المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير سورة الأعراف كاملة
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الثامن
تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
(٧)سورة الأعراف مكية و هي مائتا و ستة آية (٢٠٦)
[سورة الأعراف (٧): الآیات ١ الی ٩]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ المص ١ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢ اِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ٣ وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ٤ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ٥ فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ ٦ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ ٧ وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٨ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ٩}
بيان
السورة تشتمل من الغرض على مجموع ما تشتمل عليه السور المصدرة بالحروف المقطعة {الم} و السورة المصدرة بحرف {ص} فليكن على ذكر منك حتى نستوفي ما
استيفاؤه من البحث في أول سورة حم عسق إن شاء الله تعالى عن الحروف المقطعة القرآنية.
و السورة كأنها تجعل العهد الإلهي المأخوذ من الإنسان على أن يعبد الله و لا يشرك به شيئا أصلا يبحث عما آل إليه أمره بحسب مسير الإنسانية في الأمم و الأجيال فأكثرهم نقضوه و نسوه ثم إذا جاءتهم آيات مذكرة لهم أو أنبياء يدعونهم إليه كذبوا و ظلموا بها و لم يتذكر بها إلا الأقلون.
و ذلك أن العهد الإلهي الذي هو إجمال ما تتضمنه الدعوة الدينية الإلهية إذا نزل بالإنسان و طبائع الناس مختلفة في استعداد القبول و الرد تحول لا محالة بحسب أماكن نزوله و الأوضاع و الأحوال و الشرائط الحافة بنفوس الناس فأنتج في بعض النفوس و هي النفوس الطاهرة الباقية على أصل الفطرة الاهتداء إلى الإيمان بالله و آياته، و في آخرين و هم الأكثرون ذوو النفوس المخلدة إلى الأرض المستغرقة في شهوات الدنيا خلاف ذلك من الكفر و العتو.
و استتبع ذلك ألطافا إلهية خاصة بالمؤمنين من توفيق و نصر و فتح في الدنيا، و نجاة من النار و فوز بالجنة و أنواع نعيمها الخالد في الآخرة، و غضبا و لعنا نازلا على الكافرين و عذابا واقعا يهلك جمعهم، و يقطع نسلهم، و يخمد نارهم، و يجعلهم أحاديث و يمزقهم كل ممزق، و لعذاب الآخرة أخزى و هم لا ينصرون.
فهذه هي سنة الله التي قد خلت في عباده و على ذلك ستجري، و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو على صراط مستقيم.
فتفاصيل هذه السنة إذا وصفت لقوم ليدعوهم ذلك إلى الإيمان بالله و آياته كان ذلك إنذارا لهم، و إذا وصفت لقوم مؤمنين و لهم علم بربهم في الجملة و معرفة بمقامه الربوبي كان ذلك تذكيرا لهم بآيات الله و تعليما بما يلزمه من المعارف و هي معرفة الله و معرفة أسمائه الحسنى و صفاته العليا و سنته الجارية في الآخرة و الأولى و هذا هو الذي يلوح من قوله تعالى في الآية الثانية من السورة: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أن غرضها هو الإنذار و الذكرى.
و السورة على أنها مكية إلا آيات اختلف فيها وجه الكلام فيها بحسب
الطبع إلى المشركين و طائفة قليلة آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يظهر من آيات أولها و آخرها إنذار لعامة الناس بما فيها من الحجة و الموعظة و العبرة، و قصة آدم (عليه السلام) و إبليس و قصص نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام)، و هي ذكرى للمؤمنين تذكرهم ما يشتمل عليه إجمال إيمانهم من المعارف المتعلقة بالمبدإ و المعاد و الحقائق التي هي آيات إلهية.
و السورة تتضمن طرفا عاليا من المعارف الإلهية منها وصف إبليس و قبيله، و وصف الساعة و الميزان و الأعراف و عالم الذر و الميثاق و وصف الذاكرين لله، و ذكر العرش، و ذكر التجلي، و ذكر الأسماء الحسنى، و ذكر أن للقرآن تأويلا إلى غير ذلك.
و هي تشتمل على ذكر إجمالي من الواجبات و المحرمات كقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}: سورة الاعراف، الآية ٢٩، و قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ}: سورة الاعراف، الآية ٣٣، و قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}: سورة الاعراف، الآية ٣٢ فنزولها قبل نزول سورة الأنعام التي فيها قوله: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الأنعام: ١٤٥، فإن ظاهر الآية أن الحكم بإباحة غير ما استثني من المحرمات كان نازلا قبل السورة فالإشارة بها إلى ما في هذه السورة.
على أن الأحكام و الشرائع المذكورة في هذه السورة أوجز و أكثر إجمالا مما ذكر في سورة الأنعام في قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (الآية)، و ذلك يؤيد كون هذه السورة قبل الأنعام نزولا على ما هو المعهود من طريقة تشريع الأحكام في الإسلام تدريجا آخذا من الإجمال إلى التفصيل.
قوله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىَ لِلْمُؤْمِنِينَ} تنكير الكتاب و توصيفه بالإنزال إليه من غير ذكر فاعل الإنزال كل ذلك للدلالة على التعظيم و يتخصص وصف الكتاب و وصف فاعله بعض التخصص بما يشتمل عليه قوله: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} من التفريع كأنه قيل: هذا كتاب مبارك يقص آيات الله أنزله إليك ربك فلا يكن في صدرك حرج منه كما أنه لو كان كتابا غير الكتاب و ألقاه إليك ربك لكان من حقه أن يتحرج و يضيق منه صدرك لما في تبليغه و دعوة الناس إلى ما يشتمل عليه من الهدى من المشاق و المحن.
و قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} غاية للإنزال متعلقة به كقوله: {وَ ذِكْرىَ لِلْمُؤْمِنِينَ} و تخصيص الذكرى بالمؤمنين دليل على أن الإنذار يعمهم و غيرهم، فالمعنى: أنزل إليك الكتاب لتنذر به الناس و هو ذكرى للمؤمنين خاصة لأنهم يتذكرون بالآيات و المعارف الإلهية المذكورة فيها مقام ربهم فيزيد بذلك إيمانهم و تقر بها أعينهم، و أما عامة الناس فإن هذا الكتاب يؤثر فيهم أثر الإنذار بما يشتمل عليه من ذكر سخط الله و عقابه للظالمين في الدار الآخرة، و في الدنيا بعذاب الاستئصال كما تشرحه قصص الأمم السالفة.
و من هنا يظهر: أن قول بعضهم: إن قوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} متعلق بالحرج و المعنى: لا يكن في صدرك حرج للإنذار به، ليس بمستقيم فإن تعقبه بقوله: {وَ ذِكْرىَ لِلْمُؤْمِنِينَ} بما عرفت من معناه يدفع ذلك.
و يظهر أيضا ما في ظاهر قول بعضهم: إن المراد بالمؤمنين كل من كان مؤمنا بالفعل عند النزول و من كان في علم الله أنه سيؤمن منهم! فإن الذكرى المذكور في الآية لا يتحقق إلا فيمن كان مؤمنا بالفعل.
قوله تعالى: {اِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} لما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)أنه كتاب أنزل إليه لغرض الإنذار شرع في الإنذار و رجع من خطابه (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى خطابهم فإن الإنذار من شأنه أن يكون بمخاطبة المنذرين اسم مفعول و قد حصل الغرض من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و خاطبهم بالأمر باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، و هو القرآن الآمر لهم بحق الاعتقاد و حق العمل أعني الإيمان بالله و آياته و العمل الصالح الذين يأمر بهما الله سبحانه في كتابه و ينهى عن خلافهما، و الجملة أعني قوله: {اِتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} موضوعة وضع الكناية كنى بها عن الدخول تحت ولاية الله سبحانه و الدليل عليه قوله {وَ لاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} حيث لم يقل في مقام المقابلة: و لا تتبعوا غير ما أنزل إليكم.
و المعنى: و لا تتبعوا غيره تعالى و هم كثيرون فيكونوا لكم أولياء من دون الله قليلا ما تذكرون، و لو تذكرتم لدريتم أن الله تعالى هو ربكم لا رب لكم سواه فليس لكم من دونه أولياء.
قوله تعالى: {وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} تذكير لهم بسنة الله الجارية في المشركين من الأمم الماضية إذ اتخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلا أو نهارا فاعترفوا بظلمهم.
و البيات التبييت و هو قصد العدو ليلا، و القائلون من القيلولة و هو النوم نصف النهار، و قوله: {بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} و لم يقل ليلا أو نهارا كأنه للإشارة إلى أخذ العذاب إياهم و هم آخذون في النوم آمنون مما كمن لهم من البأس الإلهي الشديد غافلون مغفلون.
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} تتميم للتذكير يبين أن الإنسان بوجدانه و سره يشاهد الظلم من نفسه إن اتخذ من دون الله أولياء بالشرك، و أن السنة الإلهية أن يأخذ منه الاعتراف بذلك ببأس العذاب إن لم يعترف به طوعا و لم يخضع لمقام الربوبية فليعترف اختيارا و إلا فسيعترف اضطرارا.
قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ} دل البيان السابق على أنهم مكلفون بتوحيد الله سبحانه موظفون برفض الأولياء من دونه غير مخلين و ما فعلوا، و لا متروكون و ما شاءوا، فإذا كان كذلك فهم مسئولون عما أمروا به من الإيمان و العمل الصالح، و ما كلفوا به من القول الحق، و الفعل الحق و هذا الأمر و التكليف قائم بطرفين: الرسول الذي جاءهم به و القوم الذين جاءهم، و لهذا فرع على ما تقدم من حديث إهلاك القرى و أخذ الاعتراف منهم بالظلم قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ}.
و قد ظهر بذلك أن المراد بالذين أرسل إليهم الناس و بالمرسلين الأنبياء و الرسل (عليه السلام)، و ما قيل: إن المراد بالذين أرسل إليهم الأنبياء، و بالمرسلين الملائكة لا يلائم السياق إذ لا وجه لإخراج المشركين عن شمول السؤال و الكلام فيهم.
على أن الآية التالية لا تلائم ذلك أيضا. على أن الملائكة لم يدخلوا في البيان السابق بوجه لا بالذات و لا بالتبع.
قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ} دل البيان السابق على أنهم مربوبون مدبرون فسيسألون عن أعمالهم ليجزوا بما عملوا، و هذا إنما يتم فيما إذا كان
السائل على علم من أمر أعمالهم فإن المسئول لا يؤمن أن يكذب لجلب النفع إلى نفسه و دفع الضرر عن نفسه في مثل هذا الموقف الصعب الهائل الذي يهدده بالهلاك الخالد و الخسران المؤبد.
و لذلك فرع عليه قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} إلخ، و قد نكر العلماء للاعتناء بشأنه و أنه علم لا يخطئ و لا يغلط، و لذلك أكده بعطف قوله: {وَ مَا كُنَّا غَائِبِينَ} عليه للدلالة على أنه كان شاهدا غير غائب، و إن وكل عليهم من الملائكة من يحفظ عليهم أعمالهم بالكتابة فإنه بكل شيء محيط.
قوله تعالى: {وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} إلى آخر الآيتين» الآيتان تخبران عن الوزن و هو توزين الأعمال أو الناس العاملين من حيث عملهم، و الدليل عليه قوله تعالى: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} إلى أن قال {وَ كَفىَ بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء: ٤٧، حيث دل على أن هذا الوزن من شعب حساب الأعمال، و أوضح منه قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}: الزلزال: ٨، حيث ذكر العمل و أضاف الثقل إليه خيرا و شرا.
و بالجملة الوزن إنما هو للعمل دون عامله فالآية تثبت للعمل وزنا سواء كان خيرا أو شرا غير أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً}: الكهف: ١٠٥، يدل على أن الأعمال في صور الحبط و قد تقدم الكلام فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب لا وزن لها أصلا، و يبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله.
فما لم يحبط من الأعمال الحسنة و السيئة، له وزن يوزن به لكن الآيات في عين أنها تعتبر للحسنات و السيئات ثقلا إنما تعتبر فيها الثقل الإضافي و ترتب القضاء الفصل عليه بمعنى أن ظاهرها أن الحسنات توجب ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثم السيئات و يؤخذ ما لها من الثقل ثم يقايس الثقلان فأيهما كان أكثر كان القضاء له فإن كان الثقل للحسنة كان القضاء بالجنة و إن كان للسيئة كان القضاء بالنار، و لازم ذلك صحة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفتين و القبان و غيرهما.
لا بل ظاهر الآيات أن الحسنة تظهر ثقلا في الميزان و السيئة خفة فيه كما هو ظاهر قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} و نظيره قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}: المؤمنون: ١٠٣، و قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}: القارعة: ١١، فالآيات كما ترى تثبت الثقل في جانب الحسنات دائما و الخفة في جانب السيئات دائما.
و من هناك يتأيد في النظر أن هناك أمرا آخر تقايس به الأعمال و الثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه و وزن به و هو ثقل الميزان، و ما كان منها سيئة لم ينطبق عليه و لم يوزن به و هو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياسا و هو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثم يوضع المتاع في الكفة الأخرى فإن عادل المثقال وزنا بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به و إلا فهو الترك لا محالة، و المثقال في الحقيقة هو الميزان الذي يوزن به، و أما القبان و ذو الكفتين و نظائرهما فهي مقدمة لما يبينه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلا و خفة كما أن واحد الطول و هو الذراع أو المتر مثلا ميزان يوزن به الأطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو و إلا ترك.
ففي الأعمال واحد مقياس توزن به فللصلاة مثلا ميزان توزن به و هي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة، و للزكاة و الإنفاق نظير ذلك، و للكلام و القول حق القول الذي لا يشتمل على باطل، و هكذا كما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}: آل عمران: ١٠٢.
فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله: {وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ} أن الوزن الذي يوزن به الأعمال يومئذ إنما هو الحق فبقدر اشتمال العمل على الحق يكون اعتباره و قيمته و الحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها، فالله سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه و ثقله.
و لعله إليه الإشارة بالقضاء بالحق في قوله: {وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}: الزمر: ٦٩ و الكتاب الذي ذكر الله أنه يوضع يومئذ و إنما يوضع للحكم به - هو الذي أشار إليه بقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}: الجاثية: ٢٩، فالكتاب يعين الحق و ما اشتمل عليه العمل منه، و الوزن يشخص مقدار الثقل.
و على هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري، و إنما عبر بالموازين بصيغة الجمع في قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} {وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} الدال على أن لكل أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحق الذي يوزن به باختلاف الأعمال فالحق في الصلاة و هو حق الصلاة غير الحق في الزكاة و الصيام و الحج و غيرها، و هو ظاهر، فهذا ما ينتجه البيان السابق.
و الذي ذكره جمهور المفسرين في معنى قوله: {وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ} أن الوزن مرفوع على الابتداء و يومئذ ظرف و الحق صفة الوزن و هو خبره و التقدير: و الوزن يومئذ الوزن الحق و هو العدل، و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ}: الأنبياء: ٤٧.
و ربما قيل: إن الوزن مبتدأ و خبره يومئذ و الحق صفة الوزن، و التقدير: و الوزن الحق إنما هو في يوم القيامة، و قال في الكشاف: و رفعه يعني الوزن على الابتداء و خبره يومئذ، و الحق صفته أي و الوزن يوم يسأل الله الأمم و رسلهم الوزن الحق أي العدل (انتهى) و هو غريب إلا أن يوجه بحمل قوله: الوزن الحق «إلخ» على الاستئناف.
و قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} الموازين جمع ميزان على ما تقدم من البيان و يؤيده الآية المذكورة آنفا: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} و الأنسب بما ذكره القوم في معنى قوله: {وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ} أن يكون جمع موزون و هو العمل و إن أمكن أن يجعل جمع ميزان و يوجه تعدد الموازين بتعدد الأعمال الموزونة بها.
لكن يبقى الكلام على قول المفسرين: إن الوزن الحق هو العدل في تصوير معنى ثقل الموازين بالحسنات و خفتها بالسيئات فإن فيما يوزن به الأعمال حسناتها و سيئاتها خفاء، و القسط و هو العدل صفة للتوزين و هو نعت لله سبحانه على ما يظهر من قوله
{وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفى بِنَا حَاسِبِينَ}: الأنبياء: ٤٧، فإن ظاهر قوله: {فَلاَ تُظْلَمُ}، إلخ إن الله لا يظلمهم فالقسط قسطه و عدله فليس القسط هو الميزان يومئذ بل وضع الموازين هو وضع العدل يومئذ، فافهم ذلك.
و هذا هو الذي بعثهم على أن فسروا ثقل الموازين برجحانها بنوع من التجوز فالمراد بثقل الموازين رجحان الأعمال بكونها حسنات و خفتها مرجوحيتها بكونها سيئات و معنى الآية: و الوزن يومئذ العدل أي الترجيح بالعدل فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فأولئك هم المفلحون، و من لم يترجح أعماله لغلبة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم أي ذهبت رأس مالهم الذي هو أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون لتكذيبهم بها.
و يعود الكلام حينئذ إلى الملاك الذي به تترجح الحسنة على السيئة و سيما إذا اختلطت الأعمال و اجتمعت حسنات و سيئات، و الحسنات و السيئات مختلفة كبرا و صغرا فيما هو الملاك الذي يعلم به غلبة أحد القبيلين على الآخر؟ فإخباره تعالى بأن أمر الوزن جار على العدل يدل على جريانه بحيث تتم به الحجة يومئذ على العباد فلا محالة هناك أمر تشتمل عليه الحسنة دون السيئة، و به الترجيح، و به يعلم غلبة الثقيل على الخفيف و الحسنة على السيئة إذا اجتمعت من كل منهما عدد مع الأخرى و إلا لزم القول بالجزاف البتة.
و هذا كله مما يؤيد ما قدمناه من الاحتمال، و هو أن يكون توزين الأعمال بالحق، و هو التوزين العادل فمن ثقلت موازينه باشتمال أعماله على الحق فأولئك هم المفلحون، و من خفت موازينه لعدم اشتمال أعماله على الحق الواجب في العبودية فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون بتكذيبهم بها و عدم تزودهم بما يعيشون به هذا اليوم فقد أهلكوا أنفسهم بما أحلوها دار البوار جهنم يصلونها و بئس القرار.
فقد تبين بما قدمناه أولا: أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحق فيها، و بقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب و إن لم تشتمل فهو الهلاك، و هذا التوزين هو العدل، و الكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل.
و قيل: إن المراد بالوزن هو العدل، و ثقل الميزان هو رجحان العمل فالكلام موضوع على نحو من الاستعارة، و قد تقدم.
و قيل: إن الله ينصب يوم القيامة ميزانا له لسان و كفتان فتوزن به أعمال العباد من الحسنات و السيئات، و قد اختلف هؤلاء في كيفية توزين الأعمال، و هي أعمال انعدمت بصدورها، و لا يجوز إعادة المعدوم من الأعراض عندهم، على أنها لا وزن لها، فقيل: إنما توزن صحائف الأعمال لا أنفسها، و قيل: تظهر للأعمال من حسناتها و سيئاتها آثار و علائم خاصة بها فتوزن العلامات بمشهد من الناس، و قيل: تظهر الحسنات في صور حسنة و السيئات في صور قبيحة منكرة فتوزن الصور، و قيل توزن نفس المؤمن و الكافر دون أعمالهما من حسنة أو سيئة، و قيل: الوزن ظهور قدر الإنسان، و ثقل الميزان كرامته و عظم قدره، و خفة الميزان هوانه و ذلته.
و هذه الأقوال على تشتتها لا تعتمد على حجة من ألفاظ الآيات، و هي جميعا لا تخلو عن بناء الوزن الموصوف على الجزاف لأن الحجة لا تتم بذلك على العبد، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
و ثانيا: أن هناك بالنسبة إلى كل إنسان موازين توزن بها أعماله و الميزان في كل باب من العمل هو الحق الذي يشتمل عليه ذلك العمل كما تقدم فإن يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحق و لا ولاية فيه إلا لله الحق، قال تعالى: {ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ}: النبأ: ٣٩، و قال تعالى: {هُنَالِكَ اَلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ اَلْحَقِّ}: الكهف: ٤٤، و قال: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: يونس: ٣٠.
بحث روائي
في الدر المنثور أخرج ابن الضريس و النحاس في ناسخه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: سورة الأعراف نزلت بمكة.
أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن ابن الزبير.
و فيه أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنية، و هي {وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اَلْبَحْرِ} إلى آخر الآية، و سائرها مكية.
أقول: و هو منه اجتهاد و سيأتي ما يتعلق به من الكلام.
و فيه: قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} (الآية): أخرج أحمد عن معاوية بن حيدة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن ربي داعي و إنه سائلي: هل بلغت عبادي؟ و إني قائل: رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه و كفه.
و فيه: أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن الناس، و الرجل يسأل عن أهله، و المرأة تسأل عن بيت زوجها، و العبد يسأل عن مال سيده.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة، و الروايات في السؤال يوم القيامة كثيرة واردة من طرق الفريقين سنورد جلها في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
و فيه أخرج أبو الشيخ عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات و السيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة و من رجحت سيئاته على حسناته دخل النار.
و فيه أخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص عن علي بن أبي طالب قال: من كان ظاهره أرجح من باطنه خفف ميزانه يوم القيامة، و من كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة.
أقول: الروايتان لا بأس بهما من حيث المضمون لكنهما لا تصلحان لتفسير الآيتين و لم تردا له لأخذ الرجحان فيهما في جانبي الحسنة و السيئة جميعا.
و فيه: أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: خلق الله كفتي الميزان مثل السماء و الأرض فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت، و خلق الله الصراط كحد السيف فقالت الملائكة: يا ربنا من تجيز على هذا؟ قال: أجيز عليه من شئت.
أقول: و روى الحاكم في الصحيح عن سلمان مثله، و ظاهر الرواية أن الميزان يوم القيامة على صفة الميزان الموجود في الدنيا المعمول لتشخيص الأثقال و هناك روايات متفرقة تشعر بذلك، و هي واردة لتقريب المعنى إلى الأفهام الساذجة بدليل ما سيوافيك من الروايات.
و في الإحتجاج في حديث هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام): أنه سأله الزنديق فقال أو ليس يوزن الأعمال؟ قال: لا أن الأعمال ليست بأجسام و إنما هي صفة ما عملوا، و إنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء، و لا يعرف ثقلها و خفتها، و إن الله لا يخفى عليه شيء، قال: فما معنى الميزان؟ قال: العدل. قال: فما معناه في كتابه {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}؟ قال: فمن رجح عمله، الخبر.
أقول: و في الرواية تأييد ما قدمناه في تفسير الوزن، و من ألطف ما فيها قوله (عليه السلام) «و إنما هي صفة ما عملوا» يشير (عليه السلام) إلى أن ليس المراد بالأعمال في هذه الأبواب هو الحركات الطبيعية الصادرة عن الإنسان لاشتراكها بين الطاعة و المعصية بل الصفات الطارئة عليها التي تعتبر لها بالنظر إلى السنن و القوانين الاجتماعية أو الدينية مثل الحركات الخاصة التي تسمى وقاعا بالنظر إلى طبيعة نفسها ثم تسمى نكاحا إذا وافقت السنة الاجتماعية أو الإذن الشرعي، و تسمى زنا إذا لم توافق ذلك، و طبيعة الحركات الصادرة واحدة، و قد استدل (عليه السلام) لما ذكره من طريقين: أحدهما: أن الأعمال صفات لا وزن لها و الثاني: أن الله سبحانه لا يحتاج إلى توزين الأشياء لعدم اتصافه بالجهل تعالى شأنه.
قال بعضهم: إنه بناء على ما هو الحق من تجسم الأعمال في الآخرة، و إمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه، و كون الحكمة في الوزن تهويل العاصي و تفضيحه و تبشير المطيع و ازدياد فرحه و إظهار غاية العدل، و في الرواية وجوه من الإشكال فلا بد من تأويلها إن أمكن و إلا فطرحها أو حملها على التقية، انتهى.
أقول: قد تقدم البحث عن معنى تجسم الأعمال و ليس من الممتنع أن يتمثل الأعمال عند الحساب، و العدل الإلهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الأعمال و سلعها لكن الرواية لا تنفي ذلك و إنما تنفي كون الأعمال أجساما دنيوية محكومة بالجاذبية الأرضية التي تظهر فيها في صورة الثقل و الخفة، أولا.
و الإشكال مبني على كون كيفية الوزن بوضع الحسنات في كفة من الميزان. و السيئات في كفة أخرى ثم الوزن و القياس، و قد عرفت: أن الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك أصلا، ثانيا.
و في التوحيد بإسناده عن أبي معمر السعداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث
قال: و أما قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} و {خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} فإنما يعني: الحسنات توزن الحسنات و السسيئات فالحسنات ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان.
أقول: و تأييده ما تقدم ظاهر فإنه يأخذ المقياس هو الحسنة و هي لا محالة واحدة يمكن أن يقاس بها غيرها، و ليست إلا حق العمل.
و في المعاني بإسناده عن المنقري عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قال: هم الأنبياء و الأوصياء.
أقول: و رواه في الكافي، عن أحمد بن محمد عن إبراهيم الهمداني رفعه إليه (عليه السلام)، و معنى الحديث ظاهر بما قدمناه فإن المقياس هو حق العمل و الاعتقاد، و هو الذي عندهم (عليه السلام).
و في الكافي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين (عليه السلام) فيما كان يعظ به قال: ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي و الذنوب، فقال عز و جل: {وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فإن قلتم أيها الناس إن الله عز و جل إنما عنى بها أهل الشرك فكيف ذلك؟ و هو يقول: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفىَ بِنَا حَاسِبِينَ} فاعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين و لا تنشر لهم الدواوين و إنما يحشرون إلى جهنم زمرا، و إنما نصب الموازين و نشر الدواوين لأهل الإسلام، الخبر.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَزْناً} (الآية).
و في تفسير القمي في قوله: {وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ} (الآية) قال (عليه السلام): المجازاة بالأعمال إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
أقول: و هو تفسير بالنتيجة.
و فيه في قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} قال (عليه السلام): بالأئمة يجحدون.
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و في المعاني المتقدمة روايات أخر.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ١٠الی ٢٥]
{وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ١٠وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ ١١ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ١٢ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصَّاغِرِينَ ١٣ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤ قَالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ١٥ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ١٦ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ١٧ قَالَ اُخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ١٨ وَ يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ ١٩ فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَ قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ ٢٠وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ ٢١ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمَا إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢٢
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٢٣ قَالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ ٢٤ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ ٢٥}
بيان
تصف الآيات بدء خلقة الإنسان و تصويره، و ما جرى هناك من أمر الملائكة بالسجدة له، و سجودهم و إباء إبليس، و غروره آدم و زوجته، و خروجهما من الجنة. و ما قضى الله في ذلك من القضاء.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} التمكين في الأرض هو الإسكان و الإيطان فيها أي جعلنا مكانكم الأرض، و يمكن أن يكون من التمكين بمعنى الإقدار و التسليط، و يؤيد المعنى الثاني أن هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصة آدم و إبليس و قد بدئت الآيات فيها بقوله: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً}: البقرة: ٢٩، و هو التسليط و التسخير.
غير أن هذه الآيات التي نحن فيها لما كانت تنتهي إلى قوله: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ} كان المعنى الأول هو الأنسب و قوله: {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ} (إلخ) كالإجمال لما تفصله الآيات التالية إلى آخر قصة الجنة.
و المعايش جمع معيشة و هي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوها، و الآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الأرض أو التسلط و الاستيلاء عليها، و جعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به، و لذلك ختم الكلام بقوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} صورة
قصة تبتدئ من هذه الآية إلى تمام خمس عشرة آية يفصل فيها إجمال الآية السابقة و تبين فيها العلل و الأسباب التي انتهت إلى تمكين الإنسان في الأرض المدلول عليه بقوله: {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}.
و لذلك بدئ الكلام في قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} (إلخ) بلام القسم، و لذلك أيضا سيقت القصتان أعني قصة الأمر بالسجدة، و قصة الجنة في صورة قصة واحدة من غير أن تفصل القصة الثانية بما يدل على كونها قصة مستقلة كل ذلك ليتخلص إلى قوله: {قَالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} إلى آخر الآيتين فينطبق التفصيل على إجمال قوله: {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ} (الآية).
و قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} الخطاب فيه لعامة الآدميين و هو خطاب امتناني كما مر نظيره في الآية السابقة لأن المضمون هو المضمون و إنما يختلفان بالإجمال و التفصيل.
و على هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص أعني قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} بعد قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يفيد بيان حقيقتين: الأولى: أن السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم أي للنشأة الإنسانية و إن كان آدم (عليه السلام) هو القبلة المنصوبة للسجدة فهو (عليه السلام) في أمر السجدة كان مثالا يمثل به الإنسانية نائبا مناب أفراد الإنسان على كثرتهم لا مسجودا له من جهة شخصه كالكعبة المجعولة قبلة يتوجه إليها في العبادات، و تمثل بها ناحية الربوبية.
و يستفاد هذا المعنى أولا من قصة الخلافة المذكورة في سورة البقرة آية ٣٠-٣٣ فإن المستفاد من الآيات هناك أن أمر الملائكة بالسجدة متفرع على الخلافة، و الخلافة المذكورة في الآيات كما استفدناه هناك غير مختصة بآدم بل جارية في عامة الآدميين فالسجدة أيضا للجميع.
و ثانيا: أن إبليس تعرض لهم أي لبني آدم ابتداء من غير توسيط آدم و لا تخصيصه (عليه السلام) بالتعرض حين قال على ما حكاه الله سبحانه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} (إلخ) من غير سبق ذكر لبني آدم، و قد ورد نظيره في سورة الحجر حيث قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: الحجر: ٣٩، و في سورة ص حيث قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: ص: ٨٢، و لو لا أن الجميع مسجودون بنوعيتهم للملائكة لم يستقم له أن ينقم منهم هذه النقمة ابتداء و هو ظاهر.
و ثالثا: أن الخطابات التي خاطب الله سبحانه بها آدم (عليه السلام) كما في سورة البقرة و سورة طه عممها بعينها في هذه السورة لجميع بنيه، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} إلخ.
و الحقيقة الثانية: أن خلق آدم (عليه السلام) كان خلقا للجميع كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}: السجدة: ٨ و قوله: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ}: المؤمن: ٦٧، على ما هو ظاهر الآيتين أن المراد بالخلق من تراب هو الذي كان في آدم (عليه السلام).
و يشعر بذلك أيضا قول إبليس في ضمن القصة على ما حكاه الله سبحانه في سورة إسراء: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} (الآية)، و لا يخلو عن إشعار به أيضا قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ} الآيات: الأعراف: ١٧٢ على ما سيجيء من بيانه.
و للمفسرين في الآية أقوال مختلفة قال في مجمع البيان: ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} قال الأخفش: {ثُمَّ} هاهنا في معنى الواو، و قال الزجاج: و هذا خطأ لا يجوزه الخليل و سيبويه و جميع من يوثق بعلمه إنما «ثم» للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، و إنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولا فالمراد أنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه فابتدأ خلق آدم من التراب ثم وقعت السورة بعد ذلك فهذا معنى خلقناكم ثم صورناكم {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} بعد الفراغ من خلق آدم، و هذا مروي عن الحسن، و من كلام العرب: فعلنا بكم كذا و كذا و هم يعنون أسلافهم، و في التنزيل: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ} أي ميثاق أسلافكم.
و قد قيل في ذلك أقوال أخر: منها أن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، عن ابن عباس و مجاهد و الربيع و قتادة و السدي.
و منها: أن الترتيب واقع في الإخبار فكأنه قال: خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل: أنا راجل ثم أنا مسرع، و هذا قول جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى و القاضي أبو سعيد السيرافي و غيرهما، و على هذا فقد قيل: إن المعنى: خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء عن عكرمة و قيل خلقناكم في الرحم ثم صورناكم بشق السمع و البصر و سائر الأعضاء انتهى.
أما ما نقله عن الزجاج من الوجه ففيه أولا أن نسبة شيء من صفات السابقين أو أعمالهم إلى أعقابهم إنما تصح إذا اشترك القبيلان في ذلك بنوع من الاشتراك كما فيما أورده من المثال لا بمجرد علاقة النسب و السبق و اللحوق حتى يصح بمجرد الانتساب النسلي أن تعد خلقة نفس آدم خلقا لبنيه من غير أن يكون خلقه خلقا لهم بوجه.
و ثانيا: أن ما ذكره لو صح به أن يعد خلق آدم و تصويره خلقا و تصويرا لبنيه صح أن يعد أمر الملائكة بالسجدة له أمرا لهم بالسجدة لبنيه كما جرى على ذلك في قوله: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ} فما باله قال: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} و لم يقل: «ثم قلنا للملائكة اسجدوا للإنسان».
و أما ما نقله أخيرا من أقوالهم فوجوه سخيفة غير مفهومة من لفظ الآية، و لعل القائلين بها لا يرضون أن يتأول في كلامهم أنفسهم بمثل هذه الوجوه فكيف يحمل على مثلها أبلغ الكلام؟
قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ} أخبر تعالى عن سجود الملائكة جميعا كما يصرح به في قوله: {فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}: الحجر: ٣٠، و استثنى منهم إبليس و قد علل عدم ائتماره بالأمر في موضع آخر بقوله: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: ٥٠، و قد وصف الملائكة بمثل قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}: الأنبياء: ٢٧، و هو بظاهره يدل على أنه من غير نوع الملائكة.
و لهذا وقع الخلاف بينهم في توجيه هذا الاستثناء: أ هو استثناء متصل بتغليب الملائكة لكونهم أكثر و أشرف أو أنه استثناء منفصل و إنما أمر بأمر على حدة غير
الأمر المتوجه إلى جمع الملائكة و إن كان ظاهر قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أن الأمر لم يكن إلا واحدا و هو الذي وجهه الله إلى الملائكة.
و الذي يستفاد من ظاهر كلامه تعالى أن إبليس كان مع الملائكة من غير تميز له منهم و المقام الذي كان يجمعهم جميعا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصة ذكر الخلافة {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ}: البقرة: ٣٠، و إن الأمر بالسجود إنما كان متوجها إلى ذلك المقام أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} و الضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنة و مآلهما إلى المنزلة و المقام و لو كان الخطاب متوجها إليهم من غير دخل المنزلة و المقام في ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: «فما يكون لك أن تتكبر».
و على هذا لم يكن بينه و بين الملائكة فرق قبل ذلك؟ و عند ذلك تميز الفريقان، و بقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم و منزلتهم التي حلوا فيها، و هو الخضوع العبودي و الامتثال كما حكاه الله عنهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فهذه حقيقة حياة الملائكة و سنخ أعمالهم، و قد بقوا على ذلك و خرج إبليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها كما يشير إليه قوله: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} و الفسق خروج التمرة عن قشرها فتميز منهم فأخذ حياة لا حقيقة لها إلا الخروج من الكرامة الإلهية و طاعة العبودية.
و القصة و إن سيقت مساق القصص الاجتماعية المألوفة بيننا و تضمنت أمرا و امتثالا و تمردا و احتجاجا و طردا و رجما و غير ذلك من الأمور التشريعية و المولوية غير أن البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أن إبليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الإنسانية فتفرعت عليه المعصية، و يشعر به قوله تعالى: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} فإن ظاهره أن هذا المقام لا يقبل لذاته التكبر فكان تكبره فيه خروجه منه و هبوطه إلى ما هو دونه.
على أن الأمر بالسجود كما عرفت أمر واحد توجه إلى الملائكة و إبليس
جميعا بعينه، و الأمر المتوجه إلى الملائكة ليس من شأنه أن يكون مولويا تشريعيا بمعنى الأمر المتعلق بفعل يتساوى نسبة مأمورة إلى الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاوة فإن الملائكة مجبولون على الطاعة مستقرون في مقر السعادة كما أن إبليس واقع في الجانب المخالف لذلك على ما ظهر من أمره بتوجيه الأمر إليه.
فلو لا أن الله سبحانه خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس جميعا بالسجود له لكان إبليس على ما كان عليه من منزلة القرب غير متميز من الملائكة لكن خلق الإنسان شق المقام مقامين: مقام القرب و مقام البعد، و ميز السبيل سبيلين: سبيل السعادة و سبيل الشقاوة.
قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} يريد ما منعك أن تسجد كما وقع في سورة ص من قوله: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: ص: ٧٥، و لذلك ربما قيل: إن «لا» زائدة جيء بها للتأكيد كما في قوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ}: الحديد: ٢٩.
و الظاهر أن «منع» مضمن نظير معنى حمل أو دعا، و المعنى: ما حملك أو ما دعاك على أن لا تسجد مانعا لك.
و قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} يحكي عما أجاب به لعنه الله، و هو أول معصيته و أول معصية عصي بها الله سبحانه فإن جميع المعاصي ترجع بحسب التحليل إلى دعوى الإنية و منازعة الله سبحانه في كبريائه، و له رداء الكبرياء لا شريك له فيه، فليس لعبد مخلوق أن يعتمد على ذاته و يقول: أنا قبال الإنية الإلهية التي عنت له الوجود، و خضعت له الرقاب، و خشعت له الأصوات، و ذل له كل شيء.
و لو لم تنجذب نفسه إلى نفسه، و لم يحتبس نظره في مشاهدة إنيته لم يتقيد باستقلال ذاته، و شاهد الإله القيوم فوقه فذلت له إنيته ذلة تنفي عنه كل استقلال و كبرياء فخضع للأمر الإلهي، و طاوعته نفسه في الائتمار و الامتثال، و لم تنجذب نفسه إلى ما كان يتراءى من كونه خيرا منه لأنه من النار و هو من الطين بل انجذبت نفسه إلى
الأمر الصادر عن مصدر العظمة و الكبرياء و منبع كل جمال و جلال.
و كان من الحري إذا سمع قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أن يأتي بما يطابقه من الجواب كأن يقول: منعني أني خير منه لكنه أتى بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ليظهر به الإنية، و يفيد الثبات و الاستمرار، و يستفاد منه أيضا أن المانع له من السجدة ما يرى لنفسه من الخيرية فقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أظهر و آكد في إفادة التكبر.
و من هنا يظهر أن هذا التكبر هو التكبر على الله سبحانه دون التكبر على آدم.
ثم إنه في قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} استدل على كونه خيرا من آدم بمبدإ خلقته و هو النار و أنها خير من الطين الذي خلق منه آدم و قد صدق الله سبحانه ما ذكره من مبدإ خلقته حيث ذكر أنه كان من الجن، و أن الجن مخلوق من النار قال تعالى: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: ٥٠و قال: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ}: الحجر: ٢٧، و قال أيضا: {خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}: الرحمن: ١٥.
لكنه تعالى لم يصدقه فيما ذكره من خيريته منه فإنه تعالى و إن لم يرد عليه قوله {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} إلخ، في هذه السورة إلا أنه بين فضل آدم عليه و على الملائكة في حديث الخلافة الذي ذكره في سورة البقرة للملائكة.
على أنه تعالى ذكر القصة في موضع آخر بقوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ اَلْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} الخ: ، ص: ٧٦.
فبين أولا أنهم لم يدعوا إلى السجود له لمادته الأرضية التي سوي منها، و إنما دعوا إلى ذلك لما سواه و نفخ فيه من روحه الخاص به تعالى الحاملة للشرف كل الشرف
و المتعلقة لتمام العناية الربانية، و يدور أمر الخيرية في التكوينيات مدار العناية الإلهية لا لحكم من ذواتها فلا حكم إلا لله.
ثم بين ثانيا لما سأله عن سبب عدم سجوده بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أنه تعالى اهتم بأمر خلقته كل الاهتمام و اعتنى به كل الاعتناء حيث خلقه بكلتا يديه بأي معنى فسرنا اليدين، و هذا هو الفضل فأجاب لعنه الله بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فتعلق بأمر النار و الطين، و أهمل أمر تكبره على ربه كما أنه في هذه السورة سئل عن سبب تكبره على ربه إذ قيل له: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فتعلق بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} إلخ، و لم يعتن بما سئل عنه أعني السبب في تكبره على ربه إذ لم يأتمر بأمره.
بلى قد اعتنى به إذ قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} فأثبت لنفسه استقلال الإنية قبال الإنية الإلهية التي قهرت كل شيء فاستدعاه ذلك إلى نسيان كبريائه تعالى و وجد نفسه مثل ربه و أن له استقلالا كاستقلاله، و أوجب ذلك أن أهمل وجوب امتثال أمره لأنه الله بل اشتغل بالمرجحات فوجد الترجيح للمعصية على الطاعة و للتمرد على الانقياد و ليس إلا أن تكبره بإثبات الإنية المستقلة لنفسه أعمى بصره فوجد مادة نفسه و هي النار خيرا من مادة نفس آدم و هي الطين فحكم بأنه خير من آدم، و لا ينبغي للفاضل أن يخضع بالسجود لمفضوله، و إن أمر به الله سبحانه لأنه يسوي بنفسه نفس ربه بما يرى لنفسه من استقلال و كبرياء كاستقلاله فيترك الآمر و يتعلق بالمرجحات في الأمر.
و بالجملة هو سبحانه الله الذي منه يبتدئ كل شيء و إليه يرجع كل شيء فإذا خلق شيئا و حكم عليه بالفضل كان له الفضل و الشرف واقعا بحسب الوجود الخارجي و إذا خلق شيئا ثانيا و أمره بالخضوع للأول كان وجوده ناقصا مفضولا بالنسبة إلى ذلك الأول فإن المفروض أن أمره إما نفس التكوين الحق أو ينتهي إلى التكوين فقوله الحق و الواجب في امتثال أمره أن يمتثل لأنه أمره لا لأنه مشتمل على مصلحة أو جهة من جهات الخير و النفع حتى يعزل عن ربوبيته و مولويته و يعود زمام الأمر و التأثير إلى المصالح و الجهات، و هي التي تنتهي إلى خلقه و جعله كسائر الأشياء من غير فرق.
فجملة ما تدل عليه آيات القصة أن إبليس إنما عصى و استحق الرجم بالتكبر على ـ
الله في عدم امتثال أمره، و أن الذي أظهر به تكبره هو قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} و قد تكبر فيه على ربه كما تقدم بيانه و إن كان ذلك تكبرا منه على آدم حيث إنه فضل نفسه عليه و استصغر أمره و قد خصه الله بنفسه و أخبرهم بأنه أشرف منهم في حديث الخلافة و في قوله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} و قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} إلا أن العناية في الآيات باستكباره على الله لا استكباره على آدم.
و من الدليل على ذلك قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: ٥٠حيث لم يقل: فاستنكف عن الخضوع لآدم بل إنما ذكر الفسق عن أمر الرب تعالى.
فتلخص أن آيات القصة إنما تعتني بمسألة استعلائه على ربه، و أما استكباره على آدم و ما احتج به على ذلك فذلك من المدلول عليه بالتبع، و الظاهر أنه هو السر في عدم التعرض للجواب عن حجته صريحا إلا ما يؤمي إليه بعض أطراف الكلام كقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} و قوله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} و غير ذلك.
فإن قلت: القول بكون الأمر بالسجود تكوينيا ينافي ما تنص عليه الآيات من معصية إبليس فإن القابل للمعصية و المخالفة إنما هو الأمر التشريعي و أما الأمر التكويني فلا يقبل المعصية و التمرد البتة فإنه كلمة الإيجاد الذي لا يتخلف عنه الوجود قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: النحل: ٤٠.
قلت: الذي ذكرناه آنفا أن القصة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر و الامتثال و التمرد و الطرد و غير ذلك و إن كانت تتشبه بالقضايا الاجتماعية المألوفة فيما بيننا لكنها تحكي عن جريان تكويني في الروابط الحقيقية التي بين الإنسان و الملائكة و إبليس فهي في الحقيقة تبين ما عليه خلق الملائكة و إبليس و هما مرتبطان بالإنسان، و ما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الإنسان و شقائه، و هذا غير كون الأمر تكوينيا.
فالقصة قصة تكوينية مثلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيوية الاجتماعية كملك من الملوك أقبل على واحد من عامة رعيته لما تفرس منه كمال الاستعداد و تمام القابلية فاستخلصه لنفسه و خصه بمزيد عنايته، و جعله خليفته في مملكته مقدما له على خاصته ممن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه و العمل بين يديه فلباه في دعوته و امتثال
أمره جمع منهم، فرضي عنهم بذلك و أقرهم على مكانتهم، و استكبر بعضهم فخطأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلا بأنه أشرف منه جوهرا و أغزر عملا فغضب عليه و طرده عن نفسه و ضرب عليه الذلة و الصغار لأن الملك إنما يطاع ملك بيده زمام الأمر و إليه إصدار الفرامين و الدساتير، و ليس يطاع لأن ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير و الرشد.
و بالتأمل في هذا المثل ترى أن خاصة الملك - أعم من المطيع و العاصي - كانوا متفقين قبل صدور الأمر في منزلة القرب مستقرين في مستوى الخدمة و حظيرة الكرامة من غير أي تميز بينهم حتى أتاهم الأمر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين و يتفرقون طائفتين: طائفة مطيعة مؤتمرة، و أخرى عاصية مستكبرة و تظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة و وجوه قدرته و صور إرادته من رحمة و غضب و تقريب و تبعيد و عفو و مغفرة و أخذ و انتقام و وعد و وعيد و ثواب و عقاب، و الحوادث كالمحك يظهر باحتكاكه جوهر الفلز ما عنده من جودة أو رداءة.
فقصة سجود الملائكة و إباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمنه هذا المثل من الحقائق و الأمر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة و نعمة الخلافة و كرامة الولاية تشريفا أخضع له الملائكة و أبعد منه إبليس لمضادة جوهر السعادة الإنسانية فصار يفسد الأمر عليه كلما مسه و يغويه إذا اقترب منه كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله.
