المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير السور التالية: الإسراء، و الكهف
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الثالث عشر
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
تمتاز هذه الطبعة عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل
واضافات و تغییرات هامة من قبل المؤلف
ملاحظة: تم تطبيق الصفحات مع طبعة الأعلمي الثالثة المطبوعة في سنة ۱٩۷٣ م
(۱۷) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية (١١١)
[سورة الإسراء (١٧): آیة ١]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ }{سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ ١}
(بيان)
السورة تتعرض لأمر توحيده تعالى عن الشريك مطلقا و مع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدأت به فقيل: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} الآية، و كرر ذلك فيها مرة بعد مرة كقوله: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ} و قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} الآية - ٩٣، و قوله: {وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} الآية - ١٠٨ حتى أن الآية الخاتمة للسورة: {وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً}تحمد الله على تنزهه عن الشريك و الولي و اتخاذ الولد.
و السورة مكية لشهادة مضامين آياتها بذلك و عن بعضهم كما في روح المعاني، استثناء آيتين منها و هما قوله: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الآية) و قوله: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} (الآية) و عن بعضهم إلا أربع آيات و هي الآيتان المذكورتان و قوله: {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} (الآية) و قوله: {وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} (الآية).
و عن الحسن أنها مكية إلا خمس آيات منها و هي قوله: {وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ} (الآية) {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى} (الآية) {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ} {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ} {وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى} (الآية).
و عن مقاتل مكية إلا خمس: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الآية) {وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} (الآية) {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ} (الآية) {وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} (الآية) {إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} (الآية).
و عن قتادة و المعدل عن ابن عباس مكية إلا ثماني آيات و هي قوله: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الآية) -إلى قوله -: {وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} (الآية).
و لا دلالة في مضامين الآيات على كونها مدنية و لا الأحكام المذكورة فيها مما يختص نزولا بالمدينة و قد نزلت نظائرها في السور المكية كالأنعام و الأعراف.
و قد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالإشارة إلى معراج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكر إسراءه (صلى الله عليه وآله و سلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس و الهيكل الذي بناه داود و سليمان (عليهما السلام) و قدسه الله لبني إسرائيل.
ثم سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدره الله لمجتمع بني إسرائيل من الرقي و الانحطاط و العزة و الذلة فكلما أطاعوا رفعهم الله و كلما عصوا خفضهم الله و قد أنزل عليهم الكتاب و أمرهم بالتوحيد و نفي الشريك.
ثم عطف فيها الكلام على حال هذه الأمة و ما أنزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بني إسرائيل و أنهم إن أطاعوا أثيبوا و إن عصوا عوقبوا فإنما هي الأعمال يعامل الإنسان بما عمل منها و على ذلك جرت السنة الإلهية في الأمم الماضين.
ثم ذكرت فيها حقائق جمة من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الشرائع العامة من الأوامر و النواهي و غير ذلك.
و من غرر الآيات فيها قوله تعالى {قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى} الآية - ١١٠من السورة، و قوله: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} الآية - ٢٠منها، و قوله: {وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} الآية - ٥٨ منها و غير ذلك.
قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} إلى آخر الآية سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه و يستعمل مضافا و هو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير «سبحان الله» سبحت الله تسبيحا أي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه و كثيرا ما يستعمل للتعجب لكن سياق الآيات إنما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان و إن أصر بعضهم على كونه للتعجب.
و الإسراء و السري السير بالليل يقال سرى و أسرى أي سار ليلا و سرى و أسرى به أي سار به ليلا و السير يختص بالنهار أو يعمه و الليل.
و قوله {لَيْلاً} مفعول فيه و يفيد من الفائدة أن هذا الإسراء تم له بالليل فكان الرواح و المجيء في ليلة واحدة قبل أن يطلع فجرها.
و قوله: {إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى} هو بيت المقدس بقرينة قوله: {اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} و القصا البعد و قد سمي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من معه من المخاطبين و هو مكة التي فيها المسجد الحرام.
و قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} بيان غاية الإسراء و هي إراءة بعض الآيات الإلهية - لمكان مِن - و في السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي أراها الله سبحانه كما صرح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله {لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى} النجم - ١٨.
و قوله: {إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ} تعليل لإسرائه به لإراءة آياته أي أنه سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم و قد سمع من مقال عبده و رأى من حاله ما استدعى أن يكرمه هذا الإكرام فيسري به ليلا و يريه من آياته الكبرى.
و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ثم رجوع إلى الغيبة السابقة و الوجه فيه الإشارة إلى أن الإسراء و ما ترتب عليه من إراءة الآيات إنما صدر عن ساحة العظمة و الكبرياء و موطن العزة و الجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى و تجلى الله له بآياته الكبرى و لو قيل ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة.
و المعنى لينزه تنزيها من أسرى بعظمته و كبريائه و بالغ قدرته و سلطانه بعبده محمد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس الذي بارك
حوله ليريه بعظمته و كبريائه آياته الكبرى و إنما فعل به ذلك لأنه سميع بصير علم بما سمع من مقاله و رأى من حاله أنه خليق أن يكرم هذه التكرمة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخذ واحد باللجام و واحد بالركاب و سوى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبي قبله و لا يركبك بعده مثله .
قال: فرفت به و رفعته ارتفاعا ليس بالكثير و معه جبرئيل يريه الآيات من السماء و الأرض. قال: فبينا أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمد فلم أجبه و لم ألتفت إليه ثم نادى مناد عن يساري: يا محمد فلم أجبه و لم ألتفت إليه ثم استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد أنظرني حتى أكلمك فلم ألتفت إليها ثم سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صل فصليت فقال: تدري أين صليت قلت: لا، فقال: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليما ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ثم قال لي: انزل فصل فنزلت و صليت فقال لي: تدري أين صليت فقلت: لا قال: صليت في بيت لحم و بيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.
ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد و معي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله (عليه السلام) فقد جمعوا إلي و أقيمت الصلاة و لا أشك إلا و جبرئيل سيتقدمنا فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدمني و أممتهم و لا فخر.
ثم أتاني الخازن بثلاثة أواني إناء فيه لبن و إناء فيه ماء و إناء فيه خمر و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرقت أمته و إن أخذ الخمر غوى و غويت أمته
و إن أخذ اللبن هدى و هديت أمته قال: فأخذت اللبن و شربت منه فقال لي جبرئيل: هديت و هديت أمتك.
ثم قال لي: ما ذا رأيت في مسيرك؟ فقلت: ناداني مناد عن يميني فقال: أ و أجبته فقلت لا و لم ألتفت إليه فقال: داعي اليهود لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك ثم قال: ما ذا رأيت؟ فقلت: ناداني مناد عن يساري فقال لي: أ و أجبته؟ فقلت: لا و لم ألتفت إليه فقال: ذاك داعي النصارى و لو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك. ثم قال: ما ذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد أنظرني حتى أكلمك. فقال: أ و كلمتها؟ فقلت: لم أكلمها و لم ألتفت إليها فقال: تلك الدنيا و لو كلمتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ثم سمعت صوتا أفزعني، فقال لي جبرئيل: أ تسمع يا محمد؟ قلت نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرت قالوا فما ضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى قبض.
قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى السماء الدنيا و عليها ملك يقال له إسماعيل و هو صاحب الخطفة التي قال الله عز و جل: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} و تحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك.
فقال: يا جبرئيل! من هذا الذي معك؟ فقال: محمد رسول الله قال: و قد بعث؟ قال: نعم ففتح الباب فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي و قال: مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح، و تلقتني الملائكة حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلا ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال: لي مثل ما قالوا من الدعاء إلا أنه لم يضحك و لم أر فيه من الاستبشار ما رأيت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فإني قد فزعت منه؟ فقال: يجوز أن يفزع منه فكلنا نفزع منه إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، و لم يزل منذ أن ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا و غيظا على أعداء الله و أهل معصيته فينتقم الله به منهم، و لو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك فسلمت عليه فرد السلام علي و بشرني بالجنة.
فقلت لجبرئيل و جبرئيل بالمكان الذي وصفه الله {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أ لا تأمره
أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمدا النار فكشف عنها غطاءها و فتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء و فارت و ارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت فقلت: يا جبرئيل! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه.
ثم مضيت فرأيت رجلا آدما جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم - فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول: روح طيبة و ريح طيبة من جسد طيب ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سورة المطففين على رأس سبع عشرة آية { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ} إلى آخرها قال: فسلمت على أبي آدم و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالابن الصالح و النبي الصالح المبعوث في الزمن الصالح.
قال: ثم مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس و إذا جميع الدنيا بين ركبتيه و إذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا و لا شمالا، مقبلا عليه كهيئة الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح فقلت: يا جبرئيل أدنني منه حتى أكلمه فأدناني منه فسلمت عليه، و قال له جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العباد فرحب بي و حياني بالسلام و قال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك فقلت: الحمد لله المنان ذي النعم على عباده ذلك من فضل ربي و رحمته علي فقال جبرئيل: هو أشد الملائكة عملا فقلت: أ كل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا تقبض روحه؟ فقال: نعم. قلت: و تراهم حيث كانوا و تشهدهم بنفسك؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لي و مكنني عليها إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، و ما من دار إلا و أنا أتصفحه كل يوم خمس مرات، و أقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه فإن لي فيكم عودة و عودة حتى لا يبقى منكم أحد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كفى بالموت طامة يا جبرئيل فقال جبرئيل: إن ما بعد الموت أطم و أطم من الموت.
قال: ثم مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب و لحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث و يدعون الطيب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين
يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من أمتك يا محمد.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ثم رأيت ملكا من الملائكة جعل الله أمره عجيبا نصف جسده النار و النصف الآخر ثلج فلا النار تذيب الثلج و لا الثلج تطفئ النار و هو ينادي بصوت رفيع و يقول: سبحان الذي كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج و كف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج و النار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا ملك وكله الله بأكناف السماء و أطراف الأرضين و هو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق.
و رأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول: اللهم أعط كل منفق خلفا و الآخر يقول: اللهم أعط كل ممسك تلفا.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم و يلقى في أفواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمازون اللمازون.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رءوسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا.
ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعة؟.
قال: ثم مضيت فإذا أنا بنسوان معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم و أكل خزائنهم.
ثم قال: مررنا بملائكة من ملائكة الله عز و جل خلقهم الله كيف شاء و وضع
وجوههم كيف شاء، ليس شيء من أطباق أجسادهم إلا و هو يسبح الله و يحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية الله فسألت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا إن الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة قط و لا رفعوا رءوسهم إلى ما فوقها و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفا من الله و خشوعا فسلمت عليهم فردوا علي إيماء برءوسهم لا ينظرون إلي من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولا و نبيا. و هو خاتم النبيين و سيدهم أ فلا تكلمونه؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا علي بالسلام و أكرموني و بشروني بالخير لي و لأمتي.
قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ فقال لي: ابنا الخالة يحيى و عيسى (عليه السلام) فسلمت عليهما و سلما علي و استغفرت لهما و استغفرا لي و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح و إذا فيها من الملائكة و عليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك إلا يسبح الله بحمده بأصوات مختلفة.
ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالنبي الصالح و الأخ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح، و إذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الأولى و الثانية، و قال لهم جبرئيل في أمري ما قال للآخرين و صنعوا في مثل ما صنع الآخرون.
ثم صعدنا إلى السماء الرابعة و إذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا إدريس رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات التي عبرناها فبشروني بالخير لي و لأمتي ثم رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.
ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه حوله ثلة من أمته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.
ثم صعدنا إلى السماء السادسة و إذا فيها رجل آدم طويل كأنه من شنوة و لو أن له قميصين لنفذ شعره فيهما و سمعته يقول: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم ولد آدم على الله و هذا رجل أكرم على الله مني فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.
قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلا قالوا: يا محمد احتجم و أمر أمتك بالحجامة، و إذا فيها رجل أشمط الرأس و اللحية جالس على كرسي فقلت: يا جبرئيل من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله؟ فقال: هذا يا محمد أبوك إبراهيم و هذا محلك و محل من اتقى من أمتك ثم قرأ رسول الله: {إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ} فسلمت عليه و سلم علي و قال: مرحبا بالنبي الصالح و الابن الصالح و المبعوث في الزمن الصالح و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشروني بالخير لي و لأمتي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و رأيت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ تلألؤها يخطف بالأبصار، و فيها بحار من ظلمة و بحار من ثلج ترعد فكلما فزعت و رأيت هولا سألت جبرئيل فقال: أبشر يا محمد و اشكر كرامة ربك و اشكر الله بما صنع إليك قال: فثبتني الله بقوته و عونه حتى كثر قولي لجبرئيل و تعجبي.
فقال جبرئيل: يا محمد تعظم ما ترى؟ إنما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى و ما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربك إن بين الله و بين خلقه سبعين ألف حجاب و أقرب الخلق إلى الله أنا و إسرافيل و بيننا و بينه أربعة حجب حجاب من نور و حجاب من الظلمة و حجاب من الغمامة و حجاب من الماء.
قال: و رأيت من العجائب التي خلق الله و سخر على ما أراده ديكا رجلاه في تخوم الأرضين السابعة و رأسه عند العرش و هو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ثم أقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة و انتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش و هو يقول: سبحان ربي حيثما كنت لا تدري أين ربك من عظم شأنه، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق و المغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال لا إله إلا الله الحي القيوم و إذا قال ذلك سبحت ديوك الأرض كلها و خفقت بأجنحتها و أخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الأرض كلها، و لذلك الديك زغب أخضر و ريش أبيض كأشد بياض ما رأيته قط، و له زغب أخضر أيضا تحت ريشه الأبيض كأشد خضرة ما رأيتها قط.
قال: ثم مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين و معي أناس من أصحابي عليهم ثياب جدد و آخرين عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد و جلس أصحاب الخلقان.
ثم خرجت فانقاد لي نهران نهر يسمى الكوثر و نهر يسمى الرحمة فشربت من الكوثر و اغتسلت من الرحمة ثم انقادا لي جميعا حتى دخلت الجنة و إذا على حافتيها بيوتي و بيوت أهلي و إذا ترابها كالمسك، و إذا جارية تنغمس في أنهار الجنة فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشرته بها حين أصبحت، و إذا بطيرها كالبخت، و إذا رمانها مثل الدلي العظام، و إذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة، و ليس في الجنة منزل إلا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله {طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ}.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فلما دخلت الجنة رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار و هولها و أعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب التي احتجب الله تبارك و تعالى بها و لو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شيء فيه.
و انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظل أمة من الأمم فكنت منها كما
قال الله تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} فناداني {آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فقلت: أنا مجيبا عني و عن أمتي: {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ} فقال الله: {لاَ يُكَلِّفُ اَللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ} فقلت: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فقال الله: لا أؤاخذك، فقلت: {رَبَّنَا وَ لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فقال الله: لا أحملك فقلت: {رَبَّنَا وَ لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ اُعْفُ عَنَّا وَ اِغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ} فقال الله تبارك و تعالى: قد أعطيتك ذلك لك و لأمتك، فقال الصادق (عليه السلام) ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين سأل لأمته هذه الخصال.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا رب أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني فقال الله: قد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول و لا قوة إلا بالله، و لا منجا منك إلا إليك.
قال: و علمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت و أمسيت: اللهم إن ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك، و ذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك و ذلي أصبح مستجيرا بعزتك، و فقري أصبح مستجيرا بغناك و وجهي الفاني أصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذي لا يفنى، و أقول ذلك إذا أمسيت.
ثم سمعت الأذان فإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة فقال: الله أكبر الله أكبر فقال الله: صدق عبدي أنا أكبر من كل شيء فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله» فقال الله: صدق عبدي أنا الله لا إله إلا أنا و لا إله غيري فقال: «أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله» فقال الله: صدق عبدي أن محمدا عبدي و رسولي أنا بعثته و انتجبته فقال: «حي على الصلاة حي على الصلاة» فقال: صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت له كفارة لما مضى من ذنوبه فقال: «حي على الفلاح حي على الفلاح» فقال الله: هي الصلاح و النجاح و الفلاح. ثم أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.
قال: ثم غشيتني ضبابة فخررت ساجدا فناداني ربي أني قد فرضت على كل نبي
كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على أمتك فقم بها أنت في أمتك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فانحدرت حتى مررت على إبراهيم فلم يسألني عن شيء حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمد؟ فقلت قال ربي: فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على أمتك. فقال موسى: يا محمد إن أمتك آخر الأمم و أضعفها و إن ربك لا يزيده شيء و إن أمتك لا تستطيع أن تقوم بها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.
فرجعت إلى ربي حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجدا ثم قلت: فرضت علي و على أمتي خمسين صلاة و لا أطيق ذلك و لا أمتي فخفف عني فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربي فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع و في كل رجعة أرجع إليه أخر ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربي فوضع عني خمسا فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربي و لكن أصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كل صلاة بعشر، و من هم من أمتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا و إن لم يعمل كتبت له واحدة، و من هم من أمتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة و إن لم يعملها لم أكتب عليه.
فقال الصادق (عليه السلام): جزى الله موسى عن هذه الأمة خيرا فهذا تفسير قول الله: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ}.
أقول: و قد ورد ما يقرب مما قصته هذه الرواية في روايات كثيرة جدا من طرق الشيعة و أهل السنة، و قوله في الرواية «رجلا آدما» يقال: رجل آدم أي أسمر اللون، و الطامة هي الأمر الشديد الذي يغلب ما سواه، و لذلك سميت القيامة بالطامة، و الأكتاف جمع كتف و المراد الأطراف و النواحي، و قوله: «فوقع في نفس رسول الله أنه هو» أي أنه الملك الذي يدبر أمر العالم و ينتهي إليه كل أمر.
و قوله: شنوة بالشين و النون و الواو و ربما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة،
و قوله: «أشمط الرأس و اللحية» الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، و الزغب أول ما يبدو من الشعر و الريش و صغارهما، و البخت الإبل الخراساني و الدلي بضم الدال و كسر اللام و تشديد الياء جمع دلو على فعول، و الصبابة بفتح الصاد المهملة و الباء الموحدة الشوق و الهوى الرقيق و بالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق.
و في أمالي الصدوق، عن أبيه عن علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق فأتيا بيت المقدس و عرض عليه محاريب الأنبياء و صلى بها و رده فمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في رجوعه بعير لقريش و إذا لهم ماء في آنية و قد أضلوا بعيرا لهم و كانوا يطلبونه فشرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من ذلك الماء و أهرق باقيه.
فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لقريش: إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس و أراني آثار الأنبياء و منازلهم، و إني مررت بعير لقريش في موضع كذا و كذا و قد أضلوا بعيرا لهم فشربت من مائهم و أهرقت باقي ذلك فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الأساطين فيها و القناديل؟ فقالوا: يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم أساطينه و قناديله و محاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه فلما أخبرهم، قالوا: حتى يجيء العير و نسألهم عما قلت، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.
فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة و يقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق فسألوهم عما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل لنا في موضع كذا و كذا، و وضعنا ماء فأصبحنا و قد أهريق الماء فلم يزدهم ذلك إلا عتوا.
أقول: و في معناها روايات أخرى من طرق الفريقين.
و فيه بإسناده عن عبد الله بن عباس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما أسري به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور و هو قوله عز و جل: {جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ
وَ اَلنُّورَ} فلما انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمد اعبر على بركة الله فقد نور الله لك بصرك و مر لك أمامك فإن هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرب و لا نبي مرسل غير أن لي في كل يوم اغتماسة فيه ثم أخرج منه فأنفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلا خلق الله تبارك و تعالى منها ملكا مقربا له عشرون ألف وجه و أربعون ألف لسان كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الآخر.
فعبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى انتهى إلى الحجب و الحجب خمس مائة حجاب من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثم قال: تقدم يا محمد فقال له: يا جبرئيل و لم لا تكون معي؟ قال: ليس لي أن أجوز هذا المكان فتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما شاء الله أن يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك و تعالى: أنا المحمود و أنت محمد شققت اسمك من اسمي فمن وصلك وصلته و من قطعك بتكته انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي إياك و أني لم أبعث نبيا إلا جعلت له وزيرا و أنك رسولي و أن عليا وزيرك.
و في المناقب، عن ابن عباس في خبر: و سمع - يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) - صوتا «آمنا برب العالمين» قال - يعني جبرئيل -: هؤلاء سحرة فرعون، و سمع لبيك اللهم لبيك قال: هؤلاء الحجاج، و سمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، و سمع التسبيح قال: هؤلاء الأنبياء.
فلما بلغ إلى سدرة المنتهى و انتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت.
و في الإحتجاج، عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما احتج على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرءوف الرحيم فرأيته بقلبي و ما رأيته بعيني. (الخبر).
و في الكافي، بإسناده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (عليه السلام) في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى أبي جعفر (عليه السلام) في ركن البيت و قد اجتمع إليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي
فقال: اشهد لآتينه فلأسألنه من مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي أو ابن نبي.
قال: فاذهب إليه و اسأله لعلك تخجله.
فجاء نافع حتى اتكى على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (عليه السلام) و قال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي. قال: فرفع أبو جعفر (عليه السلام) رأسه و قال: سل عما بدا لك.
فقال: أخبرني كم بين عيسى و بين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك قال: أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما في قولك فستمائة سنة، قال فأخبرني عن قول الله عز و جل: {وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ جَعَلْنَا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} من الذي سأله محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان بينه و بين عيسى (عليه السلام) خمسمائة سنة؟.
قال: فتلا أبو جعفر (عليه السلام) هذه الآية: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} فكان من الآيات التي أراها الله تبارك و تعالى محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) حيث أسري به إلى البيت المقدس أن حشر الله الأولين و الآخرين من النبيين و المرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعا و أقام شفعا، و قال في أذانه حي على خير العمل ثم تقدم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فصلى بالقوم.
فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون؟ ما كنتم تعبدون؟ قالوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا و مواثيقنا. فقال: نافع: صدقت يا أبا جعفر.
و في العلل، بإسناد عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك قلت: فلم أسرى بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه.
قلت: فقول الله عز و جل: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} قال: ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من
تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.
و في تفسير القمي، بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعدا و أبو جعفر (عليه السلام) في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة و إلى الكعبة مرة ثم قال: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى} و كرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إلي فقال: أي شيء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت: يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس. فقال: ليس هو كما يقولون و لكنه أسري به من هذه إلى هذه و أشار بيده إلى السماء و قال: ما بينهما حرم.
قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا جبرئيل أ في مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت ربي و حال بيني و بينه السبحة قلت: و ما السبحة جعلت فداك؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض و أومأ بيده إلى السماء و هو يقول: جلال ربي جلال ربي، ثلاث مرات. قال: يا محمد قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني.
قال: فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى و لا عما بقي إلا علمته فقال: يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الدرجات و الكفارات و الحسنات فقال: يا محمد إنه قد انقضت نبوتك و انقطع أكلك فمن وصيك فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر فيهم من خلقك أحدا أطوع لي من علي فقال: و لي يا محمد فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحدا أشد حبا لي من علي بن أبي طالب قال: و لي يا محمد فبشره بأنه آية الهدى و إمام أوليائي و نور لمن أطاعني و الكلمة الباقية التي ألزمتها المتقين من أحبه أحبني و من أبغضه أبغضني مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحدا فقلت: يا رب أخي و صاحبي و وزيري و وارثي فقال: إنه أمر قد سبق أنه مبتلى و مبتلى به مع ما أني قد نحلته و نحلته و نحلته و نحلته أربعة أشياء عقدها بيده و لا يفصح بما عقدها.
أقول: قوله (عليه السلام): «و لكنه أسري به من هذه إلى هذه» أي من الكعبة إلى البيت المعمور، و ليس المراد به نفي الإسراء إلى بيت المقدس و لا تفسير المسجد
الأقصى في الآية بالبيت المعمور بل المراد نفي أن ينتهي الإسراء إلى بيت المقدس و لا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدس.
و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «فرأيت ربي» أي شاهدته بعين قلبي كما تقدم في بعض الروايات السابقة و يؤيده تفسير الرؤية بذلك في روايات أخر.
و قوله: «و حالت بيني و بينه السبحة» أي بلغت من القرب و الزلفى مبلغا لم يبق بيني و بينه إلا جلاله، و قوله: فوضع يده بين ثديي «إلخ» كناية عن الرحمة الإلهية، و محصله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كل ريب و شك.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أتيت بالبراق و هو دابة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين.
ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي و دعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم و يحيى بن زكريا فرحبا بي و دعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف و إذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي و دعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي و دعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك، قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي و دعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي و دعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور و إذا يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة و إذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى إلي ما أوحى و فرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل و خبرتهم.
فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي و موسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات لكل يوم و ليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، و من هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه.
أقول: و قد روي الخبر عن أنس بطرق مختلفة منها ما عن البخاري و مسلم و ابن جرير و ابن مردويه من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس قال: ليلة أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه و هو نائم في
المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه و تنام عيناه و لا ينام قلبه و كذلك الأنبياء تنام أعينهم و لا ينام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره و جوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب محشوا إيمانا و حكمة فحشا به صدره و لغاديده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى سماء الدنيا ثم ساق الحديث نحوا مما تقدم.
و الذي وقع فيه من شق بطن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غسله و إنقائه ثم حشوه إيمانا و حكمة حال مثالية شاهدها و ليس بالأمر المادي كما ربما يزعم، و يشهد به حشوه إيمانا و حكمة و أخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثالية و التمثلات الروحية، و قد ورد هذا المعنى في عدة من أخبار المعراج المروية من طرق القوم و لا ضير فيه كما لا يخفى.
و ظاهر الرواية أن معراجه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قبل البعثة و أنه كان في المنام أما كونه قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الإسراء و هي أكثر من أن تحصى و قد اتفق على ذلك علماء هذا الشأن.
على أن الحديث نفسه يدفع كون الإسراء قبل البعثة و قد اشتمل على فرض الصلوات و كونها أولا خمسين ثم سؤال التخفيف بإشارة من موسى (عليه السلام) و لا معنى للفرض قبل النبوة فمن الحري أن يحمل صدر الحديث على أن الملائكة أتوه أولا قبل أن يوحى إليه ثم تركوه ثم جاءوه ليلة أخرى بعد بعثته و قد ورد في بعض رواياتنا أن الذين كانوا نائمين معه في المسجد ليلة أسري به هم حمزة بن عبد المطلب و جعفر و علي ابنا أبي طالب.
و أما ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن - على بعد - أن يكون ناظرا إلى ما ذكر فيه من حديث الشق و الغسل لكن الأظهر أن المراد به وقوع الإسراء بجملته في المنام كما يدل عليه ما يأتي من الروايات.
و في الدر المنثور أيضا أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان :أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال كانت رؤيا من الله صادقة.
أقول: و ظاهر الآية الكريمة {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ } - إلى قوله - {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} يرده، و كذا آيات صدر سورة النجم و فيها مثل قوله: {مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى} على أن الآيات في سياق الامتنان و فيها ثناء على الله سبحانه بذكر بديع رحمته و عجيب قدرته، و من الضروري أن ذلك لا يتم برؤيا يراها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الرؤيا يراها الصالح و الطالح و ربما يرى الفاسق الفاجر ما هو أبدع مما يراه المؤمن المتقي و الرؤيا لا تعد عند عامة الناس إلا نوعا من التخيل لا يستدل به على شيء من القدرة و السلطنة بل غاية ما فيها أن يتفاءل بها فيرجى خيرها أو يتطير بها فيخاف شرها.
و فيه أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن عائشة قالت :ما فقدت جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لكن الله أسرى بروحه.
أقول: و يرد عليه ما ورد على سابقه على أنه يكفي في سقوط الرواية اتفاق كلمة الرواة و أرباب السير على أن الإسراء كان قبل الهجرة بزمان و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان و الآية أيضا صريحة في إسرائه (صلى الله عليه وآله و سلم) من المسجد الحرام.
و فيه أخرج الترمذي و حسنه و الطبراني و ابن مردويه عن ابن مسعود: قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرأ أمتك مني السلام و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء و أنها قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله.
و فيه أخرج الطبراني عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقعت على شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها و لا أبيض ورقا و لا أطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيدة عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يكثر تقبيل فاطمة فأنكرت ذلك عائشة فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى و ناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها.
و في الدر المنثور أخرج الطبراني في الأوسط، عن ابن عمر: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان فنزل به فعلمه جبريل.
و فيه أخرج ابن مردويه عن علي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) علم الأذان ليلة أسري به و فرضت عليه الصلاة.
و في العلل، بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شيء ففرغ قلبك لتفهم. أن أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدام عرشه جل جلاله.
و ذلك أنه لما أسري به و صار عند عرشه تبارك و تعالى قال: يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهرها و صل لربك فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم استقبل الجبار تبارك و تعالى قائما فأمره بافتتاح الصلاة ففعل.
فقال: يا محمد اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها ففعل ذلك ثم أمره أن يقرأ نسبة ربه تبارك و تعالى بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد الله الصمد ثم أمسك عنه القول فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قل هو الله أحد الله الصمد فقال: قل: لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد فأمسك عنه القول فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كذلك الله ربي كذلك الله ربي.
فلما قال ذلك قال: اركع يا محمد لربك فركع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له و هو راكع: قل سبحان ربي العظيم و بحمده ففعل ذلك ثلاثا، ثم قال: ارفع رأسك يا محمد ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقام منتصبا بين يدي الله فقال: اسجد يا محمد لربك
فخر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ساجدا فقال: قل: سبحان ربي الأعلى و بحمده ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثا فقال: استو جالسا يا محمد ففعل فلما استوى جالسا ذكر جلال ربه جل جلاله فخر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ساجدا من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربه عز و جل فسبح أيضا ثلاثا فقال: انتصب قائما ففعل فلم ير ما كان رأى من عظمة ربه جل جلاله.
فقال له: اقرأ يا محمد و افعل كما فعلت في الركعة الأولى ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم سجد سجدة واحدة فلما رفع رأسه ذكر جلال ربه تبارك و تعالى فخر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ساجدا من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربه عز و جل فسبح أيضا ثم قال له: ارفع رأسك ثبتك الله و اشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور اللهم صل على محمد و آل محمد كما صليت و باركت و ترحمت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم تقبل شفاعته في أمته و ارفع درجته ففعل.
فقال: يا محمد و استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه تبارك و تعالى وجهه مطرقا فقال: السلام عليك فأجابه الجبار جل جلاله فقال: و عليك السلام يا محمد بنعمتي قويتك على طاعتي و بعصمتي اتخذتك نبيا و حبيبا.
ثم قال أبو الحسن: (عليه السلام) و إنما كانت الصلاة التي أمر بها ركعتين و سجدتين و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما سجد سجدتين في كل ركعة كما أخبرتك من تذكره لعظمة ربه تبارك و تعالى فجعله الله عز و جل فرضا.
قلت: جعلت فداك و ما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة و هو ما قال الله عز و جل: { ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ} إنما أمره أن يتوضأ و يقرأ و يصلي.
أقول: و في معناه روايات أخر.
و في الكافي، بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط و لا نبي
إن ربك يصلي فقال: يا جبرئيل و كيف يصلي؟ فقال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة و الروح سبقت رحمتي غضبي فقال: اللهم عفوك عفوك.
قال: و كان كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى فقال له أبو بصير: جعلت فداك و ما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها فقال. بينهما حجاب يتلألأ و لا أعلمه إلا و قد قال: من زبرجد فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة (الحديث).
أقول: و آيات صدر سورة النجم تؤيد ما في الرواية من وقوع المعراج مرتين ثم الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فإن الأصل في معنى الصلاة الميل و الانعطاف، و هو من الله سبحانه الرحمة و من العبد الدعاء كما قيل، و اشتمال ما أخبر به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله: «سبقت رحمتي غضبي» يؤيده ما ذكرناه و لذلك أيضا أوقفه جبرئيل في الموقف الذي أوقفه و ذكر له أنه موطأ ما وطئه أحد قبله و ذلك أن لازم ما وصفه بهذا الوصف أن يكون الموقف هو الحد الفاصل بين الخلق و الخالق و آخر ما ينتهي إليه الإنسان من الكمال فهو الحد الذي يظهر فيه الرحمة الإلهية و تفاض على ما دونه و لهذا أوقف (صلى الله عليه وآله و سلم) لمشاهدته.
و في المجمع - و هو ملخص من الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أتاني جبرائيل و أنا بمكة فقال: قم يا محمد فقمت معه و خرجت إلى الباب فإذا جبرائيل و معه ميكائيل و إسرافيل فأتى جبرائيل بالبراق و كان فوق الحمار و دون البغل خده كخد الإنسان و ذنبه كذنب البقر و عرفه كعرف الفرس و قوائمه كقوائم الإبل عليه رحل من الجنة و له جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت و مضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس.
ثم ساق الحديث إلى أن قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة و الكرامة من عند رب العزة و صليت في بيت المقدس، و في بعضها - بشر لي إبراهيم - في رهط من الأنبياء ثم وصف موسى و عيسى ثم أخذ جبرائيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا و جمالا.
فصعدت إلى السماء الدنيا و رأيت عجائبها و ملكوتها و ملائكتها يسلمون علي ثم صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريا. ثم
صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت فيها إدريس. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فرأيت فيها هارون ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض و فيها الكروبيون ثم صعد بي إلى السماء السابعة فأبصرت فيها خلقا و ملائكة - و في حديث أبي هريرة رأيت في السماء السادسة موسى، و رأيت في السماء السابعة إبراهيم -.
قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين - و وصف ذلك إلى أن قال -: ثم كلمني ربي و كلمته و رأيت الجنة و النار، و رأيت العرش و سدرة المنتهى ثم رجعت إلى مكة فلما أصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل و المشركون و قال مطعم بن عدي: أ تزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب.
قالوا: ثم قالت قريش، أخبرنا عما رأيت فقال: مررت بعير بني فلان و قد أضلوا بعيرا لهم و هم في طلبه و في رحلهم قعب ۱مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا: هذه آية واحدة.
قال: و مررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك فقالوا: هذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم و بين لهم أحمالها و هيئاتها و قال: يقدمها جمل أورق عليه فزارتان محيطتان و تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية أخرى.
ثم خرجوا يشتدون نحو التيه و هم يقولون: لقد قضى محمد بيننا و بينه قضاء بينا، و جلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه؟ فقال قائل: و الله إن الشمس قد طلعت. و قال آخر: و الله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فبهتوا و لم يؤمنوا.
و في تفسير العياشي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) صلى العشاء الآخرة و صلى الفجر في الليلة التي أسري به بمكة.
أقول: و في بعض الأخبار أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) صلى المغرب بالمسجد الحرام ثم أسري به و لا منافاة بين الروايتين و كذا لا منافاة بين كونه صلى المغرب أو العشاء الآخرة و الفجر
بمكة و بين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الإسراء فإن فرض أصل الصلاة كان قبل ذلك، و أما أنها كم ركعة كانت فغير معلوم غير أن الآثار تدل على أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيا و في سورة العلق: {أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذَا صَلَّى} و قد روي أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يصلي بعلي و خديجة (عليه السلام) بالمسجد الحرام قبل أن يعلن دعوته بمدة.
