تصحب إلا القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل بإذهابهم و تطهير الأرض من رجسهم. 

  • و لازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدل عليه قوله تعالى: {وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} (الحجر: ٨). 

  • و يكون المراد بإتيان الرب هو يوم اللقاء و هو الانكشاف التام لآية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختص بانكشاف الغطاء، و المصحح لإطلاق الإتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء و الحضور بعد الغيبة جل شأنه عن الاتصاف بصفات الأجسام. 

  • و ربما يقال: إن المراد إتيان أمر الرب و قد مر نظيره في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ} (البقرة: ٢١٠) في الجزء الثاني من الكتاب. 

  • و يكون المراد بإتيان بعض آيات الرب إتيان آية تلازم تبدل نشأة الحياة عليهم 

تفسير الميزان ج۷

387
  • بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت التي تبدل نشأة العمل نشأة الجزاء البرزخي أو تلازم استقرار ملكة الكفر و الجحود في نفوسهم استقرارا لا يمكنهم معه الإذعان بالتوحيد و الإقبال بقلوبهم إلى الحق إلا ما كان بلسانهم خوفا من شمول السخط و العذاب كما ربما دل عليه قوله تعالى: {وَ إِذَا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} (النمل: ٨٢). 

  • و كذا قوله تعالى: {وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} (السجدة: ٢٩) فإن الظاهر أن المراد بالفتح هو الفتح للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالقضاء بينه و بين أمته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيب (عليه السلام) في قوله: {رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ} (الأعراف: ٨٩) و حكاه عن رسله في قوله: {وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (إبراهيم: ١٥). 

  • أو تلازم بأسا من الله تعالى لا مرد له و لا محيص عنه فيضطرهم الله الإيمان ليتقوا به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الإيمان إلا ما كان عن اختيار كما يدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْكَافِرُونَ } (المؤمن: ٨٥). 

  • فهذه أعني إتيان الملائكة أو إتيان الرب أو إتيان بعض آياته أمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط و هم لكونهم لا تؤثر فيهم حجة و لا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلا ذلك و إن ذهلوا عنه فإن الواقع أمامهم علموا أو جهلوا. 

  • و ربما قيل: إن الاستفهام للتهكم، فإنهم كانوا يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينزل عليهم الملائكة أو يروا ربهم أو يأتيهم بآية كما أرسل الأولون فكأنه قيل: هؤلاء لا يريدون حجة و إنما ينتظرون ما اقترحوه من الأمور. 

  • و هذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكن ذيلها أعني قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} إلخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإن التهكم لا يتعدى فيه إلى بيان الحقائق و تفصيل الآثار. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، يشرح خاصة يوم ظهور 

تفسير الميزان ج۷

388
  • هذه الآيات، و هي في الحقيقة خاصة نفس الآيات و هي أن الإيمان لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع و اختيار أو آمنت قبله و لم تكن كسبت في إيمانها خيرا و لم تعمل صالحا بل انهمكت في السيئات و المعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان، قال تعالى: {وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ} (النساء: ١٨) فالنفس التي لم تؤمن من قبل إيمان طوع و رضى أو آمنت بالله و كذبت بآيات الله و لم تعتن بشي‌ء من شرائع الله و استرسلت في المعاصي الموبقة و لم تكتسب شيئا من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثم شاهدت البأس الإلهي فحملها الاضطرار إلى الإيمان لترد به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك، و لم يرد عنها بأسا و لا يرد بأسه عن القوم المجرمين. 

  • و في الآية من بديع النظم و لطيف السياق أنه كرر فيها لفظ {رَبُّكَ} ثلاث مرات و ليس إلا لتأييد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تجاه خصمه و هم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم و يباهون بأوثانهم ليعتز بربه و يثبت به قلبه و يربط جأشه في دعوته إن نجحت و إلا فبالقضاء الفصل الذي يقضي به ربه بينه و بين خصمه ثم أكد ذلك و زاد في طمأنة نفسه بقوله في ختام الآية: {قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} أي فانتظر أنت ما هم منتظرون، و أخبرهم أنك في انتظاره، و مرهم أن ينتظروه فهو الفصل و ليس بالهزل. 

  • و من هنا يظهر أن الآية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إن الاستفهام في الآية للتهكم فقال: إن هذه الآيات الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شي‌ء مما اقترحوه لأن إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنة الله هلاك الأمة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به، و الله لا يهلك أمة نبي الرحمة. انتهى. 

  • و فيه: أن دلالة الآيات القرآنية على أن هذه الأمة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل مما لا سترة عليها كقوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اَللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} - إلى أن قال - {وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} إلى آخر الآية: (يونس: ٤٧-٥٣). 