و قد عبر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الأمر أو ما يشبه ذلك كقوله: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: حم السجدة: ١١، و قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا}: الأحزاب: ٧٢ و أشمل من الجميع قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: يس: ٨٢.
فإن قلت: رفع اليد عن ظاهر القصة و حملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامة كلامه تعالى، و لا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدإ و المعاد بل و القصص و العبر و الشرائع على الأمثال، و في تجويز ذلك إبطال للدين.
قلت: إنما المتبع هو الدليل فربما دل على ثبوتها و على صراحتها و نصوصيتها كالمعارف الأصلية و الاعتقادات الحقة و قصص الأنبياء و الأمم في دعواتهم الدينية و الشرائع و الأحكام و ما تستتبعه من الثواب و العقاب و نظائر ذلك، و ربما دل الدليل و قامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصة التي نحن فيها، و مثل قصة الذر و عرض الأمانة و غير ذلك مما لا يستعقب إنكار ضروري من ضروريات الدين، و لا يخالف آية محكمة و لا سنة قائمة و لا برهانا يقينيا.
و الذي ذكره إبليس في مقام الاحتجاج: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} من القياس و هو استدلال ظني لا يعبأ به في سوق الحقائق، و قد ذكر المفسرون وجوها كثيرة في الرد عليه لكنك عرفت أن القرآن لم يعتن بأمره، و إنما أخذ الله إبليس باستكباره عليه في مقام ليس له فيه إلا الانقياد و التذلل، و لذلك أغمضنا عن التعرض لما ذكروه.
قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصَّاغِرِينَ} التكبر هو أخذ الإنسان مثلا الكبر لنفسه و ظهوره به على غيره فإن الكبر و الصغر من الأمور الإضافية، و يستعمل في المعاني غالبا فإذا أظهر الإنسان بقول أو فعل أنه أكبر من غيره شرفا أو جاها أو نحو ذلك فقد تكبر عليه و عده صغيرا، و إذ كان لا شرف و لا كرامة لشيء على شيء إلا ما شرفه الله و كرمه كان التكبر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر و المذلة في أنفسهم من غير فرق بين شيء و شيء و لا كرامة إلا بالله و من قبله، فليس لأحد من دون الله أن يتكبر على أحد، و إنما هو صفة خاصة بالله سبحانه فهو الكبير المتعال على الإطلاق فمن التكبر ما هو حق محمود و هو الذي لله عز اسمه أو ينتهي إليه بوجه كالتكبر على أعداء الله الذي هو في الحقيقة اعتزاز بالله، و منه ما هو باطل مذموم و هو الذي يوجد عند غيره بدعوى الكبر لنفسه لا بالحق.
و الصاغرين جمع صاغر من الصغار و هو الهوان و الذلة، و الصغار في المعاني كالصغر في الصور، و قوله: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصَّاغِرِينَ} تفسير و تأكيد لقوله {فَاهْبِطْ مِنْهَا} لأن الهبوط هو خروج الشيء من مستقره نازلا فيدل ذلك على أن
الهبوط المذكور إنما كان هبوطا معنويا لا نزولا من مكان جسماني إلى مكان آخر، و يتأيد به ما تقدم أن مرجع الضمير في قوله: {مِنْهَا} و قوله: {فِيهَا} هو المنزلة دون السماء أو الجنة إلا أن يرجعا إلى المنزلة بوجه.
و المعنى: قال الله تعالى: فتنزل عن منزلتك حيث لم تسجد لما أمرتك فإن هذه المنزلة منزلة التذلل و الانقياد لي فما يحق لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين أهل الهوان، و إنما أخذ بالصغار ليقابل به التكبر.
قوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ} استمهال و إمهال، و قد فصل الله تعالى ذلك في موضع آخر بقوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ}: الحجر: ٣٨، ص: ٨١، و منه يعلم أنه أمهل بالتقييد لا بالإطلاق الذي ذكره فلم يمهل إلى يوم البعث بل ضرب الله لمهلته أجلا دون ذلك و هو يوم الوقت المعلوم، و سيجيء الكلام فيه في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.
فقوله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ} إنما يدل على إجمال ما أمهل به، و فيه دلالة على أن هناك منظرين غيره.
و استمهاله إلى يوم البعث يدل على أنه كان من همه أن يديم على إغواء هذا النوع في الدنيا و في البرزخ جميعا حتى تقوم القيامة فلم يجبه الله سبحانه إلى ما استدعاه بل لعله أجابه إلى ذلك إلى آخر الدنيا دون البرزخ فلا سلطان له في البرزخ سلطان الإغواء و الوسوسة و إن كان ربما صحب الإنسان بعد موته في البرزخ مصاحبة الزوج و القرين كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ»}: الزخرف: ٣٩، و ظاهر قوله: {اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ}: الصافات: ٢٢.
قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} إلى آخر الآية. الإغواء هو الإلقاء في الغي و الغي و الغواية هو الضلال بوجه و الهلاك و الخيبة، و الجملة أعني قوله: {أَغْوَيْتَنِي} و إن فسر بكل من هذه
المعاني على اختلاف أنظار المفسرين غير أن قوله تعالى في سورة الحجر فيما حكاه عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يؤيد أن مراده هو المعنى الأول، و الباء في قوله: {فَبِمَا} للسببية أو المقابلة، و المعنى: فبسبب إغوائك إياي أو في مقابلة إغوائك إياي لأقعدن لهم إلخ، و قد أخطأ من قال: إنها للقسم و كان القائل أراد أن يطبقه على قوله تعالى في موضع آخر حكاية عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: ص: ٨٢.
و قوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ} أي لأجلسن لأجلهم على صراطك المستقيم و سبيلك السوي الذي يوصلهم إليك و ينتهي بهم إلى سعادتهم لما أن الجميع سائرون إليك سالكون لا محالة مستقيم صراطك فالقعود على الصراط المستقيم كناية عن التزامه و الترصد لعابريه ليخرجهم منه.
و قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ} بيان لما يصنعه بهم و قد كمن لهم قاعدا على الصراط المستقيم، و هو أنه يأتيهم من كل جانب من جوانبهم الأربعة.
و إذ كان الصراط المستقيم الذي كمن لهم قاعدا عليه أمرا معنويا كانت الجهات التي يأتيهم منها معنوية لا حسية و الذي يستأنس من كلامه تعالى لتشخيص المراد بهذه الجهاد كقوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}: النساء: ١٢٠، و قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ اَلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}: آل عمران: ١٧٥ و قوله: {وَ لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ}: البقرة: ١٦٨، و قوله: {اَلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}: البقرة: ٢٦٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة هو أن المراد مما بين أيديهم ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم مما يتعلق به الآمال و الأماني من الأمور التي تهواه النفوس و تستلذه الطباع، و مما يكرهه الإنسان و يخاف نزوله به كالفقر يخاف منه لو أنفق المال في سبيل الله أو ذم الناس و لومهم لو ورد سبيلا من سبل الخير و الثواب.
و المراد بخلقهم ناحية الأولاد و الأعقاب فللإنسان فيمن يخلفه بعده من الأولاد آمال و أماني و مخاوف و مكاره فإنه يخيل إليه أنه يبقى ببقائهم فيسره ما يسرهم و يسوؤه ما يسوؤهم فيجمع المال من حلاله و حرامه لأجلهم، و يعد لهم ما استطاع من قوة فيهلك
نفسه في سبيل حياتهم.
و المراد باليمين و هو الجانب القوي الميمون من الإنسان ناحية سعادتهم و هو الدين و إتيانه من جانب اليمين أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية، و التكلف بما لم يأمرهم به الله و هو الذي يسميه الله تعالى باتباع خطوات الشيطان.
و المراد بالشمال خلاف اليمين، و إتيانه منه أن يزين لهم الفحشاء و المنكر و يدعوهم إلى ارتكاب المعاصي و اقتراف الذنوب و اتباع الأهواء.
قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: كيف قيل: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} بحرف الابتداء، و {عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ} بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا و كانت لغة تؤخذ و لا تقاس، و إنما يبحث عن صحة موقعها فقط.
فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه و على يمينه و جلس عن شماله و على شماله قلنا: معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، و معنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي و غيره كما ذكرنا في «تعال»، انتهى موضع الحاجة.
و قوله تعالى: {وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} نتيجة ما ذكره من صنعه بهم بقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ} إلخ، و قد وضع في ما حكاه الله من كلامه في غير هذا الموضع بدل هذه الجملة أعني {وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} جملة أخرى قال: {قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}: إسراء: ٦٢ فاستثنى من وسوسته و إغوائه القليل مطابقا لما في هذه السورة، و قال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ}: الحجر: ٤٠، ص: ٨٣.
و منه يظهر أنه إنما عنى بالشاكرين في هذا الموضع المخلصين، و التأمل الدقيق في معنى الكلمتين يرشد إلى ذلك فإن المخلصين بفتح اللام هم الذين أخلصوا لله فلا يشاركه فيهم أي في عبوديتهم و عبادتهم سواه، و لا نصيب فيهم لغيره، و لا يذكرون إلا ربهم و قد نسوا دونه كل شيء حتى أنفسهم فليس في قلوبهم إلا هو سبحانه، و لا موقف فيها للشيطان و لا لتزييناته.
و الشاكرون هم الذين استقرت فيهم صفة الشكر على الإطلاق فلا يمسون نعمة إلا بشكر أي بأن يستعملوها و يتصرفوا فيها قولا أو فعلا على نحو يظهرون به أنها من عند ربهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شيء أعم من أنفسهم و غيرهم إلا و هم على ذكر من ربهم قبل أن يمسوه و معه و بعده، و أنه مملوك له تعالى طلقا ليس له من الأمر شيء فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلا بالله، و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
فلو أعطي اللفظ حق معناه لكان الشاكرون هم المخلصين، و استثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه و إضلاله جرى منه على حقيقة الأمر اضطرارا و لم يأت به جزافا أو امتنانا على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك.
فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزة و العظمة أعني قوله: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ} إلى قوله {وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} فأخبر أنه يقصدهم من كل جهة ممكنة، و يفسد الأمر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم، و لم يبين نحو فعله و كيفية صنعه.
لكن في كلامه إشارة إلى حقيقتين: إحداهما: أن الغواية التي تمكنت في نفسه و هو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لإضلاله و إغوائه لهم أي إنه يمسهم بنفسه الغوية فلا يودع فيهم إلا الغواية كالنار التي تمس الماء بسخونتها فتسخنه، و هذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى: {اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ} إلى أن قال {وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} إلى أن قال {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}: الصافات: ٣٢.
و الثانية: أن الذي يمسه الشيطان من بني آدم و هو نوع عمله و صنعه هو الشعور الإنساني و تفكره الحيوي المتعلق بتصورات الأشياء و التصديق بما ينبغي فعله أو لا ينبغي، و سيجيء تفصيله في الكلام في إبليس و عمله.
قوله تعالى: {قَالَ اُخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ} (إلخ) المذءوم من ذامه يذامه و يذيمه إذا عابه و ذمه، و المدحور من دحره إذا طرده و دفعه بهوان.
و قوله: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} إلخ، اللام للقسم و جوابه هو قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} إلخ، لما كان مورد كلام إبليس - و هو في صورة التهديد بالانتقام هو بني آدم و أنه سيبطل غرض الخلقة فيهم و هو كونهم شاكرين أجابه تعالى بما يفعل بهم و به فقال: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} محاذاة لكلامه ثم قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} أي منك و منهم فأشركه في الجزاء معهم.
و قد امتن تعالى في كلمته هذه التي لا بد أن تتم فلم يذكر جميع من تبعه بل أتى بقوله: {مِنْكُمْ} و هو يفيد التبعيض.
قوله تعالى: {وَ يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ} إلى آخر الآية. خص بالخطاب آدم (عليه السلام) و ألحق به في الحكم زوجته، و قوله: {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} توسعة في إباحة التصرف إلا ما استثناه بقوله: {وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ} و الظلم هو الظلم على النفس دون معصية الأمر المولوي فإن الأمر إرشادي.
قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطَانُ} إلى آخر الآية. الوسوسة هي الدعاء إلى أمر بصوت خفي، و المواراة ستر الشيء بجعله وراء ما يستره، و السوآة جمع السوأة و هي العضو الذي يسوء الإنسان إظهاره و الكشف عنه، و قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} إلخ، أي إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
و الملك و إن قرئ بفتح اللام إلا أن فيه معنى الملك بالضم فالسكون و الدليل عليه قوله في موضع آخر: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلىَ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاَ يَبْلىَ}: طه: ١٢٠.
و نقل في المجمع عن السيد المرتضى رحمه الله احتمال أن يكون المراد بقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} إلخ، أنه أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة خاصة و الخالدون دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا، و إنما يريد أن المنهي إنما هو فلان دونك، و هذا أوكد في الشبهة و اللبس عليهما (انتهى). لكن آية سورة طه المنقولة آنفا تدفعه.
قوله تعالى: {وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ} المقاسمة المبالغة في القسم أي حلف لهما
و أغلظ في حلفه إنه لهما لمن الناصحين، و النصح خلاف الغش.
قوله تعالى: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} إلى آخر الآية. التدلية التقريب و الإيصال كما أن التدلي الدنو و الاسترسال، و كأنه من الاستعارة من دلوت الدلو أي أرسلتها، و الغرور إظهار النصح مع إبطان الغش، و الخصف الضم و الجمع، و منه خصف النعل.
و في قوله: {وَ نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} دلالة على أنهما عند توجه هذا الخطاب كانا في مقام البعد من ربهما لأن النداء هو الدعاء من بعد، و كذا من الشجرة بدليل قوله: {تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ} بخلاف قوله عند أول ورودهما الجنة: {وَ لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ}.
قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} هذا منهما نهاية التذلل و الابتهال، و لذلك لم يسألا شيئا و إنما ذكرا حاجتهما إلى المغفرة و الرحمة و تهديد الخسران الدائم المطلق لهما حتى يشاء الله ما يشاء.
قوله تعالى: {قَالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} إلى آخر الآية، كان الخطاب لآدم و زوجته و إبليس، و عداوة بعضهم لبعض هو ما يشاهد من اختلاف طبائعهم، و هذا قضاء منه تعالى و القضاء الآخر قوله: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ} أي إلى آخر الحياة الدنيوية، و ظاهر السياق أن الخطاب الثاني أيضا يشترك فيه الثلاثة.
قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} قضاء آخر يوجب تعلقهم بالأرض إلى حين البعث، و ليس من البعيد أن يختص هذا الخطاب بآدم و زوجته و بنيهما، لما فيه من الفصل بلفظة {قَالَ} و قد مر تفصيل الكلام في قصة الجنة في سورة البقرة فليراجعها من شاء.
كلام في إبليس و عمله
عاد موضوع «إبليس» موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا و نلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية و وساوسه و نزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب
الغائب عن حواسنا، و ما له من عجيب التصرف و الولاية في العالم الإنساني.
و كيف لا و هو يصاحب العالم الإنساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله و ينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، و هو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته و سره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته لا يحجبه عنه حاجب، و لا يغفل عنه بشغل شاغل.
و أما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك و بنوا على ما بنى عليه باحثو الصدر الأول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث، و هي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامية لأول مرة تلقوا الكلام الإلهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة، خاصة و التحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال، و الاشتغال بإحصاء إشكالات القصة و تقرير السؤال و الجواب بالوجه بعد الوجه.
لم خلق الله إبليس و هو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة و ليس منهم؟ لم أمره بالسجدة و هو يعلم أنه لا يأتمر؟ لم لم يوفقه للسجدة و أغواه؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيده بالجنود من خيل و رجل و سلطه على جميع ما للحياة الإنسانية به مساس؟ لم لم يظهره على حواس الإنسان ليحترز مساسه؟ لم لم يؤيد الإنسان بمثل ما أيده به؟ و لم لم يكتم أسرار خلقه آدم و بنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم؟ و كيف جازت المشافهة بينه و بين الله سبحانه و هو أبعد الخليقة منه و أبغضهم إليه و لم يكن بنبي و لا ملك؟ فقيل بمعجزة و قيل: بإيجاد آثار تدل على المراد، و لا دليل على شيء من ذلك.
ثم كيف دخل إبليس الجنة؟ و كيف جاز وقوع الوسوسة و الكذب و المعصية هناك و هي مكان الطهارة و القدس؟ و كيف صدقه آدم و كان قوله مخالفا لخبر الله؟ و كيف طمع في الملك و الخلود و ذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ و كيف جازت منه المعصية و هو نبي معصوم؟ و كيف قبلت توبته و لم يرد إلى مقامه الأول و التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ و كيف...؟ و كيف...؟
و قد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي و استرسالهم في الجدال إشكالا و جوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي و القصة تخييلية محضة و اختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الإنسان!.
و ذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح و الشنائع إليه تعالى و أن جميع المعاصي من فعله، و أنه يخلق الشر و القبيح فيفسد ما يصلحه، و أن الحسن هو الذي أمر به و القبيح هو الذي نهى عنه، و آخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيا، و آخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقا، و آخرون: إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة و قصة الجنة قبل بعثة آدم، و آخرون: إلى أن ذلك كله من الامتحان و اختبار و لم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون و يهلك به الأكثرون، و لو لا وجود ملاك يحسم مادة الإشكال لعادت الإشكالات بأجمعهم.
و الذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث و يختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية، و لم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث، و حكموا في ناحية التكوين غالبا الأصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات و الاجتماعيات.
و الذي يجب تحريره و تنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات:
الأولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلق بها الخلق و الإيجاد في نفسه - أعني وجوده النفسي من غير إضافة - لا يكون إلا خيرا و لا يقع إلا حسنا، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدئ من الله و يرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر و القبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها و سعادتها، و هذه هي الإضافة المذكورة.
و لذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها و ذلك قوله تعالى: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}:
السجدة: ٧، و قوله: {تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ}: الأعراف: ٥٤، و قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}: إسراء: ٤٤.
و الثانية: أن عالم الصنع و الإيجاد على كثرة أجزائه و سعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، و إصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود و هو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الإلهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي و التضاد أو بالكمال و النقص و الوجدان و الفقدان و النيل و الحرمان، و لو لا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميز فيه و لا اختلاف و يبطل بذلك الوجود قال تعالى: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}: القمر: ٥٠.
فلو لا الشر و الفساد و التعب و الفقدان و النقص و الضعف و أمثالها في هذا العالم لما كان للخير و الصحة و الراحة و الوجدان و الكمال و القوة مصداق، و لا عقل منها معنى لأنا إنما نأخذ المعاني من مصاديقها.
و لو لا الشقاء لم تكن سعادة، و لو لا المعصية لم تتحقق طاعة، و لو لا القبح و الذم لم توجد حسن و لا مدح، و لو لا العقاب لم يحصل ثواب، و لو لا الدنيا لم تتكون آخرة.
فالطاعة مثلا امتثال الأمر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما، و مع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل، و مع عدم الأمر المولوي لا مصداق للطاعة و لا مفهوم لها كما عرفت.
و مع بطلان الطاعة و المعصية يبطل المدح و الذم المتعلق بهما و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير ثم الدين و الشريعة و الدعوة ثم النبوة و الرسالة ثم الاجتماع و المدنية ثم الإنسانية ثم كل شيء، و على هذا القياس جميع الأمور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.
و من هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر و المعصية من أركان نظام العالم الإنساني الذي إنما يجري على سنة الاختيار و يقصد سعادة النوع.
و هو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه، و من المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه
الحافة به فلو لا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك و تذكر قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ}: الأعراف: ١٦، و قوله {قَالَ: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢.
إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الإنساني و الملائكة و إبليس عبر عنها بالأمر و الامتثال و الاستكبار و الطرد و الرجم و السؤال و الجواب، و أن جميع الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض۱ من تنبه لوجه الصواب و أنها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان و الملك و الشيطان ذكر أن الأمر و النهي يريد أمر إبليس بالسجدة و نهي آدم عن أكل الشجرة تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، و ذهل عن أن الأمر و النهي التكوينيين لا يقبلان التخلف و المخالفة، و قد خالف إبليس الأمر و خالف آدم النهي.
الثالثة: أن قصة الجنة مدلولها على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة ينبئ عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية، و أدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الأرضية، و يغشاه التكليف المولوي ليختبر بذلك الطباع الإنساني فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيش على الأرض، و يتربى في حجر الأمر و النهي فيستحق السعادة و الجنة بالطاعة، و إن كان دون ذلك فدون ذلك، و لا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب و ينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق.
و بذلك ينكشف أن لا شيء من الإشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده أبدا، و لا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع و يحكم فيها الأمر و النهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الإنسانية لا سجية آدم (عليه السلام) بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له و لا أدخل الجنة إلا لأنه إنسان كما تقدم بيانه.
رجعنا إلى أول الكلام:
لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا و هو قوله تعالى: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: ٥٠، و ما حكاه عنه في كلامه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن و أما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الإنسان.
نعم هناك آيات واصفة لصنعه و عمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكاية عنه: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}: الأعراف: ١٧.
فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف و رجاء و أمنية و أمل و شهوة و غضب ثم في أفكارهم و إرادتهم المنبعثة منها.
كما يقارنه في المعنى قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ}: الحجر: ٣٩، أي لأزينن لهم الأمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف و زينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها و لأغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الإنسان و تزينه في نظره الشهوة و يضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه، و نظير ذلك قوله {يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}: النساء: ١٢٠، و قوله: {فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}: النحل: ٦٣.
كل ذلك كما ترى يدل على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنساني و وسيلة عمله العواطف و الإحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة و الأفكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله: {اَلْوَسْوَاسِ اَلْخَنَّاسِ اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ}: الناس: ٥.
لكن الإنسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الأفكار و الأوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشيء كما في سائر أفكاره و آرائه التي لا تتعلق بعمل و غيره كقولنا:
الواحد نصف الاثنين و الأربعة زوج و أمثال ذلك.
فالإنسان هو الذي يوجد هذه الأفكار و الأوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه و يخطرها بباله من غير تزاحم، و لو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، و لانتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم و الترجيح و الإرادة له لا لنا، و لم يترتب على الفعل لوم و لا ذم و لا غيره، و قد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة: {وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: إبراهيم: ٢٢، فنسب الفعل و الظلم و اللوم إليهم و سلبها عن نفسه، و نفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة و الوعد الكاذب كما قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢ فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع و نظيره قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَ لَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}: ق: ٢٧.
و بالجملة فإن تصرفه في إدراك الإنسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالإنسان و انتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك.
فله أن يتصرف في الإدراك الإنساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور و التزيين فيضع الباطل مكان الحق و يظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشيء إلا من وجهه الباطل الذي يغره و يصرفه عن الحق، و هذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولا ثم لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق و يلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفادة ذلك من قوله المحكي: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ}: الأعراف: ١٦، و قوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ}: الحجر: ٣٩.
و يؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق، و هو الأصل الذي ينتهي و يحلل إليه كل ذنب قال تعالى: {وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا
وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ اَلْغَافِلُونَ}: الأعراف: ١٧٩.
فاستقلال الإنسان بنفسه و غفلته عن ربه و جميع ما يتفرع عليه من سيئ الاعتقاد و رديء الأوهام و الأفكار التي يرتضع عنها كل شرك و ظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين أن الإنسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد و لا عمل إلا صبغه بها.
و هذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان و تدبيره و تصرفه من غير أن يتنبه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأعراف: ٢٧.
و ولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي و المظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات و القربات، قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا}: حم السجدة: ٣١، و الله من ورائهم محيط و هو الولي لا ولي سواه قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ}: السجدة: ٤.
و هذا هو الاحتناك أي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: {قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} إلى قوله {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً قَالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً}: إسراء: ٦٤، أي لألجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم و يتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان و جماح.
و يظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به و يساعدونه على ما يريد و هو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} و هؤلاء و إن بلغوا من كثرة العدد و تفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس و وسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: الحجر: ٣٩،
و غيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}: السجدة: ١١، ثم قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَ هُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}: الأنعام ٦١ إلى غير ذلك.
و تدل الآية: {اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ}: الناس: ٦ على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة و بعضهم من الإنس و يدل قوله: {أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}: الكهف: ٥٠، أن له ذرية هم من أعوانه و جنوده لكن لم يفصل كيفية انتشاء ذريته منه.
كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله: {وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ} في الآية المتقدمة، و هو الاختلاف من جهة الشدة و الضعف و سرعة العمل و بطئه فإن الفارق بين الخيل و الرجل هو السرعة في اللحوق و الإدراك و عدمها.
و هناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، و هو الاجتماع عليه و الانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ اَلشَّيَاطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}: المؤمنون: ٩٨، و لعل قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىَ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلىَ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: الشعراء: ٢٢٣ من هذا الباب.
فملخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور و إرادة يدعو إلى الشر و يسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الإنسان و حينئذ تميز منهم و وقع في جانب الشر و الفساد، و إليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و ميله إلى جانب الشقاء و الضلال، و وقوعه في المعصية و الباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك و إرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة و منزل الكمال و القرب، و أن لإبليس أعوانا من الجن و الإنس و ذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا و ما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، و تزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.
و هم يتصرفون في قلب الإنسان و في بدنه و في سائر شئون الحياة الدنيا من أموال و بنين و غير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا و انفرادا، و سرعة و بطءا، و بلا واسطة و مع الواسطة و الواسطة ربما كانت خيرا أو شرا و طاعة أو معصية.
و لا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم و لا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه و لا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان و لا ذواتهم و أعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن و أنهم مخلوقون من النار، و كأن أول وجوده و آخره مختلفان.
بحث عقلي و قرآني مختلط في اعتراضات إبليس على الملائكة
قال في روح المعاني: و قد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة و بين إبليس بعد هذه الحادثة، و قد ذكرت في التوراة، و هي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي و موجدي - لكن لي على حكمه أسئلة:
الأول: ما الحكمة في الخلق لا سيما و قد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار؟
الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر، و كل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟
الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني و أوجب عقابي مع أنه لا فائدة له و لا لغيره فيه و لي فيه أعظم الضرر؟
الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده و مكنني من إغوائهم و إضلالهم؟
السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني و معلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر لكان ذلك خيرا؟
قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة و الكبرياء: يا إبليس أنت ما عرفتني، و لو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل، (انتهى).
ثم قال الآلوسي: قال الإمام الرازي إنه لو اجتمع الأولون و الآخرون من الخلائق و حكموا بتحسين العقل و تقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، و كان الكل لازما.
ثم قال الآلوسي: و يعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس و كان أبو فراس جالسا، فقيل له: ما هو؟ فقال قولي:
لك جسمي تعله | *** | فدمي لن تطله |
فابتدر أبو فراس قائلا:
قال إن كنت مالكا | *** | فلي الأمر كله انتهى |
أقول: ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها و يكفي مئونتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأولين و الآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الإمام فليست بذاك الذي يحسب، و لتوضيح الأمر نقول:
أما الشبهة الأولى: فالمراد بالحكمة و هي جهة الخير و الصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق أما الحكمة في مطلق الخلق و هو ما سوى الله سبحانه من العالم، و أما الحكمة في خلق الإنسان خاصة.
فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق و الإيجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته و يصلح له ألوهيته فهو مبدأ لما سواه منبع لكل خير و رحمة بذاته، و اقتضاء المبدإ لما هو مبدأ له ضروري، و السؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها و تظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الأثر و إلا لم تكن ملكة، فظهور أثرها
ضروري لها و هو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده و استحقاقه، و اختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدأ الخير.
و أما حديث الحكمة في الخلق و الإيجاد بمعنى الغاية و جهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله و يكتسب به تماما و كمالا، و أما الفاعل الذي عنده كل خير و كمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود، نعم يترتب على فعله فوائد و منافع كثيرة لا تحصى و نعم إلهية لا تنقطع و هي غير مقصودة إلا ثانيا و بالعرض، هذا في أصل الإيجاد.
و إن كان السؤال عن الحكمة في خلق الإنسان كما يشعر به قوله بعد: لا سيما و قد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمة بمعنى غاية الفاعل و الفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شيء مما سواه حتى يتم أو يكمل به، و أما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل و تحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الأرضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه، و يتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شيء غيره فهذه غاية النوعية الإنسانية.
غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الأضداد واقعا في عالم التزاحم و التنافي محفوفا بعلل و أسباب موافقة و مخالفة لا ينجو منها بكله، و لا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده، و لا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها.
و ليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال و السعادة و حرمان البعض مما يختص به الإنسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان و النبات و جميع التركيبات المعدنية و غيرها كذلك فشيء من هذه الأنواع الموجودة و هي ألوف و ألوف لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده،
و هي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته، و أما الأفراد و الأشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال، و تفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل و الأسباب المخالفة لأنها محفوفة بها و لا بد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها و سببيتها.
و لو فرض شيء من هذه الأنواع غير متأثر من شيء من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة و برودة و نور و ظلمة و رطوبة و يبوسة و السمومات و المواد الأرضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا، و إبطال العلل و الأسباب ثانيا، و فيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك.
و لا ضير في بطلان مساعي بعض الأفراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال و الغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع و غايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك، و صرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.
فالعلة الموجبة لوجود النوع الإنساني لا تريد بفعلها إلا الإنسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه و آخرته إلا أن الإنسان لا يوجد إلا بتركيب مادي، و هذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الأجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها و تأثراتها المختلفة، و لازم ذلك سقوط بعض أفراد الإنسان دون الوصول إلى كمال الإنسانية فعلة وجود الإنسان تريد السعادة الإنسانية أولا و بالذات، و أما سقوط بعض الأفراد فإنما هو مقصود ثانيا و بالعرض ليس بالقصد الأولي.
فخلقه تعالى الإنسان حكمته بلوغ الإنسان إلى غايته الكمالية، و أما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الإنساني، و لا أنه يوجب أن يكون خلقه الإنسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار، كيف؟ و علة كفره التامة بعد وجوده علل و عوامل خارجية كثيرة جدا، و آخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره، و أما تعلق القضاء الإلهي
بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره و إرادته و يضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطرارا.
و أما الشبهة الثانية فقوله: «ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر؟» مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته.
فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه، و لا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشيء فهو يمتنع صدور فعل عنه.
و التكليف و إن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الأحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين:
توضيح ذلك ملخصا: أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة و البرهان أن ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله، و وجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص و ينتهي إلى حالة الكمال، و بين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه، و يتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه.
فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوءا و عليها سنابلها، و النطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية و هكذا، و ليس النوع الإنساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة إنسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.
و الإنسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية، و العيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين و سنن جارية بين أفراد المجتمع و هي عقائد و أحكام وضعية اعتبارية - التكاليف الدينية أو غير الدينية - تتكون بالعمل بها في الإنسان عقائد و أخلاق و ملكات هي الملاك في سعادة الإنسان في دنياه و كذا في آخرته و هي لوازم الأعمال المسماة بالثواب و العقاب.
فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للإنسان بحسب حالاته و ملكاته النفسانية نحو كماله و سعادته يستكمل بطي هذا الطريق و العمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له و أبقى، و يخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه إن ساعدته موافقة الأسباب، و يفسد في مسيره نحو الكمال إن خذلته و منعته.
فقول القائل «و ما الفائدة في التكليف؟» كقوله: ما الفائدة في تغذي النبات؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد؟
و أما قوله: «و كل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف» مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الإنسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله و نقصه في وجوده الذي إنما يتم و يكمل له بالتدريج، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف و وضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق و حال الطريقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كالأول: لم عين هذا الطريق و هو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم بغيره؟ و الجواب أن العلل و الأسباب التي تجمعت على الإنسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة.
و إن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا و إفاضة جميع مراحل الكمال و مراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج
بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية و انتفاء المادة و القوة و جميع شئون الإمكان و الموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته، و ليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تدريجا ففي الفرض خلف.
و أما الشبهة الثالثة فقوله «هب أنه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟» فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالائتمار به صفة العبودية لله سبحانه، و يظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله و استكمال من إبليس إما في جانب السعادة و إما في جانب الشقاوة، و قد اختار الثاني.
على أن في تكليفه و تكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم و ذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الإنسان إلى هداه و هو الملائكة، و عدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه و الغواية فيه و هو إبليس و جنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام.
و أما الشبهة الرابعة: فقوله «لما ذا لعنني و أوجب عقابي بعد المعصية و لا فائدة له فيه؟ إلخ.» جوابه أن اللعن و العقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الأصل المولد لكل معصية، و ليس الفعل الإلهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الإشارة إليه.
و ليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما و شربه فهلك به: لم لم يجعله الله شفاء و ليس له في إماتته به نفع و له فيه أعظم الضرر؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه و ينمو به بدنه؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل و الأسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع و الإيجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل و عوامل خاصة من غير تخلف و اختلاف قانونا كليا.
فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة، و إبطال العقاب من غير وجود شيء من أسبابه هدم لقانون العلية العام، و في انهدامه انهدام كل شيء.
و أما الشبهة الخامسة: أعني قوله «إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده و مكنني من إغوائهم و إضلالهم؟» فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى و الحق العملي و الطاعة و أمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال و الباطل و المعصية و أمثالها، و الدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل، و الصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته.
فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الإنسانية قائمة على ساقها، و الإنسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الإنساني، و لم يمكنه الله منهم و لا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح۱ به القرآن الكريم و حكاه٢ عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة.
و أما الشبهة السادسة: فأما قوله «لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟» فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا.
و أما قوله: «و معلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا» فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي، و لا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة و الخير من غير شر و النفع من غير ضر و الثبات من غير تغير و الطاعة من غير معصية و الثواب من غير عقاب.
و أما ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله: «يا إبليس أنت ما عرفتني و لو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل» فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم، قال تعالى: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ}: الأنبياء: ٢٣.
و ظاهر المنقول من قوله تعالى أنه جواب إجمالي عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيلي عن كل واحد واحد، و محصله: أن هذه الشبهات جميعا سؤال و اعتراض عليه
تعالى: و لا يتوجه إليه اعتراض لأنه الله لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل.
و ظاهر قوله تعالى أن قوله «لا يسأل» متفرع على قوله: «فإني» إلخ، فمفاد الكلام أن الله تعالى لما كان بآنيته الثابتة بذاته الغنية لذاته هو الإله المبدئ المعيد الذي يبتدئ منه كل شيء و ينتهي إليه كل شيء فلا يتعلق في فعل يفعله بسبب فاعلي آخر دونه، و لا يحكم عليه سبب غائي آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كل فاعل، و الغاية وراء كل غاية فكل فاعل يفعل بقوة فيه و إن القوة لله جميعا، و كل غاية إنما تقصد و تطلب لكمال ما فيه و خير ما عنده و بيده الخير كله.
و يتفرع عليه أنه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإن سبب الفعل إما فاعل و إما غاية و هو فاعل كل فاعل و غاية كل غاية، و أما غيره تعالى فلما كان ما عنده من قوة الفعل موهوبا له من عند الله، و ما يكتسبه من جهة الخير و المصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الأسباب و تنظيم العوامل و الشرائط فإنه مسئول عن فعله لم فعله؟ و أكثر ما يسأل عنه إنما هو الغاية و جهة الخير و المصلحة، و خاصة في الأفعال التي يجري فيه الحسن و القبح و المدح و الذم من الأفعال الاجتماعية في ظرف الاجتماع فإنها المتكئة على مصالحه، فهذا بيان تام يتوافق فيه البرهان و الوحي.
و أما المتكلمون فإنهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة: أن أفعال الله هل تعلل بالأغراض؟ و ما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أن الله لا يسأل عن فعله فالأشاعرة لتجويزهم الإرادة الجزافية و استناد الشرور و القبائح إليه تعالى ذكروا أن له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسنة و ليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض و هو ترتب مصلحة محسنة على الفعل.
و المعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض و غاية لاستلزامه اللغو و الجزاف المنفي عنه تعالى فيفسرون عدم كونه تعالى مسئولا في فعله بأنه حكيم و الحكيم هو الذي يعطي كل ذي حق حقه فلا يفعل قبيحا و لا لغوا و لا جزافا، و الذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقه إتيان القبيح و اللغو و الجزاف فهو تعالى غير مسئول عما يفعل و هم يسألون.
و البحث طويل الذيل و قد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين و من وافقهم من غيرهم قرونا متمادية، و لا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام.
لا ريب أن لنا علوما و تصديقات نركن إليها، و لا ريب أنها على قسمين: القسم الأول: العلوم و التصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا و إنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع و تطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و العالم موجود، و إن هناك أرضا و شمسا و قمرا إلى غير ذلك، و هي إما بديهية لا يدخلها شك. و إما نظرية تنتهي إلى البديهيات و تتبين بها.
و القسم الثاني: العلوم العملية و التصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، و الاستناد إليها في مستوى الاجتماع الإنساني فنستند إليها في إرادتنا و نعلل بها أفعالنا الاختيارية، و ليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الأول و إن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع و الاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة و الواقعية كالأحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين و السنن و الشئون الاعتبارية كالولاية و الرئاسة و السلطنة و الملك و غيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا «زيد رئيس» وصف اعتباري، و ليس في الخارج بحذائه شيء غير زيد الإنسان و ليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا «زيد طويل القامة، أسود البشرة» و إنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الأغراض الحيوية و سلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه و ينتفع بآثاره و فوائده.
فالاعتقاد بأن زيدا رأس و رئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع، و على هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الإنساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالأعمال الإنسانية فإنها جميعا مما وضعه الإنسان و قلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.
فهذان قسمان من العلوم، و الفرق بين القسمين: أن القسم الأول مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة، و هو معنى كونه صدقا و يطابقه الخارج و هو معنى كونه حقا فالذي في الذهن هو بعينه الذي في الخارج و بالعكس: و أما القسم الثاني فإن موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلا أنا لمصلحة من المصالح الحيوية نعتبره و نتوهمه خارجيا منطبقا عليه دعوى و إن لم ينطبق حقيقته.
فكون زيد رئيسا لغرض الاجتماع ككونه أسدا بالتشبيه و الاستعارة لغرض التخيل الشعري، و توصيفنا في مجتمعنا زيدا بأنه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيدا بأنه أسد خارجي، و على هذا القياس جميع المعاني الاعتبارية من تصور أو تصديق.
و هذه المعاني الاعتبارية و إن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى و ذلك أن نقص الإنسان مثلا و حاجته إلى كماله الوجودي و نيله غاية النوع الإنساني هو الذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصورا و تصديقا فإبقاء الوجود و المقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الإنسان و يبتغيها في حياته هي التي توجب له أن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة.
و لذلك تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال و أمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية مثلا و هي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائية، و كذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيين و الغربيين و بين الحاضرين و البادين، و ربما يحسن عند العامة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصة، و كذلك اختلاف النظر بين الغني و الفقير، و بين المولى و العبد، و بين الرئيس و المرءوس، و بين الكبير و الصغير، و بين الرجل و المرأة.
نعم هناك أمور اعتبارية و أحكام وضعية لا تختلف فيها المجتمعات و هي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه، و حسن العدل، و قبح الظلم، فقد تحصل أن للقسم الثاني من علومنا أيضا اعتمادا على الخارج و إن كان غير منطبق عليه مستقيما انطباق القسم الأول.
إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا و أحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع و نأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع و الإيجاد و هو فعله. و على هذا فيعود معنى قولنا مثلا: «الواحد نصف الاثنين بالضرورة» إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد و الاثنين على هذه النسبة الضرورية، و على هذا القياس، و معنى قولنا: «زيد رئيس يجب احترامه» أن الله سبحانه أوجد الإنسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى و المزعمة ثم إلى العمل على طبقه، و على هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه.
و إذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الأحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة و الإمكان، و العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح المعتمد على المصالح و المفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.
فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد و التقييد، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا و حرمة فعل كذا و أنه يحسن منه كذا و يقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته و الحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود و الشيء لا يحد نفسه بالضرورة، و في تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين و السنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.
و من عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين و التشريع أعني أحكام العقل النظرية و العملية.
أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله، و نسلك بها إلى إثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته و درجات صفاته، و أنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية، و الفعل و الترك بالنسبة إليه على السوية و أنه لا غرض له في فعله و لا غاية، و أن الخير و الشر يستندان إليه جميعا، و لو أبطلنا الأحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله و سننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف
عن أصل وجوده، و أشكل من ذلك أنا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام و القوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه، و المنتزعة للمنتزع منه و هو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم و الخروج عن الفطرة الإنسانية إذ لو خالف شيء من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقلية كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه - و هو فعله - و لو جاز الشك في صحة شيء من هذه الأحكام التي نجدها ضرورية كان الجميع مما يجوز فيه ذلك فينتفي العلم، و هو السفسطة.
و أما في مرحلة العمل فليتذكر أن هذه الأحكام العملية و الأمور الاعتبارية دعاو اعتقادية و مخترعات ذهنية وضعها الإنسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية و سعادة الحياة فما كان من الأعمال مطابقا لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها و ندب إليها، و ما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح و المساءة ثم نهى عنها و حذر منها - و حسن الفعل و قبحه موافقته لغرض الحياة و عدمها - و الغايات التي تضطر الإنسان إلى جعل هذه الأوامر و النواهي و تقنين هذه الأحكام و اعتبار الحسن و القبح في الأفعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعي و لا حسن في العمل به و لا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الأطراف لا محصل له.
و الذي شرعه الله سبحانه من الأحكام و الشرائع متحد سنخا مع ما نشرعه فيما بيننا أنفسنا من الأحكام فوجوبه و حرمته و أمره و نهيه و وعده و وعيده مثلا من سنخ ما عندنا من الوجوب و الحرمة و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد لا شك في ذلك، و هي معان اعتبارية و عناوين ادعائية غير أن ساحته تعالى منزهة من أن تقوم به الدعوى التي هي من خطإ الذهن فهذه الدعاوي منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجي و التمني منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكن الأحكام المشرعة منه تعالى كالأحكام المشرعة منا متعلقة بالإنسان الاجتماعي السالك بها من النقص إلى الكمال، و المتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الإنسانية فثبت أن لفعله تعالى التشريعي مصلحة و غرضا تشريعيا، و لما أمر به أو نهى عنه حسنا و قبحا ثابتين بثبوت المصالح و المفاسد.
فقول القائل: إن أفعاله التشريعية لا تعلل بالأغراض كما لو قال قائل: إن ما مهده من الطريق لا غاية له، و من الضروري أن الطريق إنما يكون طريقا بغايته،
و الوسط إنما يكون وسطا بطرفه، و قول القائل: إنما الحسن ما أمر به الله و القبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا، و لو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل: إن الله لو سلك بالإنسان نحو الهلاك و الفناء كان فيه حياته السعيدة، و لو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.
فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين: أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه و يقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم و القدرة و الحياة، و استناد الموجودات إليه و سائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة و المغفرة و الرزق و الإنعام و الهداية و غير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.
غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية و هو تعالى أعظم من أن يحيط به حد، و المفاهيم لا تخلو عنه لأن كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه، و هذا لا يلائم الإطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشيء من النعوت السلبية تنزيها، و هو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف، و أعظم من أن يحيط به تقييد و تحديد فمجموع التشبيه و التنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر، و قد تقدم في ذيله قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}: المائدة: ٧٣، من غرر خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان و يبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت. هذا كله في العقل النظري.
و أما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع و اعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الإنسان مثلا و هو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالإنسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى، و لتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدم.
و إذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الأحكام و يطلب الحصول على الحسن و القبح و المصلحة و المفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره و ينهاه و يوجب و يحرم عليه كما يفعل ذلك بالإنسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو
حتى يتوجه إليه حكم موصل إليه بخلاف الإنسان بل لأنه تعالى شرع الشرائع و سن السنن ثم عاملنا معاملة العزيز المقتدر الذي نقوم له بالعبودية و ترجع إليه حياتنا و مماتنا و رزقنا و تدبير أمورنا و دساتير أعمالنا و حساب أفعالنا و الجزاء على حسناتنا و سيئاتنا فلا يوجه إلينا حكما إلا بحجة، و لا يقبل منا معذرة إلا بحجة، و لا يجزينا جزاء إلا بحجة كما قال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ}: النساء: ١٦٥، و قال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىَ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}: الأنفال: ٤٢ إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الإنس و الجن و لازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العملي ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن التي سنها.
و على ذلك جرى كلامه سبحانه قال: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً}: يونس: ٤٤، و قال: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ}: آل عمران: ٩، و قال: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ}: الدخان: ٣٨، و في هذا المعنى الآيات الكثيرة التي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعية.
و في ما تقدم من معنى جريان حكم العقل النظري و العملي في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففي القسم الأول كقوله تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ}: آل عمران: ٦٠و لم يقل: الحق مع ربك لأن القضايا الحقة و الأحكام الواقعية مأخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتى يتأيد بها مثلنا، و قوله: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ»}: الرعد: ٤١، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقلي أو غيره فإن الموانع و المعقبات إنما تتحقق بفعله و هي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثرة فيه، و قوله: {وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ}: الرعد ١٦، و قوله: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلىَ أَمْرِهِ}: يوسف: ٢١، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}: الطلاق: ٣، فهو القاهر الغالب البالغ الذي لا يقهره شيء و لا يغلب عن شيء و لا يحول بينه و بين أمره حائل يزاحمه، و قوله: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ}: الأعراف: ٥٤، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي ليس دونها مقيد.