و في الكافي، عن العامري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن و الحسين (عليه السلام) زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سبع ركعات شكرا لله فأجاز الله له ذلك و ترك الفجر لم يزد فيها لأنه يحضرها ملائكة الليل و ملائكة النهار فلما أمره الله بالتقصير في السفر وضع عن أمته ست ركعات و ترك المغرب لم ينقص منه شيئا، و إنما يجب السهو فيما زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فمن شك في أصل الفرض في الركعتين الأوليين استقبل صلاته.
و روى الصدوق في الفقيه، بإسناده عن سعيد بن المسيب: أنه سأل علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام و كتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين و في العصر ركعتين و في المغرب ركعة و في العشاء الآخرة ركعتين، و أقر الفجر على ما فرضت بمكة. (الحديث).
و في الدر المنثور أخرج أحمد و النسائي و البزاز و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: ماشطة بيت فرعون و أولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: بلى ربي و ربك و رب أبيك قالت: أ و لك رب غير أبي؟ قالت نعم قالت: فأخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم.
فأخبرته فدعاها فقال: أ لك رب غيري؟ قالت: نعم ربي و ربك الله الذي في السماء فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها و أولادها. قالت: إن لي إليك حاجة قال: و ما هي؟ قالت: تجمع عظامي و عظام ولدي فتدفنه جميعا. قال:
ذلك لك لما لك علينا من حق فألقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم قال: نعي يا أمه و لا تقاعسي فإنك على الحق فألقيت هي و ولدها.
قال ابن عباس: و تكلم أربعة و هم صغار: هذا و شاهد يوسف و صاحب جريح و عيسى بن مريم.
أقول: و روي من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ليلة أسري بي مررت بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون.
أقول: و هذا النوع من التمثلات البرزخية التي تصور الأعمال بنتائجها و العذابات المعدة لها كثيرة الورود في أخبار الإسراء و قد تقدم شطر منها في ضمن الروايات.
و اعلم أن ما أوردناه من أخبار الإسراء نبذة يسيرة منها و هي كثيرة بالغة حد التواتر رواها جم غفير من الصحابة كأنس بن مالك و شداد بن الأوس و علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و عبد الله بن مسعود و عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و أبي بن كعب و سمرة بن جندب و بريدة و صهيب بن سنان و حذيفة بن اليمان و سهل بن سعد و أبو أيوب الأنصاري و جابر بن عبد الله و أبو الحمراء و أبو الدرداء و عروة و أم هاني و أم سلمة و عائشة و أسماء بنت أبي بكر كلهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و روتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و قد اتفقت أقوال من يعتنى بقوله من علماء الإسلام على أن الإسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} الآية، و يدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخباره (صلى الله عليه وآله و سلم) قريشا بذلك صبيحة ليلته و إنكارهم ذلك عليه و إخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى و ما لقيه في الطريق من العير و غير ذلك.
ثم اختلفوا في السنة التي أسري به (صلى الله عليه وآله و سلم) فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما
عن ابن عباس، و قيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج، عن علي (عليه السلام). و قيل في السنة الخامسة، أو السادسة، و قيل بعد البعثة بعشر سنين و ثلاثة أشهر، و قيل: في السنة الثانية عشرة منها، و قيل: قبل الهجرة بسنة و خمسة أشهر، و قيل: قبلها بسنة و ثلاثة أشهر، و قيل: قبلها بستة أشهر.
و لا يهمنا الغور في البحث عن ذلك و لا عن الشهر و اليوم الذي وقع فيه الإسراء و لا مستند يصح التعويل عليه لكن ينبغي أن يتنبه أن من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما يصرح بوقوع الإسراء مرتين، و هو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه: {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره.
و على هذا فمن الجائز أن يكون ما وصفه (صلى الله عليه وآله و سلم) في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعا إلى ما شاهده في الإسراء الأول و بعض ما وصفه في بعض آخر راجعا إلى الإسراء الثاني، و بعضه مما شاهده في الإسراءين معا.
ثم اختلفوا في المكان الذي أسري به (صلى الله عليه وآله و سلم) منه فقيل: أسري به من شعب أبي طالب و قيل: أسري به من بيت أم هاني و في بعض الروايات دلالة على ذلك و قد أولوا قوله تعالى: {أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} إلى أن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازا فيشمل مكة، و قيل: أسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه و لا دليل على التأويل.
و من الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الإسراء مرتين أن يكون أحد الإسراءين من المسجد الحرام و الآخر من بيت أم هاني، و أما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات أن أبا طالب كان يطلبه طول ليلته و أنه اجتمع هو و بنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه و هدد قريشا إن لم يحصل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم نزوله من السماء و مجيئه إليهم و إخباره قريشا بما رأى كل ذلك لا يلائم ما كان هو (صلى الله عليه وآله و سلم) و بنو هاشم جميعا عليه من الشدة و البلية أيام كانوا في الشعب.
و على أي حال فالإسراء الذي تعطيه الآية: {سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى} و هو الإسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه
المسجد الحرام لكمال ظهور الآية و لا موجب للتأويل.
ثم اختلفوا في كيفية الإسراء فقيل: كان إسراؤه (عليه السلام) بروحه و جسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماوات و عليه الأكثر و قيل: كان بروحه و جسده من مكة إلى بيت المقدس ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات و عليه جمع، و قيل: كان بروحه (عليه السلام) و هو رؤيا صادقة أراها الله نبيه و نسب إلى بعضهم.
قال في المناقب، :اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، و قالت الجهمية: عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، و قالت الإمامية و الزيدية و المعتزلة: بل عرج بروحه و بجسمه إلى البيت المقدس لقوله تعالى: {إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى} و قال آخرون: بل عرج بروحه و بجسمه إلى السماوات روي ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود و جابر و حذيفة و أنس و عائشة و أم هاني.
و نحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة، و قد جعل الله معراج موسى إلى الطور {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ} و لإبراهيم إلى السماء الدنيا {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} و لعيسى إلى الرابعة {بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ} و لإدريس إلى الجنة {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} و لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} و ذلك لعلو همته. انتهى.
و الذي ينبغي أن يقال أن أصل الإسراء مما لا سبيل إلى إنكاره فقد نص عليه القرآن و تواترت عليه الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).
و أما كيفية الإسراء فظاهر الآية و الروايات بما يحتف بها من القرائن ظهورا لا يقبل الدفع أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بروحه و جسده جميعا، و أما العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي إن شاء الله في تفسيرها و صريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، و لا سبيل إلى إنكاره من أصله غير أنه من الجائز أن يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام و من نوع ما يراه النائم من الرؤى، و لو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الآيات بسياقها من إظهار المقدرة و الكرامة معنى، و لا لذاك الإنكار الشديد الذي أظهرته قريش عند ما قص (عليه السلام) لهم القصة وجه، و لا لما أخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.
بل ذلك - إن كان - بعروجه (صلى الله عليه وآله و سلم) بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون و ينتهي إليه الأعمال و يصدر منه الأقدار و رأى عند ذلك من آيات ربه الكبرى و تمثلت له حقائق الأشياء و نتائج الأعمال و شاهد أرواح الأنبياء العظام و فاوضهم و لقي الملائكة الكرام و سامرهم، و رأى من الآيات الإلهية ما لا يوصف إلا بالأمثال كالعرش و الحجب و السرادقات.
و القوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي و قصر الوجود غير المادي فيه تعالى لما وجدوا الكتاب و السنة يصفان أمورا غير محسوسة بتمثيلها في خواص الأجسام المحسوسة كالملائكة الكرام و العرش و الكرسي و اللوح و القلم و الحجب و السرادقات حملوا ذلك على كونها أجساما مادية لا يتعلق بها الحس و لا يجري فيها أحكام المادة، و حملوا أيضا ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين و معارج القرب و بواطن صور المعاصي و نتائج الأعمال و ما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه و الاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس و إثبات الروابط الجزافية بين الأعمال و نتائجها و غير ذلك من المحاذير.
و لذلك أيضا لما نفى النافون منهم كون عروجه (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى السماوات بجسمه المادي اضطروا إلى القول بكونه في المنام و هو عندهم خاصة مادية للروح المادي و اضطروا لذلك إلى تأويل الآيات و الروايات بما لا تلائمه و لا واحدة منها.
بحث آخر:
قال في مجمع البيان: فأما الموضع الذي أسري إليه أين كان فإن الإسراء إلى بيت المقدس، و قد نص به القرآن و لا يدفعه مسلم، و ما قاله بعضهم: إن ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه و لا برهان.
و قد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى السماء و رواها كثير من الصحابة مثل ابن عباس و ابن مسعود و أنس و جابر بن عبد الله و حذيفة و عائشة و أم هاني و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و زاد بعضهم و نقص بعض و تنقسم جملتها إلى أربعة أوجه.
أحدها: ما يقطع على صحتها لتواتر الأخبار به و إحاطة العلم بصحته.
و ثانيها: ما ورد في ذلك مما يجوزه العقول و لا يأباه الأصول فنحن نجوزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه.
و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى تأويله على وجه يوافق الحق و الدليل.
و رابعها: ما لا يصح ظاهره و لا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد فالأولى أن لا نقبله.
فأما الأول المقطوع به فهو أنه أسري به على الجملة، و أما الثاني فمنه ما روي أنه طاف في السماوات و رأى الأنبياء و العرش و سدرة المنتهى و الجنة و النار و نحو ذلك.
و أما الثالث فنحو ما روي أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها و قوما في النار يعذبون فيها فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم، و أما الرابع فنحو ما روي أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كلم الله جهرة و رآه و قعد معه على سريره و نحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، و الله سبحانه متقدس عن ذلك و كذلك، ما روي أنه شق بطنه و غسله لأنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان طاهرا مطهرا من كل سوء و عيب و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى.
و ما ذكره من التقسيم في محله غير أن غالب ما أورده من الأمثلة للأقسام منظور فيه فما ذكره من الطواف و رؤية الأنبياء و نحو ذلك تمثلات برزخية أو روحية و كذا ما ذكره من حديث شق البطن و الغسل تمثل برزخي لا ضير فيه و أحاديث الإسراء مملوءة من ذكر هذا النوع من التمثل كتمثل الدنيا في هيئة مرأة عليها من كل زينة الدنيا، و تمثل دعوة اليهودية و النصرانية و ما شاهده من أنواع النعيم و العذاب لأهل الجنة و النار و غير ذلك.
و مما يؤيد هذا الذي ذكرناه ما في السنة هذه الأخبار من الاختلاف في بيان حقيقة واحدة كما في بعضها من صعوده (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى السماء بالبراق و في آخر على جناح جبريل و في آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدس إلى السماء إلى غير ذلك مما يعثر عليه الباحث المتدبر في خلال هذه الروايات.
فهذه و أمثالها ترشد إلى أن هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثل الروحي، و وقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب و السنة مما لا سبيل إلى إنكاره البتة.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٢ الی ٨]
{وَ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ٣ وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ٤ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ اَلدِّيَارِ وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ٦ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ٧ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ٨}
(بيان)
الظاهر من سياق آيات صدر السورة أنها مسوقة لبيان أن السنة الإلهية في الأمم الإنسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية و سبيل التوحيد و أمكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فآتاهم من نعم الدنيا و الآخرة، و أمدهم بأسباب الطاعة و المعصية فإن أطاعوا و أحسنوا أثابهم بسعادة الدنيا و الآخرة، و إن أساءوا و عصوا جازاهم بنكال الدنيا و عذاب الآخرة.
و على هذا فهذه الآيات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بني إسرائيل أنزل الله على نبيهم الكتاب و جعله لهم هدى يهتدون به و قضى إليهم فيه أنهم سيعلون و يطغون و يفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالإذلال و القتل
و الأسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة و الرحمة ثم يستعلون و يطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا بأشد مما في المرة الأولى ثم من المرجو أن يرحمهم ربهم و إن يعودوا يعد.
و من ذلك يستنتج أن الآيات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامة في هذه الأمة، و الآيات السبع كالمعترضة بين الآية الأولى و التاسعة.
قوله تعالى: {وَ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد و العمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية و العملية التي عليهم أن يأخذوها و يتلبسوا بها، و لعله لذلك قيل: {وَ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ} و لم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم.
و بذلك يظهر أن قوله: {وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} بمنزلة التفسير لإيتائه الكتاب. و كونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التي لو أخذوها و عملوا بها لاهتدوا إلى الحق و نالوا سعادة الدارين.
و قوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} أن: فيه للتفسير و مدخولها محصل ما يشتمل عليه الكتاب الذي جعل هدى لهم فيئول المعنى إلى أن محصل ما كان الكتاب يبينه لهم و يهديهم إليه هو نهيه إياهم أن يشركوا بالله شيئا و يتخذوا من دونه وكيلا فقوله: {أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} تفسيرا لقوله: {وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} إن كان ضمير {أَلاَّ تَتَّخِذُوا} عائدا إليهم كما هو الظاهر، و تفسير لجميع ما تقدمه إن احتمل رجوعه إلى موسى و بني إسرائيل جميعا.
و في الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده و وجهه بيان كون التكلم مع الغير لغرض التعظيم و جريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كأن يقال: «أن لا تتخذوا من دوننا وكلاء» لا يناسب معنى التوحيد الذي سيقت له الجملة، و لذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}.
و رجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك إنما هو من جهة أن الوكيل هو الذي
يكفل إصلاح الشئون الضرورية لموكله و يقدم على رفع حوائجه و هو الله سبحانه فاتخاذ غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه.
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} تطلق الذرية على الأولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بآبائهم، و هي على ما يهدي إليه السياق منصوبة على الاختصاص و يفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو بمنزلة التعليل كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ} الأحزاب - ٣٣ أي ليفعل بكم ذلك لأنكم أهل بيت النبوة.
فقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما أن قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.
أما الأول فلأن الظاهر أن تعلق العناية بهم إنما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لأهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان و أمر نوحا بالهبوط بقوله: {يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} هود: ٤٨ ففي إنزاله الكتاب لموسى و جعله هدى لبني إسرائيل إنجاز للوعد الحسن الذي سبق لآبائهم من أهل السفينة و جرى على السنة الإلهية الجارية في الأمم فكأنه قيل: أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل لأنهم ذرية من حملنا مع نوح و قد وعدناهم السلام و البركات و التمتيع.
و أما الثاني فلأن هذه السنة أعني سنة الهداية و الإرشاد و طريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنة التي كان نوح (عليه السلام) أول من قام بها في العالم البشري فشكر بذلك نعمة الله و أخلص له في العبودية و قد تقدم مرارا أن الشكر بحقيقته يلازم الإخلاص في العبودية فشكر الله له، و جعل سنته باقية ببقاء الدنيا، و سلم عليه في العالمين، و أثابه بكل كلمة طيبة و عمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} الصافات: ٨٠.
فيتلخص معنى الآيتين في مثل قولنا: إنا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا أنا أبقينا دعوته و أجرينا سنته و طريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة و من ذلك أنا أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل.
و يظهر من قوله في الآية: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} و من قوله: { وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ} أن الناس ذرية نوح (عليه السلام) من جهة الابن و البنت معا، و لو كانت الذرية منتهية إلى أبنائه فقط و كان المراد بقوله: {مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أبناءه فقط كان الأحسن بل المتعين أن يقال: ذرية نوح و هو ظاهر.
و للقوم في إعراب الآية وجوه أخرى كثيرة كقول من قال: إن {ذُرِّيَّةَ} منصوب على النداء بحذف حرفه، و التقدير يا ذرية من حملنا، و قيل: مفعول أول لقوله: تتخذوا و مفعوله الثاني قوله: {وَكِيلاً} و التقدير أن لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني، و قيل: بدل من موسى في الآية السابقة و هي وجوه ظاهرة السخافة.
و يتلوها في ذلك قول من قال: إن ضمير {إِنَّهُ} عائد إلى موسى دون نوح و الجملة تعليل لإيتائه الكتاب أو لجعله (عليه السلام) هدى لبني إسرائيل بناء على رجوع ضمير {وَ جَعَلْنَاهُ} إلى موسى دون الكتاب.
قوله تعالى: {وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} قال الراغب في المفردات: القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، و كل واحد منهما على وجهين: إلهي و بشري فمن القول الإلهي قوله: {وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي أمر بذلك، و قال: {وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ} فهذا قضاء بالإعلام و الفصل في الحكم أي أعلمناهم و أوحينا إليهم وحيا جزما و على هذا {وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ}.
و من الفعل الإلهي قوله: {وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} و قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} إشارة إلى إيجاده الإبداعي و الفراغ منه نحو: {بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}.
قال: و من القول البشري نحو قضى الحاكم بكذا فإن حكم الحاكم يكون بالقول، و من الفعل البشري {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} انتهى موضع الحاجة.
و العلو هو الارتفاع و هو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم و التعدي و يشهد بذلك عطفه على الإفساد عطف التفسير، و في هذا المعنى قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً}.
و معنى الآية و أخبرنا و أعلمنا بني إسرائيل إخبارا قاطعا في الكتاب و هو التوراة: أقسم و أحق هذا القول أنكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض و هي أرض فلسطين و ما يتبعها مرتين مرة بعد مرة و تعلون علوا كبيرا و تطغون طغيانا عظيما.
قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} إلخ، قال الراغب: البؤس و البأس و البأساء الشدة و المكروه إلا أن البؤس في الفقر و الحرب أكثر و البأس و البأساء في النكاية نحو {وَ اَللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً}. انتهى موضع الحاجة.
و في المجمع: الجوس التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بني فلان و يجوسهم و يدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته و وطأته فقد حسته و جسته قال: و قيل: الجوس طلب الشيء باستقصاء. انتهى.
و قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا} تفريع على قوله: {لَتُفْسِدُنَّ} إلخ، و ضمير التثنية راجع إلى المرتين و هما الإفسادتان فالمراد بها الإفسادة الأولى، و المراد بوعد أولاهما ما وعدهم الله من النكال و النقمة على إفسادهم فالوعد بمعنى الموعود، و مجيء الوعد كناية عن وقت إنجازه، و يدل ذلك على أنه وعدهم على إفسادهم مرتين وعدين و لم يذكرا إنجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الأرض مرتين و نحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الأولى «إلخ» كل ذلك معونة السياق.
و قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أنهضناهم و أرسلناهم إليكم ليذلوكم و ينتقموا منكم، و الدليل على كون البعث للانتقام و الإذلال قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} إلخ.
و لا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع و الأسر و السبي و النهب و التخريب بعثا إلهيا لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض و علوهم و بغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم و تأييدهم عليهم و لكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
و بذلك يظهر أن لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: إن المراد بقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ «}إلخ» أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم و جهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: {بَعَثْنَا} و قوله {عِبَاداً} ذلك و ذلك لما عرفت أن عد ذلك بعثا إلهيا لا مانع فيه بعد ما كان
على سبيل المجازاة، و كذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}.
و نظيره قول من قال: يجوز أن يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين أمرهم الله بجهاد هؤلاء، و يجوز أن يكونوا كفارا فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء، و سلطهم على أمثالهم من الكفار و الفساق، و يرد عليه نظير ما يرد على سابقه.
و قوله: {وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} تأكيد لكون القضاء حتما لازما و المعنى فإذا جاء وقت الوعد الذي وعدناه على المرة الأولى من إفسادكم مرتين بعثنا و أنهضنا عليكم من الناس عبادا لنا أولي بأس و شدة شديدة فدخلوا بالقهر و الغلبة أرضكم و توسطوا في دياركم فأذلوكم و أذهبوا استقلالكم و علوكم و سؤددكم و كان وعدا مفعولا لا محيص عنه.
قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} قال في المجمع: الكرة معناه الرجعة و الدولة، و النفير العدد من الرجال قال الزجاج: و يجوز أن يكون جمع نفر كما قيل: العبيد و الضئين و المعيز و الكليب، و نفر الإنسان و نفره و نفيره و نافرته رهطه الذين ينصرونه و ينفرون معه انتهى.
و معنى الآية ظاهر، و ظاهرها أن بني إسرائيل ستعود الدولة لهم على أعدائهم بعد وعد المرة الأولى فيغلبونهم و يقهرونهم و يتخلصون من استعبادهم و استرقاقهم و أن هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم إمدادهم بأموال و بنين و جعلهم أكثر نفيرا.
و في قوله في الآية التالية: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} إشعار بل دلالة بمعونة السياق أن هذه الواقعة و هي رد الكرة لبني إسرائيل على أعدائهم إنما كانت لرجوعهم إلى الإحسان بعد ما ذاقوا وبال إساءتهم قبل ذلك كما أن إنجاز وعد الآخرة إنما كان لرجوعهم ثانيا إلى الإساءة بعد رجوعهم هذا إلى الإحسان.
قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} اللام في {لِأَنْفُسِكُمْ} و {فَلَهَا} للاختصاص أي إن كلا من إحسانكم و إساءتكم يختص بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، و هي سنة الله الجارية أن العمل يعود أثره و تبعته إلى صاحبه إن خيرا و إن شرا فهو كقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} البقرة - ١٤١.
فالمقام مقام بيان أن أثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، و ليس مقام بيان أن الإحسان ينفع صاحبه و الإساءة تضره حتى يقال: و إن أسأتم فعليها كما قيل: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ} البقرة: ٢٨٦.
فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم أن اللام في قوله: {وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} بمعنى على، و قول آخرين: إنها بمعنى إلى لأن الإساءة تتعدى بها يقال: أساء إلى فلان و يسيء إليه إساءة، و قول آخرين: إنها للاستحقاق كقوله: {وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
و ربما أورد على كون اللام للاختصاص بأن الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى أثر الإحسان إلى غير محسنه و أثر الإساءة إلى غير فاعلها و هو ظاهر.
و الجواب عنه أن فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الأعمال أما آثار الأعمال الأخروية فإنها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} الروم: ٤٤، و أما الآثار الدنيوية فإن الأعمال لا تؤثر أثرا في غير فاعلها إلا أن يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء و الامتحان فليس في مقدرة الفاعل أن يوصل أثر فعله إلى الغير دائما إلا أحيانا يريده الله لكن الفاعل يلحقه أثر فعله الحسن أو السيئ دائما من غير تخلف.
فللمحسن نصيب من إحسانه و للمسيء نصيب من إساءته، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزال: ٨ فأثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، و هذا معنى ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: ما أحسنتم إلى أحد و لا أسأت إليه و تلا الآية.
قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} التتبير الإهلاك من التبار بمعنى الهلاك و الدمار.
و قوله: {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا أحزنه و هو على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للإيجاز، و اللام للغاية و التقدير بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة فيها و بدو آثار الذلة و المسكنة و صغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع و السبي و النهب.
و قوله: {وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى
- بيت المقدس - و لا يعبأ بما ذكره بعضهم أن المراد به جميع الأرض المقدسة مجازا، و في الكلام دلالة أولا أنهم في وعد المرة الأولى أيضا دخلوا المسجد عنوة و إنما لم يذكر قبلا للإيجاز، و ثانيا أن دخولهم المسجد إنما كان للهتك و التخريب، و ثالثا يشعر الكلام بأن هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بني إسرائيل و الانتقام منهم هم الذين بعثوا عليهم أولا.
و قوله: {وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} أي ليهلكوا الذي غلبوا عليه إهلاكا فيقتلوا النفوس و يحرقوا الأموال و يهدموا الأبنية و يخربوا البلاد، و احتمل أن يكون ما مصدرية بحذف مضاف و تقدير الكلام: و ليتبروا مدة علوهم تتبيرا، و المعنى الأول أقرب إلى الفهم و أوفق بالسياق.
و المقايسة بين الوعدين أعني قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} إلخ و قوله: {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} إلخ يعطي أن الثاني كان أشد على بني إسرائيل و أمر و قد كادوا أن يفنوا و يبيدوا فيه عن آخرهم و كفى في ذلك قوله تعالى: {وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}.
و المعنى فإذا جاء وعد المرة الآخرة و هي الثانية من الإفسادتين بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة و بدو الذلة و المسكنة و ليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة و ليهلكوا الذي غلبوا عليه و يفنوا الذي مروا عليه إهلاكا و إفناء.
قوله تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} الحصير من الحصر و هو على ما ذكروه التضييق و الحبس قال تعالى: {وَ اُحْصُرُوهُمْ} التوبة: ٥ أي ضيقوا عليهم.
و قوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق و هو ترج للرحمة على تقدير أن يتوبوا و يرجعوا إلى الطاعة و الإحسان بدليل قوله: {وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي و إن تعودوا إلى الإفساد و العلو، بعد ما رجعتم عنه و رحمكم ربكم نعد إلى العقوبة و النكال، و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا و مكانا حابسا لا يستطيعون منه خروجا.
و في قوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و كأن الوجه فيه الإشارة إلى أن الأصل الذي يقتضيه ربوبيته تعالى أن يرحم عباده إن
جروا على ما يقتضيه خلقتهم و يرشد إليه فطرتهم إلا أن ينحرفوا عن خط الخلقة و يخرجوا عن صراط الفطرة، و الإيماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج السياق أن يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} عاد الكلام إلى ما كان عليه.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن نوحا إنما سمي عبدا شكورا لأنه كان يقول إذا أمسى و أصبح: اللهم إني أشهدك أنه ما أمسى و أصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد و لك الشكر بها علي حتى ترضى و بعد الرضا.
أقول: و روي هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي و تفسيري القمي، و العياشي.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: كان نوح (عليه السلام) لا يحمل شيئا صغيرا و لا كبيرا إلا قال: بسم الله و الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا.
أقول: و الروايات لا تنافي ما تقدم من تفسير الشكر بالإخلاص فمن المعلوم أن دعاءه لم يكن إلا عن تحققه بحقيقة ما دعا به و لا ينفك ذلك عن الإخلاص في العبودية.
و في تفسير البرهان، عن ابن قولويه بإسناده عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} قال: قتل أمير المؤمنين و طعن الحسن بن علي (عليه السلام) {وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} قال: قتل الحسين (عليه السلام) {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا} قال: إذا جاء نصر الحسين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ اَلدِّيَارِ} قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لآل محمد وترا إلا أخذوه {وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً}.
أقول: و في معناها روايات أخرى و هي مسوقة لتطبيق ما يجري في هذه الأمة من الحوادث على ما جرى منها في بني إسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
هذه الأمة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، و ليست الروايات واردة في تفسير الآيات، و من شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق.
و أما أصل القصة التي تتضمنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا عجيبا يسلب عنها التعويل، و لذلك تركنا إيرادها هاهنا من أرادها فليراجع جوامع الحديث من العامة و الخاصة.
و قد نزل على بني إسرائيل منذ استقلوا بالملك و السؤدد نوازل هامة كثيرة فوق اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن أن ينطبق ما تضمنته هذه الآيات على اثنتين منها لكن الذي هو كالمسلم عندهم أن إحدى هاتين النكايتين اللتين تشير إليهما الآيات هي ما جرى عليهم بيد «بخت نصر» (نبوكد نصر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريبا.
و كان ملكا ذا قوة و شوكة من جبابرة عهده، و كان يحمي بني إسرائيل فعصوه و تمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها و حاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب البلاد و هدم المسجد الأقصى و أحرق التوراة و كتب الأنبياء و أباد النفوس بالقتل العام و لم يبق منهم إلا شرذمة قليلة من النساء و الذراري و ضعفاء الرجال فأسرهم و سيرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام و لا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصر و بعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل و فتحه تلطف على الأسرى من بني إسرائيل و أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة، و أعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الأقصى - و تجديد الأبنية و أجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة و ذلك في نيف و خمسين و أربعمائة سنة قبل الميلاد.
و الذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر و بقي خرابا سبعين سنة، و المبعوث ثانيا هو قيصر الروم «إسبيانوس» سير إليهم وزيره «طوطوز» فخرب البيت و أذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا.
و ليس من البعيد أن يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات فإن الحوادث الأخرى لم تفن جمعهم و لم تذهب بملكهم و استقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم
و سؤددهم إلى زمن «كورش» ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم و أذهبت بقوتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام.
و لا يبعده إلا ما تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآيات أن فيها إشعارا بأن المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى و الثانية قوم بأعيانهم و أن قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} مشعر بأن الكرة من بني إسرائيل على القوم المبعوثين عليهم أولا، و أن قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدم من قوله: {عِبَاداً لَنَا}.
لكنه إشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز أن يكون المراد كرة من غير بني إسرائيل على أعدائهم و هم ينتفعون بها و أن يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام بسياقه من غير إيجاب السياق أن يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين أولا.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٩ الی ٢٢]
{إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ٩ وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ١٠وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ عَجُولاً ١١ وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ١٢ وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ١٣ اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ١٤ مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ مَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ١٦ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ١٧ مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ١٨ وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ١٩ كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ٢٠اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً ٢١ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ٢٢}
(بيان)
كان القبيل السابق من الآيات يذكر كيفية جريان السنة الإلهية في هداية الإنسان إلى سبيل الحق و دين التوحيد ثم إسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا و الآخرة و عقاب من كفر بالحق و فسق عن الأمر في دنياه و عقباه، و كان ذكر نزول التوراة و ما جرى بعد ذلك على بني إسرائيل كالمثال الذي يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلي على أفراده و مصاديقه، و هذا القبيل من الآيات يذكر جريان السنة المذكورة في هذه الأمة كما جرت في أمة موسى، و قد استنتج من الآيات لزوم التجنب عن الشرك و وجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}.
قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الأنعام: ١٦١.
و الأقوم أفعل تفضيل و الأصل في الباب القيام ضد القعود الذي هو أحد أحوال الإنسان و أوضاعه، و هو أعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود و الاستلقاء و الانبطاح و نحوها ثم كني به عن حسن تصديه للأمور إذا قوي عليها من غير عجز و عي و أحسن إدارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولاه و قام على أمر كذا أي راقبه و حفظه و راعى حاله بما يناسبه.
و قد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} الروم: ٣٠، و قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ} الروم: ٤٣.
و ذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم و آخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم، و معادهم و ليس إلا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الإنسانية و الخلقة التي سواه الله سبحانه عليها و جهزه بحسبها بما يهديه إلى غايته التي أريدت له، و سعادته التي هيئت لأجله.
و على هذا فوصف هذه الملة في قوله: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} بأنها أقوم إن كان بقياسها إلى سائر الملل إنما هو من جهة أن كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شيء من أمور حياتهم لكنها إن كان تنفعهم في بعضها فهي تضرهم في بعض آخر و إن كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهي تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم، و إنما ذلك الإسلام يقوم على حياتهم و بجميع ما يهمهم في الدنيا و الآخرة من غير أن يفوته فائت فالملة الحنيفية أقوم من غيرها على حياة الإنسان.
و إن كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإلهية السابقة كشريعة نوح و موسى و عيسى (عليه السلام) كما هو ظاهر جعلها مما يهدي إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة و جعلها هدى لبني إسرائيل فإنما هو من جهة أن هذه الملة الحنيفية أكمل من الملل السابقة التي تتضمنها كتب الأنبياء السابقين فهي تشتمل من المعارف الإلهية على آخر ما تتحمله البنية الإنسانية و من الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من أعمال الإنسان الفردية و الاجتماعية، و قد قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ} المائدة - ٤٨ فما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه غيره من الكتب.
قوله تعالى: {وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصارا و التقدير و عملوا الأعمال الصالحات.
و في الآية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا و عملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيده تسمية ذلك أجرا، و يؤيده أيضا قوله في موضع آخر: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} حم السجدة: ٨ و لا محذور في أن يكون لهم على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، و نظيره قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ} يونس: ١٠٣.
و العناية في الآية ببيان الوعد المنجز كما أن الآية التالية تعني ببيان الوعيد المنجز و هو العذاب لمن يكفر بالآخرة، و أما من آمن و لم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله أجر منجز و حق ثابت بل أمره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى: {وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} التوبة - ١٠٢ و قال: {وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} التوبة: ١٠٦.
نعم؛ لهم ثبات على الحق بإيمانهم كما قال تعالى: {وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يونس: ٢ و قال: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} إبراهيم - ٢٧.
قوله تعالى: {وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الاعتاد الإعداد و التهيئة من العتاد بالفتح و هو على ما ذكره الراغب ادخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد.
و ظاهر السياق أنه عطف على قوله في الآية السابقة: {أَنَّ لَهُمْ} إلخ فيكون التقدير و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات {أَنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } إلخ و كون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث إنه انتقام إلهي من أعدائهم في الدين.
و إنما خص بالذكر من أوصاف هؤلاء عدم إيمانهم بالآخرة مع جواز أن يكفروا بغيرها كالتوحيد و النبوة لأن الكلام مسوق لبيان الأثر الذي يعقبه الدين القيم، و لا موقع للدين و لا فائدة له مع إنكار المعاد و إن اعترف بوحدانية الرب تعالى و غيرها
من المعارف، و لذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب أصلا لكل ضلال في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ} ص - ٢٦.
قوله تعالى: {وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ عَجُولاً} المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم ارزقني مالا و ولدا و غير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب و سعي فإن ذلك كله دعاء و سؤال من الله سواء اعتقد به الإنسان و تنبه له أم لا إذ لا معطي و لا مانع في الحقيقة إلا الله سبحانه، قال تعالى: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الرحمن: ٢٩ و قال: {وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} إبراهيم: ٣٤ فالدعاء مطلق الطلب و الباء في قوله: {بِالشَّرِّ} و {بِالْخَيْرِ} للصلة و المراد أن الإنسان يدعو الشر و يسأله دعاء كدعائه الخير و سؤاله و طلبه.
و على هذا فالمراد بكون الإنسان عجولا أنه لا يأخذ بالأناة إذا أراد شيئا حتى يتروى و يتفكر في جهات صلاحه و فساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه و يسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره و تعلق به هواه فربما كان شرا فتضرر به و ربما كان خيرا فانتفع به.
و الآية و ما يتلوها من الآيات في سياق التوبيخ و اللوم متفرعة على ما تقدم من حديث المن الإلهي بالهداية إلى التي هي أقوم كأنه قيل: إنا أنزلنا كتابا يهدي إلى ملة هي أقوم تسوق الآخذين بها إلى السعادة و الجنة و تؤديهم إلى أجر كبير، و ترشدهم إلى الخير كله لكن جنس الإنسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير و الشر بل يطلب كل ما لاح له و يسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير و الشر و الحق و الباطل فيرد الشر كما يرد الخير و يهجم على الباطل كما يهجم على الحق.
و ليس ينبغي له أن يستعجل و يطلب كل ما يهواه و يشتهيه و لا يحق له أن يرتكب كل ما له استطاعة ارتكابه و يقترف كل ما أقدره الله عليه و مكنه منه مستندا إلى أنه من التيسير الإلهي و لو شاء لمنعه فهذان الليل و النهار و آيتان إلهيتان و ليستا على نمط واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات و تهدأ فيها العيون، و آية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى و يبتغي فيها الناس من فضل ربهم و يعلمون بها عدد السنين و الحساب.
كذلك أعمال الشر و الخير جميعا كائنة في الوجود بإذن الله مقدورة للإنسان بإقداره سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلا على جواز ارتكاب الإنسان الشر و الخير جميعا و أن يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير و يقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه أن يأخذ عمل الشر ممحوا فلا يقترفه و عمل الخير مبصرا فيأتي به و يبتغي بذلك فضل ربه من سعادة الآخرة و الرزق الكريم فإن عمل الإنسان هو طائره الذي يدله على سعادته و شقائه، و هو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر فهو لا يفارقه إلى غيره و لا يستدل به سواه.
