16

تفسير الميزان ج16

تفسير الميزان ج16 3795
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير السور التالية: القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، الأحزاب، سبأ
/۳٩۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۱٦

1
  •  

تفسير الميزان ج۱٦

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء السادس عشر

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱٦

3
  •  

  •  

  • المیزان فی تفسیر القرآن

  • کتاب علمی ، فنی ، فلسفی، ادبی،

  • تاریخی ، روائی، اجتماعی، حدیث

  • یفسر القرآن بالقرآن

  • تالیف

  • العلامه السيد محمد حسین الطباطبائی

  • المجلد السادس عشر

  • منشورات

  • موسسه الاعلمی للمطبوعات

  • بیروت-لبنان

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱٦

4
  • حقوق الطبع و التقلید محفوظه و مسجله للناشر

  • ١٣٩٣ه – ١٩٧٣م

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

  • واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

تفسير الميزان ج۱٦

5
  • (٢٨) (سورة القصص مكية، و هي ثمان و ثمانون آية) (٨٨) 

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ١ الی ١٤]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ طسم ١ تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ٢ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‌ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٣ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ٤ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ ٥ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ٦ وَ أَوْحَيْنَا إِلى‌ أُمِّ مُوسى‌ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٧ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ٨ وَ قَالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩ وَ أَصْبَحَ 

تفسير الميزان ج۱٦

6
  • فُؤَادُ أُمِّ مُوسى‌ فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى‌ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١١ وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ اَلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‌ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ١٢ فَرَدَدْنَاهُ إِلى‌ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ١٣ وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى‌ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٤} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدة و عسرة و فتنة بأن الله سيمن عليهم و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين و يمكن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى و فرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم فرباه في حجر عدو، حتى إذا استوى و بلغ أشده نجاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم رسولا منه بسلطان مبين حتى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين. 

  • و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعد لهم بالملك و العزة و السلطان و وعد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) برده إلى معاد. 

  • و انتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى 

تفسير الميزان ج۱٦

7
  • و الجواب عنه، و تعللهم عن الإيمان بقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثل بقصة قارون و خسفه. 

  • و السورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده. 

  • قوله تعالى{طسم تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ} تقدم الكلام فيه في نظائره. 

  • قوله تعالى{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسىَ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {مِنْ} للتبعيض و {بِالْحَقِّ} متعلق بقوله: {نَتْلُوا} أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهو من عندنا و بوحي منا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلقا بنبإ أي حال كون النبإ الذي نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه. 

  • و قوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} اللام فيه للتعليل و هو متعلق بقوله: {نَتْلُوا} أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا. 

  • و محصل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحق لأجل أن يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك و هم طائفة أذلاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذي آمنوا به و برسوله و تحملوا كل أذى في سبيله هو الله الذي أنشأ موسى (عليه السلام) لإحياء الحق و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره. 

  • أنشأه و الجو ذلك الجو المظلم الذي لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجى به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما. 

  • فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم و يرمز له و لهم بقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل بأولئك و يمن على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل. 

  • قوله تعالى{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} إلخ، العلو في الأرض كناية عن التجبر و الاستكبار، و الشيع‌ جمع شيعة و هي 

تفسير الميزان ج۱٦

8
  • الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق و كل فرقة شيعة و سموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا. انتهى. و كان المراد بجعل أهل الأرض و كأنهم أهل مصر و اللام للعهد فرقا إلقاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهن. 

  • و محصل المعنى: أن فرعون علا في الأرض و تفوق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعا و فرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شي‌ء و بذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته و الامتناع من نفوذ إرادته. 

  • و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوب (عليه السلام) و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف (عليه السلام) أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتى بلغوا الألوف. 

  • و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسى (عليه السلام) يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء و يزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم. 

  • و السبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الأرض فإن الخلقة العامة التي أوجدت الإنسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانية ثم جهز الكل بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الأرضية و لكل ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون. 

  • هذا هو الإصلاح الذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الذي يسوق الإنسانية إلى البيد و الهلاك. 

  • و في الآية تصوير الظرف الذي ولد فيه موسى (عليه السلام) و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه. 

  • قوله تعالى{وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ} إلى قوله {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} الأصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب الثقل و منه تسمية ما يوزن به منا، و المنة النعمة الثقيلة و من عليه منا أي أثقله بالنعمة. قال: و يقال 

تفسير الميزان ج۱٦

9
  • ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا} أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} و هو مستقبح إلا عند كفران النعمة. انتهى ملخصا. 

  • و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكانا يملكونه و يستقرون فيه و عن الخليل أن المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام أجري مجرى فعال. فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى. 

  • و قوله: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} إلخ الأنسب أن يكون حالا من {طَائِفَةً} و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ} و الأول أظهر، و {نُرِيدُ} على أي حال لحكاية الحال الماضية. 

  • و قوله: {وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} عطف تفسير على قوله: {نَمُنَّ} و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة. 

  • و المعنى: أن الظرف كان ظرف علو فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافا يبيدهم و يفنيهم و الحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلا ما أراد غيرهم أن يبوئهم فيه و يقرهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنتهم كما قالوا في موسى و أخيه لما أرسلا إليهم: {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلىَ} طه: ٦٣. 

  • و الآية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهية تعلقت بأن تنجيهم منهم و تحول ثقل النعمة من آل فرعون 

تفسير الميزان ج۱٦

10
  • الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلاء المستضعفين و تبدل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقب لحكمه. 

  • قوله تعالى{وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ} إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفي و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا}: الزلزال: ٥ و قوله: {وَ أَوْحىَ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ}: النحل: ٦٨ و قوله في أم موسى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ} (الآية) أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله: {إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلىَ أَوْلِيَائِهِمْ}: الأنعام: ١٢١، و الإلقاء الطرح، و اليم‌ البحر و النهر الكبير. 

  • و قوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ} في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت أم موسى به و الحال هذه الحال من الشدة و الحدة و وضعته و أوحينا إليها إلخ. 

  • و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لأم موسى لما وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه أن يطلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إياك إنا رادوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولا إلى آل فرعون و بني إسرائيل. 

  • فقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} تعليل للنهي في قوله: {وَ لاَ تَحْزَنِي} كما يشهد به أيضا قوله بعد: {فَرَدَدْنَاهُ إِلىَ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ} و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أن الخوف إنما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعي الوقوف. 

  • قوله تعالى{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} الالتقاط أصابه الشي‌ء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللام في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً} للعاقبة على ما قيل و الحزن‌ بفتحتين و الحزن‌ بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

11
  • و الخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأ كعلم يعلم علما كما أن المخطئ اسم فاعل من أخطأ يخطئ إخطاء، و الفرق بين الخاطئ و المخطئ على ما ذكره الراغب أن الخاطئ‌ يطلق على من أراد فعلا لا يحسنه ففعله قال تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً}، و قال: {وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، و المخطئ‌ يستعمل فيمن أراد فعلا يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى: {وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً}: النساء: ٩٢ و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخصا. 

  • فقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجم الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربوه في حجورهم و كان هو الذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم. 

  • و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليم و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوا و سبب حزن إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدون في تربيته. 

  • و بذلك يظهر أن تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربي عدوهم على أيديهم ليس بسديد. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاءوا إليه بموسى و هو طفل ملتقط من اليم تخاطب فرعون بقوله: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ} أي هو قرة عين لنا {لاَ تَقْتُلُوهُ} و إنما خاطب بالجمع لأن شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور. 

  • و إنما قالت ما قالت لأن الله سبحانه ألقى محبة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمه إليها، قال تعالى فيما يمن به على موسى (عليه السلام): {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلىَ عَيْنِي}: طه: ٣٩. 

تفسير الميزان ج۱٦

12
  • و قوله: {عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} قالته لما رأت في وجهه من آثار الجلال و سيماء الجذبة الإلهية، و في قولها: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} دلالة على أنهما كانا فاقدين للابن. 

  • و قوله: {وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟ 

  • قوله تعالى{وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسىَ فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلىَ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} الإبداء بالشي‌ء إظهاره، و الربط على الشي‌ء شدة و هو كناية عن التثبيت. 

  • و المراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه و خلوة من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها. 

  • و ذلك أن ظاهر السياق أن سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: {لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} إلخ. 

  • و قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ} إلخ ‌{إِنْ} مخففة من الثقيلة أي إنها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السر لو لا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، و قوله: {لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره. 

  • و المجموع أعني قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله: {وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسىَ فَارِغاً} و محصل معنى الآية و صار قلب أم موسى بسبب وحينا خاليا من الخوف و الحزن المؤديين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه. 

  • و بما تقدم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في {وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسىَ فَارِغاً} أي صفرا من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغا من الوحي الذي أوحي إليها 

تفسير الميزان ج۱٦

13
  • بالنسيان، و ما قيل: أي فارغا من كل شي‌ء إلا ذكر موسى أي صار فارغا له. فإنها جميعا وجوه لا يحتمل شيئا منها السياق. 

  • و نظير ذلك في الضعف قولهم: إن جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إن لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدم جوابها عليها. و قد تقدمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأىَ بُرْهَانَ رَبِّهِ}: يوسف: ٢٤. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قال في المجمع: القص‌ اتباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنه يتبع فيه الثاني الأول. و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى. 

  • و المعنى: و قالت أم موسى لأخته اتبعي أثر موسى حتى ترين إلام يئول أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنها تقصه و تراقبه. 

  • قوله تعالى{وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ اَلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} التحريم في الآية تكويني لا تشريعي و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها. 

  • و قوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل. 

  • و قوله: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} تفريع على ما تقدمه غير أن السياق يدل على أن هناك حذفا كأنه قيل: و حرمنا عليه المراضع غير أمه من قبل أن تجي‌ء أخته فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلما جاءت أخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون؟ 

  • قوله تعالى{فَرَدَدْنَاهُ إِلىَ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} تفريع على ما تقدمه مع تقدير ما يدل عليه السياق، و المحصل أنها قالت: هل أدلكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلتهم على أمه فسلموه إليها فرددناه إلى أمه بنظم هذه الأسباب. 

تفسير الميزان ج۱٦

14
  • و قوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ} إلخ، تعليل للرد و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنها كانت تعلم من قبل أن وعد الله حق و كانت مؤمنة و إنما أريد بالرد أن توقن بالمشاهدة أن وعد الله حق. 

  • و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهي بدليل قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئن إليها نفوسهم، و محصله أن توقع بمشاهدة حقية هذا الذي وعدها الله به أن مطلق وعده تعالى حق. 

  • و ربما يقال: إن المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} و لا يلائمه قوله بعد: {وَ لَكِنَّ} إلخ على ما تقدم. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشد، و قد تقدم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب. 

  • بحث روائي 

  • في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رض في قوله تعالى: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ} قال: يوسف و ولده. 

  • أقول: لعل المراد بنو إسرائيل، و إلا فظهور الآية في خلافه غير خفي. 

  • و في معاني الأخبار بإسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نظر إلى علي و الحسن و الحسين (عليه السلام) فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال: معناه أنكم الأئمة بعدي إن الله عز و جل يقول: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ} فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج۱٦

15
  • أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمة أهل البيت (عليه السلام) كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنها جميعا من قبيل الجري و الانطباق. 

  • و في نهج البلاغة: لتعطفن الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ}.

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ} إلى آخر الآية: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنه لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس. 

  • فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت: يذبح الساعة فعطف الله عز و جل قلب الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}

  • فأحبته القبطية الموكلة بها و أنزل الله على أم موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليم و هو البحر {وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل. 

  • و كان لفرعون قصر على شط النيل متنزه فنظر من قصره و معه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون - فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت و رفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال: هذا إسرائيلي فألقى الله في قلب فرعون محبة شديدة و كذلك في قلب آسية. 

  • و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه موسى. 

تفسير الميزان ج۱٦

16
  • و في المجمع في قوله تعالى: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} إلخ عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): و الذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه. 

  •  و في المعاني بإسناده عن محمد بن نعمان الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى‌} قال: أشده ثمان عشرة سنة {وَ اِسْتَوىَ} التحى. 

  •  

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ١٥ الی ٢١]

  • {وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىَ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى‌ فَقَضى‌ عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ١٥ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ١٦ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ١٧ فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسى‌ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ١٨ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسى‌ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ ١٩ وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‌ قَالَ يَا مُوسى‌ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ ٢٠ 

تفسير الميزان ج۱٦

17
  • فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢١} 

  • (بيان) 

  • فصل ثان من قصة موسى (عليه السلام) فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فأدى إلى خروجه من مصر و قصده مدين. 

  • قوله تعالى: {وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىَ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} إلخ، لا ريب أن المدينة التي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنه كان يعيش عند فرعون، و يستفاد من ذلك أن القصر الملكي الذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله: {وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىَ} على ما سيجي‌ء من الاستظهار. 

  • و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقة من المارة كالظهيرة و أواسط الليل. 

  • و قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} حكاية حال تمثل به الواقعة، و معناه: أن أحدهما كان إسرائيليا من متبعيه في دينه فإن بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام) في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون و الآخر قبطيا عدوا له لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب ربه: {وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: الشعراء: ١٤. 

  • و قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطي. 

  • و قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسىَ فَقَضىَ عَلَيْهِ} ضميرا {فَوَكَزَهُ} و {عَلَيْهِ} للذي من عدوه و الوكز على ما ذكره الراغب و غيره الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكف، 

تفسير الميزان ج۱٦

18
  • و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يعبر بالقتل. 

  • و قوله: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} و {مِنْ} ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية، و المعنى: هذا الذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنه هو الذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة و أن القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام. 

  • فعند ذلك تنبه (عليه السلام) أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدي إلا إلى الحق و الصواب فقضي أن ذلك منسوب إلى الشيطان. 

  • و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعا لكافر ظالم، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة. 

  • فقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدي إلى قتل القبطي و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} إشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية التي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذي هو عدو مضل مبين، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لما اعترض عليه فرعون بقوله: {وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ 

تفسير الميزان ج۱٦

19
  • مِنَ اَلْكَافِرِينَ} أجابه بقوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ}: الشعراء: ٢٠. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ} اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في قوله: {فَاغْفِرْ لِي} هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغم و تخليصه من شر فرعون و ملئه، كما يظهر من قوله تعالى: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ}: طه: ٤٠. 

  • و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكي في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} الأعراف: ٢٣. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} قيل: الباء في قوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ} للسببية و المعنى رب بسبب ما أنعمت علي، لك علي أن لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: أقسم بما أنعمت علي لأتوبن أو لأمتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، و قيل: القسم استعطافي و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى أقسمك أن تعطف علي و تعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين. 

  • و الوجه الأول هو الأوجه لأن المراد بقوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} على ما ذكروه أما إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلصه من قتل فرعون و رده إلى أمه، و أما إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطي و غفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى أقسم بحفظك إياي أو أقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو. 

  • و قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدت إعانته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرما. 

  • و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: أقسم بإنعامك علي لأتوبن فلن 

تفسير الميزان ج۱٦

20
  • أكون معينا لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم. 

  • و رد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام. 

  • و الحق أن قوله: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} عهد من موسى (عليه السلام) أن لا يعين مجرما على إجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد أطلقت إطلاقا الولاية الإلهية على ما يشهد به قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ}: النساء: ٦٩. 

  • و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ} الفاتحة: ٧ و ترتب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطي جرما حتى يتوب (عليه السلام) منه كيف؟ و هو (عليه السلام) من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته، و قد نص تعالى على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}: مريم: ٥١. 

  • و قد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما و علما و أنه من المحسنين و من المتقين من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه. 

  • و قد كرر {قَالَ} ثلاثا حيث قيل: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الأولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام. 

  • قوله تعالى{فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسىَ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} تقييد {فَأَصْبَحَ} بقوله: {فِي اَلْمَدِينَةِ} دليل على أنه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ‌ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد. 

تفسير الميزان ج۱٦

21
  • و المعنى: فأصبح موسى في المدينة و لم يرجع إلى بلاط فرعون و الحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا و تأنيبا: إنك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنه كان يخاصم و يقتتل قوما ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلا الشر كل الشر. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} إلى آخر الآية، ذكر جل المفسرين أن ضمير {قَالَ} للإسرائيلي الذي كان يستصرخه و ذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال: {يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} إلخ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى و عزموا على قتله. 

  • و ما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل: إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي، هذا و معنى باقي الآية ظاهر. و في قوله: {أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين، و فيه أيضا تأييد أن القائل: {يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ} إلخ، الإسرائيلي دون القبطي لأن سياقه سياق اللوم و الشكوى. 

  • قوله تعالى{وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىَ قَالَ يَا مُوسىَ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة. 

  • و الظاهر كون قوله: {مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ} قيدا لقوله: {جَاءَ} فسياق القصة يعطي أن الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أن هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة. 

  • و هذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصر فرعون الذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر. 

تفسير الميزان ج۱٦

22
  • قوله تعالى{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلم به موسى (عليه السلام) من التوحيد حتى هم به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة. 

  • فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له. {أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ}؟ فخلى عن صاحبه و هرب. 

  • و في العيون بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله: {فَوَكَزَهُ مُوسىَ فَقَضىَ عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} قال الرضا (عليه السلام): إن موسى (عليه السلام) دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله {إِنَّهُ} يعني الشيطان {عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}

  • قال المأمون: فما معنى قول موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال موسى: رب بما أنعمت علي من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى. 

تفسير الميزان ج۱٦

23
  • فأصبح موسى (عليه السلام) في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قاتلت رجلا بالأمس و تقاتل هذا اليوم لأؤدبنك و أراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما و هو من شيعته {قَالَ: يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ}. قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن. 

  •  

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ٢٢ الی ٢٨]

  • {وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ ٢٢ وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلرِّعَاءُ وَ أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ٢٣ فَسَقى‌ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ٢٤ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢٥ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ ٢٦ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلى‌ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٢٧ 

تفسير الميزان ج۱٦

24
  • قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اَللَّهُ عَلى‌ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ٢٨} 

  • (بيان) 

  • فصل ثالث من قصته (عليه السلام) يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفا من فرعون و تزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و بعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ} قال في المجمع: تلقاء الشي‌ء حذاؤه، و يقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه. و قال: سواء السبيل‌ وسط الطريق انتهى. 

  • و مدين على ما في مراصد الاطلاع، مدينة قوم شعيب و هي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل و هي أكبر من تبوك و بها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (عليه السلام) انتهى، و يقال: إنه كان بينهما و بين مصر مسيرة ثمان و كانت خارجة من سلطان فرعون و لذا توجه إليها. 

  • و المعنى: و لما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه و الخروج منه إلى غيره. 

  • و السياق - كما ترى - يعطي أنه (عليه السلام) كان قاصدا لمدين و هو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ} إلخ الذود الحبس و المنع، و المراد بقوله: {تَذُودَانِ} أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: {يَسْقُونَ} سقيهم أغنامهم و مواشيهم، و الرعاء جمع الراعي و هو الذي يرعى الغنم. 

تفسير الميزان ج۱٦

25
  • و المعنى: و لما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم و وجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما و تمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما حيث وجدهما تذودان الغنم و ليس على غنمهما رجل: ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون و يخرجوا أغنامهم و أبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي و لذا تصدينا الأمر. 

  • قوله تعالى{فَسَقىَ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فهم» (عليه السلام) من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف و تحجب منهما و تعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك و سقى لهما. 

  • و قوله: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه و الحر شديد و قال ما قال، و قد حمل الأكثرون قوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ} إلخ على سؤال طعام يسد به الجوع، و عليه فالأولى أن يكون المراد بقوله {لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ} القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي و الهرب من فرعون بقصد مدين و سقي غنم شعيب و اللام في {لِمَا أَنْزَلْتَ} بمعنى إلى و إظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شي‌ء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة. 

  • و يظهر منه أنه (عليه السلام) كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل و لا يريده و إن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه و جهادا فيه و هذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} ثم القائل لما أخذ في السلوك: {عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ} ثم القائل لما سقى و تولى إلى الظل: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا و عقد على بنته: {وَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}

  • و ما نقل عن بعضهم أن اللام في {لِمَا أَنْزَلْتَ} للتعليل و كذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين و هو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق. 

تفسير الميزان ج۱٦

26
  • قوله تعالى{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيَاءٍ} إلى آخر الآية. ضمير إحداهما للمرأتين، و تنكير الاستحياء للتفخيم و المراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، و قوله: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، و قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ} إلخ يلوح إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجا منهم إذ لا سلطان لهم على مدين. 

  • و عند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى (عليه السلام) أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب (عليه السلام) بالنجاة و ترجى أن يهديه سواء السبيل و هو في معنى الدعاء فورد مدين، و سأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى و زاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين و وهب له زوجا يسكن إليها. 

  • قوله تعالى{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه و إن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم. 

  • و قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ} إلخ، في مقام التعليل لقوله: {اِسْتَأْجِرْهُ} و هو من وضع السبب موضع المسبب و التقدير استأجره لأنه قوي أمين و خير من استأجرت هو القوي الأمين. 

  • و في حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته و كذا من ظهور عفته في تكليمهما و سقي أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته. 

  • و من هنا يظهر أن هذه القائلة: {يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ} إلخ، هي التي جاءته و أخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و ذهب إليه جمع من المفسرين. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} إلخ، عرض من شعيب لموسى (عليه السلام) أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا 

تفسير الميزان ج۱٦

27
  • قبال تزويجه إحدى ابنتيه و ليس بعقد قاطع و من الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه (عليه السلام). 

  • فقوله: {إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} دليل على حضورهما إذ ذاك، و قوله: {عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج، و الحجج‌ جمع حجة و المراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، و به يظهر أن حج البيت و هو من شريعة إبراهيم (عليه السلام) - كان معمولا به عندهم. 

  • و قوله: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك و باختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي. 

  • و قوله: {وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة و أنه عمل غير موصوف بالمشقة و أنه مخدوم صالح. 

  • و قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} أي إني من الصالحين و ستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم. 

  • قوله تعالى{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} الضمير لموسى (عليه السلام). 

  • و قوله: {ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ} أي ذلك الذي ذكرته و قررته من المشارطة و المعاهدة و عرضته علي ثابت بيننا ليس لي و لا لك أن نخالف ما شارطناه، و قوله: {أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب (عليه السلام) و هو قوله: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو علي و تلزمني بالزيادة و إن اخترت الزيادة و خدمتك عشرا فليس لك أن تعدو علي بالمنع من الزيادة. 

  • و قوله: {وَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان و إرجاع الحكم و القضاء بينهما إليه لو اختلفا، و لذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة و القضاء كليهما إليه تعالى، و هذا كقول يعقوب (عليه السلام) حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: يوسف: ٦٦. 

تفسير الميزان ج۱٦

28
  • (بحث روائي) 

  • في كتاب كمال الدين بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: {وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‌ قَالَ يَا مُوسى‌ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} من مصر بغير ظهر و لا دابة و لا خادم تخفضه أرض و ترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين. 

  • فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر و إذا عندها أمة من الناس يسقون و إذا جاريتان ضعيفتان و إذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير و نحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس. 

  • ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها و قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فروي أنه قال ذلك و هو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}

  • فروي أن موسى (عليه السلام) قال لها: وجهني إلى الطريق و امشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه و قص عليه القصص قال: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ}

  • قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} فروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء (عليه السلام) لا تأخذ إلا بالفضل و التمام. 

  • أقول: و روى ما في معناه القمي في تفسيره. 