نعم يجري في أفعاله الحكم العقلي لتشخيص الخصوصيات و كشف المجهولات لا لأن يكون متبوعا بل لأنه تابع لازم مأخوذ من سنته في فعله الذي هو نفس الواقع الخارج، و يدل على ذلك جميع الآيات التي تحيل الناس إلى التعقل و التذكر و التفكر
و التدبر و نحوها فلو لا أنها حجة فيما أفادته لم يكن لذلك وجه.
و في القسم الثاني: نحو قوله: {اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»}: الأنفال: ٢٤، يدل على أن في العمل بالأحكام مصلحة الحياة السعيدة، و قوله: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}: الأعراف: ٢٨، و ظاهره أن ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أن الله لو أمر بها لم تكن فحشاء، و قوله: {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}: لقمان: ١٣، و آيات كثيرة أخرى تعلل الأحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة و الصوم و الصدقات و الجهاد و غير ذلك لا حاجة إلى نقلها.
بحث روائي
في تفسير العياشي عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم و كان في علم الله أنه ليس منهم فاستخرج الله ما في نفسه بالحمية فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
و في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية و الديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}. قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس.
و في الكافي بإسناده عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس. قال: نعم، أنا أقيس. قال: لا تقس فإن أول من قاس إبليس حين قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
و في العيون عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن إبليس أول من كفر و أنشأ الكفر.
أقول: و رواه العياشي عن الصادق (عليه السلام).
و في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: أن أول معصية ظهرت الأنانية من إبليس.
أقول: و قد تقدم بيانه.
و في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام): الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها.
أقول: قد ظهر مما تقدم من البيان أن مرجعه إلى الأنانية كما في الحديث المتقدم.
و في النهج: من خطبة له (عليه السلام) في صفة خلق آدم: و استأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لهم، و عهد وصيته إليهم في الإذعان بالسجود له و الخشوع لتكرمه فقال سبحانه: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس و جنوده اعترتهم الحمية، و غلبت عليهم الشقوة. الخطبة.
أقول: و فيها تعميم الأمر بالسجدة لجنود إبليس كما يعم نفسه، و فيه تأييد ما تقدم أن آدم إنما جعل مثالا يمثل به الإنسانية من غير خصوصية في شخصه، و إن مرجع القصة إلى التكوين.
و في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في معنى قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ} (الآية) {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أهون عليهم الآخرة {وَ مِنْ خَلْفِهِمْ} آمرهم بجمع الأموال و منعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم {وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ} أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة {وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ} بتحبيب اللذة و تغليب الشهوات على قلوبهم.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): و الذي بعث محمدا للعفاريت و الأبالسة على المؤمن أكثر من الزنابير على اللحم.
و في المعاني عن الرضا (عليه السلام): أنه سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله.
و في تفسير القمي حدثني أبي رفعه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا.
قال: فلما أسكنه الله تعالى الجنة و أباحها له إلا الشجرة لأنه خلق خلقة لا تبقى إلا بالأمر و النهي و الغذاء و اللباس و الاكتنان و النكاح، و لا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا
بالتوفيق فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين و بقيتما في الجنة أبدا، و إن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، و حلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز و جل حكاية عنه: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ وَ قَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ اَلنَّاصِحِينَ} فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكان كما حكى الله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} و سقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس الجنة، و أقبلا يستتران من ورق الجنة ، و ناداهما ربهما {أَ لَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمَا إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} فقالا كما حكى الله عنها: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} فقال الله لهما: {اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ} قال: إلى يوم القيامة.
و في الكافي عن علي بن إبراهيم روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرئيل فقال: يا آدم أ ليس خلقك الله بيده، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته، و زوجك حواء أمته، و أسكنك الجنة و أباحها لك و نهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة فأكلت منها و عصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح فما ظننت أن أحدا من خلق الله يحلف بالله كاذبا.
أقول: و قد تقدمت عدة من روايات القصة في سورة البقرة و سيأتي إن شاء الله بعضها في مواضع أخر مناسبة لها.
و في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في حديث: فقال إبليس: يا رب فكيف و أنت العدل الذي لا يجور فثواب عملي بطل؟ قال: لا، و لكن سلني من أمر الدنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك. فأول ما سأل: البقاء إلى يوم الدين فقال الله: و قد أعطيتك. قال: سلطني على ولد آدم. قال: سلطتك. قال: أجرني فيهم مجرى الدم في العروق. قال: قد أجريتك. قال: لا يولد لهم ولد إلا ولد لي اثنان و أراهم و لا يروني و أتصور لهم في كل صورة شئت. فقال: قد أعطيتك. قال: يا رب زدني. قال: قد جعلت لك و لذريتك صدورهم أوطانا. قال: رب حسبي.
قال إبليس عند ذلك: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ}.
أقول: تقدم ما يتضح به معنى الحديث، و قوله: «أتصور لهم في كل صورة
شئت» لا يدل على أزيد من أن له يتصرف في حاسة الإنسان بظهوره في أي صورة شاء عليها، و أما تغير ذاته في نفسه كيفما شاء و أراد فلا.
و الذي ذكره بعضهم: أن أهل العلم أجمعوا على أن إبليس و ذريته من الجن و أن الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب و الخنزير، و أن الملائكة أجسام لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب و الخنزير و كأنهم يريدون بذلك تغيرهم في ذواتهم - لا دليل عليه من نقل ثابت أو عقل، و أما ما ادعي من الإجماع و مآله إلى الاتفاق في الفهم فلا حجية لمحصله فضلا عن منقوله، و المأخذ في ذلك من الكتاب و السنة ما عرفت.
و كذا حديث ذريته و كثرتهم لا يتحصل منه إلا أن لها كثرة في العدد تنشعب من إبليس نفسه، و أما كيف ذلك؟ و هل هو بطريق التناسل المعهود بيننا أو بنحو البيض و الإفراخ أو بنحو آخر لا سبيل لنا إلى فهمه فمما هو مجهول لنا.
نعم هناك روايات معدودة تذكر أنه ينكح نفسه و يبيض و يفرخ أو أن له في فخذيه عضوا التناسل الموجودان في الذكر و الأنثى فينكح بهما نفسه و يولد له كل يوم عشرة و أما ولده فكلهم ذكران لا توالد بينهم أو توالدهم بالازدواج نظير الحيوان فكل ذلك مما لا دليل عليه إلا بعض الآحاد من الأخبار و هي ضعاف و مراسيل و مقاطيع و موقوفات لا يعول عليها و خاصة في أمثال هذه المسائل مما لا اعتماد فيها إلا على آية محكمة أو حديث متواتر أو محفوف بقرينة قطعية، و ليست ظاهرة الانطباق على القرآن الكريم حتى تصحح بذلك.
و في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من قلب إلا و له أذنان على إحداهما ملك مرشد، و على الأخرى شيطان مفتن هذا يأمره، و هذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، و الملك يزجره عنها، و ذلك قول الله عز و جل: {عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
و في البحار: الشهاب: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الشيطان يجري من ابن آدم
مجرى الدم.
و في صحيح مسلم عن ابن مسعود: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما من أحد إلا و قد وكل به قرينه من الجن. قالوا: و إياك يا رسول الله؟ قال: و إياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير.
أقول: و قوله: «فأسلم» أخذه بعضهم بضم الميم و بعضهم بالفتح.
و في تفسير العياشي عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال: لم يكن من الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها، و كان الله يعلم أنه ليس منها، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء و لا كرامة.
فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر و قال: كيف لا يكون من الملائكة؟ و الله يقول للملائكة: {اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} فدخل عليه الطيار فسأله و أنا عنده فقال له قول الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون؟ قال: نعم يدخل في هذه المنافقون و الضلال و كل من أقر بالدعوة الظاهرة.
أقول: و في الحديث رد ما روي أنه كان من الملائكة و أنه كان خازنا في السماء الخامسة أو خازن الجنة.
و اعلم أن الأخبار الواردة من طرق الشيعة و أهل السنة في أنحاء تصرفاته أكثر من أن تحصى، و هي على قسمين: أحدهما: ما يذكر تصرفا منه من غير تفسير، و الثاني: ما يذكره مع تفسير ما.
فمن القسم الأول ما في الكافي عن علي (عليه السلام): لا تؤووا منديل اللحم في البيت فإنه مربض الشيطان، و لا تؤووا التراب خلف الباب فإنه مأوى الشيطان. و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أن على ذروة كل جسر شيطانا فإذا انتهيت إليه فقل: بسم الله يرحل عنك.
و فيه عن علي (عليه السلام): قال رسول (صلى الله عليه وآله و سلم) بيت الشيطان في بيوتكم بيت العنكبوت.
و فيه عن أحدهما عليهما السلام قال: لا تشرب و أنت قائم، و لا تبل في ماء نقيع، و لا تطف بقبر، و لا تخل في بيت وحدك، و لا تمش بنعل واحدة، فإن الشيطان أسرع ما يكون إلى العبد إذا كان على بعض هذه الأحوال.
و فيه عن الصادق (عليه السلام): إذا ذكر اسم الله تنحى الشيطان، و إن فعل و لم يسم أدخل ذكره و كان العمل منهما جميعا و النطفة واحدة.
و في تفسير القمي عنه (عليه السلام): ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان.
و في الحديث: من نام سكران بات عروسا للشيطان.
أقول: و من هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ}: المائدة: ٩٠.
و من القسم الثاني ما في الكافي عن الباقر (عليه السلام): أن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم.
و عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع.
و في المحاسن عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) في حديث: فأما كحله فالنوم و أما سفوفه فالغضب، و أما لعوقه فالكذب.
و في الحديث: أن موسى (عليه السلام) رآه و عليه برنس فسأله عن برنسه فقال: به اصطاد قلوب بني آدم.
و في مجالس ابن الشيخ عن الرضا عن آبائه عليهم السلام: أن إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث الله المسيح يتحدث عندهم و يسألهم، و لم يكن بأحد منهم أشد أنسا منه بيحيى بن زكريا فقال له يحيى: يا أبا مرة إن لي إليك حاجة فقال: أنت أعظم قدرا من أن أردك بمسألة فاسألني ما شئت فإني غير مخالفك في أمر تريده، فقال يحيى: يا أبا مرة أحب أن تعرض علي مصائدك و فخوخك التي تصطاد بها بني آدم، فقال له إبليس: حبا و كرامة و واعده لغد.
فلما أصبح يحيى قعد في بيته ينتظر الوعد، و أغلق عليه الباب إغلاقا، فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته فإذا وجهه صورة وجه القرد، و جسده على صورة الخنزير، و إذا عيناه مشقوقتان طولا، و إذا أسنانه و فمه مشقوقات طولا عظما واحدا بلا ذقن و لا لحية، و له أربعة أيد يدان في صدره و يدان في منكبه، و إذا عراقيبه قوادمه و أصابعه خلفه و عليه قباء و قد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط معلقة بين أحمر و أصفر و أخضر و جميع الألوان، و إذا بيده جرس عظيم و على رأسه بيضة، و إذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاب.
فلما تأمله يحيى قال: ما هذه المنطقة التي في وسطك؟ فقال: هذه المجوسية أنا الذي سننتها و زينتها لهم. فقال له: ما هذه الخطوط الألوان؟ فقال: هذه جميع أصناع النساء لا تزال المرأة تصنع الصنيع حتى يقع مع لونها فافتن الناس بها فقال له: فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال: هذا مجمع كل لذة من طنبور و بربط و معزفة و طبل و ناي و صرناي، و إن القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخف بهم الطرب فمن بين من يرقص، و من بين من يفرقع أصابعه، و من بين من يشق ثيابه.
فقال له: و أي الأشياء أقر لعينك؟ قال: النساء، من فخوخي و مصائدي فإذا اجتمعت إلى دعوات الصالحين و لعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن - فقال: له يحيى: فما هذه البيضة على رأسك؟ قال: بها أتوقى دعوة المؤمنين. قال: فما هذه الحديدة التي أرى فيها؟ قال: بهذه أقلب قلوب الصالحين. قال يحيى: فهل ظفرت بي ساعة قط؟ قال: لا، و لكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى: فما هي؟ قال: أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت و بشمت - فيمنعك ذلك من بعض صلاتك و قيامك بالليل. قال يحيى: فإني أعطي الله عهدا أن لا أشبع من الطعام حتى ألقاه. قال له إبليس: و أنا أعطي الله عهدا أن لا أنصح مسلما حتى ألقاه، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك.
أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة بوجه أبسط من ذلك: و قد روي
له مجالس و محاورات و مشافهات مع آدم و نوح و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و عليهم، و هناك كما مرت الإشارة إليه روايات لا تحصى كثرة في أنحاء تسويلاته و أنواع تزييناته عند أنواع المعاصي و الذنوب رواها الفريقان، و الجميع تشهد أوضح شهادة على أنها تشكلات مثالية على حسب ما يلائم نوع المعصية من الشكل و الكيفية و يناسبها نظير ما تتمثل الحوادث في الرؤيا على حسب المناسبات المألوفة و الاعتقادات المعتادة.
و من التأمل في هذا القسم الثاني يظهر أن الكيفيات و الخصوصيات الواردة في القسم الأول المذكور من الأخبار إنما هي أنواع نسب بين هذا الموجود أعني إبليس و بين الأشياء تدعو إلى وساوس و خطرات تناسبها.
فالجميع من التجسمات المثالية التي تناسبها الأعمال أو الأشياء غير التجسم المادي الذي ربما مال إليه الحشوية و بعض أهل الحديث حتى تكون المجوسية مثلا اعتقادا عند الإنسان و هي بعينها منطقة من أديم عند إبليس يشد بها وسطه، أو أن يصير إبليس تارة آدميا له حقيقة الإنسان و قواه و أعماله و تارة شيئا من الحيوان الأعجم له حقيقة نوعية و تارة جمادا ليس بذي حياة و شعور، أو أن هذه النوعيات جميعا هي أشكال و صور عارضة على مادة إبليس فالروايات أجنبية عن الدلالة على أمثال هذه المحتملات.
و إنما هي روايات جمة لا ريب في صدور مجموعها من حيث المجموع و تأييد القرآن لها كذلك و هي تدل على أن لإبليس أن يظهر لحواسنا بمختلف الصور هذا من حيث المجموع و أما كل واحد واحد فما صح منها سندا و ليس الجميع على هذه الصفة فهو من الآحاد التي لا يعول عليها في أمثال هذه المسائل الأصلية نعم ربما أمكن استفادة حكم فرعي منها من استحباب أو كراهة على ما هو شأن الفقيه
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٢٦ الی ٣٦ ]
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاسُ اَلتَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ٢٦ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ
يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٢٧ وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٢٨ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ٢٩ فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ٣٠يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ ٣١ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣٢ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٣٣ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ ٣٤ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اِتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٣٥ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٣٦}
بيان
التدبر في هذه الخطابات و ما تقدم عليها من قصة السجدة و الجنة ثم عرض ذلك جميعا على ما ورد من القصة و المخاطبة في غير هذه السورة و خاصة سورة طه المكية التي هي كإجمال هذه السورة المفصلة و سورة البقرة المدنية يهدينا إلى أن هذه الخطابات العامة المصدرة بقوله: يا بني آدم، يا بني آدم هي تعميم الخطابات الخاصة التي وجهت إلى آدم كما أن القصة عممت نحوا من التعميم في هذه السورة، و قد أشرنا إليه فيما تقدم.
و هذه الخطابات الأربعة المصدرة بقوله: يا بني آدم ثلاثة منها راجعة إلى التحذير من فتنة الشيطان و إلى الأكل و الشرب و اللباس تعميم ما في قوله تعالى في سورة طه: {يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرى وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحى} الآيات: طه: ١١٩، و الرابعة تعميم قوله فيها: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} الخ: طه: ١٢٣.
و يعلم من انتزاع هذه الخطابات من قصته و تعميمها بعد التخصيص ثم تفريع أحكام أخرى عليها ذيلت بها الخطابات المذكورة أن هذه الأحكام المشرعة المذكورة هاهنا على الإجمال أحكام مشرعة في جميع الشرائع الإلهية من غير استثناء كما يعلم أن ما قدر للإنسان من سعادة و شقاوة و سائر المقدرات الإنسانية كالأحكام العامة جميعها تنتهي إلى تلك القصة فهي الأصل تفرعت عليه هذه الفروع، و الفهرس الذي يشير إلى التفاصيل.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً} اللباس كل ما يصلح للبس و ستر البدن و غيره، و أصله مصدر يقال: لبس يلبس لبسا بالكسر و الفتح و لباسا، و الريش ما فيه الجمال مأخوذ من ريش الطائر لما فيه من أنواع الجمال و الزينة، و ربما يطلق على أثاث البيت و متاعه.
و كان المراد من إنزال اللباس و الريش عليهم خلقه لهم كما في قوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنَافِعُ}: الحديد: ٢٥، و قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ}: الزمر: ٦، و قد قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}: الحجر ٢١، فقد أنزل الله اللباس و الريش بالخلق من غيب ما عنده إلى عالم الشهادة و هو الخلق.
و اللباس هو الذي يعمله الإنسان صالحا لأن يستعمله بالفعل دون المواد الأصلية من قطن أو صوف أو حرير أو غير ذلك مما يأخذه الإنسان فيضيف إليه أعمالا صناعية من تصفية و غزل و نسج و قطع و خياطة فيصير لباسا صالحا للبس فعد اللباس و الريش من خلق الله و هما من عمل الإنسان نظير ما في قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ}: الصافات: ٩٦، من النسبة.
و لا فرق من جهة النظر في التكوين بين نسبة ما عمله الإنسان إلى الله سبحانه و ما عمله منته إلى أسباب جمة أحدها الإنسان، و نسبة سائر ما عملته الطبائع و لها أسباب كثيرة أحدها الفاعل كنبات الأرض و صفرة الذهب و حلاوة العسل فإن جميع الأسباب بجميع ما فيها من القدرة منتهية إليه سبحانه و هو محيط بها.
و ليست الخلقة منتسبة إلى الأشياء على وتيرة واحدة و إن كانت جميع مواردها متفقة في معنى الانتهاء إليه إلا ما فيه معنى النقص و القبح و الشناعة من المعاصي و نحوها فحقيقتها فقدان الخلقة الحسنة أو مخالفة الأمر الإلهي، و ليست بمخلوقة له و إنما هي أوصاف نقص في أعمال الإنسان مثلا في باطنه أو ظاهره، و قد تكررت الإشارة إلى هذه الحقيقة فيما مر من أجزاء هذا الكتاب.
و توصيف اللباس بقوله: {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} للدلالة على أن المراد باللباس ما ترفع به حاجة الإنسان التي اضطرته إلى اتخاذ اللباس و هي مواراة سواته التي يسوؤه انكشافها و أما الريش فإنما يتخذه لجمال زائد على أصل الحاجة.
و في الآية امتنان بهداية الإنسان إلى اللباس و الريش و فيها كما قيل دلالة على إباحة لباس الزينة.
قوله تعالى: {وَ لِبَاسُ اَلتَّقْوىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} إلى آخر الآية. انتقل سبحانه من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوآت الإنسان فيتقي به أن يظهر منه ما يسوؤه ظهوره،
إلى لباس الباطن الذي يواري السوآت الباطنية التي يسوء الإنسان ظهورها و هي رذائل المعاصي من الشرك و غيره، و هذا اللباس هو التقوى الذي أمر الله به.
و ذلك أن الذي يصيب الإنسان من ألم المساءة و ذلة الهوان من ظهور سواته روحي من سنخ واحد في السوآتين إلا أن ألم ظهور السوآت الباطنية أشد و أمر و أبقى فالمحاسب هو الله، و التبعة شقوة لازمة، و نار تطلع على الأفئدة، و لذلك كان لباس التقوى خيرا من لباس الظاهر.
و للإشارة إلى هذا المعنى و تتميم الفائدة عقب الكلام بقوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فاللباس الذي اهتدى إليه الإنسان ليرفع به حاجته إلى مواراة سواته التي يسوؤه ظهورها آية إلهية إن تأمله الإنسان و تبصر به تذكر أن له سوآت باطنية تسوؤه إن ظهرت و هي رذائل النفس، و سترها عليه أوجب و ألزم من ستر السوآت الظاهرية بلباس الظاهر و اللباس الذي يسترها و يرفع حاجة الإنسان الضرورية هو لباس التقوى الذي أمر الله به و بينه بلسان أنبيائه.
و في تفسير لباس التقوى أقوال أخر مأثورة عن المفسرين، فقيل: هو الإيمان و العمل الصالح، و قيل: هو حسن السمت الظاهر، و قيل: هو الحياء، و قيل: هو لباس النسك و التواضع كلبس الصوف و الخشن، و قيل: هو الإسلام، و قيل: هو لباس الحرب، و قيل: هو ما يستر العورة، و قيل: هو خشية الله، و قيل: هو ما ما يلبسه المتقون يوم القيامة هو خير من لباس الدنيا، و أنت ترى أن شيئا من هذه الأقوال لا ينطبق على السياق ذلك الانطباق.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ} إلى آخر الآية. الكلام و إن كان مفصولا عما قبله بتصديره بخطاب {يَا بَنِي آدَمَ} إلا أنه بحسب المعنى من تتمة المفاد السابق، و لذا أعاد ذكر السوآت ثانيا فيرجع المعنى إلى أن لكم معاشر الآدميين سوآت لا يسترها إلا لباس التقوى الذي ألبسناكموه بحسب الفطرة التي فطرناكم عليها فإياكم أن يفتنكم الشيطان فينزع عنكم ذلك كما نزع لباس أبويكم في الجنة ليريهما سوآتهما فإنا جعلنا الشياطين أولياء لمن تبعهم و لم يؤمن بآياتنا.
و من هنا يظهر أن ما صنعه إبليس بهما في الجنة من نزع لباسهما ليريهما سوآتهما
كان مثالا لنزع لباس التقوى عن الآدميين بالفتنة و إن الإنسان في جنة السعادة ما لم يفتتن به فإذا افتتن أخرجه الله منها.
و قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} تأكيد للنهي و بيان لدقة مسلكه و خفاء سربه دقة لا يميزه حس الإنسان و خفاء لا يقع عليه شعوره فإنه لا يرى إلا نفسه من غير أن يشعر أن وراءه من يأمر بالشر و يهديه إلى الشقوة.
و قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} تأكيدا آخر للنهي، و ليست ولايتهم و تصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة و الغرور فإذا افتتن و اغتر بهم تصرفوا بما شاءوا و كما أرادوا كما قال تعالى مخاطبا لإبليس: {وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفىَ بِرَبِّكَ وَكِيلاً}: إسراء: ٦٥، و قال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: النحل: ٩٩، و قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢.
و من الآيات بانضمامها إلى آيتنا المبحوث عنها يظهر أن لا ولاية لهم على المؤمنين و إن مسهم طائف منهم أحيانا، و أن لا سلطان له على المتوكلين من المؤمنين و هم الذين عدهم الله عبادا له بقوله: {عِبَادِي} فلا ولاية له إلا على الذين لا يؤمنون.
و الظاهر أن المراد به عدم الإيمان بآيات الله بتكذيبها و هو أخص من وجه من عدم الإيمان بالله الذي هو الكفر بالله بشرك أو نفي، و ذلك لأن هذا الكفر هو المذكور في الخطاب العام الذي في ذيل القصة من سورة البقرة حيث قال تعالى: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} إلى أن قال {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة ٣٩، و في ذيل هذه الآيات من هذه السورة حيث قال: {وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: الأعراف: ٣٦.
قوله تعالى: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} إلى آخر الآية، رجوع من الخطاب العام لبني آدم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة ليتوسل
به إلى انتزاع خطابات خاصة يوجهها إلى أمته كما جرى نظيره من الالتفات في الخطاب المتقدم يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا حيث قال: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لنظير الغرض.
و بالجملة فقد استخرج من هذا الأصل الثابت في قصة الجنة و هو أمر ظهور السوآت الذي أفضى إلى خروج آدم و زوجته من الجنة أن الله لا يرضى بالفحشاء الشنيعة من أفعال بني آدم، فذكر إتيان المشركين بالفحشاء و استنادهم في ذلك إلى عمل آبائهم و أمر الله سبحانه بها فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يرد عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء، و يذكرهم أن ذلك من القول على الله بغير علم و الافتراء عليه، كيف لا؟ و قصة الجنة شاهدة عليه.
و قد ذكر لهم في فعلهم الفحشاء عذرين يعتذرون بهما و مستندين يستندون إليهما و هما فعل آبائهم و أمر الله إياهم بها، و كان الثاني هو الذي يرتبط بالخطاب العام المستخرج من قصة الجنة فقط، و لذلك تعرض لدفعه و رده عليهم، و أما استنادهم إلى فعل آبائهم فذلك و إن لم يكن مما يرتضيه الله سبحانه و قد رده في سائر كلامه بمثل قوله: {أَ وَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاَ يَهْتَدُونَ} فلم يتعرض لرده هاهنا لخروجه عن غرض الكلام.
و قد ذكر جمع من المفسرين أن قوله: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} إلخ، إشارة إلى ما كان معمولا عند أهل الجاهلية من الطواف بالبيت الحرام عراة يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، و نقل عن الفراء أنهم كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونهم على حقويهم يسمى حوفا و إن عمل من صوف سمي رهطا و كانت المرأة تضع على قبلها نسعة أو شيئا آخر فتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله | *** | و ما بدا منه فلا أحله |
و لم يزل دائرا بينهم حتى منعهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الفتح حين بعث عليا (عليه السلام) بآيات البراءة إلى مكة.
و كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بعض المسلمين كانوا يعيبونهم على ذلك فيعتذرون إليهم بقولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فرد الله سبحانه عليهم و ذمهم بقوله:
{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
و ليس ما ذكروه ببعيد و في الآية بعض التأييد له حيث وصفت ما كانوا يفعلونه بالفحشاء و هي الأمر الشنيع الشديد القبح ثم ذكرت أنهم كانوا يعتذرون بأن الله أمرهم بذلك. و لازم ذلك أن يكون ما فعلوه أمرا شنيعا أتوا به في صفة العبادة و النسك كالطواف عاريا، و الآية مع ذلك الفحشاء فتصلح أن تنطبق على فعلهم ذلك، و على مصاديق أخرى ما أكثر وجودها بين الناس و خاصة في زماننا الذي نعيش فيه.
قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} لما نفت الآية السابقة أن يأمر الله سبحانه بالفحشاء و ذكرت أن ذلك افتراء عليه و قول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي ما أوحى به الله بادرت هذه الآية إلى ذكر ما أمر به و هو لا محالة أمر يقابل ما استشنعته الآية السابقة و عدته فحشاء لما فيه من بلوغ القبح و الإفراط و التفريط فقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} إلخ.
و القسط على ما ذكره الراغب هو النصيب بالعدل كالنصف و النصفة قال: {لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} {وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} و القسطهو أن يأخذ قسط غيره، و ذلك جور والإقساط أن يعطي قسط غيره، و ذلك إنصاف و لذلك قيل: قسط الرجل إذا جار و أقسط إذا عدل قال: {وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} و قال: {وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ} انتهى كلامه.
فالمراد: قل أمر ربي بالنصيب العدل و لزوم وسط الاعتدال في الأمور كلها و أن تجتنبوا جانبي الإفراط و التفريط فأقسطوا و أنيبوا و أقروا نفوسكم عند كل معبد تعبدون الله فيه و ادعوه بإخلاص الدين له من غير أن تشركوا بعبادته صنما أو أحدا من آبائكم و كبرائكم بالتقليد لهم و هذا هو القسط في العبادة.
فقوله: {وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} معطوف ظاهرا على مقول القول لأن معنى أمر ربي بالقسط: أقسطوا، فيكون التقدير: أقسطوا و أقيموا (إلخ)، و الوجه هو ما يتوجه به إلى الشيء، و هو في حال تمام النفس الإنسانية، و إقامتها عندها إيجاد القيام بالأمر لها أي إيفاؤه و الإتيان به كما ينبغي تاما غير ناقص فيئول معنى إقامة الوجه عند العبادة إلى الاشتغال بالعبادة و الانقطاع عن غيرها
فيفيد قوله: {وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إذا انضم إليه قوله: {وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} وجوب الانقطاع للعبادة عن غيرها و لله سبحانه عن غيره كما عرفت و من الغير الذي يجب الانقطاع عنه إلى الله سبحانه نفس العبادة، و إنما العبادة توجه لا متوجه إليها، و التوجه إليها يبطل معنى كونها عبادة و توجها إلى الله فيجب أن لا يذكر الناسك في نسكه إلا ربه و ينسى غيره.
و للمفسرين في معنى قوله: {وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ} إلخ، أقوال أخر منها: أن المعنى: توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة. و منها: أن المعنى توجهوا في أوقات السجود و هي أوقات الصلاة إلى الجهة التي أمركم الله بها و هي الكعبة. و منها إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا و لا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي. و منها: أن المعنى: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر فيها بالجماعة. و منها: أن المعنى: أخلصوا وجوهكم لله بالطاعة فلا تشركوا وثنا و لا غيره.
و الوجوه المذكورة على علاتها و إباء الآية عنها لا تناسب الثلاثة الأول منها حال المسلمين في وقت نزول السورة و هي مكية و لم تكن الكعبة قبلة يومئذ، و لا كانت للمسلمين مساجد مختلفة متعددة، و آخر الوجوه و إن كان قريبا مما قدمناه إلا أنه ناقص في بيان الإخلاص المستفاد من الآية، و ما تضمنه إنما هي معنى قوله تعالى: {وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} لا قوله: {وَ أَقِيمُوا} إلخ، كما تقدم.
قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدىَ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ} إلى آخر الآية. ظاهر السياق أن يكون قوله {فَرِيقاً هَدىَ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ} حالا من فاعل {تَعُودُونَ} و يكون هو الوجه المشترك الذي شبه فيه العود بالبدء، و المعنى تعودون فريقين كما بدأكم فريقين نظير قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: الأنعام: ٩٤، و المعنى لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة فرادى.
فهذا هو الظاهر المستفاد من الكلام، و أما كون {فَرِيقاً هَدىَ} إلخ، حالا لا يعدو عامله، و وجه الشبه بين البدء و العود أمرا آخر غير مذكور ككونهم فرادى بدءا و عودا أو كون الخلق الأول و الثاني جميعا من تراب أو كون البعث مثل الإنشاء في قدرة الله إلى غير ذلك مما احتملوه فوجوه بعيدة عن دلالة الآية، و أي فائدة في
حذف وجه الشبه من الذكر و ذكر ما لا حاجة إليه مع وقوع اللبس، و سيجيء إن شاء الله توضيح ذلك.
و ظاهر البدء في قوله: {بَدَأَكُمْ} أول خلقة الإنسان الدنيوية لا مجموع الحياة الدنيوية قبال الحياة الأخروية فيكون البدء هو الحياة الدنيا و العود هو الحياة الأخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقا منكم و حقت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يئول إليه قول من قال: «إن معنى الآية: تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره».
و ذلك أن ظاهر البدء إذا نسب إلى شيء ذي امتداد و استمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتد المستمر لا على الجميع، و الخطاب للناس فبدؤهم أول خلقة النوع الإنساني و بدء ظهوره. على أن الآية من تتمة الآيات التي يبين الله سبحانه فيها بدء إيجاده الإنسان بمثل قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} إلخ، فالمراد به كيفية البدء التي قصها في أول كلامه، و قد كان من القصة أن الله قال لإبليس لما رجمه: {اُخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} و فيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقا مهتدين على الصراط المستقيم، و فريقا ضالين حقا فهذا هو الذي بدأهم به و كذلك يعودون.
و قد بين ذلك في مواضع أخر من كلامه أوضح من ذلك و أصرح كقوله: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢، و هذا قضاء حتم و صراط مستقيم إن الناس طائفتان طائفة ليس لإبليس عليهم سلطان و هم الذين هداهم الله، و طائفة متبعون لإبليس غاوون و هم المقضي ضلالهم لاتباعهم الشيطان و توليهم إياه قال: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}: الحج: ٤، و إنما قضي ضلالهم إثر اتباعهم و توليهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية.
و نظيره في ذلك قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}: ص: ٨٥، فإنه يدل على أن هناك قضاء بتفرقهم فريقين، و هذا التفرق هو الذي فرع تعالى عليه قوله إذ قال: {قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا}... {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقىَ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمىَ} الخ: ، طه: ١٢٤ و هو عمى الضلال.
و بعد ذلك كله فمن الممكن أن يكون قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} إلخ، في مقام التعليل لمضمون الكلام السابق و المعنى: أقسطوا في أعمالكم و أخلصوا لله سبحانه فإن الله سبحانه إذ بدأ خلقكم قضى فيكم أن تتفرقوا فريقين فريقا يهديهم و فريقا يضلون عن الطريق و ستعودون إليه كما بدأكم فريقا هدى و فريقا حق عليهم الضلالة بتولي الشياطين فأقسطوا و أخلصوا حتى تكونوا من المهتدين بهداية الله لا الضالين بولاية الشياطين.
فيكون الكلام جاريا مجرى قوله تعالى: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً}: البقرة: ١٤٨ فإنه في عين أنه بين أولا أن لكل وجهة خاصة محتومة هو موليها لا يتخلف عنه إن سعادة فسعادة و إن شقاوة فشقاوة أمرهم ثانيا أن استبقوا الخيرات، و لا يستقيم الأمر مع تحتم إحدى المنزلتين: السعادة و الشقاوة لكن الكلام في معنى قولنا: إن كلا منكم لا محيص له عن وجهة متعينة في حقه لازمة له إما الجنة و إما النار فاستبقوا الخيرات حتى تكونوا من أهل وجهة السعادة دون غيرها.
و كذلك الأمر فيما نحن فيه فالكلام في معنى قولنا: إنكم ستعودون فريقين كما بدأكم فريقين بقضائه فأقسطوا في أعمالكم و أخلصوا لله سبحانه حتى تكونوا من الفريق الذي هدى دون الفريق الذي حق عليهم الضلالة.
و من الممكن أن يكون قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ} إلخ، كلاما مستأنفا و هو مع ذلك لا يخلو عن تلويح بالدعوة إلى الأقساط و الإخلاص على ما يتبادر من السياق.
و أما قوله: {إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ} فهو تعليل لثبوت الضلالة و لزومها لهم في قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ} كان كلمة الضلال و الخسران صدرت من مصدر القضاء في حقهم مشروطا بولاية الشيطان كما يذكره في قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}: الحج: ٤.
فلما تولوا الشياطين في الدنيا حقت عليهم الضلالة و لزمتهم لزوما لا انفكاك بعده أبدا و هذا نظير ما يستفاد من قوله: {وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ}: حم السجدة: ٢٥.
و أما قوله: {وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} فهو كعطف التفسير بالنسبة إلى الجملة السابقة يفسر به معنى تحقق الضلالة و لزومها فإن الإنسان مهما ركب غير طريق الحق و اعتنق الباطل و هو يعترف بأنه من الباطل و لما ينس الحق أوشك أن يعود إلى الحق الذي فارقه و كان مرجوا أن ينتزع عن ضلاله إلى الهدى أما إذا اعتقد حقية الباطل الذي هو عليه، و حسب أنه على الهدى و هو في ضلال فقد استقر فيه شيمة الغي و حقت عليه الضلالة و لا يرجى معه فلاح أبدا.
فقوله: {وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} كالتفسير لتحقق الضلالة لكونه من لوازمه، و قد قال تعالى في موضع آخر: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}: الكهف: ١٠٤، و قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِهِمْ وَ عَلىَ سَمْعِهِمْ وَ عَلىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}: البقرة: ٧.
و إنه الإنسان يسير على الفطرة و يعيش على الخلقة لا ينقاد إلا للحق و لا يخضع إلا للصدق و لا يريد إلا ما فيه خيره و سعادته غير أنه إذا شمله التوفيق و كان على الهدى طبق ما يطلبه و يقصده على حقيقة مصداقه و لم يعبد إلا الله و هو الحق الذي يطلبه و لم يرد إلا الحياة الدائمة الخالدة و هي السعادة التي يقصدها، و إذا ضل عن الصراط انتكس وجهه من الحق إلى الباطل و من الخير إلى الشر و من السعادة إلى الشقاء فيتخذ إلهه هواه، و يعبد الشيطان، و يخضع للأوثان، و أخلد إلى الأرض، و تعلق بالزخارف المادية الدنيوية و تبصر إليها لكنه إنما يعمل ما يعمل بإذعان أنه هكذا ينبغي أن يعمل و حسبان أنه مهتد في عمله فيأخذ بالباطل بعنوان أنه حق، و يركن إلى الشر أو الشقاء بعنوان أنه خير و سعادة فالإدراك الفطري محفوظ له غير أنه يطبقه في مقام العمل على غير مصداقه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلىَ أَدْبَارِهَا}: النساء: ٤٧، و أما إنسان يتبع الباطل بما هو باطل، و يقصد الشقاء و الخسران بما هو شقاء و خسران فمن المحال ذلك. قال تعالى: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ}: الروم: ٣٠
و شيء من العلل و الأسباب و منها الإنسان لا يريد غاية و لا يفعل فعلا إلا إذا كان ملائما لنفسه حاملا لما فيه نفعه و سعادته، و ما ربما يتراءى من خلاف فإنما هو في بادئ النظر لا بحسب الحقيقة و في نفس الأمر.
هذا كله ما يقتضيه التدبر و إيفاء النظر من معنى قوله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدىَ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ} إلخ، و هو يدور مدار كون {فَرِيقاً هَدىَ} إلخ، حالا مبينا لوجه الشبه و المعنى المشترك بين البدء و العود سواء أخذنا الكلام مستأنفا أو واقعا موقع التعليل متصلا بما قبله.
و أما جمهور المفسرين فكأنهم متسالمون على أن قوله: {فَرِيقاً هَدىَ} حال مبين لكيفية العود فحسب دون العود و البدء جميعا، و أن المعنى المشترك الذي هو وجه تشبيه العود بالبدء أمر آخر وراءه إلا من فسر البدء بالحياة الدنيا و الخلق الأول كما تقدم و سيجيء، و كان ذلك فرارا منهم عن لزوم الجبر المبطل للاختيار مع احتفاف الكلام بالأوامر و النواهي، و قد عرفت أن ذلك غير لازم.
و بالجملة فقد اختلفوا في وجه اتصال الكلام بما قبله بعد التسالم على ذلك فمن قائل: أنه إنذار بالبعث تأكيدا للأحكام المذكورة سابقا، و احتجاج عليه بالبدء فالمعنى: ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون مجازون، و إن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء و اعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم فتعودون في الخلق الثاني.
و فيه أنه مبني على أن تشبيه العود بالبدء في تساويهما بالنسبة إلى قدرة الله، و أن النكتة في التعرض لذلك هو الإنذار بالمجازاة، و السياق المناسب لهذا الغرض أن يقال: كما بدأكم يبعثكم فيجازيكم بوضع بعثه تعالى موضع عود الناس و التصريح بالمجازاة التي هي العمدة في الغرض المسوق لأجله الكلام كما صنع ذلك القائل نفسه فيما ذكره من المعنى، و الآية خالية من ذلك.
و من قائل: أنه احتجاج على منكري البعث، و اتصاله بقوله تعالى قبل عدة آيات: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ}.
فقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} معناه فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.
و فيه: ما في الوجه السابق على أنه تحكم من غير دليل.
و من قائل: أنه كلام مستأنف. و قد تقدم ذكره.
و من قائل: أنه متصل بما سبقه، و المعنى: أخلصوا لله في حياتكم فإنكم تبعثون على ما متم عليه: المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره.
و فيه: أنه مبني على كون المراد بالبدء هو مجموع الحياة الدنيا في قبال الحياة الآخرة ثم تشبيه بالعود و هو الحياة الآخرة بآخر الحياة الأولى المسماة بعثا، و الآية - كما تقدم - بمعزل عن الدلالة على هذا المعنى.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إلى آخر الآية. قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، انتهى.
أخذ الزينة عند كل مسجد هو التزين الجميل عند الحضور في المسجد، و هو إنما يكون بالطبع للصلاة و الطواف و سائر ذكر الله فيرجع المعنى إلى الأمر بالتزين الجميل للصلاة و نحوها، و يشمل بإطلاقه صلوات الأعياد و الجماعات اليومية و سائر وجوه العبادة و الذكر.
و قوله: {وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاَ تُسْرِفُوا} إلخ، أمران إباحيان و نهي تحريمي معلل بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ} و الجميع مأخوذة من قصة الجنة كما مرت الإشارة إليه، و هي كما تقدم خطابات عامة لا تختص بشرع دون شرع و لا بصنف من أصناف الناس دون صنف.
و من هنا يعلم فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إلخ يدل على بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى جميع البشر، و أن الخطاب يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة (انتهى). نعم تدل الآية على أن هناك أحكاما عامة لجميع البشر برسالة واحدة أو أكثر، و أما شمول الحكم للنساء فبالتغليب في الخطاب و القرينة العقلية قائمة.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}
هذا من استخراج حكم خاص بهذه الأمة من الحكم العام السابق عليه بنوع من الالتفات نظير ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} و قوله {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} (الآية).
و الاستفهام إنكاري، و الزين يقابل الشين و هو ما يعاب به الإنسان فالزينة ما يرتفع به العيب و يذهب بنفرة النفوس، و الإخراج كناية عن الإظهار و استعارة تخييلية كأن الله سبحانه بإلهامه و هدايته الإنسان من طريق الفطرة إلى إيجاد أنواع الزينة التي يستحسنها مجتمعة و يستدعي انجذاب نفوسهم إليه و ارتفاع نفرتهم و اشمئزازهم عنه يخرج لهم الزينة و قد كانت مخبية خفية فأظهرها لحواسهم.
و لو كان الإنسان يعيش في الدنيا وحده في غير مجتمع من أمثاله لم يحتج إلى زينة يتزين بها قط و لا تنبه للزوم إيجادها لأن ملاك التنبه هو الحاجة. لكنه لما لم يسعه إلا الحياة في مجتمع من الأفراد و هم يعيشون بالإرادة و الكراهة و الحب و البغض و الرضى و السخط فلا محيص لهم من العثور على ما يستحسنونه و ما يستقبحونه من الهيئات و الأزياء فيلهمهم المعلم الغيبي من وراء فطرتهم بما يصلح ما فسد منهم و يزين ما يشين منهم و هو الزينة بأقسامها، و لعل هذا هو النكتة في خصوص التعبير بقوله: {لِعِبَادِهِ}.
و هذه المسماة بالزينة من أهم ما يعتمد عليه الاجتماع الإنساني، و هي من الآداب العريقة التي تلازم المجتمعات و تترقى و تتنزل على حسب تقدم المدنية و الحضارة و لو فرض ارتفاعها من أصلها في مجتمع من المجتمعات انهدم الاجتماع و تلاشت أجزاؤه من حينه لأن معنى بطلانها ارتفاع الحسن و القبح و الحب و البغض و الإرادة و الكراهة و أمثالها من بينهم، و لا مصداق للاجتماع الإنساني عندئذ فافهم ذلك.
ثم الطيبات من الرزق و الطيب هو الملائم للطبع هي الأنواع المختلفة مما يرتزق به الإنسان بالتغذي منه، أو مطلق ما يستمد به في حياته و بقائه كأنواع المطعم و المشرب و المنكح و المسكن و نحوها، و قد جهز الله سبحانه الإنسان بما يحس بحاجته إلى أقسام الرزق و يستدعي تناولها بأنواع من الشهوات الهائجة في باطنه إلى ما يلائمها مما يرفع حاجته و هذا هو الطيب و الملاءمة الطبيعية.
و ابتناء حياة الإنسان السعيدة على طيبات الرزق غني عن البيان فلا يسعد
الإنسان في حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه و أدواته التي جهز بها و يساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به، و ما جهز بشيء و لا ركب من جزء إلا لحاجة له إليه فلو تعدى في شيء مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شيء من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم. فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم و المشهية للمعدة و لا يزال يستعمل و يفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة، و أهمها الفكر السالم الحر و على هذا القياس.
و التعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شيء آخر لا هو مخلوق لهذا العالم و لا هذا العالم مخلوق له و أي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون، و يسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة، و ينال غاية غير غايته و هو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة و الشره، و يصوره له الخيال بآخر ما يقدر و أقصى ما يمكن.
و الله سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده و أظهرها و بينها لهم من طريق الإلهام الفطري، و لا تلهم الفطرة إلا بشيء قامت حاجة الإنسان إليه بحسبها.
و لا دليل على إباحة عمل من الأعمال و سلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود و الطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الإنسان المحتاج و بين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى و الأدوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة و التكوين.
ثم يذكر بعطف الطيبات من الرزق على الزينة في حيز الاستفهام الإنكاري أن هناك أقساما من الرزق طيبة ملائمة لطباع الإنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده، و لا يشعر بها و لا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها و إلى التصرف فيها تصرفا يستمد به لبقائه، و لا دليل على إباحة شيء من الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعية و الفقر التكويني إليه كما سمعت.
ثم يذكر بالاستفهام الإنكاري أن إباحة زينة الله و الطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل و القضاء الفطري.
و إباحة الزينة و طيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها و الوسط العدل بين الإفراط و التفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، و قد قال الله سبحانه في الآية السابقة: {وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ} و قال فيما قبل ذلك: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}.
ففي التعدي إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط من تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط، و فساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر و البحر و تنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس و إسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، و هو الإنسان إذا جاوز حد الاعتدال، و تعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد و لا يلوي على شيء فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية و يذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، و من هذا القليل الأمر الإلهي بضروريات الحياة كالأكل و الشرب و اللبس و السكنى و أخذ الزينة.