هذا ما يعطيه السياق من معنى الآية و يتبين به:
أولا: أن الآية و ما يتلوها من الآيات مسوقة لغرض التوبيخ و اللوم، و هو وجه اتصالها و ما بعدها بما تقدمها من قوله: {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية كما أشرنا إليه آنفا فهو سبحانه يلوم الإنسان أنه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية الإلهية حق قدرها و لا يفرق بين الملة التي هي أقوم و بين غيرها فيدعو بالشر دعاءه بالخير و يقصد الشقاء كما يقصد السعادة.
و ثانيا: أن المراد بالإنسان هو الجنس دون أفراد معينة منه كالكفار و المشركين كما قيل، و بالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، و بالخير و الشر ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر و ينفع كدعاء الإنسان على من رضي عنه بالنجاح و الفلاح و على من غضب عليه بالخيبة و الخسران و غير ذلك. و بالعجلة حب الإنسان أن يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج و التمادي على طلب العذاب و المكروه.
و للمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الآية، و كلمات مضطربة في بيان وجه اتصال الآية و كذا الآيات التالية بما قبلها تركنا إيرادها و الغور فيها لعدم جدوى في التعرض لها من أرادها فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً} إلى آخر الآية، قال في المجمع، مبصرة
أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: أراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم و سر كاتم، و قال الكسائي: العرب تقول: أبصر النهار إذا أضاء. انتهى موضع الحاجة.
الليل و النهار هما النور و الظلمة المتعاقبان على الأرض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع و زوالها بالغروب و هما كسائر ما في الكون من أعيان الأشياء و أحوالها آيتان لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية.
و من هنا يظهر أن المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما و ليستا آيتين ثم جعلهما آيتين و إلباسهما لباس الدلالة فالأشياء كلها آيات له تعالى من جهة أصل وجودها و كينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها.
و من هنا يظهر أيضا أن المراد بآية الليل كآية النهار نفس الليل كنفس النهار على أن تكون الإضافة بيانية لا لامية و المراد بمحو الليل إظلامه و إخفاؤه عن الأبصار على خلاف النهار.
فما ذكره بعضهم أن المراد بآية الليل القمر و محوها ما يرى في وجهه من الكلف كما أن المراد بآية النهار الشمس و جعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو و السواد. ليس بسديد فإن الكلام في الآيتين لا آيتي الآيتين. على أن ما فرع على ذلك من قوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} إلخ متفرع على ضوء النهار و ظلمة الليل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر و خلو قرص الشمس من ذلك.
و نظيره في السقوط قول بعضهم: إن المراد بآية الليل ظلمته و بآية النهار ضوءه و المراد بمحو آية الليل إمحاء ظلمته بضوء النهار و نظيره إمحاء ضوء النهار بظلمة الليل و إنما اكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.
و لا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما أشرنا إليه سابقا فإن الغرض بيان وجود الفرق بين الآيتين مع كونهما مشتركتين في الآئية و الدلالة، و ما ذكره من المعنى يبطل الفرق.
و قوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} متفرع على قوله: {وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً} أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقا من ربكم فإن الرزق فضله و عطاؤه تعالى.
و ذكر بعضهم أن التقدير: لتسكنوا بالليل و لتبتغوا فضلا من ربكم بالنهار إلا أنه حذف «لتسكنوا بالليل» لما ذكره في مواضع أخر و فيه أن التقدير ينافي كون الكلام مسوقا لبيان ترتب الآثار على إحدى الآيتين دون الأخرى مع كونهما معا آيتين.
و قوله: {وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ} أي لتعلموا بمحو الليل و إبصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الأيام واحدا يعقد عليه، و تعلموا بذلك حساب الأوقات
و الآجال، و ظاهر السياق أن علم السنين و الحساب متفرع على جعل النهار مبصرا نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك و ذلك أنا إنما نتنبه للأعدام و الفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس و الظلمة فقدان النور و لو لا النور لم ننتقل لا إلى نور و لا إلى ظلمة، و نحن و إن كنا نستمد في الحساب بالليل و النهار معا و نميز كلا منهما بالآخر ظاهرا لكن ما هو الوجودي منهما أعني النهار هو الذي يتعلق به إحساسنا أولا ثم نتنبه لما هو العدمي منها أعني الليل بنوع من القياس، و كذلك الحال في كل وجودي و عدمي مقيس إليه.
و ذكر الرازي في تفسيره أن الأولى أن يكون المراد بمحو آية الليل على القول بأنها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة و النقيصة ليلة فليلة لما فيه من الآثار العظيمة في البحار و الصحاري و أمزجة الناس.
و لازم ذلك - كما أشار إليه - أن يكون قوله: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} و قوله: {وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ} متفرعين على محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة جميعا، و المعنى أنا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا بإضاءة الشمس و اختلاف نور القمر أرزاقكم، و لتعلموا بذلك أيضا السنين و الحساب فإن الشمس هي التي تميز النهار من الليل و القمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية و الشهور ترسم السنين فاللام في الجملتين أعني {لِتَبْتَغُوا}و {لِتَعْلَمُوا} متعلق بالفعلين {فَمَحَوْنَا} و {وَ جَعَلْنَا} جميعا.
و فيه أن الآية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتبا على الآيتين معا أعني الآية الممحوة و الآية المثبتة فقد عرفت أن الآيات في سياق التوبيخ و اللوم، و الآية أعني قوله: {وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ} كالجواب عما قدر أن الإنسان يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير.
و ملخصه: أن الإنسان لمكان عجلته لا يعتني بما أنزله الله من كتاب و هداه إليه من الملة التي هي أقوم بل يقتحم الشر و يطلبه كما يطلب الخير من غير أن يتروى في عمله و يتأمل وجه الصلاح و الفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه و يسرته قدرته، و هو يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كأنه يحتج فيه بأن الله أقدره على ذلك و لم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين: {لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا} النحل - ٣٥.
فأجيب عنه بعد ما أورد في سياق التوبيخ و اللوم بأن مجرد تعلق القدرة و صحة الفعل لا يستلزم جواز العمل و لا أن إقداره على الخير و الشر معا يدل على جواز اقتحام الشر كالخير فالليل و النهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الإنسان لكن الله سبحانه محى آية الليل و قدر فيها السكون و الخمود، و جعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق و يعلم بها عدد السنين و الحساب.
فكما أن كون الليل و النهار مشتركين في الآئية لا يوجب اشتراكهما في الحركات و التقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك أعمال الخير و الشر في أنها جميعا تتحقق بإذن الله سبحانه و هي مما أقدر الله الإنسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما و إتيانه بهما على حد سواء بل جواز الإتيان و الارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل الشر فليس للإنسان أن يسلك كل ما بدا له من سبيل و لا أن يأتي بكل ما اشتهاه و تعلق به هواه معتمدا في ذلك على ما أعطي من الحرية الطبيعية و الأقدار الإلهي.
و مما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن الآية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فإن الليل و النهار و ما يعرضهما من الاختلاف و ما يترتب على ذلك من البركات من أوضح آيات التوحيد.
و فيه أن دلالتهما على التوحيد لا توجب أن يكون الغرض إفادته و الاحتجاج بهما على ذلك في أي سياق وقعا.
و قوله في ذيل الآية: {وَ كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} إشارة إلى تمييز الأشياء و أن الخلقة لا تتضمن إبهامها و لا إجمالها.
قوله تعالى: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال في المجمع: الطائر هنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح و يتبرك به و الطائر الذي يبرح فيتشأم به، و السانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، و البارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، و الأصل في هذا أنه إذا كان سانحا أمكن الرامي و إذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجري من طائر أو ظبي أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى.
و في الكشاف: أنهم كانوا يتفألون بالطير و يسمونه زجرا فإذا سافروا و مر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا و إن مر بارحا بأن
مر من جهة اليمين إلى الشمال تشأموا و لذا سمي تطيرا. انتهى.
و قال في المفردات: تطير فلان و أطير أصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به و يتشاءم {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} و لذلك قيل: لا طير إلا طيرك و قال: {إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا} أي يتشاءموا به {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ} أي شؤمهم ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم و على ذلك قوله: {قَالُوا اِطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ} {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ} {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي عمله الذي طار عنه من خير و شر و يقال: تطايروا إذا أسرعوا و يقال إذا تفرقوا. انتهى.
و بالجملة سياق ما قبل الآية و ما بعدها و خاصة قوله: {مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} إلخ، يعطي أن المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة و المشأمة و يكشف عن حسن العاقبة و سوءها فلكل إنسان شيء يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر.
و إلزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، و إنما جعل الإلزام في العنق لأنه العضو الذي لا يمكن أن يفارقه الإنسان أو يفارق هو الإنسان بخلاف الأطراف كاليد و الرجل، و هو العضو الذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل أول ما يواجه الإنسان.
فالمراد بقوله: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أن الذي يستعقب لكل إنسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذي ألزمه إياه، و هذا هو العمل الذي يعمله الإنسان لقوله تعالى: {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى} النجم: ٤١.
فالطائر الذي ألزمه الله الإنسان في عنقه هو عمله، و معنى إلزامه إياه أن الله قضى أن يقوم كل عمل بعامله و يعود إليه خيره و شره و نفعه و ضره من غير أن يفارقه إلى غيره، و قد استفيد من قوله تعالى: {وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}... {إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ} الآيات: الحجر: ٤٥ أن من القضاء المحتوم أن حسن العاقبة للإيمان و التقوى و سوء العاقبة للكفر و المعصية.
و لازم ذلك أن يكون مع كل إنسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة أمره معية لازمة لا يتركه و تعيينا قطعيا لا يخطئ و لا يغلط لما قضي به أن كل عمل فهو لصاحبه ليس له إلا هو و أن مصير الطاعة إلى الجنة و مصير المعصية إلى النار.
و بما تقدم يظهر أن الآية إنما تثبت لزوم السعادة و الشقاء للإنسان من جهة أعماله الحسنة و السيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون أن يبطل تأثير العمل في السعادة و الشقاء بإثبات قضاء أزلي يحتم للإنسان سعادة أو شقاء سواء عمل أم لم يعمل و سواء أطاع أم عصى كما توهمه بعضهم.
قوله تعالى: {وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده: {اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} حيث يدل أولا على أن الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، و ثانيا أن الكتاب متضمن لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئا كما في قوله: {يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} الكهف: ٤٩، و ثالثا أن الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر و لا يقطع بعذر، قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢.
و يظهر من قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} آل عمران: ٣٠أن الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عيانا، و لا حجة كالعيان.
و بذلك يظهر أن المراد بالطائر و الكتاب في الآية أمر واحد و هو العمل الذي يعمله الإنسان غير أنه سبحانه قال: {وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً} ففرق الكتاب عن الطائر و لم يقل: «و نخرجه» لئلا يوهم أن العمل إنما يصير كتابا يوم القيامة و هو قبل ذلك طائر و ليس بكتاب أو يوهم أن الطائر خفي مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه.
و بالجملة في قوله: {وَ نُخْرِجُ لَهُ} إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن
إدراك الإنسان محجوب وراء حجاب الغفلة و إنما يخرجه الله سبحانه للإنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، و هو المعنى بقوله: {يَلْقَاهُ مَنْشُوراً}.
و في ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} لأن المحصل أن الإنسان ستناله تبعة عمله لا محالة أما أولا فلأنه لازم له لا يفارقه. و أما ثانيا فلأنه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا.
قوله تعالى: {اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أي يقال له: {اِقْرَأْ كِتَابَكَ} إلخ.
و قوله: {كَفى بِنَفْسِكَ} الباء فيه زائدة للتأكيد و أصله كفت نفسك و إنما لم يؤنث الفعل لأن الفاعل مؤنث مجازي يجوز معه التذكير و التأنيث، و ربما قيل: إنه اسم فعل بمعنى اكتف و الباء غير زائدة، و ربما وجه بغير ذلك.
و في الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه و لو كان هو المجرم نفسه و كيف لا؟ و فيه معاينة نفس العمل و به الجزاء، قال تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التحريم: ٧.
و قد اتضح مما أوردناه في وجه اتصال قوله: {وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} (الآية) بما قبله وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ } - إلى قوله - {حَسِيباً} فمحصل معنى الآيات و السياق سياق التوبيخ و اللوم أن الله سبحانه أنزل القرآن و جعله هاديا إلى ملة هي أقوم جريا على السنة الإلهية في هداية الناس إلى التوحيد و العبودية و إسعاد من اهتدى منهم و إشقاء من ضل لكن الإنسان لا يميز الخير من الشر و لا يفرق بين النافع و الضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير.
و الحال أن العمل سواء كان خيرا أو شرا لازم لصاحبه لا يفارقه و هو أيضا محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة و ينشر بين يديه و يحاسب عليه، و إذا كان كذلك كان من الواجب على الإنسان أن لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه و يشتهيه
و لا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الأمور و يتروى حتى يميز بينها و يفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير و يتحرز الشر.
قوله تعالى: {مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} قال في المفردات: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} (الآية) كقوله: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} قال: و قوله: {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى.
و الآية في موضع النتيجة لقوله: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} إلخ و الجملة الثالثة {وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} تأكيد للجملة الثانية {وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}.
و المعنى إذا كان العمل خيرا كان أو شرا يلزم صاحبه و لا يفارقه و هو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و ينتفع به نفسه من غير أن يتبع غيره. و من ضل عن السبيل فإنما يضل على نفسه و يتضرر به نفسه من دون أن يفارقه فيلحق غيره، و لا تتحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال أنهم إن ضلوا فوبال ضلالهم على أئمتهم الذين أضلوهم و كما يتوهم المقلدون لآبائهم و أسلافهم أن آثامهم و أوزارهم لآبائهم و أسلافهم لا لهم.
نعم لأئمة الضلال مثل أوزار متبعيهم، و لمن سن سنة سيئة أوزار من عمل بها و لمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الإمامة و جعل السنة و تحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله و يلحق المتبوع بل إن كان عينه فمعناه أن يعذب بعمل واحد اثنان.
قوله تعالى: {وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ظاهر السياق الجاري في الآية و ما يتلوها من الآيات بل هي و الآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، و يؤيده خصوص سياق النفي {وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} حيث لم يقل: و لسنا معذبين و لا نعذب و لن نعذب بل قال: {وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.
و يؤيده أيضا أنه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبيا، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة و الرسالة أن الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأمة إما بعذاب الاستئصال و إما بالتمتع من الحياة إلى أجل مسمى، قال تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يونس: ٤٧ و قال: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} إبراهيم: ١٠.
فالتعبير بالرسول لإفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي أو مطلق التعذيب.
فقوله: {وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} كالدفع لما يمكن أن يتوهم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أن تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي و الأخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.
فأجيب أن الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلا بعد أن يبعث رسولا ينذرهم به و إن كان له أن يعذبهم به لكنه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: {وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.
فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهية أن لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.
و أما النبوة التي يبلغ بها التكاليف و نبين بها الشرائع فهي التي تستقر بها المؤاخذة الإلهية و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق و الباطل إلا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، و أما الأصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوة و المعاد فإنما تلحق آثار قبولها و تبعات ردها الإنسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة.
و بالجملة أصول الدين و هي التي يستقل العقل ببيانها و يتفرع عليها قبول الفروع التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإلهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي و الرسول لأن صحة بيان النبي و الرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.
و تستقر المؤاخذة الأخروية على الفروع بالبيان النبوي و لا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، و قد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما. و المؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.
و للمفسرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيري، و لعل الذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكن الحق أحق بالاتباع.
قوله تعالى: {وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} قال الراغب: الترفه التوسع في النعمة يقال: أترف فلان فهو مترف - إلى أن قال - في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } هم الموصوفون بقوله سبحانه: {فَأَمَّا اَلْإِنْسَانُ إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ} انتهى. و قال في المجمع: الترفه النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك. انتهى.
و قوله: {إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم: إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإن من المعلوم أنه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الآية).
و يمكن أن يراد به الإرادة الفعلية و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشيء
و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأول و حقيقته تحقق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم: ٧، و قال: {اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي اَلْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا اَلْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} الفجر: ١٤.
و قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} من المعلوم من كلامه تعالى أنه لا يأمر بالمعصية أمرا تشريعيا فهو القائل: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الأعراف: ٢٨ و أما الأمر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث إنها معصية أوضح لجعله الفعل ضروريا يبطل معه تعلقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس: ٨٢.
فمتعلق الأمر في قوله: {أَمَرْنَا} إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعي و كان هو الأمر الذي توجه إليهم بلسان الرسول الذي يبلغهم أمر ربهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الذي يختص بالرسول كما تقدمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربهم حق عليهم القول و هو أنهم معذبون إن خالفوا فأهلكوا و دمروا تدميرا.
و إن كان متعلق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مرادا به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.
و هذان وجهان في معنى قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} يجوز توجيهه بكل منهما لكن يبعد أول الوجهين أولا أن قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلق الأمر بعين ما فرع عليه، و ثانيا عدم ظهور وجه لتعلق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلا لم يهلكوا.
قال في الكشاف: و الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازا، و وجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا
فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، و إنما خولهم إياها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكنوا من الإحسان و البر كما خلقهم أصحاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشر و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمرهم.
فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه و هو كلام مستفيض يقال: أمرته فقام و أمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.
و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منوي لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به كأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.
فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء و إنما يأمر بالقصد و الخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.
قلت: لا يصح ذلك لأن قوله: {فَفَسَقُوا} يدافعه فكأنك أظهرت شيئا و أنت تدعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.
و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} في كون المأمور به هو الفسق و أما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل إلا ذلك كما يدعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإن الفسق هو الخروج عن زي العبودية و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ أمرنا
مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملا استعمال اللازم، و المعنى توجه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.
فالحق أن الوجهين لا بأس بكل منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد أجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنهم الرؤساء السادة و الأئمة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.
و ذكر بعضهم في توجيه الآية أن قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} إلخ صفة لقرية و ليس جوابا لإذا و جواب إذا محذوف على حد قوله: {حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.
و ذكر آخرون أن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.
هذا كله على القراءة المعروفة {أَمَرْنَا} بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الأمر بمعنى الطلب، و ربما أخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالا و ولدا ففسقوا فيها.
و قرئ «آمرنا» بالمد و نسب إلى علي (عليه السلام) و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرئ أيضا «أمرنا» بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى علي و الحسن و الباقر (عليه السلام) و إلى ابن عباس و زيد بن علي و غيرهم.
قوله تعالى: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال: {وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ} انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.
و الآية لا تخلو من إشعار بأن سنة الإهلاك إنما شرعت في القرون الإنسانية بعد نوح
(عليه السلام) و هو كذلك، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ} البقرة - ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أن المجتمع الإنساني قبل زمن نوح (عليه السلام) كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك.
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل: الأعراض الدنيوية العاجلة.
و في المفردات: أصل الصلى لإيقاد النار. قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرها {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ} و قيل: صلي النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} انتهى. و في المجمع: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللهم أدحر عنا الشيطان أي أبعده انتهى.
لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي إثر دعوة الرسالة و أنه يهدي الأمم الإنسانية إلى الإيمان و العمل الصالح حتى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولا فإذا طغوا و فسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الأخروي و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصل القول و الأصل الكلي في ذلك.
فقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ} أي الذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنما هي طلب ما فيها من المتاع الذي تلتذ به النفس و يتعلق به القلب، و التعلق بالعاجلة و طلبها إنما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسل بها إلى سعادة الأخرى و إلا كانت إرادة للآخرة فإن الآخرة لا يسلك إليها إلا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريدا للدنيا إلا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحضت إرادته في الدنيا، و يدل عليه أيضا خصوص التعبير في الآية {مَنْ كَانَ يُرِيدُ} حيث يدل على استمرار الإرادة.
و هذا هو الذي لا يرى لنفسه إلا هذه الحياة المادية الدنيوية و ينكر الحياة الآخرة،
و يلغو بذلك القول بالنبوة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التدين بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} النجم: ٣٠.
و قوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي التي تحكم فيهم.
و إرادته سبحانه الفعلية لشيء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقق العلة التامة لظهوره فالآية تدل على أن الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل التي أجراها الله في الكون و قدر لها من الآثار فهو ينال شيئا مما يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.
و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: {وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} الزخرف: ٣٥ أي لو لا أن الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمنا كان أم كافرا، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.
و ذكر بعضهم: أن المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيد، و لعله أخذه من قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ} هود: ١٦ لكن الآيتين مختلفتان غرضا فالغرض فيما نحن فيه بيان أن مريد الدنيا لا ينال إلا منها، و الغرض من آية سورة
هود أن الإنسان لا ينال إلا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.
و قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنم يقاسي حرها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنه مخصوص بجهنم محروم من المغفرة و الرحمة.
و الآية و إن كانت تبين حال من تعلق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أن الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا و فعلا و منه ما هو كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: {وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} (الآية).
قوله تعالى: {وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا، انتهى موضع الحاجة.
و قوله: {مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ} أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ} و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.
و قوله: {وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا} اللام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جد للآخرة السعي الذي يختص بها، و يستفاد منه أن سعيه لها يجب أن يكون سعيا يليق بها و يحق لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية.
و قوله: {وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوة و المعاد فإن من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا به و قد تكاثرت الآيات فيه.
على أن نفس التقييد بقوله: {وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} يكفي في التقييد المذكور فإن من
أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيوية قطعا فلو لا أن التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحا و من صحته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالإيمان يكفي مئونة الاستعانة بآيات أخر.
و قوله: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فإن أصل إثابته العبد على عمله تفضل لأن من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضل على تفضل و الله ذو الفضل العظيم.
و في الآيتين دلالة على أن الأسباب الأخروية و هي الأعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيوية فإنه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} و يقول فيمن عمل للدنيا: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}.
قوله تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} قال في المفردات: أصل المد الجر و منه المدة للوقت الممتد و مدة الجرح و مد النهر و مده نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى: {وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (الآية) و مددته في غيه... و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المد في المكروه نحو: {وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} {وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا} {وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} {وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ} انتهى بتلخيص منا.
فإمداد الشيء و مده أن يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء التي تستمد من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتد بذلك جريانها.
و الله سبحانه يمد الإنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنية و القوى العمالة و المواد الخارجية التي يقع عليها العمل و يتصرف فيها العامل و الأسباب و الشرائط
المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله و يمد الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.
فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإنسان أن يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، و أما إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجة البالغة.
فقوله: {كُلاًّ نُمِدُّ} أي كلا من الفريقين المعجل لهم و المشكور سعيهم نمد، و إنما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فإن المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعا.
و قوله: {هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ} أي هؤلاء المعجل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أن لكل منهما نعته الخاص به، و يئول المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية الإلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإلهية لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلا الشقاء و الخيبة.
و قوله: {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} فإن جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.
و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فإن أعمالهم لما كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلى النار مذموما مدحورا، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.
و في قوله: {رَبِّكَ} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و قد كرر ذلك مرتين و الظاهر أن النكتة فيه الإشارة إلى أن إمدادهم من شئون صفة الربوبية و الله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أربابا و لذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: {رَبِّكَ}.
و قوله: {وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أي ممنوعا و الحظر المنع فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته.
و في الآية دلالة على أن العطاء الإلهي مطلق غير محدود بحد لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.
و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أن المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أما العطاء الأخروي فللمؤمنين خاصة، و المعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الأول المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد.
و فيه أنه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للإطلاق و أما ما ذكر من اختصاص العطاء الأخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الآية فإن الكلام في الإمداد الذي يمد به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمد به أعمال الفريقين عطايا دنيوية و أخروية على أن العطايا الأخروية أيضا مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أن الأمر في العطايا الدنيوية أيضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.
و قال في روح المعاني: إن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضر، و التقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا و القسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.
ثم أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان
الباعثان فيه متساويين.
قال: و أما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الذين قالوا: إنه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرم في الظاهر. انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.
و أنت خبير بأن الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد و القبول بالنسبة إلى كل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلا مزايا الحياة الدنيوية المادية و يعرض عن الأخرى، و مرة متعلقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الأخرى.
و معلوم أن هذا التقسيم لا ينتج إلا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلق الغرض بها و ذلك أن من أراد الآخرة ربما سعى لها سعيها و ربما لم يسع لها سعيها كالفساق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربما كان مؤمنا و ربما لم يكن مؤمنا، و لم يذكر في كلامه تعالى إلا حكم طائفة خاصة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأن الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.
قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً} إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتى لا يتوهم أن قليل العمل و كثيره على حد سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإن تسوية القليل و الكثير و الجيد و الردي في الشكر و القبول رد في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.
و قوله: {اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد: {وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ} و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و أمتعتها كالمال و الجاه و الولد و القوة
و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.
و قوله: {وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهمن متوهم أن أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أن التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أن سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونية و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ} البقرة: ٢٨٤ و قال: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الشعراء: ٨٩.
ففي الآية أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإن اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيات و الأعمال التي يتيسر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.
قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} قال في المفردات: الخذلان ترك من يظن به أن ينصر نصرته انتهى.
و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة التي ذكرت سنة الله في عباده و ختمت في أن من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلى جهنم مذموما مدحورا، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلة و العجز.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} قال: أي يدعو.
و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} قال: يهدي إلى الولاية.
أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.
و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} يقول: خيره و شره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل.
و فيه عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام): عن الآية قال: قدره الذي قدر عليه.
و فيه عن خالد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} قال: يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}.
و فيه عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} مشددة منصوبة تفسيرها: كثرنا، و قال: لا قرأتها مخففة.
أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.
و قد روي في قوله تعالى: {وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} (الآية) و قوله: {وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ} (الآية) و قوله: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} (الآية) من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي (عليه السلام) و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الإسناد.
كلام في القضاء في فصول
١ - تحصيل معناه و تحديده
في تحصيل معناه و تحديده. إنا نجد الحوادث الخارجية و الأمور الكونية بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها و تحققها لا يتعين لها التحقق و الثبوت و لا عدمه بل يتردد أمرها بين أن تتحقق و أن لا تتحقق من رأس.
فإذا تمت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد و الإبهام و تعين لها أحد الطرفين و هو التحقق، أو عدم التحقق، إن فرض انعدام شيء مما يتوقف عليه وجودها. و لا يفارق تعين التحقق نفس التحقق.
و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان مترددا بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع و الصدور عينا له أحد الجانبين فتعين له الوقوع.
و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مرددا بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.
ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إن المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردد بينهما، و قول المخبر إن كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الذي نسميه القضاء.
و لما كانت الحوادث في وجودها و تحققها مستندة إليه سبحانه و هي فعله جرى
فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحققها و لم يتم لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحققها فتم لها عللها و عامة شرائطها و لم يبق لها إلا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلا لها من الجانب الآخر و قطعا للإبهام، و يسمى قضاء من الله.
و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.
و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: {وَ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} البقرة: ١١٧، و قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} حم السجدة: ١٢، و قال: {قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} يوسف: ٤١، و قال: {وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} إسراء: ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.
و من الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: {وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إسراء: ٢٣، و قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يونس: ٩٣، و قوله: {وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} الزمر: ٧٥، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه و تكويني بآخر.
فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضي صحة هذين الاعتبارين العقليين في الأشياء الكونية من جهة أنها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهي من جهة أنه فعله التشريعي، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.
و ربما عبر عنه بالحكم و القول بعناية أخرى قال تعالى{أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ} الأنعام: ٦٢، و قال: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} الرعد: ٤١، و قال: {مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ} ق: ٢٩، قال: {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ} ص: ٨٤.
٢ - نظرة فلسفية في معنى القضاء
لا ريب أن قانون العلية و المعلولية ثابت و أن الموجود الممكن معلول له سبحانه إما بلا واسطة معها، و أن المعلول إذا نسب
إلى علته التامة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء أخذ في نفسه و لم ينسب إلى شيء كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة فإنه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علة له تامة و المفروض خلافه.
و لما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين و خروج الشيء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه قضاء عاما منه تعالى كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردد.
و من هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له.
٣ - و الروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا
ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد شيئا قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه أمضاه.
و فيه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن (عليه السلام) ليونس مولى علي بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: إني لا أتكلم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلا ما أراد الله و شاء و قضى و قدر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. ثم قال: أ تدري ما المشية؟ فقال: لا فقال: همه بالشيء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشية فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثم قال إن الله إذا شاء شيئا أراده و إذا أراد قدره و إذا قدره قضاه و إذا قضاه أمضاه.(الحديث).
و في رواية أخرى عن يونس عنه (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه. قلت:
فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الذي لا مرد له
و في التوحيد، عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدر و قدر ما أراد فبعلمه كانت المشية و بمشيته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدم على المشية و المشية ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء.
فلله تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. (الحديث).
و الذي ذكره (عليه السلام) من ترتب المشية على العلم و الإرادة على المشية و هكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع.
و فيه بإسناده عن ابن نباتة قال :إن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز و جل.
أقول: و ذلك أن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
بحث فلسفي : [الفيض الإلهي مطلق]
في أن الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}.
أطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما أنه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد و لا مقيد بقيد و لا مشروط بشرط و إلا انعدم فيما وراء حده و بطل على تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان و مطلق
إطلاقا لا يتحمل تقييدا.
و قد ثبت أيضا أن وجود ما سواه أثر مجعول له و أن الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقه ظلية مطلق غير محدود و إلا تركبت ذاته من حد و محدود و تألفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنه واحد مطلق فالوجود الذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.
فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.
و هي إن كانت في أصل وجودها النوعي أو لوازمها النوعية فمنشؤها ماهياتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتي كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التام أو الناقص فمنشؤها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهيأة للاستفاضة من العلة المفيضة.
فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه و من قابل يقبله تاما و من قابل يقبله ناقصا و يحوله إلى ما يشاكل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التي تفيض نورا واحدا متشابه الأجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة و الاستعداد.
فإن قلت لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية فإن كان ما عد منشأ لها من الماهيات و الاستعدادات أمورا وهمية غير واقعية لم يكن لإسناد هذه الأمور الواقعية إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الذي هو أثر الجاعل الحق و هو خلاف ما ادعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت أمورا واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضا إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدعي.
قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف
أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي و لا يبقى لهذا البحث على هذا محل أصلا.
و بعبارة أخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوة و ما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشأه تحليل العقل الأشياء إلى ماهية قابلة للوجود و وجود مقبول للماهية، و كذا إلى قوة فاقدة للفعلية و فعلية تقابلها أما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحدا مطلقا لا كثرة فيه و لا حد معه فافهم ذلك.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٢٣ الی ٣٩]
{وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لاَ تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ٢٣ وَ اِخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ٢٤ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ٢٥ وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ٢٦ إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ اَلشَّيَاطِينِ وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ٢٧ وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ٢٨ وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا
كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ٣٠وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً ٣١ وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً ٣٢ وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ٣٣ وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً ٣٤ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ٣٦ وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً ٣٧ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ٣٩}
بيان
عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الآية).
قوله تعالى: {وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} {أَلاَّ تَعْبُدُوا} إلخ، نفي و استثناء و «أن» مصدرية و جوز أن يكون نهيا و استثناء و أن مصدرية أو مفسرة، و على أي حال ينحل مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.
و القول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء و هو القضاء التشريعي المتعلق بالأحكام و القضايا التشريعية، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولوي، و هو كما يتعلق بالأمر يتعلق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفية، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه، لم يصح إلا بنوع من التأويل و التجوز.
و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينية و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أن معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: ٤٨.
و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجن و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ} يس: ٦٠، و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الجاثية: ٢٣، حتى أن الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.
و لعظم أمر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الأحكام الخطيرة شأنا كعقوق الوالدين و منع الحقوق المالية و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتباع غير العلم و الكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك.
قوله تعالى: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} عطف على سابقه أي و قضى ربك بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا أو أن أحسنوا بالوالدين إحسانا و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.
و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أن عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك
بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدة مواضع من كلامه.
و قد تقدم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية ١٥١ من السورة - أن الرابطة العاطفية المتوسطة بين الأب و الأم من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنساني على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنساني بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحل به عقد الاجتماع.
قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لاَ تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} {إِمَّا} مركب من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السن و أف كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.
و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شيء من لوازم الحياة و واجباتها.
فالآية تدل على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التام في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {وَ اِخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولا و فعلا مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف أمه لتغذيته، و لذا قيده بالذل فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذللك قبالهما رحمة بهما.
هذا إن كان الذل بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظا لها.
و قوله: {وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} أي اذكر تربيتهما لك صغيرا فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربياك صغيرا.
قال في المجمع: و في هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع و إلا لم يكن للأمر به معنى. انتهى. و الذي يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الإجابة و هو أدب ديني ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أن وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر و الآية مطلقة.
قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} السياق يعطي أن تكون الآية متعلقة بما تقدمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول أو فعل يتأذيان به، و إنما لم يصرح به للإشارة إلى أن ذلك مما لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.
فقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنه كان إلخ، و قوله: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} أي للراجعين إليه عند كل معصية و هو من وضع البيان العام موضع الخاص.
و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنه كان للأوابين غفورا.
قوله تعالى: {وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ} تقدم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أن إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لأنها آية مكية من سورة مكية.
قوله تعالى: {وَ لاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ اَلشَّيَاطِينِ وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ
لِرَبِّهِ كَفُوراً} قال في المجمع: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرق كما يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا و إن كثر. انتهى.
و قوله: {إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ اَلشَّيَاطِينِ} تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذر إنك إن تبذر كنت من المبذرين و المبذرون إخوان الشياطين، و كأن وجه المواخاة بينهم أن الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} حم السجدة: ٢٥، و قوله: {اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ} الصافات: ٢٢ أي قرناءهم: و قوله: {وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} الأعراف: ٢٠٢.
و من هنا يظهر أن تفسير من فسر الآية بأنهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم.
و أما قوله: {وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الذي هو أبو الشياطين و هم ذريته و قبيله و اللام حينئذ للعهد الذهني و يمكن أن يكون اللام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث إنه يصرف ما آتاه من قوة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.
و قد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان أولا و إفراده ثانيا فإن الاعتبار أولا بأن كل مبذر أخو شيطانه الخاص فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانيا بإبليس الذي هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان.
قوله تعالى: {وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} أصله إن تعرض عنهم و «ما» زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.
و السياق يشهد بأن الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله: {وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الإعراض عمن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسد به خلته و ليس المراد به كل إعراض كيف اتفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شيء من المال يبذله له و ليس بآيس من
وجدانه بدليل قوله: {اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، و لا لأنك فاقد له آيس من حصوله بل لأنك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربك ترجوها يعني الرزق.
و قوله: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الرد كما قال تعالى: {وَ أَمَّا اَلسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} الضحى: ١٠بل رده بقول سهل لين.
قال في الكشاف: و قوله: {اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} إما أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا و عدهم وعدا جميلا رحمة لهم و تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم، و إما أن يتعلق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب. انتهى.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئا لبخله و شح نفسه، و بسط اليد كل البسط كناية عن إنفاق الإنسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شيء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.
و قوله: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} متفرع على قوله: {وَ لاَ تَبْسُطْهَا} إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك أن تقعد ملوما لنفسك و غيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.
و قيل: إن قوله: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} متفرع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوما مذموما و إن أسرفت بقيت متحسرا مغموما.
و فيه أن كون قوله: {وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ} ظاهرا في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافا و تبذيرا غير ظاهر و إن كان منهيا عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على
وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسر و الغم على ما لم يفسد و لا أفسد.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل لما تقدم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.
و المعنى: أن هذا دأب ربك و سنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط و لا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنه كان بعباده خبيرا بصيرا و ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله و تتخذ طريق الاعتدال و تتجنب الإفراط و التفريط.