  • و قد استدل بالآية على أن الإيمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل و هو حق في الجملة 

تفسير الميزان ج۷

389
  • لا مطلقا فإن الآية في مقام بيان أن من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه أن يؤمن و يعمل صالحا فآمن و لم يعمل صالحا حتى لحقه البأس الإلهي الشديد الذي يضطره إلى ذلك فإنه لا ينتفع بإيمانه، و أما من آمن طوعا فأدركه الموت و لم يمهله الأجل حتى يعمل صالحا و يكسب في إيمانه خيرا فإن الآية غير متعرضة لبيان حاله بل الآية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أن النافع إنما هو الإيمان إذا كان عن طوع و لم يحط به الخطيئة و لم تفسده السيئة. 

  • و في قوله: {لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ} الفصل بين الموصوف و الوصف بفاعل الفعل و هو إيمانها و كأنه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل و فاعله، و اجتماع {فِي إِيمَانِهَا} و {إِيمَانُهَا} في اللفظ. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‌ءٍ} إلخ، وجه الكلام السابق و إن كان مع المشركين و قد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، و كان أيضا لأهل الكتاب نصيب من الكلام و ربما لوح إليهم بعض التلويح و لازم ذلك أن ينطبق قوله: {اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً} على المشركين بل عليهم و على اليهود و النصارى لاشتراك الجميع في التفرق و الاختلاف في الدين الإلهي. 

  • لكن اتصال الكلام بالآيات المبينة للشرائع العامة الإلهية التي تبتدئ بالنهي عن الشرك و تنتهي إلى النهي عن التفرق عن سبيل الله يستدعي أن يكون قوله: {اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً} موضوعا لبيان حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع من كان هذا وصفه فالإتيان بصيغة الماضي في قوله: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} لبيان أصل التحقق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل لا تحقق الفعل في الزمان الماضي فحسب. 

  • و من المعلوم أن تمييز النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إخراجه من أولئك المختلفين في الدين المتفرقين شيعة شيعة كل شيعة يتبع إماما يقودهم ليس إلا لأنه رسول يدعو إلى كلمة الحق و دين التوحيد، و مثال كامل يمثل بوجوده الإسلام و يدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‌ءٍ} إلى أنهم ليسوا على دينك الذي تدعو إليه، و لا على مستوى طريقك الذي تسلكه. 

  • فمعنى الآية أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات التي هي لا محالة ناشئة عن العلم 

تفسير الميزان ج۷

390
  • - و ما اختلف الذين أوتوه إلا بغيا بينهم - و الانشعابات المذهبية ليسوا على طريقتك التي بنيت على وحدة الكلمة و نفي الفرقة إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم لا يماسك منهم شي‌ء فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون و يكشف لهم حقيقة أعمالهم التي هم رهناؤها. 

  • و قد تبين بما مر أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئته (صلى الله عليه وآله و سلم) من المشركين أو منهم و من اليهود و النصارى، أو من المختلفين بالمذاهب و البدع من هذه الأمة فالآية عامة تعم الجميع. 

  • قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الآية تامة في نفسها تكشف عن منة إلهية يمتن بها على عباده أنه يجازي الحسنة بعشر أمثالها، و لا يجازي السيئة إلا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة و السيئة واحدة و لا يظلم في الإيفاء فلا ينقص من تلك و لا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدل عليه قوله: {مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (البقرة: ٢٦١) و أمكن أن يعفو عن السيئة فلا يحسب حق المثل الواحد. 

  • لكنها أعني الآية باتصالها بما تقدمها و انتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتفاق و الاجتماع على الحق و التفرق فيه: فهاتان خصلتان حسنة و سيئة يجزى فيهما ما يماثلهما و لا ظلم فإن الجزاء يماثل العمل فمن جاء بالحسنة فله مثلها و يضاعف له و من جاء بالسيئة و هي الاختلاف المنهي عنه فلا يجزى إلا سيئة مثلها و لا يطمعن في الجزاء الحسن، و عاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله: {وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: ٤٠) أن المراد به بيان مماثلة جزاء السيئة لها في كونها سيئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة و نفي المضاعفة. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} قال: طلوع الشمس من المغرب و خروج الدابة و الدخان، و الرجل يكون مصرا و لم يعمل عمل الإيمان ثم تجي‌ء الآيات فلا ينفعه إيمانه. 

تفسير الميزان ج۷

391
  • أقول: و قوله: الرجل يكون مصرا «إلخ» تفسير لقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} على ما قدمناه و يدل عليه الرواية الآتية. 

  • و فيه عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام): في قوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} قال: المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه و قلة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيرا. 

  • و في تفسير القمي، حدثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الآية) قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكل من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد في مسنده و الترمذي و أبو يعلى و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} قال: طلوع الشمس من مغربها. 