قال صاحب المنار، في بعض كلامه و ما أجود ما قال: و إنما يعرفها يعني قيمة الأمر بأخذ الزينة مع بساطته و وضوحه من قراء تواريخ الأمم و الملل، و علم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات و الغابات أفرادا و جماعات يأوون إلى الكهوف و المغارات، و القبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار و جبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء و رجالا، و أن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا و علمهم لبس الثياب بإيجابه للستر و الزينة إيجابا شرعيا.
و لما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه و تحويلهم إلى ملتهم و لتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الإسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى و إيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسج الأوروبية فيهم.
بل أقول: إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة و العلوم و الفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون و يتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب و قلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد.
هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما و حديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم و رجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم و صناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين و يسمونهما «سبيلين» و هي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء أو ساتر لنصفه الأسفل فقط و امرأة مكشوفة البطن و الفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه، و قد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب، و الأكل في الأواني و لا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر و يأكلون منه، و لكنهم خير من كثير من الوثنيين سترا و زينة لأن المسلمين كانوا حكامهم، و قد كانوا و لا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما و عملا و تأثيرا في وثني بلادهم.
و أما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس و كثير من الأعمال الدينية، و منهم نساء مسلمي «سيام» اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بين هذا من قبل فحيث يقوى الإسلام يكون الستر و الزينة اللائقة بكرامة البشر و رقيهم.
فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام و لو لا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما و شعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية، و إنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ و إن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين؟ و هو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي و لا شرع ديني، و قد يقول مثل هذا في قوله تعالى: {كُلُوا وَ اِشْرَبُوا} انتهى.
و مما يناسب المقام ما روي: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، و العلم علمان: علم
الأديان و علم الأبدان! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية و هو قوله: {كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاَ تُسْرِفُوا} و جمع نبينا الطب في قوله: «المعدة بيت الداء، و الحمية رأس كل دواء، و أعط كل بدن ما عودته» فقال الطبيب: ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا.
قوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} لا ريب أن الخطاب في صدر الآية إما لخصوص الكفار أو يعمهم و المؤمنين جميعا كما يعمهم جميعا ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاَ تُسْرِفُوا} و لازمه أن تكون الزينة و طيبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعا، مؤمنهم و كافرهم.
فقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، مسوق لبيان ما خص الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرامة و المزية، و إذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة، و لازم ذلك أن يكون قوله: {فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} متعلقا بقوله: {آمَنُوا} و قوله: {يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} متعلقا بما تعلق به قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} و هو قولنا كائنة أو ما يقرب منه، «و {خَالِصَةً} حال عن الضمير المؤنث و قدمت على قوله: {يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} لتكون فاصلة بين قوليه: {فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} و {يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} و المعنى: قل هي للمؤمنين يوم القيامة و هي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيامة.
و بهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالخلوص إنما هو الخلوص من الهموم و المنغصات و المعنى: هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم و الأحزان و المشقة، و هي خالصة يوم القيامة من ذلك.
و ذلك أنه ليس في سياق الآية و لا في سياق ما تقدمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيوية بما ينغص عيش المتنعمين بها و يكدرها عليهم حتى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص.
و كذا ما في قول بعض آخر: إن قوله: {فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} متعلق بما تعلق به قوله {لِلَّذِينَ آمَنُوا} و المعنى: هي ثابتة للذين آمنوا بالأصالة و الاستحقاق في الحياة
الدنيا، و لكن يشاركهم غيرهم فيها بالتبع لهم و إن لم يستحقها مثلهم، و هي خالصة لهم يوم القيامة أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة فقد قرأ نافع {خَالِصَةً} بالرفع على أنها خبر و الباقون بالنصب على الحالية و ذلك أن المؤمنين هم الذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة، و الأوامر المحرضة لإصلاح الحياة بأخذ الزينة و الارتزاق بالطيبات و القيام بواجبات المعاش ثم التفكر في آيات الآفاق و الأنفس المؤدي إلى إيجاد الصناعات و الفنون المستخدمة في الرقي في المدنية و الحضارة، و معرفة قدرها و الشكر عليها. كل ذلك من طريق الوحي و النبوة.
وجه فساده: أنه إن أراد أن ما ذكره من الأصالة و التبعية هو مدلول الآية فمن الواضح أن الآية أجنبية عن الدلالة على ذلك، و إن أراد أن الآية تفيد أن النعم الدنيوية للمؤمنين ثم بينت مشاركة الكفار لهم فيها و أن ذلك بالأصالة و التبعية فقد عرفت أن الآية لا تدل إلا على اشتراك الطائفتين معا في النعم الدنيوية لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الأصالة و التبعية.
بل ربما كان الظاهر من أمثال قوله: {وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} إلى أن قال {وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}: الزخرف: ٣٥، خلاف ذلك و أن زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصوا به.
و قد امتن الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ} إلى آخر الآية، قد تقدم البحث المستوفى عن مفردات الآية فيما مر، و إن الفواحش هي المعاصي البالغة قبحا و شناعة كالزنا و اللواط و نحوهما، و الإثم هو الذنب الذي يستعقب انحطاط الإنسان في حياته و ذلة و هوانا و سقوطا كشرب الخمر الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه و ماله و عرضه و نفسه و نحو ذلك، و البغي هو طلب الإنسان ما ليس له بحق كأنواع الظلم و التعدي على الناس و الاستيلاء غير المشروع عليهم، و وصفه بغير الحق من قبيل التوصيف باللازم نظير التقييد الذي في قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}.
و كان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة و طيبات الرزق داعيا لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك، و لا يشذ عما ذكره شيء من المحرمات الدينية، و هي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال و هي الثلاثة الأول، و ما يرجع إلى الأقوال و الاعتقادات و هو الأخيران، و القسم الأول منه ما يرجع إلى الناس و هو البغي بغير الحق، و منه غيره و هو إما ذو قبح و شناعة فالفاحشة، و إما غيره فالإثم، و القسم الثاني إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه.
قوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصة: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} نظير الأحكام الآخر المستخرجة منها المذكورة سابقا، و مفاده أن الأمم و المجتمعات لها أعمار و آجال نظير ما للأفراد من الأعمار و الآجال.
و ربما استفيد من هذا التفريع و الاستخراج أن قوله تعالى في ذيل القصة سابقا: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} إلخ، راجع إلى حياة كل فرد فرد و كل أمة أمة، و هي بعض عمر الإنسانية العامة، و إن قوله قبله: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ} راجع إلى حياة النوع إلى حين و هو حين الانقراض أو البعث، و هذا هو عمر الإنسانية العامة في الدنيا.
قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إلى آخر الآيتين. {إِمَّا} أصله إن الشرطية دخلت على ما، و في شرطها النون الثقيلة، و كأن ذلك يفيد أن الشرط محقق لا محالة، و المراد بقص الآيات بيانها و تفصيلها لما فيه من معنى القطع و الإبانة عن مكمن الخفاء.
و الآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هاهنا و هي رابعها و آخرها يبين للناس التشريع الإلهي العام للدين باتباع الرسالة و طريق الوحي، و الأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه: {قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} إلخ، فبين أن إتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} قال: نزلت في الخمس من قريش و من كان يأخذ مأخذها من قبائل العرب: الأنصار الأوس و الخزرج و خزاعة و ثقيف و بني عامر بن صعصعة و بطون كنانة بن بكر كانوا لا يأكلون اللحم، و لا يأتون البيوت إلا من أدبارها، و لا يضطربون وبرا و لا شعرا إنما يضطربون الأدم، و يلبسون صبيانهم الرهاط، و كانوا يطوفون عراة إلا قريشا، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم التي قدموا فيها، و قالوا: هذه ثيابنا التي تطهرنا إلى ربنا فيها من الذنوب و الخطايا ثم قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرا؟ فإن لم يجدوا طافوا عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا ثيابهم التي كانوا وضعوا. و فيه، أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها فجاءت امرأة فألقت ثيابها و طافت و وضعت يدها على قبلها و قالت:
اليوم يبدو بعضه أو كله | *** | فما بدا منه فلا أحله |
فنزلت هذه الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} إلى قوله {وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}.
أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و مجاهد و عطاء لكنك قد عرفت أن الآيات المصدرة بقوله {يَا بَنِي آدَمَ} أحكام و شرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختص بأمة دون أمة فهذه الآحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها، و أعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان.
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة و الزينة اللباس و هو ما يواري السوآت و ما سوى ذلك من جيد البز و المتاع.
و فيه: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب و غيرها و هو قول الله: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا
أَنْزَلَ اَللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ - فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً} و هو هذا فأنزل الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} يعني: شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامها و لبسوا من جياد ثيابها، و نكحوا من صالح نسائها ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شيء.
أقول: و الروايتان كما ترى ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول، و المعول على ذلك.
و فيه: أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من عبد عمل خيرا أو شرا - إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه، و تصديق ذلك في كتاب الله: {وَ لِبَاسُ اَلتَّقْوىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (الآية).
و في تفسير العياشي عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا} (الآية). لباس التقوى ثياب بيض.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عثمان: قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرأ: «و رياشا» و لم يقل: و ريشا.
و في تفسير القمي قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاسُ اَلتَّقْوىَ} قال: فأما اللباس فاللباس التي تلبسون، و أما الرياش فالمتاع و المال، و أما لباس التقوى فالعفاف، إن العفيف لا تبدو له عورة و إن كان عاريا من اللباس، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا من اللباس.
أقول: و ما في الروايتين من معنى لباس التقوى من الأخذ ببعض المصاديق و قد تكرر نظير ذلك في الروايات.
و في تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا} (الآية) قال: قال الذين عبدوا الأصنام فرد الله عليهم فقال: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} إلى آخر الآية.
و في البصائر عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن منصور قال: سألته عن قول الله تبارك و تعالى: {وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} إلى آخر الآية فقال: أ رأيت أحدا يزعم أن الله أمرنا بالزنا و شرب الخمور و شيء من المحارم؟ فقلت: لا، فقال: فما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرنا بها؟ فقلت: الله أعلم و رسوله، فقال: فإن هذه في أئمة الجور ادعوا أن الله أمر بالائتمام بقوم لم يأمر الله بهم فرد الله عليهم و أخبرنا أنهم قالوا عليه الكذب فسمى الله ذلك منهم فاحشة.
أقول: و رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب عن محمد بن منصور قال: سألته و ساق الحديث، و روي ما في معناه في تفسير العياشي، عن محمد بن منصور عن عبد صالح فعلم أن في السند أبا وهب و عنه يروي الحسين بن سعيد و أن الحديث مروي عن موسى بن جعفر (عليه السلام).
و كيف كان فالرواية لا تنطبق بحسب مضمونها على حين نزول الآية و لا ما ذكر فيه من الحجة ينطبق على موردها فإن أهل الجاهلية كانت عندهم أحكام كثيرة متعلقة بأمور من قبيل الفحشاء ينسبونه إلى الله سبحانه كالطواف بالبيت عاريا.
لكن الحجة المذكورة فيه من حيث انطباق الآية على مصاديق بعد زمن النزول أقرب انطباقا على أئمة الجور و الحكام الظلمة فإن المسلمين مرت بهم أعصار يتولى فيها أمورهم أمثال الدعي زياد بن أبيه و ابنه عبيد الله و الحجاج بن يوسف و عتاة آخرون، و حول عروشهم و كراسيهم عدة من العلماء يفتون بنفوذ أحكامهم و وجوب طاعتهم بأمثال قوله تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}. فالرواية ناظرة إلى انطباق الآية على مصاديقها بعد عصر النزول.
و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، و من زعم أن الخير و الشر إليه فقد كذب على الله.
و فيه: عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام): من زعم أن الله أمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله، و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية منه فقد أخرج الله من سلطانه، و من زعم أن المعاصي عملت بغير قوة الله فقد كذب على الله، و من
كذب على الله أدخله الله النار.
أقول: و قوله (عليه السلام): و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية منه إلخ، ناظر إلى قول المفوضة باستقلال العبد في أفعال الخير و الشر كما أن قوله في الرواية السابقة: و من زعم أن الخير و الشر إليه إلخ، «ناظر إلى قول المجبرة: أن الخير و الشر و الطاعة و المعصية إنما تستند إلى إرادة الله من غير أن يكون لإرادة العبد و مشيته دخل في صدور الفعل و إن أمكن بوجه إرجاع الضمير إلى العبد ليكون إشارة إلى قول المفوضة.
و في التهذيب بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: {وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: هذه القبلة.
أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق كما تبين من البيان السابق، و روى مثله العياشي في تفسيره، عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام).
و في التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و في تفسير العياشي عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: مساجد محدثة فأمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.
أقول: الظاهر أن مراده (عليه السلام) أن معنى إقامة الوجوه في الآية التوجه إلى الله باستقبال القبلة عند كل مسجد يصلى فيه ثم القبلة تعينت بمثل قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}: البقرة: ١٤٤، و هي الكعبة إذ قد تقدم في الكلام على آيات القبلة أن الكعبة إنما جعلت قبلة في المدينة بعد الهجرة، و الآية التي نحن فيها و هي من سورة الأعراف مكية و لعل أصل الجعل في هذه السورة ثم تفصيل التشريع أو التفسير في سورة البقرة المدنية إن ساعد سياق آيات القبلة على ذلك كما أن الأحكام الآخر المفصلة من الواجبات و الحرمات تشتمل السور المكية على إجمالها و تشرع تفاصيلها أو تفسر و تبين في السور المدنية.
فقوله (عليه السلام): مساجد محدثة إلخ، معناه أن المراد بكل مسجد في الآية المساجد يحدثها المسلمون في أكناف الأرض، و المراد بإقامة الوجوه تولية الوجوه التي في آية الكعبة و هي استقبال الشطر من المسجد الحرام.
و في تفسير العياشي عن الحسين بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله:
{وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يعني الأئمة.
أقول: الظاهر أن المراد به أئمة الجماعات، و سيجيء له معنى آخر.
و فيه: عن الحسين بن مهران عنه (عليه السلام) في قول الله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: يعني الأئمة.
أقول: و هو كالحديث السابق فإن تقديم الإمام زينة الصلاة و من المستحب شرعا تقديم خيار القوم و وجوههم للإمامة و يمكن أن يكون المراد بالأئمة أئمة الدين على ما سيجيء من رواية العلاء بن سيابة في آخر البحث.
و في الدر المنثور أخرج العقيلي و أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن عساكر عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قول الله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: صلوا في نعالكم.
أقول: و روي هذا المعنى بعدة طرق أخرى عن علي و أبي هريرة و ابن مسعود و شداد بن الأوس و غيرهم عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: وجهني علي بن أبي طالب إلى ابن الكواء و أصحابه - و علي قميص رقيق و حلة فقالوا لي: أنت ابن عباس و تلبس مثل هذه الثياب؟ فقلت: أول ما أخاصمكم به قال الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} و {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يلبس في العيدين بردي حبرة.
و في الكافي بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله بن عباس إلى ابن الكواء و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلة فلما نظروا إليه قالوا: يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا و أنت تلبس هذا اللباس؟ فقال: و هذا أول ما أخاصمكم فيه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ} و قال الله عز و جل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
و في الكافي بإسناده عن فضالة بن أيوب في قول الله عز و جل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: في العيد و الجمعة.
أقول: و رواه في التهذيب عن فضالة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) و روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عنه، و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في الفقيه سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: من ذلك التمشط عند كل صلاة.
أقول: و في معناها غيرها من الروايات.
و في تفسير العياشي عن خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن علي (عليه السلام) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه.
فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي و هو يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فأحب أن ألبس أجود ثيابي.
أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا.
و في الكافي بإسناده عن يونس بن إبراهيم قال: دخلت يوما على أبي عبد الله (عليه السلام) و علي جبة خز و طيلسان خز فنظر إلي فقلت: جعلت فداك علي جبة خز و طيلسان خز هذا ما تقول فيه؟ فقال: لا بأس بالخز قلت: و سداه إبريسم فقال: و ما بأس يا إبراهيم فقد أصيب الحسين (عليه السلام) و عليه جبة خز ثم ذكر (عليه السلام) قصة عبد الله بن عباس مع الخوارج و احتجاجه عليهم بالآيتين.
و فيه: بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال: مر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله (عليه السلام) و عليه أثواب كثيرة قيمة حسان فقال: و الله لآتينه و لأوبخنه فدنا منه فقال: يا ابن رسول الله و الله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس و لا علي و لا أحد من آبائك! فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في زمان قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره، و إن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها۱ و أحق أهلها بها أبرارها ثم تلا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ} فنحن أحق من أخذ ما أعطاه الله.
يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه ثم رفع الثوب الأعلى - و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، ثم قال: هذا لبسته
لنفسي و ما رأيته للناس ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظا خشنا و داخل ذلك الثوب لين فقال: لبست هذا الأعلى للناس، و لبست هذا لنفسك تسترها.
و فيه بإسناده عن ابن القداح قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) متكئا علي فلقيه عباد بن كثير و عليه ثياب مروية حسان فقال: يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت النبوة و كان أبوك فما لهذه الثياب المروية عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق؟ إن الله عز و جل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه، و ليس به بأس.
و في الدر المنثور أخرج الترمذي و حسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
و في قرب الإسناد للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل: قال (عليه السلام) لي: ما تقول في اللباس الخشن؟ فقلت: بلغني أن الحسن كان يلبس، و أن جعفر بن محمد كان يأخذ الثوب الجديد فيأمر به فيغمس في الماء فقال لي البس و جمل فإن علي بن الحسين كان يلبس الجبة الخز بخمس مائة درهم، و المطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه فإذا خرج الشتاء باعه و تصدق بثمنه، و تلا هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة جدا، و من أجمعها معنى الرواية الآتية
في تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أ ترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه أو منع من منع من هوان به عليه؟ لا و لكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، و جوز لهم أن يأكلوا قصدا، و يشربوا قصدا، و يلبسوا قصدا، و ينكحوا قصدا، و يركبوا قصدا، و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلموا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا و يشرب حلالا و يركب حلالا، و ينكح حلالا، و من عدا ذلك كان عليه حراما، ثم قال: {وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ}.
أ ترى الله ائتمن رجلا على مال خول له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم و يجزيه فرسا بعشرين درهما، و يشتري جارية بألف دينار و يجزيه جارية بعشرين دينارا و قال: {وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ}.
و في الكافي بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نكون بطريق مكة و نريد الإحرام فنطلي و لا يكون معنا نخالة فنتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق و قد دخلني من ذلك ما الله أعلم به؟ فقال: مخافة الإسراف؟ قلت: نعم، فقال: ليس فيما أصلح البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلك به، إنما الإسراف فيما أفسد المال و أضر بالبدن، قلت: و ما الإقتار؟ قال: أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره. قلت: فما القصد؟ قال: الخبز و اللحم و اللبن و الخل و السمن مرة هذا و مرة هذا.
و في الكافي بإسناده عن علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال: قول الله عز و جل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ} فأما قوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الزنا المعلن و نصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية للفواحش، و أما قوله عز و جل: {وَ مَا بَطَنَ} يعني ما نكح من أزواج الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا كان للرجل زوجة و مات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله عز و جل ذلك، و أما {اَلْإِثْمَ} فإنها الخمر بعينها.
أقول: و الرواية ملخصة من كلامه (عليه السلام) مع المهدي و قد رواها في صورة المحاجة في الكافي، مسندة و في تفسير العياشي، مرسلة و أوردناها في روايات آية الخمر من سورة المائدة.
و في تفسير العياشي عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا (عليه السلام) عن قول الله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ} قال: إن للقرآن ظهرا و بطنا فأما ما حرم به في الكتاب هو في الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الجور و جميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الحق.
أقول: و رواه في الكافي عن محمد بن منصور مسندا، و فيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الجور، و جميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الحق.
أقول: انطباق المعاصي و المحرمات على أولئك و المحللات على هؤلاء لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما
يناسبه من الأعمال.
و من هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الغسل عند لقاء كل إمام، و كذا ما تقدم من روايتي الحسين بن مهران.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و ابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ تعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد و الله أغير مني، و من أجله حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا شخص أغير من الله.
و في تفسير العياشي عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من أحد أغير من الله تبارك و تعالى، و من أغير ممن حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن؟
و فيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ} قال: هو الذي يسمى لملك الموت.
أقول: و قد تقدمت روايات في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: {ثُمَّ قَضىَ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: الأنعام: ٢.
بحث روائي مختلط بغيره في السعادة و الشقاوة
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدىَ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ} قال: خلقهم حين خلقهم مؤمنا و كافرا و شقيا و سعيدا، و كذلك يعودون يوم القيامة مهتد و ضال.
قال علي بن إبراهيم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الشقي من شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه.
أقول: الرواية و إن كانت عن أبي الجارود و هو مطعون غير أن القوم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حال استقامته قبل انحرافه عنه، على أن الآية قد فسرت
بمثل ما في هذه الرواية في غيرها كرواية إبراهيم الليثي عن أبي جعفر (عليه السلام) و غيره، و قد وقع هذا المعنى في روايات أخرى واردة في تفسير آيات القدر، و هي روايات جمة مختلفة يشترك جميعها في الدلالة على أن آخر الخلقة يشاكل أولها، و عود الإنسان يناظر بدأه، و أن المهتدي في آخر أمره مهتد من أول، و أن الضال كذلك ضال من أول و الشقي شقي في بدء خلقته و السعيد سعيد فيه، و الروايات على اختلاف بياناتها كالآيات ليست في مقام إثبات السعادة و الشقاوة الذاتيتين بمعنى ما يقتضيه ذات الإنسان و يلزم ماهيته كالزوجية للأربعة فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه إذ لو رجع إلى مجرد التصوير العقلي من غير مطابقة للواقع الخارجي لم يستلزم أثرا حقيقيا لتأخر الوجود عن ماهيات الأشياء و عروضه لها في الذهن و الخارج على خلافه، و لو رجع إلى اقتضاء ذاتي حقيقي تملك به الماهية الإنسانية سعادتها أو شقاوتها بحيث لا يبقى لله سبحانه في خلقه إلا أن يظهر منها ما كان دفينا في ذاته كامنا في باطنها كان في ذلك إبطال لإطلاق ملك الله سبحانه و تحديد لسلطانه، و الكتاب و السنة و العقل متعاضدة على نفيه.
على أن ذلك يوجب اختلال نظام العقل في جميع ما يبني عليه العقلاء في أمورهم و اتفاقهم على توقع التأثير في باب التعليم و التربية، و تسالمهم على وجود ما يستتبع المدح و الذم أو يتصف بالحسن و القبح يدفعه.
و كذا يوجب لغوية تشريع الشرائع و إنزال الكتب و إرسال الرسل، و لا معنى لإتمام الحجة في الذاتيات بأي معنى صورناها بعد ما كانت مستحيلة الانفكاك عن الذوات.
و الكتاب الكريم يسلم نظام العقل و يصدق بناء الإنسان بنيان أعماله في الحياة على الاختيار، و يبين فما يبين أن الله سبحانه خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم أنبته نباتا حسنا حتى أنعم عليه بالبلوغ و العقل، يفعل باختياره و يميز بين الحسن و القبيح، و الخير و الشر، و النفع و الضرر و الطاعة و المعصية، و الثواب و العقاب بعقله، ثم أنعم عليه بتكاليف دينية فإن اتبع عقله و أطاع ربه فيما يأمره و ينهاه كان سعيدا و جوزي أحسن الجزاء، و إن خالف عقله و اتبع هواه و عصى ربه كان شقيا و ذاق وبال أمره، و الدار دار امتحان و ابتلاء، و العمل اليوم و الجزاء غدا.
و أساس هذا البيان كما ترى على قضيتين اثنتين: إحداهما: أن بين الفعل الاختياري و غيره فرقا، و هي قضية عقلية ضرورية، و الثانية: أن الأفعال الاختيارية تتصف بحسن و قبح و تستتبع مدحا و ذما و ثوابا و عقابا، و هي قضية عقلائية لا يسع لعاقل أن ينكرها و هو واقع تحت النظام الاجتماعي الحاكم عليه مدى حياته.
و بالجملة لا مجال للقول بالسعادة و الشقاوة الذاتيتين بالمعنى المتقدم أبدا فما ورد من الآيات و الروايات التي تعطف آخر الأمر على أوله إنما تسند الأمر إلى الخلق و الإيجاد دون ذات الإنسان بما أنه إنسان، و قد عرفت أن ارتباط السعادة و الشقاء بأفعال الإنسان الاختيارية على ما تقتضيه القضيتان المتقدمتان مما لا يشوبه شك و لا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات و الروايات.
و الروايات الواردة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها و أنحاء بيانها طبقا للآيات:
فمنها ما دل على ذلك إجمالا، و أن الله خلقهم حين خلقهم صنفين: شقي و سعيد، و كافر و مؤمن كرواية أبي الجارود المتقدمة، و ما مر في ذيل قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}: آل عمران: ٦، من رواية الكافي، في خلقة الجنين.
و هذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}: التغابن: ٢، و قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقىَ}: النجم: ٣٢، و قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدىَ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ} (الآية).
و لا إشكال كثير فيها فإن الآيات كما يشهد به سياقها و يدل عليه ذيل الأخيرة منها إنما تدل على قضاء إجمالي بكون النوع الإنساني مشتملا على فريقين، و إنما يفصل الإجمال، و يتعين كل من الطائفتين، و تتميز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختيارية تستتبع سعادة أو شقاوة، و تستدعي الاهتداء بالتوفيق أو أن يحق له الضلالة بولاية الشياطين، و بعبارة أخرى الذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثم يخرج عن الاشتراط إلى الإطلاق بالأعمال الاختيارية بعد ذلك.
و منها: ما يدل تفصيلا أن الله سبحانه خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنة و إليه مرجعه، و منهم من خلقه من طينة النار و إليها مآله ففي البصائر عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: أخذ الله ميثاق شيعتنا معنا على ولايتنا لا يزيدون و لا ينقصون إن الله خلقنا من طينة عليين و خلق شيعتنا من طينة أسفل من ذلك، و خلق عدونا من طينة سجين و خلق أولياءهم من طينة أسفل من ذلك.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة جدا.
و في المحاسن عن عبد الله بن كيسان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان فقال: أما النسب فأعرفه، و أما أنت فلست أعرفك، قال: قلت: ولدت بالجبل و نشأت بأرض فارس، و أنا أخالط الناس في التجارات و غير ذلك فأرى الرجل حسن السمت و حسن الخلق و الأمانة ثم أفتشه فأفتشه عن عداوتكم، و أخالط الرجل و أرى فيه سوء الخلق و قلة أمانة و زعارة ثم أفتشه فأفتشه عن ولايتكم فكيف يكون ذلك.
فقال: أ ما علمت يا ابن كيسان إن الله تبارك و تعالى أخذ طينة من الجنة و طينة من النار فخلطهما جميعا ثم نزع هذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة و حسن السمت و حسن الخلق فمما مستهم من طينة الجنة، و هم يعودون إلى ما خلقوا منه، و ما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة و سوء الخلق و الزعارة، فمما مستهم من طينة النار، و هم يعودون إلى ما خلقوا منه.
أقول: و الروايات في هذا المعنى أيضا كثيرة جدا.
و في العلل عن حبة العرني عن علي (عليه السلام) قال: إن الله خلق آدم من أديم الأرض فمنه السباخ، و منه الملح، و منه الطيب فكذلك في ذريته الصالح و الطالح.
أقول: و حديث الخلق من طينة عليين و سجين إشارة إلى قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} إلى أن قال {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ}: المطففين: ٢١، أما الآيات فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في محلها، و أما الروايات فالرواية الأخيرة لا تخلو عن جهة بيان بمدلولها لمدلول ما تقدم عليها.
و ذلك أنها تدل على أن المادة الأرضية على اختلافها في أوصافها لها ارتباط بأحوال الإنسان و أوصافه من حيث الصلاح و الطلاح على حسب ما نشاهده في الخارج أن اختلاف المواد لها تأثير ما قطعي في اختلاف الصور الطارئة عليها و الآثار البارزة منها و إن كان ذلك على الاقتضاء دون العلية التامة.
فقوله (عليه السلام): إن الإنسان مخلوق من الطين ثم قوله: إن أصله من الجنة أو من النار يفيد أن من الأرض ما هو من الجنة و منها ما هي من النار و إليهما يئول فإنها تصير إنسانا ثم يسلك إلى الجنة أو إلى النار، و إنما يسلك إلى كل منهما ما يناسبها في مادة الخلقة فهذا الموجود المادي الأرضي هو الذي يصفو فيدخل الجنة و يكون طينه طين الجنة، أو يزيد في التكدر و الانحطاط فيدخل النار فيكون وقودا لها.
و يشعر به بعض الإشعار قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (الآية): الزمر: ٧٤، فإن ظاهر الآية أن المراد من الأرض هو هذه الأرض يسكنها الإنسان و يموت فيها و يبعث منها، و هي المرادة من الجنة، و إليه يشير أيضا قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ}: إبراهيم: ٤٨.
فكأن المراد بطينة الجنة و النار في الروايات الطينة التي ستكون من أجزاء الجنة أو النار، و خاصة بالنظر إلى بعض تعبيراته كقوله (عليه السلام): من طينة عليين و من طينة سجين و من طينة الجنة و من طينة النار.
و على هذا فالمراد الإنسان مأخوذ بحسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الأرضية إما مادة طيبة أو مادة خبيثة، و هي بحسب وصفها البارز فيها مؤثرة في الإنسان في إدراكاته و عواطفه الباطنية و قواه ثم إذا شرعت قواه و عواطفه المناسبة لمادته في العمل تأيدت أعمال المادة بأعمال العواطف و القوى و بالعكس و لم يزل على ذلك يشتد أمره حتى يتم إنسانا سعيدا أو شقيا على حسب ما نظمه الله من عمل الأسباب و أراده و لله فيه البداء بتسليط سبب آخر أقوى من الأسباب الموجودة الفعالة يبدل مجرى سير الإنسان و يمنع من تأثير الأسباب المخالفة له.
ترى الإنسان المتكون من نطفة صالحة غير مئوفة مرباة في رحم سالمة و ممدة
بأغذية صالحة في هواء سالم و محيط سالم أشد استعدادا للسلوك في المسلك الإنساني، و أوقد ذهنا و ألطف إدراكا، و أقوى للعمل فالأمزجة السالمة بالوراثة ثم بإمداد النطفة بأسبابها و شرائطها كالمناطق المعتدلة أقرب إلى قبول الكمالات الإنسانية، و المناطق الرديئة ماء و هواء و الصعبة الخشنة في أسبابها الحيوية كالمناطق الإستوائية و القطبية أقرب إلى الخشونة و القسوة و البلادة من غيرها.
ثم الأمزجة السالمة من موانع لطف الإدراك تنشأ ذوات أرواح لطيفة لها عقول جيدة و عواطف رقيقة تميل بالإنسان إلى ما فيه صلاح إنسانيته من العقائد و الإرادات و الأعمال، و تقربه من المواد الحافظة للبقاء إلى ما يزيد في تأييد الروح في عمله و لا يزال يتعاكس التأثير حتى يتم الأثر، و نظير الكلام جار في جانب الشقاء قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ}: العنكبوت: ٦٩، و قال {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواىَ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ}: الروم: ١٠و الآيات في هذا المعنى كثيرة.
و مع ما نعلم من تأثير المواد الأرضية في نحو حياة الإنسان السعيدة و الشقية لسنا نحصي من الأسباب الدخيلة في هذا الباب إلا بعض الأسباب العامة البينة التي ليس لها قدر تجاه ما نجهله منها كما سمعت من حديث سلامة مزاج الأبوين و الغذاء الممد للبقاء و المنطقة من الأرض التي يعيش فيها الإنسان و غيرها، فهناك أسباب لا تحصى كثرة خفية عنا، و من شواهد ذلك نوادر الأفراد الذين ينشئون في غير ما نحسبه منشأ لهم و الله يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي.
و بالجملة سعادة الإنسان في حياته أعني سعادته في علمه و عمله لها ارتباط تام بطيب مواده الأصلية فهي التي تقبل ما يناسبها من الروح، و هي التي تهتدي إلى الجنة، و كذلك شقاء الإنسان في علمه بترك العقل و العكوف على الأوهام و الخرافات التي تزينها له عواطف الشهوة و الغضب، و في عمله بالتمتع من لذائذ المادة، و الاكتناه و الاسترسال في الشهوات الحيوانية و الاستكبار عن كل حق لا يوافق هواه.
فهذان القبيلان من الأسباب المادية يسوقان الإنسان إلى الحق و الباطل و السعادة و الشقاء و الجنة و النار غير أنهما مقتضيان من غير علية تامة، و لله سبحانه المشية فيهما
و البداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الأسباب، و قد تقدم ما يدل عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران. و في معناه أحاديث أخر تثبت لله المشية و جواز المحو و الإثبات في الأمور.
و يمكن أن توجه هذه الأخبار بوجه آخر أدق يحتاج تعقله إلى صفاء في الذهن و قدم صدق في المعارف الحقيقية، و هو أن السعادة و الشقاوة في الإنسان إنما تتحققان بفعلية الإدراك و استقراره، و الإدراك لتجرده عن المادة ليس بمقيد بقيودها و لا محكومة بأحكامها و منها الزمان الذي هو مقدار حركتها، و نحن و إن كنا نقدر بالنظر إلى كون المادة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعلية أن السعادة بعد زمان الحركة لكنها بحسب حقيقة نفسها غير مقيدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة و ذلك نظير ما ننسب أمورا حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيد فعله بالزمان نقول: خلق الله زيدا في زمان كذا، و أهلك قوم نوح، و نجى قوم يونس، و بعث محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) في عصر كذا فنقيد فعله بالزمان و إنما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة و كونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان و الحركة التي انتهت إلى وجودها و أما لو أخذت مع زمانها و سائر قيود ذاتها على ما عليه الأمر في نفسه فالفعل الإلهي غير متقيد بالزمان لأنه موجد مجموع الحادث و زمانه و سائر ما يتقيد به، و إن كنا - بالنظر إلى اتحاد ما لفعله الحادث المتقيد بالزمان - نقيد فعله بالزمان كما نقول: اليوم علمت أن كذا كذا، و رأيته الساعة فنقيد العلم باليوم و الساعة و ليس بمقيد بهما لمكان تجرده، و إنما المتقيد هو العمل الدماغي أو العصبي المادي الذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعد له.
فالإنسان لما كان انتهاؤه إلى تجرد علمي بالسعادة أو الشقاء و إن كان مقارنا لجنة جسمانية أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب و السنة فما له من المال في نفسه لا زمان له و صح أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد، و أن يسمى بدءا كما يسمى عودا فافهم ذلك.
و منها: ما يدل على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات و الملح الأجاج كما في العلل، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق ماء عذبا فخلق منه أهل طاعته، و جعل ماء مرا فخلق منه أهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلو لا ذلك ما ولد
المؤمن إلا مؤمنا و لا الكافر إلا كافرا.
و فيه عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن أول ما خلق الله فقال: إن أول ما خلق الله عز و جل ما خلق منه كل شيء. قلت: جعلت فداك ما هو؟ قال: الماء.
قال: إن الله تبارك و تعالى خلق الماء بحرين أحدهما عذب، و الآخر ملح، فلما خلقهما نظر إلى العذب فقال: يا بحر فقال: لبيك و سعديك. قال: فيك بركتي و رحمتي و منك أخلق أهل طاعتي و جنتي، ثم نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب فأعاد ثلاث مرات: يا بحر، فلم يجب فقال: عليك لعنتي و منك أخلق أهل معصيتي و من أسكنته ناري ثم أمرهما أن يمتزجا فامتزجا.
قال: فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.
و في تفسير العياشي عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام) قال: إن الله قال لماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي و أهل طاعتي، و قال لماء: كن ملحا أجاجا أخلق منك ناري و أهل معصيتي فأجرى الماءين على الطين، الحديث و هو طويل.
أقول: و في معنى كل من هذه الأحاديث الثلاثة أحاديث كثيرة أخرى مروية عن علي و الباقر و الصادق و غيرهم (عليه السلام)، و إنما أوردنا ما أوردناه بعنوان الأنموذج.
و هذه الروايات تنتهي إلى مثل قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىَ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: الفاطر ١٢، و أنت ترى موقع الآية الثانية من الأولى، و أنها بمنزلة التمثيل لبيان مضمون الآية و شرح اختلاف الناس في أنفسهم في عين اتحادهم في الإنسانية و اشتراكهم في بعض المنافع و الآثار. و قد قال تعالى: {وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}: الأنبياء: ٣٠.
و قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كَانَ
رَبُّكَ قَدِيراً}: الفرقان: ٥٤، و سيجيء بيان الآيات في محلها.
و أما الروايات فإنها كما ترى في معناها تعود قسمين:
أحدهما: ما يذكر أن الماءين العذب الفرات و الملح الأجاج أجريا على الطين الذي خلق منه الإنسان فاختلف الطين باختلاف الماء، و هذا القسم يرجع إلى الصنف المتقدم من الأخبار الدالة على أن اختلاف الخلقة يعود إلى اختلاف الطينة المأخوذة لها فالكلام فيه كالكلام في أخبار الطينة و قد قدمناه.
و ثانيهما: ما دل على أن الخلقة أعم من خلقة الإنسان و غيره، حتى الجنة و النار تنتهي إلى الماء ثم اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في السعادة و الشقاوة أما اختلاف الخلقة باختلاف العذوبة و الملوحة فيعود أيضا إلى القسم الأول و يجري فيه الكلام السابق فإن القسم الأول من هذه الأخبار يعود كالمفسر لهذا القسم الثاني ثم هما معا كالمفسر لأخبار الطينة السابقة.
و أما انتهاء الخلقة إلى أصل أولي هو الماء فسيجيء البحث فيه فيما يناسبه من المحل إن شاء الله العزيز.
و منها: ما دل على أن الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من النور و الظلمة كما في العلل، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين، و خلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا، و خلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم قرأ {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ}. و إن الله تبارك و تعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجين، و خلق أبدانهم من دون ذلك، و خلق قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثم قرأ: {إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}.
أقول: و في معناه روايات أخر، و هو في الحقيقة راجع إلى ما تقدم من الروايات الدالة على انتهاء الخلقة إلى طينة عليين و طينة سجين، و إنما يصير بعد خلقه من هذه الطينة نورا و ظلمة، و لعل ذلك لكون طينة السعادة مما يظهر به الحق و تنجلي به المعرفة
بخلاف طينة الشقاوة الملازمة للجعل الذي هو ظلمة و عمى فطينة السعادة نور، و كثيرا ما يسمي القرآن العلم و الهدى نورا كما يسمي الإيمان حياة قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}: الأنعام: ١٢٢.
و قال: {اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اَلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ}: البقرة: ٢٥٧، و في كون النور أصلا لخلقة طائفة من الموجودات كالأنبياء و الملائكة و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و الجنة أخبار كثيرة أخرى سيأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله.
و منها: ما دل على لحوق حسنات الأشقياء بالسعداء يوم القيامة و بالعكس كما في العلل، بإسناده عن إبراهيم الليثي عن الباقر (عليه السلام) في حديث طويل: ثم قال: أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت و بدا شعاعها في البلدان أ هو بائن من القرص؟ قلت: في حال طلوعه بائن. قال أ ليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه؟ قلت: نعم. قال: كذلك يعود كل شيء إلى سنخه و جوهره و أصله فإذا كان يوم القيامة نزع الله عز و جل سنخ الناصب و طينته مع أثقاله و أوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب، و ينزع سنخ المؤمن و طينته مع حسناته و أبواب بره و اجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن.
أ فترى هاهنا ظلما و عدوانا؟ قلت: لا يا ابن رسول الله. قال: هذا و الله القضاء الفاصل و الحكم القاطع، و العدل البين، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون هذا يا إبراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين، هذا من حكم الملكوت.
قلت: يا ابن رسول الله و ما حكم الملكوت؟ قال: حكم الله و حكم أنبيائه و قصة الخضر و موسى حين استصحبه فقال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} افهم يا إبراهيم و اعقل، أنكر موسى على الخضر و استفظع أفعاله حتى قال له الخضر: يا موسى ما فعلته عن أمري، و إنما فعلته عن أمر الله عز و جل الحديث.
أقول: الرواية تبني البيان على قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}: الأنفال: ٣٧، و آيات
أخر ذكرها (عليه السلام) في متن الرواية، و الآية - كما ترى - تذكر أن الله سبحانه سيفصل يوم القيامة الطيب من الخبيث و يميز بينها تمييزا تاما لا يبقى في قسم الطيب من خلط الخباثة شيء، و لا في سنخ الخبيث من خلط الطيب شيء ثم يجمع كل خبيث برد بعضه إلى بعض و إلحاق بعضه ببعض، و يرجع الآثار و الأعمال حينئذ إلى موضوعاتها، و ترد الفروع إلى أصولها لا محالة، و لازم ذلك اجتماع الحسنات جميعا في جانب و رجوعها إلى سعادة الذات الذي لا تمازجه شقاوة أصلا، و اجتماع السيئات جميعا في جانب و رجوعها إلى منشئها الخالص في منشئيته، و هو الذي تبينه الرواية.
قوله (عليه السلام): أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إلخ تمثيل بظاهر الحس على كون الأثر مظهرا لمؤثره مسانخا له قائما به ملازما لوجوده، و قوله (عليه السلام): هذا و الله القضاء الفاصل إلخ، هذا مع كونه بحسب بادئ النظر خلاف العدل مبني على ما تحكم به الضرورة من وجوب المناسبة و السنخية بين الفاعل و فعله و المؤثر و أثره، و لازمه الحكم بأن كل فعل من الأفعال إنما يملكه من الفواعل ما يناسبه في ذاته لا ما لا يناسبه، و إن كان قضاء النظر السطحي المعتمد على ظاهر الحس بخلافه.
فالفعل من حيث كونه حركات كذا و سكنات كذا فهو للموضوع الذي يتحرك و يسكن بها، و أما من حيث كونه معنى من المعاني حسنة أو سيئة و من آثار السعادة أو من آثار الشقاوة فإنما هو لذات سعيدة أو شقية تناسبه في وصفه، و لو كان هناك موضوعان لهما حكمان مختلفان ثم وجد شيء من حكم كل في الآخر فإنما هو الامتزاج وقع بين الموضوعين و اختلاط بمعنى أن وراء هذا الفعل موضوعه الأصلي القائم بأمره و إن ظهر في ظاهر النظر في غير موضوعه كالحرارة الظاهرة في الماء التي عاملها الأصلي نار أو شمس مثلا و إن كانت صفة بارزة في الماء ظاهرا فالحرارة للنار مثلا و إن ظهرت في الماء و هذا مما لا يرتاب فيه الخبير بالأبحاث الحقيقية.
و على هذا تكون الحسنات للمحسنين ذاتا و السعداء جوهرا و سنخا، و السيئات للمسيئين ذاتا و الأشقياء طينة و أصلا بحسب ظرف الحقيقة و وعاء الحق فهو الذي يقتضيه العدل الحقيقي.
و لا يناقضه أمثال قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}: الزلزال: ٨، و قوله: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ}: النجم: ٣٨ و قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ}: البقرة: ٢٨٦، إلى غير ذلك من الآيات الحاكمة بأن تبعة كل فعل إنما هو لفاعله إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و ذلك أن الذي تحكم به الآيات في محله و لا يتخطاه لكن لما كان فاعل الفعل بحسب النظر الاجتماعي الدنيوي هو الذي تقوم به الحركة و السكون المسمى فعلا فإليه تعود تبعة الفعل من مدح أو ذم أو ثواب أو عقاب دنيويين و أما بحسب النظر الحقيقي ففاعل الفعل الأصل الذي يسانخه الفعل و يناسبه و هو غير من قامت به الحركات و السكنات المسماة فعلا، و رجوع هذا الفعل و ما له من الآثار الحسنة أو السيئة إلى هذا الأصل ليس من رجوع تبعة الفعل إلى غير فاعله حتى تناقضه الآيات الكريمة فهذا الحكم الباطني الذي يسميه (عليه السلام) حكما ملكوتيا في طول الحكم الظاهري الذي نألفه في حياتنا الاجتماعية.
و إذا كان يوم القيامة هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر و تظهر فيه الحقائق و لا يحتجب الحق فيه بشيء كما مرت الإشارة إليه كرارا - كان هو مجلى هذا الحكم الملكوتي الذي يلحق كل حكم بحقيقة موضوعه فيرجع به كل شيء إلى أصله قال تعالى: {وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}: الزمر: ٤٧، و قال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ}: ق: ٢٢، و قال: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}: الطور: ٢١، و قال: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}: العنكبوت: ١٣.
و من هنا يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الملكوتي بيوم القيامة مع أن البرزخ و هو ما بين الموت و البعث أيضا من ظروف المجازاة و من أيام الله، و ذلك لأن الظاهر من كلامه تعالى أن البرزخ من تتمة المكث الأرضي محسوب من الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}: المؤمنون: ١١٤، و قوله: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ}: الروم: ٥٦.
فالحياة البرزخية كأنها من بقايا الحياة الدنيوية محكومة ببعض أحكامها، و الناس فيها بعد في طريق التصفية و التخلص إلى سعادتهم و شقاوتهم، و الحكم الفصل الذي يحتاج إلى السنخ الخالص و الذات الممحوضة بعد هذه الحياة.
و من هنا يظهر أيضا سر ما يظهر في القرآن و الحديث أن الله سبحانه يجازي الكفار جزاء حسناتهم التي أتوا بها في الدنيا. و أما في الآخرة فأعمالهم فيها حبط، و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، و ليس لهم فيها إلا النار فافهم ذلك.