و قيل: إنها تعليل على معنى أن ربك يبسط و يقبض، و ذلك من الشئون الإلهية المختصة به تعالى، و ليس لك أن تتصف به و الذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً} الإملاق الفاقة و الفقر، و قال في المفردات: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان يقال: خطئ يخطأ و خطأة، قال تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً} و قال: {وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطئ و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنى بقوله: {وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.
و جملة الأمر أن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: أنه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ
و هذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها. انتهى بتلخيص.
و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و الحاجة و قوله {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ} تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً}.
و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفا من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم فإنكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا.
و قد تكرر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنما أفرد بالذكر و اختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة و أشد القسوة، و لأنهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة و العزة.
و في الكشاف: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يأدونهن خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أن الآيات المتعرضة لوأد البنات آيات خاصة تصرح به و بحرمته كقوله تعالى: {وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير: ٩، و قوله: {وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارى مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} النحل: ٥٩.
و أما الآية التي نحن فيها و أترابها فإنها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعم، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق أن الآية تكشف عن سنة سيئة أخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و أنثى خوفا من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً} نهي عن الزنا و قد
بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فأفاد أن الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله: {وَ سَاءَ سَبِيلاً} فأفاد أنه سبيل سيء يؤدي إلى فساد المجتمع في جميع شئونه حتى ينحل عقده و يختل نظامه و فيه هلاك الإنسانية و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين: {وَ لاَ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ اَلْعَذَابُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} الفرقان: ٧٠.
كلام في حرمة الزنا
و هو بحث قرآني اجتماعي.
من المشهود أن في كل من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الأنثى إذا أدرك و صحت بنيته ميلا غريزيا إلى الآخر و ليس ذلك مما يختص بالإنسان بل ما نجده من عامة الحيوان أيضا على هذه الغريزة الطبيعية.
و قد جهز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أن هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد و التناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهز بأمور أخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد و تجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذي طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكل ذلك تسخير إلهي يتوسل به إلى بقاء النوع.
و لذلك نرى أن الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنية لسذاجة حياته و قلة حاجته يهتدي حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي السفاد ثم يلتزم الزوجان أو الأنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفلان أو تتكفل الأنثى تغذيته و تربيته حتى يدرك و يستقل بإدارة رحى حياته.
و لذلك أيضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنة الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية
الغريزة و يتوسل به إلى إنسال الذرية، و هو أصل طبيعي لانعقاد المجتمع الإنساني فإن من الضروري أن الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور.
و ما مر من أن في سنة الازدواج شيء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدون أهلهم إعراضا لأنفسهم و يرون الذب عن الأهل و صونها من تعرض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذب عن أنفسهم أو أشد، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة و ليست بالحسد و الشح.
و لذلك أيضا لم يزالوا على مر القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدونه سنة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدونه إثما اجتماعيا و فاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به و إن كان ربما وجد بين بعض الأقوام الهمجية في بعض الأحيان و على شرائط خاصة بين الحرائر و الشبان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الأمم و الأقوام.
و إنما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسلية و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفة و الحياء و الغيرة و المودة و الرحمة.
غير أن المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية و حرية الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية و الشرائع الدينية و الأخلاق الإنسانية أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربما أضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية أخرى في موارد خاصة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.
فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتى عمت المحصنين و المحصنات و المحارم حتى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفة الميزان و أخذت تضعف الأخلاق الكريمة التي كانت تتصف بها الإنسانية الطبيعية و ترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة و الغيرة و الحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل أضحوكة و سخرية، و لو لا أن في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الأبحاث القرآنية
خاصة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءات في هذا الباب.
و الشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات ١٥١-١٥٣ من سورة الأنعام تنهى عن الزنا أشد النهي و قد كان محرما في ملة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.
و قد نهي عنه في الإسلام و عد من المعاصي الكبيرة و أغلظ في التحريم في المحارم كالأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد أغلظ فيما شرع له من الحد و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو أقيم الحد مرتين أو ثلاثا و الرجم في الزنا مع الإحصان.
و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً} حيث عده أولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: {وَ سَاءَ سَبِيلاً} و المراد - و الله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: {أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ} العنكبوت: ٢٩، أي و تتركون إتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أن الازدواج و عقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده.
فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلا محنة النفقة و مشقة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد و تعب، و هو مشهود من حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كل نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.
و من هنا أنهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة
غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أن الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرية و كذا الإمعان في حال الإنسان أول ما يميل إلى ذلك يعطي أن الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.
و لو كانت الغريزة الإنسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية إنما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشري و استن عليه و لا أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوج رجل برجل أحيانا أو امرأة بامرأة و لم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبدا.
و من جهة أخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة و الرحمة و تعلق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية.
و من التصور الباطل أن يتصور أن البشر سيوفق يوما أن يدير رحى مجتمعة بأصول فنية و طرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإن السنن القومية و القوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعية فلو بطلت أو أبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعة، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنية على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الأمر عليه.
فهجر الغرائز الطبيعية و ذهول المجتمع البشري عن غاياته الأصلية يهدد الإنسانية بهلاك سيغشاها و يهتف بأن أمامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا
يحس به كل الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.
ثم إن لهذه الفاحشة أثرا آخر سيئا في نظر التشريع الإسلامي و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.
[بيان ]
قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلا بالحق أي إلا أن يكون قتلا بالحق بأن يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعية، و لعل في توصيف النفس بقوله: {حَرَّمَ اَللَّهُ} من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الإشارة إليه في ذيل الآيات ١٥١-١٥٣ من سورة الأنعام.
و قوله: {وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا و الضميران في {فَلاَ يُسْرِفْ} و {إِنَّهُ} للولي، و المراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور.
و المعنى و من قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه و هو ولي دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الولي في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب أنا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على أنا نصرناه.
و ربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: {فَلاَ يُسْرِفْ} إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله: {إِنَّهُ} إلى {مَنْ} و المعنى قد جعلنا لولي المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الأول بإقدامه على القتل ظلما فإن المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير {إِنَّهُ} فقط إلى المقتول.
و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} البقرة: ١٧٩ في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} نهي
عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر التي أوعد الله عليها النار قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} النساء: ١٠.
و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.
و قوله: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالطريقة التي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ أشده فتردوه إليه، و بعبارة أخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية ١٥٢.
قوله تعالى: {وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً} أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإن من الجائز أن تتمثل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.
قوله تعالى: {وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً} القسطاس بكسر القاف و ضمها هو الميزان قيل: رومي معرب و قيل:
عربي، و قيل مركب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس و هو كفة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه. و قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً} الخير هو الذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل هو الحقيقة التي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.
و كونهما أحسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإن معايشهم تقوم في التمتع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا
خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، و ارتفع الأمن العام من بينهم.
و أما إذا أقيم الوزن بالقسط فقد أطل عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصادية بإصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقر بينهم الأمن العام.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} القراءة المشهورة {لاَ تَقْفُ} بسكون القاف و ضم الفاء من قفا يقفو قفوا إذا اتبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، و قرئ {لاَ تَقْفُ} بضم القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أن قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتباع أثر الأقدام.
و الآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا و عملا، و تتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به و لا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله اتباعا.
و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية و هو وجوب اتباع العلم و المنع عن اتباع غيره فإن الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلا أصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الذي يصح له أن يقول: إنه هو، و أما المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصح فيها إطلاق القول بأنه هو فافهم ذلك.
و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا و يجده واقعا في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، و ذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، و أما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإن الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيئول اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بأن له علما
و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.
و يتحصل من ذلك أنه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنه يعد ما يثق به نفسه و يطمئن إليه قلبه علما و إن لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق.
فله في كل مسألة ترد عليه إما علم بنفس المسألة و إما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه و يدل عليه، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله سبحانه {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم.
فيئول المعنى إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبي و اتباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإن الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتبعه الصواب، و الحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.
و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإن الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظي فيه، و الظهور اللفظي من الأدلة الظنية غير أنه حجة عن دليل علمي و هو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيا عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.
و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره أن العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالآية تمسك بعام مخصوص و هو لا يفيد إلا الظن
فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.
و فيه أن الآية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير أن موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة إنما هو عمل بتلك الحجج العلمية و الآية باقية على عمومها من غير تخصص، و لو سلم فالعمل بالعام المخصص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص من غير فرق بينهما البتة.
و نظيره الاستشكال فيها بأن الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها و الظهور طريق ظني فلو دلت الآية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، و لازمها حرمة العمل بنفسها.
و يرده ما تقدمت الإشارة إليه أن اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية و هي بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشيء.
و قوله: {إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} تعليل للنهي السابق في قوله: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.
و الظاهر المتبادر إلى الذهن، أن الضميرين في {كَانَ عَنْهُ} راجعان إلى {كُلُّ} فيكون {عَنْهُ} نائب فاعل لقوله: {مَسْؤُلاً} مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في الكشاف، أو مغنيا عن نائب الفاعل، و قوله: {أُولَئِكَ} إشارة إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنما عبر عنها بأولئك المختص بالعقلاء لأن كون كل منها مسئولا عنه يجريه مجرى العقلاء و هو كثير النظير في كلامه تعالى.
و ربما منع بعضهم كون «أولئك» مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى | *** | و العيش بعد أولئك الأيام |
و على ذلك فالمسئول هو كل من السمع و البصر و الفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى: {وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يس: ٦٥.
و اختار بعضهم رجوع ضمير {عَنْهُ} إلى {كُلُّ} و عود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام، فيكون المسئول هو القافي يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده كيف استعملها؟ و فيما استعملها؟ و عليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، و كان الأصل أن يقال: كنت عنه مسئولا. و هو بعيد.
و المعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لأن الله سبحانه سيسأل عن السمع و البصر و الفؤاد و هي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، و المحصل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أن السمع و البصر و الفؤاد إنما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخص بها الحق و يحصل بها على الواقع فيعتقد به و يبني عليه عمله و سيسأل عن كل منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكا علميا؟ و هل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟.
فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به؟ و عن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بينا؟ و عن الفؤاد هل كان ما فكره و قضى به يقينيا لا شك فيه؟ و هي لا محالة تجيب بالحق و تشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرز عن اتباع ما ليس له به علم فإن الأعضاء و وسائل العلم التي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته و لم يكن له به علم و لا يقبل حينئذ له عذر.
و مآله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنه محفوظ عليك في سمعك و بصرك و فؤادك، و الله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }- إلى أن قال - {وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ وَ لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} حم السجدة - ٢٠-٢٣ و غيرها من آيات شهادة الأعضاء.
غير أن الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان و هو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر و يدرك ما يدرك، و هو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانية فيسألها عما أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.
و قد تبين أن الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه و وجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به و ذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع و البصر و الفؤاد، و لا ضير في كون العلة أعم مما عللتها فإن الأعضاء مسئولة حتى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى: {اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} الآية.
قال في المجمع في معنى قوله: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} معناه لا تقل: سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عباس و قتادة، و قيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، و قيل: هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية.
و الأصل أنه عام في كل قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يقال، و لا تفعل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يفعل و لا تعتقد إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد انتهى.
و فيه أن الذي ذكره أعم مما تفيده الآية فإنها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء إلا مع العلم و الثاني أعم من الأول فإنه يشمل النهي عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الأول إنما يشمل النهي عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل، و أما ما نقله من الوجوه في أول كلامه فالأحرى بها أن يذكر في تفسير التعليل بعنوان الإشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً} المرح شدة الفرح بالباطل - كما قيل - و لعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حد الاعتدال فإن الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له و هو لا يتعدى حد الاعتدال، و أما إذا فرح و اشتد منه ذلك حتى خف عقله و ظهر آثاره في أفعاله و أقواله و قيامه و قعوده و خاصة في مشيه فهو من الباطل.
و قوله: {وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً} نهي عن استعظام الإنسان نفسه بأكثر مما هو عليه لمثل البطر و الأشر و الكبر و الخيلاء، و إنما ذكر المشي في الأرض مرحا لظهور ذلك فيه.
و قوله: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً} كناية عن أن فعالك هذا و أنت تريد به إظهار القدرة و القوة و العظمة إنما هو وهم تتوهمه فإن هناك ما هو أقوى منك لا يخترق بقدميك و هي الأرض و ما هو أطول منك و هي الجبال فاعترف بذلك أنك وضيع مهين فلا شيء مما يبتغيه الإنسان و يتنافس فيه في هذه النشأة من ملك و عزة و سلطنة و قدرة و سؤدد و مال و غيرها إلا أمور وهمية لا حقيقة لها وراء الإدراك الإنساني سخر الله النفوس للتصديق بها و الاعتماد في العمل عليها لتعمير النشأة و تمام الكلمة، و لو لا هذه الأوهام لم يعش الإنسان في الدنيا و لا تمت كلمته تعالى: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ} البقرة: ٣٦.
قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الواجبات و المحرمات - كما قيل - و الضمير في {سَيِّئُهُ} يرجع إلى ذلك، و المعنى كل ما تقدم كان سيئه - و هو ما نهي عنه و كان معصية من بين المذكورات - عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى.
و في غير القراءة المعروفة «سيئة» بفتح الهمزة و التاء في آخرها و هي على هذه القراءة خبر كان و المعنى واضح.
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ} ذلك إشارة إلى ما تقدم من تفصيل التكاليف و في الآية إطلاق الحكمة على الأحكام الفرعية و يمكن أن يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة إجمالا من سابق الكلام.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} كرر سبحانه النهي عن الشرك و قد نهى عنه سابقا اعتناء بشأن التوحيد و تفخيما لأمره، و هو كالوصلة يتصل به لاحق الكلام بسابقه، و معنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في الإحتجاج، عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي عن الرضا (عليه السلام) في حديث يذكر فيه الجبر و التفويض و الأمر بين أمرين قال: قلت له: و هل لله مشية و إرادة في ذلك
يعني فعل العبد فقال: أما الطاعات فإرادة الله و مشيته فيها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة لها و مشيته في المعاصي النهي عنها و السخط بها و الخذلان عليها (الحديث).
و في تفسير العياشي، عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما و لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين أ ليس الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا اَلْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}؟ ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) أما قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} قال: إن أضجراك فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما إن ضرباك، و قال {وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، و قال: {وَ اِخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ} قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة و رقة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق أيديهما، و لا تتقدم قدامهما.
أقول: و رواه الكليني في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عنه (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن حديد بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أدنى العقوق أف، و لو علم الله عز و جل شيئا أهون منه لنهى عنه:
أقول: و رواه عنه أيضا بسند آخر و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي البلاد عنه (عليه السلام) و رواه العياشي في تفسيره، عن حريز عنه (عليه السلام)، و الطبرسي في مجمع البيان، عن الرضا عن أبيه عنه (عليهما السلام). و الروايات في وجوب بر الوالدين و حرمة عقوقهما في حياتهما و بعد مماتهما من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل بيته (عليهم السلام) أكثر من أن تحصى.
و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): الأواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا أبا محمد عليكم بالورع و الاجتهاد و أداء الأمانة و صدق الحديث و حسن الصحبة لمن صحبكم و طول السجود، و كان ذلك من سنن التوابين الأوابين. قال أبو بصير: الأوابون التوابون.
أقول: و روي أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام) في معنى الآية هم التوابون المتعبدون.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و هناد عن علي بن أبي طالب قال: إذا مالت الأفياء و راحت الأرواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فإنها ساعة الأوابين و قرأ {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}.
و فيه أخرج ابن حريز عن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه قال لرجل من أهل الشام: أ قرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أ فما قرأت في بني إسرائيل: {وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ} قال. و إنكم للقرابة الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم.
أقول: و رواه في البرهان، عن الصدوق بإسناده عنه (عليه السلام) و عن الثعلبي في تفسيره، عن السدي عن ابن الديلمي عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: {وَ لاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} قال: من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، و من أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد.
و فيه عن أبي بصير عنه (عليه السلام) في الآية قال: بذل الرجل ماله و يقعد ليس له مال قلت: فيكون تبذير في حلال؟ قال: نعم.
و في تفسير القمي، قال: قال الصادق (عليه السلام): المحسور العريان.
و في الكافي، بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاء سائل فقام إلى مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذه بيده فناوله ثم آخر فقال: الله رازقنا و إياك.
ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: فاسأله فإن قال: ليس عندنا شيء فقل: أعطني قميصك قال: فأخذ قميصه فرماه إليه و في نسخة أخرى: و أعطاه فأدبه الله تبارك و تعالى على القصد فقال: {وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} قال: الإحسار الفاقة:
أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن عجلان عنه (عليه السلام)، و روى قصة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القمي في تفسيره، و رواها في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو و عن
ابن جرير الطبري عن ابن مسعود.
و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: علم الله عز اسمه نبيه كيف ينفق؟ و ذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدق بها فأصبح و ليس عنده شيء و جاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل و اغتم هو حيثما لم يكن عنده شيء و كان رحيما رقيقا فأدب الله عز و جل نبيه بأمره فقال: {وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} يقول: إن الناس قد يسألونك و لا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال.
و في تفسير العياشي، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ} قال: فضم يده و قال: هكذا فقال: {وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ} فبسط راحته و قال: هكذا.
و في تفسير القمي، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: و ما الإملاق؟ قال: الإفلاس.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} قال قتادة عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول: لا يزني العبد حين يزني و هو مؤمن، و لا يبهت حين يبهت و هو مؤمن، و لا يسرق حين يسرق و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن، و لا يغل حين يغل و هو مؤمن قيل: يا رسول الله و الله إن كنا لنرى أنه يأتي ذلك و هو مؤمن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا فعل شيئا من ذلك نزع الإيمان من قلبه فإن تاب تاب الله عليه.
أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى عن عائشة و أبي هريرة و قد ورد من طرق أهل البيت (عليهم السلام) أن روح الإيمان يفارقه إذ ذاك.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن الله عز و جل يقول في كتابه: {وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً - فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} فما هذا الإسراف الذي نهى الله عنه؟ قال: نهى أن يقتل
غير قاتله أو يمثل بالقاتل. قلت: فما معنى {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} قال: و أي نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله و لا تبعة يلزمه في قتله في دين و لا دنيا.
و في تفسير العياشي، عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين قتلا رجلا فقال: يخير وليه أن يقتل أيهما شاء و يغرم الباقي نصف الدية أعني دية المقتول فيرد على ذريته، و كذلك إن قتل رجل امرأة إن قبلوا دية المرأة فذاك و إن أبى أولياؤها إلا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل و قتلوه و هو قول الله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ}.
أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد روي في الدر المنثور، عن البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم :أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم و قتلوا غيره فوعظوا في ذلك بقول الله: {وَ لاَ تَقْتُلُوا} - إلى قوله - {فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ}.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ}و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الذي له لسان.
أقول: و ذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فإن الميزان ذا الكفتين كذلك.
و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسمه عليها فليس من جوارحه جارحة إلا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمنها عيناه اللتان ينظر بهما و رجلاه اللتان يمشي بهما.
ففرض على العين أن لا تنظر إلى ما حرم الله عليه و أن تغض عما نهاه الله عنه مما لا يحل و هو عمله و هو من الإيمان، قال الله تبارك و تعالى: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} فهذا ما فرض من غض البصر عما حرم الله و هو عمله و هو من الإيمان.
و فرض الله على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله و الله فرض عليهما المشي فيما فرض الله فقال: {وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ
اَلْجِبَالَ طُولاً} قال: {وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ}
أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عنه (عليه السلام) في حديث مفصل.
و فيه عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: بأبي أنت و أمي إني أدخل كنيفا لي و لي جيران و عندهم جوار يغنين و يضربن بالعود فربما أطيل الجلوس استماعا مني لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل و الله ما أتيتهن إنما هو سماع أسمعه بأذني.
فقال له: أ ما سمعت الله يقول: {إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} قال بلى و الله فكأني لم أسمع هذه الآية قط من كتاب الله من عجمي و لا عربي لا جرم أني لا أعود إن شاء الله و أني أستغفر الله.
فقال: قم و اغتسل و صل ما بدا لك فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك أحمد الله و اسأله التوبة من كل ما يكره فإنه لا يكره إلا كل قبيح، و القبيح دعه لأهله فإن لكل أهلا.
أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عنه (عليه السلام) و الكليني في الكافي، عن مسعدة بن زياد عنه (عليه السلام).
و فيه عن الحسين بن هارون عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: {إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} قال: يسأل السمع عما يسمع و البصر عما يطرف و الفؤاد عما يعقد عليه.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الآية) قال: قال: لا تؤم أحدا مما ليس لك به علم. قال: قال رسول الله (عليه السلام): من بهت مؤمنا أو مؤمنة أقيم في طينة خبال أو يخرج مما قال.
أقول: و فسرت طينة خبال في رواية ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) - على ما في الكافي - بأنها صديد يخرج من فروج المومسات و روي من طرق أهل السنة ما يقرب منها عن أبي ذر و أنس عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و الروايات كما ترى بعضها مبني على خصوص مورد الآية و بعضها على عموم التعليل كما أشير إليه في البيان المتقدم.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٤٠الی ٥٥]
{أَ فَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ٤٠وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ٤١ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ٤٤ وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ٤٥ وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ٤٦ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ اَلظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ٤٧ اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ٤٨ وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ٤٩ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ٥٠أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ اَلَّذِي
فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ٥١ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ٥٢ وَ قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً ٥٣ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ٥٤ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ٥٥}
بيان
في الآيات تعقيب مسألة التوحيد و توبيخ المشركين على اتخاذهم الآلهة و نسبة الملائكة الكرام إلى الأنوثية، و أنهم لا يتذكرون بما يلقي إليهم القرآن من حجج الوحدانية، و لا يفقهون الآيات بل يستهزءون بالرسول و بما يلقى إليهم من أمر البعث و يسيئون القول في أمر الله و غير ذلك.
قوله تعالى: {أَ فَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} الإصفاء الإخلاص قال في المجمع: تقول: أصفيت فلانا بالشيء إذا آثرته به. انتهى.
خطاب لمن يقول منهم: إن الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله و الاستفهام للإنكار، و لعله بدل البنات من الإناث لكونهم يعدون الأنوثة من صفات الخسة.
و المعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره و هو الذي يتولى أمر كل شيء فهل تقولون إنه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه و هو أنه خصكم بالبنين و لم يتخذ لنفسه من الولد إلا الإناث و هم الملائكة الكرام الذين تزعمون أنهم إناث إنكم لتقولون
قولا عظيما من حيث استتباعه التبعة السيئة.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} قال في المفردات: الصرف رد الشيء من حالة إلى حالة أو إبداله بغيره. قال: و التصريف كالصرف إلا في التكثير، و أكثر ما يقال في صرف الشيء من حالة إلى حالة و من أمر إلى أمر، و تصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى: {وَ صَرَّفْنَا} الآيات {وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ} و منه تصريف الكلام و تصريف الدراهم. انتهى.
و قال: النفر الانزعاج من الشيء و إلى الشيء كالفزع إلى الشيء و عن الشيء يقال: نفر عن الشيء نفورا قال تعالى: {مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} {وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} انتهى.
فقوله: {وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} معناه بشهادة السياق: و أقسم لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد و نفي الشريك من وجه إلى وجه و حولناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فأوردناه بمختلف العبارات و بيناه بأقسام البيانات ليتذكروا و يتبين لهم الحق.
و قوله: {وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} أي ما يزيدهم التصريف إلا انزعاجا كلما استؤنف جيء ببيان جديد أورثهم نفرة جديدة.
و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة تنبيها على أنهم غير صالحين للخطاب و التكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال.
قال في المجمع: فإن قيل: إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله؟ و ما وجه الحكمة فيه؟ قيل: الحكمة فيه إلزام الحجة و قطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف، و إنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله، و لو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني، و إنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات و الدلائل لاعتقادهم أنها شبه و حيل و قلة تفكرهم فيها. انتهى.
و قوله: إنه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شيء فإن
ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود و معاندة الحق و الصد عنه و لا فساد أعظم منه في باب الدعوة.
لكن ينبغي أن يعلم أن الكفر و الجحود و النفور عن الحق و العناد معه كما كانت تضر أصحابها و يوردهم مورد الهلاك فهي تنفع أرباب الإيمان و الرضا بالحق و التسليم له إذ لو لم يتحقق لهذه الخصال الحسنة و الصفات الجميلة مقابلات لم تتحقق لها كينونة فافهم ذلك.
فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجة ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقي كل ما في وسعه من الشقاء، و يتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الأشقياء و قد قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الآية) ٢٠من السورة.
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً} أعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد و نفي الشريك. و الذي يقولون به أن هناك آلهة دون الله يتولون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم و الواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء و إله الأرض و إله الحرب و إله قريش.
و إذ كانوا شركاء من جهة التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته و الملك من توابع الخلق الذي يختص به سبحانه حتى على معتقدهم۱ كان الملك مما يقبل في نفسه أن يقوم به غيره تعالى و حب الملك و السلطنة ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة طالبين أن ينازعوه في ملكه و ينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك و السلطنة، و يتعين بالعزة و الهيمنة تعالى الله عن ذلك.
فملخص الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون و كان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئا من ملكه الذي هو من لوازم ذاته الفياضة لكل شيء و حب الملك و السلطنة مغروز
في كل موجود بالضرورة لطلب أولئك الآلهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه و يزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضرورة لكن لا سبيل لأحد إليه تعالى عن ذلك.
فقوله: {إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً} أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له من الملك، و التعبير عنه تعالى بذي العرش و هو من الصفات الخاصة بالملك للدلالة على أن ابتغاءهم السبيل إليه إنما هو لكونه ذا العرش و هو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقروا عليه.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن الحجة في الآية هي في معنى الحجة التي في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الآية) الأنبياء: ٢٢ في غير محله.
و ذلك أن الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التي في الآية التي نحن فيها تسلك إلى نفي الشريك من جهة ابتغاء الآلهة السبيل إلى ذي العرش و طلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، و التي في آية الأنبياء تسلك من جهة أن اختلاف الآلهة في ذواتهم يؤدي إلى اختلافهم في التدبير و ذلك يؤدي إلى فساد النظام فالحق أن الحجة التي فيما نحن فيه غير الحجة التي في آية الأنبياء، و التي تقرب من حجة آية الأنبياء ما في قوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} المؤمنون: ٩١.
و كذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذي العرش طلبهم التقرب و الزلفى منه لعلوه عليهم، و تقريب الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى و الزلفى لديه لعلمهم بعلوه و عظمته، و الذي كان حاله هذا الحال لا يكون إلها فليسوا بآلهة.
في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذي العرش و قوله بعد: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ} إلخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الآلهة المستلزم لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحة العظمة و الكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه و تهاجم غيره عليه و كونه لا يأبى بحسب طبعه أن يبتز و ينتقل إلى من دونه.
قوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً} التعالي هو العلو البالغ و لهذا
وصف المفعول المطلق أعني {عُلُوًّا} بقوله: {كَبِيراً} فالكلام في معنى تعالى تعاليا: و الآية تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الآلهة و كون ملكه و ربوبيته مما يمكن أن يناله غيره.
قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إلخ الآية و ما قبلها و إن كانت واقعة موقع التعظيم كقوله: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} لكنها تفيد بوجه في الحجة المتقدمة فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} إلخ فإن الحجة بالحقيقة قياس استثنائي و الذي بمنزلة الاستثناء هو ما في الآية من تسبيح الأشياء له سبحانه كأنه قيل: لو كان معه آلهة لكان ملكه في معرض المنازعة و المهاجمة لكن الملك من السماوات و الأرض و من فيهن ينزهه عن ذلك و يشهد أن لا شريك له في الملك فإنها لم تبتدئ إلا منه و لا تنتهي إلا إليه و لا تقوم إلا به و لا تخضع سجدا إلا له فلا يتلبس بالملك و لا يصلح له إلا هو فلا رب غيره.
و من الممكن أن تكون الآيتان أعني قوله: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً. تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ} إلخ جميعا في معنى الاستثناء و التقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته و عزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التي يقوم به كل شيء و تلزمه الربوبية من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، و كذلك ملكه و هو عالم السماوات و الأرض و من فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحة له حيث إنها قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت و انعدمت فليس معه آلهة و لا أن ملكه و ربوبيته مما يمكن أن يبتغيه غيره فتأمل فيه.
و كيف كان فقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ} يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح و أنها تسبح الله و تنزهه عما يقولون من الشريك و ينسبون إليه.
و التسبيح تنزيه قولي كلامي و حقيقة الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الإشارة إليه و الدلالة عليه غير أن الإنسان لما لم يجد إلى إرادة كل ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الألفاظ و هي الأصوات الموضوعة للمعاني،
و دل بها على ما في ضميره، و جرت على ذلك سنة التفهيم و التفهم، و ربما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما، و ربما استعان على ذلك بكتابة أو نصب علامة.
و بالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول و كلام و قيام الشيء بهذا الكشف قول منه و تكليم و إن لم يكن بصوت مقروع و لفظ موضوع، و من الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام و القول و الأمر و الوحي و نحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد و ليس من قبيل القول و الكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات و قد سماه الله سبحانه قولا و كلاما.
و عند هذه الموجودات المشهودة من السماء و الأرض و من فيهما ما يكشف كشفا صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته و ينزهه تعالى عن كل نقص و شين فهي تسبح الله سبحانه.
و ذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجة و صرف الفاقة إليه في ذاتها و صفاتها و أحوالها. و الحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجة لا يستقل المحتاج دونه و لا ينفك عنه فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده و نقصه في ذاته عن موجده الغني في وجوده التام الكامل في ذاته و بارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده و رفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شيء المدبر لأمره.
ثم النظام العام الجاري في الأشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، و أنه الذي إليه بوحدته يرجع الأشياء و به بوحدته ترتفع الحوائج و النقائص فلا يخلو من دونه من الحاجة، و لا يتعرى ما سواه من النقيصة و هو الرب لا رب غيره و الغني الذي لا فقر عنده و الكمال الذي لا نقص فيه.
فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته و نقصه عن تنزه ربه عن الحاجة و براءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئا من النقص و الشين تعالى و تقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك و ينسب بذلك إليه البراءة من النقص فإن المعنى الذي تصور في ضمير هذا الإنسان و اللفظ الذي يلفظه لسانه و جميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كل ذلك أمور موجودة تكشف بحاجتها الوجودية
عن رب واحد لا شريك له و لا نقص فيه.
فمثل هذا الإنسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا إنسان متكلما في الدنيا و شهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما ادعاه و شهد عليه و كلما تكررت الشهادة على هذا النمط و كثر الشهود تأكدت الحجة من طريق الشهادة على خلافها.
فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد و القصد مما يتوقف على الحياة و أغلب هذه الموجودات عادمة للحياة كالأرض و السماء و أنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزه ربها.
قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة فلكل منها حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، و ليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أو يتحد من حيث جنسه و نوعه أو يكون عند كل ما عند الإنسان من ذلك أو أن يفقه الإنسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الإنسان: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} حم السجدة: ٢١ و قال {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} حم السجدة: ١١ و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و سيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى.
و إذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا و هو يشعر بنفسه بعض الشعور و هو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التي يحيط بها غنى ربه و كماله لا رب غيره فهو يسبح ربه و ينزهه عن الشريك و عن كل نقص ينسب إليه.
و بذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة، و نظيره قول بعضهم: إن تسبيح بعض هذه الموجودات قالي حقيقي كتسبيح الملائكة و المؤمنين من الإنسان و تسبيح بعضها حالي مجازي كدلالة الجمادات بوجودها عليه تعالى و لفظ التسبيح مستعمل في الآية على سبيل عموم المجاز، و قد عرفت ضعفه آنفا.
و الحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون
بألفاظ موضوعة و أصوات مقروعة كما تقدمت الإشارة إليه و قد تقدم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام.
فقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ} يثبت لها تسبيحا حقيقيا و هو تكلمها بوجودها و ما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة و بيانها تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء و جهات النقص.
و قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} تعميم التسبيح لكل شيء و قد كانت الجملة السابقة عدت السماوات السبع و الأرض و من فيهن، و تزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أن كل شيء كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته و أفعاله.
و ذلك أنه كما أن عند كل من هذه الأشياء شيئا من الحاجة و النقص عائدا إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه و نعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، و كما أن إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها و نقصها و كشف عن تنزه ربها عن الحاجة و النقص، و هو تسبيحها كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربها الذي وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري فهي تحمد ربها كما تسبحه و هو قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
و بلفظ آخر إذا لوحظ الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها بإبرازها ما عندها من الحاجة و النقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، و إذا لوحظت من جهة كشفها ما لربها بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود و سائر جهات الكمال فهو حمد منها لربها و إذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها و شعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى و هي آياته.
و هذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفي الشريك و جهات النقص فإن الخطاب في قوله: {وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إما للمشركين و إما للناس أعم من المؤمن و المشرك و هم على أي حال يفقهون دلالة الأشياء
على صانعها مع أن الآية تنفي عنهم الفقه.
و لا يصغي إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين و هم لعدم تدبرهم فيها و قلة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزلة العدم، و لا إلى دعوى من يدعي أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا.
و ذلك لأن تنزيل الفهم منزلة العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج و هو سبحانه يخاطبهم في سابق الآية بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب و نحوه لا يحتمله كلامه تعالى.
و أما ما وقع في قوله بعد هذه الآية: {وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ} إلى آخر الآيات من نفي الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الآيات تنفي عنهم فقه القرآن و هو غير نفي فقه دلالة الأشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم.
فالحق أن التسبيح الذي تثبته الآية لكل شيء هو التسبيح بمعناه الحقيقي و قد تكرر في كلامه تعالى إثباته للسماوات و الأرض و من فيهن و ما فيهن و فيها موارد لا تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى: {وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ} الأنبياء: ٧٩، و قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ} ص: ١٨، و يقرب منه قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ} سبأ: ١٠فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال.
و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن للأشياء تسبيحا و منها روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و سيوافيك بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و قوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة و يغفر من تاب و رجع إليه، و في الوصفين دلالة على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، و لازم المغفرة أن لا يتضرر بالمغفرة و لا بإفاضة الرحمة فملكه و ربوبيته لا يقبل نقصا و لا زوالا.
و قد قيل في وجه هذا التذييل إنه إشارة إلى أن الإنسان في قصوره عن فهم هذا
التسبيح الذي لا يزال كل شيء مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطئ من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه و مغفرته لا يعاجله و يعفو عن ذلك إن شاء.
و هو وجه حسن و لازمه أن يكون الإنسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه و من غيره، و لعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.
قوله تعالى: {وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنه حجاب مستور عن الحواس على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شيء عن شيء فهو حجاب معنوي مضروب بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنه قار للقرآن حامل له و بين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يحجبه عنهم فلا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن و يؤمنوا به و لا أن يذعنوا بأنه رسول من الله جاءهم بالحق، و لذلك تولوا عنه إذا ذكر الله وحده و بالغوا في إنكار المعاد و رموه بأنه رجل مسحور، و الآيات التالية تؤيد هذا المعنى.
و إنما وصف المشركين بقوله: {اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} لأن إنكار الآخرة يلغو معه الإيمان بالله وحده و بالرسالة فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع أصول الدين، و ليكون تمهيدا لما سيذكر من إنكارهم البعث.