  • و في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل حكاية عن موسى (عليه السلام): {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال: سأل الطعام. 

  • أقول: و روى العياشي عن حفص عنه (عليه السلام): مثله، و لفظه إنما عنى الطعام

تفسير الميزان ج۱٦

29
  • و أيضا عن ليث عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله‌، و في نهج البلاغة: مثله و لفظه و الله ما سأله إلا خبزا يأكله

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال: إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر. 

  • و في تفسير القمي قال: قالت إحدى بنات شعيب: {يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ}، فقال لها شعيب (عليه السلام): أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه لما قال لي: تأخري عني و دليني على الطريق فإنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته.

  • أقول: و روي مثله في المجمع عن علي (عليه السلام). 

  • و في المجمع و روى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رسائل أيتهما التي قالت: إن أبي يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.

  • أقول: و روى قضاء عشر سنين في الدر المنثور عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعدة طرق. 

  • و في تفسير العياشي و قال الحلبي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن البيت أ كان يحج قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ قال: نعم و تصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى (عليه السلام) حيث تزوج: {عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} و لم يقل ثماني سنين. 

  •  

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ٢٩ الی ٤٢]

  • {فَلَمَّا قَضىَ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ 

تفسير الميزان ج۱٦

30
  • نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٢٩ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى‌ إِنِّي أَنَا اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٣٠وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى‌ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ ٣١ اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‌ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ٣٢ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ٣٣ وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ٣٤ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ ٣٥ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسى‌ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ ٣٦ وَ قَالَ مُوسى‌ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدى‌ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ ٣٧ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى‌ إِلَهِ مُوسى‌ وَ إِنِّي 

تفسير الميزان ج۱٦

31
  • لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٣٨ وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ٣٩ فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلظَّالِمِينَ ٤٠وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ ٤١ وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ ٤٢} 

  • (بيان) 

  • فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) و قد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر و بعثته بالرسالة إلى فرعون و ملئه لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم و تنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب و كأنه هو العمدة في سرد القصة. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا قَضىَ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ نَاراً} إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) و المروي أنه قضى أطول الأجلين، و الإيناس‌ الإبصار و الرؤية، و الجذوة من النار القطعة منها، و الاصطلاء الاستدفاء. 

  • و السياق يشهد أن الأمر كان بالليل و كانت ليلة شديدة البرد و قد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور و قد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، و قد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} إلخ قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً} طه: ١٠، و هو أدل على كونهم ضلوا الطريق. 

  • و كذا في قوله خطابا لأهله: {اُمْكُثُوا} إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح 

تفسير الميزان ج۱٦

32
  • معه خطاب‌۱ الجمع. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ} إلخ قال في المفردات: شاطئ‌ الوادي جانبه، و قال: أصل الوادي‌ الموضع الذي يسيل منه الماء و منه سمي المنفرج بين الجبلين واديا و جمعه أودية انتهى و البقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها. 

  • و المراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر و هو صفة الشاطئ و لا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم. 

  • و البقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً}: طه: ١٢. 

  • و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شي‌ء محيط، قال تعالى: {وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}: الشورى: ٥١. 

  • و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به. 

  • و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليه السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ. و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ. 

  •  

    1. و في التوراة الحاضرة أنه حمل معه إلى مصر امرأته و بنيه (سفر الخروج الإصحاح الرابع آية ٢٠). 

تفسير الميزان ج۱٦

33
  • و قوله: {أَنْ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} أن فيه تفسيرية، و فيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا و الرب‌ هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره و إله معبود سواه. 

  • ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد و النبوة و المعاد إذ قال: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ} الآيات: طه: ١٤-١٦. 

  • قوله تعالى{وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ} تقدم تفسيره في سورة النمل. 

  • قوله تعالى{يَا مُوسىَ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ} بتقدير القول أي قيل له: أقبل و لا تخف إنك من الآمنين، و في هذا الخطاب تأمين له، و به يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: {يَا مُوسىَ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ}: النمل: ١٠و أنه تأمين معناه أنك مرسل و المرسلون آمنون لدي و ليس من العتاب و التوبيخ في شي‌ء. 

  • قوله تعالى: {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه و المراد بالسوء على ما قيل البرص. 

  • و الظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا۱ الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها و إذا يده برصاء مثل الثلج. 

  • قوله تعالى{وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ} إلى آخر الآية، الرهب‌ بالفتح فالسكون و بفتحتين و بالضم فالسكون الخوف، و الجناح‌ قيل: المراد به اليد و قيل: العضد. 

  •  

    1. سفر الخروج الإصحاح الرابع آية ٦.

تفسير الميزان ج۱٦

34
  • قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف. 

  • و قيل: إنه لما ألقى العصا و صارت حية بسط يديه كالمتقي و هما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها. 

  • و الوجهان كما ترى مبنيان على كون الجملة أعني قوله: {وَ اُضْمُمْ} إلخ، من تتمة قوله: {أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ} و هذا لا يلائم تخلل قوله: {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف. 

  • و قيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه و الحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال. 

  • و لا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه و جنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: {وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}: الحجر: ٨٨ على بعض المعاني. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} إشارة إلى قتله القبطي بالوكز و كان يخاف أن يقتلوه قصاصا. 

  • قوله تعالى{وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} قال في المجمع: يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره و يشد ظهره. انتهى. 

  • و قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، و السياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب و لا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه و من الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلىَ هَارُونَ}: الشعراء: ١٣. 

  • فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين 

تفسير الميزان ج۱٦

35
  • صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي. 

  • قوله تعالى{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ} شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، و عدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل و نحوه كأن الطائفتين يتسابقان و إحداهما متقدمة دائما و الأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم. 

  • و المعنى: قال سنقويك و نعينك بأخيك هارون و نجعل لكما سلطة و غلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها. ثم قال: {أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ} و هو بيان لقوله: {وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما و من اتبعهما من الناس. 

  • و قد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر و الغلبة و قيل: هو بمعنى الحجة و الأولى حينئذ أن يكون قوله: {بِآيَاتِنَا} متعلقا بقوله: {اَلْغَالِبُونَ} لا بقوله: {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} و قد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسىَ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى و المفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة. 

  • و الإشارة في قوله: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا. 

  • و الإشارة في قوله: {وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ} إلى ما جاء به من الدعوة و أقام عليها حجة الآيات، و أما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ}: طه: ٥٨ على أن عدم معهودية السحر و عدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه. 

  • فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، و يناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ} إلخ. 

تفسير الميزان ج۱٦

36
  • قوله تعالى{وَ قَالَ مُوسىَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: {وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ} في رد دعوى موسى، و هو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي و هو رب العالمين له الخلق و الأمر هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى و من تكون له عاقبة الدار و هو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى و هو دين التوحيد و وعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، و الحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده. 

  • فقوله: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ} يريد به نفسه و المراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها. 

  • و قوله: {وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: {وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}: الزمر: ٧٤ و إما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: {قَالَ مُوسىَ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: الأعراف: ١٢٨ و إما الأعم الشامل للدنيا و الآخرة، و الثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ}

  • و في قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} تعريض لفرعون و قومه و فيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم و فيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني. 

  • قال بعض المفسرين: و الوجه في عطف قوله: {وَ قَالَ مُوسىَ رَبِّي أَعْلَمُ} إلخ، على قولهم: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد. انتهى. و ما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى و لا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من 

تفسير الميزان ج۱٦

37
  • عند الله و أنه ما علم لهم من إله غيره. 

  • فقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرىَ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ}: المؤمن: ٢٩. 

  • فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى و آياته أن هناك إلها هو رب العالمين و لا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى. 

  • و بذلك يظهر أن قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه و ينفيها عن غيره و هو ينفيها عنه تعالى و يثبتها لنفسه، و أما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو و قومه فلا تعرض لها. 

  • و قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً} المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، و الصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشي‌ء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر و بناء قصر عال منه. 

  • و قوله: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلىَ إِلَهِ مُوسىَ} نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، و الكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة و التقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس و إضلالهم. 

  • و يمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، و يؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: {يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلىَ إِلَهِ مُوسىَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً}: المؤمن: ٣٧. 

  • و قوله: {وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إلى الظن بعدم الوجود و قد كان كاذبا في قوله هذا و لا يقوله إلا تمويها و تعمية على الناس و قد خاطبه موسى بقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ 

تفسير الميزان ج۱٦

38
  • هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}: إسراء: ١٠٢. 

  • و ذكر بعضهم أن قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: {قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ}: يونس: ١٨ و أنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية. 

  • قوله تعالى{وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع و ذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا}

  • قوله تعالى{فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ} إلخ النبذ الطرح، و اليم‌ البحر و الباقي ظاهر. 

  • و في الآية من الاستهانة بأمرهم و تهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى. 

  • قوله تعالى{وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر و المعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب و إرادة سببه. 

  • و معنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود و ليس من الإضلال الابتدائي في شي‌ء. 

  • و قيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: {وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً}: الزخرف: ١٩. 

  • و فيه أن الآية التالية على ما سيجي‌ء من معناها لا تلائمه. على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم. 

  • و قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} أي لا تنالهم شفاعة من ناصر. 

  • قوله تعالى{وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ} بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر و المعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر و المعاصي من مقتديهم و متبعيهم و عليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر و المعاصي بعدهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

39
  • فالآية في معنى قوله: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}: العنكبوت: ١٣ و قوله: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ}: يس: ١٢ و تنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها و استمرارها. 

  • و كذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر و يشمئز عنهم النفوس و يفر منهم الناس و لا يدنو منهم أحد و هو معنى القبح و قد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما. 

  • أقول: و روي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر. 

  • و في المجمع روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل و سار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا {قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}

  • و عن كتاب طب الأئمة بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: و قال الله عز و جل في قصة موسى (عليه السلام): {وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} يعني من غير برص.

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} قال الراوي: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فكم مكث موسى (عليه السلام) غائبا عن أمه حتى رده الله عز و جل عليها؟ قال: ثلاثة أيام. 

  • قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى (عليه السلام) لأبيه و أمه؟ قال: نعم أ ما تسمع الله عز و جل يقول: {يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي}؟ فقلت: 

تفسير الميزان ج۱٦

40
  • فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: كان الوحي ينزل على موسى و موسى يوحيه إلى هارون . 

  • فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي كان ذلك إليهما؟ قال: كان موسى الذي يناجي ربه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل و هارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة. قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون قبل موسى و ماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرية له.

  • أقول: و آخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، و في التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك. 

  • في جوامع الجامع في قوله تعالى: {وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ} قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز و جل: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.

  • و في الكافي بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عز و جل إمامان قال الله تبارك و تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم و حكم الله قبل حكمهم. قال: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ} يقدمون أمرهم قبل أمر الله و حكمهم قبل حكم الله و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز و جل. 

  • (كلام حول قصص موسى و هارون (عليه السلام)) في فصول‌ 

  • ١ - منزلة موسى عند الله و موقفه العبودي

  • كان (عليه السلام) أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء و لهم كتاب و شريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}: الأحزاب: ٧، و قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسى‌}: الشورى: ١٣ 

تفسير الميزان ج۱٦

41
  • و لقد امتن الله سبحانه عليه و على أخيه في قوله: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ}: الصافات: ١١٤ و سلم عليهما في قوله: {سَلاَمٌ عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ}: الصافات: ١٢٠. 

  • و أثنى على موسى (عليه السلام) بأجمل الثناء في قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}: مريم: ٥٢ و قال: {وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً}: الأحزاب: ٦٩ و قال: {وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى‌ تَكْلِيماً}: النساء: ١٦٤. 

  • و ذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية ٨٤-٨٨ فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين و أنه فضلهم على العالمين و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم. و ذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية ٥٨ منها أنهم الذين أنعم الله عليهم. 

  • فاجتمع بذلك له (عليه السلام) معنى الإخلاص و التقريب و الوجاهة و الإحسان و الصلاح و التفضيل و الاجتباء و الهداية و الإنعام و قد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب و كذا البحث عن معنى النبوة و الرسالة و التكليم. 

  • و ذكر الكتاب النازل عليه و هو التوراة فوصفها بأنها إمام و رحمة (سورة الأحقاف: ١٢) و بأنها فرقان و ضياء و ذكر: (الأنبياء: ٤٨) و بأن فيها هدى و نور: (المائدة: ٤٤) و قال: {وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ}: الأعراف: ١٤٥. 

  • غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها و اختلفوا فيها. و قصة بخت نصر و فتحه فلسطين ثانيا و هدمه الهيكل و إحراقه التوراة و حشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثلاثين قبل المسيح و إذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا و كتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ و قد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح (عليه السلام).

  • ٢ - قصص موسى (عليه السلام) في القرآن

  • هو (عليه السلام) أكثر الأنبياء ذكرا في 

تفسير الميزان ج۱٦

42
  • القرآن الكريم فقد ذكر اسمه على ما عدوه في مائة و ستة و ستين موضعا من كلامه تعالى، و أشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع و ثلاثين سورة من سور القرآن، و قد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، و قد ذكر في القرآن شي‌ء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إنزال المن و السلوى، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و إحياء الموتى، و رفع الطور فوق القوم و غير ذلك. 

  • و قد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه (عليه السلام) من دون استيفائها في كل ما دق و جل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية و الإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء و أممهم. 

  • و هذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون و جعلت أمه إياه في تابوت و ألقته في البحر و أخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع و التربية و نشأ في بيت فرعون. 

  • ثم بلغ أشده و قتل القبطي و هرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون و ملئه أن يقتلوه قصاصا. 

  • ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (عليه السلام) و تزوج إحدى بنتيه. 

  • ثم لما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا و قد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم و ذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة و كلمه و اجتباه و آتاه معجزة العصا و اليد البيضاء في تسع آيات و اختاره للرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و أمره بالذهاب إليه. 

  • فأتى فرعون و دعاه إلى كلمة الحق و أن يرسل معه بني إسرائيل و لا يعذبهم و أراه آية العصا و اليد البيضاء فأبى و عارضة بسحر السحرة و قد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين و حيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون و أصر فرعون على جحوده و هدد السحرة و لم يؤمن. 

تفسير الميزان ج۱٦

43
  • فلم يزل موسى (عليه السلام) يدعوه و ملأه و يريهم الآية بعد الآية كالطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات و هم يصرون على استكبارهم، و كلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون. 

  • فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر و اتبعهم فرعون و جنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم. 

  • و لما أنجاهم الله من فرعون و جنوده و أخرجهم إلى البر و لا ماء فيه و لا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن و السلوى و أمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها و أكلوا منهما و ظللهم الغمام. 

  • ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، و لما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة و أخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل. 

  • فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل و نسفه في اليم و طرد السامري و قال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس و أما القوم فأمروا أن يتوبوا و يقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم. 

  • ثم إنهم ملوا المن و السلوى و قالوا لن نصبر على طعام واحد و سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم و ابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة. 

  • و من قصص موسى (عليه السلام) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى 

تفسير الميزان ج۱٦

44
  • مجمع البحرين للقاء العبد الصالح و صحبته حتى فارقه.

  • ٣ - منزلة هارون (عليه السلام) عند الله و موقفه العبودي

  • أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام) في سورة الصافات في المن و إيتاء الكتاب و الهداية إلى الصراط المستقيم و في التسليم و أنه من المحسنين و من عباده المؤمنين (الصافات: ١١٤-١٢٢) و عده مرسلا (طه: ٤٧) و نبيا (مريم: ٥٣) و أنه ممن أنعم عليهم (مريم: ٥٨) و أشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان و الصلاح و الفضل و الاجتباء و الهداية (الإنعام: ٨٤-٨٨). 

  • و في دعاء موسى ليلة الطور: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً}: طه: ٣٥. 

  • و كان (عليه السلام) ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره و يعينه على جميع مقاصده. 

  • و لم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات و قال لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا و قد عبدوا العجل ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين. 

  • ٤ - قصة موسى (عليه السلام) 

  • في التوراة الحاضرة: قصصه (عليه السلام) موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة و هي: سفر الخروج و سفر اللاويين و سفر العدد و سفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه (عليه السلام) من حين ولادته إلى حين وفاته و ما أوحي إليه من الشرائع و الأحكام. 

  • غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة. 

  • و من أهمها أنها تذكر أن نداء موسى و تكليمه من الشجرة كان في أرض مدين 

تفسير الميزان ج۱٦

45
  • قبل أن يسير بأهله و ذلك حين كان يرعى غنم يثرون۱ حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية و جاء إلى جبل الله حوريب و ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله و كلمه بما كلمه و أرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.٢ 

  • و منها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى و رباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص.٣ 

  • و منها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون و عارضوا موسى في آيتي الدم و الضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى (عليه السلام) معجزة.٤ 

  • و منها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى (عليه السلام) و ذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون و قالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا (موسى) الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و أتوني بها. 

  • فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم و أتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم و صوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أ هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.٥ 

  • و في الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه (عليه السلام) غير خفية على المتدبر فيها. 

  • و هناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن 

    1. تسمي التوراة أبا زوجة موسى يثرون كاهن مديان.
    2. الإصحاح الثالثة من سفر الخروج.
    3. سفر الخروج، الإصحاح الثاني. الآية ٢٣.
    4. الإصحاح السابع و الثامن من سفر الخروج.
    5. الإصحاح الثاني و الثلاثون من سفر الخروج.

تفسير الميزان ج۱٦

46
  • المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين.۱ 

  • و أيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.٢ 

  • و أيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات و نزول الصاعقة عليهم و إحياءهم بعده. 

  • و أيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل و ألقاها كانت لوحين من حجر و هما لوحا الشهادة٣. إلى غير ذلك من الاختلافات. 

  •  

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ٤٣ الی ٥٦]

  • {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٣ وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى‌ مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ ٤٤ وَ لَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ٤٥ وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٦ وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً

    1. الإصحاح الثاني من سفر الخروج.
    2. الإصحاح السابع من سفر الخروج.
    3. الإصحاح الثاني من سفر الخروج. 

تفسير الميزان ج۱٦

47
  • فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٤٧ فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسى‌ مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ٤٨ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدى‌ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٩ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ٥٠وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٥١ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ٥٢ وَ إِذَا يُتْلى‌ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ٥٣ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٥٤ وَ إِذَا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ ٥٥ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ٥٦} 

  • (بيان) 

  • سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) راجعوا بعض أهل الكتاب و استفتوهم في أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه و هو 

تفسير الميزان ج۱٦

48
  • مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه و الإيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة و أنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: {وَ إِذَا يُتْلىَ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}

  • فساء المشركين ذلك و شاجروهم و أغلظوا عليهم في القول و قالوا: إن القرآن سحر و التوراة سحر مثله {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} و {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} فأعرض الكتابيون عنهم و قالوا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ}

  • هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، و هو سبحانه لما ساق قصة موسى (عليه السلام) و أنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم و تستحيي نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه و رده إليهم و أظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين و أنجى شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين. 

  • عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة و به تتم الحجة و هو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى (عليه السلام) فيه بصائر للناس و هدى و رحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم. 

  • و كذا أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القرآن و قص عليه قصص موسى (عليه السلام) و لم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه و لا حاضرا في الطور لما ناداه و كلمه، و قص عليه ما جرى بين موسى و شعيب (عليه السلام) و لم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته و لكن أنزله و قص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم و فسوقهم في معرض نزول العذاب و أصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب و لم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و كانت الحجة لهم على الله سبحانه. 

  • فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزول القرآن قالوا: {لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسىَ مِنْ قَبْلُ} حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يعنون التوراة و القرآن، و قالوا {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}

تفسير الميزان ج۱٦

49
  • ثم لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)الحجة عليهم بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدىَ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق و تتم به الحجة على الناس و هم يعرفون فإن لم تكن التوراة و القرآن كتابي هدى و كافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما و ليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإعجاز و بدلالة البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى و القوم في الإعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم و هو قوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إلخ. 

  • ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و القرآن فأظهروا لهم الإيمان و التصديق و أعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة بوحيه إليه. 

  • و قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ} أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح و من بعدهم من الأمم الهالكة و لعل منهم قوم فرعون، و في هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين و ليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم و حلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون و يتذكر به المتذكرون. 

  • و قوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به و كان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق و يميز بها بينه و بين الباطل، و هي حال من الكتاب و قيل: مفعول له. 

  • و قوله: {وَ هُدىً} بمعنى الهادي أو ما يهتدى به و كذا قوله: {وَ رَحْمَةً} بمعنى ما يرحم به و هما حالان من الكتاب كبصائر، و قيل: كل منهما مفعول له. 

  • و المعنى: و أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة من بعد ما أهلكنا 

تفسير الميزان ج۱٦

50
  • الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة و الإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة و هدى يهتدون به إليها و رحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه و أحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد و العمل. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلىَ مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الغربي صفة محذوفة الموصوف و المراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي. 

  • و قوله: {إِذْ قَضَيْنَا إِلىَ مُوسَى اَلْأَمْرَ} كان القضاء مضمن معنى العهد، و المراد بعهد الأمر إليه على ما قيل أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه و أما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} و قوله: {وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} تأكيد لسابقه. 

  • و المعنى: و ما كنت حاضرا و شاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل. 

  • قوله تعالى{وَ لَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ} تطاول العمر تمادي الأمد و الجملة استدراك عن النفي في قوله: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ}، و المعنى: ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه و لكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته و خبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} الثاوي‌ المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه و الضمير في {عَلَيْهِمُ} لمشركي مكة الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى (عليه السلام) في مدين زمن كونه فيه. 

  • و قوله: {وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} استدراك من النفي في صدر الآية. 

  • و المعنى: و ما كنت مقيما في أهل مدين و هم شعيب و قومه مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك و لكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

51
  • قوله تعالى{وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا} إلخ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا. 

  • و قوله: {وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} إلخ، استدراك عن النفي السابق، و الظاهر أن {رَحْمَةً} مفعول له، و الالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} للدلالة على كمال عنايته تعالى به (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم و من يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود و صالح و شعيب و إسماعيل (عليه السلام). 

  • و المعنى: و ما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى و كلمناه و اخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد و لكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا} إلخ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد و العمل بدليل ذيل الآية، و المراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا و الآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر و الفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، و قد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ}: الأعراف: ٩٦ و غيره. 

  • و قوله: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ} متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول و جواب لو لا محذوف لظهوره و التقدير: لما أرسلنا رسولا. 

  • و محصل المعنى: أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول و أخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر و الفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا و نكون من المؤمنين. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ} 

تفسير الميزان ج۱٦

52
  • إلخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق و أنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا و الظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول و هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و المراد بقولهم: {لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ} أي لو لا أوتي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثل التوراة التي أوتيها موسى (عليه السلام)، و كأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}: الفرقان: ٣٢. 

  • و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: {أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسىَ مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يعنون القرآن و التوراة {وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}. و الفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين و الثاني كفر بأصل النبوة و لعله الوجه لتكرار {قَالُوا} في الكلام. 

  • قوله تعالى{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدىَ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تفريع على كون القرآن و التوراة سحرين تظاهرا، و لا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم و يجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، و هو كذلك على ما تبين بقوله: {وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} إلخ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب و يرسل إليهم الرسول، و لذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه. 

  • ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل الوصف لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما. 