و قوله (عليه السلام): {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} تعليل منه لما بينه من الحكم الملكوتي بالآية، و ذلك أن السؤال عن شيء سواء كان فعلا فعله فاعل أو قضى به قاض أو خبرا أخبر به مخبر إنما هو طلب من الفاعل أو القاضي أو المخبر أن يبين مطابقة ما أتى به الواقع و يطبقه على الحق فإن ما نأتي به من الأمر إنما هو محاذاة منا للواقع الحق و لا ينقطع السؤال إلا إذا بين لنا وجه الحق فيه و كونه مطابقا للواقع أما إذا كان الفعل الذي أتى به أو الحكم الذي حكم به أو الخبر الذي أخبر به مثلا نفس الواقع بلا واسطة فلا معنى للسؤال البتة.
فإذا سألك سائل مثلا: لم ضربت اليتيم؟ أو لم قضيت أن المال لزيد؟ أو من أين أخبرت أن زيدا قائم؟ لم ينقطع السؤال دون أن تقول مثلا: ضربته للتأديب، و أن تقول إن زيدا ورثه عن أبيه مثلا و أن تريه زيدا و هو قائم مثلا، و هذا هو الحق الواقع المسئول عنه، و أما كون الأربعة زوجا، أو كون العشرة أكبر من الخمسة أو بطلان حياة زيد لو جز رأسه من بدنه مثلا فهذه الأمور نفس الواقع الحق و لا معنى لأن يسأل عن الأربعة لم صارت زوجا؟ أو عن العشرة لم صارت أكبر من الخمسة؟ أو عن فعل من الأفعال أو أثر من الآثار و عنده فاعله و غايته لم كان كما كان؟ أو لم فعل سببه التام ما فعل؟ فإن ذلك هذر.
و الله سبحانه فعله نفس الواقع الحق، و قوله نفس العين الخارجية و لا ينتهي إلى غيره فلا معنى للسؤال عنه بلم و كيف. و جميع القضايا الحقة التي نطبق عليها عقائدنا أو أفعالنا لتكون حقة إنما هي مأخوذة من الخارج الذي هو فعله فلا تحكم في شيء من فعله، و إنما تلازم بوجه فعله ملازمة التابع للمتبوع و المنتزع للمنتزع منه فافهم،
و بتقرير آخر الفعل الإلهي إنما يظهر بالأسباب الكونية فهي بمنزلة الآلات و الأدوات لا يظهر له فعل إلا بتوسطها، و السائل إنما يسأل عن فعل من أفعاله لجهله بالأسباب مثلا إذا مات زيد بسقوط حائط عليه بغتة سأل سائل: لم أهلك الله زيدا و لم يرحم شبابه و لا أبويه المسكينين؟ فإذا أجيب بانهدام الحائط عليه نقل السؤال إلى أنه لم هدم عليه الحائط؟ فإذا أجيب بأن السماء أمطرت فاسترخت أصله و مال به الثقل فسقط و كان تحته زيد فمات به، نقل السؤال إلى أمطار السماء و هلم جرا، و لا يقع السؤال إلا على أثر مجهول العلة، و أما الأثر المعلوم العلة فلا يقع عنه سؤال و ليس إلا أن السائل بجهله يقدر لزيد حياة مستندة إلى علل ليس بينها هذه التي فاجأته بسلسلتها فتوهم أن الله سبحانه فعل به ما فعل جزافا من غير سبب و لذلك بادر إلى السؤال و لو أحاط بعلل الحوادث لم يسأل قط، و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} إلخ، في البحث عن اعتراضات إبليس في محاورته الملائكة.
و قوله (عليه السلام): حكم الله و حكم أنبيائه إلخ، أي قضاؤه تعالى و قضاء أنبيائه بإذنه فإنه تعالى إنما يقضي و يحكم الحكم الحق الذي بحسب حقيقة الأمر و باطنه لا بحسب الظاهر كما نحكم عليه بالاعتماد على الشواهد و الأمارات.
فقد تبين معنى لحوق الحسنات و آثارها للذوات الطيبة و سنخ النور، و لحوق السيئات و آثارها للسنخ الظلمة و الفساد و الذوات الخبيثة، و يتبين بما تبين من معنى قوله {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ}، الجواب عن شيء آخر ربما يختلج بالبال في بادئ النظر و هو أنه لم اختصت الذوات الطيبة و سنخ النور بالحسنات و آثارها، و الذوات الخبيثة و سنخ الظلمة بخلافها؟ و لم استعقبت الحسنات النعمة الدائمة و الجنة الخالدة و استعقبت السيئات النقمة و النار.
و الجواب: أنها آثار واقعية عن روابط خارجية كما تقدم بيانه في البحث عن نتائج الأعمال لا أحكام وضعية اعتبارية و إن بينت في لسان الشرع بنظائر ما تبين به تبعات أحكامنا الوضعية الاعتبارية الواقعة في ظرف الاجتماع الإنساني تتميما لنظام التشريع.
إذا عرفت ذلك علمت أن هذه الاختصاصات ترجع إلى روابط تكوينية بين ذوات
الأشياء و آثارها الذاتية و لا سؤال في الذاتيات غير أنك ينبغي أن تتذكر ما تقدم أن لزوم حكم لذات من الذوات ليس معناه استقلال ذاته باقتضاء ذلك الحكم و الأثر، و استغناؤه عن الله سبحانه في إيجابه و ضمه لنفسه فهذا مما يدفعه البيان الإلهي في كتابه بل معناه لزومه لفعله الحق و لا سؤال عن ذلك كما اتضح معناه.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}: الأعراف: ٥٨، فإنما هو مثل مضروب لاقتضاء الذوات، و إنما قيده بقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} دفعا لتوهم اللزوم الذاتي بمعنى استقلال الذوات في التأثير مستغنية عنه تعالى، و في هذا المعنى ما ورد من قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): جف القلم بالسعادة لمن آمن و اتقى.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٣٧ الی ٥٣]
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ٣٧ قَالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ ٣٨ وَ قَالَتْ أُولاَهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٣٩ إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ وَ لاَ يَدْخُلُونَ
اَلْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيَاطِ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُجْرِمِينَ ٤٠لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ ٤١ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٤٢ وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاَ أَنْ هَدَانَا اَللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ وَ نَادى أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابَ اَلنَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ ٤٤ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ٤٥ وَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ ٤٦ وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ اَلنَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٤٧ وَ نَادى أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ٤٨ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ٤٩ وَ نَادى أَصْحَابُ اَلنَّارِ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ
أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ اَلْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٥٠اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَ مَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ٥١ وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥٢ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٥٣}
بيان
الآية الأولى تفريع و استخراج من الخطاب العام الأخير المصدر بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} نظير التفريعات المذكورة لسائر الخطابات العامة السابقة، و ما يتلوها بيان لما يستتبعه الكذب على الله و تكذيب آياته من سوء العاقبة، و الإيمان بالله و العمل الصالح من السعادة الخالدة إلا آيتين من آخرها فإن فيهما رجوعا إلى أول الكلام و بيانا لتمام الحجة عليهم بنزول الكتاب.
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} تفريع على ما تتضمنه الآية السابقة من إعلام الشريعة العامة المبلغة بواسطة الرسل أي إذا كان الأمر على ذلك و قد أبلغ الله دينه العام جميع أولاد آدم و أخبر بما أعده من الجزاء للأخذ به و تركه فمن أظلم ممن استنكف عن ذلك إما بافتراء الكذب على الله، و نسبة دين إليه، و وضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد، و قد أخبر الله أنهم وسائط بينه و بين خلقه في تبليغهم دينه، و إما بالتكذيب لآياته الدالة على وحدانيته و ما يتبعه من الشرائع.
و من هنا يظهر أن افتراء الكذب على الله و إن كان يعم كل بدعة في الدين أصوله و فروعه غير أن المورد هو الشرك بالله باتخاذ آلهة دون الله، و يدل عليه ما سيأتي من قوله: {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ}.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} إلى آخر الآية. المراد بالكتاب ما قضي و كتب أن يصيب الإنسان من مقدرات الحياة من عمر و معيشة و غنى و صحة و مال و ولد و غير ذلك، و الدليل عليه تقييده بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} إلخ، و المراد به أجل الموت، و من المعلوم أنه غاية للحياة الدنيا بجميع شئونها و مقارناتها.
و المراد بالنصيب من الكتاب السهم الذي يختص كل واحد منهم من مطلق ما كتب له و لغيره، و في جعل النصيب من الكتاب هو الذي ينالهم، و الأمر منعكس بحسب الظاهر دلالة على أن النصيب الذي فرض للإنسان و قضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتة و ما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتة.
و المعنى: أولئك الذين كذبوا على الله بالشرك أو كذبوا بآياته بالرد لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب، و نصيبهم ما قضي في حقهم من الخير و الشر في الحياة الدنيا حتى إذا قضوا أجلهم و جاءتهم رسلنا من الملائكة و هم ملك الموت و أعوانه نزلوا عليهم و هم يتوفونهم و يأخذون أرواحهم و نفوسهم من أبدانهم سألوهم و قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله من الشركاء الذين كنتم تدعون أنهم شركاء الله فيكم و شفعاؤكم عنده؟ قالوا ضلوا عنا و إنما ضلت أوصافهم و نعوتهم، و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بمعاينة حقيقة الأمر أن غير الله سبحانه لا ينفع و لا يضر شيئا، و قد أخطئوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم.
و في مضمون الآية جهات من البحث تقدمت في نظيرة الآية من سورة الأنعام و غيرها.
قوله تعالى: {قَالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة و إن كانوا في وسائط في التوفي و غيره، و المخاطبون بحسب سياق اللفظ هم بعض الكفار و هم الذين توفيت قبلهم أمم من الجن و الإنس إلا أن الخطاب في معنى: ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم و لاحقوكم و إنما نظم الكلام هذا
النظم ليتخلص به إلى ذكر التخاصم الذي يقع بين متقدميهم و متأخريهم، و قد قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ}: ص: ٦٤.
و في الآية دلالة على أن من الجن أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم.
قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} هذا من جملة خصامهم في النار و هو لعن كل داخل من تقدم عليه في الدخول،
اللعنهو الإبعاد من الرحمة و من كل خير و الأختالمثل.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} إلى آخر الآيتين، اداركوا أي تداركوا أي أدرك بعضهم بعضا اللاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعا.
و المراد بالأولى و الأخرى اللتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإن الأولى منهم مقاما و هم رؤساء الضلال، و أئمة الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال، و كذا الأولى منهم زمانا و هم الأسلاف المتقدمون أعانوا متأخريهم على ضلالتهم لأنهم هم الذين جرءوهم بفتح الباب لهم و تمهيد الطريق لسلوكهم.
و الضعف بالكسر فالسكون ما يكرر الشيء فضعف الواحد اثنان و ضعف الاثنين أربعة غير أنه ربما أريد به ما يوجب تكرار شيء آخر فقط كالاثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان و ضعفاه أربعة، و ربما أريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شيء كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لأنهما يصيران بذلك اثنين فكل واحد من جزئي الاثنين ضعف و هما جميعا ضعفان نظير الزوج فالاثنان زوج و هما زوجان و على كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى، قال تعالى كما في هذه الآية {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} و قال تعالى: {ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذَابِ}.
و قوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا} إلخ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معللا بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالإشارة إلى الملزوم و إفادة الملازمة، و فيه مع ذلك نوع من الإيجاز فإن فيه اكتفاء بمحاورة واحدة عن محاورتين، و التقدير قالت أخراهم لأولاهم
أنتم أشد ظلما منا لأنكم ضالون في أنفسكم و قد أضللتمونا فليعذبكم الله عذابا ضعفا من النار، ثم رجعوا إلى ربهم بالدعاء عليهم و قالوا {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً}.. إلخ، فأجابهم الله و قال {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ}، ثم أجابتهم أولاهم و قالوا: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} إلخ.
فمعنى الآية: {حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا} و اجتمعوا بلحوق أخراهم لأولاهم {فِيهَا} أي في النار تخاصموا «و {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} و هم اللاحقون مرتبة أو زمانا من التابعين {لِأُولاَهُمْ} و هم الملحوقون المتبوعون من رؤسائهم و أئمتهم، و من آبائهم و الأجيال السابقة عليهم زمانا الممهدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذبوا بأشد من عذابنا فسألوا ربهم ذلك و قالوا: {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ} يكون ضعف عذابنا لأنهم ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم بالإعانة {قَالَ} الله سبحانه {لِكُلٍّ} من الأولى و الأخرى {ضِعْفٌ} من العذاب» أما أولاكم فإنهم ضلوا و أعانوكم على الضلال، و أما أنتم فإنكم ضللتم و أعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم و إجابة دعوة الرؤساء منهم، و تكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم {وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ} فإن العذاب إنما يتحقق أو يتم في مرحلة الإدراك و العلم. و أنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب و إحاطة النار فتتوهمون أن عذابهم مثل عذابكم و ليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه و الشعور به كما أنهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم و عندهم من العذاب ضعف و لكن إحاطة العذاب شغلكم عن العلم بذلك.
و هذا خطاب إلهي مبني على القهر و الإذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أولاهم و أخراهم جميعا فتعود به أولاهم لأخراهم بالتهكم و تقول كما حكى الله: {وَ قَالَتْ أُولاَهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} بخفة العذاب {فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا من الذنوب و الآثام.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ} إلى آخر الآية. السم هو الثقب و جمعه السموم، و الخياط و المخيط الإبرة.
و الذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج
أدعيتهم و صعود أعمالهم و دخول أرواحهم غير أن تعقيبه بقوله: {وَ لاَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ} إلخ، كالقرينة على أن المراد نفي أن يفتح بابها لدخولهم الجنة فإن ظاهر كلامه سبحانه أن الجنة في السماء كما هو في قوله: {وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ}: الذاريات: ٢٢.
و قوله: {حَتَّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيَاطِ} من التعليق بالمحال و إنما يعلق الأمر بالمحال كناية عن عدم تحققه و إياسا من وجوده كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب و يبيض الفأر، و قد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى: {وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ}: البقرة: ١٦٧، و الآية في معنى تعليل مضمون الآية السابقة، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} إلخ. جهنم اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب، و قد قيل: إنه مأخوذ من قولهم «بئر جهنام» أي بعيدة القعر و قيل: فارسي معرب، و المهاد الوطاء الذي يفترش، و منه مهد الصبي و الغواشي جمع غاشية و هي ما يغشى الشيء و يستره و منه غاشية السرج.
و قد أفيد بقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أنهم محاطون بالعذاب من تحتهم و من فوقهم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلخ. الآية و ما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفار و المؤمنين، و لتكون كالتوطئة لقوله الآتي: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابَ اَلنَّارِ} إلخ.
و قوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} مسوق للتخفيف و تقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإن تقييد الإيمان بعمل الصالحات و الصالحات جمع محلى باللام و هو يفيد الاستغراق يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتى لا يشذ عنها شاذ، و ما أقل من وفق لذلك من طبقة أهل الإيمان و يسد ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أن التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه أن يعمله من غير أن يشق على نفسه و يتحمل ما لا طاقة له به بعد الإيمان بالله فهو من أهل هذه الآية، و من أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ} الغلهو الحقد و ضغن القلوب و عداوتها، و في مادتها معنى التوسط باللطف و الحيلة و منه
الغلالة و هي الثوب المتوسط بين الدثار و الشعار، و غل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الإنسان، و ما من إنسان يعاشر إنسانا و يأتلف به إلا و ائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه و يريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جأش صدره بالغل و راحت الألفة و تنغصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغل الصدور لم يسؤ الإنسان ما يشاهده من أليفه على الإطلاق و هي اللذة الكبرى و في قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ} إشارة إلى أنهم ساكنون في قصورها العالية.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا إلى قوله {بِالْحَقِّ} في نسبة التحميد إليهم دلالة على أن الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل و لا عمل سيء كما قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً}: الواقعة ٢٦، فيصح منهم تحميد الله سبحانه و يقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه و يقع موقعه بذلك المبتذل حتى يناله كل نائل، قال تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ}: الصافات: ١٦٠، و قد تقدم القول في معنى الحمد و خصوصية حمده تعالى في تفسير سورة الحمد.
و في قولهم: {هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاَ أَنْ هَدَانَا اَللَّهُ} إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شيء.
و في قولهم: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} اعتراف بحقية ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه، و هو الذي يأخذون الاعتراف به من أصحاب النار على ما تقصه الآية التالية، و في هذا الاعتراف و سائر الاعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة و الكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر و تمام الربوبية، و يكون ذلك من أهل الجنة شكرا، و من أهل النار تماما للحجة.
و اعتراف أهل الجنة بحقية ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنية و إن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطا مبتذلا، و لعلنا نوفق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات.
قوله تعالى: {وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الإشارة بلفظ البعيد {تِلْكُمُ} إشارة إلى رفعة قدر الجنة و علو مكانها فإن ظاهر السياق كما
قيل إن النداء إنما هو حين كونهم في الجنة، و قد جعلت الجنة إرثا لهم في قبال عملهم. و إنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به و هو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال: ورث فلان أباه أي مات و ترك مالا بقي له، و العلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم، و يرث الله الأرض أي إنه كان خولهم ما بها من مال و نحوه و سوف يموتون فيبقى له ما خولهم.
و على هذا فكون الجنة إرثا لهم أورثوها معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن و الكافر جميعا غير أن الكافر زال عنها بشركه و معاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله، و لو لا عمله لم يرثها، قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ}: المؤمنون: ١١.
و قال تعالى: حكاية عن أهل الجنة: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}: الزمر: ٧٤.
و هذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات، إذ قال: الوراثة و الإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد، و سمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثة ميراث و إرث و تراث فقلبت الواو ألفا و تاء قال: {وَ تَأْكُلُونَ اَلتُّرَاثَ}، و قال (عليه السلام): اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم أي أصله و بقيته. قال الشاعر:
فنظر في صحف كالرباط | *** | فيهن إرث كتاب محي |
قال: و يقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا و يقال لكل من خول شيئا مهنئا: أورث، قال تعالى: {تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}، {أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ}. و قوله: {وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فإنه يعني وراثة النبوة و العلم و الفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال و يملكونه أ لا ترى أنه قال (عليه السلام): «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» نصب على الاختصاص فقد قيل: ما تركناه هو العلم و هو صدقة يشترك فيها الأمة، و ما روي عنه (عليه السلام) من قوله: «العلماء ورثة الأنبياء» فإشارة إلى ما ورثوه من العلم و استعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن و لا منة: و قال لعلي رضي الله عنه: أنت أخي و وارثي. قال: و ما إرثك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي كتاب الله و سنتي،
و وصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إلى الله تعالى انتهى كلامه.
و إنما كان ما قدمناه أوضح مما ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادة.
قوله تعالى: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابَ اَلنَّارِ} إلى آخر الآية. هذا في نفسه أخذ اعتراف من أصحاب النار بتوسط أصحاب الجنة و واقع موقع التهكم و السخرية يتهكم و يسخر به أصحاب الجنة من أصحاب النار. و الاستهزاء و السخرية إنما يكون من اللغو الباطل إذا لم يتعلق به غرض حق كالاستهزاء بالحق و أهله أما إذا كان لغرض المقابلة و المجاراة أو لغرض آخر حق من غير محذور فليس من قبيل اللغو الذي لا يصدر عن أهل الجنة قال تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام): {وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}: هود: ٣٨، و قال: {إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَ إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} إلى أن قال {فَالْيَوْمَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ اَلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}: المطففين: ٣٤.
و أما الفرق بين قولهم: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} و قولهم: {مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} حيث ذكر المفعول في الوعد الأول دون الثاني فلعل ذلك للدلالة على نوع من التشريف فإن الظاهر أن المراد بما وعد الله جميع ما وعده من الثواب و العقاب لعامة الناس.
و هناك وجه آخر و هو أن متعلق اعتراف المؤمنين و إنكار الكفار من أمر المعاد مختلف في الدنيا فإن المؤمنين يثبتون البعث بجميع خصوصياته التي بينها الله لهم و وعدها إياهم، و أما الكفار المنكرون فإنهم ينكرون أصل البعث الذي اشترك في الوعد به المؤمنون و الكفار جميعا، و لذلك احتج الله سبحانه و يتم الحجة عليهم بأصله دون خصوصياته كقوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قَالَ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى وَ رَبِّنَا»}: الأنعام: ٣٠، و قوله: {وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى وَ رَبِّنَا}: الأحقاف: ٣٤.
و على هذا فقولهم: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} اعتراف منهم بحقية ما وعدهم الله و كانوا يذعنون به و يشهدون من جميع خصوصيات البعث بما قصهم الله في
الدنيا بلسان أنبيائه، و أما الكفار فقد كانوا ينكرون أصل البعث و العذاب، و هو مما يشتركون فيه هم و المؤمنون فلذا قيل: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} و لم يقل ما وعدكم ربكم لأن الوعد بأصل البعث و العذاب لم يكن مختصا بهم.
و بذلك يظهر الجواب عما قيل: إن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد على ما ذكره المتكلمون فما معنى أخذ الاعتراف بحقية ما ذكره الله من عقاب الكفار و المجرمين و أنذرهم به في الدنيا، و ليس تحققه بلازم.
و ذلك أن الملاك فيما ذكروه من الفرق أن الثواب حق العامل على ولي الثواب الذي بيده الأمر، و العقاب حق الولي المثيب على العامل، و من الجائز أن يصرف الشخص نظره عن إعمال حق نفسه لكن لا يجوز إبطال حق الغير فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، و هذا إنما يتم في موارد الوعيد الخاصة و مصاديقه في الجملة، و أما عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب و إبطال أساس المجازاة على التخلف فليس كذلك إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله و إخلال النظام العام.
و ربما وجه الفرق في قوليه: {وَعَدَنَا رَبُّنَا} {وَعَدَ رَبُّكُمْ} بأن المراد بقوله: {وَعَدَنَا} ما وعد الله المتقين من خصوصيات ما يعاملهم به يوم القيامة، و بقوله: {وَعَدَ رَبُّكُمْ} عموم ما وعد به المؤمنين و الكفار من الثواب و العقاب يوم القيامة كالذي في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} إلى آخر الآيتين. و من المعلوم أن هذا الوعد لا يختص بالكفار حتى يقال: وعدكم ربكم بل التعبير الحق وعد ربكم.
و فيه: أن أصل الفرق لا بأس به لكنه لا يقطع السؤال فللسائل أن يعود فيقول ما هو السبب الفارق في أن أصحاب الجنة لما أوردوا اعتراف نفسهم اقتصروا بذكر ما يخصهم من أمور يوم القيامة، و أما إذا سألوا أصحاب النار سألوهم عن جميع ما وعد الله به المؤمنين و الكفار؟ و بعبارة أخرى هناك ما يشترك فيه الطائفتان و ما يختص به كل منهما فما بالهم إذا اعترفوا هم أنفسهم اعترفوا بما يختص بأنفسهم و يسألون أصحاب النار الاعتراف بما يشترك فيه الجميع؟
و ربما وجه الفرق بأن المراد بقوله {مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} الذي وعده أصحاب الجنة من أنواع الثواب الجزيل فإن أصحاب النار يشاهدون ذلك كما يجدون ما بهم من أليم
العقاب. و هو وجه سخيف على سخافته لا يغني طائلا.
و قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ} تفريع على تحقق الاعتراف من الطائفتين جميعا على حقية ما وعده الله سبحانه، و الأذان هو قوله: {لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ} و هو إعلام عام للفريقين و الدليل عليه ظاهر قوله: {بَيْنَهُمْ} بقضاء اللعنة و هي الإبعاد و الطرد من الرحمة الإلهية على الظالمين و قد فسر الظالمين الذين ضربت عليهم باللعنة بقوله: {اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} فهم الكافرون المنكرون للآخرة الذين يصدون عن سبيل الله محرفة منحرفة، و يصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحق المنكرون للمعاد.
و هذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحق الكافرين بالجزاء حتى المنكرين للصانع الذين لا يدينون بدين فإن الله سبحانه يذكر في كتابه أن دينه و سبيله الذي يهدي إليه و به هو سبيل الإنسانية الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية و الخلقة خص بها الإنسان ليس وراءه إسلام و لا دين.
فالسبيل الذي يسلكه الإنسان في حياته هو سبيل الله و صراطه و هو الدين الإلهي فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة و هو الذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم و الإسلام الذي هو الدين عند الله و سبيل الله الذي لا عوج فيه، و إن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان بألوهية و عبادة لمعبود كالملل و الأديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشيء و عبادة لمعبود كالمادية المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجا و هو الإسلام محرفا عن وجهه، و نعمة الله التي بدلت كفرا، فافهم ذلك.
و قد أبهم الله هذا الذي يخبر عنه بقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} و لم يعرفه من هو؟ أ من الإنس أم من الجن أم من الملائكة؟ لكن الذي يقتضيه التدبر في كلامه تعالى أن يكون هذا المؤذن من البشر لا من الجن و لا من الملائكة: أما الجن فلم يذكر في شيء من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدى الجن شيئا من التوسط في أمر الإنسان من لدن وروده في عالم الآخرة و هو حين نزول الموت إلى أن يستقر في جنة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجن.
و أما الملائكة فإنهم وسائط لأمر الله و حملة لإرادته بأيديهم إنفاذ الأوامر الإلهية،
و بوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، و قد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم و حكمهم في عالم الموت و في جنة الآخرة و نارها كقولهم للظالمين حين القبض: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} الخ: الأنعام: ٩٣ و قولهم لأهل الجنة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ} الخ: النحل: ٣٢ و قول مالك لأهل النار: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} الخ: ، الزخرف: ٧٧، و نظائر ذلك.
و أما المحشر و هو حظيرة البعث و السؤال و الشهادة و تطاير الكتب و الوزن و الحساب و الظرف الذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شيء من الحكم أو الأمر و النهي و لا لغيرهم صريحا إلا ما صرح تعالى به في حق الإنسان.
كقوله تعالى في أصحاب الأعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم: {وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} و قولهم لجمع من المؤمنين هناك: {اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} و هذا حكم و أمر و تأمين بإذن الله، و قوله تعالى فيما يصف يوم القيامة: {قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ}: النحل: ٢٧ و قوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدة لبثهم في الأرض: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}: الروم: ٥٦.
فهذه جهات من تصدي الشئون، و القيام بالأمر يوم القيامة حبا الله الإنسان به دون الملائكة مضافا إلى أمثال الشهادة و الشفاعة اللتين له.
فهذا كله يقرب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذن من الإنسان دون الملائكة، و يأتي في البحث الروائي ما له تعلق بالمقام.
قوله تعالى: {وَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} الحجاب معروف و هو الستر المتخلل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر. و الأعراف الحجاب، و التلال من الرمل و العرف للديك و للفرس و هو الشعر فوق رقبته و أعلى كل شيء ففيه معنى العلو على أي حال، و ذكر الحجاب قبل الأعراف، و ما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع و ندائهم أهل الجنة و النار جميعا كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بالأعراف أعالي الحجاب الذي بين الجنة و النار و هو المحل المشرف على الفريقين أهل الجنة و أهل النار جميعا.
و السيماء العلامة قال الراغب: السيماء و السيمياء العلامة، قال الشاعر:
له سيمياء لا تشق على البصر | *** | ... |
و قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} و قد سومته أي أعلمته، و مسومين أي معلمين (انتهى).
و الذي يعطيه التدبر في معنى هذه الآية و ما يلحق بها من الآيات أن هذا الحجاب الذي ذكره الله تعالى إنما هو بين أصحاب الجنة و أصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله: {وَ بَيْنَهُمَا} و قد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين و المؤمنين يوم القيامة بقوله: {يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذَابُ}: الحديد: ١٣، و إنما هو حجاب لكونه يفرق بين الطائفتين و يحجب إحداهما عن الأخرى لا أنه ثوب منسوج مخيط على هيئة خاصة معلق بين الجنة و النار.
ثم أخبر الله سبحانه أن على أعراف الحجاب و أعاليه رجالا مشرفين على الجانبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلا من الطائفتين أصحاب الجنة و أصحاب النار بسيماهم و علامتهم التي تختص بهم.
و لا ريب في أن السياق يفيد أن هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متمايزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإنسان كالملائكة أو الجن مثلا، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلق بهم من السؤال و الحساب و سائر الشئون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، و أصحاب النار، و أصحاب الأعراف كما قسمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث: المؤمنين و الكفار و المستضعفين الذين لم تتم عليهم الحجة و قصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء و الأطفال غير البالغين و الشيخ الهرم الخرف و المجنون و السفيه و أضرابهم، أو لكونهم مرتفعين عن موقف أهل الجمع بمكانتهم؟
لا ريب أن إطلاق لفظ {رِجَالٌ} لا يشمل الملائكة فإنهم لا يتصفون بالرجولية و الأنوثية كما يتصف به جنس الحيوان و إن قيل: إنهم ربما يظهرون في شكل الرجال فإن ذلك لا يصحح الاتصاف و التسمية، على أنه لا دليل يدل عليه.
ثم إن التعبير بمثل قوله: {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ} إلخ، و خاصة بالتنكير يدل بحسب عرف اللغة على اعتناء تام بشأن الأفراد المقصودين باللفظ نظرا إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الإنسان القوي في تعقله و إرادته الشديد في قوامه.
و على ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ}: النور: ٣٧، و قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}: التوبة: ١٠٨، و قوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ»}: الأحزاب: ٢٣، و قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ}: يوسف: ١٠٩ حتى في مثل قوله: {مَا لَنَا لاَ نَرىَ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ}: _ ص: ٦٢، و قوله: {وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ}: الجن: ٦.
فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، و إن فرض أن فيهم أفرادا من النساء كان من التغليب.
و أما المستضعفون فإنهم ضعفاء أفراد الإنسان لا مزية في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، و فيهم النساء و الأطفال حتى الأجنة، و لا فضل لبعضهم على بعض، و لرجالهم على غيرهم حتى يعبر به عنهم بالرجال تغليبا فلو كانوا هم المرادين بقوله {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ} إلخ، لكان حق التعبير أن يقال: قوم يعرفون إلخ، أو أناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}: الأعراف: ١٦٤، و قوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}: الأعراف: ٨٢، و قوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ كَفَرَتْ طَائِفَةٌ}: الصف: ١٤.
على أن ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الأوصاف و يذكرهم به من الشئون أمور تأبى إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة و المكانة، و أصحاب القرب و الزلفى فضلا أن يكونوا من الناس المتوسطين فضلا أن يكونوا من المستضعفين.
فأول ذلك: أنهم جعلوا على الأعراف و وصفوا بأنهم مشرفون على أهل الجمع عامة، و مطلعون على أصحاب الجنة و أصحاب النار يعرفون كل إنسان منهم بسيماه الخاص به و يحيطون بخصوصيات نفوسهم و تفاصيل أعمالهم، و لا ريب أن ذلك منزلة رفيعة يختصون بها من بين الناس، و ليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة و خاصة بعد دخول
الجنة و النار أمرا عاما موجودا عند الجميع فإن الله يقول حكاية عن قول أهل النار: {مَا لَنَا لاَ نَرىَ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ}: ص: ٦٢، و قولهم: {رَبَّنَا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ}: حم السجدة: ٢٩، و قال: {لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}: عبس: ٣٧.
و ليس معنى السيماء أن يعلم المؤمنون و الكفار بعلامة عامة يعرف صنفهم بها كل من شاهدهم كبياض الوجه و سواده مثلا فإن قوله تعالى في الآية التالية: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ} يفيد أنهم ميزوا خصوصيات من أحوالهم و أعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع و قد أقسموا كذا و كذا، و هذه أمور وراء الكفر و الإيمان في الجملة.
و ثانيا: أنهم يحاورون الفريقين فيكلمون أصحاب الجنة و يحيونهم بتحية الجنة، و يكلمون أئمة الكفر و الضلال و الطغاة من أهل النار فيقرعون عليهم بأحوالهم و أقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، و ليس التكلم بمجاز يومئذ إلا للأوحدي من عباد الله الذين لا ينطقون إلا بحق، قال تعالى: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً}: النبأ: ٣٨، و هذا وراء ما يناله المستضعفون.
و ثالثا: أنهم يؤمنون أهل الجنة بالتسليم عليهم ثم يأمرونهم بدخول الجنة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية.
و رابعا: أنه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم و ما يحاورون به أصحاب الجنة و الجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شيء من آثار الفزع و القلق عليهم و لا اضطراب في أقوالهم، و لم يذكر أنهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال التي تجعل الأفئدة هواء و الجبال سرابا، و قد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ}: الصافات: ١٢٨، فجعل ذلك من خاصة مخلصي عباده، ثم استثناهم من كل هول أعد ليوم القيامة.
ثم إنه تعالى ذكر دعاءهم في قوله: {وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ اَلنَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} و لم يعقبه بالرد فدل ذلك على أنهم مجازون فيما
يتكلمون به مستجاب دعاؤهم، و لو لا ذلك لعقبه بالرد كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع و مسائل أصحاب النار و أدعية أخرى من غيرهم.
فهذه الخصوصيات التي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبر فيها و أخرى تتبعها لا تبقي ريبا للمتدبر في أن هؤلاء الذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله: {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ} جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاما و أعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة و لهم أن يشهدوا، و لهم أن يشفعوا، و لهم أن يأمروا و يقضوا.
و أما أنهم من الإنس أو من الجن أو من القبيلين مختلطين؟ فلا طريق من اللفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئا من كلامه تعالى لا يدل على تصدي الجن شيئا من شئون يوم القيامة و لا توسطا في أمر يعود إلى الحكم الفصل الذي يجري على الإنسان يومئذ كالشهادة و الشفاعة و نحوهما.
و لا ينافي ما قدمناه من أوصافهم و نعوتهم أمثال قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}: الانفطار: ١٩، فإن الآية مفسرة بآيات أخرى تدل على أن المراد بها إنما هو ظهور ملكه تعالى لكل شيء و إحاطته بكل أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنه مالك على الإطلاق دائما لا وقتا دون وقت، و لا يملك نفس لنفس شيئا دائما لا في الآخرة فحسب لنفسه؟ و الملائكة على وساطتهم يومئذ، و الشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، و الشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ و قد نص على ذلك كلامه تعالى قال: {وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}: الأنبياء: ١٠٣، و قال: {يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ}: المؤمن: ٥١، و قال: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: الزخرف: ٨٦.
فلله سبحانه الملك يومئذ و له الحكم يومئذ، و لغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أن الذي يختص به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، و حضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطإ أو بطلان.
و قد اشتد الخلاف بينهم في معنى الآية حتى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف:
١ - فمن قائل: أنه شيء مشرف على الفريقين.
٢ - و قيل: سور له عرف كعرف الديك.
٣ - و قيل: تل بين الجنة و النار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.
٤ - و قيل: السور الذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين و المنافقين إذ قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ}.
٥ - و قيل: معنى الأعراف التعرف أي على تعرف حال الناس رجال.
٦ - و قيل: هو الصراط.
ثم اختلفوا في الرجال الذين على الأعراف على أقوال أنهيت إلى اثني عشر قولا:
١ - أنهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله.
٢ - أنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة و لا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة و النار ثم يدخلهم الجنة برحمته.
٣ - أنهم أهل الفترة.
٤ - أنهم مؤمنوا الجن.
٥ - أنهم أولاد الكفار الذين لم يبلغوا في الدنيا أوان البلوغ.
٦ - أنهم أولاد الزنا.
٧ - أنهم أهل العجب بأنفسهم.
٨ - أنهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلا بسيماهم، و إذا أورد عليهم أن الملائكة لا تتصف بالرجولية و الأنوثية قالوا: إنهم يتشكلون بأشكال الرجال.
٩ - أنهم الأنبياء (عليه السلام) يقامون عليها تمييزا لهم على سائر الناس و لأنهم شهداء عليهم.
١٠- أنهم عدول الأمم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم.
١١ - أنهم قوم صالحون فقهاء علماء.
١٢ - أنهم العباس و حمزة و علي و جعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، و مبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسي في روح المعاني، أن هذا
القول رواه الضحاك عن ابن عباس.
قال في المنار: و لم نره في شيء من كتب التفسير المأثور، و الظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة، و فيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة و أهل النار بسيماهم فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم فأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويين و من يبغضون عليا خاصة من المنافقين و النواصب؟ و أين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا (انتهى).
أقول: أما الرواية فلا توجد في شيء من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحاك، و قد نقله في مجمع البيان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، و سيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و أما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الأبحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن و الحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية، و يعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه، و يبقي ما لا ينطبق على النظام، الدنيوي على الجمود و هو الجزاف في الإرادة فافهم ذلك.
و لو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لأغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، و أغنى عن المسألة و الحساب، و نشر الدواوين، و نصب الموازين، و حضور الأعمال، و إقامة الشهود و إنطاق الأعضاء، و لأغنى بعض هذه عن بعض، و وراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع، و هو لا يسأل عما يفعل.
و كأنه فرض أن نسبة الأعراف و هي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور و الحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطراق السالكون لا يجتمع هاهنا الصراط و السور و لا يتحدان فلا يسع لأحد أن يكون سألك صراط أو واقفا عليه و واقفا على السور معا في زمان واحد، و لذلك قال: و أين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما هاهنا، و قد عرفت فساده.
ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل
المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا و يسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروبا عليه و الأعراف في الحجاب؟
على أنه فات منه أن أحد الأقوال في معنى الأعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره، عن ابن مسعود و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنه الصراط.
و أما قوله: «هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا» فأوضح فسادا فسياق هذه الأنباء الغيبية و النظم المأخوذ فيها يذكر لنا أمورا بنعوت عامة و بيانات مطلقة معانيها معلومة، و حقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى، و يوضع بعض أجزائه بعضا، و لا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الأوصاف المذكورة فيها، و لا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظا كالعدل و الميزان مثلا.
فهذه اثنا عشر قولا و يمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران:
أحدهما: أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة و لم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال و النساء و الأطفال غير البالغين، و يمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال: إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم و تعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالأطفال و المجانين و أهل الفترة و نحوهم أو لأجل استواء حسناتهم و سيئاتهم في القدر و الوزن فحكم القسمين واحد.
الثاني: أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم و من أهل الجنة لشهادتهم! و عليه رواية، و يمكن إدراجه في القول الثاني.
و الأقوال المذكورة غير متقابلة جميعا في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة و القول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شيء من الحسنات و السيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني و كذا القول بكونهم أولاد الزنا نظرا إلى أنهم لا مؤمنون و لا كفار، و كذا رجوع القول التاسع و العاشر و الحادي عشر و الثاني
عشر إلى القول الأول بوجه.
فأصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة:
أحدها: أنهم رجال من أهل المنزلة و الكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: الشهداء على الأعمال، و قيل: العلماء الفقهاء، و قيل:
غير ذلك كما مر.
و الثاني: أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة و بالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.
و الثالث: أنهم من الملائكة، و قد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، و عمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الأول من الأقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني.
قوله تعالى: {وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ} المنادون هم الرجال الذين على الأعراف على ما يعطيه السياق و قوله: {أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} يفسر ما نادوا به، و قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ} جملتان حاليتان فجملة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} من أصحاب الجنة، و جملة {وَ هُمْ يَطْمَعُونَ} حال آخر من أصحاب الجنة و المعنى: أن أصحاب الجنة نودوا و هم في حال لم يدخلوا الجنة بعد و هم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في {لَمْ يَدْخُلُوهَا} و هو العامل فيه، و المعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك و هم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف و دقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد: {أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ} إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين و أنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة.
و أما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في {نَادَوْا} فيوجب سقوط الجملة عن الإفادة كما هو ظاهر، و ذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم
على أعراف الحجاب بين الجنة و النار نادوا و هم لم يدخلوا.
و على من يميل إلى أن يجعل قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ} بيانا لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا} استئنافا يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال و التقدير: و على الأعراف رجال لم يدخلوها و هم يطمعون و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا.. إلخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف،.
لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا} دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً} إلخ، و يبعد الوصفية الفصل بين الموصوف و الصفة بقوله: {وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} من غير ضرورة موجبة.
و هذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} إلى آخر الآية، إلى قولنا: و على الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار على ما زعموا هو الذي مهد لهم الطريق و سواه للقول بأن أصحاب الأعراف رجال استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فأوقفوا على الأعراف!.
لكنك عرفت أن قوله {لَمْ يَدْخُلُوهَا} إلخ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الأعراف، و أما قوله: {وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} إلخ، فسيأتي ما في كونه بيانا لحال أصحاب الأعراف من الكلام.
قوله تعالى: {وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ اَلنَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء، و ضمير الجمع في قوله: {أَبْصَارُهُمْ} و قوله: {قَالُوا} عائد إلى {رِجَالٌ} و التعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأن الوجه فيه أن الإنسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه و خاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال و أمر العذاب و أشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس و قلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كان غيره هو الذي صرف نظره إليه و إن كان الإنسان لو خلي و طبعه لم يرغب في النظر و لو بوجه نحوه، و لذا قيل: {وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} إلخ و لم يقل
و إذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.
و معنى الآية: و إذا نظر أصحاب الأعراف أحيانا إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، و قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
و ليس دعاؤهم هذا الدعاء دالا على سقوط منزلتهم، و خوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله {وَ هُمْ يَطْمَعُونَ} و ذلك أن ذلك مما دعا به أولوا العزم من الرسل و الأنبياء المكرمون و العباد الصالحون و كذا الملائكة المقربون فلا دلالة فيه و لو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حاله و حيرة من أمره. هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى {رِجَالٌ}.
لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الإظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ} إذ الكلام في هذه الآيات الأربع جار في أوصاف أصحاب الأعراف و أخبارهم كقوله: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} إلخ، و قوله: {وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ} إلخ و قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا} إلخ، على احتمال، و قوله: {وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} إلخ، فكان من اللازم أن يقال: «و نادوا أي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم» إلخ، و ليس في الكلام أي لبس و لا نكتة ظاهرة توجب العدول من الإضمار الذي هو الأصل في المقام إلى الإظهار بمثل قوله: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ}.
فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله: {أَبْصَارُهُمْ} و قوله {قَالُوا} راجعان إلى أصحاب الجنة، و الجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة، و كل ذلك قبل دخولهم الجنة.
قوله تعالى: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله: {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أمور أخر من خصوصيات أحوالهم، و قد مرت الإشارة إليه.
و قوله: {قَالُوا مَا أَغْنىَ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} تقريع لهم و شماتة، و كشف عن تقطع الأسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق و يستذلونه و يغترون بجمعهم.
قوله تعالى: {أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ} إلى آخر الآية. الإشارة إلى أصحاب الجنة، و الاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولا أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير، و أصابه الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة و وقوع النكرة {بِرَحْمَةٍ} في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، و قد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير.
و قوله: {اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}، أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، و هذا هو الذي يفيده السياق.
و قول بعضهم في الآية: إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمن: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، و لا أنتم تحزنون من شيء ينغص عليكم حاضركم، و حذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل و في كلام العرب الخلص (انتهى). مدفوع بعدم مساعدة السياق و دلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه، و ليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أريد، و أي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام؟
كلام في معنى الأعراف في القرآن
لم يذكر الأعراف في القرآن إلا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف (٤٦ - ٤٩) و قد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنه من المقامات الكريمة الإنسانية التي تظهر يوم القيامة، و قد مثله الله سبحانه بأن بين الدارين دار الثواب و دار العقاب حجابا يحجز إحداهما من الأخرى و الحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنه مرتبط بهما جميعا و للحجاب أعراف و على الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأولين و الآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم و درجاتهم و دركاتهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، و يعرفون كلا منهم بما له من الحال الذي يخصه و العمل الذي عمله، لهم أن يكلموا من شاءوا منهم، و يؤمنوا من شاءوا، و يأمروا بدخول الجنة بإذن الله.
و يستفادوا من ذلك أن لهم موقفا خارجا من موقفي السعادة التي هي النجاة
بصالح العمل، و الشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل، و مقاما أرفع من المقامين معا و لذلك كان مصدرا للحكم و السلطة عليهما جميعا.
و لك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك و مصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، و آخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد أحاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة و ظرف الشقاوة، و الظرفان متمايزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما و يصلح شأن كل منهما و ينظم أمره و في هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين و إهداء النعم إلى أهل السعادة، و إيصال النقم إلى أهل الشقاوة، و هم مع ذلك من السعداء، و قوم آخر وراء الخدمة و العمال هم المدبرون لأمر الجميع و هم أقرب الوسائط من العرش، و هم أيضا من السعداء، فللسعادة مراتب من حيث الإطلاق و التقييد.
و ليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوما برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة و يبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم، و يدخل آخرين في ناره و دار هوانه بما عملوه من سيئاتهم و هو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، و يأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه و بين الفريقين بإجراء أوامره و أحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم و إشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شيء كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، و قد قال تعالى: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} فافهم.
بيان
قوله تعالى: {وَ نَادى أَصْحَابُ اَلنَّارِ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا} إلخ، الإفاضة من الفيض و هو سيلان الماء منصبا، قال تعالى: {تَرىَ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ} أي يسيل دمعها منصبا، و عطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالإفاضة صب مطلق النعم أعم من المائع و غيره على نحو عموم المجاز، و ربما قيل: إن الإفاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء و غيره حقيقة حينئذ.
و كيف كان ففي الآية إشعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار.
و إنما أفرز الماء و هو من جملة ما رزقهم الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم
الله لأن الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعا بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالإنسان، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً} إلى آخر الآية. اللهو ما يشغلك عما يهمك، و اللعب الفعل المأتي به لغاية خيالية غير حقيقية، و الغرور إظهار النصح و استبطان الغش، و النسيان يقابل الذكر، و ربما يستعار لترك الشيء و عدم الاعتناء بشأنه كالشيء المنسي، و على ذلك يجري في الآية، و الجحد النفي و الإنكار، و الآية مسوقة لتفسير الكافرين، و يستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أولها: أنه اتخاذ الإنسان دينه لهوا و لعبا و غرور الحياة الدنيا له، و الثاني: نسيان يوم اللقاء، و الثالث: الجحد بآيات الله، و لكل من التفاسير وجه.