و المعنى: إذا قرأت القرآن و تلوته عليهم جعلنا بينك و بين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة - و في توصيفهم بذلك ذم لهم - حجابا معنويا محجوبا عن فهمهم فلا يسعهم أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، و لا أن يعرفوك بالرسالة الحقة، و لا أن يؤمنوا بالمعاد و يفقهوا حقيقته.
و للقوم في قوله: {حِجَاباً مَسْتُوراً} أقوال أخر فعن بعضهم أن «مفعول» فيه للنسب أي حجابا ذا ستر نظير قولهم: رجل مرطوب و مكان مهول و جارية مغنوجة أي ذو رطوبة و ذو هول و ذات غنج، و منه قوله تعالى: {وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي ذا إتيان و الأكثر في ذلك أن يجيء على فاعل كلابن و تامر.
و عن الأخفش أن «مفعول» ربما ورد بمعنى فاعل كميمون و مشئوم بمعنى يامن و شائم كما أن «فاعل» ربما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى ساتر.
و عن بعضهم أن ذلك من الإسناد المجازي و المستور بحسب الحقيقة هو ما وراء الحجاب لا نفسه.
عن بعضهم أنه من قبيل الحذف و الإيصال و أصله حجابا مستورا به الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) عنهم.
و قيل: المعنى حجابا مستورا بحجاب آخر أي بحجب متعددة و قيل المعنى حجابا مستورا كونه حجابا بمعنى أنهم لا يدرون أنهم لا يدرون و الثلاثة الأخيرة أسخف الوجوه.
قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} الأكنة جمع كن بالكسر و هو على ما ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشيء و يستر به عن غيره، و الوقر الثقل في السمع، و في المجمع: النفور جمع نافر، و هذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول مثل ركوع و سجود و شهود. انتهى.
و قوله: {وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} إلخ كالبيان للحجاب المذكور سابقا أي أغشينا قلوبهم بأغشية و حجب حذار أن يفقهوا القرآن و جعلنا في آذانهم وقرا و ثقلا أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول و لا يفقهونه فقه إيمان و تصديق كل ذلك مجازاة لهم بما كفروا و فسقوا.
و قوله: {وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أي على نعت التوحيد و نفي الشريك ولوا على أدبارهم نافرين و أعرضوا عنه مستدبرين.
قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية، النجوى مصدر و لذا يوصف به الواحد و المثنى و المجموع و المذكر و المؤنث و هو لا يتغير في لفظه.
و الآية بمنزلة الحجة على ما ذكر في الآية السابقة أنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا فقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} إلخ ناظر إلى جعل الوقر
و قوله: {وَ إِذْ هُمْ نَجْوى} إلخ ناظر إلى جعل الأكنة.
يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التي يستمعون بها إليك و بقلوبهم التي ينظرون بها في أمرك - و كيف لا؟ و هو تعالى خالقها و مدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم أكنة و في آذانهم وقرا أصدق و أحق بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به و هو آذانهم في وقت يستمعون إليك، و نحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجي بعضهم بعضا متحرزين عن الإجهار و رفع الصوت و هم يرون الرأي إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم و هم ظالمون في قولهم - إن تتبعون إلا رجلا مسحورا و هذا تصديق أنهم لم يفقهوا الحق.
و في الآية إشعار بل دلالة على أنهم كانوا لا يأتونه (صلى الله عليه وآله و سلم) لاستماع القرآن علنا حذرا من اللائمة و إنما يأتونه متسترين مستخفين حتى إذا رأى بعضهم بعضا على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفا أن يحس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض: إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، و بهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، و سنورده إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.
قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} المثل بمعنى الوصف، و ضرب الأمثال التوصيف بالصفات و معنى الآية ظاهر، و هي تفيد أنهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى: {وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يس: ١٠.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} قال في المجمع: الرفات ما تكسر و بلي من كل شيء، و يكثر بناء فعال في كل ما يحطم و يرضض يقال: حطام و دقاق و تراب و قال المبرد: كل شيء مدقوق مبالغ في دقه حتى انسحق فهو رفات. انتهى.
في الآية مضي في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث و هو من أهم ما يثبته القرآن و أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي و العقل حتى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنه {لاَ رَيْبَ فِيهِ} و ليس لهم حجة على نفيه غير أنهم استبعدوه استبعادا.
و من أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أن الموت فناء للإنسان و من المستبعد أن يتكون الشيء عن عدم بحت كما قالوا: أ إذا كنا عظاما و رفاتا بفساد أبداننا عن الموت حتى إذا لم يبق منها إلا العظام ثم رمت العظام و صارت رفاتا أ إنا لفي خلق جديد نعود أناسي كما كنا؟ ذلك رجع بعيد و لذلك رده سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة و الخلق الأول كما سيأتي.
قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} جواب عن استبعادهم، و قد عبروا في كلامهم بقولهم: {أَ إِذَا كُنَّا} فأمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا {حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} إلخ مما تبديله إلى الإنسان أبعد و أصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه.
فيكون إشارة إلى أن القدرة المطلقة الإلهية لا يشقها شيء تريد تجديد خلقه سواء أ كان عظاما و رفاتا أو حجارة أو حديدا أو غير ذلك.
و المعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام و الرفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا آخر من الأشياء التي تكبر في صدورهم و يبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان - فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الأول و يبعثهم.
قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنهم مبعوثون أياما كانوا و إلى أي حال و صفة تحولوا سيسألونك و يقولون من يعيدنا إلى ما كنا عليه من الخلقة الإنسانية؟ فاذكر لهم الله سبحانه و ذكرهم من وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محل و هو فطره إياهم أول مرة و لم يكونوا شيئا و قل: يعيدكم الذي خلقكم أول مرة.
ففي تبديل لفظ الجلالة من قوله: {اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إثبات الإمكان و رفع الاستبعاد بإراءة المثل.
قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} قال الراغب: الإنغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب منه. انتهى.
و المعنى: فإذا قرعتهم بالحجة و ذكرتهم بقدرة الله على كل شيء و فطرة إياهم أول
مرة وجدتهم يحركون إليك رءوسهم تحريك المستهزئ المستخف بك المستهين له و يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا فإنه لا سبيل إلى العلم به و هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لكن وصف اليوم معلوم بإعلامه تعالى و لذا وصفه لهم واضعا الصفة مكان الوقت فقال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (الآية).
قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} {يَوْمَ} منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا و كذا و الدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء و استجابتهم هي قبولهم الدعوة الإلهية، و قوله: {بِحَمْدِهِ} حال من فاعل تستجيبون و التقدير تستجيبون متلبسين بحمده أي حامدين له تعدون البعث و الإعادة منه فعلا جميلا يحمد فاعله و يثنى عليه لأن الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبين لكم أن من الواجب في الحكمة الإلهية أن يبعث الناس للجزاء و أن تكون بعد الأولى أخرى.
و قوله: {وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي تزعمون يوم البعث أنكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت إلا زمانا قليلا و ترون أن اليوم كان قريبا منكم جدا.
و قد صدقهم الله في هذه المزعمة و أن خطأهم فيما ضربوا له من المدة قال تعالى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} المؤمنون، ١١٤، و قال: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ} الروم: ٥٦ إلى غير ذلك من الآيات.
و في التعرض لقوله: {وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} تعريض لهم في استبطائهم اليوم و استهزائهم به، و تأييد لما مر من رجاء قربه في قوله: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} أي و أنكم ستعدونه قريبا، و كذا في قوله: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} تعريض لهم في استهزائهم به و تعجبهم منه أي و أنكم ستحمدونه يوم البعث و أنتم اليوم تستبعدونه و تستهزءون بأمره.
قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} إلخ يلوح من السياق أن المراد بعبادي هم المؤمنون فالإضافة للتشريف، و قوله: {قُلْ
لِعِبَادِي يَقُولُوا} إلخ أي مرهم أن يقولوا فهو أمر و جواب أمر مجزوم، و قوله: {اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي الكلمة التي هي أحسن، و هو اشتمالها على الأدب الجميل و تعريها عن الخشونة و الشتم و سوء الأمر.
الآية و ما بعدها من الآيتين ذات سياق واحد، و خلاصة مضمونها الأمر بإحسان القول و لزوم الأدب الجميل في الكلام تحرزا عن نزغ الشيطان، و ليعلموا أن الأمر إلى مشية الله لا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى يرفع القلم عن كل من آمن به و انتسب إليه و يتأهل للسعادة، فله ما يقول، و له أن يحرم غيره كل خير و يسيء القول فيه فما للإنسان إلا حسن سريرته و كمال أدبه، و قد فضل الله بذلك بعض الأنبياء على بعض و خص داود بإيتاء الزبور الذي فيه أحسن القول و جميل الثناء على الله سبحانه.
و من هنا يظهر أن المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول و يخاشنونهم بالكلام و ربما جبهوهم بأنهم أهل النار، و أنهم معشر المؤمنين أهل الجنة ببركة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكان ذلك يهيج المشركين عليهم و يزيد في عداوتهم و يبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم و تعذيبهم و إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و العناد مع الحق.
فأمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم بقول التي هي أحسن و المقام مناسب لذلك فقد تقدم آنفا حكاية إساءة الأدب من المشركين إلى النبي و تسميتهم إياه رجلا مسحورا و استهزائهم بالقرآن و بما فيه من معارف المبدإ و المعاد، و هذا هو وجه اتصال الآيات الثلاث بما قبلها و اتصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك.
فقوله: {وَ قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أمر بالأمر و المأمور به قول الكلمة التي هي أحسن فهو نظير قوله: {وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل: ١٢٥ و قوله: {إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} تعليل للأمر، و قوله: {إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً} تعليل لنزغ الشيطان بينهم.
و ربما قيل: إن المراد بقول التي هي أحسن الكف عن قتال المشركين و معاملتهم بالسلم و الخطاب للمؤمنين بمكة قبل الهجرة فالآية نظيرة قوله: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} البقرة: ٨٣ على ما ورد في أسباب النزول، و أنت خبير بأن سياق التعليل في الآية لا يلائمه.
قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} قد تقدم أن الآية و ما بعدها تتمة السياق السابق، و على ذلك فصدر الآية من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي أمر بإلقائه على المؤمنين بقوله: {قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا} إلخ و ذيل الآية خطاب للنبي خاصة فلا التفات في الكلام.
و يمكن أن يكون الخطاب في صدر الآية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين جميعا بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، و هذا أنسب بسياق الآية السابقة و تلاحق الكلام، و الكلام لله جميعا.
و كيف كان فقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} في مقام تعليل الأمر السابق ثانيا، و يفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من إغلاظ القول على غيرهم و القضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء كأن يقولوا: فلان سعيد بمتابعة النبي و فلان شقي و فلان من أهل الجنة و فلان من أهل النار و عليهم أن يرجعوا الأمر و يفوضوه إلى ربهم فربكم - و الخطاب للنبي و غيره - أعلم بكم و هو يقضي فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم و لا يشاء ذلك إلا مع الإيمان و العمل الصالح على ما بينه في كلامه أو إن يشأ يعذبكم و لا يشاء ذلك إلا مع الكفر و الفسوق، و ما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم حتى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطي هذا و تحرم ذاك.
و من ذلك يظهر أن الترديد في قوله: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} باعتبار المشية المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان و الكفر و العمل الصالح و الطالح و أن قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الانتساب إلى قبول دينه نظير قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} النساء: ١٢٣ و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى وَ اَلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} البقرة: ٦٢ و آيات أخرى في هذا المعنى.
و في الآية أقوال أخر تركنا التعرض لها لعدم الجدوى.
قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} صدر الآية توسعة في معنى التعليل السابق كأنه قيل:
و كيف لا يكون أعلم بكم و هو أعلم بكم و هو أعلم بمن في السماوات و الأرض و أنتم منهم.
و قوله: {وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} كأنه تمهيد لقوله: {وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} و الجملة تذكر فضل داود (عليه السلام) بكتابه الذي هو زبور و فيه أحسن الكلمات في تسبيحه و حمده تعالى، و فيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في أحسن القول و يتأدبوا بالأدب الجميل في المحاورة و الكلام.
و لهم في تفسير الآية أقوال أخرى تركنا التعرض لها و من أرادها فليراجع المطولات.
بحث روائي
في تفسير القمي: في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً} قال: قال: لو كانت الأصنام آلهة كما تزعمون لصعدوا إلى العرش.
أقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى و أخذوا بأزمة الأمور و أما العرش بمعنى الفلك المحدد للجهات أو جسم نوراني عظيم فوق العالم الجسماني كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، و على تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبية و الصعود على هذا الجسم.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن نوحا لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما بسبحان الله و بحمده فإنها صلاة كل شيء، و بها يرزق كل شيء.
أقول: قد ظهر مما قدمناه في معنى تسبيح الأشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كل شيء و بين رزقه فإن الرزق يقدر بالحاجة و السؤال و كل شيء إنما يسبح الله تعالى بالإشارة بإظهار حاجته و نقصه إلى تنزهه تعالى من ذلك.
و في تفسير العياشي، عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قال: كل شيء يسبح بحمده، و إنا لنرى أن تنقض الجدر هو تسبيحها.
أقول: و رواه أيضا عن الحسين بن سعيد عنه (عليه السلام).
و فيه عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: نهى رسول الله (عليه السلام) أن يوسم البهائم و أن يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها:
أقول: و روى النهي عن ضربها على وجوهها: الكليني في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: و في حديث آخر: لا تسمها في وجوهها.
و فيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من طير يصاد في بر أو بحر و لا شيء يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح.
أقول: و هذا المعنى رواه أهل السنة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي الدرداء و أبي هريرة و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام): أنه دخل عليه رجل فقال: فداك أبي و أمي إني أجد الله يقول في كتابه: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فقال له: هو كما قال الله تبارك و تعالى.
قال: أ تسبح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم أ ما سمعت خشب البيت كيف ينقصف؟ و ذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن النمل يسبحن.
و فيه أخرج النسائي و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن قتل الضفدع و قال: نعيقها تسبيح.
و فيه أخرج الخطيب عن أبي حمزة قال: كنا مع علي بن الحسين فمر بنا عصافير يصحن فقال: أ تدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا فقال: أما إني ما أقول: إنا نعلم الغيب و لكني سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها و سألته قوت يومها و إن هذه تسبح ربها و تسأل قوت يومها.
أقول: و روي أيضا مثله عن أبي الشيخ و أبي نعيم في الحلية عن أبي حمزة الثمالي عن محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) و لفظه قال محمد بن علي بن الحسين: و سمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا قال: يسبحن ربهن عز و جل و يسألن قوت يومهن.
و فيه أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما فقال لي: أ ما علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه.
و فيه أخرج العقيلي في الضعفاء و أبو الشيخ و الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): آجال البهائم كلها و خشاش الأرض و النمل و البراغيث و الجراد و الخيل و البغال و الدواب كلها و غير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، و ليس إلى ملك الموت منها شيء.
أقول: و لعل المراد من قوله: و ليس إلى ملك الموت منها شيء، أنه لا يتصدى بنفسه قبض أرواحها و إنما يباشرها بعض الملائكة و الأعوان، و الملائكة أسباب متوسطة على أي حال.
و فيه أخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه مر على قوم و هم وقوف على دواب لهم و رواحل فقال لهم: اركبوها سالمة و دعوها سالمة، و لا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق و الأسواق فرب مركوبة خير من راكبها و أكثر ذكرا لله منه.
و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، و لا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، و يبدأ بعلفها إذا نزل، و لا يسمها في وجهها، و لا يضربها فإنها تسبح، و يعرض عليها الماء إذا مر بها.
و في مناقب ابن شهرآشوب: علقمة و ابن مسعود :كنا نجلس مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نسمع الطعام يسبح و رسول الله يأكل، و أتاه مكرز العامري و سأله آية فدعا بتسع
حصيات فسبحن في يده. و في حديث أبي ذر :فوضعهن على الأرض فلم يسبحن و سكتن ثم عاد و أخذهن فسبحن. ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد أني رسول الله فسبح الحصا في يده و شهد أنه رسول الله.
و فيه أبو هريرة و جابر الأنصاري و ابن عباس و أبي بن كعب و زين العابدين: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع فلما كثر الناس و اتخذوا له منبرا و تحول إليه حن كما يحن الناقة، فلما جاء إليه و أكرمه كان يئن أنين الصبي الذي يسكت.
أقول: و الروايات في تسبيح الأشياء على اختلاف أنواعها كثيرة جدا، و ربما اشتبه أمرها على بعضهم فزعم أن هذا التسبيح العام من قبيل الأصوات، و أن لعامة الأشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للإنسان مستعملة للكشف عما في الضمير غير أن حواسنا مصروفة عنها و هو كما ترى.
و الذي تحصل من البحث المتقدم في ذيل الآية الكريمة أن لها تسبيحا هو كلام بحقيقة معنى الكلام و هو إظهارها تنزه ربها بإظهارها نقص ذاتها و صفاتها و أفعالها عن علم منها بذلك، و هو الكلام فما روي من سماعهم تسبيح الحصى في كف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو سماع تسبيح الجبال و الطير إذا سبح داود (عليه السلام) أو ما يشبه ذلك إنما كان بإدراكهم تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره و يناسبه من الألفاظ و الكلمات الموضوعة لما يفيد ما أدركوه من المعنى.
نظير ذلك ما تقدم من ظهور المعاني المجردة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب و أهله و بنيه ليوسف (عليه السلام) في رؤياه في صورة الشمس و القمر و الكواكب و نظير سائر الرؤى التي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف و قد تقدم البحث عنها.
فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الأشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى أولا ثم يحاكيه الحس الباطن في صورة ألفاظ مسموعة تؤدي ما ناله من المعنى و الله أعلم.
و في الدر المنثور،: أخرج أبو يعلى و ابن أبي حاتم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم
و البيهقي معا في الدلائل، عن أسماء بنت أبي بكر قالت :لما نزلت {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أقبلت العوراء أم جميل و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول:
مذمما أبينا | *** | و دينه قليناو أمره عصينا |
و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالس و أبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه و أنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني و قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: {وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا و رب هذا البيت ما هجاك فانصرفت و هي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها:
أقول: و روي أيضا بطريق آخر عن أسماء و عن أبي بكر و ابن عباس مختصرا و رواه أيضا في البحار، عن قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جده (عليه السلام) في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: في {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} قال: هو أحق ما جهر به، و هي الآية التي قال الله: {وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ } بسم الله الرحمن الرحيم{ وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا قرأ {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} نفروا و ذهبوا فإذا فرغ منه عادوا و تسمعوا.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا.
و في الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه، عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لم كتمتم {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} فنعم الاسم و الله كتموا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم و يرفع صوته بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله: {وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ - وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً}.
و فيه أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل، عن الزهري قال :حدثت أن أبا
جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه و كل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد قال: و الله سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها. قال الأخنس: و أنا و الذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن و بنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا و حملوا فحملنا و أعطوا فأعطينا حتى إذا تجانبنا على الركب و كنا كفرسي الرهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ لا و الله لا نؤمن به أبدا و لا نصدقه فقام عنه الأخنس و تركه.
و في المجمع، كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة فيقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: إني لم أومر فيهم بشيء فأنزل الله سبحانه: {قُلْ لِعِبَادِي} (الآية) :عن الكلبي.
أقول: قد أشرنا في تفسير الآية أنه لا يلائم سياقها. و الله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٥٦ الی ٦٥]
{قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاَ تَحْوِيلاً ٥٦ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ٥٧ وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً ٥٨ وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ اَلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ٥٩ وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ٦٠وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ٦١ قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً ٦٣ وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ٦٥}
بيان
احتجاج من وجه آخر على التوحيد و نفي ربوبية الآلهة الذين يدعون من دون الله و أنهم لا يستطيعون كشف الضر و لا تحويله عن عبادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه.
و أن الضر و الهلاك و العذاب بيد الله، و قد كتب في الكتاب على كل قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذبها عذابا شديدا و قد كانت الأولون يرسل إليهم الآيات الإلهية لكن لما كفروا و كذبوا بها و تعقب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى الآخرين فإنه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أن أصل الفساد سينمو بينهم و الشيطان سيضلهم فيحق عليهم القول فيأخذهم الله و كان أمرا مفعولا.
قوله تعالى: {قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاَ تَحْوِيلاً} الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، و لذا نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب.
و الدعاء و النداء واحد غير أن النداء إنما هو فيما إذا كان معه صوت و الدعاء ربما يطلق على ما كان بإشارة أو غيرها، و ذكر بعضهم في الفرق بينهما أن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم، و الدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى.
و الآية تحتج على نفي ألوهية آلهتهم من دون الله بأن الرب المستحق للعباد يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع و دفع الضر إذ هو لازم ربوبية الرب على أن المشركين مسلمون لذلك و إنما اتخذوا الآلهة و عبدوهم طمعا في نفعهم و خوفا من ضررهم لكن الذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، و الشاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الذين يعبدونهم لكشف ضر مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنهم لا يملكون كشفا و لا تحويلا.
و كيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضر أو تحويله و يستقلون بقضاء حاجة و رفع فاقة و هم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه باعتراف من المشركين.
فقد بان أولا أن المراد بقوله: {اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} هم الذين كانوا يعبدونهم من الملائكة و الجن و الإنس فإنهم إنما يقصدون بعبادة الأصنام التقرب إليهم و كذا بعبادة الشمس و القمر و الكواكب التقرب إلى روحانيتهم من الملائكة.
على أن الأصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقية كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ}.
و أما ما صنعت منه من خشب أو فلز فليس إلا جمادا حاله حال الجماد في التقرب إليه و السجود له و تسبيحه، و ليست من تلك الجهة بأصنام.
و ثانيا: أن المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله و استمداد من إذنه و الدليل عليه قوله سبحانه في الآية التالية: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ} إلخ.
و قال بعض المفسرين: و كأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه، و كون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها و أن الله سبحانه أقوى و أكمل صفة منها.
و بهذا يتم الدليل و يحصل الإفحام و إلا فنفي قدرة نحو الجن و الملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل هو أن الكفرة يتضرعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة.
و قد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا و يحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز و جل ابتداء انتهى.
قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعا من القدرة للملائكة و الجن و الإنس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير أنه يخص حقيقة القدرة بنفسه في مثل قوله:
{أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة: ١٦٥ و يظهر به أن غيره إنما يقدر على ما يقدر بإقداره و يملك ما يملك بتمليكه تعالى إياه فلا أحد مستقلا بالقدرة و الملك إلا هو، و ما عند غيره تعالى من القدرة و الملك مستعار منوط في تأثيره بالإذن و المشية.
و على هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجة في الآية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة و الجن و الإنس من أصلها بل الحجة مبتنية على أن أولئك المدعوين غير مستقلين بالملك و القدرة، و أنهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة و الدعاء إنما يتعلق بالقدرة المستقلة بالتأثير و الدعاء و المسألة ممن هو قادر بقدرة غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة و الملك بصاحبهما الأصلي فهو في الحقيقة دعاء و مسألة ممن قام بهما حقيقة و استقلالا دون من هو مملك بتمليكه.
و أما ما ذكره أن نفي قدرتهم مطلقا غير ظاهر الدليل فإنه إن قيل: إن الكفرة يتضرعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة، عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة، فقد أجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة.
توضيح ذلك: أنه تعالى قال و قوله الحق: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة: ١٨٦ و قال: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} المؤمن: ٦٠فأطلق الكلام و أفاد أن العبد إذا جد بالدعاء و لم يلعب به و لم يتعلق قلبه في دعائه الجدي إلا به تعالى بأن انقطع عن غيره و التجأ إليه فإنه يستجاب له البتة ثم ذكر هذا الانقطاع في الدعاء و السؤال في ذيل هذه الآيات الذي كالمتمم لما في هذه الحجة بقوله: {وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية - ٦٧ من السورة فأفاد أنكم عند مس الضر في البحر تنقطعون عن كل شيء إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم و ينجيكم إلى البر.
و يتحصل من الجميع أن الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شيء و دعاه عن قلب فارغ سليم فإنه يستجيب له و أن غيره إذا انقطع داعيه عن الله و سأله مخلصا فإنه لا يملك الاستجابة.
و على هذا فلا محل للمعارضة من قبل المشركين فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم و هم أنفسهم يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر و انقطعوا إلى الله و سألوه
النجاة نجاهم إلى البر و هم معترفون بذلك، و لئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جد في الدعاء و انقطاع إليه كان حالهم في البر حال غيرهم و هم في البحر و لم يخيبوا و لا ردوا.
و لم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم و دعاء المسلمين لإلههم حتى يعارض باشتراك الدعاءين في الرد و عدم الاستجابة و إنما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم و بين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الأسباب و ضلال كل مدعو من دون الله.
و من لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجة إليهم بواسطة نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ قال: {قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} و لو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربه عن انقطاع و إخلاص فاستجيب له.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إلى آخر الآية {أُولَئِكَ} مبتدأ و {اَلَّذِينَ} صفة له و {يَدْعُونَ} صلته و ضميره عائد إلى المشركين، و {يَبْتَغُونَ} خبر {أُولَئِكَ} و ضميره و سائر ضمائر الجمع إلى آخر الآية راجعة إلى {أُولَئِكَ} و قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا و سؤالا في المعنى هذا ما يعطيه السياق.
و الوسيلة على ما فسروه هي التوصل و التقرب، و ربما استعملت بمعنى ما به التوصل و التقرب و لعله هو الأنسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}.
و المعنى - و الله أعلم - أولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة و الجن و الإنس يطلبون ما يتقربون به إلى ربهم يستعلمون أيهم أقرب؟ حتى يسلكوا سبيله و يقتدوا بأعماله ليتقربوا إليه تعالى كتقربه و يرجون رحمته من كل ما يستمدون به في وجودهم و يخافون عذابه فيطيعونه و لا يعصونه إن عذاب ربك كان محذورا يجب التحرز منه.
و التوسل إلى الله ببعض المقربين إليه - على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ} المائدة: ٣٥ - غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنهم يتوسلون إلى الله و يتقربون بالملائكة الكرام و الجن و الأولياء
من الإنس فيتركون عبادته تعالى و لا يرجونه و لا يخافونه و إنما يعبدون الوسيلة و يرجون رحمته و يخافون سخطه ثم يتوسلون إلى هؤلاء الأرباب و الآلهة بالأصنام و التماثيل فيتركونهم و يعبدون الأصنام و يتقربون إليهم بالقرابين و الذبائح.
و بالجملة يدعون التقرب إلى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ثم لا يعبدون إلا الوسيلة مستقلة بذلك و يرجونها و يخافونها مستقلة بذلك من دون الله فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبية و العبادة.
و المراد بأولئك الذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام و الصلحاء المقربون من الجن و الأنبياء و الأولياء من الإنس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة و رجاء الرحمة و خوف العذاب ظاهره المتبادر، و إن كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين و فسقة الإنسان كفرعون و نمرود و غيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم و سجودهم و تسبيحهم التكويني و كذا المراد من رجائهم و خوفهم ما لذواتهم.
و ذكر بعضهم: أن ضمائر الجمع في الآية جميعا راجعة إلى أولئك و المعنى أولئك الأنبياء الذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله و يتضرعون إليه يبتغون إلى ربهم التقرب، و هو كما ترى.
و قال في الكشاف، في معنى الآية: يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة و هي القربة إلى الله تعالى، و {أَيُّهُمْ} بدل من واو {يَبْتَغُونَ} و أي موصولة أي يبتغي من هو أقرب منهم و أزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟
أو ضمن {يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ} معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله و ذلك بالطاعة و ازدياد الخير و الصلاح و يرجون و يخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة. انتهى.
و المعنيان لا بأس بهما لو لا أن السياق لا يلائمهما كل الملاءمة و ثانيهما أقرب إليه من أولهما.
و قيل: إن معنى الآية أولئك الذين يدعونهم و يعبدونهم و يعتقدون أنهم آلهة يبتغون الوسيلة و القربة إلى الله تعالى بعبادتهم و يجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته.
انتهى. و هو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتة.
قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً} ذكروا أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للإهلاك المقابل له الإماتة بحتف الأنف فالمعنى ما من قرية إلا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طي بساط الدنيا بقيام الساعة و قد قال تعالى: {وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً:} الكهف: ٨ و لذا قال بعضهم: إن الإهلاك للقرى الصالحة و التعذيب للقرى الطالحة.
و قد ذكروا في وجه اتصال الآية أنها موعظة، و قال بعضهم: كأنه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث و التوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه و فيه تأييد لما ذكر قبله.
و الظاهر أن في الآية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: {وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فإن آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، و الغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع و الطاعة و عقوبة من خالف منهم و طغى بالاستكبار.
و على هذا فالمراد بالإهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر و المراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها و خراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا و المحن.
فتكون في الآية إشارة إلى أن هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها و فسق مترفيها، و أن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية، و بذلك يتضح اتصال الآية التالية {وَ مَا مَنَعَنَا} إلخ بهذه الآية فإن المعنى أنهم مستعدون للفساد مهيئون لتكذيب الآيات الإلهية و هي تتعقب بالهلاك و الفناء على من يردها و يكذب بها و قد أرسلناها إلى الأولين فكذبوا بها و استؤصلوا فلو أنا أرسلنا إلى هؤلاء شيئا من جنس تلك الآيات المخوفة لحق بهم الإهلاك و التدمير و انطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتى حين و سيلحق بهم و لا يتخطاهم - كما أشير إليه في قوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولٌ} الآيات: يونس: ٤٧.
و ذكر بعضهم: أن المراد بالقرى في الآية القرى الكافرة و أن تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى. و هو دعوى لا دليل عليها.
و قوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً} أي إهلاك القرى أو تعذيبها عذابا شديدا كان في الكتاب مسطورا و قضاء محتوما، و بذلك يظهر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي يذكر القرآن أن الله كتب فيه كل شيء كقوله: {وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ:} يس: ١٢، و قوله: {وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يونس: ٦١.
و من غريب الكلام ما ذكره بعضهم: و ذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه أي في اللوح المحفوظ و الكتاب المسطور بكيفياته و أسبابه الموجبة له و وقته المضروب له، و استشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد، و قد قامت البراهين النقلية و العقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك.
و قال بعضهم: بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية و الأخروية و ما كان و ما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه. انتهى.
و الكلام مبني على كونه لوحا جسمانيا موضوعا في بعض أقطار العالم مكتوبا فيه أسماء الأشياء و أوصافها و أحوالها و ما يجري عليها في الأنظمة الخاصة بكل منها و النظام العام الجاري عليها من جميع الجهات، و لو كان كما يقولون لوحا ماديا جسمانيا لم يسع كتابة أسماء أجزائه التي تألف منها جسمه و تفصيل صفاتها و حالاتها فضلا عن غيره من الموجودات التي لا يحصيها و لا يحيط بتفاصيل صفاتها و أحوالها و ما يحدث عليها و النسب التي بينها إلا الله سبحانه، و ليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون ذلك و هو ظاهر.
و ما التزم به البعض أنه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال
الحروف المقطعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلامية التزام بوجود صور الحوادث فيه بالقوة و الإمكان أو الإجمال و كلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الأشياء و الحوادث مما كان أو يكون أو هو كائن بالفعل و على نحو التفصيل و بسمة الوجوب الذي لا سبيل للتغير إليه، و لو كان كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجي في دائرة على لوح.
على أن الجمع بين جسمية اللوح و ماديته التي من خاصتها قبول التغير و بين كونه محفوظا من أي تغير و تحول مفروض مما يحتاج إلى دليل أجلى من هذه التصويرات و في الكلام مواقع أخرى للنظر.
فالحق أن الكتاب المبين هو متن۱ الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتب المعلولات على عللها، و هو القضاء الذي لا يرد و لا يبدل لا من جهة إمكان المادة و قوتها، و التعبير عنه بالكتاب و اللوح لتقريب الأفهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل، و سنستوفي الكلام في هذا البحث إن شاء الله في موضع يناسبه.
قوله تعالى: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ} إلى آخر الآية قد تقدم وجه اتصال الآية بما قبلها و محصله أن الآية السابقة أفادت أن الناس - و آخروهم كأوليهم - مستحقون بما فيهم من غريزة الفساد و الفسق لحلول الهلاك و سائر أنواع العذاب الشديد، و قد قضى الله على القرى أن تهلك أو تعذب عذابا شديدا و هذا هو الذي منعنا أن نرسل بالآيات التي يقترحونها فإن السابقين منهم اقترحوها فأرسلناها إليهم فكذبوا بها فأهلكناهم، و هؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو أرسلنا بالآيات حسب اقتراحهم لكذبوا بها فحل الهلاك بهم لا محالة كما حل بسابقيهم، و ما يريد الله سبحانه أن يعاجلهم بالعقوبة.
و بهذا يظهر أن للآيتين ارتباطا بما سيحكيه من اقتراحهم الآيات بقوله: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً} الآية ٩٠من السورة إلى آخر الآيات، و ظاهر آيات السورة أنها نزلت دفعة واحدة.
فقوله: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} المنع هو قسر الغير عما يريد أن يفعله و كفه عنه، و الله سبحانه يحكم و لا معقب لحكمه و هو الغالب القاهر إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، فكون تكذيب الأولين لآياته مانعا له من إرسال الآيات المقترحة بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خاليا عن المصلحة بالنسبة إلى أمة أراد الله أن لا يعاجلهم بالعقوبة و الهلاك أو خاليا عن المصلحة مطلقا للعلم بأن عامتهم لا يؤمنون بالآيات المقترحة.
و إن شئت فقل: إن المنافاة بين إرسال الآيات المقترحة مع تكذيب الأولين و كون الآخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال و بين تعلق المشية بإمهال هذه الأمة عبر عنها في الآية بالمنع استعارة.
و كأنه للإشعار بذلك عبر عن إيتاء الآيات بالإرسال كأنها تتعاضد و تتداعى للنزول لكن التكذيب و تعرق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك.
و قوله: {إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ} التعبير عن الأمم الهالكة بالأولين المضايف للآخرين فيه إيماء إلى أن هؤلاء آخر أولئك الأولين فهم في الحقيقة أمة واحدة لآخرها من الخلق و الغريزة ما لأولها، لذيلها من الحكم ما لصدرها و لذلك كانوا يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ} المؤمنون: ٢٤ و يكررون ذكر هذه الكلمة.
و كيف كان فمعنى الآية أنا لم نرسل الآيات التي يقترحونها و المقترحون هم قريش - لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا و كذبوا بها فيستحقوا عذاب الاستئصال كما أنا أرسلناها إلى الأولين بعد اقتراحهم إياها فكذبوا بها فأهلكناهم لكنا قضينا على هذه الأمة أن لا نعذبهم إلا بعد مهلة و نظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى.
و ذكروا في معنى الآية الكريمة وجهين آخرين:
أحدهما: أنا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثا لا فائدة فيه كما أن من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات و هذا إنما يتم في الآيات المقترحة و أما الآيات التي يتوقف عليها ثبوت النبوة فإن الله يؤتيها رسوله لا محالة، و كذا الآيات التي في نزولها لطف منه سبحانه فإن الله يظهرها أيضا لطفا منه، و أما غير هذين
النوعين فلا فائدة في إنزالها.
و ثانيهما: أن المعنى أنا لا نرسل الآيات لأن آباءكم و أسلافكم سألوا مثلها و لم يؤمنوا به عند ما نزل و أنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم.
و المعنى الثاني منقول عن أبي مسلم و تمييزه من المعنيين السابقين من غير أن ينطبق على أحدهما لا يخلو من صعوبة.