  • أقول: و الظاهر أن الرواية من قبيل الجري و كذا ما تقدم من الروايات و يمكن أن يكون من التفسير، و كيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهية التي تلجئ الناس إلى الإيمان و لا ينفعهم. و قد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) و من طرق أهل السنة عن جمع من الصحابة كأبي سعيد الخدري و ابن مسعود و أبي هريرة و عبد الله بن عمر و حذيفة و أبي ذر و عبد الله بن عباس و عبد الله بن أبي أوفى و صفوان بن عسال و أنس و عبد الرحمن بن عوف و معاوية و أبي أمامة و عائشة و غيرهم و إن اختلفت في مضامينها اختلافا فاحشا. 

  • و الأنظار العلمية اليوم لا تمنع تبدل الحركة الأرضية على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة الشرقية أو تبدل القطبين بصيرورة الشمالي جنوبيا و بالعكس إما تدريجا كما يبينه الأرصاد الفلكية أو دفعة لحادثة جوية كلية هذا كله إن لم يكن الكلمة رمزا أشير بها إلى سر من أسرار الحقائق. 

  • و قد عدت في الروايات من تلك الآيات خروج دابة الأرض و الدخان و خروج يأجوج و مأجوج و هذه أمور ينطق بها القرآن الكريم، و عد منها غير ذلك كخروج المهدي (عليه السلام) و نزول عيسى بن مريم و خروج الدجال و غيرها، و هي و إن كانت من حوادث 

تفسير الميزان ج۷

392
  • آخر الزمان لكن كونها مما يغلق بها باب التوبة غير واضح. 

  • و في البرهان، عن البرقي بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زالت الأرض إلا و لله فيها حجة يعرف فيها الحلال و الحرام، و يدعو إلى سبيل الله، و لا تنقطع الحجة من الأرض إلا أربعين يوما قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجة و أغلق باب التوبة لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة، و أولئك من شرار خلق الله، و هم الذين تقوم عليهم القيامة.: 

  • أقول: و رواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) . 

  • و في تفسير القمي، عن أبيه عن النضر عن الحلبي عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: {إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً} قال: فارق القوم و الله دينهم. 

  • أقول: أي باختلاف المذاهب، و قد مر حديث اختلاف الأمة ثلاثا و سبعين فرقة. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: كان علي (عليه السلام) يقرؤها: فارقوا دينهم. 

  • أقول: و القراءة مروية عنه (عليه السلام) من بعض طرق أهل السنة أيضا على ما في الدر المنثور، و غيره. 

  • و في البرهان، عن البرقي عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن ابن مسكان عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) و أنا جالس عن قول الله تبارك و تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} يجري لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال: إنما هي للمؤمنين خاصة. قلت له: أصلحك الله أ رأيت من صام و صلى و اجتنب المحارم و حسن ورعه ممن لا يعرف و لا ينصب؟ فقال: إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته.

  •  أقول: و الرواية تدل على أن الأجر بقدر المعرفة، و في هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين. 

  • و هناك روايات كثيرة في معنى قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الآية) رواها الفريقان و أوردوها في تفسير الآية غير أنها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم 

تفسير الميزان ج۷

393
  • و الصلاة و غيرها، تركنا إيرادها لذلك. 

  •  

  • [سورة الأنعام (٦): الآیات ١٦١ الی ١٦٥]

  • {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٦١ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٦٢ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَ بِذَلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ ١٦٣ قُلْ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ لاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ١٦٤ وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ اَلْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٦٥}  

  • (بيان) 

  • الآيات ختام السورة و هي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوته (صلى الله عليه وآله و سلم) في السورة و أنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه، و فيها خلاصة الحجج التي أقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إلى آخر الآيتين. القيم‌ بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، و قيل: وصف بمعنى القيم على الأمر. 

  • يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم و سبيل واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه و لا اختلاف دينا قائما على مصالح الدنيا و الآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيا على الفطرة - ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن 

تفسير الميزان ج۷

394
  • التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد و ما كان من المشركين، و قد تقدم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ} إلى قوله {أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ} النسك‌ مطلق العبادة، و كثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقربا إلى الله سبحانه. 

  • أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به كما أنه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم و أقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه، و يطابق فعله قوله. 

  • فقال: قل: إنني جعلت صلاتي و مطلق عبادتي و اختصت الصلاة بالذكر استقلالا لمزيد العناية بها منه تعالى و محياي بجميع ما له من الشئون الراجعة إلي من أعمال و أوصاف و أفعال و تروك، و مماتي بجميع ما يعود إلي من أموره و هي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة كما قال: كما تعيشون تموتون جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحدا فأنا عبد في جميع شئوني في حياتي و مماتي لله وحده وجهت وجهي إليه لا أقصد شيئا و لا أتركه إلا له و لا أسير في مسير حياتي و لا أرد مماتي إلا له فإنه رب العالمين، يملك الكل و يدبر أمرهم. 