  • و القرآن الكريم و إن كان يصرح بتسرب التحريف و الخلل في التوراة الحاضرة و ذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى (عليه السلام) و هي التي يصدقها القرآن. 

تفسير الميزان ج۱٦

53
  • على أن موضوع الكلام هما معا و القرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما. 

  • و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى آخر الآية، الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه و إلى الداعي باللام، و يحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، و لا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. انتهى. 

  • فقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} تفريع على قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدىَ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أي فإن قلت لهم كذا و كلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن و التوراة و تعين أن لا هدى أتم و أكمل من هداهما و هم مع ذلك يرمونها بالسحر و يعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق و لا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل و إنما يتبعون أهواءهم و يدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}

  • و يمكن أن يكون المراد بقوله: {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و هم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء و لا يعتقدون بأصل النبوة و أن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي و عليهم أن يتبعوه و يسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، و ربما أيد هذا المعنى قوله بعد: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ} إلخ. 

  • و قوله: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ} استفهام إنكاري و المراد به استنتاج أنهم ضالون، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق و انحراف عن صراط الرشد و ذلك ظلم و الله لا يهدي القوم الظالمين و غير المهتدي هو الضال. 

  • و محصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و ليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، و متبع الهوى ظالم و الظالم غير مهتد و غير المهتدي ضال فهم ضالون. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} التوصيل‌ تفعيل من 

تفسير الميزان ج۱٦

54
  • الوصل يفيد التكثير كالقطع و التقطيع و القتل و التقتيل، و الضمير لمشركي مكة و المعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الآية بعد الآية، و السورة إثر السورة من وعد و وعيد و معارف و أحكام و قصص و عبر و حكم و مواعظ لعلهم يتذكرون. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الضميران للقرآن و قيل: للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و الأول أوفق للسياق، و في الآية و ما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة. 

  • و سياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا يُتْلىَ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} إلخ، ضمائر الإفراد للقرآن، و اللام في {اَلْحَقُّ} للعهد و المعنى و إذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل. 

  • و قوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه و يسميه إسلاما. 

  • و قيل: الضميران للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما تقدم أوفق للسياق، و كيف كان فهم يعنون بذلك ما قرءوه في كتبهم من أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ}: الأعراف: ١٥٧ و قوله: {أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: الشعراء: ١٩٧. 

  • قوله تعالى{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا و مدح لهم على حسن سلوكهم و مداراتهم مع جهلة المشركين و لذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم و أجر الإيمان بالقرآن و صبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى. 

  • و قيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم و على أذى الكفار و تحمل المشاق و قد عرفت ما يؤيده السياق. 

تفسير الميزان ج۱٦

55
  • و قوله: {وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} إلخ الدرء الدفع، و المراد بالحسنة و السيئة قيل: الكلام الحسن و الكلام القبيح، و قيل: العمل الحسن و السيئ و هما المعروف و المنكر، و قيل: الخلق الحسن و السيئ و هما الحلم و الجهل، و سياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} إلخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، و المراد سقط القول الذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سب و كل ما فيه خشونة، و لذا لما سمعوه أعرضوا عنه و لم يقابلوه بمثله و قالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} و هو متاركة، و قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أي أمان منا لكم، و هو أيضا متاركة و توديع تكرما كما قال تعالى: {وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}

  • و قوله: {لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ} أي لا نطلبهم بمعاشرة و مجالسة، و فيه تأكيد لما تقدمه، و هو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيئ بالسيئ. 

  • قوله تعالى{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} المراد بالهداية الإيصال إلى المطلوب و مرجعه إلى إفاضة الإيمان على القلب و معلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، و ليس المراد بها إراءة الطريق فإنه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، و المراد بالاهتداء قبول الهداية. 

  • لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين و هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من نعمة الهداية و ضلالهم باتباع الهوى و استكبارهم عن الحق النازل عليهم و إيمان أهل الكتاب به و اعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء و هم من غير قومك الذين تدعوهم و لا يهدي هؤلاء و هم قومك الذين تحب اهتداءهم و هو أعلم بالمهتدين. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج البزار و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أبي 

تفسير الميزان ج۱٦

56
  • سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أهلك الله قوما و لا قرنا و لا أمة و لا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة. أ لم تر إلى قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى‌}؟ 

  • أقول: و في دلالة الآية على الإهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} (الآية): أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا و كلمتني تكليما. قال: نعم، محمد أكرم علي منك. قال: فإن كان محمد أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر و أنجيتهم من فرعون و عمله و أطعمتهم المن و السلوى. قال: نعم، أمة محمد أكرم علي من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم و إن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي. 

  • فنادى ربنا أمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا و هم في أصلاب آبائهم و أرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا و نحن عبيدك حقا. قال: صدقتم و أنا ربك و أنتم عبيدي حقا قد غفرت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة. 

  • قال ابن عباس: فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) أراد أن يمن عليه بما أعطاه و بما أعطى أمته فقال: يا محمد {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا}

  • أقول: و رواه فيه أيضا بطرق أخرى عن غيره و روى هذا المعنى أيضا الصدوق في العيون عن الرضا (عليه السلام) لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق و فساد ارتباط الجمل المتقدمة و المتأخرة بعضها ببعض. 

  • و في البصائر بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ} يعني من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى. 

تفسير الميزان ج۱٦

57
  • أقول: و روي مثله بإسناده عن المعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هو من الجري أو من البطن. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ} الآيات، نزل قوله: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ} و ما بعده في عبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و العبدي و سلمان الفارسي فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة. 

  • و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء و أبرهة و الأشرف و أيمن و إدريس و نافع و تميم. 

  • أقول: و روي غير ذلك. 

  • و فيه في معنى قوله تعالى: {وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} و قيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، و معناه يدفعون بالمدارأة مع الناس أذاهم عن أنفسهم: و روي مثل ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و مسلم و الترمذي و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لو لا أن يعيرني قريش - يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك فأنزل الله عليه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}

  • أقول: و روي ما في معناه عن ابن عمر و ابن المسيب و غيرهما، و روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) مستفيضة على إيمانه و المنقول من أشعار مشحون بالإقرار على صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حقية دينه، و هو الذي آوى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صغيرا و حماه بعد البعثة و قبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين و الأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة. 

  •  

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ٥٧ الی ٧٥]

  • {وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ

تفسير الميزان ج۱٦

58
  • لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٧ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ ٥٨ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىَ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي اَلْقُرىَ إِلاَّ وَ أَهْلُهَا ظَالِمُونَ ٥٩ وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَمَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٠أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ ٦١ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٦٢ قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ٦٣ وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ٦٤ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ ٦٥ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ ٦٦ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسىَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ ٦٧ وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٨ وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٦٩ 

تفسير الميزان ج۱٦

59
  • وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٧٠قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ ٧١ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ ٧٢ وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٧٣ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٧٤ وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٧٥} 

  • (بيان) 

  • تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق: {لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى‌} و ردته و هو قولهم: إن آمنا بما جاء به كتابك من الهدى و هو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل و السبي و النهب و سلب الأمن و السلام. 

  • فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب و يجبى إليه ثمرات كل شي‌ء فلا موجب لخوفهم من تخطفهم. 

  • على أن تنعمهم بالأموال و الأولاد و بطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله و استأصلها و ورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا. 

تفسير الميزان ج۱٦

60
  • على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى إنما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة و لا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه. 

  • على أن الخلق و الأمر لله فإذا اختار شيئا و أمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون و خسفه به و بداره الأرض. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} إلى آخر الآية. التخطف‌ الاختلاس بسرعة، و قيل الخطف و التخطف الاستلاب من كل وجه، و كان تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل و السبي و نهب الأموال كأنهم و ما يتعلق بهم من أهل و مال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، و المراد بالأرض أرض مكة و الحرم بدليل قوله بعد: {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} و القائل بعض مشركي مكة. 

  • و الجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنهم إن آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بإيمانهم و رفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة و أن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله و الإيمان به، و لهذا عبر بقوله: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ} و لم يقل: إن نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك. 

  • و قوله: {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} قيل: التمكين‌ مضمن معنى الجعل و المعنى أ و لم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم، و قيل: حرما منصوبا على الظرفية و المعنى: أ و لم نمكن لهم في حرم، و {آمِناً} صفة {حَرَماً} أي حرما ذا أمن، و عد الحرم ذا أمن و المتلبس بالأمن أهله من المجاز في النسبة، و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير أ و لم نعصمهم و نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم. 

  • و هذا جواب أول منه تعالى لقولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و محصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها أن آمنوا. 

  • و قوله: {يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الجباية الجمع، و الكل للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعا، و المعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، و الجملة 

تفسير الميزان ج۱٦

61
  • صفة لحرما جي‌ء بها لما عسى أن يتوهم أنهم يتضررون إن آمنوا بانقطاع الميرة. 

  • و قوله: {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} مفعول مطلق أو حال من ثمرات، و قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} استدراك عن جميع ما تقدم أي إنا نحن حفظناهم في أمن و رزقناهم من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذي يحفظهم من تخطف العرب هو شركهم و عبادتهم الأصنام. 

  • قوله تعالى{وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و {مَعِيشَتَهَا} منصوب بنزع الخافض أي و كم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها. 

  • و قوله: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي إن مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر و لم تسكن بعد هلاكهم إلا قليلا منها. 

  • و بذلك يظهر أن الأنسب كون {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء من {مَسَاكِنُهُمْ} لا من قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم في الأسفار. 

  • و قوله: {وَ كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ} حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، و في الجملة أعني قوله: {كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ} عناية لطيفة فإنه تعالى هو المالك لكل شي‌ء ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم و قد ملكها إياهم بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم بإهلاكهم و بقيت بعدهم لا مالك لها إلا هو فسمى نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم و هو المالك لما كان بأيديهم كان ملكهم الاعتباري انتقل إليه و لا انتقال هناك بالحقيقة و إنما ظهر ملكه الحقيقي بزوال ملكهم الاعتباري. 

  • و الآية جواب ثان منه تعالى لقولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و محصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء و لا يحفظ لكم أرضكم و التنعم فيها كما تشاءون فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر و بطر أهلكنا أهلها و بقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلا الله. 

تفسير الميزان ج۱٦

62
  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىَ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أم القرى هي أصلها و كبيرتها التي ترجع إليها و في الآية بيان السنة الإلهية في عذاب القرى بالاستئصال و هو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلا بعد إتمام الحجة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، و إلا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله و تكذيب رسوله. 

  • و في تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكة المشركين بالإيماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأن الله قد بعث في أم قراهم و هي مكة رسولا يتلو عليهم آياته و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم. 

  • و بذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىَ} فإن في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تقوية لنفسه و تأكيدا لحجته، و أما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله: {وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي اَلْقُرىَ} فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَمَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلخ الإيتاء: الإعطاء و {مِنْ شَيْ‌ءٍ} بيان لما لإفادة العموم أي كل شي‌ء أوتيتموه، و المتاع‌ ما يتمتع به و الزينة ما ينضم إلى الشي‌ء ليفيده جمالا و حسنا، و الحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة التي هي أقرب الحياتين منا و تقابلها الحياة الآخرة التي هي خالدة مؤبدة، و المراد بما عند الله الحياة الآخرة السعيدة التي عند الله و جواره و لذا عد خيرا و أبقى. 

  • و المعنى: أن جميع النعم الدنيوية التي أعطاكم الله إياها متاع و زينة زينت بها هذه الحياة الدنيا التي هي أقرب الحياتين منكم و هي بائدة فانية و ما عند الله من ثوابه في الدار الآخرة المترتب على اتباع الهدى و الإيمان بآيات الله خير و أبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا و زينتها أ فلا تعقلون. 

  • و الآية جواب ثالث عن قولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} محصله لنسلم أنكم إن اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا و زينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع 

تفسير الميزان ج۱٦

63
  • الهدى و سعادة الحياة الآخرة و هي خير و أبقى. 

  • قوله تعالى{أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ} (الآية) إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة و هو أن إيثار اتباع الهدى أولى من تركه و التمتع بمتاع الحياة الدنيا ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتبع الهدى و ما يلقاه من الوعد الحسن الذي وعده الله، من حال من لم يتبعه و اقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا و سيستقبله يوم القيامة الإحضار و تبري آلهته منه و عدم استجابتهم لدعوته و مشاهدة العذاب و السؤال عن إجابتهم الرسل. 

  • فقوله: {أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} الاستفهام إنكاري، و الوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة و الجنة كما قال تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ}: المائدة: ٩، و لا يكذب وعده تعالى قال: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ: } يونس: ٥٥. 

  • و قوله: {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} أي و هو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتع بمتاعها، و الدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد و التمتيع. 

  • و قوله: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ} أي للعذاب، أو للسؤال و المؤاخذة و {ثُمَّ} للترتيب الكلامي و إتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: {فَهُوَ لاَقِيهِ} للدلالة على التحقق. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الشركاء هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا و كونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شئونه تعالى كالعبادة و التدبير، و في قوله: {يُنَادِيهِمْ} إشارة إلى بعدهم و خذلانهم يومئذ. 

  • قوله تعالى{قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقربين و عيسى بن مريم (عليه السلام)، و صنف منهم كعتاة الجن و مدعي الألوهية من الإنس كفرعون و نمرود و غيرهما و قد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل 

تفسير الميزان ج۱٦

64
  • كإبليس و قرناء الشياطين و أئمة الضلال كما قال: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ} إلى أن قال {وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً}: يس: ٦٢، و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الجاثية: ٢٣، و قال: {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ}: التوبة: ٣١. 

  • و الذين يشير إليهم قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ} هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم و تبريهم من عبادتهم و هؤلاء المشركون و إن كانوا أنفسهم أيضا ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: {حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: الم السجدة: ١٣، و لكن المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الذين ينتهي إليهم الشرك و الضلال. 

  • و إيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسئولين أشاروا إليهم لعله للإشارة إلى أنهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} حم السجدة: ٤٨. 

  • و قوله: {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي هؤلاء يشيرون إلى المشركين هم الذين أغويناهم و الجملة توطئة للجملة التالية. 

  • و قوله: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، و الدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ}: إبراهيم: ٢٢ و قال حاكيا لتساؤل الظالمين و قرنائهم: {وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}: الصافات: ٣٢ أي ما كان ليصل إليكم منا و نحن غاوون غير الغواية. 

  • و من هنا يظهر أن لقولهم: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} معنى آخر، و هو أنهم اكتسبوا نظير الوصف الذي كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء. 

تفسير الميزان ج۱٦

65
  • و قوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجئوهم و يسلبوا منهم الاختيار، و قوله {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي بإلجاء منا، أو لتبرينا من أعمالهم فإن من تبرأ من عمل لم ينتسب إليه و إلى هذا المعنى يئول قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف: {وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: الأنعام: ٢٤ {وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ}: حم السجدة: ٤٨ {وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: يونس: ٢٨ إلى غير ذلك من الآيات فافهم. 

  • و قيل: المعنى تبرأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. و لا يخلو من سخافة. 

  • و لكون كل من قوليه: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} في معنى قوله: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} جي‌ء بالفصل من غير عطف. 

  • قوله تعالى{وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} المراد بشركائهم الآلهة التي كانوا شركاء لله بزعمهم و لذا أضافهم إليهم. و المراد بدعوتهم دعوتهم إياهم لينصروهم و يدفعوا عنهم العذاب و لذا قال: {وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ} بعد قوله: {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}

  • و قوله: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه و التقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، و يمكن أن يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ} معطوف على قوله السابق: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} إلخ، سئلوا أولا: عن شركائهم و أمروا أن يستنصروهم، و ثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله. 

  • و المعنى: ما ذا قلتم في جواب من أرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان و العمل الصالح؟ 

  • قوله تعالى{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} العمى استعارة عن 

تفسير الميزان ج۱٦

66
  • جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، و كان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ} للدلالة على أخذهم من كل جانب و سد جميع الطرق و تقطع الأسباب بهم كما قال: {وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ}: البقرة: ١٦٦ فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار و لا يجدون شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب. 

  • و قوله: {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرع بعض أفراد العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل و ردهم الدعوة. 

  • و قد فسر صدر الآية و ذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها فرأينا الصفح عنها أولى. 

  • قوله تعالى{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسىَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ} أي هذه حال من كفر و لم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع و آمن و عمل صالحا فمن المرجو أن يكون من المفلحين، و عسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب، و المعنى: فليتوقع الفلاح. 

  • قوله تعالى{وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير. 

  • و الآية جواب رابع عن قولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و الذي يتضمنه حجة قاطعة. 

  • بيان ذلك: أن الخلق و هو الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ}: الزمر: ٦٢ فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شي‌ء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإن هذا الشي‌ء المفروض إما مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده و آثار وجوده ينتهي إليه تعالى و لا معنى لتأثير الشي‌ء و لا لتأثير أثره في نفسه و إما غير مخلوق له و لا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالإلجاء و القهر و لا مؤثر في الوجود غيره و لا أن هناك شيئا لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شي‌ء أثرا و لا يمنعه شي‌ء من أثر كما قال: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}: الرعد: ٤١ و قال: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلىَ أَمْرِهِ}: يوسف: ٢١. 

تفسير الميزان ج۱٦

67
  • و إذ لا قاهر يقهره على فعل و لا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين و التشريع يتبعه فإن حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلا بإتيان أمور هي الواجبات و ما في حكمها و ترك أمور هي المحرمات و ما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله و سعادته هو الذي أمر به و ندب إليه و ما يتضرر به هو الذي نهى عنه و حذر منه. 

  • فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام و القوانين ما يشاء كما أن له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق و التدبير ما يشاء، و هذا معنى قوله: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ} و قد أطلق إطلاقا. 

  • و الظاهر أن قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} إشارة إلى اختياره التكويني فإن معنى إطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شي‌ء و لا يمنعه شي‌ء عما يشاؤه و بعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شي‌ء لا بنفسه و لا بمانع يمنع و هذا هو الاختيار بحقيقة معناه، و قوله: {وَ يَخْتَارُ} إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري و يكون عطفه على قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من عطف المسبب على سببه لكون التشريع و الاعتبار متفرعا على التكوين و الحقيقة. 

  • و يمكن حمل قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} على الاختيار التكويني و قوله: {وَ يَخْتَارُ} على الأعم من الحقيقة و الاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، و من الدليل عليه كون المنفي في قوله الآتي: {مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} هو الاختيار التشريعي الاعتباري، و الاختيار المثبت في قوله {وَ يَخْتَارُ} يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباري. 

  • ثم لا ريب في أن الإنسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم و الإرادة و إن لم يكن اختيارا مطلقا فإن للأسباب و العلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا و قابليته و ملائمته و قربه منه و مساعدة أدوات الأخذ و القبض و الالتقام و المضغ و البلع و غير ذلك مما لا يحصى. فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله، و الله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا و إليه ينتهي الكل و هو الذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار و أعطاه خيرته كما أعطاه خلقه. 

تفسير الميزان ج۱٦

68
  • ثم إن الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شي‌ء أو يمنعه عن شي‌ء لكونهم أمثالا له لا يزيدون عليه بشي‌ء في معنى الإنسانية و لا يملكون منه شيئا، و هذا هو المراد بكون الإنسان حرا بالطبع. 

  • فالإنسان مختار في نفسه حر بالطبع إلا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الإنسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى موارد السنن و القوانين الجارية في مجتمعة بدخوله في المجتمع و إمضائه ما يجري فيه من سنن و قوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، و كما أن المتقاتلين يملك كل منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، و كما أن الأجير إذا ابتاع عمله و آجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية. 

  • فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حر في عمله مختار في فعله إلا أن يسلب باختيار منه شيئا من اختياره فيملك غيره، و الله سبحانه يملك الإنسان في نفسه و في فعله الصادر منه ملكا مطلقا بالملك التكويني و بالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له و لا حرية بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهي تشريعيين كما لا خيرة و لا حرية له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيته التكوينية. 

  • و هذا هو المراد بقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لأنفسهم ما يشاءون و إن خالف ما اختاره الله و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}: الأحزاب: ٣٦ و للقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات. 

  • و قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن شركهم باختيارهم أصناما آلهة يعبدونها من دون الله. 

  • و هاهنا معنى آخر أدق أي تنزه و تعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فإن الخيرة بهذا المعنى لا تتم إلا بدعوى الاستقلال في 

تفسير الميزان ج۱٦

69
  • الوجود و الاستغناء عنه تعالى و لا تتم إلا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الألوهية. 

  • و في قوله: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ} التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة و النكتة فيه تأييد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تقويته و تطييب نفسه بإضافة صفة الرب إليه فإن معناه أن ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله و رده، و لأنهم لا يقبلون ربوبيته. 

  • و في قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ} وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية التي هي المبدأ للتنزه و التعالي عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فإنه تعالى يتصف بكل كمال و يتنزه عن كل نقص لأنه هو الله عز اسمه. 

  • قوله تعالى{وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ} الإكنان‌ الإخفاء و الإعلان‌ الإظهار، و لكون الصدر يعد مخزنا للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور و الإعلان إليهم أنفسهم. 

  • و لعل تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنه تعالى إنما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم و باطنهم من أوساخ الشرك و المعصية فطهرهم بذلك بحكمته. 

  • قوله تعالى{وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ظاهر السياق أن الضمير في صدر الآية راجع إلى {رَبُّكَ} في الآية السابقة، و الظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} تأكيد للحصر المستفاد من قوله: {هُوَ اَللَّهُ} كأنه قيل: و هو الإله المتصف وحده بالألوهية لا إله إلا هو. 

  • و على ذلك فالآية كالمتمم لبيان الآية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، و هو يعلم ظاهرهم و باطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده و هو الإله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده. 

  • و يكون ما في ذيل الآية من قوله: {لَهُ اَلْحَمْدُ} إلخ، وجوها ثلاثة توجه كونه تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده. 

  • أما قوله: {لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ} فلأن كل كمال موجود في الدنيا و الآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، و كل جميل من هذه النعم 

تفسير الميزان ج۱٦

70
  • الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء و لا يستقل شي‌ء غيره بشي‌ء من الثناء يثنى عليه به إلا و ينتهي إليه و العبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده. 

  • و أما قوله: {وَ لَهُ اَلْحُكْمُ} فلأنه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلا ما ملكه إياه و هو المالك لما ملكه و هو سبحانه مالك في مرحلة التشريع و الاعتبار كما أنه مالك في مرحلة التكوين و الحقيقة، و من آثار ملكه أن يقضي على عبيده و مملوكيه أن لا يعبدوا إلا إياه. 

  • و أما قوله: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فلأن الرجوع للحساب و الجزاء و إذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي و إذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الذي يجب أن يعبد وحده و له دين يجب أن يتعبد به وحده. 

  • قوله تعالى{قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، و قيل: هو من السرد و الميم زائدة و معناه المتتابع المطرد، و تقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة. 

  • و قوله: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} أي من الإله الذي ينقض حكمه تعالى و يأتيكم بضياء تستضيئون به و تسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، و يجري نظيره في قوله الآتي: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ} إلخ. 

  • و بذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة لم يتصور معه الإتيان بضياء أصلا لأن الذي يأتي به إما هو الله تعالى و إما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، و أما الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل و النهار و هو محال و المحال لا يتعلق به القدرة و لا الإرادة، و كذا الكلام في جانب النهار. 

  • و ربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: {إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ} إن أراد الله أن يجعل عليكم. و هو كما ترى. 

  • و كان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل و النهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل 

تفسير الميزان ج۱٦

71
  • الإلزام في الحجة بأهون ما يفرض و أيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور كأنه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشي‌ء على ذلك إن القدرة كلها لله سبحانه. 