و قوله: {وَ آتَيْنَا ثَمُودَ اَلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} ثمود هم قوم صالح و لقد آتاهم الناقة آية، و المبصرة الظاهرة البينة على حد ما في قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً} إسراء - ١٢، و هي صفة الناقة أو صفة لمحذوف و التقدير آية مبصرة و المعنى و آتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بينة أو حالكونها آية ظاهرة بينة فظلموا أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذبين بها.
و قوله: {وَ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} أي إن الحكمة في الإرسال بالآيات التخويف و الإنذار فإن كانت من الآيات التي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف بالهلاك في الدنيا و عذاب النار في الآخرة، و إن كانت من غيرها ففيها تخويف و إنذار بعقوبة العقبى.
و ليس من البعيد أن يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف و الوحشة بإرسال ما دون عذاب الاستئصال على حد ما في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} النحل، ٤٧ فيرجع محصل معنى الآية إنا لا نرسل بالآيات المقترحة لأنا لا نريد أن نعذبهم بعذاب الاستئصال و إنما نرسل ما نرسل من الآيات تخويفا ليحذروا بمشاهدتها عما هو أشد منها و أفظع و نسب الوجه إلى بعضهم.
قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} فقرأت الآية و هي أربع واضحة المعاني لكنها بحسب ما بينها من الاتصال و ارتباط بعضها ببعض لا تخلو من إجمال و السبب الأصلي في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين الثانية و الثالثة.
فلم يبين سبحانه ما هذه الرؤيا التي أراها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يقع في سائر كلامه ما يصلح لأن يفسر به هذه الرؤيا، و الذي ذكره من رؤياه في مثل قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ} الأنفال، ٤٣ و قوله {لَقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ} الفتح - ٢٧ من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و هذه الآية مكية نازلة قبل الهجرة.
و لا يدرى ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس، و لا توجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقوم و وصفها بأنها فتنة كما في قوله {أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} الصافات - ٦٣ لكنه سبحانه لم يلعنها في شيء من المواضع التي ذكرها، و لو كان مجرد كونها شجرة تخرج في أصل الجحيم و سببا من أسباب عذاب الظالمين موجبا للعنها لكانت النار و كل ما أعد الله فيها للعذاب ملعونة و لكانت ملائكة العذاب و هم الذين قال تعالى فيهم: {وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} المدثر: ٣١ ملعونين و قد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: ٦ و قد عد سبحانه أيدي المؤمنين من أسباب عذاب الكفار إذ قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} التوبة: ١٤ و ليست بملعونة.
و بهذا يتأيد أنه لم يكن المراد بالآية الكشف عن قناع الفقرتين و إيضاح قصة الرؤيا و الشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنما أريدت الإشارة إلى إجمالهما و التذكير بما يقتضيانه بحكم السياق.
نعم ربما يلوح السياق إلى بعض شأن الأمرين: الرؤيا و الشجرة الملعونة فإن الآيات السابقة كانت تصف الناس أن أخراهم كأولاهم و ذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء بآيات الله سبحانه و تكذيبها، و أن المجتمعات الإنسانية ذائقون عذاب الله قرية بعد قرية و جيلا بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوف دون ذلك، و الآيات اللاحقة {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} إلخ المشتملة على قصة إبليس و عجيب تسلطه على إغواء بني آدم تجري على سياق الآيات السابقة.
و بذلك يظهر أن الرؤيا و الشجرة المشار إليهما في الآية أمران سيظهران على الناس أو هما ظاهران يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد و يتعرق فيهم الطغيان و الاستكبار و ذيل الآية {وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} يشير إلى ذلك و يؤيده بل و صدر الآية {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}.
أضف إلى ذلك أنه تعالى وصف هذه الشجرة التي ذكرها بأنها ملعونة في القرآن، و بذلك يظهر أن القرآن مشتمل على لعنها و أن لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما هو ظاهر قوله: {وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ} و قد لعن في القرآن إبليس و لعن فيه اليهود و لعن فيه المشركون و لعن فيه المنافقون و لعن فيه أناس بعناوين أخر كالذين يموتون و هم كفار و الذين يكتمون ما أنزل الله و الذين يؤذون الله و رسوله إلى غير ذلك.
و قد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة، و الشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات كذلك تستعمل في الأصل الذي تطلع منه و تنشأ عليه فروع بالنسب أو بالاتباع على أصل اعتقادي، قال في لسان العرب،: و يقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل مبارك. انتهى. و قد ورد ذلك في لسانه (صلى الله عليه وآله و سلم) كثيرا كقوله: أنا و علي من شجرة واحدة، و من هذا الباب قوله في حديث العباس: عم الرجل صنو أبيه.۱
و بالتأمل في ذلك يتضح للباحث المتدبر أن هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء و النمو و تفرع الفروع على أصل له حظ من البقاء و الاثمار و هم فتنة تفتتن بها هذه الأمة، و ليس يصلح لهذه الصفة إلا طوائف ثلاث من المعدودين و هم أهل الكتاب و المشركون و المنافقون و لبثهم في الناس و بقاؤهم على الولاء إما بالتناسل و التوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس و يفسدون على الناس دينهم و دنياهم و يفتتن بهم الناس و إما بطلوع عقيدة فاسدة ثم اتباعها على الولاء من خلف بعد سلف.
و لم يظهر من المشركين و أهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة و بعدها قوم بهذا النعت، و قد آمن الله الناس من شرهم مستقلين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر
عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ} المائدة: ٣ و قد استوفينا البحث عن معنى الآية فيما تقدم.
فالذي يهدي إليه الإمعان في البحث أن المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين المتظاهرين بالإسلام يتعرقون بين المسلمين إما بالنسل و إما بالعقيدة و المسلك هم فتنة للناس، و لا ينبغي أن يرتاب في أن في سياق الآية تلويحا بالارتباط بين الفقرتين أعني قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ} و خاصة بعد الإمعان في تقدم قوله: {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} و تذييل الفقرات جميعا بقوله: {وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} فإن ارتباط الفقرات بعضها ببعض ظاهر في أن الآية بصدد الإشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به و لا ينفع فيه عظة و تخويف إلا زيادة في الطغيان.
و يستفاد من ذلك أن الشأن هو أن الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الرؤيا هذه الشجرة الملعونة و بعض أعمالهم في الإسلام ثم بين لرسوله أن ذلك فتنة.
فقوله: {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} مقتضى السياق أن المراد بالإحاطة الإحاطة العلمية، و الظرف متعلق بمحذوف و التقدير و اذكر إذ قلنا لك كذا و كذا و المعنى و اذكر للتثبت فيما ذكرنا لك في هذه الآيات أن شيمة الناس الاستمرار في الفساد و الفسوق و اقتداء أخلافهم بأسلافهم في الإعراض عن ذكر الله و عدم الاعتناء بآيات الله، وقتا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس علما و علم أن هذه السنة ستجري بينهم كما كانت تجري.
و قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ} محصل معناه على ما تقدم أنه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا، و ما أريناك في المنام من أمرهم إلا فتنة للناس و امتحانا و بلاء نمتحنهم و نبلوهم به و قد أحطنا بهم.
و قوله: {وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} ضميرا الجمع للناس ظاهرا و المراد بالتخويف إما التخويف بالموعظة و البيان أو بالآيات المخوفة التي هي دون الآيات المهلكة المبيدة، و المعنى و نخوف الناس فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا و لا أي طغيان كان بل
طغيانا كبيرا أي أنهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير فهم يبالغون في طغيانهم و يفرطون في عنادهم مع الحق.
و سياق الآية سياق التسلية فالله سبحانه يعزي نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) فيها بأن الذي أراه من الأمر، و عرفه من الفتن، و قد جرت سنته تعالى على امتحان عباده بالمحن و الفتن، و قد اعترف بذلك غير واحد من المفسرين.
و يؤيد جميع ما تقدم ما ورد من طرق أهل السنة و اتفقت عليه أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بالرؤيا في الآية هي رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بني أمية و الشجرة شجرتهم و سيوافيك الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و قد ذكر جمع من المفسرين استنادا إلى ما نقل عن ابن عباس أن المراد بالرؤيا التي أراها الله نبيه هو الإسراء، و المراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم، و ذكروا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما رجع من الإسراء و أصبح أخبر المشركين بذلك فكذبوه و استهزءوا به، و كذلك لما سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقوم كذبوه و سخروا منه فأنزل الله في هذه الآية أن الرؤيا التي أريناك و هي الإسراء و شجرة الزقوم ما جعلناهما إلا فتنة للناس.
ثم لما ورد عليهم أن الرؤيا على ما صرح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه و الإسراء كان في اليقظة اعتذروا عنه تارة بأن الرؤيا كالرؤية مصدر رأى و لا اختصاص لها بالمنام، و تارة بأن الرؤيا ما يراه الإنسان بالليل سواء فيه النوم و اليقظة، و تارة بأنها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، و تارة بأنه جار على زعمهم كما سموا أصنامهم آلهة فقد روي أن بعضهم قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما قص عليهم إسراءه لعله شيء رأيته في منامك فسماه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الأصنام {آلِهَتُهُمُ}، و تارة بأنه سمي رؤيا تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلا أو لسرعته.
و قد أجاب عن ذلك بعضهم أن الإسراء كان في المنام كما روي عن عائشة و معاوية.
و لما ورد عليهم أيضا أن لا معنى لتسمية الزقوم شجرة ملعونة و لا ذنب للشجرة اعتذروا عنه تارة بأن المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الإسناد للدلالة على المبالغة في لعنهم كما قيل و تارة بأن اللعنة بمعنى البعد و هي في أبعد مكان من الرحمة
لكونها تنبت في أصل الجحيم، و تارة بأنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين و الشياطين ملعونون، و تارة بأن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا.
أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: إن الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو إنها بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة و لم يستندوا في ذلك إلى شيء من كلامهم من نظم أو نثر إلا إلى مجرد الدعوى.
و أما قولهم: إن ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الإسراء رؤيا أو جرى على زعمهم أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينة الدالة على هذه العناية و أنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة؟ و لم يطلق تعالى على أصنامهم «آلهة» و «شركاء» و إنما أطلق {آلِهَتُهُمُ} و {لِشُرَكَائِهِمْ} فأضافها إليهم و الإضافة نعمت القرينة على عدم التسليم، و نظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الإسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح إلا مع قرينة، و لو كانت هناك قرينة لم يستدل كل من قال بكون الإسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الآية بناء على كون الآية ناظرة إلى الإسراء.
و أما قول القائل: إن الإسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في تفسير آية الإسراء.
و أما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إن حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الإسناد للمبالغة في لعنهم فهو و إن كان كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى و إنما هو من دأب جهلة الناس و سفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه و أمه و عشيرته مبالغة في سبه، و إذا شتموا رجلا أساءوا ذكر زوجته و بنته و سبوا السماء التي تظله و الأرض التي تقله و الدار التي يسكنها و القوم الذين يعاشرهم و أدب القرآن يمنعه أن يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجرة التي يعذبهم الله بأكل ثمارها.
و قولهم: إن اللعن مطلق الإبعاد مما لم يثبت لغة و الذي ذكروه و يشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أن معناه الإبعاد من الرحمة و الكرامة و ما قيل: إنها كما قال الله {شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ} فهي في أبعد مكان من الرحمة إن أريدت بالرحمة الجنة
فهو قول من غير دليل و إن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الإبعاد من الرحمة و الكرامة و مقتضاه كون جهنم و ما أعد الله فيها من العذاب و ملائكة النار و خزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة، و ليس شيء منها ملعونا و إنما اللعن و الغضب و البعد للمعذبين فيها من الإنس و الجن.
و قولهم: إنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين و الشياطين ملعونون فهو مجاز في الإسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأول.
و قولهم: إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة و إرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن و هو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازا و على أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف و العامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام و شراب و غيرهما.
و أما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه و خاصة مع معارضته لما في حديث عائشة الآتية و غيرها و هو يتضمن تفسير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يعارضه قول غيره.
و قال في الكشاف، في قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} و اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر و بالنصرة عليهم و ذلك قوله: {سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ} {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ} و غير ذلك فجعله كأن قد كان و وجد فقال: {أَحَاطَ بِالنَّاسِ} على عادته في إخباره.
و حين تزاحف الفريقان يوم بدر و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في العريش مع أبي بكر كان يدعو و يقول: اللهم إني أسألك عهدك و وعدك ثم خرج و عليه الدرع يحرض الناس و يقول: {سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ}.
و لعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم و هو يومئ إلى الأرض و يقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من أمر يوم بدر و ما أرى
في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون و يستسخرون و يستعجلون به استهزاء.
و حين سمعوا بقوله: {إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ طَعَامُ اَلْأَثِيمِ} جعلوها سخرية و قالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول: ينبت فيها الشجر إلى أن قال و المعنى أن الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، و هؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا و هو القتل يوم بدر. انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء ناسبا له إلى قيل.
و هو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء و إن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وقعة بدر قبل وقوعها و تسامع قريش بذلك و استهزاءهم به.
و هو و إن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالإسراء من المحذور لكنه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد و هو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يرى في منامه وقعة بدر و مصارع القوم فيها قبل وقوعها و يسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله: «و لعل الله أراه مصارعهم في منامه» و كيف يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له و لا حجة عليه من أثر يعول عليه أو دليل من خلال الآيات يرجع إليه.
و ذكر بعضهم: أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه يدخل مكة و المسجد الحرام و هي التي ذكرها الله سبحانه بقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيَا} (الآية).
و فيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الهجرة قبل صلح الحديبية و الآية مكية؛ و سنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى.
و ذكر بعضهم: أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود و نسب إلى أبي مسلم المفسر.
و قد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه.
قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} قال في المجمع: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين، و يجوز أن يكون تقديره من طين فحذف «من»
فوصل الفعل، و مثله قوله: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ} أي لأولادكم و قيل: إنه منصوب على التميز. انتهى.
و جوز في الكشاف، كونه حالا من الموصول لا من المفعول {خَلَقْتَ} كما قاله الزجاج، و قيل: إن الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون {طِيناً} جامدا.
و في الآية تذكير آخر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقصة إبليس و ما جرى بينه و بين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما أخبره الله من حال الناس أنهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله و الاستكبار عن الحق و عدم الاعتناء بآيات الله و لن يزالوا على ذلك فليذكر قصة إبليس و ما عقد عليه أن يحتنك ذرية آدم و سلطه الله يومئذ على من أطاعه من بني آدم و اتبع دعوته و دعوة خيله و رجله و لم يستثن في عقده إلا عباده المخلصين.
فالمعنى: و اذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فكأنه قيل: فما ذا صنع؟ أو فما ذا قال؟ إذ لم يسجد؟ فقيل: إنه أنكر الأمر بالسجدة و قال أ أسجد - و الاستفهام للإنكار - لمن خلقته من طين و قد خلقتني من نار و هي أشرف من الطين.
و في القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، و الوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل و العوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم و الفسوق فقد ذكر أولا أن الأولين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة و الآخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم و إبليس و فيها عقد إبليس أن يغوي ذرية آدم و سؤاله أن يسلطه الله عليهم و إجابته تعالى إياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال و ينكبوا على الظلم و الطغيان و الإعراض عن آيات الله و قد أحاطت بهم الفتنة الإلهية من جانب و الشيطان بخيله و رجله من جانب.
قوله تعالى: {قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} الكاف في {أَ رَأَيْتَكَ} زائدة لا محل لها من الإعراب و إنما
تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة، و المراد بقوله: {هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} آدم (عليه السلام) و تكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة و رجمه حيث أبى.
و من هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على إرادة إغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم: {أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ} البقرة: ٣٠، و قد تقدم في تفسير الآية ما ينفع هاهنا.
و الاحتناك - على ما في المجمع، - الاقتطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله، و احتنك الجراد المزرع إذا أكله كله و قيل: إنه من قولهم: حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، و الظاهر أن المعنى الأخير هو الأصل في الباب، و الاحتناك الإلجام.
و المعنى: قال إبليس بعد ما عصى و أخذه الغضب الإلهي رب أ رأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته و رجمي بمعصيته أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة و هو مدة مكث بني آدم في الأرض لألجمن ذريته إلا قليلا منهم و هم المخلصون.
قوله تعالى: {قَالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} قيل: الأمر بالذهاب ليس على حقيقته و إنما هو كناية عن تخليته و نفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، و قيل: الأمر على حقيقته و هو تعبير آخر لقوله في موضع آخر: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} و الموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذي يوفى كله و لا يدخر منه شيء، و معنى الآية واضح.
قوله تعالى: {وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ} إلى آخر الآية الاستفزاز الإزعاج و الاستنهاض بخفة و إسراع، و الإجلاب كما في المجمع، السوق بجلبة من السائق و الجلبة شدة الصوت، و في المفردات: أصل الجلب سوق الشيء يقال: جلبت جلبا قال الشاعر: «و قد يجلب الشيء البعيد الجواب» و أجلبت عليه صحت عليه بقهر، قال الله عز و جل: {وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ} انتهى.
و الخيل - على ما قيل - الأفراس حقيقة و لا واحد له من لفظه و يطلق على الفرسان
مجازا، و الرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر و حاذر و كمل و كامل و هو خلاف الراكب، و ظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة و هم غير الفرسان من الجيش.
فقوله: {وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم و هم الذين يتولونه منهم و يتبعونه كما ذكره في سورة الحجر بصوتك، و كأن الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، و تمثيل بما يساق الغنم و غيره بالنعيق و الزجر و هو صوت لا معنى له.
و قوله: {وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ} أي و صح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك و جيوشك فرسانهم و رجالتهم و كأنه إشارة إلى أن قبيله و أعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب و منهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل و الرجل كناية عن المسرعين في العمل و المبطئين فيه و فيه تمثيل نحو عملهم.
و قوله: {وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ} الشركة إنما يتصور في الملك و الاختصاص و لازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال و الولد فإن المال عين خارجي منفصل من الإنسان و كذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه، و لو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الإنسان مالية لمال و لا اختصاص بولد.
فمشاركة الشيطان للإنسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص و الانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجة الإنسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه و الإنسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا و هو صفر الكف من رحمة الله و كأن يولد الإنسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة و يؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما و لنفسه سهما، و على هذا القياس.
و هذا وجه مستقيم لمعنى الآية و جامع لما ذكره المفسرون في معنى الآية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم الأموال و الأولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام و أخذ من غير حقه و كل ولد زنا كما عن ابن عباس و غيره.
و قول آخر: إن مشاركته في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة و بحيرة و غير ذلك و في الأولاد أنهم هودوهم و نصروهم و مجسوهم كما عن قتادة.
و قول آخر: إن كل مال حرام و فرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي، و قول آخر: إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس و عبد الحارث و نحوهما، و قول آخر: هو قتل الموءودة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، و قول آخر: إن المشاركة في الأموال الذبح للآلهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روي عن قدماء المفسرين.
و قوله: {وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطإ في صورة الصواب و الباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة.
قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} بل غير الغاوين من اتباع إبليس كما قال في موضع آخر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} الحجر: ٤٢ و الإضافة للتشريف.
و قوله: {وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي قائما على نفوسهم و أعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لأمورهم فإن الوكيل هو الكافل لأمور الغير القائم مقامه في تدبيرها و إدارة رحاها، و بذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر.
و قد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة و سورة الأعراف و سورة الحجر.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} قال: هو الفناء بالموت أو غيره. و في
رواية أخرى عنه (عليه السلام): {وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} قال: بالقتل و الموت أو غيره.
أقول: و لعله تفسير لجميع الآية.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} (الآية) قال نزلت في قريش. قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية: و ذلك أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إن الله عز و جل يقول: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ}، و كنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الآيات.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و النسائي و البزاز و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، و الضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجعل لهم الصفا ذهبا و أن ينحي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأنى بهم و إن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ}.
أقول: و روي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة و أنزل الله في ذلك: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ} يعني الحكم و ولده.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أريت بني أمية على منابر الأرض و سيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، و اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لذلك فأنزل الله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}.
و فيه أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله أصبح و هو مهموم فقيل: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كان بني أمية يتعاورون منبري هذا فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ}.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، و ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال :رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، و هي قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} يعني بلاء للناس.
أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره، يرفعه إلى سعيد بن المسيب.
و في تفسير البرهان، عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول لأبيك و جدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
و في مجمع البيان: رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن قرودا تصعد منبره و تنزل و ساءه ذلك و اغتم:، رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام)، و قالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو أمية.
أقول: و ليس من التأويل في شيء بل هو تنزيل كما تقدم بيانه، إلا أن التأويل ربما أطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود.
و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن عدة من الثقات كزرارة و حمران و محمد بن مسلم و معروف بن خربوذ و سلام الجعفي و القاسم بن سليمان و يونس بن عبد الرحمن الأشل و عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا، و رواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام).
و في بعض هذه الروايات أن مع بني أمية غيرهم و قد تقدم ما يهدي إليه البحث في معنى الآية، و قد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى: {وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} (الآية) إبراهيم: ٢٦ أن الشجرة الخبيثة هي الأفجران من قريش.
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس :في قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليلة أسري به إلى بيت المقدس و ليست برؤيا منام «و الشجرة الملعونة في القرآن» قال: هي شجرة الزقوم.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن سعد و أبي يعلى و ابن عساكر عن أم هاني، و قد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الآية.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ} (الآية) قال: إن رسول الله أرى أنه دخل مكة هو و أصحابه و هو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون فقال أناس: قد رد و قد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم.
أقول: و قد تقدم ما على الرواية في تفسير الآية على أنها تعارض ما تقدمها.
و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد، عن عثمان بن عيسى عن عمر بن أذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال و ما قيل له - فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان.
فقال رجل. يا رسول الله و في الناس شرك شيطان؟ فقال: أ و ما تقرأ قول الله عز و جل: {وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ}؟ فقال: من لا يبالي ما قال و ما قيل له؟ فقال: نعم من تعرض للناس فقال فيهم و هو يعلم أنهم لا يتركونه فذلك الذي لا يبالي ما قال و ما قيل له.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن شرك
الشيطان: قوله: {وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ} قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال: و يكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته و نطفة الرجل إذا كان حراما.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي من قبيل ذكر المصاديق، و قد تقدم المعنى الجامع لها.
و ما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع و النطفة و غير ذلك كناية عن أن له نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود، و نظائره كثيرة في الروايات.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٦٦ الی ٧٢]
{رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ٦٦ وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً ٦٧ أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ٦٨ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ٦٩ وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ٧٠يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٧١ وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً ٧٢}
بيان
الآيات كالمكملة للآيات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوة و كشف الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم و أوثانهم فإن الآيات السابقة تبتدأ بقوله تعالى: {قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاَ تَحْوِيلاً} و هذه الآيات تفتتح بقوله: {رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ} إلخ.
و إنما قلنا: هي كالمكملة لبيان الآيات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما ألوهية آلهتهم و تثبت الأخرى ألوهية الله سبحانه لافتتاح القبيل الأول بقوله: {قُلِ} دون الثاني و ظاهره كون مجموع القبيلين واحدا من الاحتجاج أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإلقائه إلى المشركين لإلزامهم بالتوحيد.
و يؤيده السياق السابق المبدو بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً} و قد لحقه قوله ثانيا: {وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً } إلى أن قال { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً}.
و قد ختم الآيات بقوله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} إلخ فأشار به إلى أن هذا الذي يذكر من الهدى و الضلالة في الدنيا يلازم الإنسان في الآخرة فالنشأة الأخرى على طبق النشأة الأولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الآخرة، و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا.
قوله تعالى: {رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} الإزجاء على ما في مجمع البيان، سوق الشيء حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح و نحوه و جعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري و الخرق، و الفلك جمع الفلكة و هي السفينة.
و ابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة نفسه و فضل الشيء ما زاد و بقي منه و من ابتدائية، و ربما قيل: إنها للتبعيض، و ذيل
الآية تعليل للحكم بالرحمة، و المعنى ظاهر. و الآية تمهيد لتاليها.
قوله تعالى: {وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} إلى آخر الآية الضر الشدة، و مس الضر في البحر هو خوف الغرق بالإشراف عليه بعصف الرياح و تقاذف الأمواج و نحو ذلك.
و قوله: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} المراد بالضلال على ما ذكروا الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق و قيل: هو بمعنى الضياع من قولهم: ضل عن فلان كذا أي ضاع عنه و يعود على أي حال إلى معنى النسيان.
و المراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله: {مَنْ تَدْعُونَ} الإله الحق و الآلهة الباطلة التي يدعوها المشركون، و الاستثناء متصل، و المعنى و إذا اشتد عليكم الأمر في البحر بالإشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه و تسألونه حوائجكم إلا الله.
و قيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله و الاستثناء منقطع، و المعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الآلهة الذين تعبدونهم لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم و لا ينسى.
و الظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف و هو خلاف الهدى و الكلام مبني على تمثيل لطيف كأن الإنسان إذا مسه الضر في البحر و وقع في قلبه أن يدعو لكشف ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم و يستمر في دعائهم قبل ذلك و أخذوا يسعون نحوه و يتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم و يدعوهم و يستغيث بهم لكنهم جميعا يضلون الطريق و لا ينتهون إلى ذكره فينساهم و الله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الإنسان عند ذلك فيدعوه و قد كان معرضا عنه فيجيبه و ينجيه إلى البر.
و بذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف، و بمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب و أن الاستثناء منقطع و الوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذي يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي و الوقوع في الطريق و قطعه و نحو ذلك.
مضافا إلى أن قوله: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ظاهر في أن المراد بالدعوة
دعاء المسألة و أنهم في البر أي في حالهم العادي غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله: {مَنْ تَدْعُونَ} الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع.
و قوله: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} أي فلما نجاكم من الغرق و كشف عنكم الضر رادا لكم إلى البر أعرضتم عنه أو عن دعائه و فيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه للإنسان في حال و أن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء و السراء و الشدة و الرخاء جميعا فإن الإعراض إنما يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله: إن الإنسان يدعوه في الضر و يعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما.
و قوله: {وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً} أي إن الكفران من دأب الإنسان من حيث إن له الطبيعة الإنسانية فإنه يتعلق بالأسباب الظاهرية فينسى مسبب الأسباب فلا يشكره تعالى و هو يتقلب في نعمة الظاهرة و الباطنة.
و في تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الإنسان عن ربه في غير حال الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو دأب سيء من الإنسان يوقعه فيه كفران النعمة.
و في الآية حجة على توحده تعالى في ربوبيته، و محصله أن الإنسان إذا انقطع عن جميع الأسباب الظاهرية و أيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من أصله و لم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة و تعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الأسباب، و لا معنى لهذا التعلق الفطري لو لا أن هناك سببا فوق الأسباب إليه يرجع الأمر كله، و هو الله سبحانه، و ليس يصرف الإنسان عنه إلا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا و التعلق بالأسباب الظاهرية و الغفلة عما وراءها.
قوله تعالى: {أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} خسوف القمر استتار قرصه بالظلمة و الظل و خسف الله به الأرض أي ستره فيها، و الحاصب - كما في المجمع - الريح التي ترمي بالحصباء و الحصى الصغار و قيل: الحاصب الريح المهلكة في البر و القاصف الريح المهلكة في البحر.
و الاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم و عليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لأنفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة و البلاء و يعيد إليهم الأمن و السلام.
قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى} إلى آخر الآية القصف الكسر بشدة و قاصف الريح هي التي تكسر السفن و الأبنية، و قيل: القاصف الريح المهلكة في البحر و التبيع هو التابع يتبع الشيء، و ضمير {فِيهِ} للبحر و ضمير {بِهِ} للغرق أو للإرسال أو لهما معا باعتبار ما وقع و لكل قائل، و الآية من تمام التوبيخ.
و المعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة أخرى فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا بسبب الإغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم؟ و يؤاخذه على ما فعل.
و في قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير و كان النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة و الكبرياء. و هو المناسب في المقام، و ليكون مع ذلك توطئة لما في الآيات التالية من سياق التكلم بالغير.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} الآية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه و تواتر فضله و رحمته على الإنسان و حمله في البحر ابتغاء فضله و رزقه، و رفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه و إعراضه عن دعائه إذا نجاه و كشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمه التي لا تحصى نبه على جملة تكريمه و تفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالإنسان و كفران الإنسان لنعمه على كثرتها و بلوغها.
و بذلك يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية و القرب و الفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين و الكفار و الفساق و إلا لم يتم معنى الامتنان و العتاب.
فقوله: {وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} المراد بالتكريم تخصيص الشيء بالعناية و تشريفه بما يختص به و لا يوجد في غيره، و بذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي و هو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه، و التفضيل معنى إضافي و هو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية، و الإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل و يزيد على غيره في جميع الصفات و الأحوال التي توجد بينها و الأعمال التي يأتي بها.
و ينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الإنسان به في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه و منكحه و يأتي به من النظم و التدبير في مجتمعة، و يتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية، و قياس ذلك مما لسائر الحيوان و النبات و غيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة و هي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس؛ و قد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة و لا يزال يسعى و يرقى.
و بالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية و هو الذي يمتازون به من غيرهم و هو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل و الخير من الشر و النافع من الضار.
و أما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق أو تعديل القامة و امتدادها أو الأصابع يفعلون بها ما يشاءون أو الأكل باليد أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق و تسخيرهم له أو أن الله خلق أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم أو جميع ذلك و ما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل.
فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط و النطق و التسلط على غيره من الخلق و بعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم و قد تقدم الفرق بينهما، و بعضها خارج عن مدلول الآية كالتكريم بخلق أبيهم آدم (عليه السلام) بيده و جعل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم فإن ذلك من التكريم الأخروي و التشريف المعنوي الخارج عن مدلول الآية كما تقدم.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن التكريم بجميع ذلك و قد أخطأ صاحب
روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال: و الكل في الحقيقة على سبيل التمثيل و من ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا و رام شططا و خالف صريح العقل و صحيح النقل. انتهى. و وجه خطأه ظاهر مما تقدم.
و قوله: {وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ} أي حملناهم على السفن و الدواب و غير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم و ابتغاء فضل ربهم و رزقه و هذا أحد مظاهر تكريمهم.
و قوله: {وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} أي من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه و الثمار و سائر ما يتنعمون به و يستلذونه مما يصدق عليه الرزق، و هذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة و هي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها و هو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الأغذية و الأطعمة الطيبة اللذيذة و هو تكريم.
و بذلك يظهر أن عطف قوله: {وَ حَمَلْنَاهُمْ} إلخ و قوله: {وَ رَزَقْنَاهُمْ} إلخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها.
و قوله: {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور و الجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان أمما أرضية كالأمة الإنسانية و يجريها مجرى أولي العقل كما قال: {وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
و هذا هو الأنسب بمعنى الآية و قد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم و فضلهم على سائر الموجودات الكونية و هي فيما نعلم الحيوان و الجن و أما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم في عالم المادة.
فالمعنى: و فضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا و هم الحيوان و الجن و أما غير
الكثير و هم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لأنهم موجودات نورية غير كونية و لا داخلة في مجرى النظام الكوني، و الآية إنما تتكلم في الإنسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية و قد أنعم عليه بنعم نفسية و إضافية.
و قد تبين مما تقدم:
أولا: أن كلا من التكريم و التفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهية التي أوتيها الإنسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره و هو العقل الذي يميز به الخير من الشر و النافع من الضار و الحسن من القبيح و يتفرع عليه مواهب أخرى كالتسلط على غيره و استخدامه في سبيل مقاصده و النطق و الخط و غيره.
و أما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الأمور المشتركة بينه و بين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب و نحو ذلك على وجه ساذج و الإنسان يتغذى بذلك و يزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ و غير المطبوخ على أنحاء مختلفة و فنون مبتكرة و طعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى و لا تزال تزداد نوعا و صنفا، و قس على ذلك الحال في مشربه و ملبسه و مسكنه و نكاحه و اجتماعه المنزلي و المدني و غير ذلك.
و قال في مجمع البيان: و متى قيل: إذا كان معنى التكريم و التفضيل واحدا فما معنى التكرار؟ فجوابه أن قوله: {كَرَّمْنَا} ينبئ عن الإنعام و لا ينبئ عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، و قيل: إن التكريم يتناول نعم الدنيا و التفضيل يتناول نعم الآخرة، و قيل: إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف، و التفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى.
أما ما ذكره أن التفضيل يدل على نكتة زائدة على مدلول التكريم و هو كونه تفضلا و إعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع و التفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، و أما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.
و قال الرازي في تفسيره، في الفرق بينهما: إن الأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل و النطق و الخط
و الصورة الحسنة و القامة المديدة ثم إنه عز و جل عرضه بواسطة العقل و الفهم لاكتساب العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم و الثاني هو التفضيل فكأنه قيل: فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة و الزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا و يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى و لا يشركوا به شيئا و يرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره انتهى.
و محصله الفرق بين التكريم و التفضيل بأن الأول إنما هو في الأمور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات و الثاني في الأمور الاكتسابية و أنت خبير بأن الإنسان و إن وجد فيه من المواهب الإلهية و الكمالات الوجودية أمور ذاتية و أمور اكتسابية على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأول و التفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة و لا عرف. فالوجه ما قدمناه.
و ثانيا: أن الآية ناظرة إلى الكمال الإنساني من حيث وجوده الكوني و تكريمه و تفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام و المراد بتفضيل الإنسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، و أما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه.
و بذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان حتى الأنبياء (عليهم السلام) قال: لأن قوله تعالى: {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا} يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، و ليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.
وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الآية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي و الملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، و إلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، و إنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي أوتيها في الدنيا.
و أما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الآية الجميع و من بيانية، و المعنى و فضلناهم على من خلقنا و هم كثير.
ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم و لا سياق الآية، و ما قيل: إنه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي و أبحته المنيع من حريمي و لا يراد به أني بذلت له عريض جاهي و منعته ما ليس بعريض و أبحته منيع حريمي و لم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض و أبحته حريمي الذي هو منيع، يرده أنه إن أريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا و كل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه و الحريم حينئذ إلى عريض و غير عريض و منيع و غير منيع و لم ينطبق على مورد الآية المدعى أنه أطلق فيها البعض و أريد به الكل، و إن أريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض و أبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالأولوية و لم يجز في مورد الآية قطعا.
و ربما أجيب عن ذلك بأنا إن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة و لفظة من للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة و هو أعم من تفضيل الملك على الإنسان لجواز التساوي، و لو سلم أنها تدل على التفضيل فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم و هذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياء (عليهم السلام).
و الحق كما عرفت أن الآية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب و الفضل الأخروي و بعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكوني، و المراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة و من تبعيضية و المراد بمن خلقنا الملائكة و غيرهم من الإنسان و الحيوان و الجن. و الإنسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان و الجن هذا و سيوافيك كلام في معنى تفضيل الإنسان على الملك إن شاء الله.
كلام في الفضل بين الإنسان و الملك
اختلف المسلمون في أن الإنسان و الملك أيهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى الأشاعرة أن الإنسان أفضل و المراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الإنسان من هو أضل من الأنعام و هو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن
يفضل على الملائكة المقربين؟ و قد استدل عليه بالآية الكريمة: {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية و بما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.
و هو المعروف أيضا من مذهب الشيعة، و ربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية لكن الإنسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة و المعصية و قد ركب من قوى رحمانية و شيطانية و تألف من عقل و شهوة و غضب فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه و هو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك.