  • و قد أمرت بهذا النحو من العبودية، و أنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب و جهة. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {إِنَّ صَلاَتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ} إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شئون العبادة و الحياة و الموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة و الاعتقاد بأن مالك الموت و الحياة هو الله تعالى، و الدليل على ما ذكرنا قوله: {وَ بِذَلِكَ أُمِرْتُ} فظاهر أنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأولين له إخلاصا و تسليما و الاعتقاد بأن الأخيرين له إلا بتكلف. 

  • و في قوله: {وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ} دلالة على أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أول الناس من حيث درجة الإسلام و منزله فإن قبله زمانا غيره من المسلمين، و قد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال: {وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ} (يونس: ٧٢) و عن إبراهيم في قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} (البقرة: ١٣١) و عنه و عن ابنه إسماعيل في قولهما: {رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا 

تفسير الميزان ج۷

395
  •  مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة: ١٢٨) و عن لوط في قوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ}(الذاريات: ٣٦) و عن ملكة سبإ في قوله: {وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ}(النمل: ٤٢) إن كان مرادها الإسلام لله. و قولها: {وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}(النمل: ٤٤) و لم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن إلا ما يوجد في هذه الآية من أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخبر قومه بذلك، و ما في سورة الزمر من قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ} (الزمر: ١٢). 

  • و ربما قيل: إن المراد أول المسلمين من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام، و فيه أن التقييد لا دليل عليه، و أما كون إبراهيم أول المسلمين فيدفعه ما تقدم من الآيات المنقولة. 

  • و أما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم و إسماعيل في دعائهما: {وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (البقرة: ١٢٨) و قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ} (الحج: ٧٨) فلا دلالة فيهما على شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} إلخ، هذه الآية و التي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، و هي الحجة من طريق بدء الخلقة، و الحجة من طريق عودها، و الحجة من حال الإنسان و هو بينهما و بعبارة أخرى الحجة من نشأة الحياة الدنيا و النشأة التي قبلها و التي بعدها. 

  • فالحجة من طريق البدء ما في قوله: {أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} و من المعلوم أنه إذا كان رب كل شي‌ء كان كل شي‌ء مربوبا له فلا رب غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد. 

  • و الحجة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله: {وَ لاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} إلى آخر الآية، أي أن كل نفس لا تعمل عملا و لا تكسب شيئا إلا حمل عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم المرجع إلى الله و إليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، و إذا كان لا محيص عن الجزاء و هو المالك ليوم الدين فهو الذي تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا. 

تفسير الميزان ج۷

396
  • و الحجة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ} إلخ، و محصله أن هذا النظام العجيب الذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا و هو مبني على خلافتكم في الأرض و اختلاف شئونكم بالكبر و الصغر و القوة و الضعف و الذكورية و الأنوثية و الغنى و الفقر و الرئاسة و المرئوسية و العلم و الجهل و غيرها و إن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من عمل التكوين منته إليه فالله سبحانه هو ناظمه، و إنما فعل ذلك لامتحانكم و ابتلائكم فهو الرب الذي يدبر أمر سعادتكم، و يوصل من أطاعه إلى سعادته المقدرة له و يذر الظالمين فيها جثيا، فهو الذي يحق عبادته. 

  • و قد تبين بما مر أن مجموع الجملتين: {وَ لاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} سيق لإفادة معنى واحد و هو أن ما كسبته نفس يلزمها و لا يتعداها، و هو مفاد قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: ٣٨). 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ اَلْأَرْضِ} الخلائف‌ جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الأرض و قد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: ٣٠) في الجزء الأول من الكتاب، و معنى الآية ظاهر بما مر من البيان، و قد ختمت السورة بالمغفرة و الرحمة. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: {حَنِيفاً مُسْلِماً} قال: خالصا مخلصا ليس فيه شي‌ء من عبادة الأوثان.

  • أقول: و رواه في البرهان، البرقي بإسناده عن ابن مسكان عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): و فيه: «خالصا مخلصا لا يشوبه شي‌ء» و هو بيان المراد لا تفسير بالمعنى. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يقول: درجة واحدة إن الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالأعمال.

  •  أقول: و هو من نقل الآية بالمعنى فإن الآية هكذا: {وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ 

تفسير الميزان ج۷

397
  •  دَرَجَاتٍ} و في موضع آخر {وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (الزخرف: ٣٢) و الظاهر أن قوله: «بعضها فوق بعض» من كلامه (عليه السلام) و الحديث إنما ورد في تفسير مثل قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ} لا في تفسير الآية التي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي، و ذلك أن قوله (عليه السلام) في ذيله: «إنما تفاضل القوم بالأعمال» لا ينطبق على الآية كما لا يخفى. 

  •  

  • تم و الحمد لله‌ 

تفسير الميزان ج۷

398
  • الفهرس 

تفسير الميزان ج۷

399