  • و لا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأن المأتي به إن كان ظلمة ما لم تكف للسكن و إن كان ظلمة ممتدة كانت هي الليل. 

  • و تنكير {بِضِيَاءٍ} يؤيد ما ذكر من الوجه، و قد أوردوا وجوها أخرى في ذلك لا تخلو من تعسف. 

  • و قوله: {أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ} أي سمع تفهم و تفكر حتى تتفكروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى. 

  • قوله تعالى{قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب السعي للمعاش. 

  • و قوله: {أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ} أي إبصار تفهم و تذكر و إذ لم يبصروا و لم يسمعوا فهم عمي صم، و من اللطيف تذييل الآيتين بقوله: {أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ} {أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ} و لعل آية النهار خص بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار و بقي السمع لآية الليل و هو لا يخلو من مناسبة معه. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الآية) بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض. 

  • و قوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} اللام للتعليل و الضمير لليل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه و قوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي و جعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الذي هو عطيته فرجوع {لِتَسْكُنُوا} و {لِتَبْتَغُوا} إلى الليل و النهار بطريق اللف و النشر المرتب، و قوله: {وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} راجع إليهما جميعا. 

تفسير الميزان ج۱٦

72
  • و قوله: {وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ} في معنى قولنا: جعل لكم و ذلك رحمة منه و فيه إشارة إلى أن التكوين كالسكون و الابتغاء و التشريع و هو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} تقدم تفسيره و قد كررت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها. 

  • قوله تعالى{وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، و المراد بالشهيد شهيد الأعمال كما تقدمت الإشارة إليه مرارا و لا ظهور للآية في كونه هو النبي المبعوث إلى الأمة نظرا إلى إفراد الشهيد و ذكر الأمة إذ الأمة هي الجماعة من الناس و لا ظهور و لا نصوصية له في الجماعة الذين أرسل إليهم نبي و إن كانت من مصاديقها. 

  • و قوله: {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن لله شركاء. 

  • و قوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم زعمهم الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الألوهية لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسروه، ففي الكلام تقديم و تأخير و الأصل فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله. 

  • و على هذا فقوله: {أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ} نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: أن الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين حيث يدعون أن الألوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعي تعالى أنه حقه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله فالألوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له. 

  • و هذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التي يعطيها كلامه تعالى أن من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فليرتفع به كل باطل يلتبس به الأمر و يتشبه بالحق، و لازمه أن يظهر أمر الألوهية ظهورا لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء 

تفسير الميزان ج۱٦

73
  • فيستنتج منه توحده تعالى بالألوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك. 

  • و بذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا حجة عقلية لهم على مدعاهم و لا موجب على هذا لتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم القيامة، و يرتفع ثانيا حديث التقديم و التأخير المذكور الذي لا نكتة له ظاهرا إلا رعاية السجع. 

  • و من الممكن أن يكون {اَلْحَقَّ} في قوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ} مصدرا فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}: النور: ٢٥ فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا إن أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما به إن أريد به غيره، كما قال تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: آل عمران: ٦٠و لم يقل: الحق مع ربك. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (الآية)، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى الإسلام و الهجرة و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز و جل: {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.

  • أقول: و روي هذا المعنى في كشف المحجة، و روضة الواعظين، للمفيد و رواه في الدر المنثور عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس. 

  • و في الدر المنثور أخرج النسائي و ابن المنذر عن ابن عباس : أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} (الآية)، قال: يختار الله عز و جل الإمام و ليس لهم أن يختاروا. 

  • أقول: و هو من الجري مبنيا على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبي، و قد مر تفصيل الكلام فيه. 

تفسير الميزان ج۱٦

74
  • و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يقول: من هذه الأمة إمامها.

  • أقول: و هو من الجري.

  •  

  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ٧٦ الی ٨٤]

  • {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغىَ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ ٧٦ وَ اِبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ وَ لاَ تَبْغِ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ٧٧ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ٧٨ فَخَرَجَ عَلى‌ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ٧٩ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ لاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ ٨٠فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ ٨١ وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ

تفسير الميزان ج۱٦

75
  • وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لاَ أَنْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ ٨٢ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ٨٣ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٨٤} 

  • (بيان) 

  • قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و أجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهي و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين. 

  • قوله تعالى{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغىَ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ} قال في المجمع: البغي‌ طلب العتو بغير حق. قال: و المفاتح‌ جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عما يفتح به الأغلاق. قال: و ناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. و قال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله و هو الأوفق للآية. 

  • و قال في المجمع أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض. و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة 

تفسير الميزان ج۱٦

76
  • إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلا عن أبي صالح‌۱، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، و قيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. انتهى. و يزيف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف: {وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ}: يوسف: ٨ و هم تسعة نفر. 

  • و المعنى: أن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق و أعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك. 

  • قوله تعالى{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ} فسر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى: {وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}: الحديد: ٢٣. 

  • و لذا أيضا علل النهي بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ}

  • قوله تعالى{وَ اِبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ} إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا} أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسي و اعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له. 

  • و قيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا و قد أقبلت عليك شي‌ء قليل مما أوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلا و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيد. و هناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق. 

  • و قوله: {وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ} أي أنفقه لغيرك إحسانا كما آتاكه الله إحسانا من غير أن تستحقه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله: {وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا} على أول الوجهين السابقين و متممة له على الوجه الثاني. 

  •  

    1. و روى في الدر المنثور عن أبي صالح سبعين. 

تفسير الميزان ج۱٦

77
  • و قوله: {وَ لاَ تَبْغِ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ} أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} إلى آخر الآية. لا شك أن قوله {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به و كان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه الله إحسانا إليه و فضلا منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر. 

  • فأجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق و دعوى أنه إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدره في أنواع التنعم و بسط السلطة و العلو و البلوغ إلى الآمال و الأماني. 

  • و هذه المزعمة التي ابتلي بها قارون فأهلكته أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز و ساق إليه القوة و الجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة و قدرته النفسانية لا غير مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة و قوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله. 

  • و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: الزمر: ٥٢، و قال: {أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا 

تفسير الميزان ج۱٦

78
  • بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}: المؤمن: ٨٣ و عرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكا في أن المراد بالعلم في كلام ما قدمناه. 

  • و في قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: {فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ} نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه. 

  • و قوله: {أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً} استفهام توبيخي و جواب عن قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتعه منه هو علمه الذي عنده و هو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا، و كان ما له من القوة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر و يتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلا و إحسانا لنجاهم من الهلاك و متعهم من أموالهم و دافعوا بقوتهم و انتصروا بجمعهم. 

  • و قوله: {وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ} ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإلهية في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيئوه من التذلل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولي الطول و القوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، و ربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود. 

  • و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق و يكون جوابا عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنما يؤاخذه بذنبه، و أيضا يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر. 

  • هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل أخرى: 

تفسير الميزان ج۱٦

79
  • فقيل: المراد بالعلم في قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها. 

  • و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب. 

  • و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزا و دفائن كثيرة. 

  • و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: أوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله: {عِنْدِي} هو كذلك في ظني و رأيي. 

  • و قيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، و المعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و {عَلىَ} على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوز أن تكون للتعليل. 

  • و قيل: المراد بالسؤال في قوله: {وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ} سؤال يوم القيامة و المنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أما قوله تعالى: {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}: الصافات: ٢٤ فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين. 

  • و قيل: الضمير في قوله: {عَنْ ذُنُوبِهِمُ} لمن هو أشد و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين. 

  • و هذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق. 

  • قوله تعالى{فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الحظ هو النصيب من السعادة و البخت. 

  • و قوله: {يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}: 

تفسير الميزان ج۱٦

80
  • النجم: ٣٠و لذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} إلخ، الويل‌ الهلاك و يستعمل للدعاء بالهلاك و زجرا عما لا يرتضي، و هو في المقام زجرا عن التمني. 

  • و القائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون و عدوه سعادة عظيمة على الإطلاق، و مرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا مما أوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه. 

  • و قوله: {وَ لاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ} التلقية التفهيم و التلقي التفهم و الأخذ، و الضمير على ما قالوا للكلمة المفهومة من السياق، و المعنى: و ما يفهم هذه الكلمة و هي قولهم: {ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} إلا الصابرون. 

  • و قيل: الضمير للسيرة أو الطريقة و معنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها. 

  • و الصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد و على الطاعات و عن المعاصي، و وجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي و هو لا ينفك عن الإيمان و العمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء و الحرمان عن كثير من المشتهيات لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع و عصيان النفس الأمارة. 

  • قوله تعالى{فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ} إلى آخر الآية، الضميران لقارون و الجملة متفرعة على بغيه. 

  • و قوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ} الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، و في النصر و الانتصار معنى المنع و الامتناع، و محصل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب و ما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه و لم تفده قوته من دون الله و بان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه. 

  • فالفاء في قوله: {فَمَا كَانَ} لتفريع الجملة على قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ} إلخ، أي فظهر بخسفنا به و بداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق و الاستغناء 

تفسير الميزان ج۱٦

81
  • عن الله سبحانه و أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه و قد اكتسبهما بنبوغه العلمي. 

  • قوله تعالى{وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ} إلخ، ذكروا أن «وي» كلمة تندم و ربما تستعمل للتعجب و كلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد و إن كان التندم أسبق إلى الذهن. 

  • و قوله: {وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ} اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون و هم يصدقونه أن القوة و الجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان في علمه و جودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق و ضيقه بمشية من الله. 

  • و المقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك و التردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم {وَيْكَأَنَّ} للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون و قد قبلوه و صدقوه من قبل و هذه صنعة شائعة في الاستعمال. 

  • و الدليل على ذلك قولهم بعده: {لَوْ لاَ أَنْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} على طريق الجزم و التحقيق. 

  • و قوله: {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ} تندم منهم ثانيا و انتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون. 

  • قوله تعالى{تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الآية) و ما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة. 

  • و قوله: {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ} الإشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها و بهائها و علو مكانتها و هو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة و لذا فسروها بالجنة. 

  • و قوله: {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً} أي نختصها بهم و إرادة العلو هو الاستعلاء و الاستكبار على عباد الله و إرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فإن الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للإنسان على مقتضيات فطرته و خلقته و لا تقتضي فطرته إلا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الإنسانية الأرضية فكل معصية تقضي إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: {ظَهَرَ 

تفسير الميزان ج۱٦

82
  • اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ}: الروم: ٤١. 

  • و من هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد و إنما أفردت و خصت بالذكر اعتناء بأمرها، و محصل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة تخصها بالذين لا يريدون فسادا في الأرض بالعلو على عباد الله و لا بأي معصية أخرى. 

  • و الآية عامة يخصصها قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}: النساء: ٣١. 

  • و قوله: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي العاقبة المحمودة الجميلة و هي الدار الآخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا و الآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول. 

  • قوله تعالى{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي لأنها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: الأنعام: ١٦٠. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا و فيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخير منها كمال الفضل. 

  • و كان مقتضى الظاهر في قوله: {فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا} إلخ، الإضمار و لعل في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء إنما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية و أحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، و قوله: {كَانُوا يَعْمَلُونَ} الدال على الإصرار و الاستمرار، و أما من جاء بالسيئة و الحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال: {وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: التوبة: ١٠٢. 

  • و ليعلم أن الملاك في الحسنة و السيئة على الأثر الحاصل منها عند الإنسان و بها تسمى الأعمال حسنة أو سيئة و عليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من الحركة - يثاب الإنسان أو يعاقب، قال تعالى: {وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ}: البقرة: ٢٨٤. 

  • و به يظهر الجواب عما استشكل على إطلاق الآية بأن التوحيد حسنة و لا يعقل خير منه و أفضل، فالآية إما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد. 

تفسير الميزان ج۱٦

83
  • و ذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه و إن لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار. 

  • على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة و الضعف و الزيادة و النقيصة و إذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس: أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه و كان يبتغي العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى و حسده. 

  • فقال له موسى (عليه السلام): إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة و جاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم . 

  • فجاء قارون إلى موسى (عليه السلام) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و أن تصلوا الرحم و كذا و كذا و قد أمرني في الزاني إذا زنى و قد أحصن أن يرجم. قالوا: و إن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟ 

  • فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى (عليه السلام): أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني و جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي و أنا أشهد أنك بري‌ء و أنك رسول الله. 

  • فخر موسى (عليه السلام) ساجدا يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم - فجعلوا يقولون: يا 

تفسير الميزان ج۱٦

84
  • موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي و تضرعوا إليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم. 

  • قال ابن عباس: و ذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ} خسف به إلى الأرض السفلى. 

  • أقول: و روي فيه أيضا عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة : لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملإ من بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) بالفجور و تشكوه إلى قارون فجاءت إليه و اعترفت عند الملإ بالحق فبلغ ذلك موسى (عليه السلام) فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه. 

  • و روى القمي في تفسيره: في القصة أن موسى (عليه السلام) جاء إلى قارون و بلغه حكم الزكاة فاستهزأ به و أخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به و بداره الأرض‌، و الرواية موقوفة مشتملة على أمور منكرة و لذلك تركنا نقلها كما أن روايتي ابن عباس و ابن نوفل أيضا موقوفتان. 

  • على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى (عليه السلام) و الذي تقصه الآيات بغيه على بني إسرائيل، و تشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصله بالتعلم و ظاهر الآية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة و نحوها. 

  • و قد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الإصحاح السادس عشر من سفر العدد: و أخذ قورح بن بصهار بن نهات بن لاوي و داثان و أبيرام ابنا ألياب و أون بن فالت بنو رأوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مائتين و خمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى و هارون و قالوا لهما كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة و في وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟ 

  • فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح و جميع قومه قائلا: غدا يعلن الرب من هو له؟ و من المقدس؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا: خذوا لكم محابر قورح و كل جماعته و اجعلوا فيها نارا و ضعوا عليها بخورا أمام الرب غدا فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بني لاوي. 

تفسير الميزان ج۱٦

85
  • ثم سيقت القصة و ذكر فيها حضورهم غدا و مجيؤهم بالمجامر و فيها النار و البخور و اجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الأرض التي تحتهم و فتحت الأرض فاها و ابتلعتهم و بيوتهم و كل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم و كل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، و كل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، و خرجت نار من عند الرب و أكلت المائتين و الخمسين رجلا الذين قربوا البخور. انتهى موضع الحاجة. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ}: و هو ابن خالته: عن عطاء عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ} (الآية)، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة أولوا القوة. 

  • و في المعاني بإسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه عن علي (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا} قال: لا تنس صحتك و قوتك و فراغك و شبابك و نشاطك أن تطلب بها الآخرة. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال: في الثياب المصبغات يجرها بالأرض. 

  • و في المجمع و روى زاذان عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضال و يعين الضعيف و يمر بالبياع و البقال فيفتح عليه القرآن و يقرأ: {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً} و يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من سائر الناس. 

  • و فيه روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ} (الآية). 

  • أقول: و عن السيد ابن طاووس في سعد السعود، أنه رواه عن الطبرسي هكذا: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها. 

  • و في الدر المنثور أخرج المحاملي و الديلمي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية قال: التجبر في الأرض و الأخذ بغير الحق. 

تفسير الميزان ج۱٦

86
  • [سورة القصص (٢٨): الآیات ٨٥ الی ٨٨]

  • {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٨٥ وَ مَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى‌ إِلَيْكَ اَلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ٨٦ وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ اُدْعُ إِلى‌ رَبِّكَ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ٨٧ وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٨} 

  • (بيان) 

  • الآيات خاتمة السورة و فيها وعد جميل للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الله سبحانه سيمن عليه برفع قدره و نفوذ كلمته و تقدم دينه و انبساط الأمن و السلام عليه و على المؤمنين به كما فعل ذلك بموسى و بني إسرائيل، و قد كانت قصة موسى و بني إسرائيل مسوقة في السورة لبيان ذلك. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} إلى آخر الآية الفرض على ما ذكره بمعنى الإيجاب فمعنى {فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ} أي أوجب عليك العمل به أي بما فيه من الأحكام ففيه مجاز في النسبة. 

  • و أحسن منه قول بعضهم: إن المعنى أوجب عليك تلاوته و تبليغه و العمل به و ذلك لكونه أوفق لقوله: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} بما سيجي‌ء من معناه. 

  • و قوله: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} المعاد اسم مكان أو زمان من العود و قد اختلفت كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالآية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته 

تفسير الميزان ج۱٦

87
  • إلى مكة ثانيا، و قيل: هو الموت، و قيل: هو القيامة، و قيل: هو المحشر، و قيل هو المقام المحمود و هو موقف الشفاعة الكبرى، و قيل: هو الجنة، و قيل: هو بيت المقدس، و هو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الأول: و قيل: هو الأمر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الأقوال السابقة أو كلها. 

  • و الذي يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الآية تصريحا بما كانت القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الآيات التالية لها تؤيده. 

  • فإنه تعالى أورد قصة بني إسرائيل و موسى (عليه السلام) في أول السورة ففصل القول في أنه كيف من عليهم بالأمن و السلام و العزة و التمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين بأيدي آل فرعون يذبحون أبناءهم يستحيون نساءهم، و قد كانت القصة تدل بالالتزام و مطلع السورة يؤيده على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم مما هم عليه من الفتنة و الشدة و العسرة و يظهر دينهم على الدين كله و يمكنهم في الأرض بعد ما كانوا لا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم. 

  • ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدي الناس إلى الحق تذكرة و إتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى بعد ما أهلك القرون الأولى و كما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كذبوا به عنادا للحق و إيثارا للدنيا على الآخرة. 

  • و هذا السياق يرجي السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة تلويحا فإذا سمع قوله: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلى‌ مَعَادٍ} لم يلبث دون أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذي كان يترقبه و خاصة مع الابتداء بقوله: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ} و قد قدم تنظير التوراة بالقرآن و قد كان ما قصه في إنجاء بني إسرائيل مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالأخذ بها و العمل بها أئمة و يكونوا هم الوارثين. 

  • فمعنى الآية: إن الذي فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس و تبلغه و تعملوا به سيردك و يصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا و يكون هو معادا لك 

تفسير الميزان ج۱٦

88
  • كما فرض التوراة على موسى و رفع به قدره و قدر قومه، و من المعلوم أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان بمكة على ما فيها من الشدة و الفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا و ثبتت قواعد دينه و استحكمت أركان ملته و كسرت الأصنام و انهدم بنيان الشرك و المؤمنون هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين. 

  • و في تنكير قوله: {مَعَادٍ} إشارة إلى عظمة قدر هذا العود و أنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها و التاريخ يصدقه. 

  • و قوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} يؤيد ما قدمنا من المعنى فإنه يحاذي قول موسى (عليه السلام) - لما كذبوه و رموا آياته البينات بأنها سحر مفترى : {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه و رموه بالسحر ما قال موسى لآل فرعون لما كذبوه و رموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما و سير دعوتهما كما يظهر من القصة و يظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً}: المزمل: ١٥. 

  • و لعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى (عليه السلام) و السكوت عن الشطر الثاني أعني قوله: {وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الإشارة و الإيماء كما يستشم من سياق قوله: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} أيضا حيث خص الخطاب بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نكر معادا. 

  • و كيف كان فالمراد بقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ} النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه و بقوله: {وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} المشركون من قومه، و اختلاف سياق الجملتين حيث قيل في جانبه (صلى الله عليه وآله و سلم): {مَنْ جَاءَ بِالْهُدى‌} و في جانبهم: {مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} فقوبل بين ضلالهم و بين مجيئه بالهدى لا بين ضلالهم و اهتدائه لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه. 

  • و قد ذكروا في قوله: {أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ} أن {مَنْ} منصوب بفعل مقدر يدل عليه {أَعْلَمُ} و التقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، و ذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم و هو بمعنى عالم و لا دليل عليه، 

تفسير الميزان ج۱٦

89
  • و ما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض و إن لم يظهر فيه النصب لبنائه و التقدير ربي أعلم بمن جاء بالهدى، و لا دليل على منعه. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقىَ إِلَيْكَ اَلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} صدر الآية تقرير للوعد الذي في قوله: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} أي أنه سيردك إلى معاد و ما كنت ترجوه كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه . 

  • و قيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هذا وجه وجيه و تقريره أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد و فيه ارتفاع ذكره و تقدم دعوته و انبساط دينه خط له السبيل التي يجب عليه سلوكها بجهد و مراقبة فبين له أن إلقاء الكتاب إليه لم يكن على نهج الحوادث العادية التي من شأنها أن ترتجى و تترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه و قد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة و في تقدم دعوته و بلوغها الغاية التي وعدها أن لا ينصر الكافرين و لا يطيعهم و يدعو إلى ربه و لا يكون من المشركين و لا يدعو معه إلها آخر. 

  • و قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء منقطع أي لكنه ألقى إليك رحمة من ربك و ليس بإلقاء عادي يرجى مثله. 

  • و قوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} تفريع على قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي فإذا كان إلقاؤه إليك رحمة من ربك خصك بها و هو فوق رجائك فتبرء من الكافرين و لا تكن معينا و ناصرا لهم. 

  • و من المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى (عليه السلام) لما قتل القبطي: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} و على هذا يكون في النهي عن إعانتهم إشارة إلى أن إلقاء الكتاب إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) نعمة أنعمها الله عليه يهدي به إلى الحق و يدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم و لا يميل إلى صدهم إياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى (عليه السلام) ربه بما أنعم عليه من الحكم و العلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، و سيأتي أن قوله: {وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ} إلخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة. 

تفسير الميزان ج۱٦

90
  • قوله تعالى{وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية، نهي له (صلى الله عليه وآله و سلم) على الانصراف عن آيات الله بلسان نهي الكفار عن الصد و الصرف و وجهه كون انصرافه مسببا لصدهم و هو كقوله لآدم و زوجه: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ} أي لا تخرجا منها بإخراجه لكما بالوسوسة. 

  • و الظاهر أن الآية و ما بعدها في مقام الشرح لقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} و فائدته تأكيد النهي بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين اكتتبها، و أمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، و نهاه ثالثا أن يكون من المشركين و فسره بأن يدعو مع الله إلها آخر. 

  • و قد كرر صفة الرب مضافا إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) للدلالة على اختصاصه بالرحمة و النعمة و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: {وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}

  • قوله تعالى{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كلمة الإخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي لأنه لا إله غيره و ما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح. 

  • و قوله: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} الشي‌ء مساو للموجود و يطلق على كل أمر موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْ‌ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ}: الأنعام: ١٩، و الهلاك‌ البطلان و الانعدام. 

  • و الوجه و الجهة واحد كالوعد و العدة، و وجه الشي‌ء في العرف العام ما يستقبل به غيره و يرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه و وجه الإنسان النصف المقدم من رأسه و وجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه و يتوجه إليه خلقه به و هو صفاته الكريمة من حياة و علم و قدرة و سمع و بصر و ما ينتهي إليها من صفات الفعل كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و الرحمة و كذا آياته الدالة عليه بما هي آياته. 