و في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً} دلالة على أن الإنسان لا غنى له عن الدين على أي حال حتى من اشتغل باللهو و اللعب و محض حياته فيها محضا فإن الدين كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: {اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً} (الآية) هو طريق الحياة الذي يسلكه الإنسان في الدنيا، و لا محيص له عن سلوكه، و قد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية و دعت إليه، و هو دين الإنسان الذي يخصه و ينسب إليه، و هو الذي يهم الإنسان و يسوقه إلى غاية حقيقية هي سعادة حياته.
فحيث جرى عليه الإنسان و سلكه كان على دينه الذي هو دين الله الفطري، و حيث اشتغل عنه إلى غيره الذي يلهو عنه و لا يهديه إلا إلى غايات خيالية و هي اللذائذ المادية التي لا بقاء لها و لا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتخذ دينه لهوا و لعبا و غرته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.
و قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} أي اليوم نتركهم و لا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له و بما كانوا بآياتنا يجحدون و نظير الآية في جعل تكذيب الآيات سببا لنسيان الله له يوم القيامة قوله: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسىَ}: طه: ١٢٦، و قد بدل هناك الجحد نسيانا.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلىَ عِلْمٍ} (الآية) عود على بدء الكلام أعني قوله في أول الآيات: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي من أعظم من هؤلاء ظلما و لقد أتممنا عليهم الحجة و أقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصلناه و أنزلناه إليهم على علم منا بنزوله؟
فقوله: {عَلىَ عِلْمٍ} متعلق بقوله {لَقَدْ جِئْنَاهُمْ} و الكلمة تتضمن احتجاجا على حقية الكتاب و التقدير: و لقد جئناهم بكتاب حق: و كيف لا يكون حقا؟ و قد نزل على علم منا بما يشتمل عليه من المطالب.
و قوله: {هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي هدى و إراءة طريق للجميع و رحمة للمؤمنين به خاصة، أو هدى و إيصالا بالمطلوب للمؤمنين و رحمة لهم، و الأول أنسب بالمقام و هو مقام الاحتجاج.
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} إلى آخر الآية. الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (الآية): آل عمران: ٧ إن التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أي أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن و المثل على المثل.
فقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} معناه هل ينتظر هؤلاء الذين يفترون على الله كذبا أو يكذبون بآياته و قد تمت عليهم الحجة بالقرآن النازل عليهم، إلا حقيقة الأمر التي كانت هي الباعثة على سوق بياناته و تشريع أحكامه و الإنذار و التبشير الذين فيه؟ فلو لم ينتظروه لم يتركوا الأخذ بما فيه.
ثم يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه إلخ، أي إذا انكشفت حقيقة الأمر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقية ما جاءت به الرسل من الشرائع التي أوجبوا العمل بها، و أخبروا أن الله سيبعثهم و يجازيهم عليها.
و إذ شاهدوا عند ذلك أنهم صفر الأيدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم إما شفعاء ينجونهم من الهلاك الذي أطل عليهم أو أنفسهم، بأن يردوا إلى الدنيا فيعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملونه من السيئات و ذلك قوله حكاية عنهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ}؟
و قوله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فصل في معنى التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إما الشفعاء و إما الرد إلى الدنيا كأنه قيل: لما ذا يسألون هذا الذي يسألون؟ فقيل: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} فيما بدلوا دينهم لهوا و لعبا، و اختاروا الجحود على التسليم و قد زال عنهم الافتراءات المضلة التي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إما أنفسهم أو غيرهم ممن يشفع لهم.
و قد تقدم في مبحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن في قوله {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} دلالة على أن هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: {مِنْ شُفَعَاءَ}، و لم يقل: من شفيع فيشفع لنا.
بحث روائي
في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قوله تعالى: {وَ مَا أَضَلَّنَا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ} إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عز و جل فيهم إذ جمعهم إلى النار: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ} و قوله: «كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها يتبرأ بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا يريد أن بعضهم يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، و ليس بأوان بلوى و لا اختبار و لا قبول معذرة و لا حين نجاة.
أقول: و قوله (عليه السلام): قوله كلما دخلت أمة «إلخ» نقل للآية بالمعنى.
و في الدر المنثور في قوله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ} أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): «لا يفتح لهم» بالياء.
و فيه أخرج الطيالسي و ابن شيبة و أحمد و هناد بن السري و عبد بن حميد و أبو داود في سننه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر و لما يلحد فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و جلسنا حوله و كأن على
رؤسنا الطير، و في يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا.
ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا و إقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنة و حنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء و إن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن و في ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فتفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، و أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم و فيها أعيدهم و منها أخرجهم تارة أخرى فيعاد روحه في جسده.
فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام - فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله فيقولان له: و ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به و صدقت فينادي مناد من السماء إن صدق عبدي فافرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و افتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها و طيبها، و يفسح له في قبره مد بصره، و يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد! فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي و مالي.
قال: و إن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله
و غضب فيفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها.
فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، و يخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا تفتح له. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ}.
فيقول الله عز و جل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
فتعاد روحه في جسده، و يأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، و افتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها و سمومها، و يضيق عليه القبر حتى تختلف فيه أضلاعه.
و يأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة.
أقول: و الرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، و في معناها روايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أودعنا بعضها في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ} الخ: البقرة: ١٥٤، في الجزء الأول من الكتاب.
و في تفسير العياشي عن سعيد بن جناح قال: حدثني عوف بن عبد الله الأزدي عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث قبض روح الكافر: فإذا أوتي بروحه إلى السماء الدنيا - أغلقت منه أبواب السماء، و ذلك قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ} إلى آخر الآية. يقول الله: ردوها عليه - فمنها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم
تارة أخرى.
أقول: و روي ما في معناه في المجمع، عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تلا هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} قال: هي طبقات من فوقه، و طبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكبر أو ما تحته؟ غير أنه ترفعه الطبقات السفلى و تضعه الطبقات العليا، و يضيق عليهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح.
و فيه أخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن علي بن طالب قال: فينا و الله أهل بدر نزلت هذه الآية: {وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}.
أقول: وقوع الجملة في سياق هذه الآيات و هي مكية يأبى نزولها يوم بدر أو في أهل بدر، و قد وقعت الجملة أيضا في قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}: الحجر: ٤٧، و هي أيضا في سياق آيات أهل الجنة، و هي مكية.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة و ليس في قلوب بعضهم على بعض غل.
و فيه أخرج النسائي و ابن أبي الدنيا و ابن جرير في ذكر الموت و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول: لو هدانا الله، فيكون حسرة عليهم، و كل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لو لا أن هدانا الله، فهذا شكرهم.
و فيه أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و الدارمي و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة و أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، و أنعموا فلا تيأسوا، و شبوا فلا تهرموا، و اخلدوا فلا تموتوا.
أقول: و في معنى وراثة الجنة أخبار أخر سيأتي إن شاء الله.
و في الكافي و تفسير القمي بإسنادهما عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ} قال المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام).
أقول: و رواه العياشي عنه (عليه السلام) و رواه في روضة الواعظين، عن الباقر (عليه السلام) قال: المؤذن علي (عليه السلام).
و في المعاني بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالكوفة منصرفه من النهروان و بلغه أن معاوية يسبه و يعيبه و يقتل أصحابه فقام خطيبا، و ذكر الخطبة إلى أن قال فيها: و أنا المؤذن في الدنيا و الآخرة قال الله عز و جل: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ} أنا ذلك المؤذن، و قال: {وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} أنا ذلك الأذان.
أقول: أي أنا المؤذن بذلك الأذان بقرينة صدر الكلام و يشير (عليه السلام) به إلى قصة آيات البراءة.
و في المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي أنه قال: أنا ذلك المؤذن.
و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لعلي في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي و استخفوا بحقي.
أقول: قال الآلوسي في روح المعاني في قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} (الآية). هو على ما روي عن ابن عباس صاحب الصور، و قيل: مالك خازن النار، و قيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك، و رواية الإمامية عن الرضا و ابن عباس: أنه علي كرم الله وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة و بعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا و هو إذ ذاك في حظائر القدس (انتهى).
و قال صاحب المنار، في تفسيره بعد نقله عنه: و أقول: إن واضعي كتب الجرح و التعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، و قد كان في أئمتهم من يعد في شيعة علي و آله كعبد الرزاق و الحاكم، و ما منهم أحد إلا و قد عدل كثيرا من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبت هذه الرواية بسند صحيح قبلنا و لا نرى كونه في حظائر القدس مانعا منها، و لو كنا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعا أو معارضا برواية أقوى سندا أو أصح متنا (انتهى).
و لقد أجاد فيما أفاد غير أن الآحاد من الروايات لا تكون حجة عندنا إلا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التام الشخصي سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلا في الفقه فإن الوثوق النوعي كاف في حجية الرواية كل ذلك بعد عدم مخالفة الكتاب و التفصيل موكول إلى فن أصول الفقه.
و أما كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه و ليعتبر التأذين الأخروي بالتأذين الدنيوي فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقر على المحكومين فالمؤذن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم و الرابطة في شرفها و خستها يتبع الطرفين، و من الواضح أن الطرف إذا كان هو الله عز اسمه كان في ذلك من الشرف و الكرامة ما لا يعادله شيء كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله: {وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ}: الحج: ٢٧، و وساطة علي (عليه السلام) في إبلاغ آيات البراءة: {وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ} الخ: براءة: ٣، هذا في الأذان و الاعلام التشريعي الذي يستقر به حكم الحاكم على المحكومين به، و أما الأذان غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التام و اللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقية الوعد الإلهي الذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه و رسله، و فيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد و الوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك و لا يهونن عليك أمر الحقائق، و لا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه.
و هذا هو الذي يشير إليه علي (عليه السلام) نفسه فيما مر من خطبته إذ قال: و أنا المؤذن في الدنيا و الآخرة.
و الرواية كما تقدم مروية بطرق متعددة من الشيعة عن علي و الباقر و الرضا (عليه السلام) من طرق أهل السنة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفية عن علي و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس و الرجل جيد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية و غيرها رواياته في التفسير لكنهم لم يذكروا روايته هذه حتى مثل السيوطي الذي يستوفي في الدر المنثور، ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث، و ما أدري ما هو السبب فيه؟
و في الدر المنثور أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات و السيئات فمن
رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، و من رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار.
قيل: يا رسول الله فمن استوى حسناته و سيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها و هم يطمعون.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد - فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار و لم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا في الجنة حيث شئتم.
أقول: و روي القول بكون أهل الأعراف هم الذين استوت حسناتهم و سيئاتهم عن ابن مسعود و حذيفة و ابن عباس من الصحابة.
و في الكافي بإسناده عن حمزة الطيار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الناس على ستة أصناف إلى أن قال قلت: و ما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنة فبرحمته، الحديث.
و فيه بإسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون، و إن دخلوا النار فهم كافرون. فقال: و الله ما هم بمؤمنين و لا كافرين و لو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون، و لو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، و لكنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فقصرت بهم الأعمال، و أنهم كما قال الله عز و جل.
فقلت: أ من أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال: اتركهم كما تركهم الله.
قلت: أ فأرجئهم؟ قال: نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء أدخلهم الجنة برحمته، و إن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم و لم يظلمهم. فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا. قلت: فهل يدخل النار إلا كافر؟ فقال: لا إلا أن يشاء الله. يا زرارة إني أقول: ما شاء الله أما إن كبرت رجعت و تحللت عنك عقدك.
أقول: قوله (عليه السلام): أما إن كبرت إلخ، أي إن استعظمت قولي و لم تقبله خرجت عما كنت عليه من الحق و انحل ما عقدت عليه قلبك من التصديق.
و الروايات كما ترى يفسر أصحاب الأعراف بمن استوت حسناتهم و سيئاتهم في الميزان، و في بعضها أن قوله تعالى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ} إلخ، من كلامهم و هذا لا ينطبق على آيات الأعراف البتة كما مر بيانه.
على أنك عرفت فيما تقدم من تفسير قوله تعالى: {وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ} الخ: الأعراف: ٨، أن الميزان الذي يذكره إما أن يثقل و هو رجحان الحسنات أو يخف و هو رجحان السيئات، و لا معنى حينئذ لاستواء الحسنات و السيئات الذي هو ثقل الميزان و خفته معا! فلو فرض أن هناك من لا يشخص الميزان رجحان بعض أعماله على بعض مثلا كان ممن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الذي أحبطت أعماله، و المستضعف الذي لم تتم عليه الحجة و لم يتعلق به التكليف.
نعم ربما يستفاد من الرواية الأخيرة أن المراد بالذين استوت حسناتهم و سيئاتهم هم المستضعفون المرجون لأمر الله إن يشأ يغفر لهم و إن يشأ يعذبهم. فالاستواء كناية عن عدم الرجحان، و يندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الإشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات و فيها من صفات رجال الأعراف و أصحابه ما لا يتصف به إلا السابقون المقربون المتصدرون في حظيرة الكرامة و السعادة، و هؤلاء المستضعفون إن صح عدهم من أهل السعادة فهم نازلون في أنزل منازلها.
و في المجمع قال أبو عبد الله (عليه السلام): الأعراف كثبان بين الجنة و النار يوقف عليها كل نبي و كل خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده و قد سبق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلم عليهم المذنبون: و ذلك قوله: {وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ثم أخبر سبحانه و تعالى: أنهم لم يدخلوها و هم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة و هم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي و الإمام، و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
ثم ينادي أصحاب الأعراف و هم الأنبياء و الخلفاء رجالا من أهل النار مقرعين لهم ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم يعني أ هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تستضعفونهم و تحتقرونهم بفقرهم و تستطيلون بدنياكم عليهم ثم يقولون لهؤلاء
المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون.
أقول: و روى القمي في تفسيره، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن مرثد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يقرب منه.
و هذه الرواية كما ترى تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم و سيئاتهم صريحا ثم تذكر أن هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار من غير أن تفسر بهم الرجال الذين ذكر الله تعالى أنهم على الأعراف يعرفون كلا بسيماهم، و يسميهم أصحاب الأعراف. و يسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات، و لا يبقى من الإشكال إلا ظهور الآيات في أن المسلم على أهل الجنة هم أصحاب الأعراف و الرجال الذين على الأعراف.
و الظاهر أن في الروايات اختلالا و هو ناشئ عن سوء فهم بعض النقلة ثم النقل و لعل الذي بينه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بعض الأئمة أن هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنة بشفاعة أو مشية ثم غيره النقل بالمعنى و أخرجه إلى الصورة التي تراها، و هذا ظاهر كسائر الروايات الواردة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و غيرهم القائلة إن الرجال على الأعراف هم الذين استوت حسناتهم و سيئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون و كذا رواية القمي عن الصادق (عليه السلام) فراجعها تعرف صدق ما ادعيناه.
و في البصائر بإسناده عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الأعراف ما هم؟ قال: هم أكرم الخلق على الله تبارك و تعالى.
أقول: السائل يأخذ الأعراف و الرجال الذين عليه واحدا و على ذلك ورد الجواب منه (عليه السلام) فكأنه أخذ جمعا لعرف بمعنى العريف و العارف و في هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها.
و فيه بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} قال: نحن أصحاب الأعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة و من أنكرنا فمآله إلى النار.
أقول: قوله من عرفنا و من أنكرنا إن كان فعلا و فاعلا فهو، و إن كان فعلا و مفعولا كان على وزان سائر الروايات من عرفهم و عرفوه، و من أنكرهم و أنكروه.
و فيه بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له رجل: {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} فقال له علي (عليه السلام): نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا و نحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة و النار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه و ذلك قول الله عز و جل.
لو شاء لعرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده و يأتونه من بابه، جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه.
أقول: و رواه أيضا بإسناده عن مقرن عن أبي عبد الله (عليه السلام) و الرجل السائل هو ابن الكواء، و روى هذه القصة أيضا الكليني في الكافي، عن مقرن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء ابن الكواء، إلخ.
و الظاهر أن المراد بالمعرفة و الإنكار في الرواية المعرفة بالحب و البغض أي لا يدخل الجنة إلا من عرفنا بالولاية و عرفناه بالطاعة، و لا يدخل النار إلا من أنكر ولايتنا و أنكرنا طاعته، و هذا غير معرفتهم الجميع بأعيانهم، و إلا أشكل انطباقه على قوله تعالى: {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} و قوله تعالى: {وَ نَادىَ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} إلخ، و لعل ذلك إنما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى، و يؤيد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التالية.
و في المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند علي (عليه السلام) فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكواء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة و النار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.
و في تفسير العياشي عن هلقام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} ما يعني بقوله: {عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ}؟ قال: أ لستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى. قال: فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم.
أقول: و هو مبني على أخذ الأعراف جمعا للعرف كأقطاب جمع قطب و العرف هو المعروف من الأمر و لعله مصدر بمعنى المفعول فمعنى {وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ}: وكل على أمورهم و أحوالهم المعروفة منهم رجال، و لا ينافي ذلك ما تقدم أن الأعراف أعالي الحجاب و كذا ما تقدم في بعض الروايات أن الأعراف كثبان بين الجنة و النار فإن المعرفة التي هي مادة اللفظ حافظة لمعناه في مشتقاته و موارد استعمالها على أي حال.
و اعلم أن الأخبار من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الأعراف كثيرة جدا، و فيما أوردناه للإشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الأعراف و أصحاب الأعراف كفاية.
و في تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه قال: الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس و حمزة و علي بن أبي طالب و جعفر ذو الجناحين يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه.
أقول: و قد تقدم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان، عن تفسير الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس.
و في الدر المنثور أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده و ابن جرير و ابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه: قال قائل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما أصحاب الأعراف قال: هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم - فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، و منعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة فهم آخر من يدخل الجنة.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة و ابن عباس و قد تقدم الإشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات، و الأصول المسلمة تعطي أنه إن تعين الخروج وجوبا عينيا لم يؤثر فيه عدم إذن الوالدين، و إن لم يتعين و بقي على الكفاية كان الخروج محرما و لم ينفعه القتل في المعركة إلا أن يكون مستضعفا من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الأعراف هم المستضعفين و يجري فيه البحث السابق.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٥٤ الی ٥٨]
{إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٥٤ اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ ٥٥ وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٥٦ وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ اَلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٥٧ وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ٥٨}
بيان
الآيات متصلة بما قبلها مرتبطة بها فإن الآيات السابقة كانت تبين وبال الشرك بالله و التكذيب بآياته و أن ذلك يسوق الإنسان إلى هلاك مؤبد و شقاء مخلد، و هذه الآيات تعلل ذلك بأن رب الجميع واحد إليه تدبير الكل يجب عليهم أن يدعوه و يشكروا له و تؤكد توحيد رب العالمين من جهتين:
إحداهما: أنه تعالى هو الذي خلق السماوات و الأرض جميعا ثم دبر أمرها بالنظام الأحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعا فهو رب العالمين.
و الثانية: أنه تعالى هو الذي يهيئ لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات التي يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتخذة لذلك و ألطفها و هو الإمطار فهو ربهم لا رب سواه.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} سيأتي البحث في معنى السماء و الأيام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} إلى قوله {بِأَمْرِهِ} الاستواء الاعتدال على الشيء و الاستقرار عليه، و ربما استعمل بمعنى التساوي، يقال: استوى زيد و عمرو أي تساويا قال تعالى: {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللَّهِ}.
و العرش ما يجلس عليه الملك و ربما كني به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات: العرش في الأصل شيء مسقف، و جمعه عروش قال: {وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلىَ عُرُوشِهَا} و منه قيل: عرشت الكرم و عرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف. قال: و العرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم، و عرشت البئر جعلت له عريشا، و سمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. قال: و عرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، و ليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك لا محمولا و الله تعالى يقول: {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}، و قال قوم: هو الفلك الأعلى و الكرسي فلك الكواكب، و استدل بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما السماوات السبع و الأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة و الكرسي عند العرش كذلك (انتهى).
و قد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس و حكامهم و مصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم و يتميزون به عن غيرهم كالبساط و المتكإ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر و التخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا و هو أعظم و أرفع و أخص بالملك، و الكرسي يعمه و غيره، و استدعى التداول و التلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع و ينتهي، و فيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها و إدارة شئونها.
و اعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم و تميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية و اختلطوا و امتزجوا بالأعمال و نتائجها ثم اقتسموا في
التمتع بالنتائج فاختص كل بشيء منها على قدر زنته الاجتماعية.
كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة و الاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة و الأعمال و الإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد و سيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد و الملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد و توضع في يد من يحفظه و يديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع و إلا فسرعان ما تتلاشى و تتشتت.
و لذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر و المصالح الجزئية المحلية، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك، و على هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش و يهدى لصاحب العرش.
و من عجيب أمر هذا الزمام و انبساطه و سعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها و اختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه و يعرف فيه، و يتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها و يأخذها ملاكا لعمله. يقول مصدر الأمر «ليجر الأمر» فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا و مصالح السياسية تكليفا سياسيا، و مصالح الجيش تكليفا دفاعيا و على هذا القياس كلما صعد أو نزل.
فجميع تفاصيل الأعمال و الإرادات و الأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة و هي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد و تجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض و تندمج و تتداخل و تتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش، و إذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر و يتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع و إراداتهم.
هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا، و هو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، و الباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل و أسباب جزئية، و تنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شيء و هو محيط بكل شيء، و ليس
كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى و اعتبارية ملك غيره.
ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب، و أزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها و أنواعها، و ترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء، و فيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، و عنده مفاتح الغيب.
فقوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} كناية عن استيلائه على ملكه و قيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق و جل، و يترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته، و تقضي لكل ذي حاجة حاجته، و لذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله: {يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} إذ قال: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ}: يونس: ٣.
ثم فصل بقوله: {يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ} و يستره به {يَطْلُبُهُ} أي يطلب الليل النهار ليغشيه و يستره {حَثِيثاً} أي طلبا حثيثا سريعا، و فيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل، و النهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه و يهجم عليه.
و قوله: {وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أي خلقهن و الحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء و لما يشاء و قرئ الجميع بالرفع، و على ذلك فالشمس مبتدأ و القمر و النجوم معطوفة عليها، و مسخرات خبره، و الباء في قوله: {بِأَمْرِهِ} للسببية.
و مجموع قوله: {يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ} إلخ، يجري مجرى التفسير لقوله: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} على ما يعطيه السياق، و هو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.
قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} الخلق هو التقدير بضم شيء إلى شيء و إن استقر ثانيا في عرف الدين و أهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق، و أما الأمر فيستعمل في معنى الشأن و جمعه أمور، و مصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا، و ليس من البعيد
أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر و هو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شيء فأمر كل شيء هو الشأن الذي يصلح له وجوده، و ينظم له تفاريق حركاته و سكناته و شتى أعماله و إراداته، يقال: أمر العبد إلى مولاه، أي هو يدبر حياته و معاشه، و أمر المال إلى مالكه، و أمر الإنسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته.
و لا يرد عليه أن الأمر بمعنى الشأن يجمع على «أمور» و بمعنى يقابل النهي على «أوامر» و هو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى!، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالأمر كالمتوسط بين من يملكه و بين من يملك منه كالمولى و العبد و يضاف إلى كل منهما يقال: أمر العبد و أمر المولى، قال تعالى: {وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللَّهِ»}: البقرة: ٢٧٥، و قال: {أَتى أَمْرُ اَللَّهِ}: النحل: ١.
و قد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: يس: ٨٣، فبين أن أمره الذي يملكه من كل شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا و أثرا هو قول كن و كلمة الإيجاد و هو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال لشيء: كن فكان، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود، و هذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه و هو بذاك الاعتبار أمره تعالى و كلمة «كن» الإلهية، و له نسبة إلى الشيء الموجود، و هو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه، و قد عبر عنه في الآية بقوله: {فَيَكُونُ}.
و قد ذكر تعالى لكل من النسبتين و إن شئت فقل: للإيجاد المنسوب إليه تعالى و للوجود المنسوب إلى الشيء - نعوتا و أحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه.
و الحاصل: أن الأمر هو الإيجاد سواء تعلق بذات الشيء أو بنظام صفاته و أفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله و أمر نظام وجودها إلى الله لأنها لا تملك لنفسها شيئا البتة، و الخلق هو الإيجاد عن تقدير و تأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شيء إلى شيء كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض و ضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث ثم ضم الأجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن إنسان مثلا، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات
الشيء البسيط و ضم ما له من درجة الوجود وحده و ما له من الآثار و الروابط التي له مع غيره، فالأصول الأولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة. قال الله تعالى: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}: الفرقان: ٢، و قال: {اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}: طه: ٥٠، و قال: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: الزمر: ٦٢، فعمم خلقه كل شيء.
فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشيء و تنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر.
و لذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} بخلاف الأمر قال تعالى: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}: القمر: ٥٠، و لذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله: {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا}: المائدة: ١١٠، و قال: {فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ}: المؤمنون: ١٤. و أما الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه، و جعله بينه و بين ما يريد حدوثه و كينونته كالروح الذي يحيا به الجسد.
انظر إلى قوله تعالى: {وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} و قوله: {وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ}: الروم: ٤٦، و قوله: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}: النحل: ٢، و قوله: {وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}: الأنبياء: ٢٧، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره، فنلخص أن الخلق و الأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد و إن كانا مختلفين بحسب الاعتبار.
فإذا انفرد كل من الخلق و الأمر صح أن يتعلق بكل شيء، كل بالعناية الخاصة به، و إذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات لما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها و آثارها، و يتعلق الأمر بآثارها و النظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات و لا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك.
و لذلك قال تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه و كان المراد بالخلق ما يتعلق من الإيجاد بذوات الأشياء، و بالأمر ما يتعلق بآثارها و الأوضاع الحاصلة فيها و النظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} و هذا هو إيجاد الذوات {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ
يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} و هو إيجاد النظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر و الإتيان بالواحد منه بعد الواحد.
و ما ربما يقال: إن العطف لا يقتضي المغايرة، و لو اقتضى ذلك لدل في قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ}: البقرة: ٩٨ على كون جبريل من غير جنس الملائكة! مدفوع بأن المراد مغايرة ما و لو اعتبارا لقبح قولنا جاءني زيد و زيد و رأيت عمرا و عمرا فلا محيص عن مغايرة ما و لو بحسب الاعتبار، و جبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم و القوة و المكانة عند ذي العرش.
و قوله تعالى: {تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم.
كلام في معنى العرش
للناس في معنى العرش بل في معنى قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} و الآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنها و ما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، و هؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية و التطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنة بدعة، و العقل يخطئهم في ذلك و الكتاب و السنة لا يصدقانهم فآيات الكتاب تحرض كل التحريض على التدبر في آيات الله و بذل الجهد في تكميل معرفة الله و معرفة آياته بالتذكر و التفكر و النظر فيها و الاحتجاج بالحجج العقلية، و متفرقات السنة المتواترة معنى توافقها، و لا معنى للأمر بالمقدمة و النهي عن النتيجة، و هؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب و السنة - حتى البحث الكلامي الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية و وضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامي ثم الدفاع عنها بما تيسر من المقدمات المشهورة و المسلمة عند أهل الدين و يعدونها بدعة فلنتركهم و شأنهم.
و أما طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على أقوال:
١ - حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم و هو موضوع على السماء السابعة و الله تعالى عما يقول الظالمون مستو عليه كاستواء
الملوك منا على عروشهم، و أكثر هؤلاء على أن العرش و الكرسي شيء واحد، و هو الذي وصفناه.
و هؤلاء هم المشبهة من المسلمين، و الكتاب و السنة و العقل تخاصمهم في ذلك و تنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه و يشبهه في ذات، أو صفة، أو فعل تعالى و تقدس.
٢ - أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني و المحدد للجهات و الأطلس الخالي من الكواكب، و الراسم بحركته اليومية للزمان، و في جوفه مماسا به الكرسي و هو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، و في جوفه الأفلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع: زحل و المشتري و المريخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض.
و هذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلوية الظاهرة للحس طبقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع و الكرسي و العرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة و الطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه، و ما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردوه كقولهم: ليس للفلك المحدد وراء لا خلأ و لا ملأ، و قولهم بدوام الحركات الفلكية، و استحالة الخرق و الالتيام عليها، و كون كل فلك يماس بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها و لا سكنة فيها، و كون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها و لا باب.
و الظواهر من القرآن و الحديث تثبت أن وراء العرش حجبا و سرادقات، و أن له قوائم، و أن له حملة، و أن الله سيطوي السماء كطي السجل للكتب، و أن في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلا و فيه ملك راكع أو ساجد يلجونه و ينزلون منه و يصعدون إليه، و أن للسماء أبوابا، و أن الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك مما ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة و الطبيعيات سابقا، و القائلون منا إن السماوات و الكرسي و العرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكلية يدفعون ذلك كله بمخالفة الظواهر.
و لم ينبههم هذا الاختلاف في الوصف على أن ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلوية حتى أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة و الطبيعيات المؤيدة بالحس و التجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها فاضطر هؤلاء
إلى فسخ تطبيقهم و رفع اليد عنه.
٣ - أن لا مصداق للعرش خارجا و إنما قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} و {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، و كثيرا ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه كما قيل:
قد استوى بشر على العراق | *** | من غير سيف و دم مهراق |
أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الأمور كما أن الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة أمور مملكتهم استووا على عروشهم و جلسوا عليه و الشروع و الأخذ في أمر و جميع ما ينبئ عن تغير الأحوال و تبدلها و إن كانت ممتنعة في حقه تعالى لتنزهه تعالى عن التغير و التبدل لكن شأنه تعالى يسمى شروعا و أخذا بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها و أعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى و هو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا و أخذا بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا، و أحيا فلانا، و أمات فلانا، و رزق فلانا، و نحو ذلك.
و فيه: أن كون قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ و إن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية، و السلطة و الاستيلاء و الملك و الإمارة و السلطنة و الرئاسة و الولاية و السيادة و جميع ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها على ما سمعته منا كرارا في الأبحاث الاعتبارية السابقة، و الظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا و شئوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، و جهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية.
فمعنى الملك و السلطنة و الإحاطة و الولاية و غيرها فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه من كل هذه الألفاظ عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى و أما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية و جهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم، و إنما وضعناها و أخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لأن يتبع الذين نسميهم مرءوسين إراداته و عزائمه لا لأن الجماعة بدون حقيقة و هو
رأسهم حقيقة، و لا نسمي جزء الهيئة المؤتلفة عضوا لأنه يد أو رجل أو كبد أو رئة حقيقة بل لأن يتصدى من الأمور المقصودة في هذا التشكيل و الاجتماع ما يتصداه عضو من الأعضاء الموجودة في بدن الإنسان مثلا.
و هذا هو الذي يسميه الله تعالى لعبا و لهوا إذ يقول: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ}: العنكبوت: ٦٤، فالمقاصد الدنيوية من زينة و مال و أولاد و تقدم و رئاسة و حكومة و أمثالها ليست إلا عناوين وهمية لا تحقق لها إلا في الأوهام، و ليس الاشتغال بها لغير المقاصد الأخروية إلا اشتغالا بأمور وهمية و صور خيالية، و لا المسابقة في تحصيلها إلا كمسابقة الأطفال في تحصيل التقدم في الملاعب التي يشتغلون بها، و ليس إلا تحصيل حالة خيالية ليس منها في خارجة عين و لا أثر.
و حاشا لله سبحانه أن يذم هذه الحياة الفانية الغارة، و يسميها لعبا لما تشتمل عليه من الشئون الوهمية ثم يكون تعالى و تقدس أول اللاعبين!.
و بالجملة قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ} في عين أنه تمثيل يبين به أن له إحاطة تدبيرية لملكه يدل على أن هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمة الأمور على كثرتها و اختلافها، و يدل عليه آيات أخر تذكر العرش وحده و ينسبه إليه تعالى كقوله تعالى: {وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ}: التوبة: ١٢٩، و قوله: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ}: المؤمن: ٧، و قوله: {وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ»}: الحاقة: ١٧، و قوله: {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ}: الزمر: ٧٥.
فالآيات كما ترى تدل بظاهرها على أن العرش حقيقة من الحقائق العينية و أمر من الأمور الخارجية، و لذلك نقول: إن للعرش في قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ} مصداقا خارجيا، و لم يوضع في الكلام لمجرد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن فلا نقول في مثل آية النور مثلا: أن في الوجود زجاجة إلهية أو شجرة زيتونة إلهية أو زيتا إلهيا، و نقول: إن في الوجود عرشا إلهيا أو لوحا و قلما إلهيين و كتابا مكتوبا فافهم ذلك.
و هذا العرش الذي يستفاد من مثل قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} أنه مقام في الوجود يجتمع فيه أزمة الحوادث و الأمور كما يجتمع أزمة المملكة في عرش الملك على
التفصيل الذي تقدم في بيان الآية يدل على تحقق هذه الصفة له قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}: يونس: ٣، ففسر الاستواء على العرش بتدبير الأمر منه، و عقبه بقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} و الآية لما كانت في مقام وصف الربوبية و التدبير التكويني كان المراد بالشفاعة الشفاعة في أمر التكوين، و هو السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط متخللة بين الحوادث و الكائنات و بينه تعالى كالنار المتخللة بينه و بين الحرارة التي يخلقها، و الحرارة المتخللة بينه و بين التخلخل أو ذوبان الأجسام فنفي السببية عن كل شيء إلا من بعد إذنه لإفادة توحيد الربوبية التي يفيده صدر الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ}.
و في قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} بيان حقيقة أخرى و هي رجوع التخلف في التدبير إلى التدبير بعينه بواسطة الإذن، فإن الشفيع إنما يتوسط بين المشفوع له المحكوم بحكم، المشفوع عنده، ليغير بالشفاعة مجرى حكم سيجري لو لا الشفاعة فالشمس المضيئة بالمواجهة مثلا شفيعة متوسطة بين الله سبحانه و بين الأرض لاستنارتها بالنور و لو لا ذلك لكان مقتضى تقدير الأسباب العامة و نظمها أن تحيط بها الظلمة ثم الحائل من سقف أو أي حجاب آخر شفيع آخر يسأله تعالى أن لا يقع نور الشمس على الأرض باستقامة و هكذا.
فإذا كانت شفاعة الشفيع و هو سبب مغير لما سبقه من الحكم مستندة إلى إذنه تعالى كان معناه أن التدبير العام الجاري إنما هو من الله سبحانه، و أن كل ما يتخذ من الوسائل لإبطال تدبيره و تغيير مجرى حكمه أعم مما يتخذه الأسباب التكوينية و ما يتخذه الإنسان من التدابير للفرار عن حكم الأسباب الجارية الإلهية كل ذلك من التدبير الإلهي.
و لذلك نرى الأشياء الردية تعصي فلا تقبل الصور الشريفة و المواهب السامية، لقصور استعدادها عن قبولها، و هذا الرد منها بعينه قبول، و الامتناع من قبول التربية بعينه تربية أخرى إلهية و الإنسان على ما به من الجهل يستعلي على ربه و يستنكف عن الخضوع لعظمته و هو بعينه انقياد لحكمه، و يمكر به و هو بعينه ممكور به قال تعالى: {وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ}: الأنعام: ١٢٣، و قال تعالى: {وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ}: آل عمران: ٦٩، و قال تعالى: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ
وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ}: الشورى: ٣١.
فقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} يدل على أن شفاعة الشفاعة أو الأسباب المخالفة التي تحول بين التدبير الإلهي و بين مقتضياته داخلة من جهة أخرى و هي جهة الإذن في التدبير الإلهي فافهم ذلك.
فما مثل الأسباب و العوامل المتخالفة المتزاحمة في الوجود إلا كمثل كفتي الميزان تتعاركان بالارتفاع و الانخفاض، و الثقل و الخفة لكن اختلافهما بعينه اتفاق منهما في إعانة صاحب الميزان في تشخيص ما يريد تشخيصه من الوزن.
و يقرب من آية سورة يونس في الدلالة على شمول التدبير و نفي مدبر غيره تعالى قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}: السجدة: ٤، و يقرب من قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} في الإشارة إلى كون العرش مقاما تنتشئ فيه التدابير العامة و تصدر عنه الأوامر التكوينية قوله تعالى: {ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: البروج: ١٦، و هو ظاهر.
و إلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}: الزمر: ٧٥، فإن الملائكة هم الوسائط الحاملون لحكمه و المجرون لأمره العاملون بتدبيره فليكونوا حافين حول عرشه.
و كذا قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}: المؤمن: ٧، و في الآية مضافا إلى ذكر احتفافهم بالعرش شيء آخر و هو أن هناك حملة يحملون العرش، و هم لا محالة أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع و الخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية و مصدرها، و يؤيد ذلك ما في آية أخرى و هي قوله: {وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}: الحاقة: ١٧.
و إذ كان العرش هو المقام الذي يرجع إليه جميع أزمة التدابير الإلهية و الأحكام الربوبية الجارية في العالم كما سمعت، كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له، و إلى ذلك يشير قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: الحديد: ٤، فقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} إلخ، يجري مجرى التفسير للاستواء
على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شيء، و كل شيء في جوفه.
و لذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: {وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ} و موجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات و الأرض، و موجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ}: هود: ٧.
بيان
قوله تعالى: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً} إلى آخر الآيتين. التضرع هو التذلل من الضراعة و هي الضعف و الذلة. و الخفية هي الاستتار و ليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جيء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار و الهوان.
الآية السابقة: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ} (الآية) تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده، و إليه تدبير خلقه وحده، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان، و هي الدعوة إلى دعائه و عبوديته، و الحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى و هي الربوبية من غير شريك في الخلق و لا في التدبير.
و لذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} فأمر أن يدعوه بالتضرع و التذلل و أن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها بناء على أن تكون الواو في {تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً} للجمع - أو أن يدعوه بالتضرع و الابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية و من عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية و إن الله لا يحب المعتدين.
و من الممكن أن يكون المراد بالتضرع و الخفية: الجهر و السر و إنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع.
هذا فيما بينهم و بين الله، و أما فيما بينهم و بين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم و معاملتهم بما يعينهم على التقوى، و يقربهم من سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة ثم كرر الدعوة إليه و أعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر
يعبد الرب أو الأرباب من أحدهما و هما طريق الخوف و طريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الأرباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم، و كان قوما يتخذون الأرباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم و بركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الإنسان إلى اليأس و القنوط فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد ذلك كثيرا، و العبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة و زوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة، و قد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما و دعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال: {وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً} ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الأخرى، و في ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب و الدفع.
و قد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة و التجنب عن إفساد الأرض بعد إصلاحها إحسانا و بشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين.
و لم يقل: رحمة الله قريبة، قيل: لأن الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان، و قيل: لأن المراد بالرحمة الإحسان، و قيل: لأن قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر و المؤنث و نظيره قوله تعالى: {لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ قَرِيبٌ}: الشورى: ١٧.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} إلى آخر الآية و في الآية بيان لربوبيته تعالى من جهة العود كما أن في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ} (الآية) بيانا لها من جهة البدء.
و قوله: {بُشْراً} و أصله البشر بضمتين جمع بشير كالنذر جمع نذير، و المراد بالرحمة المطر، و قوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي قدام المطر، و فيه استعارة تخييلية بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم و بين يديه بشير يبشر بقدومه.
و الإقلال الحمل، و السحاب و السحابة الغمام و الغمامة كتمر و تمرة و كون السحاب ثقالا باعتبار حمله ثقل الماء، و قوله {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي لأجل بلد ميت أو إلى بلد ميت و الباقي ظاهر.
و الآية تحتج بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى لأنهما من نوع واحد، و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد و ليس الأحياء الذين عرض لهم عارض الموت ـ
بمنعدمين من أصلهم فإن أنفسهم و أرواحهم باقية محفوظة و إن تغيرت أبدانهم، كما أن النبات يتغير ما على وجه الأرض منها و يبقى ما في أصله من الروح الحية على انعزال من النشوء و النماء ثم تعود إليه حياته الفعالة كذلك يخرج الله الموتى فما إحياء الموتى في الحشر الكلي يوم البعث إلا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئي العائد كل سنة، و للكلام ذيل سيوافيك في محل آخر إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} إلى آخر الآية. النكد القليل. و الآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العام المضروب لترتب الأعمال الصالحة و الآثار الحسنة على الذوات الطيبة الكريمة كخلافها على خلافها كما تقدم في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} لكنها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أن الناس و إن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قبلهم و الرحمة الإلهية عامة مطلقة.
بحث روائي
لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش و الكرسي و سائر الحقائق القرآنية و حتى أصول المعارف كمسائل التوحيد و ما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية و يقفون عليها، و على ذلك جرى التابعون و قدماء المفسرين حتى نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته و السكوت عليه، و عن الإمام مالك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الله {اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ}، كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته و علاه الرحضاء يعني العرق و أطرق القوم. قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول: و الاستواء منه غير مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة، و إني أخاف أن تكون ضالا، و أمر به فأخرج.
و كأن قوله: الكيف غير معقول إلخ، مأخوذ عما روي۱ عن أم سلمة أم المؤمنين في قوله تعالى: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} قالت: الكيف غير معقول، و الاستواء
غير مجهول، و الإقرار به إيمان، و الجحود به كفر.
فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شيء إلا ما يوجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب و الأئمة من ولده بعده (عليه السلام) و نحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم.
ففي التوحيد بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي (عليه السلام) الجاثليق: فقال علي (عليه السلام): إن الملائكة تحمل العرش، و ليس العرش كما تظن كهيئة السرير و لكنه شيء محدود مخلوق مدبر و ربك مالكه لا أنه عليه ككون الشيء على الشيء. الخبر.
و في الكافي عن البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق عليا (عليه السلام) فقال: أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال (عليه السلام): الله عز و جل حامل العرش و السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما، و ذلك قول الله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
قال: فأخبرني عن قوله: {وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} فكيف ذاك و قلت: إنه يحمل العرش و السماوات و الأرض؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن العرش خلقه الله تبارك و تعالى من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرت الحمرة، و نور أخضر منه اخضرت الخضرة، و نور أصفر منه اصفرت الصفرة و نور أبيض منه ابيض البياض.
و هو العلم الذي حمله الله الحملة، و ذلك نور من نور عظمته فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين، و بعظمته و نوره عاداه الجاهلون، و بعظمته و نوره ابتغى من في السماوات و الأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة و الأديان المتشتتة فكل شيء محمول يحمله الله بنوره و عظمته و قدرته لا يستطيع لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل شيء محمول، و الله تبارك و تعالى الممسك لهما أن تزولا، و المحيط بهما من شيء، و هو حياة كل شيء و نور كل شيء سبحانه و تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
قال له: فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت و محيط بنا و معنا، و هو قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَ أَدْنى مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى، و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى، و ذلك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ}.
فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه، و ليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته، و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه و أراه خليله فقال: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} و كيف يحمل حملة العرش الله و بحياته حييت قلوبهم، و بنوره اهتدوا إلى معرفته، الخبر.
أقول: قوله أخبرني عن الله عز و جل يحمل العرش أو العرش يحمله إلخ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم، و قوله (عليه السلام): الله حامل العرش و السماوات و الأرض إلخ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي و تفسير له بمعنى حمل وجود الشيء و هو قيام وجود الأشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا، و من المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الأشياء محمولة له تعالى لا حاملة.
و لذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله (عليه السلام) عن قوله تعالى: {وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} فإن حمل وجود الشيء بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره! ففسر (عليه السلام) الحمل ثانيا بحمل العلم و فسر العرش بالعلم.
غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد (عليه السلام) في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم إن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الأفهام العامية من العلم و هو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته و قدرته حضرت لهؤلاء الحملة بإذن الله و شوهدت لهم فسمي ذلك حملا، و هو مع ذلك محمول له تعالى و لا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا و هي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له و هو المالك الذي ملكنا إياها.
فنور العظمة الإلهية و قدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه و هو ملكه تعالى لكل شيء دون العرش و هو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله، و الله سبحانه هو الحامل للحامل و المحمول جميعا.
فالعرش في قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ} و إن شئت قلت: الاستواء على العرش هو الملك، و في قوله: {وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} (الآية) هو العلم، و هما جميعا واحد و هو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء و يتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير، و مقام العلم الذي
يظهر به الأشياء.
و قوله (عليه السلام): فبعظمته و نوره أبصر قلوب المؤمنين «إلخ» يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين و تسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه، و ينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذي وجود، و يسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم و سننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا.
و قوله (عليه السلام): «و هو حياة كل شيء و نور كل شيء» كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شيء محمول يحمله الله إلى آخر ما قال. و محصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شيء، و هو الذي يدرك كل شيء فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لأنفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها.
و قوله (عليه السلام): هو هاهنا و هاهنا و فوق و تحت «إلخ» يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما لوجود كل شيء حافظا و حاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه، و لا هو مختصا بمكان دون مكان، و كان معنى كونه في مكان أو مع شيء ذي مكان أنه تعالى حافظ له و حامل لوجوده و محيط به، و هو و كذا غيره محفوظ بحفظه تعالى و محمول و محاط له.