و مع ذلك فالقول بأفضلية الإنسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج و نسب إلى ابن عباس.
و منهم من قال بأفضلية الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر و الملائكة ثم عامة الملائكة على عامة البشر.
و منهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرازي و نسب إلى الغزالي.
و ذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر و استدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} - إلى قوله - {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} و قد مر تقرير حجتهم في تفسير الآية.
و قد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الإنسان من الملك ممن فسر الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشاف، في ذيل قوله تعالى: {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا} هو ما سوى الملائكة و حسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة و هم هم و منزلتهم عند الله منزلتهم.
و العجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء و كابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة
على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان الملك، و ذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم و تكثيره مع التعظيم ذكرهم و علموا أين أسكنهم؟ و أنى قربهم؟ و كيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟.
ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا و أخبارا منها: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها و يتمتعون و لم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة فقال: و عزتي و جلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان، و رووا عن أبي هريرة أنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
و من ارتكابهم أنهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الآية و خذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: و فضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم: على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم و أقذى لعيونهم و لكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم و تشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كان جبريل (عليه السلام) غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى.
و ما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدنيا رويت عن ابن عمر و أنس بن مالك و زيد بن أسلم و جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظ الأخير قال: لما خلق الله آدم و ذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان.
و متن الرواية لا يخلو عن شيء فإن الأكل و الشرب و النكاح و نحوها في الإنسان استكمالات مادية إنما يلتذ الإنسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية و الملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الإنسان بقواه المادية و أعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعة النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه.
و نظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الإنسان من الملك بأن وجود الإنسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة و القوى الداعية إلى المعصية فإذا
اختار الطاعة على المعصية و انتزع إلى الإسلام و العبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا و زلفى و أعظم ثوابا و أجرا.
و هذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الإنساني و هو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من أمر و نهي و لها الفضل و الشرف على المعصية و بها يستحق الأجر و الثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل و الترك متساوي النسبة إلى الجانبين، و كلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر و العكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلا العنين و الشيخ الهرم و من يصعب عليه تحصيل مقدماته و الشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة و بعضها طاعة و بعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.
و لما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة و الغضب و نزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين و الشيخ الهرم لنهي الزنا و كان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.
و فيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية و لا لهم مقام استواء النسبة و لم يكن لهم شرف ذاتي و قيمة جوهرية إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية، و تسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، و لو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب و لا لأعمالهم منزلة.
لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب و الزلفى و أسكنهم في حظائر القدس و منازل الإنس، و جعلهم خزان سره و حملة أمره و وسائط بينه و بين خلقه، و هل هذا كله لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم و استحقاق من ذواتهم؟.
و قد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء: ٢٧ و قال: {لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: ٦ فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد و مدح طاعتهم و استنكافهم عن المعصية.
و قال مادحا لعبادتهم و تذللهم لربهم: {وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الأنبياء - ٢٨ و قال: {فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} حم السجدة - ٣٨ و قال: {وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} - إلى أن قال - {وَ لاَ تَكُنْ مِنَ اَلْغَافِلِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف: ٢٠٦ فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يذكره كذكرهم و يعبده كعبادتهم.
و حق الأمر أن كون العمل جائز الفعل و الترك و وقوف الإنسان في موقف استواء النسبة ليس في نفسه ملاك أفضلية طاعته بل بما يكشف ذلك عن صفاء طينته و حسن سريرته و الدليل على ذلك أن لا قيمة للطاعة مع العلم بخباثة نفس المطيع و قبح سريرته و إن بلغ في تصفية العمل و بذل المجهود فيه ما بلغ كطاعة المنافق و مريض القلب الحابط عمله عند الله الممحوة حسنته عن ديوان الأعمال فصفاء نفس المطيع و جمال ذاته و خلوصه في عبوديته الذي يكشف عنه انتزاعه من العصية إلى الطاعة و تحمله المشاق في ذلك هو الموجب لنفاسة عمله و فضل طاعته.
و على هذا فذوات الملائكة و لا قوام لها إلا الطهارة و الكرامة و لا يحكم في أعمالهم إلا ذل العبودية و خلوص النية أفضل من ذات الإنسان المتكدرة بالهوى المشوبة بالغضب و الشهوة و أعماله التي قلما تخلو عن خفايا الشرك و شامة النفس و دخل الطبع.
فالقوام الملكي أفضل من القوام الإنساني و الأعمال الملكية الخالصة لوجه الله أفضل من أعمال الإنسان و فيها لون قوامه و شوب من ذاته، و الكمال الذي يتوخاه الإنسان لذاته في طاعته و هو الثواب أوتيه الملك في أول وجوده كما تقدمت الإشارة إليه.
نعم لما كان الإنسان إنما ينال الكمال الذاتي تدريجا بما يحصل لذاته من الاستعداد سريعا أو بطيئا كان من المحتمل أن ينال عن استعداده مقاما من القرب و موطنا من الكمال فوق ما قد ناله الملك ببهاء ذاته في أول وجوده، و ظاهر كلامه تعالى يحقق هذا الاحتمال.
كيف و هو سبحانه يذكر في قصة جعل الإنسان خليفة في الأرض فضل الإنسان و احتماله لما لا يحتمله الملائكة من العلم بالأسماء كلها، و أنه مقام من الكمال لا يتداركه
تسبيحهم بحمده و تقديسهم له، و يطهره مما سيظهر منه من الفساد في الأرض و سفك الدماء كما قال: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إلى آخر الآيات البقرة: ٣٠- ٣٣ و قد فصلنا القول في ذلك في ذيل الآيات في الجزء الأول من الكتاب.
ثم ذكر سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم سجودهم له جميعا فقال: {فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} الحجر: ٣٠و قد أوضحنا في تفسير الآيات في القصة في سورة الأعراف أن السجدة إنما كان خضوعا منهم لمقام الكمال الإنساني و لم يكن آدم (عليه السلام) إلا قبلة لهم ممثلا للإنسانية قبال الملائكة. فهذا ما يفيده ظاهر كلامه تعالى، و في الأخبار ما يؤيده، و للبحث جهة عقلية يرجع فيها إلى مظانه.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} اليوم يوم القيامة و الظرف متعلق بمقدر أي اذكر يوم كذا، و الإمام المقتدى و قد سمى الله سبحانه بهذا الاسم أفرادا من البشر يهدون الناس بأمر الله كما في قوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} البقرة: ١٢٤ و قوله: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} الأنبياء: ٧٣ و أفرادا آخرين يقتدى بهم في الضلال كما في قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ} التوبة: ١٢ و سمى به أيضا التوراة كما في قوله: {وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً} هود: ١٧، و ربما استفيد منه أن الكتب السماوية المشتملة على الشريعة ككتاب نوح و إبراهيم و عيسى و محمد (عليهم السلام) جميعا أئمة.
و سمى به أيضا اللوح المحفوظ كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يس: ١٢ و لما كان ظاهر الآية أن لكل طائفة من الناس إماما غير ما لغيرها فإنه المستفاد من إضافة الإمام إلى الضمير الراجع إلى كل أناس لم يصلح أن يكون المراد بالإمام في الآية اللوح لكونه واحدا لا اختصاص له بأناس دون أناس.
و أيضا ظاهر الآية أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا من الأولين و الآخرين و قد
تقدم في تفسير قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ} البقرة: ٢١٣ أن أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة هو كتاب نوح (عليه السلام) و لا كتاب قبله في هذا الشأن و بذلك يظهر عدم صلاحية كون الإمام في الآية مرادا به الكتاب و إلا خرج من قبل نوح من شمول الدعوة في الآية.
فالمتعين أن يكون المراد بإمام كل أناس من يأتمون به في سبيلي الحق و الباطل كما تقدم أن القرآن يسميهما إمامين أو إمام الحق خاصة و هو الذي يجتبيه الله سبحانه في كل زمان لهداية أهله بأمره نبيا كان كإبراهيم و محمد (عليهما الصلاة السلام) أو غير نبي، و قد تقدم تفصيل الكلام فيه في تفسير قوله: {وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ} البقرة: ١٢٤.
لكن المستفاد من مثل قوله في فرعون و هو من أئمة الضلال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} هود: ٩٨، و قوله: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} الأنفال: ٣٧ و غيرهما من الآيات و هي، كثيرة أن أهل الضلال لا يفارقون أولياءهم المتبوعين يوم القيامة، و لازم ذلك أن يصاحبوهم في الدعوة و الإحضار.
على أن قوله: {بِإِمَامِهِمْ} مطلق لم يقيد بالإمام الحق الذي جعله الله إماما هاديا بأمره، و قد سمى مقتدى الضلال إماما كما سمى مقتدى الهدى إماما و سياق ذيل الآية و الآية الثانية أيضا مشعر بأن الإمام المدعو به هو الذي اتخذه الناس إماما و اقتدوا به في الدنيا لا من اجتباه الله للإمامة و نصبه للهداية بأمره سواء اتبعه الناس أو رفضوه.
فالظاهر أن المراد بإمام كل أناس في الآية من ائتموا به سواء كان إمام حق أو إمام باطل، و ليس كما يظن أنهم ينادون بأسماء أئمتهم فيقال: يا أمة إبراهيم و يا أمة محمد و يا آل فرعون و يا آل فلان فإنه لا يلائمه ما في الآية من التفريع أعني قوله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى} إلخ إذ لا تفرع بين الدعوة بالإمام بهذا المعنى و بين إعطاء الكتاب باليمين أو العمى.
بل المراد بالدعوة - على ما يعطيه سياق - الذيل هو الإحضار فهم محضرون
بإمامهم ثم يأخذ من اقتدى بإمام حق كتابه بيمينه و يظهر عمى من عمي عن معرفة الإمام الحق في الدنيا و اتباعه، هذا ما يعطيه التدبر في الآية.
و للمفسرين في تفسير الإمام في الآية مذاهب شتى مختلفة:
منها: أن المراد بالإمام الكتاب الذي يؤتم به كالتوراة و الإنجيل و القرآن فينادي يوم القيامة يا أهل التوراة و يا أهل الإنجيل و يا أهل القرآن، و قد تقدم بيانه و بيان ما يرد عليه.
و منها: أن المراد بالإمام النبي لمن كان على الحق و الشيطان و إمام الضلال لمبتغي الباطل فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوهم فيعطون كتب أعمالهم بأيمانهم ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلال.
و فيه أنه مبني على أخذ الإمام في الآية بمعناه العرفي و هو من يؤتم به من العقلاء، و لا سبيل إليه مع وجود معنى خاص له في عرف القرآن و هو الذي يهدي بأمر الله و المؤتم به في الضلال.
و منها: أن المراد كتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير و يا أصحاب كتاب الشر و وجه كونه إماما بأنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار.
و فيه أنه لا معنى لتسمية كتاب الأعمال إماما و هو يتبع عمل الإنسان من خير أو شر فإن يسمى تابعا أولى به من أن يسمى متبوعا، و أما ما وجه به أخيرا ففيه أن المتبع من الحكم ما يقضي به الله سبحانه بعد نشر الصحف و السؤال و الوزن و الشهادة و أما الكتاب فإنما يشتمل على متون أعمال الخير و الشر من غير فصل القضاء.
و منه يظهر أن ليس المراد بالإمام اللوح المحفوظ و لا صحيفة عمل الأمة و هي التي يشير إليها قوله: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتَابِهَا} الجاثية: ٢٨ لعدم ملائمته قوله ذيلا: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} الظاهر في الفرد دون الجماعة.
و منها: أن المراد به الأمهات - بجعل إمام جمعا لأم - فيقال: يا ابن فلانة و لا يقال يا ابن فلان، و قد رووا فيه رواية.
و فيه أنه لا يلائم لفظ الآية فقد قيل: {نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} و لم يقل ندعو الناس بإمامهم أو ندعو كل إنسان بأمه و لو كان كما قيل لتعين أحد التعبيرين الأخيرين و ما أشير إليه من الرواية على تقدير صحتها و قبولها رواية مستقلة غير واردة في تفسير الآية.
على أن جمع الأم بالإمام لغة نادرة لا يحمل على مثلها كلامه تعالى و قد عد في الكشاف هذا القول من بدع التفاسير.
و منها: أن المراد به المقتدى به و المتبع عاقلا كان أو غيره حقا كان أو باطلا كالنبي و الولي و الشيطان و رؤساء الضلال و الأديان الحقة و الباطلة و الكتب السماوية و كتب الضلال و السنن الحسنة و السيئة، و لعل دعوة كل أناس بإمامهم على هذا الوجه كناية عن ملازمة كل تابع يوم القيامة لمتبوعه، و الباء للمصاحبة.
و فيه ما أوردناه على القول بأن المراد به الأنبياء و رؤساء الضلال فالحمل على المعنى اللغوي إنما يحسن فيما لم يكن للقرآن فيه عرف، و قد عرفت أن الإمام في عرف القرآن هو الذي يهدي بأمر الله أو المقتدى في الضلال و من الممكن أن يكون الباء في {بِإِمَامِهِمْ} للآلة فافهم ذلك.
على أن هداية الكتاب و السنة و الدين و غير ذلك بالحقيقة ترجع إلى هداية الإمام و كذا النبي إنما يهدي بما أنه إمام يهدي بأمر الله، و أما من حيث إنبائه عن معارف الغيب أو تبليغه ما أرسل به فإنما هو نبي أو رسول و ليس بإمام، و كذا إضلال المذاهب الباطلة و كتب الضلال و السنن المبتدعة بالحقيقة إضلال مؤسسيها و المبتدعين بها.
[بيان]
قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الفتيل هو المفتول الذي في شق النواة، و قيل: الفتيل هو الذي في بطن النواة و النقير في ظهرها و القطمير شق النواة.
و تفريع التفصيل على دعوتهم بإمامهم دليل على أن ائتمامهم هو الموجب لانقسامهم إلى قسمين و تفرقهم فريقين: من أوتي كتابه بيمينه و من كان أعمى و أضل سبيلا فالإمام إمامان: إمام هدى و إمام ضلال، و هذا هو الذي قدمناه أن تفريع التفصيل يشهد بكون المراد بالإمام أعم من إمام الهدى.
و يشهد به أيضا تبديل إيتاء الكتاب بالشمال أو من وراء الظهر كما وقع في غير هذا الموضع من قوله: {وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى} إلخ.
و المعنى - بإعانة من السياق - فيتفرقون حينئذ فريقين فالذين أعطوا صحيفة أعمالهم بأيمانهم فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مستبشرين مسرورين بالسعادة و لا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون أجورهم تامة كاملة.
قوله تعالى: {وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً} المقابلة بين قوليه: {فِي هَذِهِ} و {فِي اَلْآخِرَةِ} دليل على أن الإشارة بهذه إلى الدنيا كما أن كون الآية مسوقة لبيان التطابق بين الحياة الدنيا و الآخرة دليل على أن المراد بعمى الآخرة عمى البصيرة كما أن المراد بعمى الدنيا ذلك قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ} و يؤيد ذلك أيضا تعقيب عمى الآخرة بقوله: {وَ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
و المعنى: و من كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف الإمام الحق و لا يسلك سبيل الحق فهو في الحياة الآخرة لا يجد السعادة و الفلاح و لا يهتدي إلى المغفرة و الرحمة.
و بما تقدم يتبين ما في قول بعضهم: إن الإشارة بقوله: {فِي هَذِهِ} إلى النعم المذكورة و المعنى و من كان في هذه النعم التي رزقها أعمى لا يعرفها و لا يشكر الله على ما أنعمها فهو في الآخرة أعمى.
و كذا ما ذكره بعضهم أن المراد بعمى الدنيا عمى البصيرة و بعمى الآخرة عمى البصر، و قد تقدم وجه الفساد على أن عمى البصر في الآخرة ربما رجع إلى عمى البصيرة لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ}.
و ظاهر بعض المفسرين أن الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسره أنه في الآخرة أشد عمى و أضل سبيلا و السياق يساعده على ذلك.
بحث روائي
في أمالي الشيخ، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه (عليه السلام) في قوله: {وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ} يقول: فضلنا بني آدم على سائر الخلق {وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ} يقول: على الرطب و اليابس {وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} يقول: من طيبات الثمار كلها {وَ فَضَّلْنَاهُمْ} يقول: ليس من دابة و لا طائر إلا هي تأكل و تشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها طعاما و لا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل.
و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} قال: خلق كل شيء منكبا غير الإنسان خلق منتصبا.
أقول: و ما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق و الدليل عليه قوله في آخر الرواية الأولى: فهذا من التفضيل.
و فيه عن الفضيل قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: يجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قومه، و علي (عليه السلام) في قومه و الحسن في قومه و الحسين في قومه و كل من مات بين ظهراني إمام جاء معه.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الصادق (عليه السلام): أ لا تحمدون الله؟ أنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى من يتولونه، و فزعنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و فزعتم أنتم إلينا:
أقول: و رواه في المجمع، عنه (عليه السلام) و فيه دلالة على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إمام الأئمة كما أنه شهيد الشهداء و أن حكم الدعوة بالإمام جار بين الأئمة أنفسهم.
و في مجمع البيان، روى الخاص و العام عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بالأسانيد الصحيحة أنه روى عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال فيه: يدعى كل أناس بإمام زمانهم و كتاب ربهم و سنة نبيهم.
أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عنه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلفظه و قد أسنده أيضا إلى رواية الخاص و العام.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم و كتاب ربهم و سنة نبيهم.
و في تفسير العياشي، عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يترك الأرض
بغير إمام يحل حلال الله و يحرم حرامه، و هو قول الله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. (الحديث).
أقول: و وجه الاحتجاج بالآية عموم الدعوة فيها لجميع الناس.
و فيه عن إسماعيل بن همام عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أ ليس العدل من ربكم أن يولوا كل قوم من تولوا؟ قالوا: بلى قال: فيقول: تميزوا فيتميزون.
أقول: و فيه تأييد لما قدمنا أن المراد بالدعوة بالإمام إحضارهم معه دون النداء بالاسم، و الروايات في المعاني السابقة كثيرة.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: قال: الجلدة التي في ظهر النواة.
و في تفسير العياشي، عن المثنى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله أبو بصير و أنا أسمع فقال له: رجل له مائة ألف فقال: العام أحج العام أحج حتى يجيئه الموت فحجبه البلاء و لم يحج حج الإسلام فقال: يا أبا بصير أ و ما سمعت قول الله. {مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً}؟ عمي عن فريضة من فرائض الله.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٧٣ الی ٨١]
{وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ٧٣ وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ٧٤ إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ٧٥ وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ٧٦ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَ لاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ٧٧ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُوداً ٧٨ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ٧٩ وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ٨٠وَ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ٨١}
بيان
تذكر الآيات بعض مكر المشركين بالقرآن و بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما ذمتهم على تماديهم في إنكار التوحيد و المعاد و احتجت عليهم في ذلك حيث أرادوا أن يفتنوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن بعض ما أوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة، و أرادوا أن يخرجوه من مكة.
و قد أوعد الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أشد الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض الميل، و أوعدهم أن أخرجوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالهلاك.
و في الآيات إيصاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصلوات و الالتجاء بربه في مدخله و مخرجه و إعلام ظهور الحق.
قوله تعالى: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} إن مخففة بدليل اللام في {لَيَفْتِنُونَكَ} و الفتنة الإزلال و الصرف، و الخليل من الخلة بمعنى الصداقة و ربما قيل: هو من الخلة بمعنى الحاجة و هو بعيد.
و ظاهر السياق أن المراد بالذي أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك و السيرة الصالحة و هذا يؤيد ما ورد في بعض أسباب النزول أن المشركين سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يكف عن ذكر آلهتهم بسوء و يبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به و السقاط حتى يجالسوه و يسمعوا منه فنزلت الآيات.
و المعنى: و إن المشركين اقتربوا أن يزلوك و يصرفوك عما أوحينا إليك لتتخذ من السيرة و العمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا و إذا لاتخذوك صديقا.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} التثبيت - كما يفيده السياق - هو العصمة الإلهية و جعل جواب لو لا قوله: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ} دون نفس الركون و الركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يركن و لم يكد، و يؤكده إضافة الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه.
و المعنى: و لو لا أن ثبتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلا لكنا ثبتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلا من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يجبهم إلى ما سألوا و لا مال إليهم شيئا قليلا و لا كاد أن يميل.
قوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} سياق الآية سياق توعد فالمراد بضعف الحياة و الممات المضاعف من عذاب الحياة و الممات، و المعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لأذقناك الضعف من العذاب الذي نعذب به المجرمين في حياتهم و الضعف مما نعذبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا و الآخرة.
و نقل في المجمع، عن أبان بن تغلب أن المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه و المعنى لأذقناك عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، و أنشد قول الشاعر:
لمقتل مالك إذ بان. مني | *** | أبيت الليل في ضعف أليم |
أي في عذاب أليم.
و ما في ذيل الآية من قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} تشديد في الإيعاد أي إن العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه.
قوله تعالى: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} الاستفزاز الإزعاج و التحريك بخفة و سهولة، و اللام في
{اَلْأَرْضِ} للعهد و المراد بها مكة، و الخلاف بمعنى بعد، و المراد بالقليل اليسير من الزمان.
و المعنى و إن المشركين قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لإخراجك منها و لو كان منهم و خرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلا قليلا فهم هالكون لا محالة.
و قيل: هؤلاء الذين كادوا يستفزونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة و قيل: المراد المشركون و اليهود أرادوا جميعا أن يخرجوه من أرض العرب.
و يبعد ذلك أن السورة مكية و الآيات ذات سياق واحد و ابتلاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باليهود إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.
قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَ لاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} التحويل نقل الشيء من حال، إلى حال، و قوله: {سُنَّةَ} أي كسنة من قد أرسلنا و هو متعلق بقوله: {لاَ يَلْبَثُونَ} أي لا يلبثون بعدك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا.
و هذه السنة و هي إهلاك المشركين الذين أخرجوا رسولهم من بلادهم و طردوه من بينهم سنة لله سبحانه، و إنما نسبها إلى رسله لأنها مسنونة لأجلهم بدليل قوله بعد: {وَ لاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} و قد قال تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ} إبراهيم: ١٣.
و المعنى: و إذا نهلكهم لسنتنا التي سنناها لأجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و أجريناها و لست تجد لسنتنا تحويلا و تبديلا.
قوله تعالى: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال في مجمع البيان: الدلوك الزوال، و قال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، و قيل: هو الغروب و أصله من الدلك فسمي الزوال دلوكا لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدة شعاعها، و سمي الغروب دلوكا لأن الناظر يدلك عينيه ليثبتها. انتهى.
و قال فيه: غسق الليل ظهور ظلامه يقال: غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر
ما فيها. انتهى، و في المفردات: غسق الليل شدة ظلمته. انتهى.
و قد اختلف المفسرون في تفسير صدر الآية و المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها و غسق الليل بمنتصفه، و سيجيء الإشارة إلى الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و عليه فالآية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس و منتصف الليل، و الواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليومية أربع صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة. و بانضمام صلاة الصبح المدلول عليها بقوله: {وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ} إلخ إليها تتم الصلوات الخمس اليومية.
و قوله: {وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ} معطوف على الصلاة أي و أقم قرآن الفجر و المراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة و قد اتفقت الروايات على أن صلاة الصبح هي المراد بقرآن الفجر.
و كذا اتفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلا: {إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} بأنه يشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، و سنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} التهجد من الهجود و هو النوم في الأصل و معنى التهجد التيقظ و السهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم، و الضمير في {بِهِ} للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله: {وَ مِنَ اَللَّيْلِ} و النافلة من النفل و هو الزيادة، و ربما قيل: إن قوله: {وَ مِنَ اَللَّيْلِ} من قبيل الإغراء نظير قولنا: عليك بالليل، و الفاء في قوله: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} نظير قوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} النحل: ٥١.
و المعنى: و أسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن - و هو الصلاة - حال كونها صلاة زائدة لك على الفريضة.
و قوله: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} من الممكن أن يكون المقام مصدرا ميميا و هو البعث فيكون مفعولا مطلقا ليبعثك من غير لفظه، و المعنى عسى أن يبعثك ربك بعثا محمودا، و من الممكن أن يكون اسم مكان و البعث بمعنى الإقامة أو مضمنا معنى الإعطاء و نحوه، و المعنى عسى أن يقيمك ربك في مقام محمود أو يبعثك معطيا لك مقاما محمودا أو يعطيك باعثا مقاما محمودا.
و قد وصف سبحانه مقامه بأنه محمود و أطلق القول من غير تقييد و هو يفيد أنه مقام يحمده الكل و لا يثني عليه الكل إلا إذا استحسنه الكل و انتفع به الجميع و لذا فسروا المقام المحمود بأنه المقام الذي يحمده عليه جميع الخلائق و هو مقام الشفاعة الكبرى له (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم القيامة و قد اتفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
قوله تعالى: {وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} المدخل بضم الميم و فتح الخاء مصدر ميمي بمعنى الإدخال و نظيره المخرج بمعنى الإخراج، و العناية في إضافة الإدخال و الإخراج إلى الصدق أن يكون الدخول و الخروج في كل أمر منعوتا بالصدق جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضاد بعض أجزائه بعضا كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله و هو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله و يشرك في بعضها غيره.
و بالجملة هو أن يرى الصدق في كل مدخل منه و مخرج و يستوعب وجوده فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول و لا يقول و لا يفعل إلا ما يراه و يعتقد به، و هذا مقام الصديقين. و يرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللهم تول أمري كما تتولى أمر الصديقين.
و قوله: {وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} أي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الأمور و أشتغل به من الأعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، و لا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرني به أعداؤك و لا أضل بنزغ شيطان و وسوسته.
و الآية - كما ترى - مطلقة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل و مخرج بالصدق و يجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق و لا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول و الخروج دخول المدينة بالهجرة و الخروج منها إلى مكة للفتح أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت و الخروج منه بالبعث.
نعم لما كانت الآية بعد قوله: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} {وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} و في سياقهما، لوحت إلى أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يلتجئ إلى ربه في كل أمر يهم به أو يشتغل
به من أمور الدعوة، و في الدخول و الخروج في كل مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه و هو ظاهر.
قوله تعالى: {وَ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} قال في المجمع: الزهوق هو الهلاك و البطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنها قد خرجت إلى الهلاك. انتهى و المعنى ظاهر.
و في الآية أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بإعلام ظهور الحق و هو لوقوع الآية في سياق ما مر من قوله: «و إن كادوا ليفتنونك» إلى آخر الآيات أمر بإياس المشركين من نفسه و تنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم فيه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الآية دلالة على أن الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر: {وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} إبراهيم: ٢٦.
بحث روائي
في المجمع، في سبب نزول قوله تعالى: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الآيات) أنهم قالوا له: كف عن شتم آلهتنا و تسفيه أحلامنا و اطرد هؤلاء العبيد و السقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان حتى نجالسك و نسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الآية.
أقول: و روي في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه. و أما ما روي عن ابن عباس: أن أمية بن خلف و أبا جهل بن هشام و رجالا من قريش أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا و ندخل معك في دينك و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يشتد عليه فراق قومه و يحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ } - إلى قوله - {نَصِيراً} فلا يلائم ظاهر الآيات حيث تنفي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقارب الركون فضلا عن الركون.
و كذا ما رواه الطبري و ابن مردويه عن ابن عباس: أن ثقيفا قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أجلنا سنة حتى يهدي لآلهتنا فإذا قبضنا الذي يهدي للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا و كسرنا الآلهة فهم أن يؤجلهم فنزلت: {وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (الآية).
و كذا ما في تفسير العياشي، عن أبي يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: لما كان يوم الفتح أخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصناما من المسجد و كان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه و كان مستحيا ثم أمر بكسره فنزلت هذه الآية.
و نظيرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب و حاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يهم بمثل هذه البدع و الله سبحانه ينفي عنه المقارنة من الركون و الميل اليسير فضلا أن يهم بالعمل.
على أن هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و السورة مكية. و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): مما سأله المأمون فقال له: أخبرني عن قول الله: {عَفَا اَللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قال الرضا (عليه السلام) هذا مما نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيه و أراد به أمته، و كذلك قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} و قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} قال: صدقت يا بن رسول الله.
و في المجمع، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ} (الآية) قال: إنه لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا.
و في تفسير العياشي، عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قلت له: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام فكتب الله على المسلمين الجهاد، و زاد في الصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سبع ركعات في الظهر ركعتين، و في العصر ركعتين، و في المغرب ركعة، و في العشاء ركعتين، و أقر الفجر على ما فرضت عليه بمكة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الأرض و تعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل و ملائكة النهار يشهدون مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله: {وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} يشهد المسلمون و يشهد ملائكة الليل و النهار
و في المجمع، في قوله تعالى: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ} قال: ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها: و يؤيد ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبيدة بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية.
قال: إن الله افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه، و منها صلاتان أول وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر.
و فيه أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال: يشهده الله و ملائكة الليل و ملائكة النهار.
أقول: تفسير كون قرآن الفجر مشهودا في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل و ملائكة النهار يكاد يبلغ حد التواتر، و قد أضيف إلى ذلك في بعضها شهادة الله كما في هذه الرواية، و في بعضها شهادة المسلمين كما فيما تقدم.
و في تفسير العياشي، عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ قال: نعم للمؤمنين خطايا و ذنوب و ما من أحد إلا و يحتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ .
قال: و سأله رجل عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا سيد ولد آدم و لا فخر قال: نعم يأخذ حلقة من باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول: الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع و اطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع يشفع (فيشفع) و يطلب فيعطى.
و فيه عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (عليه السلام) في قول الله {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوما و تؤمر الشمس
فنزلت على رءوس العباد و يلجم العرق و تؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيشفعون له فيدلهم على نوح و يدلهم نوح على إبراهيم، و يدلهم إبراهيم على موسى و يدلهم موسى على عيسى، و يدلهم عيسى على محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فيقول: عليكم بمحمد خاتم النبيين، فيقول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا لها.
فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول محمد: افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له تكلم و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو قول الله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.
أقول: و قوله: «حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار» أي بعض من أدخل النار، و في معنى هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الدر المنثور أخرج البخاري و ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الإذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم (عليه السلام) فيقول: لست بصاحب ذلك ثم موسى (عليه السلام) فيقول مثل ذلك ثم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فيشفع فيقضي الله بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما.
و فيه أخرج ابن جرير و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: المقام المحمود الشفاعة.
و فيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقاص قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة.
أقول: و الروايات في المضامين السابقة كثيرة.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٨٢ الی ١٠٠]
{وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً ٨٢ وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى
بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كَانَ يَؤُساً ٨٣ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً ٨٤ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ٨٥ وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ٨٦ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ٨٧ قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ٨٨ وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ اَلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ٨٩ وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً ٩٠أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً ٩١ أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً ٩٢ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ٩٣ وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ٩٤ قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ٩٥ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ٩٦ وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ٩٧ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ٩٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ قَادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى اَلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً ٩٩ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ قَتُوراً ١٠٠}
بيان
رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن و كونه آية للنبوة و ما يصحبه من الرحمة و البركة، و قد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: {إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ثم رجع إليه بقوله: {وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} إلخ و قوله {وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ} إلخ و قوله: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} إلخ.
فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء و رحمة و بعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه و مخسر للظالمين و أنه آية معجزة للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الآيات و الجواب عنه و ما يلحق بذلك من الكلام.
و في الآيات ذكر سؤالهم عن الروح و الجواب عنه.
قوله تعالى: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} من بيانية تبين الموصول أعني قوله: {مَا هُوَ شِفَاءٌ} إلخ أي و ننزل ما هو شفاء و رحمة و هو القرآن.
و عد القرآن شفاء و الشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، و هو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر
أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسانية التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية و آثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدإ و المعاد و ما يتفرع عليهما من أصول المعارف، و أخلاق فاضلة زاكية تلائمها و يترتب عليها من الأحوال و الأعمال ما يناسبها.
فللإنسان صحة و استقامة روحية معنوية كما أن له صحة و استقامة جسمية صورية، و له أمراض و أدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا و أدواء جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية و لكل داء دواء و لكل مرض شفاء.
و قد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا و هو غير الكفر و النفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الأحزاب: ٦٠و قوله: {وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} المدثر: ٣١.
و ليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب و استقامة النفس من أنواع الشك و الريب الموجبة لاضطراب الباطن و تزلزل السر و الميل إلى الباطل و اتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان و مما هو معدود نقصا و شركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية، و قد قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف: ١٠٦ و قال: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} النساء: ٦٥.
و القرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة أنواع الشكوك و الشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة و المعارف الحقيقية و يدفع بمواعظه الشافية و ما فيه من القصص و العبر و الأمثال و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير و الأحكام و الشرائع عاهات الأفئدة و آفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.
و أما كونه رحمة للمؤمنين - و الرحمة إفاضة ما يتم به النقص و يرتفع به الحاجة - فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم و اليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل و العمى و الشك و الريب و يحليها بالملكات الفاضلة و الحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ
الهيآت الردية و الصفات الخسيسة.
فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض و الأدواء، و بما أنه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة و الاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة و يهيئها لقبولها، و بكونه رحمة يلبسه لباس السعادة و ينعم عليه بنعمة الاستقامة.
فالقرآن شفاء و رحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى و رحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال، و بذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: {مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فهو كقوله: {هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف: ١١١ و قوله: {وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً} النساء: ٩٦.
فمعنى قوله: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} و ننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب و يزيلها و يعيد إليها حالة الصحة و الاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة و الكرامة.
و قوله: {وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين و هم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين و إنما علق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي أن القرآن إنما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.
و الخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل و هو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله و آياته خسروا فيه و نقصوا. ثم إن كفرهم بالقرآن و إعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار و نقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، و إلى هذه النكتة يشير سياق النفي و الاستثناء حيث قيل: {وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} و لم يقل: و يزيد الظالمين خسارا.
و به يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة و استقامة على صحتهم و استقامتهم بالإيمان و سعادة على سعادتهم و إن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا و خسارا.
و للمفسرين في معنى صدر الآية و ذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.
و مما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من شفاء الأمراض الروحية من الجهل و الشبهة و الريب و الملكات النفسانية الرذيلة و شفاء الأمراض الجسمية بالتبرك بآياته الكريمة قراءة و كتابة هذا.
و لا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر و الذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الأمراض و العاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء و رفع ظلم الظالمين و إبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، و نسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم و شقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.
قوله تعالى: {وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كَانَ يَؤُساً} قال في المفردات: العرض خلاف الطول و أصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها إلى أن قال و أعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل: أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، و إذا قيل: أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه. انتهى موضع الحاجة.
و النأي البعد و نأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، و مجموع قوله: {أَعْرَضَ وَ نَأى بِجَانِبِهِ} يمثل حال الإنسان في تباعده و انقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه. كمن يحول وجهه عن صاحبه و يتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، و ربما ذكر بعض المفسرين أن قوله. {نَأى بِجَانِبِهِ} كناية عن الاستكبار و الاستعلاء.
و قوله: {وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كَانَ يَؤُساً} أي و إذا أصابه الشر أصابة خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير و هو النعمة، و لم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، و لأن وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت و المرض و الفقر و النقص و غير ذلك إنما هو شر بالنسبة إلى مورده، و أما بالنسبة إلى غيره و خاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه
العناية الإلهية و هو مراد بالذات، و ما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره و هو مقضي بالعرض.