  • فكل شي‌ء هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه 

تفسير الميزان ج۱٦

91
  • الله عليه و أما ما لا ينسب إليه تعالى فليس إلا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره الخيال و ذلك كالأصنام ليس لها من الحقيقة إلا أنها حجارة أو خشبة أو شي‌ء من الفلزات و أما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست إلا أسماء سماها عبدتهم و كالإنسان ليس له من الحقيقة إلا ما أودعه فيه الخلقة من الروح و الجسم و ما اكتسبه من صفات الكمال و الجميع منسوبة إلى الله سبحانه و أما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي من قوة و سلطة و رئاسة و وجاهة و ثروة و عزة و أولاد و أعضاد فليس إلا سرابا هالكا و أمنية كاذبة و على هذا السبيل سائر الموجودات. 

  • فليس عندها من الحقيقة إلا ما أفاض الله عليها بفضله و هي آياته الدالة على صفاته الكريمة من رحمة و رزق و فضل و إحسان و غير ذلك. 

  • فالحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة و آياته الدالة عليها و الجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة. 

  • هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل و على هذا يكون محصل تعليل كلمة الإخلاص بقوله: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أن الإله و هو المعبود بالحق إنما يكون إلها معبودا إذا كان أمرا ذا حقيقة واقعية غير هالك و لا باطل له تدبير في العالم بهذا النعت و كل شي‌ء غيره تعالى هالك باطل في نفسه إلا ما كان وجها له منتسبا إليه فليس في الوجود إله غيره سبحانه. 

  • و الوثنيون و إن كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى و من جهته إلا أنهم يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها حكمه، و لذلك يعبدونها من دون الله، و لا استقلال لشي‌ء في شي‌ء عنه تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو. 

  • و هاهنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشي‌ء فقد ذكر بعضهم ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار و وجه الطريق لنفسهما و إن أمكنت المناقشة فيه و ذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس أي أشرافهم و هو من المجاز المرسل أو الاستعارة و على كلا التقديرين فالمراد أن غيره تعالى من الموجودات ممكنة و الممكن و إن كان موجودا بإيجاده تعالى فهو معدوم بالنظر 

تفسير الميزان ج۱٦

92
  • إلى حد ذاته هالك في نفسه و الذي لا سبيل للبطلان و الهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها. 

  • و محصل التعليل على هذا المعنى: أن الإله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا بيده شي‌ء من تدبير العالم، و التدبير الكوني لا ينفك عن الخلق و الإيجاد فلا معنى لأن يوجد الحوادث شي‌ء و يدبر أمرها شي‌ء آخر - و قد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب - و لا يكون الخالق الموجد إلا واجب الوجود و لا واجب إلا هو تعالى فلا إله إلا هو. 

  • و قولهم: إنه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربي حضرته من الملائكة الكرام و غيرهم ليكونوا شفعاء عنده. 

  • مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الإحاطي بل يكفي فيه المعرفة بوجه و هو حاصل بالضرورة. 

  • و أما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك و الفناء بناء على ما قيل: إن اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الآية أن كل شي‌ء سيستقبله الهلاك بعد وجوده إلا وجهه. نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها و بطلانها بعده و في غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب. 

  • و هلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي و خلو النشأة الأولى عنها بانتقالها إلى النشأة الأخرى و رجوعها إلى الله و استقرارها عنده، و أما البطلان المطلق بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالآيات متتابعة في أن كل شي‌ء مرجعه إلى الله و أنه المنتهى و إليه الرجعى و هو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده. 

  • فمحصل معنى الآية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شي‌ء سيخلي مكانه و يرجع إليه إلا صفاته الكريمة التي هي مبادئ فيضه فهي تفيض ثم تفيض إلى ما لا نهاية له و الإله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته و لا انقطاع لصفاته الفياضة و ليس شي‌ء غيره تعالى بهذه الصفة فلا إله إلا هو. 

  • و لو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شي‌ء سيستقبله الهلاك و الفناء بالرجوع إلى الله سبحانه إلا ذاته الحقة الثابتة التي لا سبيل للبطلان إليها - و الصفات على هذا محسوبة من صقع الذات - و الإله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه 

تفسير الميزان ج۱٦

93
  • و ليس شي‌ء غيره بهذه الصفة فلا إله إلا هو. 

  • و بما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الآية بمثل الجنة و النار و العرش فإن الجنة و النار لا تنعدمان بعد الوجود و تبقيان إلى غير النهاية، و العرش أيضا كذلك بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش. 

  • وجه الاندفاع أن المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود و الرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيوي، و أما الدار الآخرة و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار فلا يتصف شي‌ء من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى. 

  • قال تعالى{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ}: النحل: ٩٦، و قال: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}: آل عمران: ١٩٨ و قال: {سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ}: الأنعام: ١٢٤ و نظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}: الحجر: ٢١ و كذا اللوح المحفوظ كما قال: {وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}: ق: ٤. 

  • و أما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ} (الآية): الأعراف: ٥٤. 

  • و يمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التي تنسب إليه و هي الناحية التي يقصد منها و يتوجه إليه بها، و تؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: الأنعام: ٥٢ و قوله: {إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اَلْأَعْلىَ}: الليل: ٢٠إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا. 

  • و عليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فإن كان الكلام على ظاهر عمومه انطبق على الوجه الأول الذي أوردناه و يكون من مصاديقه أسماؤه و صفاته و أنبياؤه و خلفاؤه و دينه الذي يؤتى منه. 

  • و إن خص الوجه بالدين فحسب كما وقع في بعض الروايات إن لم يكن من باب التطبيق كان المراد بالهلاك الفساد و عدم الأثر، و كانت الجملة تعليلا لقوله: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} و كان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشي‌ء الدين و الأعمال المتعلقة 

تفسير الميزان ج۱٦

94
  • به و كان محصل المعنى: و لا تتدين بغير دين التوحيد لأن كل دين باطل لا أثر له إلا دينه. 

  • و الأنسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الآية بمعنى الحكم التشريعي أو الأعم منه و من التكويني و المعنى: كل دين هالك إلا دينه لأن تشريع الدين إليه و إليه ترجعون لا إلى مشرعي الأديان الأخر. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة. 

  • فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة و بالهلاك الانعدام، و المعنى: كل شي‌ء في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيره إلا ذاته الواجبة الوجود، و الكلام على هذا مبني على التشبيه أي كل شي‌ء غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره. 

  • و قيل: الوجه بمعنى الذات و المراد به ذات الشي‌ء و الضمير لله باعتبار أن وجه الشي‌ء مملوك له، و المعنى: كل شي‌ء هالك إلا وجه الله الذي هو ذات ذلك الشي‌ء و وجوده. 

  • و قيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة و الضمير لله، و المعنى: كل شي‌ء هالك بجميع ما يتعلق به إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى و هو الوجود الذي أفاضه الله تعالى عليه. 

  • و قيل: الوجهة هو الجهة المقصودة و المراد به الله سبحانه الذي يتوجه إليه كل شي‌ء و الضمير للشي‌ء، و المعنى: كل شي‌ء هالك إلا الله الذي هو الجهة المطلوبة له. 

  • و قيل: المراد بالهلاك هلاك الموت و العموم مخصوص بذوي الحياة و المعنى: كل ذي حياة فإنه سيموت إلا وجهه. 

  • و قيل: المراد بالوجه العمل الصالح و المعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما فعله العبد ممتثلا لأمره تعالى أبقاه الله من غير إحباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار غير قابل للهلاك لأن الجزاء قائم مقامه و هو باق. 

  • و قيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي أثبته في الناس. 

  • و قيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا في كل آن فهي متغيرة هالكة دائما في الدنيا و الآخرة و المعنى كل شي‌ء متغير الذات دائما إلا وجهه. 

  • و هذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الآية و بين ما لا ينجح به حجتها و بين ما هو بعيد عن الفهم، و بالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل. 

تفسير الميزان ج۱٦

95
  • و قوله: {لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الحكم‌ هو قضاؤه النافذ في الأشياء و عليه يدور التدبير في نظام الكون، و أما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذي هو يوم القيامة فإن فصل القضاء متفرع عليه. 

  • و كلتا الجملتين مسوقتان للتعليل و كل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده. تعالى بالألوهية صالحة للتعليل كلمة الإخلاص، و قد تقدم إمكان أخذ الحكم على بعض الوجوه بمعنى الحكم التشريعي. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها. 

  • أقول: و روي عنه و عن أبي سعيد الخدري: أن المراد به الموت‌، و أيضا عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن المراد به الجنة و انطباقهما على الآية لا يخلو من خفاء

  • و روى القمي في تفسيره عن حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين (عليه السلام): أن المراد به الرجعة و لعله من البطن دون التفسير

  • و في الإحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل: و أما قوله {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فالمراد كل شي‌ء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شي‌ء و يبقى الوجه. هو أجل و أعظم من ذلك و إنما يهلك من ليس منه أ لا ترى أنه قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقىَ وَجْهُ رَبِّكَ} ففصل بين خلقه و وجهه؟ 

  • و في الكافي بإسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك و تعالى: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شي‌ء إلا وجه الله فقال: سبحان الله لقد قالوا عظيما إنما عنى به وجه الله الذي يؤتى منه. 

  • أقول: و روى مثله في التوحيد بإسناده عن الحارث بن المغيرة النصري عنه 

تفسير الميزان ج۱٦

96
  • (عليه السلام) و لفظه: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: كل شي‌ء هالك إلا من أخذ طريق الحق.

  • و في محاسن البرقي: مثله إلا أن آخره «من أخذ الطريق الذي أنتم عليه». و التشويش الذي يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فإن كان المراد بالوجه الذي يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه و كان من صقعه تعالى و من جانبه كان منطبقا على المعنى الأول الذي قدمناه في معنى الآية. 

  • و إن كان الوجه بمعنى الدين الذي يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك البطلان و عدم التأثير و كان المعنى: لا إله إلا هو كل دين باطل إلا دينه الحق الذي يؤتى منه فإنه سينفع و يثاب عليه، و قد تقدمت الإشارة إلى الوجهين في تفسير الآية. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} قال: المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى للناس، و قوله: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى للناس، و هو قول الصادق (عليه السلام) إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): بإياك أعني، و اسمعي يا جارة. 

تفسير الميزان ج۱٦

97
  • (٢٩) (سورة العنكبوت مكية، و هي تسع و ستون آية) (٦٩) 

  • [سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ١ الی ١٣]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ٢ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ ٣ أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ٤ مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٥ وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ ٦ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ٧ وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٨ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصَّالِحِينَ ٩ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ ١٠ 

تفسير الميزان ج۱٦

98
  • وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ ١١ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ١٢ وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ١٣} 

  • (بيان) 

  • يلوح من سياق آيات السورة و خاصة ما في صدرها من الآيات أن بعضا ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفا من فتنة كانت تهدده من قبل المشركين فإن المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملتهم و يضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذبوهم ليعيدوهم إلى ملتهم. 

  • يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (الآية)، و قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} (الآية). 

  • و كان في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله تعالى: {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (الآية)، و قد نزلت السورة في شأن هؤلاء. 

  • فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أن الذي يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرد قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} بل هو حقيقة الإيمان التي لا تحركها عواصف الفتن و لا تغيرها غير الزمن و هي إنما تتثبت و تستقر بتوارد الفتن و تراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ} دون أن يفتنوا و يمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة الكفر فليعلمن الله الذين صدقوا و يعلم الكاذبين. 

تفسير الميزان ج۱٦

99
  • فالفتنة و المحنة سنة إلهية لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الأمم الماضين كقوم نوح و عاد ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام منهم من استقام و هلك منهم من هلك و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون. 

  • فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه و يعبد الله وحده فإن تعذر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يخف عسر المعاش فإن الرزق على الله و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياه. 

  • و أما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلا أن يقولوا ربنا الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله و يسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و تعذيبهم فإنما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا و إن شاء أخرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه و ما لهم من محيص. 

  • و أما ما لفقوه من الحجة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و الحجة قائمة تامة عليهم. 

  • فهذا محصل غرض السورة و مقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، و قول القائل: إنها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - و سيجي‌ء في البحث الروائي التالي غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم إلا زمن العسرة و الشدة قبل الهجرة. 

  • قوله تعالى{الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} الحسبان‌ هو الظن، و جملة {أَنْ يُتْرَكُوا} قائمة مقام مفعوليه، و قوله: {أَنْ يَقُولُوا} بتقدير باء السببية، و الفتنة الامتحان و ربما تطلق على المصيبة و العذاب، و الأوفق للسياق هو المعنى الأول، و الاستفهام للإنكار. 

  • و المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم و لا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرد قولهم: آمنا؟ 

  • و قيل: المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية و لا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الإيمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الإنسان مدى حياته؟ و لا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات. 

تفسير الميزان ج۱٦

100
  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ} اللامان للقسم، و قوله: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حال من الناس في قوله: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ} أو من ضمير الجمع في قوله {لاَ يُفْتَنُونَ} و على الأول فالإنكار و التوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الإلهية على الفتنة و الامتحان و على الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوما و لا يفتن آخرين، و لعل الوجه الأول أوفق للسياق. 

  • فالظاهر أن المراد بقوله: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أن الفتنة و الامتحان سنة جارية لنا و قد جرت في الذين من قبلهم و هي جارية فيهم و لن تجد لسنة الله تبديلا. 

  • و قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا} إلخ تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإن السعادة التي تترتب على الإيمان المدعو إليه و كذا الثواب إنما تترتب على حقيقة الإيمان الذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجردة. 

  • و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلي الذي هو نفس الأمر الخارجي فإن الأمور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أما علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف على الامتحان البتة. 

  • و المعنى: أ حسبوا أن يتركوا و لا يفتنوا بمجرد دعوى الإيمان و إظهاره و الحال أن الفتنة سنتنا و قد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب أولئك الملازم لاستقرار الإيمان في قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب أولئك. 

  • و الالتفات في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ} إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية المهابة و الظاهر أنه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل و ذلك أن الدعوة إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمى بالله الذي منه يبدأ كل شي‌ء و به يقوم كل شي‌ء و إليه ينتهي كل شي‌ء بحقيقته فمن الواجب أن يتميز عنده حقيقة الإيمان من 

تفسير الميزان ج۱٦

101
  • دعواه الخالية و يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة و لذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمن إلى قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ}

  • قوله تعالى{أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أم منقطعة، و المراد بقوله: {اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} المشركون الذين كانوا يفتنون المؤمنين و يصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ} هم الذين قالوا: آمنا و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفا من الفتنة و التعذيب. 

  • و المراد بقوله: {أَنْ يَسْبِقُونَا} الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدهم عن سبيل الله - على ما يعطيه السياق. 

  • و قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صد فإن ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صد لهم عن سبيل السعادة و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. 

  • و قيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين و هم المراد بقوله: {اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} و المراد بالسيئات المعاصي التي يقترفونها غير الشرك، و أنت خبير بأن السياق لا يساعد عليه. 

  • و قيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك و اقتراف سائر المعاصي فالآية عامة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك. 

  • و فيه أن اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر و اعتبارها مستقلة في نفسها أمر آخر و الذي يقتضيه الاعتبار الأول و هو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، و أما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم و لا ضير فيه على ذلك التقدير. 

  • قوله تعالى{مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} إلى تمام ثلاث آيات. لما وبخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأي فتنة و إيذاء من المشركين و وبخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و صدهم عن سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزا له فيما شاء و خطأ الفريقين فيما ظنوا. 

  • رجع إلى بيان الحق الذي لا معدل عنه و الواجب الذي لا مخلص منه، فبين في 

تفسير الميزان ج۱٦

102
  • هذه الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقع الرجوع إليه و لقائه فليعلم أنه آت لا محالة و أن الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله فليأخذ حذره و ليؤمن حق الإيمان الذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حق جهاده، و ليعلم أن الذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره من العالمين و ليعلم أنه إن آمن و عمل صالحا فإن الله سيكفر عنه سيئاته و يجزيه بأحسن أعماله، و العلمان الأخيران يؤكدان العلم الأول و يستوجبان لزومه الإيمان و صبره على الفتن و المحن في جنب الله. 

  • فقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنه إنما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا المعاد لغا الدين من أصله، فالمراد بقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبب. 

  • و المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفا لا حجاب بينه و بين ربه كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}

  • و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث، و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت و الحساب و الجزاء، و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب و قيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف. 

  • و هذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها إلا أن يكون من التفسير بلازم المعنى. 

  • و قوله: {فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} الأجل‌ هو الغاية التي ينتهي إليها زمان الدين و نحوه و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأول. 

  • و {أَجَلَ اَللَّهِ} هو الغاية التي عينها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد أكد القول تأكيدا بالغا، و لازم تحتم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حق الإيمان و الصبر عليه عند الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: {وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} إذ هو تعالى لما كان سميعا لأقوالهم عليما بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلا عن ظهر القلب و مع الصبر على كل فتنة و محنة. 

  • و من هنا يظهر أن ذيل الآية: {فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} إلخ، من قبيل وضع 

تفسير الميزان ج۱٦

103
  • السبب موضع المسبب كما كان صدرها: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} أيضا كذلك، و الأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيما صابرا عليه مجاهدا في ربه. 

  • و قوله: {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ} المجاهدة و الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم و يلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه. 

  • فقوله: {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} تأكيد لحجة الآية السابقة، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ} تعليل لما قبله. 

  • و الالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مر من الالتفات في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا} (الآية). 

  • و قوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} بيان لعاقبة إيمانهم حق الإيمان المقارن للجهاد و يتبين به أن نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنه عطية من الله و فضل. 

  • و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان و العمل الصالح فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: {وَ مَنْ جَاهَدَ} من قوله في هذه الآية: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ}

  • و تكفير السيئات هو العفو عنها و الأصل في معنى الكفر هو الستر، و قيل: تكفير السيئات هو تبديل كفرهم السابق إيمانا و معاصيهم السابقة طاعات، و ليس بذاك. 

  • و جزاؤهم بأحسن الذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة و خسة فيعاملون في كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة و إن اشتملت على بعض جهات الرداءة و هكذا. 

  • قوله تعالى{وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} إلخ، التوصية العهد و هو هاهنا الأمر، و قوله: {حُسْناً} 

تفسير الميزان ج۱٦

104
  • مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف و التقدير: و وصينا الإنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما و هذا مثل قوله: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي قولا حسنا أو ذا حسن، و يمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، و ربما وجه بتوجيهات أخر. 

  • و قوله: {وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} إلخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهي للإنسان بنهيه عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك و الوجه في ذلك أن التوصية في معنى الأمر فكأنه قيل: و قلنا للإنسان أحسن إلى والديك و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما. 

  • و لم يقل: و أن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك إلخ، لما في الخطاب من الصراحة و ارتفاع الإبهام و لذلك قال أيضا: {لِتُشْرِكَ بِي} بضمير المتكلم وحده فافهمه و يئول معنى الجملة إلى أنا نهيناه عن الشرك طاعة لهما و رفعنا عنه كل إبهام. 

  • و في قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل و عبادة ما ليس له به علم افتراء على الله و قد نهى الله عن اتباع غير العلم قال: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: إسراء: ٣٨ و بهذه المناسبة ذيلها بقوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي سأعلمكم ما معنى أعمالكم و منها عبادتكم الأصنام و شرككم بالله سبحانه. 

  • و معنى الآية: و عهدنا إلى الإنسان في والديه عهدا حسنا و أمرناه أن أحسن إلى والديك و إن بذلا جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنه اتباع ما ليس لك به علم. 

  • و في الآية كما تقدمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم رجع عن إيمانه بمجاهدة من والديه. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصَّالِحِينَ} معنى الآية ظاهر، و في وقوعها بعد الآية السابقة و في سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى و تطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما و فارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما و هجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فإنا سنرزقه خيرا منهما و ندخله بإيمانه و عمله الصالح في الصالحين و هم العباد 

تفسير الميزان ج۱٦

105
  • المنعمون في الجنة، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلىَ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي}: الفجر: ٣٠. 

  • و أما إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق. 

  • قوله تعالى{وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، لما كان إيمان هؤلاء مقيدا بالعافية و السلامة مغيى بالإيذاء و الابتلاء لم يعده إيمانا بقول مطلق و لم يقل: و من الناس من يؤمن بالله بل قال: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} فالآية بوجه نظيرة قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلىَ وَجْهِهِ}: الحج: ١١. 

  • و قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ} أي أوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أن في للسببية كما قيل و فيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى أي جعل الإيمان بالله ظرفا للإيذاء و لمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أن الإيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه و ينطبق على معنى السببية و الغرضية و نظيره قوله: {يَا حَسْرَتىَ عَلىَ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللَّهِ}: الزمر: ٥٦ و قوله: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}: العنكبوت: ٦٩. 

  • و قيل: معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله و كأنه مبني على تقدير مضاف محذوف. 

  • و فيه أن العناية الكلامية مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإيمان بالله و هو قولهم: ربنا الله، و الإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل التي هي الدين قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي}: آل عمران: ١٩٥ و من الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} حيث جعل الجهاد في الله طريقا إلى الاهتداء إلى سبله و لو كانا بمعنى واحد لم يصح ذلك. 

  • و قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} أي نزل العذاب و الإيذاء الذي يصيبه من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن الإيمان إلى الشرك خوفا و جزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت و لا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم. 

تفسير الميزان ج۱٦

106
  • و قوله: {وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج و يسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة و العسرة من قبل أعداء الله ليقولن هؤلاء إنا كنا معكم فلنا منه نصيب. 

  • و {لَيَقُولُنَّ} بضم اللام صيغة جمع، و الضمير راجع إلى {مِنَ} باعتبار المعنى كما أن ضمائر الإفراد الأخر راجعة إليها باعتبار اللفظ. 

  • و قوله: {أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ} استفهام إنكاري فيه رد دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور و لا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان. 

  • و المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من أولي العقل إنسانا كان أو غيره كالجن و الملك، و لو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور و غيرهم كان المراد بالصدور البواطن و هو بعيد. 

  • قوله تعالى{وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ} من تتمة الكلام في الآية السابقة و المحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين و المنافقين بالفتنة و الامتحان. 

  • و في الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين و ذلك لكون إيمانهم مقيدا بعدم الفتنة و هم يظهرونه مطلقا غير مقيد و الفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها. 

  • و قد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية و ذلك أن الآية تحدث عن النفاق و النفاق إنما ظهر بالمدينة بعد الهجرة و أما مكة قبل الهجرة فلم يكن للإسلام فيها شوكة و لا للمسلمين فيها إلا الذلة و الإهانة و الشدة و الفتنة و لا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في المجتمع العربي يومئذ و خاصة عند قريش عزة و لا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان و هو ينوي الكفر. 

  • على أن قوله في الآية: {وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} يخبر عن النصر و هو الفتح و الغنيمة و قد كان ذلك بالمدينة دون مكة. 

  • و نظير الآيتين قوله السابق: {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} ضرورة إن الجهاد و القتال إنما كان بالمدينة بعد الهجرة. 

  • و هو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكا للنفاق و هو قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} حتى إذا أوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في 

تفسير الميزان ج۱٦

107
  • غيرها و هو ظاهر بل الذي ذكر من الإيذاء و الفتنة إنما كان بمكة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة. 

  • و أما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح و الغنيمة فله مصاديق أخر يفرج الله بها عن عباده. على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} يدل على تحقق الإيذاء و الفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجي‌ء النصر حيث عبر عنه بأن الشرطية الدالة على إمكان الوقوع دون تحققه. 

  • و أما قوله تعالى: {وَ مَنْ جَاهَدَ} إلخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شي‌ء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنية. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، و بالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة و قولهم لهم: {اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} نوع استمالة لهم و تطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك و اتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، و إن كانت فهم حاملون لها عنهم، و لذلك لم يقولوا: و لنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد. 

  • فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فإنا نحملها عنكم و نحمل كل ما يتفرع عليه من الخطايا أو أنا نحمل عنكم خطاياكم عامة و من جملتها هذه الخطيئة. 

  • و قوله: {وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} رد لقولهم: {وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} و هو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم و رجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين و انتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله و رضى فهو الذي يؤاخذهم به و يجازيهم و هو سبحانه يصرح و يقول: {مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} و قد عمم النفي لكل شي‌ء من خطاياهم. 

  • و قوله: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تكذيب لهم لما أن قولهم: {وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} يشتمل على دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها و أن الله يجيز لهم ذلك. 

تفسير الميزان ج۱٦

108
  • قوله تعالى{وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من تمام القول السابق في ردهم و هو في محل الاستدراك أي إنهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا و أحمالا من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى أثقال أنفسهم و أحمالها لما أنهم ضالون مضلون. 

  • فالآية في معنى قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: النحل: ٢٥. 

  • و قوله: {وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فشركهم افتراء على الله سبحانه و كذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه و أن الله يجيز لهم ذلك. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن الضريس و النحاس و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس و أيضا ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت بمكة. 

  • أقول: و قد نقل في روح المعاني عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية. 

  • و في المجمع: قيل نزلت الآية يعني قوله تعالى: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} في عمار بن ياسر و كان يعذب في الله. عن ابن جريج. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} (الآية)، قال: أنزلت في أناس بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار و لا إسلام حتى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا و كذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 

تفسير الميزان ج۱٦

109
  • و فيه أخرج ابن جرير عن قتادة: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله {وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ} قال هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، و هذه الآيات العشر مدنية. 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن الضحاك : في قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا و أصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر و الشرك مخافة من يؤذيهم و جعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله. 

  • و فيه أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أمي: لا آكل طعاما و لا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام و الشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} (الآية). 

  • و في المجمع قال الكلبي: نزل قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ} (الآية) في عياش بن أبي ربيعة المخزومي و ذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنا حتى يرجع إليها فلما رأى ابناها أبو جهل و الحارث ابنا هشام و هما أخوا عياش لأمه جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه و ذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت و شربت . 

  • فلما خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كتافا و جلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برى‌ء من دين محمد جزعا من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان الحارث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه . 

  • فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون إلى المدينة و هاجر عياش و حسن إسلامه و أسلم الحارث بن هشام و هاجر إلى المدينة و بايع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على الإسلام و لم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إن الرجل قد أسلم فاسترجع عياش و بكى ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره بذلك فنزل: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (الآية). 

تفسير الميزان ج۱٦

110
  • أقول: و أنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات و قد تقدم أن الذي يعطيه سياق آيات السورة أنها مكية محضة. 

  • و في الكافي عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: «يفتنون كما يفتن الذهب. ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب. 

  • و في المجمع قيل: إن معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و فيه في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}: و في تفسير الكلبي: أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض. 

  • فنزل جبرئيل و لم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): يا جبرئيل ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام و عاد إلى الدعاء فنزل: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتعين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة. 

  • و في نهج البلاغة: و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها؟ فقال (عليه السلام): لما أنزل الله سبحانه قوله: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي.

  • و في التوحيد عن علي (عليه السلام) في حديث طويل: و قد سأله رجل عن آيات من القرآن و قوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} يعني بقوله: من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث. 

تفسير الميزان ج۱٦

111
  • أقول: مراده (عليه السلام) نفي الرؤية الحسية و التفسير بلازم المعنى. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} (الآية) قال: من أحب لقاء الله جاءه الأجل {وَ مَنْ جَاهَدَ} نفسه عن اللذات و الشهوات و المعاصي {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ}{وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} قال: هما اللذان ولداه. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإن الذي تخافون أنتم ليس بشي‌ء فإن كان حقا نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عز و جل مرتين: مرة بذنوبهم و مرة بذنوب غيرهم. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر عن ابن الحنفية قال: كان أبو جهل و صناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر و يحرم الزنا و يحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}

  • و فيه أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأمسك القوم ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من سن خيرا فاستن به كان له أجره و من أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، و من سن شرا فاستن به كان عليه وزره و من أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا. 

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و في بعضها تفسير قوله: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} بذلك. 

  •  

  • [سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ١٤ الی ٤٠]

  • {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ ١٤ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ١٥ وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ 

تفسير الميزان ج۱٦

112
  • وَ اِتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١٦ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللَّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ١٧ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ١٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ١٩ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللَّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٢٠يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ٢١ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ ٢٢ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٣ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٢٤ وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ٢٥ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٦ وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ 

تفسير الميزان ج۱٦

113
  • وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ ٢٧ وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ ٢٨ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اِئْتِنَا بِعَذَابِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٢٩ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ ٣٠وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى‌ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ٣١ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٣٢ وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‌ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٣٣ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلىَ أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ٣٤ وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٣٥ وَ إِلى‌ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٣٦ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٣٧ وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ 

تفسير الميزان ج۱٦

114
  • وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ٣٨ وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسىَ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ ٣٩ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٠} 

  • (بيان) 

  • لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة إلهية لا معدل عنها و قد جرت في الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين و أممهم و هم: نوح و إبراهيم و لوط و شعيب و هود و صالح و موسى (عليه السلام) فتنهم الله و امتحنهم فنجا منهم من نجا و هلك، منهم من هلك و قد ذكر سبحانه في الثلاثة الأول النجاة و الهلاك معا و في الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ}، في المجمع: الطوفان‌ الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى. و قيل: هو كل ما يطوف بالشي‌ء على كثرة و شدة من السيل و الريح و الظلام و الغالب استعماله في طوفان الماء. 

  • و التعبير بألف سنة إلا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة و خمسين سنة للتكثير و الآية ظاهرة في أن الألف إلا خمسين مدة دعوة نوح (عليه السلام) ما بين بعثته إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره (عليه السلام) و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قصصه (عليه السلام) في تفسير سورة هود، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي فأنجينا 

تفسير الميزان ج۱٦

115
  • نوحا و أصحاب السفينة الراكبين معه فيها و هم أهله و عدة قليلة من المؤمنين به و لم يكونوا ظالمين. 

  • و قوله: {وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة و أما رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، و العالمين‌ الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم. 

  • قوله تعالى{وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} معطوف على قوله: {نُوحاً} أي و أرسلنا إبراهيم إلى قومه. 

  • و قوله لقومه: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ} دعوة إلى التوحيد و إنذار بقرينة الآيات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر. 

  • على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه و إنما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى لا يمكن أن يعبد إلا من طريق الأسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة و الجن و لو عبد لكان معبودا وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} تفيد الدعوة إليه وحده و إن لم تقيد بأداة الحصر. 

  • قوله تعالى{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً} إلى آخر الآية، الأوثان‌ جمع وثن بفتحتين و هو الصنم، و الإفك‌ الأمر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا. 

  • و قوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً} بيان لبطلان عبادة الأوثان و يظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقة و بالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى {أَوْثَاناً} منكر للدلالة على وهن أمرها و كون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلا أوثانا من أمرها كذا و كذا. 

  • و لذا عقب الجملة بقوله: {وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي و تفتعلون كذبا بتسميتها آلهة و عبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الأوثان. 

  • و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة و عبادتها و محصله أن هؤلاء الذين تعبدون من دون الله و هم الأوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة و الجن إنما تعبدونهم لجلب النفع و هو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم و يدروا عليكم الرزق لكنهم ليسوا يملكون لكم رزقا 

تفسير الميزان ج۱٦

116
  • فإن الله هو الذي يملك رزقكم الذي هو السبب الممد لبقائكم لأنه الذي خلقكم و خلق رزقكم فجعله ممدا لبقائكم و الملك تابع للخلق و الإيجاد. 

  • و لذلك عقبه بقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللَّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ} أي فاطلبوا الرزق من عند الله لأنه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله و اشكروا له على ما رزقكم و أنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم. 

  • و قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في مقام التعليل لقوله: {وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ} و لذا جي‌ء بالفصل من غير عطف، و في هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع و الحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصل لأن الرزق و ما يجري مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات و القربات و لا يزيد و لا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان و الكفر و العبادة و الشكر و خلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة و الشكر دون ابتغاء الرزق. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ} الظاهر أنه من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام)، و ذكر بعضهم أنه خطاب منه تعالى لمشركي قريش و لا يخلو من بعد. 

  • و معنى الشرط و الجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنة الجارية في الأمم المشركة و قد كذب من قبلكم و أنتم منهم و في آخرهم و ليس علي بما أنا رسول إلا البلاغ المبين. 

  • و يمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الأمم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله و لم يكونوا بمعجزين في الأرض و لا في السماء و لم يكن لهم من دون الله من ولي و لا نصير، فكذلكم أنتم، و قوله: {وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ} يناسب الوجهين جميعا. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد و ترفع استبعادهم له متعلقه بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}

تفسير الميزان ج۱٦

117
  • فقوله: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا} إلخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق و لاحق و المراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، و قوله: {كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} في موضع المفعول لقوله: {يَرَوْا} بعطف {يُعِيدُهُ} على موضع {يُبْدِئُ} خلافا لمن يرى عطفه على {أَ وَ لَمْ يَرَوْا} و الاستفهام للتوبيخ. 

  • و المعنى: أ و لم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة أي إنهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن، و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الإبداء و فيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء و إذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء و هي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار و إنزال للسائرين إليه في دار القرار. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بالإبداء ثم الإعادة إنشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم بعد إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى دون مثله. 

  • قوله تعالى{قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللَّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} (الآية) إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفية بدء الخلق و إنشائهم على اختلاف طبائعهم و تفاوت ألوانهم و أشكالهم من غير مثال سابق و حصر أو تحديد في عدتهم و عدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الإلهية فهو ينشئ النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى فالآية في معنى قوله: {وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولىَ فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ}: الواقعة: ٦٢. 

  • قوله تعالى{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} من مقول القول، و الظاهر أنه بيان لقوله: {يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ} و قلب‌ الشي‌ء تحويله عن وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه و جعل باطنه ظاهره و هذا المعنى الأخير يناسب قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ}: الطارق: ٩. 

  • و فسروا القلب بالرد قال في المجمع: و القلب‌ هو الرجوع و الرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع و الضر إلا الله. انتهى و هذا 

تفسير الميزان ج۱٦

118
  • معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله و الرد إليه و هو وقوفهم موقفا تنقطع فيه عنهم الأسباب و لا يحكم فيه إلا الله سبحانه فالآية في معنى قوله: {وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: يونس: ٣٠. 

  • و محصل المعنى: أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء و هم المجرمون و يرحم من يشاء و هم غيرهم و إليه تردون فلا يحكم فيكم غيره. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ} من مقول القول و توصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ. 

  • فقوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ} أي أنكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه و الخروج من حكمه و سلطانه بالفرار و الخروج من ملكه و النفوذ من أقطار الأرض و السماء، فالآية تجري مجرى قوله: {يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا}: الرحمن: ٣٣. 

  • و قيل: الكلام في معنى «من في السماء» فحذف من لدلالة الكلام عليه و التقدير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا من في السماء بمعجزين في السماء. 

  • و هو بعيد و دلالة الكلام عليه غير مسلمة و لو بني عليه لكفى فيه أن الخطاب للأعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن و الملك و المعنى: و ما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض و لا في السماء. 

  • و قوله: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ} أي ليس لكم اليوم ولي من دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله و لا نصير ينصركم فيقوي جانبكم و يتمم ناقص قوتكم فيظهركم عليه سبحانه. 

  • فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله و تعجيزهم له بالخروج و الامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك و هو قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} إلخ و لا غيرهم يستقل بذلك و هو قوله: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} و لا المجموع منهم و من غيرهم يعجزه تعالى و هو قوله: {وَ لاَ نَصِيرٍ}

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولَئِكَ 

تفسير الميزان ج۱٦

119
  • لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خطاب مصروف إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خارج من مقول القول السابق {قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ و المطلوب فيه أن ينبئه (صلى الله عليه وآله و سلم) صريح الحق فيمن يشقى و يهلك يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله أولا: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}

  • و من الدليل عليه الخطاب في {أُولَئِكَ} مرتين و لو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقيل: أولئكم». 

  • و يؤيد ذلك أيضا قوله: {مِنْ رَحْمَتِي} فإن الانتقال من مثل قولنا: أولئك يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} يفيد التصديق و الاعتراف مضافا إلى أصل الإخبار فيفيد صريح التعيين لأهل العذاب، و يؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة و ما في السياق من التأكيد. 

  • و كان في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذا الإخبار تقوية لنفسه الشريفة و عزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله و هم لا يؤمنون. 

  • و المراد بآيات الله على ما يفيده إطلاق اللفظ جميع الأدلة الدالة على الوحدانية و النبوة و المعاد من الآيات الكونية و المعجزات النبوية و منها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء و هو المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاص بعد العام و الوجه فيه الإشارة إلى أهمية الإيمان بالمعاد إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله و هو ظاهر. 

  • و المراد بالرحمة ما يقابل العذاب و يلازم الجنة و قد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}: الجاثية: ٣٠و قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}: الإنسان: ٣١. 

  • و المراد بإسناد اليأس إليهم إما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة آيسون من السعادة المؤبدة و الجنة الخالدة و إما أنه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر. 

  • و المعنى: و الذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق و خاصة المعاد أولئك يئسوا من الرحمة و الجنة و أولئك لهم عذاب أليم. 

تفسير الميزان ج۱٦

120
  • قوله تعالى{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ} إلخ، تفريع على قوله في صدر القصة: {وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ}

  • و ظاهر قوله: {قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم و المراد بالقتل القتل بالسيف و نحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه و إن اتفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}: الأنبياء: ٦٨ و يمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على إحراقه. 

  • و قوله: {فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ} فيه حذف و إيجاز و تقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، و قد فصلت القصة في مواضع من كلامه تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم مما يستنون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه و يحترمون جانبه كالآباء للأبناء و الرؤساء المعظمين لأتباعهم و الأصدقاء لأصدقائهم و بالأخرة الأمة لأفرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها. 

  • فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار الموت الاجتماعية يرى العامة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده و الاستنان به مثله ثم هذا الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية و يقيم الاتحاد و الاتفاق على ساقه. 

  • هذه حال العامة منهم و أما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة و ما هو بحجة كقولهم إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة و الجن ليقربونا إليه زلفى و يشفعوا لنا عنده. 

  • فقوله: {إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} خطاب منه (عليه السلام) لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية، و قد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ 

تفسير الميزان ج۱٦

121
  • مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}: الأنبياء: ٥٣ {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}: الشعراء: ٧٤. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل و المودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان، و أن يكون مفعولا له، و المودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان، لكن ذيل الآية إنما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر. 

  • ثم عقب (عليه السلام) بقوله: {إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ} إلخ، بقوله: {ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة و هو باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا المتاع القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم و أكبر الكبائر الموبقة و اجتمعوا عليه و توافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم و يلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض و ينكره بعضهم على بعض. 

  • و المراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم و تبريهم منهم، كما قال تعالى: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}: مريم: ٨٢ و قال: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}: فاطر: ١٤ و في معناه: تبري المتبوعين من تابعيهم، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ}: البقرة: ١٦٦ و المراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}: الأعراف: ٣٨. 

  • ثم عقب ذلك بقوله: {وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} إشارة إلى لحوق الوبال و وقوع الجزاء و هو النار التي فيها الهلاك المؤبد و لا ناصر ينصرهم و يدفع عنهم العذاب فهم إنما توسلوا إلى المودة ليتناصروا و يتعاونوا و يتعاضدوا في الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة و مضادة و أورثت تبريا و خذلانا. 

  • قوله تعالى{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} أي آمن به لوط و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء و المعنى واحد. 

تفسير الميزان ج۱٦

122
  • و قوله: {وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي} قيل الضمير راجع إلى لوط، و قيل: راجع إلى إبراهيم و يؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}: الصافات: ٩٩. 

  • و كأن المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه و خروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون و لا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقلي. 

  • و قوله: {إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه. 

  • قوله تعالى{وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ} معناه ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأجر هو الجزاء الذي يقابل العمل و يعود إلى عامله و الفرق بينه و بين الأجرة أن الأجرة تختص بالجزاء الدنيوي و الأجر يعم الدنيا و الآخرة، و الفرق بينه و بين الجزاء أن الأجر لا يقال إلا في الخير و النافع، و الجزاء يعم الخير و الشر و النافع و الضار. 

  • و الغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب و درجات الولاية و منها الجنة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ}: يوسف: ٩٠و قوله: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ}: يوسف: ٥٦ إطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن. 

  • فقوله: {وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا} يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي الحسن و الأنسب على هذا أن يكون {فِي اَلدُّنْيَا} متعلقا بالأجر لا بالإيتاء و ربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه (عليه السلام) في موضع آخر: {وَ آتَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ}: النحل: ١٢٢ فإن الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة و إيتاؤها فعلية إعطائها دون تقديرها و كتابتها. 

  • و يمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات 

تفسير الميزان ج۱٦

123
  • القرب في حقه (عليه السلام) و إيتاؤه ذلك في الدنيا و قد تقدم إحصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماته (عليه السلام) في قصصه من تفسير سورة الأنعام. 

  • و قوله: {وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: {وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ}: البقرة: ١٣٠في الجزء الأول من الكتاب. 

  • قوله تعالى{وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ} أي و أرسلنا لوطا أو و اذكر لوطا إذ قال لقومه، و قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ} إخبار بداعي الاستعجاب و الإنكار، و المراد بالفاحشة إتيان الذكران. 

  • و قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ} استئناف يوضح معنى الفاحشة و يؤكده، و كأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من فاعل {لَتَأْتُونَ}

  • قوله تعالى{أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ} إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحري أن لا يصدقه سامع و لا يقبله ذو لب و لذا أكد بالنون و اللام، و هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط و بقطع السبيل إهمال طريق التناسل و إلغاؤها و هي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء و ترك نكاحهن، و بإتيانهم المنكر في ناديهم و النادي‌ هو المجلس الذي يجتمعون فيه و لا يسمى نادية إلا إذا كان فيه أهله الإتيان بالفحشاء أو بمقدماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة. 

  • و قيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم أصابه كان أولى به فيأخذون ماله و ينكحونه و يغرمونه ثلاثة دراهم و كان لهم قاض يقضي بذلك و قيل: بل كانوا يقطعون الطرق، و قد عرفت أن السياق يقضي بخلاف ذلك. 

  • و قيل: المراد بإتيان المنكر في النادي أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات و القبائح مثل الشتم و السخف و القمار و خذف الأحجار على من مر بهم و ضرب المعازف و المزامير و كشف العورات و اللواط و نحو ذلك و قد عرفت ما يقتضيه السياق. 

تفسير الميزان ج۱٦

124
  • و قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اِئْتِنَا بِعَذَابِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} استهزاء و سخرية منهم، و يظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله و قد قال الله في قصته في موضع آخر: {وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}: القمر: ٣٦. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ} سؤال للفتح و دعاء منه عليهم، و قد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض و يقطع النسل و يهدد الإنسانية بالفناء. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرىَ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} إجمال قصة هلاك قوم لوط، و قد كان ذلك برسل من الملائكة أرسلهم الله أولا إلى إبراهيم (عليه السلام) فبشروه و بشروا امرأته بإسحاق و يعقوب ثم أخبروه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط، و القصة مفصلة في سورة هود و غيرها. 

  • و قوله: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ} أي قالوا لإبراهيم، و في الإتيان بلفظ الإشارة القريبة هذه القرية دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم (عليه السلام) نازلا بها، و هي الأرض المقدسة. 

  • و قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} تعليل لإهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت فيهم رذيلة الظلم، و قد كان مقتضى الظاهر أن يقال: إنهم كانوا ظالمين فوضع المظهر موضع المضمر للإشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك و ليس من مطلق الظلم الذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: إن أهلها بما أنهم أهلها ظالمون. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} ظاهر السياق أنه (عليه السلام) كان يريد بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا و إهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب و هم أهله إلا امرأته. 

  • لكنه (عليه السلام) لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا و هو نبي مرسل، و إن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته و لا أنه يخوفه و يزعره و يفزعه بقهره عليهم بل كان (عليه السلام) يريد بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه و إخراجه من بين أهل القرية و معه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين. 

تفسير الميزان ج۱٦

125
  • و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْرىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}: هود: ٧٦ فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه. 

  • فظاهر كلامه (عليه السلام) في الآية التي نحن فيها الدفاع عن لوط و على ذلك جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره و أجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها و عالمون بأن فيها لوطا و معه أهله ممن لا ينبغي أن يعذب لكنهم سينجونه و أهله إلا امرأته، لكن الذي أراده إبراهيم (عليه السلام) بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فأجيب بأنه من الأمر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود. 

  • و للقوم في قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}، و قوله: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‌ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ} إلى آخر الآية، ضميرا الجمع في {سِي‌ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ} للرسل و الباء للسببية أي أخذته المساءة و هي سوء الحال بسببهم و ضاقت طاقته بسببهم لكونهم في صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم إياهم بالسوء و ضعف لوط من أن يدفعهم عنهم و هم ضيف له نازلون بداره. 

  • و قوله: {وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ} أي لا خطر محتملا يهددك و لا مقطوعا يقع عليك فإن الخوف إنما هو في المكروه الممكن و الحزن في المكروه الواقع. 

  • و قوله: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} أي الباقين في العذاب تعليل لنفي الخوف و الحزن. 

  • قوله تعالى{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلىَ أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بيان لما يشير إليه قوله: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ} من العذاب، و الرجز العذاب. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ضمير التأنيث للقرية 

تفسير الميزان ج۱٦

126
  • و الترك الإبقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتقوا الله و هي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب. 

  • و هي اليوم مجهولة المحل لا أثر منها و ربما يقال: إن الماء غمرها بعد و هي بحر لوط، لكن الآية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن و أوضح منها قوله تعالى: {وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}: الحجر: ٧٦ و قوله: {وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ}: الصافات: ١٣٨. 

  • قوله تعالى{وَ إِلىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} يدعوهم إلى عبادة الله و هو التوحيد و إلى رجاء اليوم الآخر و هو الاعتقاد بالمعاد و أن لا يفسدوا في الأرض و كانت عمدة إفسادهم فيها على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر نقص الميزان و المكيال. 

  • قوله تعالى{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الرجفة الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، و الجثم و الجثوم‌ في المكان القعود فيه أو البروك على الأرض و هو كناية عن الموت و المعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم. 

  • و قال في قصتهم في موضع آخر: {وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: هود: ٩٤ و يستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة و الرجفة. 

  • قوله تعالى{وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} إلى آخر الآية غير السياق تفننا فبدأ بذكر عاد و ثمود و كذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون و فرعون و هامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح و إبراهيم و لوط و شعيب. و قوله: {وَ عَاداً وَ ثَمُودَ} منصوبان بفعل مقدر تقديره و اذكر عادا و ثمود. 

  • و قوله: {وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم و تأكيد تعلقهم بها و صده إياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التي هي سبيل الفطرة، و لذا قال بعضهم: إن المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة. 

تفسير الميزان ج۱٦

127
  • لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ}: البقرة: ٢١٣ أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و عاد و ثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على عبادة الله و دين التوحيد و هو دين الفطرة. 