و هذا يئول إلى علمه الفعلي بالأشياء، و نعني به أن كل شيء حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه، و لذلك قال (عليه السلام) أولا: «فالكرسي محيط بالسماوات و الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى» فأشار إلى الإحاطة ثم عقبه بقوله: «و إن تجهر بالقول فإنه يعلم السر و أخفى» فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي و يعني به العرش مقام الإحاطة و التدبير و الحفظ، و أنه مقام العلم و الحضور بعينه، ثم طبقه على قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} (الآية).
و قوله (عليه السلام): «و ليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته» كأنه إشارة إلى الألوان الأربعة المذكورة في أول كلامه (عليه السلام) و سيجيء كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.
و قوله (عليه السلام) «و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه» فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت اثنان ملكوت أعلى و ملكوت أسفل، و العرش لكونه مقام الإجمال و باطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الأحرى به أن يكون الملكوت الأعلى.
و قوله (عليه السلام): و كيف يحمل حملة العرش الله «إلخ» تأكيد و تثبيت لأول الكلام: أن العرش هو مقام حمل وجود الأشياء و تقويمه، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف؟ و وجودهم و سير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم، و لاعتباره (عليه السلام) هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم و عن كمال وجودهم بالقلوب، و نور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال: و بحياته حييت قلوبهم و بنوره اهتدوا إلى معرفته.
و في التوحيد بإسناده عن حنان بن سدير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال: إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة - فقوله: {رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ} يقول: رب الملك العظيم، و قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء.
ثم العرش في الوصل مفرد۱ عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها، و العرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و الأين و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء.
فهما في العلم بابان مقرونان لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: {رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ} أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان.
قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال (عليه السلام): إنه صار جاره لأن علم الكيفوفية فيه و فيه الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز.
أقول: قوله (عليه السلام): إن للعرش صفات كثيرة إلخ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله، و يؤيده ما في آخر الحديث من قوله: و بمثل صرف العلماء.
و قوله (عليه السلام): «و هذا علم الكيفوفية في الأشياء» المراد به العلم بالعلل العالية و الأسباب القصوى للموجودات فإن لفظ «كيف» عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشيء و لمه، يقال: كيف وجد كذا؟ و كيف فعل زيد كذا و هو لا يستطيع.
و قوله (عليه السلام): ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي «إلخ» مراده أن العرش و الكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء و ينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لأن هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين و ينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متباينين: أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم، و الآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله: لأن الكرسي هو الباب الظاهر «إلخ».
قوله (عليه السلام): «لأن الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع و منها الأشياء كلها» أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال سابق، و منها يتحقق الأشياء كلها لأن جميعها بديعة على غير مثال سابق، و هي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الأمور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي و يقوم هذا مقامها فيئول الأمر إلى البداء بإمحاء حكم سبب و إثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الأسباب المتزاحمة و القوى المتضادة بدع حادثة و بداءات في الإرادة.
و فوق هذه الأسباب المتزاحمة و الإرادات المتغايرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد و إرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب و يغير حكم هذه الإرادة و يقيد إطلاق تأثير كل شيء بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه، و بينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا، فعله الوقوف ربما تنازع علة الطي و الحركة و توقفها عن العمل، و الإرادة تغير
الإرادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الإرادتين جميعا و تنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة و تلك أخرى و الإرادتان أعني سببي الحركة و السكون و إن كانت كل منهما تعمل لنفسها و على حدتها و تنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الإرادة التي هي فوقهما، و متعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما و أسمى.
فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان و ينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي، و المقام الذي يظهر أن فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش، و ظاهر أن الثاني أقدم من الأول، و أنهما يختلفان بنوع من الإجمال و التفصيل، و البطون و الظهور.
و أحرى بالمقامين أن يسميا عرشا و كرسيا لأن فيهما خواص عرش الملك و كرسيه فإن الكرسي: الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله و أيديه العمالة، و كل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة و شئونها و ربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض و نسخ البعض حكم البعض، لكنها جميعا تتوافق و تتحد في طاعة أحكام العرش و هو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الأسباب غير المنسوخ بنسخ العمال و الأيدي، و في عرشه إجمال جميع التفاصيل و باطن ما يظهر من ناحية العمال و الأيدي.
و بهذا البيان يتضح معنى قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر «إلخ» فقوله «منه مطلع البدع» أي طلوع الأمور الكونية غير المسبوقة بمثل، و قوله «و منها الأشياء كلها» أي تفاصيل الخلقة و مفرداتها المختلفة المتشتتة.
و قوله: «و العرش هو الباب الباطن» قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر، و البطون و الظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الأحكام الصادرة و عدم وقوعه، و قوله يوجد فيه «إلخ» أي جميع العلوم و الصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الأشياء.
و قوله: «علم الكيف» كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشيء عن أسبابه، و قوله: «و الكون» المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود و البدء أول وجودات الأشياء و نهايتها و قوله: «و القدر و الحد» المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشيء بحسب نفسه، و الحد حال الشيء بحسب إضافته إلى غيره و منعه أن يدخل حومة نفسه و يمازجه، و قوله: «و الأين» هو النسبة المكانية، و قوله: «و المشية
و صفة الإرادة» هما واحد و يمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها و بصفة الإرادة خصوصيتها.
و قوله: «و علم الألفاظ و الحركات و الترك» علم الألفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الألفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع، و علم الحركات و الترك، العلم بالأعمال و التروك من حيث ارتباطها إلى الذوات و يمكن أن يكون المراد بمجموع قوله: «علم الألفاظ و علم الحركات و الترك» العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الأوامر و النواهي من الأفعال و التروك، و انتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشإ واحد، و الترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات.
و قوله: «لأن علم الكيفوفية فيه» الضمير للعرش، و قوله: «و فيه الظاهر من أبواب البداء» الضمير للكرسي، و البداء ظهور سبب على سبب آخر و إبطاله أثره، و ينطبق على جميع الأسباب المتغايرة الكونية من حيث تأثيرها.
و قوله (عليه السلام): «فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف» المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش و الكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الإجمال و التفصيل: و إنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام و ضرب المثل، و بالأمثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء.
و قوله: «و ليستدلوا على صدق دعواهما» أي دعوى العرش و الكرسي أي و جعل هذا المثل ذريعة لأن يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الإجمال و التفصيل و الباطن و الظاهر، فافهم ذلك.
و في التوحيد بإسناده عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: {وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ} (الآية)، فقال: ما يقولون؟ قيل: إن العرش كان على الماء و الرب فوقه! فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا و وصفه بصفة المخلوقين، و لزمه أن الشيء الذي يحمله هو أقوى منه. قال: إن الله حمل دينه و علمه الماء قبل أن تكون سماء أو أرض أو جن أو إنس أو شمس أو قمر.
أقول: و هو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم، و الماء أصل الخلقة و كان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل.
و في الاحتجاج عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن بعد ما بين الأرض و العرش. فقال:
قول العبد مخلصا: لا إله إلا الله.
أقول: و هو من لطائف كلامه (عليه السلام) أخذه من قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
و وجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الألوهية بإخلاص الألوهية و الاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره، و التوجه إلى مقام استناد كل شيء إليه تعالى، و هذا هو مقام العرش على ما مر بيانه.
و نظيره في اللطافة قوله (عليه السلام): قد سئل عن بعد ما بين الأرض و السماء: مد البصر و دعوة المظلوم.
و في الفقيه و المجالس و العلل، للصدوق: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال: لأنها مربعة فقيل له: و لم صارت مربعة؟ قال: لأنها بحذاء البيت المعمور و هو مربع. فقيل له: و لم صار البيت المعمور مربعا؟ قال: لأنه بحذاء العرش و هو مربع، فقيل له: و لم صار العرش مربعا؟ قال: لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع: سبحان الله، و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر. الحديث.
أقول: و هذه الكلمات الأربع أولاها: تتضمن التنزيه و التقديس و الثانية التشبيه و الثناء، و الثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه و التشبيه، و الرابعة: التوحيد الأعظم المختص بالإسلام، و هو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد و تحديد و هو تعالى أجل من أن يحده حد و يقيده قيد، و قد تقدم نبذة من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (الآية).
و بالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر، و الروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي و آخر البقرة و سورة محمد من كنوز العرش و ما ورد أن (صلى الله عليه وآله و سلم) نهر يخرج من ساق العرش، و ما ورد أن الأفق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم.
و في تفسير القمي عن عبد الرحيم الأقصر عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن {ن وَ اَلْقَلَمِ} قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها: الخلد، ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر، و كان أشد بياضا من الثلج و أحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة
فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة و أصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد، و لا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها (الحديث). و سيجيء تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى.
أقول: و في معناها روايات أخر، و في بعضها لما استزاد الراوي بيانا و أصر عليه قال (عليه السلام): القلم ملك و اللوح ملك، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض.
و في كتاب روضة الواعظين عن الصادق عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال: في العرش تمثال ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}.
أقول: أي وجود صور الأشياء و تماثيلها في العرش، هو الحقيقة التي يبتني عليها بيان الآية، و قد تقدم توضيح معنى وجود صور الأشياء في العرش، و في معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء «يا من أظهر الجميل».
و فيه أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده (عليه السلام) في حديث: و إن بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، و العرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، و الأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة.
أقول: و الجملة الأخيرة مما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق الشيعة و أهل السنة، و الذي ذكره (عليه السلام) بناء على ما تقدم تمثيل، و نظائره كثيرة في رواياتهم (عليه السلام).
و من الدليل عليه أن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الأشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس.
و في العلل عن علل محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام): علة الطواف بالبيت أن الله تبارك و تعالى قال للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ}، فردوا على الله تبارك و تعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش و استغفروا فأحب الله عز و جل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء
الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى «الضراح» ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى «البيت المعمور» بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فجرى في ولده إلى يوم القيامة. الحديث.
أقول: الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات، و كيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل و إرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} و قد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة. و في الرواية ذكر الضراح و البيت المعمور في السماء و معظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا و هو البيت المعمور في السماء الرابعة، و فيها إثبات الذنب للملائكة و هم معصومون بنص القرآن، و لعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور.
و أما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية، و من الشاهد عليه قوله «فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش» إذ المحصل من القرآن و الحديث أن العرش و الكرسي محيطان بالسماوات و الأرض، و لا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط و المحاط إذا كانت الإحاطة جسمانية.
و في الخصال عن الصادق (عليه السلام): أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم. و الثاني على صورة الديك يسترزق الله للطير، و الثالث على صورة الأسد يسترزق الله للسباع، و الرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم، و نكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل - فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر.
أقول: و الأخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة، و في بعضها عد الأربع حملة للكرسي، و هو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة فيما عثرنا عليه و قد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة.
و في حديث آخر: حملة العرش ثمانية: أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين: فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين: فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليه السلام).
أقول: بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة
له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له.
و الروايات في العرش كثيرة متفرقة في الأبواب، و هي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم، و ما له ظهور ما في الجسمية منها، مفسرة بما تقدم و أما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الأولى المتقدمة.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الآية) قال: قال (عليه السلام): في ستة أوقات.
و في تفسير البرهان: صاحب ثاقب المناقب أسنده إلى أبي هاشم الجعفري عن محمد بن صالح الأرمني قال: قلت لأبي محمد العسكري (عليه السلام) عرفني عن قول الله: {لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ} فقال: لله الأمر من قبل أن يأمر و من بعد أن يأمر ما يشاء، فقلت في نفسي هذا تأويل قول الله: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} فأقبل علي و قال: هو كما أسررت في نفسك: ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين.
أقول: معناه أن قوله: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} يفيد إطلاق الملك قبل الصدور و بعده لا كمثلنا حيث نملك الأمر فيما نملك قبل الصدور فإذا صدر خرج عن ملكنا و اختيارنا.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن عبد العزيز الشامي عن أبيه و كانت له صحبة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح و حمد نفسه فقد كفر و حبط ما عمل، و من زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ}.
أقول: المراد من الكفر بالعجب هو الكفر بالنعمة أو بكون الحسنات لله على ما يدل عليه القرآن، و المراد بنفي كون شيء من الأمر للعباد نفي الجعل بنحو الاستقلال دون التبعي من الملك و الأمر.
و في الكافي بإسناده عن ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت قول الله عز و جل {وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} قال: فقال: يا ميسر إن الأرض كانت فاسدة فأحياها الله عز و جل بنبيه، و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها بقية فبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، و كانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا و سقوا و زرعوا، و أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلم و علم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٥٩ الی ٦٤ ]
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٥٩ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٦٠قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦١ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦٢ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٦٣ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ٦٤}
بيان
تعقيب لما تقدم من الدعوة إلى التوحيد و النهي عن الشرك بالله سبحانه و التكذيب لآياته بذكر قصة نوح (عليه السلام) و إرساله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله و ترك عبادة غيره و ما واجهته به عامة قومه من الإنكار و الإصرار على تكذيبه فأرسل الله إليهم الطوفان و أنجى نوحا و الذين آمنوا معه ثم أهلك الباقين عن آخرهم. ثم عقب الله قصته بقصص عدة من رسله كهود و صالح و شعيب و لوط و موسى (عليه السلام) للغرض بعينه.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ} إلى آخر الآية. بدأ الله سبحانه بقصته و هو أول رسول يذكر الله سبحانه تفصيل قصته في القرآن كما سيأتي تفصيل القول في قصته في سورة هود إن شاء الله تعالى.
و اللام في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} للقسم جيء بها للتأكيد لأن وجه الكلام إلى المشركين و هم ينكرون النبوة، و قوله: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ناداهم بقوله: {يَا قَوْمِ} فأضافهم إلى نفسه ليكون جريا على مقتضى النصح الذي سيخبرهم به عن نفسه، و دعاهم أول ما دعاهم إلى توحيد الله تعالى فإن دعاهم إلى عبادته، و أخبرهم بانتفاء كل إله غيره فيكون دعوة إلى عبادة الله وحده من غير أن يشرك به في عبادته غيره، و هو التوحيد.
ثم أنذرهم بقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} و ظاهره يوم القيامة فيكون في ذلك دعوة إلى أصلين من أصول الدين و هما التوحيد و المعاد، و أما الأصل الثالث و هو النبوة فسيصرح به في قوله: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ} (الآية).
على أن في نفس الدعوة و هي دعوة إلى نوع من العبادة لا يعرفونها و كذا الإنذار بما لم يكونوا يعلمونه و هو عذاب القيامة إشعارا بالرسالة من قبل من يدعو إليه، و من الشاهد على ذلك قوله في جوابهم: {أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} فإنه يدل على تعجبهم من رسالته باستماع أول ما خاطبهم به من الدعوة و هو قوله: {يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
قوله تعالى: {قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} الملأ هم أشراف القوم و خواصهم سموا به لأنهم يملئون القلوب هيبة و العيون جمالا و زينة، و إنما رموا بالضلال المبين و أكدوه تأكيدا شديدا لأنهم لم يكونوا ليتوقعوا أن معترضا يعترض عليهم بالدعوة إلى رفض آلهتهم و توجيه العبادة إلى الله سبحانه بالرسالة و الإنذار فتعجبوا من ذلك فأكدوا ضلاله مدعين أن ذلك من بين الضلال تحقيقا. و الرؤية هي الرؤية بحسب الفكر أعني الحكم.
قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} (الآية). أجابهم بنفي الضلال عن نفسه و الاستدراك بكونه رسولا من الله سبحانه، و ذكره بوصفه {رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} ليجمع له
الربوبية كلها قبال تقسيمهم إياها بين آلهتهم بتخصيص كل منها بشيء من شئونها و أبوابها كربوبية البحر و ربوبية البر و ربوبية الأرض و ربوبية السماء و غير ذلك.
و قد جرد (عليه السلام) جوابه عن التأكيد للإشارة إلى ظهور رسالته و عدم ضلالته تجاه إصرارهم بذلك و تأكيد دعواهم.
قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أخبرهم بأوصاف نفسه فبين أنه يبلغهم رسالات ربه، و هذا شأن الرسالة و مقتضاها القريب الضروري، و في جمع الرسالة دلالة على كونها كثيرة و أن له مقاصد أمره ربه أن يبلغها إياهم وراء التوحيد و المعاد فإنه نبي رسول من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة.
ثم ذكر أنه ينصح لهم و هو عظاته بالإنذار و التبشير ليقربهم من طاعة ربهم و يبعدهم عن الاستكبار و الاستنكاف عن عبوديته كل ذلك بذكر ما عرفه الله من بدء الخلقة و عودها و سننه تعالى الجارية فيها و لذا ذكر ثالثا أنه يعلم من الله ما لا يعلمون كوقائع يوم القيامة من الثواب و العقاب و غير ذلك، و ما يستتبع الطاعة و المعصية من رضاه تعالى و سخطه و وجوه نعمه و نقمه.
و من هنا يظهر أن الجمل الثلاث كل مسوق لغرض خاص أعني قوله: {أُبَلِّغُكُمْ} (الآية) و {أَنْصَحُ لَكُمْ} و {أَعْلَمُ} (الآية) و هي ثلاثة أوصاف متوالية لا كما قيل: إن الأوليان صفتان، و الثالثة جملة حالية عن فاعل {وَ أَنْصَحُ لَكُمْ}.
قوله تعالى: {أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى آخر الآية. استفهام إنكاري ينكر تعجبهم من دعواه الرسالة و دعوته إياهم إلى الدين الحق و المراد بالذكر ما يذكر به الله و هو المعارف الحقة التي أوحيت إليه، و قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} متعلق بمقدر أي ذكر كائن من ربكم.
و قوله: {لِيُنْذِرَكُمْ} و {لِتَتَّقُوا} و {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} متعلقات بقوله: {جَاءَكُمْ} و المعنى لغرض أن ينذركم الرسول، و لتتقوا أنتم، و يؤدي ذلك إلى رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فإن التقوى و إن كان يؤدي إلى النجاة لكنها ليست بعلة تامة، و قد اشتمل ما حكي من إجمال كلامه (عليه السلام) من معارف عالية إلهية.
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ} الفلك السفينة يستعمل
واحدا و جمعا على ما ذكره الراغب و يذكر و يؤنث كما في الصحاح، «و قوله: {قَوْماً عَمِينَ} موصوف و صفة. و عمين جمع عمي كخشن صفة مشبهة من عمي يعمى، عمي كالأعمى إلا أن العمي يختص بعمى البصيرة و الأعمى بعمى البصر، كما قيل، و معنى الآية ظاهر.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٦٥ الی ٧٢ ]
{وَ إِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٦٥ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٦٦ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٦٧ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ٦٨ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زَادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٦٩ قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اَللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٧٠قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ ٧١ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنَا دَابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ مَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ٧٢}
بيان
قوله تعالى: {وَ إِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ} إلى آخر الآية.
الأخ و أصله أخو هو المشارك غيره في الولادة تكوينا لمن ولده و غيره أب أو أم أو هما معا أو بحسب شرع إلهي كالأخ الرضاعي أو سنة اجتماعية كالأخ بالدعاء على ما كان يراه أقوام فهذا أصله، ثم أستعير لكل من ينتسب إلى قوم أو بلدة أو صنعة أو سجية و نحو ذلك يقال: أخو بني تميم و أخو يثرب و أخو الحياكة و أخو الكرم، و من هذا الباب قوله {وَ إِلىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}.
و الكلام في قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} كالكلام في نظير الخطاب من القصة السابقة. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله {قَالَ يَا قَوْمِ} و لم يقل: فقال كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال كأنه لما قال: {وَ إِلىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} قيل: فما قال هود؟ فأجيب و قيل: قال يا قوم اعبدوا الله الآية. كذا قاله الزمخشري في الكشاف،.
و لا يجري هذا الكلام في قصة نوح لأنه أول قصة أوردت، و هذه القصة قصة بعد قصة يهيأ فيها ذهن المخاطب للسؤال بعد ما وعى إجمال القصة و علم أن قصة الإرسال تتضمن دعوة و ردا و قبولا فكان بالحري إذا سمع المخاطب قوله {وَ إِلىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أن يسأل فيقول: ما قال هود لقومه؟ و جوابه قال لهم (إلخ).
قوله تعالى: {قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} إلى آخر الآية. لما كان في هذا الملإ من يؤمن بالله و يستر إيمانه كما سيأتي في القصة بخلاف الملإ من قوم نوح قال هاهنا في قصة هود: {قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} و قال في قصة نوح: {قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} كذا ذكره الزمخشري. و قوله تعالى حكاية عن قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} أكدوا كلامهم مرة بعد مرة لأنهم سمعوا منه مقالا ما كانوا ليتوقعوا صدوره من أحد، و قد أخذت آلهتهم موضعها من قلوبهم، و استقرت سنة الوثنية بينهم استقرارا لا يجترئ معه أحد على أن يعترض عليها فتعجبوا من مقاله فردوه ردا عن تعجب، فجبهوه أولا بأن فيه سفاهة و هو خفة العقل التي تؤدي إلى الخطإ في الآراء، و ثانيا بأنهم يظنون بظن قوي جدا أنه من الكاذبين، و كأنهم يشيرون بالكاذبين إلى أنبيائهم لأن الوثنيين ما كانوا ليذعنوا بالنبوة و قد جاءهم أنبياء قبل هود كما يذكره
تعالى بقوله: {وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ}: هود: ٥٩.
قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} الكلام في الآية نظير الكلام في نظيره من قصة نوح غير أن عادا زادوا وقاحة على قوم نوح حيث إن أولئك رموا نوحا بالضلال في الرأي و هؤلاء رموا هودا بالسفاهة لكن هودا لم يترك ما به من وقار النبوة، و لم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية فأجابهم بقوله: {يَا قَوْمِ} فأظهر عطوفته عليهم و حرصه على إنجائهم {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَ لَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} فجرى على تجريد الكلام من كل تأكيد و اكتفى بمجرد رد تهمتهم و إثبات ما كان يدعيه من الرسالة للدلالة على ظهوره.
قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي لا شأن لي بما أني رسول إلا تبليغ رسالات ربي خالصا من شوب ما تظنون بي من كوني كاذبا فلست بغاش لكم فيما أريد أن أحملكم عليه، و لا خائن لما عندي من الحق بالتغيير و لا لما عندي من حقوقكم بالإضاعة، فما أريده منكم من التدين بدين التوحيد هو الذي أراه حقا، و هو الذي فيه نفعكم و خيركم، فإنما وصف نفسه بالأمين محاذاة لقولهم: {وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ}.
قوله تعالى: {أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى آخر الآية. البصطة هي البسطة قلبت السين صادا لمجاورتها الطاء و هو من حروف الإطباق كالصراط و السراط و الآلاء جمع إلى بفتح الهمزة و كسرها بمعنى النعمة كآناء جمع أنى و إنى.
ثم أنكر (عليه السلام) تعجبهم من رسالته إليهم نظير ما تقدم من نوح (عليه السلام) و ذكرهم نعم الله عليهم، و خص من بينها نعمتين ظاهرتين هما أن الله جعلهم خلفاء في الأرض بعد نوح، و أن الله خصهم من بين الأقوام ببسطة الخلق و عظم الهيكل البدني المستلزم لزيادة الشدة و القوة، و من هنا يظهر أنهم كانوا ذوي حضارة و تقدم، و صيت في البأس و القوة و القدرة. ثم أتبعهما بالإشارة إلى سائر النعم بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قوله تعالى: {قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اَللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (الآية). فيه تعلق منهم بتقليد الآباء، و تعجيز هود مشوبا بنوع من الاستهزاء بما أنذرهم به
من العذاب.
قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ} إلى آخر الآية. الرجس و الرجز هو الأمر الذي إذا وقع على الشيء أوجب ابتعاده أو الابتعاد عنه، و لذا يطلق على القاذورة لأن الإنسان يتنفر و يبتعد عنه، و على العذاب لأن المعذب اسم مفعول يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب.
أجابهم بأن إصرارهم على عبادة الأوثان بتقليد آبائهم أوجب أن يحق عليهم البعد عن الله بالرجس و الغضب، ثم فرع عليه أن هددهم بما يستعجلون من العذاب، و أخبرهم بنزوله عليهم لا محالة، و كنى عن ذلك بأمرهم بالانتظار و إخبارهم بأنه مثلهم في انتظار نزول العذاب فقال: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ}.
و أما قوله: {أَ تُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فهو رد لما استندوا إليه في ألوهية آلهتهم و هو أنهم وجدوا آباءهم على عبادتها و هم أكمل منهم و ممن في طبقتهم كهود و أعقل فيجب عليهم أن يقلدوهم.
و محصله أنكم و آباءكم سواء في أنكم جميعا أتيتم بأشياء ليس لكم على ما ادعيتم من صفتها و هي الألوهية من سلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة فلا يبقى لها من الألوهية إلا الأسماء التي سميتموها بها إذ قلتم: إله الخصب و إله الحرب و إله البحر و إله البر، و ليس لهذه الأسماء مصاديق إلا في أوهامكم، فهل تجادلونني في الأسماء، و للإنسان أن يسمي كل ما شاء بما شاء إذا لم يعتبر تحقق المعنى في الخارج.
و قد تكرر في القرآن الاستدلال على بطلان الوثنية بهذا البيان: {أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} و هو من ألطف البيان و أرقه، و أبلغ الحجة و أقطعها إذ لو لم يأت الإنسان لما يدعيه من دعوى بحجة برهانية لم يبق لما يدعيه من النعت إلا التسمية و التعبير، و من أبده الجهل أن يعتمد الإنسان على مثل هذا النعت الموهوم.
و هذا البيان يطرد و يجري بالتحليل في جميع الموارد التي يثق فيها الإنسان على غير الله سبحانه من الأسباب، و يعطيها من الاستقلال ما يوجب تعلق قلبه بها و طاعته لها و تقربه منها فإن الله سبحانه عد في موارد من كلامه طاعة غيره و الركون إلى من سواه عبادة له قال: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
وَ أَنِ اُعْبُدُونِي}: يس: ٦١.
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} إلى آخر الآية، تنكير الرحمة للدلالة على النوع أي بنوع من الرحمة و هي الرحمة التي تختص بالمؤمنين من النصرة الموعودة لهم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ}: المؤمن: ٥١، و قال: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}: الروم: ٤٧.
و قوله: {وَ قَطَعْنَا دَابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (الآية) كناية عن إهلاكهم و قطع نسلهم فإن الدابر هو الذي يلي الشيء من خلفه فربما وصف به الأمر السابق على الشيء كأمس الدابر، و ربما وصف به اللاحق كدابر القوم و هو الذي في آخرهم فنسبه القطع إلى الدابر بعناية أن النسل اللاحق دابر متصل بالإنسان في سبب ممتد، و إهلاك الإنسان كذلك كأنه قطع هذا السبب الموصول فيما بينه و بين نسله.
و سيأتي تفصيل البحث عن قصة هود (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٧٣ الی ٧٩ ]
{وَ إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٧٣ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٧٤ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ٧٥ قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ٧٦}
{فَعَقَرُوا اَلنَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قَالُوا يَا صَالِحُ اِئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٧٧ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٧٨ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ اَلنَّاصِحِينَ ٧٩}
بيان
قوله تعالى: {وَ إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} إلى آخر الآية. ثمود أمة قديمة من العرب سكنوا أرض اليمن بالأحقاف بعث الله إليهم {أَخَاهُمْ صَالِحاً} و هو منهم فـ {قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} دعاهم إلى التوحيد و قد كانوا مشركين يعبدون الأصنام على النحو الذي دعا نوح و هود (عليه السلام) قومهما المشركين.
و قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي شاهد قاطع في شهادته و يبينه قوله بالإشارة إلى نفس البينة: {هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً} و هي الناقة التي أخرجها الله لهم من الجبل آية لنبوته بدعائه (عليه السلام)، و هي العناية في إضافة الناقة إلى الله سبحانه.
و قوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ} (الآية). تفريع على كون الناقة آية لله، و حكم لا يخلو عن تشديد عليهم يستتبع كلمة العذاب التي تفصل بين كل رسول و أمته قال تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}: يونس: ٤٧، و في الآية تلويح إلى أن تخليتهم الناقة و شأنها في الأكل و السير في الأرض كانت مما يشق عليهم فكانوا يتحرجون من ذلك، و في قوله: {فِي أَرْضِ اَللَّهِ} إيماء إليه فوصاهم و حذرهم أن يمنعوها من إطلاقها و يمسوها بسوء كالعقر و النحر فإن وبال ذلك عذاب أليم يأخذهم.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} إلى آخر الآية. دعاهم إلى أن يذكروا نعم الله عليهم كما دعا هود عادا إلى ذلك، و ذكرهم أن الله جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، و بوأهم من الأرض أي مكنهم في منازلهم منها، يتخذون
من سهولها و السهل خلاف الجبل سمي به لسهولة قطعه قصورا و هي الدور التي لها سور على ما قيل، و ينحتون الجبال بيوتا يأوون إليها و يسكنونها.
ثم جمع الجميع و لخصها في قوله: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اَللَّهِ} و أورده في صورة التفريع مع أنه إجمال للتفصيل الذي قبله بإيهام المغايرة كأنه لما أمر بذكر النعم و عد من تفاصيل النعم أشياء كأنهم لا يعلمون بها قيل ثانيا: فإذا كان لله فيكم آلاء و نعم عظيمة أمثال التي ذكرت فاذكروا آلاء الله.
و أما قوله: {وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فمعطوف على قوله: {فَاذْكُرُوا} عطف اللازم على ملزومه، و فسر العثي بالفساد و فسر بالاضطراب و المبالغة. قال الراغب في المفردات: العيث و العثي يتقاربان نحو جذب و جبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا، و العثي فيما يدرك حكما يقال: عثى يعثي عثيا، و على هذا: {وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. انتهى.
قوله تعالى: {قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} إلى آخر الآيتين، دل سبحانه ببيان قوله: {لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا} بقوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} على أن المستضعفين هم المؤمنون و أن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين و لم يكن ليؤمن به أحد من المستكبرين، و الباقي ظاهر.
قوله: {فَعَقَرُوا اَلنَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} إلى آخر الآية عقر النخلة قطعها من أصلها، و عقر الناقة نحرها، و عقر الناقة أيضا قطع قوائمها، و العتو هو التمرد و الامتناع و ضمن في الآية معنى الاستكبار بدليل تعديته بعن، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} إلى آخر الآيتين. الرجفة هي الاضطراب و الاهتزاز الشديد كما في زلزلة الأرض و تلاطم البحر، و الجثوم في الإنسان و الطير كالبروك في البعير.
و قد ذكر الله هنا في سبب هلاكهم أنه أخذتهم الرجفة، و قال في موضع آخر: {وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ}: هود: ٦٧، و في موضع آخر: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ اَلْعَذَابِ اَلْهُونِ}: حم السجدة: ١٧، و الصواعق السماوية لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها، و لا ينفك ذلك غالبا عن رجفة الأرض هي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد إلى الأرض،
و توجف من جهة أخرى القلوب و ترتعد الأركان، فالظاهر أن عذابهم إنما كان بصاعقة سماوية اقترنت صيحة هائلة و رجفة في الأرض أو في قلوبهم فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم و ركبهم.
و الآية تدل على أن ذلك كان مرتبطا بما كفروا و ظلموا آية من آيات الله مقصودا بها عذابهم عذاب الاستئصال، و لا نظر في الآية إلى كيفية حدوثها، و الباقي ظاهر.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٨٠الی ٨٤]
{وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ ٨٠إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ٨١ وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ٨٢ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٨٣ وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ ٨٤}
بيان
قوله تعالى: {وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ} إلى آخر الآية. ظاهره أنه من عطف القصة على القصة أي عطف قوله: {لُوطاً} على {نُوحاً} في قوله في القصة الأولى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} فيكون التقدير و لقد أرسلنا لوطا إذ قال لقومه (إلخ)، لكن المعهود من نظائر هذا النظم في القرآن أن يكون بتقدير «اذكر» بدلالة السياق، و على ذلك فالتقدير: و اذكر لوطا الذي أرسلناه إذ قال لقومه (إلخ) و الظاهر أن تغيير السياق من جهة أن لوطا من الأنبياء التابعين لشريعة إبراهيم (عليه السلام) لا لشريعة نوح (عليه السلام) ، و لذلك غير السياق في بدء قصته عن السياق السابق في قصص نوح و هود و صالح فغير السياق في بدء قصته ثم رجع إلى السياق في قصة شعيب (عليه السلام).
و قد كان لوط على ما سيأتي إن شاء الله من تفصيل قصته في سورة هود مرسلا إلى أهل سدوم و غيره يدعوهم إلى دين التوحيد و كانوا مشركين عبدة أصنام.
و قوله: {أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ} يريد بالفاحشة اللواط بدليل قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً} و في قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ} أي أحد من الأمم و الجماعات دلالة على أن تاريخ ظهور هذه الفاحشة الشنيعة تنتهي إلى قوم لوط، و سيأتي جل ما يتعلق به من الكلام في تفصيل قصته في سورة هود.
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ} (الآية)، إتيان الرجال كناية عن العمل بهم بذلك، و قوله {شَهْوَةً} قرينة عليه، و قوله {مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ} قرينة أخرى على ذلك، و يفيد مضافا إلى ذلك أنهم كانوا قد تركوا سبيل النساء و اكتفوا بالرجال، و لتعديهم سبيل الفطرة و الخلقة إلى غيره عدهم متجاوزين مسرفين فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
و لكون عملهم فاحشة مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين استفهم عن ذلك مقارنا بـ «أن» المفيدة للتحقيق فأفاد التعجب و الاستغراب، و التقدير: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} (الآية).
قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا} إلى آخر الآية. أي لم يكن عندهم جواب فهددوه بالإخراج من البلد فإن قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} (الآية). ليس جوابا عن قول لوط لهم: {أَ تَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} (الآية). فجواب الكلام في ظرف المناظرة إما إمضاؤه و الاعتراف بحقيته و إما بيان وجه فساده، و ليس في قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ} إلى آخره شيء من ذلك فوضع ما ليس بجواب في موضع الجواب كناية عن عدم الجواب و دلالة على سفههم.
و قد استهانوا أمر لوط إذ قالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} (الآية) أي إن القرية أي البلدة لكم و هم نزلاء ليسوا منها و هم يتنزهون عما تأتونه و يتطهرون، و لا يهمنكم أمرهم فليسوا إلا أناسا لا عدة لهم و لا شدة.
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} فيه دلالة على أنه لم يكن آمن به إلا أهله، و قد قال تعالى في موضع آخر: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ}: الذاريات: ٣٦.
و قوله: {كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} أي الماضين من القوم، و هو استعارة بالكناية عن الهلاك و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ} ذكر الأمطار في مورد ترقب ذكر العذاب يدل على أن العذاب كان به و قد نكر المطر للدلالة على غرابة أمره و غزارة أثره، و قد فسره الله تعالى في موضع آخر بقوله: {وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}: هود: ٨٣.
و قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ} توجيه خطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعتبر به هو و أمته.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٨٥ الی ٩٣]
{وَ إِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨٥ وَ لاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ ٨٦ وَ إِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ ٨٧ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ٨٨ قَدِ اِفْتَرَيْنَا
عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ ٨٩ وَ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ٩٠فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٩١ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ اَلْخَاسِرِينَ ٩٢ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كَافِرِينَ ٩٣}
بيان
قوله تعالى: {وَ إِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (الآية) معطوف على القصة الأولى و هي قصة نوح (عليه السلام) ، و قد بنى (عليه السلام) دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة.
و قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته و لكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه و ليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم و لا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة.
على أنه يفرع قوله: {فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ} (الآية) على مجيء الآية ظاهرا، و إنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب و تحقق الهلاك. و هو ظاهر.
و قد دعاهم أولا بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل و الميزان و أن
لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإفساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم.
ثم دعاهم ثانيا بقوله: {وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}«إلى الكف عن الإفساد في الأرض بعد ما أصلحها الله بحسب طبعها، و الفطرة الإنسانية الداعية إلى إصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، و الإفساد في الأرض و إن كان بحسب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي و الذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله و ما بعده يخصه تقريبا بالإفساد الذي يسلب الأمن العام في الأموال و الأعراض و النفوس كقطع الطرق و نهب الأموال و هتك الأعراض و قتل النفوس المحترمة.
ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أما كون إيفاء الكيل و الميزان و عدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة و ما يتبعها، و هذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء و مقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله، و هو شيوعه، و إذا شاع البخس و الغش و الغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء و الردي مكان الجيد، و الخليط مكان الخالص، و بالآخرة كل شيء محل كل شيء بأنواع الحيل و العلاجات كان فيه هلاك الأموال و النفوس جميعا.
و أما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم فلأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات و في ذلك هلاك الحرث و النسل و فناء الإنسانية.
فالمعنى: إيفاء الكيل و الميزان و عدم البخس و الكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.
و ربما قيل: إن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه و خسرانه و ضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لأن انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي و هو الحياة الدنيا التي
هي لعب، و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله: {ذَلِكُمْ} هو إيفاء الكيل و ما بعده كما هو ظاهر السياق، و أما أخذ الإشارة إلى جميع ما تقدم و جعل المراد بالإيمان هو الإيمان المصطلح دون الإيمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشيء بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإيمان به و إيفاء الكيل و الميزان و عدم الفساد في الأرض خير لكم.
و يرد على الوجهين الأخيرين جميعا أن ظاهر قوله {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثبوت اتصافهم بالإيمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله: {كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} المؤلف من ماضي الكون الناقص و اسم الفاعل من الإيمان، المقتضي لاستقرار الصفة فيهم زمانا، و لا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر و المؤمن و المستكبر و المنقاد و لو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو أن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالإيمان غير الإيمان المصطلح.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} (الآية) ظاهر السياق أن {تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ} حالان من فاعل {لاَ تَقْعُدُوا} و قوله {وَ تَبْغُونَهَا} حال من فاعل {تَصُدُّونَ}.
ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب (عليه السلام) و يوعدونهم على إيمانهم به و الحضور عنده و الاستماع منه و إجراء العبادات الدينية معه، و يصرفونهم عن التدين بدين الحق و السلوك في طريقة التوحيد و هم يسلكون طريق الشرك، و يطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجا.
و بالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإيمان بكل ما يستطيعون من قوة و احتيال فنهاهم عن ذلك، و وصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم و يعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة، و ما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء.
فقوله: {وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ} كلام مسوق سوق العظة و التوصية و هو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الأوامر و النواهي
فقوله: {وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإنساني لأن الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة و السعادة العالية الإنسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية و غيرها اقتضت أن تهب العناية الإلهية له أدوات و قوى مختلفة و تركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح و غيرها تعاضدا في الفكر و الإرادة و العمل.
و من المعلوم أنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، و اشتدت في فكرتها و إرادتها و عملها فأحست و شعرت بدقائق الحوائج، و تنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها.
فمن المنن الإلهية أن النسل الإنساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، و ذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، و لا الأقوام و العشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شئونها السياسية و الاقتصادية و الحربية و غيرها مما يوزن بزنة العلم و الإرادة و العمل.
و أما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعبا، و النفوس دهشة، و خربت الديار، و نهبت الأموال، و سفكت الدماء، و أفنت الجموع، و استعبدت العباد، و أذلت الرقاب.
مهلهم الله في عتوهم و اعتدائهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، و استووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها و اجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل و اشتغلوا بملاهي الحياة و العيش و اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم فسلبوا القدرة و الإرادة، و حرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبإ.
فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة و الفراعنة و الأكاسرة و الفغافرة و غيرهم لم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس، و لم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإلهية الجارية في الكون أن تبتنى حياة الإنسان على التعقل فإذا تعدى ذلك و أخذ في الفساد
و الإفساد أبى طباع الكون ذلك، و ضادته الأسباب بقواها، و طحنته بجموعها، و ضربت عليه بكل ذلة و مسكنة.
قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} إلى آخر الآية. ثم دعاهم رابعا إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان و الكفر فإنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية بالاجتماع على الإيمان بالله و العمل الصالح، و كأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة، و أن الاختلاف كائن لا محالة، و أن الملأ المستكبرين من قومه و هم الذين كانوا يوعدون و يصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض و إيذاء المؤمنين و يوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، و تسلط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعا بالصبر و انتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم و هو خير الحاكمين.
فإن في ذلك صلاح المجتمع، أما المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة، و الاضطراب و الحيرة من جهة دينهم، و أما الكفار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤية و مفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، و لا يجور في حكم إذا ما حكم.
فقوله: {فَاصْبِرُوا} بالنسبة إلى الكفار أمر إرشادي، و بالنسبة إلى المؤمنين أمر مولوي أو إرشادي، و هو إرشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم.
قوله تعالى: {قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} (الآية). لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر و انتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده و تهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد.
و في تأكيدهم القول {لَنُخْرِجَنَّكَ} و {لَتَعُودُنَّ} بالقسم و نون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، و لذا بادر (عليه السلام) بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.
قوله تعالى: {قَالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} (الآية). أجاب (عليه السلام) بكراهة العود في ملتهم بدليل ما بعده من الجمل، و لازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه.
و قد أجاب (عليه السلام) عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه، و ذكر أنه و المؤمنين به جميعا كارهون للعود إلى ملتهم فإن في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، و ما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنية فقوله: {قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} (الآية). بمنزلة التعليل لقوله: {أَ وَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}.
و من أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا} على أن شعيبا (عليه السلام) كان قبل نبوته مشركا وثنيا حاشاه و قد تقدم آنفا أنه يتكلم عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه و قد كانوا كفارا مشركين قبل الإيمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك و هداهم بشعيب إلى التوحيد فقول شعيب: {نَجَّانَا اَللَّهُ} تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي و أما لو أريد بها التنجية الحقيقية و هي الإخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب و هو لم يشرك بالله طرفة عين و قومه و هم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب جميعا ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الإنسان لنفسه الهالكة ضرا و لا نفعا و ما أصابه من خير فهو من الله سبحانه.
و قوله: {وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا} كالإضراب و الترقي بالجواب القاطع كأنه قال: نحن كارهون العود إلى ملتكم لأن فيه افتراء على الله بل إن ذلك مما لا يكون البتة، و ذلك أن كراهة شيء إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فأجاب (عليه السلام) ثانيا بتعذر العود بعد جوابه أولا بتعسره، و هو ما ذكرناه من الإضراب و الترقي.
و لما كان قوله: {وَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} في معنى أن يقال: «لن نعود إليها أبدا» و القطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله، و هو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشية الله سبحانه فقال: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا} فإن الإنسان كيفما كان جائز الخطإ فمن الجائز أن يخطئ بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال.
و في الجمع بين الاسمين في قوله: {اَللَّهُ رَبُّنَا} إشارة إلى أن الله الذي يحكم ما يشاء هو الذي يدبر أمرنا و هو إله و رب، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلمه دين
الوثنية فإنه يسلم الألوهية لله ثم يفرز الربوبية بمختلف شئونها بين الأوثان و يسميها رب البحر و رب البر و هكذا.
و قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كأنه قيل لما استثنيت بعد ما أطلقت الكلام و قطعت في العزم؟ فقال: لأنه وسع ربي كل شيء علما و لا أحيط من علمه إلا بما شاء فمن الجائز أن يتعلق مشيته بشيء غائب عن علمي ساءني أو سرني كان يتعلق علمه بأنا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملتكم، و إن كنا اليوم كارهين له، و لعل هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله: {عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فإن من يتوكل على الله كان حسبه و صانه من شر ما يخاف.
و لما بلغ الكلام هذا البلاغ و قد أخبروهم بعزمهم على أحد الأمرين: الإخراج أو العود، و أخبرهم شعيب (عليه السلام) بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملتهم البتة التجأ (عليه السلام) إلى ربه و استفتح بقوله عن نفسه و عن المؤمنين: {رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ} يسأل ربه أن يفتح بينهم أي بين شعيب و المؤمنين به، و بين المشركين من قومه، و هو الحكم الفصل فإن الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه حتى لا يماس هذا ذاك و لا ذاك هذا دعا (عليه السلام) بالفتح و كنى به عن الحكم الفصل و هو الهلاك أو هو بمنزلته و أبهم الخاسر من الرابح و الهالك من الناجي و هو يعلم أن الله سينصره و أن الخزي اليوم و السوء على الكافرين لكنه (عليه السلام) أخذ بالنصفة للحق و تأدب بإرجاع الأمر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ}.
و خير الحاكمين و خير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، و قد تقدم البحث عن معنى الحكم فيما مر، و عن معنى الفتح آنفا، و سيجيء الكلام المستوفى في الأسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ فَادْعُوهُ بِهَا}: (الآية) ١٨٠من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} إلى آخر الآية. هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به و يكون من جملة الإيعاد و الصد اللذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله: {وَ لاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ}
و يكون إفراد هذا بالذكر هاهنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة و التمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم: {اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ اَلْخَاسِرِينَ}.
و يحتمل أن يكون الاتباع بمعناه الظاهر العرفي و هو اقتفاء أثر الماشي على الطريق و السالك السبيل بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه و من معه إلى أحد الأمرين: الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم ثم سمعوه يرد عليهم العود إلى ملتهم ردا قاطعا ثم يدعو بمثل قوله: {رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ} لم يشكوا أنه سيتركهم و يهاجر إلى أرض غير أرضهم، و يتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: {لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} فهددوهم و خوفوهم بالخسران إن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنهم إنما كانوا يعادونه إياه بالأصالة، و أما المؤمنون فإنما كانوا يبغضون من جهته و لأجله.