فالمعنى أنا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب و أخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا و لم يشكرنا، و إذا ناله شيء يسير من الشر فسلب منه الخير و زالت عنه أسبابه و رأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه و هو يرى بطلان أسبابه و لا يرى لربه في ذلك صنعا.
و الآية تصف حال الإنسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف و العادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال و الجاه و البنين و غيرها و وافقته على ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها و تعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه و شكره بما أنعم عليه، و إذا مسه الشر و سلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير و لم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود.
و هذه الحال غير حال الإنسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم و الآداب و لا الحاكم فيه العرف و العادة إما بتأييد إلهي يلازمه و يسدده و إما بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته و يدعو ربه و يسأله كشف ضره فللإنسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر و نزول الشر و حال عادية تحول فيها الأسباب بينه و بين ربه فتشغله و تصرفه عن الرجوع إليه بالذكر و الشكر، و الآية تصف حاله الثانية دون الأولى.
و من هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية و الآيات الدالة على أن الإنسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: {وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الآية) و قوله: {وَ إِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ اَلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} (الآية) يونس: ١٢ إلى غير ذلك.
و يظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها و أنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله: {وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} و المحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم ـ
فإن من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف عن ربه و يعرض و ينأى بجانبه، و ييأس عند مس الشر.
بحث فلسفي في تعلق القضاء بالشرور
ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الإلهي بالعرض، و قد أوردوا في بيانه ما يأتي:
نقل عن أفلاطون أن الشر عدم و قد بين ذلك بالأمثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا و ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب و لا في شجاعته و لا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شيء، و ليس هو في حدة السيف و دقة ذبابه و كونه قطاعا فإن ذلك من كماله و حسنه، و ليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الآلة القطاعة فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقى للشر إلا زهاق روح المقتول و بطلان حياته و هو عدمي، و على هذا سائر الأمثلة فالشر عدم.
ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود و الوقوع كأنواع الفقد و النقص و الموت و الفساد الواقعة في الخارج الداخلة في النظام العام الكوني، و لذلك كان لها مساس بالقضاء الإلهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.
و ذلك أن الذي تتصوره من العدم إما عدم مطلق و هو عدم النقيض للوجود و إما مضاف إلى ملكة و هو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا.
و القسم الأول إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبة إلى ماهية نفسه، و هذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شيء إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشيء فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده، و هو راجع في الحقيقة إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه.
و إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى شيء آخر كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي و كفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان
النبات وجود الحيوان و فقدان البقر وجود الفرس، و هذا النوع من العدم من لوازم الماهيات و هي اعتبارية غير مجعولة.
و القسم الثاني و هو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذي من شأنه أن يوجد له و يتصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء و النواقص و العيوب و العاهات و الأمراض و الأسقام و الآلام الطارئة عليها، و هذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الأمور المادية و يستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى إفاضة مبدإ الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود.
فالذي تعلقت به كلمة الإيجاد و الإرادة الإلهية و شمله القضاء بالذات في الأمور التي يقارنها شيء من الشر إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده و مقدار قابليته و أما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته و قصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل و الإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه و بين الوجود الذي يقارنه هذا.
و ببيان آخر الأمور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، و ما خيره أكثر من شره، و ما يتساوى خيره و شره، و ما شره أكثر من خيره، و ما هو شر محض، و لا يوجد شيء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح، و من الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة و العلم الواجبيين و الجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم و أن يوجد ما هو خير محض و ما خيره أكثر من شره لأن في ترك الأول شرا محضا و في ترك الثاني شرا كثيرا.
فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير و إنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير.
و عن الإمام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم و استحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار، فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح.
و قد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العلة مثل ما
يتلقى وجوده من قبله، و من المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل و يغلبها بتحديده.
و لقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال: و لا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء و مقابله بلا داع و مصلحة كما هو مذهب الأشاعرة و إلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات و الشرور لكن الحكماء و أساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، و أمور العالم منوطة بقوانين كلية، و أفعاله تعالى مربوطة بحكم و مصالح جلية و خفية.
ثم قال: و قول الإمام: «إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب و الجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول و الضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها».
ناش من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار، و ليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، و بعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم و لا يجوزون الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنوية من مبدأين خيري و شري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى.
[بيان]
قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً} المشاكلة على ما في المفردات، من الشكل و هو تقييد الدابة، و يسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين، و الشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها و تقتضيه.
و في المجمع: الشاكلة الطريقة و المذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى. و كأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين و المنتحلين بالتزامهما و عدم التخلف عنهما و قيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل و قيل: إنها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيأة.
و كيف كان فالآية الكريمة ترتب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها
و يوافقها، فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الذي يمثل بأعضائه و أعماله هيأت الروح المعنوية و قد تحقق بالتجارب و البحث العلمي أن بين الملكات و الأحوال النفسانية و بين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل و الجبان إذا حضرا موقفا هائلا، و لا عمل الجواد الكريم و البخيل اللئيم في موارد الإنفاق و هكذا، و أن بين الصفات النفسانية و نوع تركيب البنية الإنسانية رابطة خاصة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب و حب الانتقام بالطبع و منها ما تغلي و تفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه و يحركه، و منها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعةً و بطءاً.
و مع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة و يبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته و إن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.
و كلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} الأعراف: ٥٨ و انضمام الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة كقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ} الأنعام: ١٩ يفيد أن تأثير البنى الإنسانية في الصفات و الأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر.
كيف و هو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها و لا تغيير قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} الروم: ٣٠و قال: {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس: ٢٠و لا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق و السنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر و الفساد و الانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة.
و قول القائل: إن السعادة و الشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الأربعة و فردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم و إن الدعوة لإتمام الحجة لا لإمكان التغيير و رجاء التحول من حال إلى حال فالأمر مفروغ عنه قال تعالى:
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}.
مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد و شقاوة الشقي لازمة ضرورية فإن السعادة و الشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، و كذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شيء من السعادة و الشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة و السيئة و اعتقاداته الحقة و الباطلة.
على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم و التربية و الإنذار و التبشير و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و غير ذلك أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين و منشعب طريقين: السعادة و الشقاوة و في إمكانه أن يختار أيا منهما شاء و أن يسلك أيا منهما أراد و لكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى}.: النجم: ٤١.
فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الذوات، و هناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الأوضاع و الأحوال و العوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة و جو العيش كالآداب و السنن و الرسوم و العادات التقليدية فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها و تزجره عن مخالفتها و لا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع و الأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.
و هذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان، و في كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} البقرة: ٧ إلى غير ذلك.
و لا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة و الإنذار و التبشير لأن امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للإنسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته و خصوصية تركيب بنيته، و هي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض.
و شاكلة أخرى ثانية و هي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الإنسانية على ما فيها من الشاكلة الأولى إن كانت.
و الإنسان على أي شاكلة متحصلة و على أي نعت نفساني و فعلية داخلية روحية كان فإن عمله يجري عليها و أفعاله تمثلها و تحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه و سكوته و قيامه و قعوده و حركته و سكونه، و الذليل المسكين ظاهر الذلة و المسكنة في جميع أعماله و كذا الشجاع و الجبان و السخي و البخيل و الصبور و الوقور و العجول و هكذا: و كيف لا و الفعل يمثل فاعله و الظاهر عنوان الباطن و الصورة دليل المعنى.
و كلامه سبحانه يصدق ذلك و يبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى: {وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمَاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ} فاطر: ٢٢ و قوله: {اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} النور: ٣٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و قوله تعالى: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ} محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الآية بقوله: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} و وقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين و يشفيهم بالقرآن الكريم و الدعوة الحقة و يخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني و هي الشخصية الخلقية الحاصلة للإنسان من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه.
كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء و الرحمة و حرمان الظالمين من ذلك و زيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة و أنه لو سوى بين
الفريقين في الشفاء و الرحمة كان ذلك أوفى لغرض الرسالة و أنفع لحال الدعوة فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم في ذلك.
فقال: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ} أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة و الفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمة الحق و العمل الصالح و انتفع بالدعوة الحقة، و من كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق و العمل الصالح و لم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا، و الله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لأمركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة و هو أهدى سبيلا و أقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق، و الذي علمه و أخبر به أن المؤمنين أهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء و الرحمة بالقرآن الذي ينزله، و لا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.
و من هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: {أَهْدى سَبِيلاً} و ذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة و إن كانت مضلة داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى و إن كان ضعيفا، و الشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.
و ذكر الإمام الرازي في تفسيره، ما ملخصه: أن الآية تدل على كون النفوس الناطقة الإنسانية مختلفة بالماهية و ذلك أنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء و الرحمة و بالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار و الخزي ثم أتبعه بقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ} و معناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء و الكمال، و بتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي و الضلال كما أن الشمس تعقد الملح و تلين الدهن و تبيض ثوب القصار و يسود وجهه.
و هذا إنما يتم إذا كانت الأرواح و النفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، و بعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها منه ضلال على ضلال و نكال على نكال. انتهى.
و فيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها و تصورها
بصورها لكان له وجه، و أما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة، و قد عرفت أن الآية إنما تتعرض لحال الإنسان بعد حصول شاكلته و شخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر.
بحث فلسفي [كلام في سنخية الفعل و فاعله]
ذكر الحكماء أن بين الفعل و فاعله و يعنون به المعلول و علته الفاعلة سنخية وجودية و رابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله و وجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الأمر على ذلك بناء على أصالة الوجود و تشكيكه.
و بينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول و علته الفاعلة له مناسبة ذاتية و خصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، و نظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل و يثبت الرابطة بينه و بينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول و معطي الشيء غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول و المعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة.
و قد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق و ألطف و هو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، و ليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر و التعلق عن مرتبة ذاته و يكون هناك ذات ثم فقر و تعلق و إلا استغنى بحسب ذاته عن العلة و استقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر و التعلق فليس له من الوجود إلا الرابط غير المستقل و ما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته و يمثله في مرتبته التي له من الوجود.
(تعقيب البحث السابق من جهة القرآن)
التدبر في الآيات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الأشياء على
اختلاف وجوهها و تشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه و صفاته فما من شيء إلا و هو آية في وجوده و في أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته و كبريائه، و الآية و هي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتي فإن في ذي الآية الذي هو مدلولها غير مستقلة دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف.
فالأشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله، و هي تحاكي بوجودها و صفات وجودها وجوده سبحانه و كرائم صفاته و هو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه.
[بيان]
قوله تعالى: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس و الحركة الإرادية و لفظه يذكر و يؤنث، و ربما يتجوز فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} الأنعام: ١٢٢ أي بالهداية إلى الإيمان و على هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} النحل: ٢ أي بالوحي و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الشورى: ٥٢ أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لأن به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة.
و كيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية و مدنية، و لم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان و هو مبدأ الحياة الذي يتفرع عليه الإحساس و الحركة الإرادية كما في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} النبأ: ٣٨، و قوله: {تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} القدر: ٤ و لا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني و غير الملائكة و قد تقدم الحديث عن علي (عليه السلام) أنه احتج بقوله تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} النحل: ٢ على أن الروح غير الملائكة، و قد وصفه تارة بالقدس و تارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته
عن الخيانة و سائر القذارات المعنوية و العيوب و العاهات التي لا تخلو عنها الأرواح الإنسية.
و هو و إن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي و التبليغ كما يظهر من قوله: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الآية فقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} البقرة: ٩٧ فنسب تنزيل القرآن على قلبه (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى جبريل ثم قال: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} الشعراء: ١٩٥ و قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} النحل: ١٠٢ فوضع الروح و هو غير الملائكة بوجه مكان جبريل و هو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح و الروح يحمل هذا القرآن المقرو المتلو.
و بذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الشورى: ٥٢ و يظهر أن المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) و إنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.
و أما نسبة الوحي و هو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى و هو من الموجودات العينية و الأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم (عليه السلام): {وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ} النساء: ١٧١ فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة و إنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران: ٥٩ .
و قد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} و ظاهر {مِنْ} أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات {يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} المؤمن: ١٥ {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} {تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} فالروح من سنخ الأمر.
ثم عرف أمره في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} يس: ٨٤ فبين أولا أن أمره هو قوله للشيء: «كن» و هو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد و الإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى و قيامه به فقوله فعله.
و من الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجودية الأخر قوله تعالى: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر: ٥٠حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر و هذا النوع من التشبيه لنفي التدريج و به يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان و المكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان و المكان هي من تلك الجهة أمره و قوله و كلمته، و أما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب الكونية منطبقة على الزمان و المكان فهي بها من الخلق قال تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} الأعراف: ٥٤ فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده و الخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.
و يستفاد ذلك أيضا من قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الآية حيث ذكر أولا خلق آدم و ذكر تعلقه بالتراب و هو من الأسباب ثم ذكر وجوده و لم يعلقه بشيء إلا بقوله: {كُنْ} فافهم ذلك و نظيره قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً} إلى أن قال {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} المؤمنون: ١٤ فعد إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الأسباب الكونية إنشاء خلق آخر.
فظهر بذلك كله أن الأمر هو كلمة الإيجاد السماوية و فعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الأسباب، و لا يتقدر بزمان أو مكان و غير ذلك.
ثم بين ثانيا أن أمره في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء - و الملكوت أبلغ من الملك - فلكل شيء ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى: {أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الأعراف: ١٨٥ و قال: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الأنعام: ٧٥ و قال: {تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (الآية) القدر: ٤.
فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد و هو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية و هو الوجود الأرفع من نشأة المادة و ظرف الزمان، و أن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.
و قد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} النبأ: ٣٨، و قوله: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ} (الآية) المعارج: ٤.
و يظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ} {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ} و قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} مريم: ١٧.
و منه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} الم السجدة: ٩ و قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الحجر: ٢٩ - ص: ٧٢.
و منه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ و يشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} الأنعام: ١٢٢ فإن المذكور في الآية حياة جديدة و الحياة فرع الروح.
و منه ما نزل إلى الأنبياء (عليهم السلام) كما يدل عليه قوله: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} (الآية) النحل: ٢ و قوله: {وَ آتَيْنَا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ} البقرة: ٨٧ و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك.
و من الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة و أن في النبات حياة، و الحياة متفرعة على الروح ظاهرا.
فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} و أن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، و أن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح و أنه من سنخ الأمر بالمعنى الذي تقدم،
و أما قوله: {وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود و خواص و آثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.
و للمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه و المجاب عنه أقوال:
فقال بعضهم: إن المراد بالروح المسئول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} و قوله: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ} (الآية)، و لا دليل لهم على ذلك.
و قال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ} و فيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام، و لو لا ذلك لكان عيسى و جبريل واحدا لأن الله سمى كلا منهما روحاً.
و قال بعضهم: إن المراد به القرآن لأن الله سماه روحا في قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الآية فيكون محصل السؤال و الجواب أنهم يسألونك عن القرآن أ هو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالة على صحة رسالتي و ما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا: و الآية التالية: {وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يؤيد هذا المعنى.
و فيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما أطلق كما تقدم آنفا. على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أن الآية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضا.
و قال بعضهم: إن المراد به الروح الإنساني فهو المتبادر من إطلاقه و قوله: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ترك للبيان و نهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه و لم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، و قائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه
و خروجه موته، و قائل بأنه أجزاء أصلية في القلب و قائل بأنه عرض في البدن، و قائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.
و فيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، و التدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.
و قال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه و السؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره و فعله تعالى، و فعله محدث لا قديم.
و فيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى و إن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح و قدمه و توجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.
ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: {اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أ هو جواب مثبت أو ترك للجواب و صرف عن السؤال على قولين، و الوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول و في بعضها الثاني، و قد أشرنا إلى مفي ضمن الأقوال.
ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: {وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أ هم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غير النبي من الناس؟ و الأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين و الكلام من تمام قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أن السائلين هم اليهود لأنهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم و في الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش و كفار العرب و قد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه۱ بالذين لا يعلمون.
قوله تعالى: {وَ لَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} الكلام متصل بما قبله فإن الآية السابقة و إن كانت متعرضة لأمر مطلق الروح و هو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الملقي إليه القرآن.
فالمعنى - و الله أعلم - الروح النازل عليك الملقي بالقرآن إليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، و أقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذي هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك و يطالبنا به و يجبرنا على رد ما أذهبنا به.
و بذلك يظهر أولا: أن المراد بالذي أوحينا إليك الروح الإلهي الذي هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على حد قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الشورى: ٥٤.
و ثانيا: أن المراد بالوكيل للمطالبة و الرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن و تلاوته على ما فسره بعض المفسرين و هو مبني على تفسير قوله: {بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا.
قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} استثناء من محذوف يدل عليه السياق، و التقدير فما اختصصت بما اختصصت به و لا أعطيت ما أعطيت من نزول الروح و ملازمته إياك إلا رحمة من ربك، ثم علله بقوله: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} و هو وارد مورد الامتنان.
قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس، و قوله: {بِمِثْلِهِ} من وضع الظاهر موضع المضمر و ضميره عائد إلى القرآن.
و في الآية تحد ظاهر، و هي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه و معناه لا بفصاحته و بلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئا و قد اعتنت الآية باجتماع الثقلين و إعانة بعضهم لبعض.
على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي و قد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة و البلاغة اليوم فلا أثر منهم، و القرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ اَلنَّاسِ إِلاَّ
كُفُوراً} تصريف الأمثال ردها و تكرارها و تحويلها من بيان إلى بيان و من أسلوب إلى أسلوب، و المثل هو وصف المقصود بما يمثله و يقربه من ذهن السامع، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} لابتداء الغاية، و المراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق و يمهد لهم طريق الإيمان و الشكر بقرينة قوله: {فَأَبى أَكْثَرُ اَلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} و الكلام مسوق للتوبيخ و الملامة.
و في قوله: {أَكْثَرُ اَلنَّاسِ} وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل أكثرهم و لعل الوجه فيه الإشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: {وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً} أسرى: ٦٧.
و المعنى: و أقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق و يدعوهم إلى الإيمان بنا و الشكر لنعمنا فأبى أكثر الناس إلا أن يكفروا و لا يشكروا.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً } - إلى قوله - {كِتَاباً نَقْرَؤُهُ} الفجر الفتح و الشق و كذلك التفجير إلا أنه يفيد المبالغة و التكثير، و الينبوع العين التي لا ينضب ماؤها، و خلال الشيء وسطه و أثناؤه، و الكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعة وزنا و معنى، و القبيل هو المقابل كالعشير و المعاشر، و الزخرف الذهب، و الرقي الصعود و الارتقاء.
و الآيات تحكي الآيات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالدة.
و المعنى {وَ قَالُوا} أي قالت قريش {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} يا محمد {حَتَّى تَفْجُرَ} و تشق {لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ} أرض مكة لقلة مائها {يَنْبُوعاً} عينا لا ينضب ماؤها {أَوْ تَكُونَ} بالإعجاز {لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ} أي تشقها أو تجريها {خِلاَلَهَا} أي وسط تلك الجنة و أثناءها {تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} أي مماثلا لما زعمت يشيرون۱ به - إلى قوله - تعالى: {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ} السبا: ٩ {عَلَيْنَا كِسَفاً} و قطعا {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} مقابلا نعاينهم و نشاهدهم
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} و ذهب {أَوْ تَرْقى} و تصعد {فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} و صعودك {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا} منها {كِتَاباً نَقْرَؤُهُ} و نتلوه.
قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} فيه أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيب عما اقترحوه عليه و ينبههم على جهلهم و مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه أمورا عظاما لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية و فيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله و الملائكة قبيلا، و لم يرضوا بهذا المقدار و لم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسئول المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا و كذا بل قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ} إلخ {أَوْ تَكُونَ لَكَ} إلخ {أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ} إلخ {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ} إلخ {أَوْ يَكُونَ لَكَ} إلخ {أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ}.
فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، و إن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره و بعثه لتبليغه بالإنذار و التبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه و إقداره أن يخلق كل ما يريد، و يوجد كل ما شاءوا، و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح.
و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة و تفويض القدرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك.
و ثانيا: إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام: {هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} و هو يؤيد كون قوله: {سُبْحَانَ رَبِّي} واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الأمور و طلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر و لا قدرة للبشر على شيء من هذه الأمور، و إن كنتم اقترحتموها لأني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة و تبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.
و قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: {بَشَراً} و {رَسُولاً} دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: {بَشَراً} فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه
الآيات عن قدرته في نفسه، و أما قوله: {رَسُولاً} فليرد به اقتراح إيتائها عن قدرة مكتسبة من ربه.
و ذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: {رَسُولاً} و قوله: {بَشَراً} توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، و دلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، و المعنى على هذا هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشيء.
قال: و جعل {بَشَراً} و {رَسُولاً} كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الآثار أولا فإن الذي ورد في الآثار أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأل ربه أن يفعل كذا و كذا، و لم يسألوه أن يأتيهم بشيء من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، و مستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر و كونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم. انتهى محصلا.
و فيه أولا: أن أخذ قوله: {بَشَراً} ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الآيات على مزعمتهم هذه لا تصريحا و لا تلويحا تحميل من غير دليل.
و ثانيا: أن الذي ذكره في معنى الآية «هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا كذا و كذا» معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذي في قوله: «كسائر الرسل» لا قوله: {رَسُولاً} و في حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك.
و ثالثا: أن اشتمال الآثار على أنهم إنما سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأل ربه الإتيان بتلك الآيات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، و الذي حكاه الله عنهم أنهم قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا } إلخ {فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ} إلخ {أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ } إلخ و هذا من عجيب المغالاة في حق الآثار و تحكيمها على كتاب الله و تقديمها عليه حتى في صورة المخالفة.
و رابعا: أن إباء الذوق السليم عن تجويز كون {رَسُولاً} خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه.
قوله تعالى: {وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}
الاستفهام في قوله: {أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} للإنكار، و جملة {قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ} «إلخ» حكاية حالهم بحسب الاعتقاد و إن لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها.
و إنكار النبوة و الرسالة مع إثبات الإله من عقائد الوثنية، و هذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون، و المراد بالإيمان الذي منعوه هو الإيمان بالرسول.
فمعنى الآية و ما منع الوثنيين - و كانت قريش و عامة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة - أو برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، و لذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} حم السجدة: ١٤.
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} أمر سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يرد عليهم قولهم و إنكارهم لرسالة البشر و نزول الوحي بأن العناية الإلهية قد تعلقت بهداية أهل الأرض و لا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الأرض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم و يختص بذلك نبيهم.
و هذه خاصة الحياة الأرضية و العيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الأرض و أخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا.
و العناية في الآية الكريمة. - كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحياة أرضية مادية، و الأخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الإلهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة.
و الأمر على ذلك فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية و وجوب هدايتهم بواسطة سماوية و ملك علوي هما المقدمتان الأصليتان في البرهان على وجود الرسالة و لزومها.
و أما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الآية بوجوب كون الرسول من جنس
المرسل إليهم و من أنفسهم كالإنسان للإنسان و الملك للملك فليس بتلك الأهمية، و لذلك لم يصرح به في الآية الكريمة.
و ذلك أن كون الرسول إلى البشر و هو الذي يعلمهم و يربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية، و كون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة و الشقاء و الكمال و النقص و طهارة الباطن و قذارته ضروري و الملك الملقي للوحي و ما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه إلا المطهرون، فالملك النازل بالوحي و إن نزل على النوع لكن لا يمسه إلا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة و ألواثها مقدسون من مس الشيطان و هم الرسل (عليهم السلام).
و توضيح المقام: أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله و سعادته، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلية، و لا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين و سنن تضمن سعادة حياته في الدنيا و بعدها، و ترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الأفراد، و إذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين و السنن و لا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره و شره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف و القوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته و كماله و هو شعور الوحي و الإنسان المتلبس به هو النبي.
و هذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه و قد أوردناه و فصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني و في ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.
و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ} إلخ فإنها تزيد على ما مر من معنى البرهان بشيء و هو أن إلقاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم.
و ذلك أن محصل مضمون الآية و ما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. و قد أخطئوا في ذلك
فإن مقتضى الحياة الأرضية و عناية الله بهداية عباده أن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالإنسان عائشين في الأرض لنزل الله إلى بعضهم و هو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.
و هذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية و هو أن الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله.
و يشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الإنسان الأرضية و العناية الربانية متعلقة بهداية عباده و إيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، و الملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الأرض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك و هو رسالته، و الذي يشاهده و يتلقى ما ينزل به و لا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية و روح من أمر الله هو الرسول البشري.
و كان المترقب من السياق أن يقال: «لبعث الله فيهم ملكا رسولا» بحذاء قولهم المحكي في الآية السابقة: {أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} لكنه عدل إلى مثل قوله: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} ليكون أولا أحسم للشبهة و أقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية و البوذية و الصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس و يعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح و نزول الإله إلى الأرض و ظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي و كان بوذه و يوذاسف - على ما يقال - منهم و المعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الإنسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.
و إنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك و هو من الآلهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده و هو إله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الأرضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم.
و ليكون ثانيا إشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الإنسان غير أن الذي يصلح لتلقي الوحي منه هو الرسول منهم، و أما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام و إن كان المستفيض خاصا قال تعالى: {وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أسرى: ٢٠، و قال: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ
رُسُلُ اَللَّهِ اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام: ١٢٤.
و الآية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الفرق بين الرسول و النبي أن الرسول هو الذي يرى الملك و يسمع منه و النبي يرى المنام و لا يعاين، و قد أوردنا بعض هذه الأخبار في خلال أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.
و من ألطف التعبير في الآية و أوجزه تعبيره عن الحياة الأرضية بقوله: {فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} فإن الانتقال المكاني على الأرض مع الوقوع تحت الجاذبة الأرضية من أوضح خواص الحياة المادية الأرضية.
قوله تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} لما احتج عليهم بما احتج و بين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته و هي القرآن الذي تحدى به و هم على عنادهم و جحودهم و عنتهم لا يعتنون به و يقترحون عليه بأمور جزافية أخرى و لا يحترمون لحق و لا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه و منهم فقد بلغ ما أرسل به و دعا و احتج و أعذر و قد سمعوا و تمت عليهم الحجة و استكبروا و عتوا فالكلام في معنى إعلام قطع المحاجة و ترك المخاصمة و رد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض.
و قيل المراد بالآية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة و صحة الرسالة كأنه يقول: كفاني حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله و لن تأتوا بمثله و لو كان الثقلان أعوانا لكم و أعضادا يمدونكم.
و هذا في نفسه جيد غير أن ذيل الآية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: {بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} و قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} بل كان الأقرب أن يقال: شهيدا لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك.
و هذه الآية و الآيتان قبلها مسجعة بقوله: {رَسُولاً} و هو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} إلخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الأخير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة و حقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم.
و محصل المعنى: خاطبهم بإعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير و من أضله و لم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه و الله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم و لا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن الآية كلام مبتدأ غير داخل في حيز «قل» في غير محله.
و إنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ و أشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم و هي كثيرة و إما سائر الأسباب الكونية و هي أيضا كثيرة.
و في قوله: {وَ مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ} إلخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير و لعل الوجه فيه أنه لو قيل: و من نهد و من نضل على التكلم بالغير أوهم تشريك الملائكة في أمر الهداية و الإضلال فأوهم التناقض في قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} فإن الأولياء عندهم الملائكة و هم يتخذونهم آلهة و يعبدونهم.
قوله: {وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ} إلى آخر الآيتين العمى و البكم و الصم جمع أعمى و أبكم و أصم، و خبو النار و خبوها سكون لهبها، و السعير لهب النار، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ قَادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} إلى آخر الآية، الكفور الجحود، احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم: {أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه و صيرورته عظاما و رفاتا إلى ما كان
عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه و على مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الأمثال واحد.
فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الأول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الإنسان و شخصيته، و لا ينافي ذلك كون الإنسان الأخروي عين الإنسان الدنيوي لا مثله لأن ملاك الوحدة و الشخصية هي النفس الإنسانية و هي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة و لا معدومة، و إذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الإنسان الدنيوي كما أن الإنسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين.
و الدليل على أن النفس التي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن و فساد صورته قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الم السجدة: ١١ حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان بتفرق أجزاء بدنه فأجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الإنسان و يأخذه تاما كاملا فلا يضل و لا يتلاشى، و إنما الضال بدنه و لا ضير في ذلك فإن الله يجدده.
و الدليل على أن الإنسان المبعوث هو عين الإنسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الإنسان إليه تعالى و بعثه و سؤاله و حسابه و مجازاته بما عمل.
فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، و إنما تعرض لأمر البدن حتى ينجر إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: {أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} فلم يضمنوا قولهم إلا شئون البدن لا النفس المتوفاة منه، و إذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، و إن كان مع اعتبارها عينا.
و ذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم: مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله. و للمناقشة إليه سبيل و الظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، و هو آكد من قولنا: أنت لا تفعله.
و قوله: {وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ} الظاهر أن المراد بالأجل هو زمان الموت
فإن الأجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا و هي محدودة بالموت و إما آخر زمان الحياة و يقارنه الموت و كيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به و يكفوا عن الجرأة على الله و تكذيب آياته فهو قادر على بعثهم و الانتقام منهم بما صنعوا.
فقوله: {وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ} ناظر إلى قوله في صدر الآية السابقة: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} فهو نظير قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} - إلى أن قال - {أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى أن قال {وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} الأعراف: ١٨٥.
و جوز بعضهم أن يكون المراد بالأجل هو يوم القيامة، و هو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه.
و نظيره تقرير بعضهم قوله: {وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ} حجة أخرى مسوقة لإثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالأجل هو يوم الموت أو يوم القيامة، و هو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به.
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ قَتُوراً} فسر القتور بالبخيل المبالغ في الإمساك و قال في المجمع: القتر التضييق و القتور فعول منه للمبالغة، و يقال: قتر يقتر و تقتر و أقتر و قتر إذا قدر في النفقة انتهى.
و هذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: {وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} و معنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما الشفاء في علم
القرآن لقوله: {مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحديث).
و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قال: النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل ثم قرأ قوله عز و جل: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ} يعني على نيته.
أقول: و قوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان و معنونه.
و فيه بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا و إنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء و هؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شَاكِلَتِهِ} قال: على نيته.
أقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها و روى الرواية العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي هاشم عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ} (الآية) أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الشيخ في العظمة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل، عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قالوا: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و من أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: {قُلْ لَوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.
أقول: و روي بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود و عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم: أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة و بها نزلت الآية و كون السورة مكية و اتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في كتاب الأضداد، و أبو الشيخ في العظمة، و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن علي بن أبي طالب في قوله:
{وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ} قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
أقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} النحل: ٢ و غيره من الآيات، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} من سورة النحل حديث علي (عليه السلام) و فيه إنكاره أن يكون الروح ملكا و احتجاجه على ذلك بالآية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} قال: خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مع الأئمة و هو من الملكوت.
أقول: و في معناه روايات أخر، و الرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الآيات.
و في تفسير العياشي عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) عن قوله {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ} قال: إن الله تبارك و تعالى أحد صمد و الصمد الشيء الذي ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر و قوة و تأييد يجعله في قلوب الرسل و المؤمنين.
أقول: و إنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} أن هناك جوفا و نفسا منفوخا.
و فيه عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قوله {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ما الروح؟ قال: التي في الدواب و الناس قلت: و ما هي؟ قال: من الملكوت من القدرة.
أقول: و هذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الآية أن الروح المسئول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة و أيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و رجلا من بني عبد الدار و أبا البختري أخا بني أسد و الأسود بن المطلب و ربيعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أبي أمية و أمية بن خلف و العاص بن وائل و نبيها و منبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد و كلموه و خاصموه حتى تعذروا فيه.
فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سريعا و هو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، و كان عليهم حريصا يحب رشدهم و يعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم.
فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك، و إنا و الله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفهت الأحلام و شتمت الآلهة و فرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا و قد جئت فيما بيننا و بينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا و إن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، و إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا و إن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك و كانوا يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه و نعذر فيك.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا فيئكم و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.
فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا و لا أقل مالا و لا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من قد مضى من آبائنا و ليكن فيمن
يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك و صدقوك صدقناك و عرفنا به منزلتك عند الله و أنه بعثك رسولا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك، و تسأله أن يجعل لك جنانا و كنوزا و قصورا من ذهب و فضة و يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمس حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك.
قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك و نسألك عما سألناك عنه و نطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك و يعلمك ما تراجعنا به و يخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن و إنا و الله لن نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أ ما و الله لا نتركك و ما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، و قال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنهم و قام معهم عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله ما
أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه و أنا أنظر حتى تأتيها و تأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول و أيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.
ثم انصرف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه و لما رأى من متابعتهم إياه و أنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أمية: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ } - إلى قوله - {بَشَراً رَسُولاً} (الحديث).
أقول: و الذي ذكر في الرواية من محاورتهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الآيات و لا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في بيان الآيات.
و قد تكررت الرواية من طرق الشيعة و أهل السنة أن الذي ألقى إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) القول من بين القوم و سأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: {وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ} أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و أبو نعيم في المعرفة، و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم.
أقول: و في معناه روايات أخر.
[سورة الإسراء (١٧): الآیات ١٠١ الی ١١١]
{وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً ١٠١
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ١٠٢ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ١٠٣ وَ قُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ١٠٤ وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ١٠٥ وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ١٠٦ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً ١٠٧ وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ١٠٨ وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ١٠٩ قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى وَ لاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَ لاَ تُخَافِتْ بِهَا وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ١١٠وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ١١١}
بيان
في الآيات تنظير ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من معجزة النبوة و هو القرآن و إعراض المشركين عنه و اقتراحهم آيات أخرى جزافية بما جاء به موسى (عليه السلام) من آيات النبوة و إعراض فرعون عنها و رميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن و السبب في نزوله مفرقة أجزاؤه و ما يلحق بها من المعارف.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً} الذي أوتي موسى (عليه السلام) من الآيات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الآيات التي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع و هي: العصا و اليد و الطوفان و الجراد و القمل و الضفدع و الدم و السنون و نقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية و خاصة مع ما فيها من محكي قول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ} و أما غير هذه الآيات كالبحر و الحجر و إحياء المقتول بالبقرة و إحياء من أخذته الصاعقة من قومه و نتق الجبل فوقهم و غير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية.
و لا ينافي ذلك كون الآيات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى و فرعون طول دعوته.
فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه و في التوراة أن التسع هي العصا و الدم و الضفادع و القمل و موت البهائم و برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات و حيوان و الجراد و الظلمة و موت عم كبار الآدميين و جميع الحيوانات.
و لعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات التسع في الآية ليستقيم الأمر بالسؤال من اليهود لأنهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.
و قوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً} أي سحرت فاختل عقلك و هذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: {إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} الشعراء: ٢٧ و قيل: المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون و المشئوم بمعنى اليامن و الشائم و أصله استعمال وزن الفاعل في النسبة و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} المثبور الهالك و هو من الثبور بمعنى الهلاك، و المعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب
السموات و الأرض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل و إني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك و جحودك.
و إنما أخذ الظن دون اليقين لأن الحكم لله و ليوافق ما في كلام فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى} إلخ و من الظن ما يستعمل في مورد اليقين.