  • قوله تعالى{وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسىَ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ} السبق استعارة كنائية من الغلبة، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} إلى آخر الآية أي كل واحدة من الأمم المذكورين أخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} و الحاصب‌ الحجارة و قيل: الريح التي ترمي بالحصى و على الأول فهم قوم لوط، و على الثاني قوم عاد {وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ} و هم قوم ثمود و قوم شعيب {وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ} و هو قارون {وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} و هم قوم نوح و فرعون و هامان و قومهما. 

  • ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة و ما انتهى إليه أمر تلك الأمم من الأخذ و العذاب فبين ببيان عام أن الذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل بظلم منهم لأنفسهم فقال: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي فيجازيهم الله على ظلمهم لأن الدار دار الفتنة و الامتحان و هي السنة الإلهية التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه و من ضل فعليها. 

  • (بحث روائي) 

  •  في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى: {وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} يعني يتبرأ بعضكم من بعض الحديث. 

  • أقول: و روي هذا المعنى في التوحيد عن علي (عليه السلام) في حديث طويل يجيب فيه عما سئل عنه من تهافت الآيات و فيه: و الكفر في هذه الآية البراءة يقول: يتبرأ 

تفسير الميزان ج۱٦

128
  • بعضهم من بعض، و نظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} و قول إبراهيم خليل الرحمن: {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي تبرأنا». 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن الخذف‌۱ و هو قول الله: {وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ}.

  • أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن أم هاني بنت أبي طالب و لفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله: {وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ} قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل و يسخرون منهم. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط. فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ فقال جبرئيل: لا. 

  • قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها ثلاثون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين. قال الحسن بن علي (عليه السلام): لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}.

  •  

  • [سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٤١ الی ٥٥]

  • {مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٤١ إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٤٢

    1. الخذف بالحصاة و النواة الرمي بها من بين السبابتين. 

تفسير الميزان ج۱٦

129
  • وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ ٤٣ خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ٤٤ اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‌ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ٤٥ وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ٤٦ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلْكَافِرُونَ ٤٧ وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ اَلْمُبْطِلُونَ ٤٨ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ ٤٩ وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ٥٠أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى‌ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى‌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٥٢ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ 

تفسير الميزان ج۱٦

130
  • بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٣ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ٥٤ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٥٥} 

  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات تذييلا لقصص أولئك الأمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادي ببطلانه و فساده خلق السماوات و الأرض و أنهم ليس لهم من دونه من ولي كما يذكره هذا الكتاب. 

  • و من هنا ينتقل إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتلاوة هذا الكتاب الذي أوحي إليه و إقامة الصلاة و دعوة أهل الكتاب بقول لين و مجادلة حسناء و يجيب عن اقتراح المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بآيات غير القرآن و أن يعجلهم بالعذاب الذي ينذرهم به. 

  • قوله تعالى{مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى آخر الآية، العنكبوت معروف و يطلق على الواحد و الجمع و يذكر و يؤنث. 

  • العناية في قوله: {مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا} إلخ، باتخاذ الأولياء من دون الله و لذا جي‌ء بالموصول و الصلة كما أن العناية في قوله: {كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى اتخاذها البيت فيئول المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء كصفة العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، و هو الوصف الذي يدل عليه تنكير {بَيْتاً}

  • و يكون قوله: {إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ} بيانا لصفة البيت الذي أخذته العنكبوت و لم يقل: إن أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة بمنزلة المثل السائر الذي لا يتغير. 

  • و المعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء و هم آلهتهم الذين يتولونهم و يركنون 

تفسير الميزان ج۱٦

131
  • إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت إلا اسمه لا يدفع حرا و لا بردا و لا يكن شخصا و لا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم إلا الاسم فقط لا ينفعون و لا يضرون و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا. 

  • و مورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الآلهة زعمهم أن لهم ولاية لأمرهم و تدبيرا لشأنهم من جلب الخير إليهم و دفع الشر عنهم و الشفاعة في حقهم. 

  • و الآية - مضافا إلى إيفاء هذه النكتة - تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من الأمور و شأن من الشئون وليا من دون الله يركن إليه و يراه مستقلا في أثره الذي يرجوه منه و إن لم يعد من الأصنام إلا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول و الأئمة و المؤمنين كما قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ}: يوسف: ١٠٦. 

  • و قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما اتخذوهم أولياء. كذا قيل. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} يمكن أن يكون {مَا} في {مَا يَدْعُونَ} موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية و {مِنْ} في {مِنْ شَيْ‌ءٍ} على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد و على الباقي للتبيين و أرجح الاحتمالات الأولان و أرجحهما أولهما. 

  • و المعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي إن الذي يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل و زيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا. 

  • و المعنى: على الأول أن الله يعلم الشي‌ء الذي يدعون من دونه و لا يجهل ذلك فيكون كناية عن أن المثل الذي ضربه في محله، و ليس لأوليائهم من الولاية إلا اسمها. 

  • و يؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شي‌ء فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق و الإيجاد أحد، الحكيم الذي يأتي بالمتقن من الفعل و التدبير فلا يفوض تدبير خلقه إلى أحد، و هذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: {خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ}

تفسير الميزان ج۱٦

132
  • قوله تعالى{وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ} يشير إلى أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الإشراف على حقيقة معانيها و لب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور و لا ينجمد على ظواهرها. 

  • و الدليل على هذا المعنى قوله: {وَ مَا يَعْقِلُهَا} دون أن يقول: و ما يؤمن بها أو ما في معناه. 

  • فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لا حظ له منها إلا تلقي ألفاظها و تصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها و سبر لأغوارها، و من سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة و يعقل حقائقها الأنيقة. 

  • و فيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري و دعوى خالية من البينة بل متك على حجة برهانية و حقيقة حقة ثابتة و هي التي تشير إليه الآية التالية. 

  • قوله تعالى{خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} المراد بكون خلق السماوات و الأرض بالحق نفي اللعب في خلقها، كما قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: الدخان: ٣٩. 

  • فخلق السماوات و الأرض على نظام ثابت لا يتغير و سنة إلهية جارية لا تختلف و لا تتخلف، و الخلق و التدبير لا يختلفان حقيقة و لا ينفك أحدهما عن الآخر۱، و إذ كان الخلق و الصنع ينتهي إليه تعالى انتهاء ضروريا و لا محيص فالتدبير أيضا له و لا محيص و ما من شي‌ء غيره تعالى إلا و هو مخلوقة القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و من المحال قيامه بشي‌ء من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا 

    1. و ذلك أن موطن التدبير الحوادث الجارية في الكون و معناه تعقيب حادث بحادث آخر على نظم و ترتيب يؤدي إلى غايات حقة و حقيقته خلق حادث بعد حادث فالتدبير هو الخلق و الإيجاد باعتبار قياس الشي‌ء إلى آخر مثله و انضمامه إليه فليس وراء الخلق و الإيجاد شي‌ء منه.

تفسير الميزان ج۱٦

133
  • في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذي لا لعب فيه و الجد الذي لا هزل فيه. 

  • فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب و تفويضه تعالى أمر التدبير إليه لعبا منه تعالى و تقدس إذ ليس إلا فرضا لا حقيقة له و وهما لا واقع له و هو معنى اللعب. 

  • و منه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها إلا اسم الولاية من غير مسمى كما أن بيت العنكبوت كذلك. 

  • و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية لهم و لغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم. 

  • قوله تعالى{اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} إلخ، لما ذكر إجمال قصص الأمم و ما انتهى إليه شركهم و ارتكابهم الفحشاء و المنكر من الشقاء اللازم و الخسران الدائم انتقل من ذلك مستأنفا للكلام إلى أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بتلاوة ما أوحي إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك و ارتكاب الفحشاء و المنكر بما فيه من الآيات البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق و تشتمل على القصص و العبر و المواعظ و التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه و من سمعه. 

  • و شفعه بالأمر بإقامة الصلاة التي هي خير العمل و علل ذلك بقوله: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} و السياق يشهد أن المراد بهذا النهي ردع طبيعة العمل عن الفحشاء و المنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة. 

  • فلطبيعة هذا التوجه العبادي إذ أتى به العبد و هو يكرره كل يوم خمس مرات و يداوم عليه و خاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به و يهتم فيه بما اهتم به أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الديني كقتل النفس عدوانا و أكل مال اليتيم ظلما و الزنا و اللواط، و عن كل ما ينكره الطبع السليم و الفطرة المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين و العمل. 

  • و ذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الإيمان بوحدانيته تعالى و الرسالة و جزاء يوم الجزاء و أن يخاطب ربه بإخلاص العبادة و الاستعانة به و سؤال الهداية إلى صراطه 

تفسير الميزان ج۱٦

134
  • المستقيم متعوذا من غضبه و من الضلال، و يحمله ثانيا على أن يتوجه بروحه و بدنه إلى ساحة العظمة و الكبرياء و يذكر ربه بحمده و الثناء عليه و تسبيحه و تكبيره ثم السلام على نفسه و أترابه و جميع الصالحين من عباد الله. 

  • مضافا إلى حمله إياه على التطهر من الحدث و الخبث في بدنه و الطهارة في لباسه و التحرز عن الغصب في لباسه و مكانه و استقبال بيت ربه فالإنسان لو داوم على صلاته مدة يسيرة و استعمل في إقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء و المنكر البتة، و لو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح بها لهذا الشأن و تتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة و لا روضك بأزيد مما تروضك به. 

  • و قد استشكل على الآية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالي ارتكاب الكبائر و لا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر. 

  • و لذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الآية بمعنى الدعاء و المراد الدعوة إلى أمر الله و المعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فإن ذلك يردع الناس عن الفحشاء و المنكر. و فيه أنه صرف الكلام عن ظاهره. 

  • و ذكر آخرون أن الصلاة في الآية في معنى النكرة و المعنى أن بعض أنواع الصلاة أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و هو كذلك و ليس المراد الاستغراق حتى يرد الإشكال. 

  • و ذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء و المنكر ما دامت قائمة و المصلي في صلاته كأنه قيل: إن المصلي ما دام مصليا في شغل من معصية الله بإتيان الفحشاء و المنكر. 

  • و قال بعضهم: إن الآية على ظاهرها و الصلاة بمنزلة من ينهى و يقول: لا تفعل كذا و لا تقترف كذا لكن النهي لا يستوجب الانتهاء فليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه تعالى كما في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي اَلْقُرْبىَ وَ يَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ}: النحل: ٩٠و نهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء و ليس الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء و هو توهم باطل. 

  • و عن بعضهم في دفع الإشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: {أَقِمِ 

تفسير الميزان ج۱٦

135
  • اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} و من كان ذاكرا لله تعالى منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه و كل من تراه يصلي و يأتي بالفحشاء و المنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه و منكره. 

  • و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم و التعليل في الآية فإن الذي يعطيه السياق أن الأمر بإقامة الصلاة إنما علل بقوله: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث إقامته صفة روحية في الإنسان تكون رادعة له عن الفحشاء و المنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء و المنكر و تتطهر عن قذارة الذنوب و الآثام. 

  • فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو الاقتضاء لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، و لا أنها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، و لا أن المراد هو التوسل إلى تلقي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، و لا أن المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء و المنكر كما في الجواب الخامس. 

  • فالحق في الجواب أن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي إلى الله سبحانه و هو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب و العلية التامة فربما تخلف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر و تقربه من الغفلة و الانصراف عن حاق الذكر فكلما قوي الذكر و كمل الحضور و الخشوع و تمحض الإخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء و المنكر و كلما ضعف ضعف الأثر. 

  • و أنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالإسلام من الناس و هو تارك الصلاة وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و عامة الواجبات الدينية و لا يفرق بين طاهر و نجس و حلال و حرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شي‌ء ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعا عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه و على هذا القياس. 

تفسير الميزان ج۱٦

136
  • و قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره. و تارة يقال لحضور الشي‌ء القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر. انتهى. 

  • و الظاهر أن الأصل في معناه هو المعنى الأول و تسمية اللفظ ذكرا إنما هو لاشتماله على المعنى القلبي و الذكر القلبي بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتب على سببه و الغاية المقصودة من الفعل. 

  • و الصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الأذكار القولية من تهليل و تحميد و تنزيه و هي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله سبحانه كما قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اَللَّهِ}: الجمعة: ٩ و هي باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذي الغاية يشير إليه قوله تعالى: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي}: طه: ١٤. 

  • و الذكر الذي هو غاية مترتبة على الصلاة أعني الذكر القلبي بمعنى استحضار المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته نسيانا أو إدامة استحضاره، أفضل عمل يتصور صدوره عن الإنسان و أعلاه كعبا و أعظمه قدرا و أثرا فإنه السعادة الأخيرة التي هيئت للإنسان و مفتاح كل خير. 

  • ثم إن الظاهر من سياق قوله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} إن قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} متصل به مبين لأثر آخر للصلاة و هو أكبر مما بين قبله، فيقع قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} موقع الإضراب و الترقي و يكون المراد الذكر القلبي الذي يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذي الغاية فكأنه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء و المنكر بل الذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهي عن الفحشاء و المنكر لأنه أعظم ما يناله الإنسان من الخير و هو مفتاح كل خير و النهي عن الفحشاء و المنكر بعض الخير. 

  • و من المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة. 

تفسير الميزان ج۱٦

137
  • و الجملة أيضا واقعة موقع الإضراب، و المعنى: بل الذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر الله أو نفس الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الذي هو النهي عن الفحشاء و المنكر لأن النهي أثر من آثارها الحسنة و {لَذِكْرُ اَللَّهِ} على الاحتمالين جميعا من المصدر المضاف إلى مفعوله و المفضل عليه لقوله: {أَكْبَرُ} هو النهي عن الفحشاء و المنكر. 

  • و لهم في معنى الذكر و كون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر و كون المفضل عليه خاصا أو عاما أقوال أخر. 

  • فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى و ذلك أن الله تعالى يذكر من ذكره لقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}: البقرة: ١٥٢ و قيل: المعنى: ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل شي‌ء. 

  • و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، و قيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات و قيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما أكبر من زجر الصلاة و ردعها، و قيل: إن قوله: {أَكْبَرُ} معرى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى مفضل عليه كقوله: {مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ}

  • فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها إيثارا للاختصار، و التدبر في الآية يكفي مئونة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى. 

  • و قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي ما تفعلونه من خير أو شر فعليكم أن تراقبوه و لا تغفلوا عنه ففيه حث و تحريض على المراقبة و خاصة على القول الأول. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} لما أمر في قوله: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} إلخ، بالتبليغ و الدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب و هم على ما يقتضيه الإطلاق اليهود و النصارى و يلحق بهم المجوس و الصابئون إلا بالمجادلة التي هي أحسن المجادلة. 

  • و المجادلة إنما تحسن إذا لم تتضمن إغلاظا و طعنا و إهانة، فمن حسنها أن تقارن 

تفسير الميزان ج۱٦

138
  • رفقا و لينا في القول لا يتأذى به الخصم و أن يقترب المجادل من خصمه و يدنو منه حتى يتفقا و يتعاضدا لإظهار الحق من غير لجاج و عناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام و الاقتراب بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن. 

  • و لهذا لما نهى عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم، فإن المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق و اللين و الاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة و هوان للمجادل و يعتبره تمويها و احتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن. 

  • و لهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم و بناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه و يتعاضدان على ظهور الحق فقال: {وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلْكَافِرُونَ} أي على تلك الصفة و هي الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله أنزلنا إليك القرآن. 

  • و قيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى و عيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب و هو القرآن. 

  • فقوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ} إلخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان القرآن نازلا في الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الإيمان بالله و تصديق كتبه و رسله، و من هؤلاء و هم المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا و لا ينكرها من أهل الكتاب و هؤلاء المشركين إلا الكافرون و هم الساترون للحق بالباطل. 

  • و قد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين و المشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب و هو بعيد، و مثله في البعد إرجاع الضمير في «يؤمن به» إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و في قوله: {وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} نوع استقلال لمن آمن به من المشركين. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ اَلْمُبْطِلُونَ} التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط و المراد به 

تفسير الميزان ج۱٦

139
  • في الآية الثاني بقرينة المقام، و الخط الكتابة، و المبطلون جمع مبطل و هو الذي يأتي بالباطل من القول، و يقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعي بطلانه، و الأنسب في الآية المعنى الثاني و إن جاز أن يراد المعنى الأول. 

  • و ظاهر التعبير في قوله: {وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا} إلخ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو و تخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ}: يونس: ١٦. 

  • و قيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو و تخط من قبله و الوجه الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة و قد أقامها لتثبيت حقية القرآن و نزوله من عنده. 

  • و تقييد قوله: {وَ لاَ تَخُطُّهُ} بقوله: {بِيَمِينِكَ} نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل: رأيته بعيني و سمعته بأذني. 

  • و المعنى: و ما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا و لا كان من عادتك أن تخط كتابا و تكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك أميا و لو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم تحسن القراءة و الكتابة و استمرت على ذلك و عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم و معاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى و ليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين و نقلته من أقاصيصهم و غيرهم حتى يرتاب المبطلون و يعتذروا به. 

  • قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ} إضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) التلاوة و الخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله: {بَلْ هُوَ} أي القرآن {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ}

  • و قوله: {وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ} المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لآيات الله بتكذيبها و الاستكبار عن قبولها عنادا و تعنتا. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} لما ذكر الكتاب و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتلوه و يدعوهم إليه به و أن منهم 

تفسير الميزان ج۱٦

140
  • من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و هم الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية و الآيتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الذي هو آية النبوة و اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بآيات غيره و الجواب عنه. 

  • فقوله: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية و زعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة إلهية غيبية يقوى على كل ما يريد، و في قولهم: لو لا أنزل عليه، دون أن يقولوا: لو لا يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ}: الحجر: ٧. 

  • و قوله: {قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ} جواب عن زعمهم أن من يدعي الرسالة يدعي قوة غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد و كيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شي‌ء إلا أن يشاء الله ثم زاده بيانا بقصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الإنذار فحسب بقوله: {إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر الآية توطئة و تمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، و الاستفهام للإنكار و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك و هو يتلى عليهم فيسمعونه و يعرفون مكانته من الإعجاز و هو مملو رحمة و تذكرة للمؤمنين. 

  • قوله تعالى{قُلْ كَفىَ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً} إلقاء جواب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليجيبهم به و هو أن الله سبحانه شهيد بيني و بينكم فيما نتخاصم فيه و هو أمر الرسالة فإنه سبحانه يشهد في كلامه الذي أنزله علي برسالتي و هو تعالى يعلم ما في السماوات و الأرض من غير أن يجهل شيئا و كفى بشهادته لي دليلا على دعواي. 

  • و ليس لهم أن يقولوا إنه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال الآيات و منه يعلم أن قوله: {قُلْ كَفىَ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً} ليس دعوى مجردة أو كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالي و حجة قاطعة على ما عرفت. 

  • و قوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ} قصر الخسران فيهم لعدم إيمانهم بالله بالكفر بكتابه الذي فيه شهادته على الرسالة و هم بكفرهم بالله 

تفسير الميزان ج۱٦

141
  • الحق يؤمنون بالباطل و لذلك خسروا في إيمانهم. 

  • قوله تعالى{وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و قد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: {وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلىَ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}: هود: ٨. 

  • و المراد بالأجل المسمى هو الذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ}: البقرة: ٣٦ و قال: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ}: الأعراف: ٣٤. 

  • و هذا العذاب الذي يحول بينه و بينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: {وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً}: الكهف: ٥٨ و لا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال و إنظار، قال تعالى: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ}: إسراء: ٥٩. 

  • قوله تعالى{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ اَلْعَذَابُ} إلى آخر الآية، تكرار {يَسْتَعْجِلُونَكَ} للدلالة على كمال جهلهم و فساد فهمهم و أن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا و استعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا. 

  • و الغشاوة و الغشاية التغطية بنحو الإحاطة، و قوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} ظرف لقوله: {لَمُحِيطَةٌ} و الباقي ظاهر. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع في قوله تعالى: {وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ}: روى الواحدي بالإسناد عن جابر قال: تلا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية و قال: العالم الذي يعقل عن الله فعمل بطاعته و اجتنب سخطه. 

تفسير الميزان ج۱٦

142
  • و فيه في قوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ}: روى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن عمران بن الحصين و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و رواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا. 

  • و فيه و أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا صلاة لمن لم تطع الصلاة و طاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن ابن مسعود و غيره. 

  • و فيه و روى أنس: أن فتى من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن صلاته تنهاه يوما ما. 

  • و فيه روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته.

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ}: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} يقول: ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إياه أ لا ترى أنه يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.

  • أقول: و هذا أحد المعاني التي تقدم نقلها. 

  • و في نور الثقلين عن مجمع البيان و روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الله عند ما أحل و حرم

  • و فيه عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله عز و جل.

  • و فيه و قال (صلى الله عليه وآله و سلم): يا معاذ إن السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز و جل و من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز و جل.

  • و في الكافي بإسناده عن العبدي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ} قال: هم الأئمة.

  • أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، و في بصائر الدرجات، بعدة طرق: و هو من الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية. 

تفسير الميزان ج۱٦

143
  • و في البصائر بإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ} فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا؟ 

  • و في الدر المنثور أخرج الإسماعيلي في معجمه و ابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن أحمق الحمق و أضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم و إلى أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى‌ عَلَيْهِمْ} (الآية). 

  • و فيه أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن كريز إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها و قالت: يتتبع الكتب و قد قال الله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلىَ عَلَيْهِمْ} فقيل لها: إنه عبد الله بن عامر فقبلها. 

  • أقول: ظاهر الروايتين و خاصة الأولى الآية في بعض الصحابة و سياق الآيات يأبى ذلك. 

  •  

  • [سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٥٦ الی ٦٠]

  • {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ٥٦ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٥٧ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ ٥٨ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‌ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٥٩ وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦٠} 

تفسير الميزان ج۱٦

144
  • (بيان) 

  • لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة و كانوا يهددونهم بالفتنة و العذاب فأمرهم أن يصبروا و يتوكلوا على ربهم و أن يهاجروا منها إن أشكل عليهم أمر الدين و إقامة فرائضه، و أن لا يخافوا أمر الرزق فإن الرزق على الله سبحانه و هو يرزقهم إن ارتحلوا و هاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم. 

  • قوله تعالى{يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} توجيه للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق و الاستنان بسنته و يدل على ذلك ذيل الآية. 

  • و قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه الأرض التي نعيش عليها و إضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، و وسعة الأرض كناية عن أنه إن امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق و العمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال. 

  • و قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و الفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام و الظاهر أن تقديم «إياي» لإفادة الحصر فيكون قصر قلب و المعنى: لا تعبدوا غيري بل اعبدوني، و قوله: {فَاعْبُدُونِ} قائم مقام الجزاء. 

  • و محصل المعنى: أن أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و لا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها و اعبدوني وحدي فيها. 

  • قوله تعالى{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الآية) تأكيد للأمر السابق في قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} و كالتوطئة لقوله الآتي: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا} إلخ. 

  • و قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} من الاستعارة بالكناية و المراد أن كل نفس 

تفسير الميزان ج۱٦

145
  • ستموت لا محالة، و الالتفات في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} من سياق التكلم وحده إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. 