و على أي الوجهين كان فالآية كالتوطئة و التمهيد للآية الآتية: {اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ اَلْخَاسِرِينَ} كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، و قد تقدم معنى الآية في نظيرتها من قصة صالح.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}- إلى قوله - {اَلْخَاسِرِينَ} قال الراغب في المفردات: و غني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره بغنى قال: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}(انتهى). و {كَأَنْ} مخفف كأن خفف لدخوله الجملة الفعلية.
فقوله: {اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} فيه تشبيه حال المكذبين من قومه بمن لم يطيلوا الإقامة في أرضهم فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع و عقار، و أما من تمكن في أرض و استوطنها و أطال المقام بها و تعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية فإن تركها له متعسر كالمتعذر و خاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها و ما اقتنته فيها طول مقامها. و قد ترك هؤلاء و هم أمة عريقة في الأرض دارهم و ما فيها، في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
و قد كانوا يزعمون أن شعيبا و من تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنهم و انقلبت
الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا و مكر الله و الله خير الماكرين.
و إلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أولا قولهم: إن متبعي شعيب خاسرون، ثم ذكر نزول العذاب و أبهم الذين أخذتهم الرجفة فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ} و لم يقل: فأخذت الذين كفروا الرجفة، ثم صرح في قوله: {اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً} (الآية) أن الحكم الإلهي و الهلاك و الخسران كان لشعيب و من تبعه على الذين كذبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، و هم يزعمون خلافه.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} إلى آخر الآية. ظاهر السياق أنه إنما تولى بعد نزول العذاب عليهم و هلاكهم، و أن الخطاب خطاب اعتبار، و قوله: {فَكَيْفَ آسىَ} (إلخ) هو من الأسى أي كيف أحزن، و الباقي ظاهر.
[سورة الأعراف (٧): الآیات ٩٤ الی ١٠٢]
{وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩٥ وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٩٦ أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَ هُمْ نَائِمُونَ ٩٧ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ ٩٨ أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ ٩٩ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ١٠٠تِلْكَ اَلْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْبَائِهَا وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ ١٠١ وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ١٠٢}
بيان
الآيات متصلة بما قبلها، و هي تلخص القول في قصص الأمم الغابرة فتذكر أن أكثرهم كانوا فاسقين خارجين عن زي العبودية لم يفوا بالعهد الإلهي و الميثاق الذي أخذ منهم لأول يوم، و تبين أن ذلك كان هو السبب في وقوعهم في مجرى سنن خاصة إلهية يتبع بعضها بعضا، و هي أن الله سبحانه كان كلما أرسل إليهم نبيا من أنبيائه يمتحنهم و يختبرهم بالبأساء و الضراء فكانوا يعرضون عن آيات الله التي كانت تدعوهم إلى الرجوع إلى الله و التضرع و الإنابة إليه، و لا ينتبهون بهاتيك المنبهات، و هذه سنة.
و إذا لم ينفع ذلك بدلت هذه السنة بسنة أخرى، و هي الطبع على قلوبهم بتقسيتها و صرفها عن الحق، و تعليقها بالشهوات المادية و زينات الحياة الدنيا و زخارفها، و هذه سنة المكر.
ثم تتبعها سنة ثالثة و هي الاستدراج، و هي بتبديل السيئة حسنة، و النقمة نعمة و البأساء و الضراء، سراء، و في ذلك تقريبهم يوما فيوما و ساعة فساعة إلى العذاب الإلهي حتى يأخذهم بغتة و هم لا يشعرون به لأنهم كانوا يرون أنفسهم في مهد الأمن و السلام فرحين بما عندهم من العلم، و ما في اختيارهم من الوسائل الكافية على زعمهم في دفع ما يهددهم بهلاك أو يؤذنهم بالزوال.
و قد أشار الله سبحانه في خلال هذه الآيات إلى حقيقة ناصعة هي المدار الذي يدور عليه أساس نزول النعم و النقم على العالم الإنساني حيث يقول: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ} (الآية).
و توضيحها أن العالم بما فيه من الأجزاء متعلق الأبعاض مرتبط الأطراف يتصل بعضها
ببعض اتصال أعضاء بدن واحد و أجزائه بعضها ببعض في صحتها و سقمها و استقامتها في صدور أفاعيلها، و قيامها بالواجبات من أعمالها فالتفاعل بالآثار و الخواص جار بينها عام شامل لها.
و الجميع على ما يبينه القرآن الشريف سائر إلى الله سبحانه سألك نحو الغاية التي قدرت له فإذا اختل أمر بعض أجزائه و خاصة الأجزاء الشريفة، و ضعف أثره و انحرف عن مستقيم صراطه بأن أثر فساده في غيره، و انعكس ذلك منه إلى نفسه في الآثار التي يرسلها ذلك الغير إليه، و هي آثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف و هي المحنة و البلية التي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الأسباب فإن استقام بنفسه أو بإعانة من غيره عاد إليه رفاه حاله السابق، و لو استمر على انحرافه و اعوجاجه، و أدام فساد حاله دامت له المحنة حتى إذا طغا و تجاوز حده، و أوقفت سائر الأسباب المحيطة به في عتبة الفساد انتهضت عليه سائر الأسباب و هاجت بقواها التي أودعها الله سبحانه فيها لحفظ وجوداتها فحطمته و دكته و محته بغتة و هو لا يشعر.
و هذه السنة التي هي من السنن الكونية التي أقرها الله سبحانه في الكون غير متخلفة عن الإنسان، و لا الإنسان مستثنى منها فالأمة من الأمم إذا انحرفت عن صراط الفطرة انحرافا يصده عن السعادة الإنسانية التي قدرت غاية لمسيره في الحياة كان في ذلك اختلال حال غيره مما يحيط به من الأسباب الكونية المرتبطة به، و ينعكس إليه أثره السيئ الذي لا سبب له إلا انحرافه عن الصراط و توجيهه آثارا سيئة من نفسه إلى تلك الأسباب، و عند ذلك يظهر اختلالات في اجتماعاتهم، و محن عامة في روابطهم العامة كفساد الأخلاق، و قسوة القلوب، و فقدان العواطف الرقيقة، و تهاجم النوائب و تراكم المصائب و البلايا الكونية كامتناع السماء من أن تمطر، و الأرض من أن تنبت، و البركات من أن تنزل، و مفاجأة السيول و الطوفانات و الصواعق و الزلازل و خسف البقاع و غير ذلك كل ذلك آيات إلهية تنبه الإنسان و تدعو الأمة إلى الرجوع إلى ربه، و العود إلى ما تركه من صراط الفطرة المستقيم، و امتحان بالعسر بعد ما امتحن باليسر.
تأمل في قوله تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: الروم: ٤١ تراه شاهدا ناطقا بذلك، فالآية تذكر أن المظالم و الذنوب التي تكسبها أيدي الناس توجب فسادا في البر و البحر مما يعود إلى
الإنسان كوقوع الحروب و انقطاع الطرق و ارتفاع الأمن و غير ذلك، أو لا يعود إليه كاختلال الأوضاع الجوية و الأرضية الذي يستضر به الإنسان في حياته و معاشه.
و نظيره بوجه قوله تعالى: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}: الشورى: ٣٠على ما سيجيء إن شاء الله من تقرير معناه، و كذلك قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}: الرعد: ١١، و ما في معناه من الآيات.
و بالجملة فإن رجعت الأمة بذلك و ما أقله و أندره في الأمم - فهو، و إن استمرت على ضلالها و خبطها طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك، و أصبحوا يحسبون أن الحياة الإنسانية ليست إلا هذه الحياة المضطربة الشقية التي تزاحمها أجزاء العالم المادي و تضطهدها النوائب و الرزايا، و يحطمها قهر الطبيعة الكونية و أن ليس للإنسان إلا أن يتقدم في العلم و يتجهز بالحيل الفكرية فيبارزها و يتخذ وسائل كافية في دفع قهرها و إبطال مكرها كما اتخذ اليوم وسائل تكفي لدفع القحط و الجدب و الوباء و الطاعون و سائر الأمراض العامة السارية، و أخرى تنفي بها السيول و الطوفانات و الصواعق، و غير ذلك مما يأتي به طاغية الطبيعة، و يهدد النوع بالهلاك.
قتل الإنسان ما أكفره! أخذه الخيلاء فظن أن التقدم فيما يسميه حضارة و علما يعده أنه سيغلب طبيعة الكون، و يبطل عزائمها، و يقهرها على أن تطيعه في مشيته، و تنقاد لأهوائه، و هو أحد أجزائها المحكومة بحكمها الضعيفة في تركيبها و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و لو فسدت لكان الإنسان الضعيف من أقدم أجزائها في الفساد و أسرعها إلى الهلاك.
و يخيل إليه أن الذي ترومه المعرفة الدينية هو أن تبطل نسبة الحوادث العظام إلى أسبابها الطبيعية ثم تضع زمامها في يد صانعها فيكون شريكا من الشركاء، للأسباب الآخر آثارها من الحوادث و هي الحوادث التي يسعنا البحث عن عللها و أسبابها و للسبب الذي هو الصانع بقية الآثار من الحوادث كالحوادث العامة و الوقائع الجوية كالوباء و القحط و الأمطار و الصواعق و غيرها ثم إذا كشف عن العلل الطبيعية المكتنفة لهذه الأمور زعم أنه في غنى عن رب العالمين و تدبير ربوبيته.
و قد فاته أن الله عز اسمه ليس سببا في عرض الأسباب، و علة في صف العلل
المادية و القوى الفعالة في الطبيعة بل هو الذي أحاط بكل شيء، و خلق كل سبب فساقه و قاده إلى مسببه و أعطى كل شيء خلقه ثم هدى و لا يحيط بخلقه و مسببه غيره فله أن يتسبب إلى كل شيء بما أراده من الأسباب المجهولة عندنا الغائبة عن علومنا.
و إلى ذلك يشير نحو قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}: الطلاق: ٣، و قوله: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلىَ أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ»}: يوسف: ٢١، و قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ}: الشورى: ٣١، إلى غير ذلك من الآيات.
و كيف يسع للإنسان أن يحارب الله في ملكه، و يتخذ بفكره وسائل لإبطال حكمه و إرادته، و ليس هو سبحانه في عرضها بل هو في طولها أي هو الذي خلق الإنسان و خلق منه هذه الإرادة ثم الفكر ثم الوسائل المتخذة، و وضع كلا في موضعه، و ربط بعضها ببعض من بدئها إلى ختمها حتى أنهاها إلى الغاية الأخيرة التي يريد الإنسان بجهالته أن يحارب بالتوسل إليها ربه في قضائه و قدره، و يناقضه في حكمه، و هو أحد الأيادي العمالة لما يريده و يحكم به و بعض الأسباب المجرية لما يقدره و يقضي به.
و إلى هذا الموقف الفضيح الإنساني يشير تعالى بعد ذكر أخذه الإنسان بالبأساء و الضراء بقوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} على ما سيجيء إن شاء الله تعالى من تقرير معنى الآية عن قريب.
فهذه حقيقة برهانية تقرر أن الإنسان كغيره من الأنواع الكونية مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به، و لأعماله في مسير حياته و سلوكه إلى منزل السعادة ارتباط بغيره فإن صلحت للكون صلحت أجزاء الكون له و فتحت له بركات السماء، و إن فسدت أفسدت الكون و قابله الكون بالفساد فإن رجع إلى الصلاح فيها، و إلا جرى على فساده حتى إذا تعرق فيه انتهض عليه الكون و أهلكه بهدم بنيانه و إعفاء أثره، و طهر الأرض من رجسه.
و كيف يمكن للإنسان و أنى يسعه أن يعارض الكون بعمله و هو أحد أجزائه التي لا تستقل دونه البتة؟ أو يماكره بفكره و إنما يفكر بترتيب القوانين الكلية المأخوذة
منه؟ فافهم ذلك.
فهذه حقيقة برهانية و القرآن الكريم يصدقها و ينص عليها فالله سبحانه هو الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، و هداه إلى ما يسعده، و لم يخلق العالم سدى، و لا شيئا من أجزائه و منها الإنسان لعبا، بل إنما خلق ما خلق ليتقرب منه و يرجع إليه، و هيأ له منزلة سعادة يندفع إليها بحسب فطرته بإذن الله سبحانه، و جعل له سبيلا ينتهي إلى سعادته فإذا سلك سبيله الفطري فهو، و إلا فإن انحرف عنه انحرافا لا مطمع في رجوعه إلى سوي الصراط فقد بطلت فيه الغاية، و حقت عليه كلمة العذاب.
قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} إلى آخر الآية. قيل: البأساء في المال كالفقر، و الضراء في النفس كالمرض، و قيل: يعني بالبأساء ما نالهم من الشدة في أنفسهم و بالضراء ما نالهم في أموالهم، و قيل: غير ذلك. و قيل: إن البأس و البأساء يكثر استعمالهما في الشدة التي هي بالنكاية و التنكيل كما في قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً}.
و لعل قوله بعد: {اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ} حيث أريد بهما ما يسوء الإنسان و ما يسره يكون قرينة على إرادة مطلق ما يسوء الإنسان من الشدائد من الضراء، و يكون قوله: {بِالْبَأْسَاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ} من ذكر العام بعد الخاص.
يذكر سبحانه أن السنة الإلهية جرت على أنه كلما أرسل نبيا من الأنبياء إلى قرية من القرى - و ما يرسلهم إليهم إلا ليهديهم سبيل الرشاد - ابتلاهم بشيء من الشدائد في النفوس و الأموال رجاء أن يبعثهم ذلك إلى التضرع إليه سبحانه ليتم بذلك أمر دعوتهم إلى الإيمان بالله و العمل الصالح.
فالابتلاءات و المحن نعم العون لدعوة الأنبياء فإن الإنسان ما دام على النعمة شغله ذلك عن التوجه إلى من أنعمها عليه و استغنى بها، و إذا سلب النعمة أحس بالحاجة، و نزلت عليه الذلة و المسكنة، و علاه الجزع، و هدده الفناء فيبعثه ذلك بحسب الفطرة إلى الالتجاء و التضرع إلى من بيده سد خلته و دفع ذلته، و هو الله سبحانه و إن كان لا يشعر به و إذا نبه عليه كان من المرجو اهتداؤه إلى الحق، قال تعالى: {وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأىَ بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}: حم السجدة: ٥١.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} إلى آخر الآية. تبديل الشيء
شيئا وضع الشيء الثاني مكان الشيء الأول و السيئة و الحسنة معناهما ظاهر، و المراد بهما ما هما كالشدة و الرخاء، و الخوف و الأمن، و الضراء و السراء كما يدل عليه قوله بعده: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ}.
و قوله: {حَتَّى عَفَوْا} من العفو و فسر بالكثرة أي حتى كثروا أموالا و نفوسا بعد ما كان الله قللهم بالابتلاءات و المحن، و ليس ببعيد و إن لم يذكروه أن يكون من العفو بمعنى إمحاء الأثر كقوله:
ربع عفاه الدهر طولا فانمحى | *** | قد كاد من طول البلى أن يمسحا |
فيكون المراد أنهم محوا بالحسنة التي أوتوها آثار السيئة السابقة و قالوا: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ} أي إن الإنسان و هو في عالم الطبيعة المتحولة المتغيرة من حكم موقفه أن يمسه الضراء و السراء، و تتعاقب عليه الحدثان مما يسوؤه أو يسره من غير أن يكون لذلك انتساب إلى امتحان إلهي و نقمة ربانية.
و من الممكن بالنظر إلى هذا المعنى الثاني أن يكون قوله: {وَ قَالُوا} إلخ، عطف تفسير لقوله: {عَفَوْا} و المراد أنهم محوا رسم الامتحان الإلهي بقولهم: إن الضراء و السراء إنما هما من عادات الدهر المتبادلة المتداولة يداولنا بذلك كما كان يداول آباءنا كما قال تعالى: {وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً}: حم السجدة: ٥٠.
و {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى عَفَوْا وَ قَالُوا} (الآية)، للغاية، و المعنى: ثم آتيناهم النعم مكان النقم فاستغرقوا فيها إلى أن نسوا ما كانوا عليه في حال الشدة و قالوا: إن هذه الحسنات و تلك السيئات من عادة الدهر فانتهى بهم إرسال الشدة ثم الرخاء إلى هذه الغاية، و كان ينبغي لهم أن يتذكروا عند ذلك و يهتدوا إلى مزيد الشكر بعد التضرع لكنهم غيروا الأمر فوضعوا هذه الغاية مكان تلك الغاية التي رضيها لهم ربهم فطبع الله بذلك على قلوبهم فلا يسمعون كلمة الحق.
و لعل قوله: {اَلضَّرَّاءُ وَ اَلسَّرَّاءُ} قدم فيه الضراء على السراء ليحاذي ما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ} من الترتيب.
و في قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} تلويح إلى جهل الإنسان بجريان
الأمر الإلهي، و لذا كان الأخذ بغتة و فجأة من غير أن يشعروا به، و هم يظنون أنهم عالمون بمجاري الأمور، و خصوصيات الأسباب، لهم أن يتقوا ما يهددهم من أسباب الهلاك بوسائل دافعة يهديهم إليها العلم، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}: المؤمن: ٨٣.
قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} إلى آخر الآية. البركات أنواع الخير الكثير ربما يبتلى الإنسان بفقده كالأمن و الرخاء و الصحة و المال و الأولاد و غير ذلك.
و قوله: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} فيه استعارة بالكناية فقد شبهت البركات بمجاري تجري منها عليهم كل ما يتنعمون به من نعم الله لكنها سدت دونهم فلا يجري عليهم منها شيء لكنهم لو آمنوا و اتقوا لفتحها الله سبحانه فجرى عليهم منها بركات السماء من الأمطار و الثلوج و الحر و البرد و غير ذلك كل في موقعه و بالمقدار النافع منه، و بركات الأرض من النبات و الفواكه و الأمن و غيرها ففي الكلام استعارة المجاري لبركات ثم ذكر بعض لوازمه و آثاره و هو الفتح للمستعار له.
و في قوله: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا} (الآية) دلالة على أن افتتاح أبواب البركات مسبب لإيمان أهل القرى جميعا و تقواهم أي إن ذلك من آثار إيمان النوع الإنساني و تقواه لا إيمان البعض و تقواه فإن إيمان البعض و تقواه لا ينفك عن كفر البعض الآخر و فسقه، و مع ذلك لا يرتفع سبب الفساد و هو ظاهر.
و في قوله: {وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} دلالة على أن الأخذ بعنوان المجازاة و قد تقدم في البيان المذكور آنفا ما يتبين به كيفية ذلك، و أنه في الحقيقة أعمال الإنسان ترد إليه.
قوله تعالى: {أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَ هُمْ نَائِمُونَ} البيات و التبييت قصد العدو ليلا، و هو من المكر لأن الليل سكن يسكن فيه الإنسان و يميل بالطبع إلى أن يستريح و ينقطع عن غيره بالنوم و السكون.
و قد فرع مضمون الآية على ما قبله أي إذا كان هذا حال أهل القرى أنهم يغترون بما تحت حسهم عما وراءه فيفجئون و يأخذهم العذاب بغتة و هم لا يشعرون فهل أمنوا
أن يأتيهم عذاب الله ليلا و هم في حال النوم، و قد عمتهم الغفلة؟
قوله تعالى: {أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ} الضحى صدر النهار حين تنبسط الشمس، و المراد باللعب الأعمال التي يشتغلون بها لرفع حوائج الحياة الدنيا و التمتع من مزايا الشهوات، و هي إذا لم تكن في سبيل السعادة الحقيقية، و طلب الحق كانت لعبا، فقوله: {وَ هُمْ يَلْعَبُونَ} كناية عن العمل للدنيا و ربما قيل: إنه استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون، و ليس ببعيد أن يكون قوله في الآية السابقة {وَ هُمْ نَائِمُونَ} كناية عن الغفلة. و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ} مكر به مكرا أي مسه بالضرر أو بما ينتهي إلى الضرر و هو لا يشعر و هو إنما يصح منه تعالى إذا كان على نحو المجازاة كأن يأتي الإنسان بالمعصية فيؤاخذه الله بالعذاب من حيث لا يشعر أو يفعل به ما يسوقه إلى العذاب و هو لا يشعر، و أما المكر الابتدائي من غير تحقق معصية سابقة فمما يمتنع عليه تعالى و قد مرت الإشارة إليه كرارا.
و ما ألطف قوله تعالى: {أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىَ} و {أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىَ} ثم قوله {أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللَّهِ}، و الثالث و هو الذي في هذه الآية جمع و تلخيص للإنكارين السابقين في الآيتين، و قد أظهر في الآيتين جميعا من غير أن يقول في الثانية: أ و أمنوا (إلخ) ليعود الضمير في الآية الثالثة إلى من في الآيتين جميعا كأنه أخذ أهل القرى و هم نائمون غير أهل القرى و هم يلعبون.
و قوله: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ} ذلك لأنه تعالى بين في الآيتين الأوليين أن الأمن من مكر الله نفسه مكر إلهي يتعقبه العذاب الإلهي فالآمنون من مكر الله خاسرون لأنهم ممكور بهم بهذا الأمن بعينه.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} إلى آخر الآية. الظاهر أن فاعل قوله: {يَهْدِ} ضمير راجع إلى ما أجمله من قصص أهل القرى، و قوله {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ} مفعوله عدي إليه باللام لتضمينه معنى التبيين، و المعنى: أ و لم يبين ما تلوناه من قصص أهل القرى للذين يرثون الأرض من بعد أهلها هاديا لهم، و قوله: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} الآية مفعول {يَهْدِ} و المراد بالذين يرثون الأرض من بعد أهلها
الأخلاف الذين ورثوا الأرض من أسلافهم.
و محصل المعنى: أ و لم يتبين أخلاف هؤلاء الذين ذكرنا أنا آخذناهم بمعاصيهم بعد ما امتحناهم ثم طبعنا على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يسمعوا مواعظ أنبيائهم إنا لو نشاء لأصبناهم بذنوبهم من غير أن يمنعنا منهم مانع أو يتقوا بأسنا بشيء.
و ربما قيل: إن قوله: {يَهْدِ} منزل منزلة اللازم و المعنى: أ و لم يفعل بهم الهداية أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، و نظيره قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}: الم السجدة: ٢٦.
و أما قوله: {وَ نَطْبَعُ عَلىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} فمعطوف على قوله {أَصَبْنَاهُمْ} لأن الماضي هاهنا في معنى المستقبل، و المعنى أ و لم يهد لهم أ و لو نشاء نطبع (إلخ)، و قيل جملة معترضة تذييلية، و في الآية وجوه و أقوال أخر خالية عن الجدوى.
قوله تعالى: {تِلْكَ اَلْقُرىَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} إلى آخر الآية تلخيص ثان لقصصهم المقصوصة سابقا بعد التلخيص الذي مر في قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} إلى آخر الآيتين أو الآيات الثلاث.
و الفرق بين التلخيصين أن الأول تلخيص من جهة صنع الله من أخذهم بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم الأخذ بغتة و هم لا يشعرون، و الثاني تلخيص من جهة حالهم في أنفسهم قبال الدعوة الإلهية، و هو أنهم و إن جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لم يؤمنوا لتكذيبهم من قبل و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، و هذا من طبع الله على قلوبهم.
و قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} ظاهر الآية أن قوله {بِمَا} متعلق بقوله {لِيُؤْمِنُوا} و لازم ذلك أن تكون {فَمَا} موصولة و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}: يونس: ٧٤ فإنه أظهر في كون {فَمَا} موصولة لمكان ضمير {بِهِ} و يئول المعنى إلى أنهم كذبوا بما دعوا إليه أولا ثم لم يؤمنوا به عند الدعوة النبوية ثانيا.
و يؤيده ظاهر قوله {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} فإن هذا التركيب يدل على نفي التهيؤ القبلي يقال: ما كنت لآتي فلانا «و ما كنت لأكرم فلانا و قد فعل كذا أي لم يكن من شأني كذا و لم أكن بمتهيئ لكذا، و في التنزيل: {مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلىَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ}: آل عمران: ١٧٩، أي كان في إرادته التمييز من قبل.
و قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً».}: النساء: ١٣٧.
و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: {وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} فإن ظاهر السياق أن هذه الآية معطوفة عطف تفسير على قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} فيتبين بها أنهم كانوا عهد إليهم بعهد ففسقوا عنه و كذبوا به حين عهد إليهم ثم إذا جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم و لم يؤمنوا بهم، و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل.
و الآية أعني قوله: {وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} مذيلة بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ} فدل ذلك على أن ما وصفه من مجيء الرسل بالبينات و عدم إيمانهم لتكذيبهم بذلك قبلا هو من مصاديق الطبع المذكور، و حقيقته أن الله ثبت التكذيب في قلوبهم و مكنه من نفوسهم حتى إذا جاءتهم الرسل بالبينات لم يكن محل لقبول دعوتهم لكون المحل مشغولا بضده.
فتنطبق هاتان الآيتان بحسب المعنى على الآيتين الأوليين أعني قوله: ({وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا} إلى آخر الآيتين حيث تصفان سنة الله أنه يرسل آيات دالة على حقية أصول الدعوة من التوحيد و غيره بأخذهم بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثم يطبع على قلوبهم جزاء لجرمهم.
و على هذا فالمعنى في الآية: لقد جاءتهم رسلهم بالبينات لكنهم لما لم يؤمنوا بالآيات المرسلة إليهم الداعية لهم إلى التضرع إلى الله و الشكر لإحسانه بل شكوا فيها بل حملوها على عادة الدهر و تصريف الأيام و تقليبها الإنسان من حال إلى حال فكذبوا بهذه الآيات، و استقر التكذيب في قلوبهم فلما دعاهم الأنبياء إلى الدين الحق لم يؤمنوا بما كانوا يدعون إليه من الحق و بما كانوا يذكرونهم بها من الآيات لأنهم كذبوا بها من قبل و ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل فإن الله عز و جل طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.
فعدم إيمانهم أثر الطبع الإلهي، و الطبع أثر تكذيبهم بدلالة الابتلاء بالبأساء و الضراء ثم تبديل السيئة حسنة ثانيا، و من الدليل عليه قوله: {وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ
اَلْمُجْرِمِينَ}: يونس: ١٣، و قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} يعني نوحا {رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلىَ قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ}: يونس: ٧٤، و على هذا فقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} تفريع على قوله: {وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، و المراد بما كذبوا به الآيات البينات التي ذكرتهم بها الأنبياء من آيات الآفاق و الأنفس و ما جاءوا به من الآيات المعجزة فالجميع آياته، و المراد بتكذيبهم بها من قبل، تكذيبهم بها من حيث دلالة عقولهم بمشاهدتها أنهم مربوبون لله لا رب سواه، و بعدم إيمانهم ثانيا عدم إيمانهم بها حين يذكرهم بها الأنبياء.
فالمعنى فما كانوا ليؤمنوا بما يذكرهم به و يأتي به الأنبياء من الآيات التي كذبوا بها حين ذكرتهم بها عقولهم، و أرسلها الله إليهم ليذكروا و يتضرعوا إليه و يشكروا له.
و على هذا فالمراد بالعهد في قوله في الآية التالية: {وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} هو العهد الذي عهده الله سبحانه إليهم من طريق العقل بلسان الآيات: أن لا يعبدوا إلا إياه، و المراد بالفسق خروجهم عن ذلك العهد بعدم الوفاء به.
و لهذا العهد تحقق سابق على هذا التحقق و هو أن الله سبحانه أخذه بعينه منهم حين خلقهم و سواهم بخلق أبيهم آدم و تسويته ثم جعله مثالا للإنسانية العامة فأسجد له الملائكة و أدخله الجنة ثم عهد إليه حين أمر بهبوطه الأرض أن يعبده هو و ذريته و لا يشركوا به شيئا.
و قد قدر الله سبحانه هنالك ما قدر فهدى بحسب تقديره قوما و لم يهد آخرين ثم إذا وردوا الدنيا و أخذوا في سيرهم في مسير الحياة اهتدى الأولون، و فسق عن عهده الآخرون حتى طبع الله على قلوبهم و حقت عليهم الضلالة في الدنيا بعد أعمالهم السيئة كما تقدم بيانه في تفسير قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدىَ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ}: (الآية) ٣٠من السورة.
فمعنى الآية على هذا: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء بما كذبوا به و لم يقبلوه عند أخذ العهد الأول، و ما وجدنا لأكثرهم من وفاء في الدنيا بالعهد الذي عهدناه هناك و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين خارجين عن حكم ذلك العهد.
فهذا معنى لكنه غير مناف للمعنى السابق فإن أحد المعنيين في طول الآخر و ليسا بمتعارضين فإن تعين طريق الإنسان و غايته من سعادة و شقاوة بحسب القدر لا ينافي إمكان سعادته و شقاوته في الدنيا، و إناطة تحقق كل منهما باختياره ذلك و انتخابه و للقوم في تفسير الآية أقوال أخر:
١ -: أن المراد بتكذيبهم من قبل، تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى حين الإصرار و العناد و بقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} إلخ، كفرهم حين الإصرار، و المعنى فما كانوا ليؤمنوا حين العناد بما كذبوا به من أول الدعوة إلى ذلك الحين، و هذا وجه سخيف لا شاهد له من جهة اللفظ البتة.
٢ -: أن المراد بتكذيبهم قبلا، تكذيبهم بأصول الشرائع الإلهية التي لا يختلف في شيء منها كالتوحيد و المعاد، و مسألة حسن العدل و قبح الظلم مثلا مما يستقل به العقل، و بتكذيبهم بعدا تكذيبهم بتفاصيل الشرائع، و المعنى فما كانوا ليؤمنوا بهذه الشرائع المفصلة و هي التي كذبوا بها قبلا إجمالا قبل الدعوة التفصيلية، و فيه أنه خلاف ظاهر الآية فلا يقال للكفر بالله و بسائر ما ثبوته فطري عند العقل أنه تكذيب. على أن ما تقدم من القرائن على خلافه يكذبه.
٣ -: أن الآية على حد قوله تعالى: {وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فالمعنى: ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا به قبل إهلاكهم، هذا. و هو أسخف ما قيل في تفسير الآية.
٤ -: أن ضمير {كَذَّبُوا} راجع إلى أسلافهم كما أن ضمير {لِيُؤْمِنُوا} للأخلاف و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أسلافهم، و فيه: أنه قول من غير دليل و ظاهر سياق قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا} أن مرجع الثلاثة جميعا واحد، و من الممكن أن يقرر هذا الوجه بما يرجع إلى الوجه الآتي.
٥ -: أن الكلام مبني على أخذ عامة أهل القرى من أسلافهم و أخلافهم واحدا بعث إليه الرسل، و هم مأخوذون كالشخص الواحد فيكون تكذيب الأسلاف لأنبيائهم تكذيبا من الأخلاف لهم، و عدم إيمان الأخلاف أيضا عدم إيمان من الأسلاف و هذا كما يذكر القرآن أهل الكتاب و خاصة اليهود ثم يؤاخذ أخلافهم بما قدمته أيدي
أسلافهم، و تنسب إلى لاحقيهم مظالم سابقيهم في آيات كثيرة فيكون المعنى: هو ذا البشر منذ خلقوا إلى اليوم جاءتهم رسلهم بالبينات فما كان يؤمن آخرهم بما كذب به أولهم. هذا.
و فيه: أنه و إن كان في نفسه معنى صحيحا لكن السياق لا يلائمه فالكلام مسوق لبيان حال الأمم الغابرة كما يدل عليه قوله: {تِلْكَ اَلْقُرىَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} و لو كانوا مأخوذين على نعت الوحدة الممتدة بامتداد أعصارهم حتى يكون لها أول و آخر و صدر و ذيل تكفر بآخرها و ذيلها بما كذبت به بأولها و صدرها كان من حق الكلام أن يدل على مثل هذا الاستمرار في قوله: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فيقال: كانت تأتيهم رسلهم بالبينات أو ما يؤدي هذا المعنى لا بمثل قوله: {جَاءَتْهُمْ} الظاهر في اعتبار الدفعة و المرة فافهم ذلك.
و ذلك كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوىَ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ}: المائدة: ٧٠، فمن المعلوم أنه ربما كان المكذبون غير القاتلين، و قد نسب الجميع إلى مجتمع واحد لكن دل على استمرار مجيء الرسول، و نظيره قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اِسْتَغْنَى اَللَّهُ}: التغابن: ٦، و كذا قوله في قصص الأنبياء بعد نوح: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}: يونس: ١٤، فإن مفاد قوله {بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ} بعثنا كل رسول إلى قومه.
٦ -: أن الباء في قوله: {بِمَا كَذَّبُوا} سببية و ما مصدرية، و المراد بتكذيبهم من قبل ما اعتادوه من تكذيب الرسل أو كل حق واجههم، و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بسبب التكذيب الذي تقدم منهم للرسل أو لكل حق، بربهم.
و فيه: أنه محجوج بنظير الآية و هو قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} فإن وجود ضمير {بِهِ} فيه دليل على أن ما موصولة. على أن ظاهر الآية أن الباء للتعدية، و {بِمَا} متعلقة بقوله: {لِيُؤْمِنُوا} على أنه بوجه راجع إلى الوجه الأول.
٧ -: أن المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق و المعنى: فما كانوا ليؤمنوا عند دعوة الأنبياء في الدنيا بما كذبوا به قبله يوم الميثاق.
و فيه: أنه معنى صحيح في نفسه غير أنه من البطن دون الظهر الذي عليه يدور التفسير، و الدليل عليه قوله بعده: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ} فإنه يصرح بأن عدم إيمانهم كذلك إنما كان بالطبع على قلوبهم، و أن الله طبع على قلوبهم بتكذيبهم السابق فلم يؤمنوا به عند الدعوة اللاحقة، و الطبع لا يكون ابتدائيا في الدنيا بل لجرم سابق فيها، و هذا أحسن شاهد على أن هذا التكذيب الذي أورث لهم الطبع على قلوبهم كان في الدنيا ثم الطبع أوجب لهم أن لا يؤمنوا بما كذبوا به من قبل.
و في هذا المعنى آيات أخر تدل على أن الطبع و الختم الإلهي إنما هو عن جرم سابق دنيوي، و ليس مجرد سبق التكذيب في الميثاق ينتج الطبع الابتدائي في الدنيا فإنه مما لا يليق به سبحانه البتة، و قد قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦.
قوله تعالى: {وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} إلى آخر الآية، قال في المجمع: من عهد أي من وفاء بعهد كما يقال: فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد، و ليس بحافظ للعهد (انتهى). و من الجائز أن يراد بالعهد عهد الله الذي عهده إليهم من ناحية آياته أو عهدهم الذي عاهدوا الله عليه أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و من ناحية حاجة أنفسهم و دلالة عقولهم، و قد ظهر معنى الآية مما تقدم.
بحث روائي
في الكافي بإسناده عن الحسين بن الحكم قال: كتبت إلى العبد الصالح أخبره أني شاك و قد قال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىَ} فإني أحب أن تريني شيئا من ذلك. فكتب إليه: أن إبراهيم كان مؤمنا و أحب أن يزداد إيمانا، و أنت شاك و الشاك لا خير فيه، و كتب: أنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك.
و كتب: أن الله عز و جل يقول: {وَ مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} قال: نزلت في الشاك.
أقول: و انطباقه على ما مر في البيان السابق ظاهر، و قد روى ذيل الحديث العياشي عن الحسين بن الحكم الواسطي و فيه: نزلت في الشكاك
[سورة الأعراف (٧): الآیات ١٠٣ الی ١٢٦]
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآيَاتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ ١٠٣ وَ قَالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٠٤ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ١٠٥ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ١٠٦ فَأَلْقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ١٠٧ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ١٠٨ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ١٠٩ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ ١١٠قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ١١١ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ١١٢ وَ جَاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ ١١٣ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ ١١٤ قَالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ ١١٥ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جَاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ١١٦ وَ أَوْحَيْنَا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ١١٧ فَوَقَعَ اَلْحَقُّ وَ بَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١١٨ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ١١٩ وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ١٢٠
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ١٢١ رَبِّ مُوسى وَ هَارُونَ ١٢٢ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ١٢٣ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ١٢٤ قَالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ١٢٥ وَ مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ١٢٦}
بيان
شروع في قصص موسى (عليه السلام)، و قد خص بالذكر منها مجيئه إلى فرعون و دعواه الرسالة إليه لنجاة بني إسرائيل و إتيانه بالآيتين اللتين آتاه الله إياهما ليلة الطور، و هذه القصة هي التي تشتمل عليها هذه الآيات ثم إجمال قصته حين إقامته في مصر بين بني إسرائيل لإنجائهم، و ما نزل على قوم فرعون من آيات الشدة إلى أن أنجى الله بني إسرائيل، ثم تذكر قصة نزول التوراة و عبادة بني إسرائيل العجل، ثم قصصا متفرقة من بني إسرائيل يعتبر بها المعتبر.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآيَاتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ} إلى آخر الآية. في تغيير السياق في أول القصة دلالة على تجدد الاهتمام بأمر موسى (عليه السلام) فإنه من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة، و قد ورد الدين ببعثته في مرحلة جديدة من التفصيل بعد المرحلتين اللتين قطعهما ببعثة نوح و إبراهيم (عليه السلام)، و في لفظ الآيات شيء من الإشارة إلى تبدل المراحل فقد قال تعالى أولا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ} {وَ إِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} {وَ إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} فجرى على سياق واحد لأن هودا و صالحا كانا على شريعة نوح، ثم غير السياق فقال: {وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} لأن لوطا من أهل المرحلة الثانية في الدين و هي مرحلة شريعة إبراهيم، و كان لوط على شريعته ثم عاد إلى السياق السابق في بدء قصة شعيب، ثم غير السياق في بدء قصة موسى بقوله: {ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآيَاتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ} لأنه ثالث أولي العزم صاحب كتاب جديد و شريعة جديدة، و دين الله و شرائعه و إن كان واحدا لا تناقض فيه و لا تنافي غير أنه مختلف بالإجمال و التفصيل و الكمال و زيادته بحسب تقدم البشر تدريجيا من النقص إلى الكمال، و اشتداد استعداده لقبول المعارف الإلهية عصرا بعد عصر إلى أن ينتهي إلى موقف علمي هي أعلى المواقف فيختتم عند ذلك الرسالة و النبوة، و يستقر الكتاب و الشريعة استقرارا لا مطمع بعده في كتاب جديد أو شريعة جديدة و لا يبقى للبشر بعد ذلك إلا التدرج في الكمال من حيث انتشار الدين و انبساطه على المجتمع البشري و استيعابه لهم، و إلا التقدم من جهة التحقق بحقائق المعارف، و الترقي في مراقي العلم و العمل التي يدعو إليها الكتاب، و يحرض عليها الشريعة و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.
فقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآيَاتِنَا} إلى آخر الآية. إجمال لقصة موسى (عليه السلام) ثم يؤخذ في التفصيل من قوله: {وَ قَالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ} (الآية)، و إنا و إن كنا نسمي هذه القصص بقصة موسى و قصة نوح و قصة هود و هكذا فإنها بحسب ما سردت في هذه السورة قصص الأمم و الأقوام الذين أرسل إليهم هؤلاء الرسل الكرام يذكر فيها حالهم فيما واجهوا به رسل الله من الإنكار و الرد، و ما آل إليه أمرهم من نزول العذاب الإلهي الذي أفنى جمعهم، و قطع دابرهم و لذلك ترى أن عامة القصص المذكورة مختومة بذكر نزول العذاب و هلاك القوم.
و لا تنس ما قدمناه في مفتتح الكلام أن الغرض منها بيان حال الناس في قبول العهد الإلهي المأخوذ منهم جميعا ليكون إنذارا للناس عامة و ذكرى للمؤمنين خاصة، و أنه الغرض الجامع بين ما في سور «الم» و ما في سورة «_ ص» من الغرض و هو الإنذار و الذكرى.
فقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد من ذكروا من الأنبياء و هم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليه السلام) {مُوسى بِآيَاتِنَا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ} أي إلى ملك مصر و الأشراف الذين حوله، و «فرعون» لقب كان يطلق على ملوك مصر كالخديو كما كان يلقب بقيصر و كسرى و فغفور ملوك الروم و إيران و الصين، و لم يصرح القرآن الكريم باسم هذا الفرعون الذي أرسل إليه موسى فأغرقه الله بيده.
و قوله: {بِآيَاتِنَا} الظاهر أن المراد بها ما أتى به في أول الدعوة من إلقاء العصا فإذا هي ثعبان، و إخراج يده من جيبه فإذا هي بيضاء، و الآيات التي أرسلها الله إليهم بعد ذلك من الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات، و لم ينقل القرآن الكريم لنبي من الأنبياء من الآيات الكثيرة ما نقله عن موسى (عليه السلام).
و قوله: {فَظَلَمُوا بِهَا} أي بالآيات التي أرسل بها على ما سيذكره الله سبحانه في خلال القصة، و ظلم كل شيء بحسبه، و ظلم الآيات إنما هو التكذيب بها و الإنكار لها.
و قوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ} ذكر عاقبة الإفساد في الاعتبار بأمرهم لأنهم كانوا يفسدون في الأرض و يستضعفون بني إسرائيل، و قد كان في متن دعوة موسى حين ألقاها إلى فرعون: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} و في سورة طه: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ}: طه: ٤٧.
قوله تعالى: {وَ قَالَ مُوسىَ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} شروع في تفصيل قصة الدعوة كما تقدمت الإشارة إليه، و قد عرف نفسه بالرسالة ليكون تمهيدا لذكر ما أرسل لأجله، و ذكره تعالى باسمه رب العالمين أنسب ما يتصور في مقابلة الوثنيين الذين لا يرون إلا أن لكل قوم أو لكل شأن من شئون العالم و طرف من أطرافه ربا على حدة.
قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلىَ أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ} إلى آخر الآية تأكيد لصدقه في رسالته أي أنا حري بأن أقول قول الحق و لا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل لم يأمرني به الله سبحانه، و قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} في موضع التعليل بالنسبة إلى جميع ما تقدم أو بالنسبة إلى قوله: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} لأنه هو الأصل الذي يتفرع عليه غيره.
و لعل تعدية {حَقِيقٌ} بعلى من جهة تضمينه معنى حريص أي حريص على كذا حقيقا به، و المعروف في اللغة تعدية حقيق بمعنى حري بالباء يقال: فلان حقيق بالإكرام أي حري به لائق.
و قرئ: {حَقِيقٌ عَلىَ} بتشديد الياء و الحقيق على هذا مأخوذ من حق عليه كذا أي وجب، و المعنى واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق فالحقيق خبر
و مبتدؤه قوله: {أَنْ لاَ أَقُولَ} (الآية) و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} الشرط في صدر الآية أعني قوله: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} يتضمن صدقه (عليه السلام) فإنه إذا كان جائيا بآية واقعة فقد صدق في إخباره بأنه قد جاء بآية لكن الشرط في ذيل الآية تعريض يومئ به إلى أنه ما يعتقد بصدقه في إخباره بوجود آية معه، فكأنه قال: إن كنت جئت بآية فأت بها و ما أظنك تصدق في قولك، فلا تكرار في الشرط.
قوله تعالى: {فَأَلْقىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} الفاء جوابية كما قيل أي فأجابه بإلقاء عصاه، و هذه هي فاء التفريع و الجواب مستفاد من خصوصية المورد. و الثعبان الحية العظيمة و لا تنافي بين وصفه هاهنا بالثعبان المبين و بين ما في موضع آخر من قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ}: القصص: ٣١، و الجان هي الحية الصغيرة لاختلاف القصتين كما قيل فإن ذكر الجان إنما جاء في قصة ليلة الطور و قد قال تعالى فيها في موضع آخر: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىَ}: طه: ٢٠، و أما ذكر الثعبان فقد جاء في قصة إتيانه لفرعون بالآيات حين سأله ذلك.
قوله تعالى: {وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي نزع يده من جيبه على ما يدل عليه قوله تعالى: {وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلىَ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: طه: ٢٢، و قوله: {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: القصص: ٣٢.
و الأخبار و إن وردت فيها أن يده (عليه السلام) كانت تضيء كالشمس الطالعة عند إرادة الإعجاز بها لكن الآيات لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين إلا أن كونها آية معجزة تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة.
قوله تعالى: {قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك، و إنما الذي ذكر محاورة الملإ بعضهم بعضا كأنهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضا و يشير بعضهم إلى ما يراه و يصوبه آخرون فيقدمون ما صوبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به فهم لما تشاوروا في أمر موسى و ما شاهدوه من آياته المعجزة قالوا: إن هذا لساحر عليم، و إذا كان ساحرا غير صادق فيما يذكره من رسالة الله سبحانه فإنما يتوسل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل و استقلالهم في أمرهم
ليتأيد بهم ثم يخرجكم من أرضكم و يذهب بطريقتكم المثلى فما ذا تأمرون به في إبطال كيده، و إخماد ناره التي أوقدها؟ أ من الواجب مثلا أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله؟
فاستصوبوا آخر الآراء، و قدموه إلى فرعون أن أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم.
و من ذلك يظهر أن قوله تعالى: {فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ} حكاية ما قاله بعض الملإ لبعض و قوله: {قَالُوا أَرْجِهْ} إلخ، حكاية ما قدموه من رأي الجميع إلى فرعون و قد اتفقوا عليه، و قد حكى الله سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملأه قال تعالى: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَا ذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}: الشعراء: ٣٧.
و يظهر مما في الموضعين أنهم إنما شاوروا حول ما قاله فرعون ثم صوبوه و رأوا أن يجيبه بسحر مثل سحره، و قد حكى الله أيضا هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتى بالذي أشار إليه الملأ من معارضة سحره بسحر آخر مثله إذ قال: {قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسىَ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ}: طه: ٥٨، و لعل ذلك محصل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدم إلى فرعون مخاطب به موسى من قبل نفسه.