  • و محصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست إلا أياما قلائل و الموت وراءه ثم الرجوع إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا و هي زينة فانية عن التهيؤ للقاء الله بالإيمان و العمل ففيه السعادة الباقية و في الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً} إلخ، بيان لأجر الإيمان و العمل الصالح بعد الموت و الرجوع إلى الله و فيه حث و ترغيب للمؤمنين على الصبر في الله و التوكل على الله، و التبوئة الإنزال على وجه الإقامة، و الغرف‌ جمع غرفة و هي في الدار، العلية العالية. 

  • و قد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال: {نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ} ثم فسر العاملين بقوله: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فعاد بذلك الصبر و التوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن إنما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله و توكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى و جفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج و ليهاجر إلى أرض غيرها و ليصبر على ما يصيبه من التعب و العناء في الله. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وصف للعالمين، و الصبر أعم من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر على المعصية، و إن كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة. 

  • قوله تعالى{وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} كأين للتكثير، و حمل الرزق‌ هو ادخاره كما يفعله الإنسان و النمل و الفأر و النحل من سائر الحيوان. 

  • و في الآية تطييب لنفس المؤمنين و تقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا و لا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: و كثير من 

تفسير الميزان ج۱٦

146
  • الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله و يرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون الأرزاق و هو السميع العليم. 

  • و في تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها و هو أن الإنسان و سائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه و الله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه و مقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فإن أرضي واسعة، و هو يقول: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ} فقال: {أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}

  • و في المجمع: و قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها.

  • و في العيون بإسناده إلى الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما نزلت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} قلت: يا رب أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء؟ فنزلت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ}

  • أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي، و لا يخلو متنه عن شي‌ء فإن قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يخبر عن موته (صلى الله عليه وآله و سلم) و موت سائر الناس، و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يعلم أن الأنبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء. 

  • و في الجمع عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى دخلنا بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر و يأكل فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر 

تفسير الميزان ج۱٦

147
  • إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتى نزلت {وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ}.

  • أقول: و قد روى الرواية في الدر المنثور، و ضعف سندها و هي مع ذلك لا تلائم وقوع الآية في سياق ما تقدمها. 

  •  

  • [سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٦١ الی ٦٩]

  • {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ٦١ اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ٦٢ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ٦٣ وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٦٤ فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ٦٥ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٦٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَكْفُرُونَ ٦٧ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‌ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ ٦٨ وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ ٦٩} 

تفسير الميزان ج۱٦

148
  • (بيان) 

  • الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع و إن كان في اللفظ خاصا به (صلى الله عليه وآله و سلم) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع. 

  • و الآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات و الأرض و مدبر الشمس و القمر و عليهما مدار الأرزاق هو الله و أن منزل الماء من السماء و محيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم و هم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره و يقيمون في حرم آمن و هو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل و يجحدون الحق و يكفرون بنعمة الله. 

  • و ما ختمت به السورة من قوله: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} يلائم ما في مفتتح السورة {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} إلى أن قال {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} إلخ. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}

  • خلق السماوات و الأرض من الإيجاد و تسخير الشمس و القمر و ذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع و الغروب و القرب و البعد من الأرض من التدبير الذي يتفرع عليه كينونة أرزاق الإنسان و سائر الحيوان و هذا الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر. 

  • و إذا كان الله هو الخالق و بيده تدبير السماوات و يتبعه تدبير الأرض و كينونة الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق و سائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا و هو قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فإذا كان الخلق و تدبير الشمس و القمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام و عبادته. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ 

تفسير الميزان ج۱٦

149
  • عَلِيمٌ} في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، و القدر التضييق و يقابله البسط و المراد به لازم معناه و هو التوسعة، و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ} للدلالة على تعليل الحكم، و المعنى: و هو بكل شي‌ء عليم لأنه الله. 

  • و المعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده و يضيقه على من يشاء و لا يشاء إلا على طبق المصلحة لأنه بكل شي‌ء عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} إلى قوله {لاَ يَعْقِلُونَ} المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع. 

  • و قوله: {قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام و أرباب الأصنام. 

  • و قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي لا يتدبرون الآيات و لا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله و يميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل. 

  • قوله تعالى{وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} اللهو ما يلهيك و يشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لأنها تلهي الإنسان و تشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية. 

  • و اللعب‌ فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان و الحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه و يتولعون به ساعة ثم يتفرقون و سرعان ما يتفرقون. 

  • على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون و يتكالب عليه الظالمون أمور وهمية سرابية كالأموال و الأزواج و البنين و أنواع التقدم و التصدر و الرئاسة و المولوية و الخدم و الأنصار و غيرها فالإنسان لا يملك شيئا منها إلا في ظرف الوهم و الخيال. 

  • و أما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه بإيمانه و عمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها و الجد الذي لا لعب فيها و لا لغو و لا تأثيم، و البقاء الذي لا فناء معه، و اللذة التي لا ألم عندها و السعادة التي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة. 

تفسير الميزان ج۱٦

150
  • و هذا معنى قوله سبحانه: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ}

  • و في الآية كما ترى قصر الحياة الدنيا في اللهو و اللعب و الإشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير و قصر الحياة الآخرة في الحيوان و هو الحياة و تأكيده بأدوات التأكيد كان و اللام و ضمير الفصل و الجملة الاسمية. 

  • و قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الأمر كما وصفنا. 

  • قوله تعالى{فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم و هو أنهم يؤفكون و أن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و أكثرهم لا يعقلون و يناقضون أنفسهم بالاعتراف و الجحد {فَإِذَا رَكِبُوا}«إلخ». 

  • و الركوب‌ الاستعلاء بالجلوس على الشي‌ء المتحرك و هو متعد بنفسه و تعديته في الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، و المعنى: فإذا ركبوا مستقرين في الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، و معنى الآية ظاهر و هي تحكي عنهم تناقضا آخر و كفرانا للنعمة. 

  • قوله تعالى{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} اللام في {لِيَكْفُرُوا} و {لِيَتَمَتَّعُوا} لام الأمر و أمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد و إنذار كقولك لمن تهدده: «افعل ما شئت»، قال تعالى: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: حم السجدة: ٤٠. 

  • و احتمل كون اللام للغاية، و المعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى كفران النعمة التي آتيناهم و إلى التمتع، و أول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، و يؤيده قوله في موضع آخر: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: الروم: ٣٤ و لذا قرأه من قرأ {وَ لِيَتَمَتَّعُوا} بسكون اللام إذ لا يسكن غير لام الأمر. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الحرم الأمن‌ هو مكة و ما حولها و قد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم (عليه السلام) و التخطف‌ 

تفسير الميزان ج۱٦

151
  • كالخطف استلاب الشي‌ء بسرعة و اختلاسه و قد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور و التناهب و لا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل و السبي و النهب لكنهم يحترمون الحرم و لا يتعرضون لمن أقام بها فيها. 

  • و المعنى: أ و لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبي أو نهب و الحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم. 

  • و قوله: {أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَكْفُرُونَ} توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة و هي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام و هي باطلة ليس لها إلا الاسم. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم و أعظمه و هو افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة و أن الله اتخذهم شركاء لنفسه، و تكذيب الإنسان بالحق لما جاءه و الوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام و كذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون و مثوى الكافرين و محل إقامتهم في الآخرة جهنم. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ} الجهد الوسع و الطاقة و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو و الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس كذا ذكره الراغب. 

  • و قوله: {جَاهَدُوا فِينَا} أي استقر جهادهم فينا و هو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به و الائتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه. 

  • و قوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أثبت لنفسه سبلا و هي أيا ما كانت تنتهي إليه تعالى فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل و هو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه و الهادية إليه تعالى، و إذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً}: محمد: ١٧. 

  • و مما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: {فِينَا} إلى تقدير مضاف كشأن و التقدير في شأننا. 

تفسير الميزان ج۱٦

152
  • و قوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ} قيل أي معية النصرة و المعونة و تقدم الجهاد المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك. انتهى. و هو وجه حسن و أحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة و العناية فيشمل معية النصرة و المعونة و غيرهما من أقسام العنايات التي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم و شمول رحمته لهم، و هذه المعية أخص من معية الوجود الذي ينبئ عنه قوله تعالى: {وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}: الحديد: ٤. 

  • و قد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان و هو يسعى لدار الغرور

  • و فيه أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا و العرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} (الآية). 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ}: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: هذه الآية لآل محمد (عليه السلام) و لأشياعهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

153
  • (٣٠) (سورة الروم مكية، و هي ستون آية) (٦٠) 

  • [سورة الروم (٣٠): الآیات ١ الی ١٩]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ غُلِبَتِ اَلرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ ٤ بِنَصْرِ اَللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٥ وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٦ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ٧ أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ٨ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثَارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٩ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‌ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ ١٠اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ١١ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ ١٢ 

تفسير الميزان ج۱٦

154
  • وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ١٣ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ١٤ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ١٥ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ١٦ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ ١٧ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ١٨ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ١٩} 

  • (بيان) 

  • تفتتح السورة بوعد من الله و هو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله و تقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات الربوبية و تصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تؤكد القول فيه إذ تقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} و قد قيل قبيل ذلك: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}

  • فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصرة دينه و قد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد، و كذا يحتج به و من طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه. 

تفسير الميزان ج۱٦

155
  • قوله تعالى{غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ} الروم‌ جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت الروم، و الظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز و اللام للعهد. 

  • قوله تعالى{وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} ضمير الجمع الأول للروم و كذا الثالث و أما الثاني فقد قيل إنه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبني للمفعول و الضمير للروم كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون. و البضع‌ من العدد من ثلاثة إلى تسعة. 

  • قوله تعالى{لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ} قبل و بعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء. 

  • و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين و المعنى الأول أرجح إن لم يكن راجحا متعينا. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ} الظرف متعلق بيفرح و كذا قوله {يَنْصُرُ} و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثم استأنف و قال: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} تقريرا لقوله: {لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ}

  • و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ} أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء. 

  • و في الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها: 

  • منها: أن قوله {وَ يَوْمَئِذٍ} عطف على قوله: {مِنْ قَبْلُ} و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل و الحال كأنه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثم ابتداء و قيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. و فيه أنه يبطل 

تفسير الميزان ج۱٦

156
  • انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أولها. 

  • و منها: أن قوله: {بِنَصْرِ} متعلق بقوله: {اَلْمُؤْمِنُونَ} دون {يَفْرَحُ} و يدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله. 

  • و فيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعا فإن في الغلبة نصرا و كل نصر من الله قال تعالى: {وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ»}: آل عمران: ١٢٦ فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه. 

  • و منها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس و إن توافق النصران زمانا فكأنه قيل: إن الروم سيغلبون في بضع سنين و يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم. 

  • و فيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}

  • و منها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض و تفرق كلمتهم و انكسار شوكتهم. و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبأ بها. 

  • قوله تعالى{وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} {وَعْدَ اَللَّهِ} مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعدا و إخلاف الوعد خلاف إنجازه و قوله: {وَعْدَ اَللَّهِ} تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله: {سَيَغْلِبُونَ} و {يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ} كما أن قوله: {لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ} تأكيد و تقرير لقوله: {وَعْدَ اَللَّهِ}

  • و قوله: {لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ} كقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ}: الرعد: ٣١ و خلف الوعد و إن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال. 

  • على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما و يستحيل النقص عليه تعالى. 

  • على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو القائل عز من قائل: {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ}: ص: ٨٤. 

  • و قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي هم جهلاء بشئونه تعالى لا يثقون بوعده و يقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق و يكذب و ينجز و يخلف. 

تفسير الميزان ج۱٦

157
  • قوله تعالى{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} جملة {يَعْلَمُونَ} على ما ذكره في الكشاف، بدل من قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ} و في هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل و بين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى. 

  • و قيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق و أن لله الأمر من قبل و من بعد و أنه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى و هذا أظهر. 

  • و تنكير {ظَاهِراً} للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الذي يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلقة بها و الغفلة عما فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة. 

  • و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله: 

  • و عيرها الواشون أني أحبها***و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
  • و المعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما و ذلك جملة العالم المشهود بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد و يعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنما خلقها لغاية تترتب عليها. 

  • ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق و كل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد قوله: {مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا} بقوله: {وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} بعد تقييده بقوله: {إِلاَّ بِالْحَقِّ}

  • فقوله: {أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال و حضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا و سعيهم للمعيشة و تشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين 

تفسير الميزان ج۱٦

158
  • في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق و يرشدهم إلى الواقع. 

  • و قيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم و أن الواحد منهم محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السيئ فلا بد من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون فيها و هي الآخرة. 

  • و فيه أن الجملة أعني قوله: {أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: {مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير. 

  • و قوله: {مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} هو الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا و لا بعضا إلا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له و لا إلى أجل معين فلا يبقى شي‌ء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كل من أجزائه و المجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها و ليس شي‌ء منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدءوا منه ثم لا ينتهوا إليه، و لذلك أكده بإن إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى آخر الآية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر. و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك. 

تفسير الميزان ج۱٦

159
  • و قوله: {وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي بالكفر و المعاصي. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواىَ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ} بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين و لذا عبر بثم، و {عَاقِبَةَ} بالنصب خبر كان و اسمه {اَلسُّواىَ} قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و {أَسَاؤُا} مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، و السوآى‌ الخلة التي يسوء صاحبها و المراد بها سوء العذاب و {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ} بحذف لام التعليل و التقدير لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها. 

  • و المعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها. 

  • و قيل: إن {اَلسُّواىَ} مفعول لقوله: {أَسَاؤُا} و خبر كان هو قوله: {أَنْ كَذَّبُوا} إلخ، و المراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها. 

  • و فيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لأن المقام مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب و الاستهزاء الذي هو أعظمها. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد ما ذكر الحجة و تكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها و هو أن البدء و العود بيده سبحانه و سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في ترجعون. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ} ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس‌ اليأس من الله و فيه كل الشقاء. 

  • قوله تعالى{وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} إلى قوله {مُحْضَرُونَ} قال 

تفسير الميزان ج۱٦

160
  • في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظرا و طيبا. انتهى. و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن إلى أن قال و قوله عز و جل: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى. 

  • و المراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء النار و دخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان. 

  • و لزوم هذا التميز و التفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال: {أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: الجاثية: ٢١. 

  • قوله تعالى{فَسُبْحَانَ اَللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ} لما ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيدهم و يرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة و النعمة و أهل النار و العذاب، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات و أما أهل النار فهم الكفار المكذبون لآيات الله و قد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة و نعمة لكنهم نسوا الآخرة و كذبوا بآيات الله و استهزءوا بها حتى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون. 

  • فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون و أن للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاما و خطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه و اتخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي. 

  • ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره في السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة و الأعمال الردية و محمود في جميع ما خلقه و دبره في السماوات و الأرض. 

  • و من هناك يظهر: 

  • أولا: أن التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ}: الصافات: ١٨٠و قوله: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلىَ عَبْدِهِ}: الفرقان: ١. 

تفسير الميزان ج۱٦

161
  • و ثانيا: أن المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا. و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله. 

  • و ثالثا: أن قوله: {وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} معترضة واقعة بين المعطوف و المعطوف عليه، و قوله: {وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ} معطوفان على محل {حِينَ تُمْسُونَ} لا على قوله: {فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} حتى يختص المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات و الأرض و العشي و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و ما فيها للتحميد. 

  • فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه حمدا و ثناء لله سبحانه و أن للإنسان على مر الدهور و تغير الأزمنة و الأوقات من الشرك و المعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدس. 

  • نعم هاهنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أن الأزمنة و الأوقات على تغيرها و تصرمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى، ثم كل ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلتها دونه و نقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: إسراء: ٤٤ لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما. 

  • و للمفسرين في الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي قدمناها. 

  • و تغيير السياق في قوله: {وَ عَشِيًّا} لكون العشي لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل. 

  • و الخطاب الذي في الآيتين في قوله: {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ} و {تُظْهِرُونَ} ليس من الالتفات في شي‌ء بل تعميم للخطاب الذي للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منذ شرعت السورة، و المعنى: 

تفسير الميزان ج۱٦

162
  • فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشي و حينما دخلتم في ظهيرة و له الثناء الجميل في السماوات و الأرض. 

  • و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} و لاحقا في قوله: {وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}

  • قوله تعالى{يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ظاهر إخراج الحي من الميت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة، و قد فسر بخلق المؤمن من الكافر و خلق الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا و الكافر ميتا، قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً}: الأنعام: ١٢٢. 

  • و أما إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله: {وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي تبعثون و تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدم تفسير نظير صدر الآية و ذيلها مرارا. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء عن ابن عباس: في قوله: {الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ} قال: غلبت و غلبت. 

  • قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) -فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ لا جعلته أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: {الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ} فغلبت ثم غلبت بعد. 

تفسير الميزان ج۱٦

163
  • يقول الله: {لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللَّهِ} قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر. 

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أن المقامرة كانت بين أبي بكر و أبي بن خلف و في بعضها أنها كانت بين المسلمين و المشركين و كان أبو بكر من قبل المسلمين و أبي من قبل المشركين، و في بعضها أنها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه الرواية. 

  • ثم الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ست، و في بعضها سبع سنين. 

  • و في بعضها أن الأجل المضروب أولا انقضى بمكة و هو سبع سنين فمادهم أبو بكر سنتين بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فغلبت الروم، و في بعضها خلافه. 

  • ثم في بعضها أن الأجل الثاني انقضى بمكة و في بعضها أنه انقضى بعد الهجرة و كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية. 

  • و في بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إنه سحت تصدق به. 

  • و الذي تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فإنه حرم مع الخمر في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و قد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أن الخمر كانت محرمة من أول البعثة و كان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر و الزنا. 

  • على أن الخمر و الميسر من الإثم بنص آية البقرة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (الآية): البقرة: ٢١٩ و الإثم محرم بنص آية الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ} (الآية): الأعراف: ٣٣ و الأعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمقامرة. 

  • و على تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يشكل قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأبي بكر لما أتى بالخطر إليه أنه سحت ثم قوله: تصدق به. فلا سبيل إلى تصحيح شي‌ء من ذلك 

تفسير الميزان ج۱٦

164
  • بالموازين الفقهية و قد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد إلا إشكالا. 

  • ثم إن ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فإنهم و إن كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا. 

  • و في تفسير القمي في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة. 

  • و في الخصال: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ} فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.

  • و في تفسير القمي و قوله عز و جل: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} قال: إلى الجنة و النار. 

  •  

  • [سورة الروم (٣٠): الآیات ٢٠الی ٢٦]

  • {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ٢٠وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ٢٢ وَ مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ اِبْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٢٣ وَ مِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٢٤ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا 

تفسير الميزان ج۱٦

165
  • أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ٢٥ وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ٢٦} 

  • (بيان) 

  • يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية بمعنى ملك التدبير و الألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما إلا الله الذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده و التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و ليس له سبحانه إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإن مراتب تكون الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة و شعور عقلي ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} في معنى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}: المؤمنون: ١٤. 

  • فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع إنسانا ذا حياة و شعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الأمر و يجري هذا النظام العجيب. 

  • و قد ظهر بهذا المعنى أن {ثُمَّ} للتراخي الرتبي و الجملة معطوفة على قوله: {خَلَقَكُمْ} لا على قوله: {أَنْ خَلَقَكُمْ}

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} 

تفسير الميزان ج۱٦

166
  • إلى آخر الآية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج‌ و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج، قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىَ} و قال: {وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ} و زوجة لغة رديئة و جمعها زوجات إلى أن قال و جمع الزوج أزواج. انتهى. 

  • فقوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي خلق لأجلكم أو لينفعكم من جنسكم قرائن و ذلك أن كل واحد من الرجل و المرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الآخر و يتم بمجموعهما أمر التوالد و التناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر و يحصل من المجموع واحد تام له أن يلد و ينسل، و لهذا النقص و الافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله و كل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره و هذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين. 

  • و قوله: {وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً} المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة و الكبرياء. 

  • و الرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال و حاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان و رفع نقصه. 

  • و من أجل موارد المودة و الرحمة المجتمع المنزلي فإن الزوجين يتلازمان بالمودة و المحبة و هما معا و خاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم و عجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم و حراستهم و تغذيتهم و كسوتهم و إيوائهم و تربيتهم و لو لا هذه الرحمة لانقطع النسل و لم يعش النوع قط. 

  • و نظير هذه المودة و الرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة و يرحم المساكين و العجزة و الضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة. 

  • و المراد بالمودة و الرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية. 

تفسير الميزان ج۱٦

167
  • و قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي و المودة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتية الدنيا و الأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به أحلامهم. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ} إلى آخر الآية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربية و الفارسية و الأردوية و غيرها و باختلاف الألوان اختلاف الأمم في ألوانهم كالبياض و السواد و الصفرة و الحمرة. 

  • و يمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم و الأصوات و نحو التكلم و النطق و باختلاف الألوان اختلاف كل فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن. 

  • فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن الصنع و الإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلا بالله و لا ينتهي إلا إليه. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ اِبْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية، الفضل‌ الزيادة على مقدار الحاجة و يطلق على العطية لأن المعطي إنما يعطي ما فضل من مقدار حاجته، و المراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق. 

  • و في خلق الإنسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق و رفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة و السعي ثم هدايته إلى الاستراحة و السكون لرفع متاعب السعي و تجديد تجهيز القوى و تخصيص الليل و النهار المتعاقبين للسعي و السكون و التسبيب إلى وجود الليل و النهار بأوضاع سماوية قائمة بالأرض و الشمس لآيات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقا اتبعه. 

  • قال في الكشاف، في الآية: هذا من باب اللف و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان و الزمان و الواقع فيه كشي‌ء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد و يجوز أن 

تفسير الميزان ج۱٦

168
  • يراد منامكم في الزمانين و ابتغاؤكم فيهما، و الظاهر هو الأول لتكرره في القرآن و أسد المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى. 

  • و قد ظهر مما تقدم معنى تذييل الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر و لذلك لم يصدر بأن المصدرية كما صدر به قوله: {أَنْ خَلَقَكُمْ} و قوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} و تنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربية جيدة و عليه يحمل المثل السائر: «و تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» و لا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله: {مَنَامُكُمْ} {يُرِيكُمُ} {أَنْ تَقُومَ}

  • و احتمل في قوله: {يُرِيكُمُ} أن يكون بحذف أن المصدرية و التقدير أن يريكم البرق و أيد بقراءة النصب في يريكم. 

  • و احتمل أن يكون من حذف المضاف، و التقدير: و من آياته آية أن يريكم البرق، و احتمل أن يكون التقدير و من آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم البرق إلخ، و احتمل أن يكون {مِنْ آيَاتِهِ} متعلقا بقوله: {يُرِيكُمُ}، و التقدير: و يريكم من آياته البرق، و احتمل أن يكون {مِنْ آيَاتِهِ} حالا من البرق، و التقدير: و يريكم البرق حال كون البرق من آياته. 

  • و هذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الآية عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين. 

  • و قوله: {خَوْفاً وَ طَمَعاً} أي خوفا من الصاعقة و طمعا في المطر، و قوله: {وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} تقدم تفسيره كرارا، و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقه بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق و صدفة. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} القيام‌ مقابل القعود و لما كان أعدل حالات الإنسان حيث يقوى به على عامة أعماله أستعير لثبوت الشي‌ء و استقراره على أعدل حالاته كما يستعار 

تفسير الميزان ج۱٦

169
  • لتدبير الأمر، قال تعالى: {أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلىَ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}: الرعد: ٣٣. 

  • و المراد بقيام السماء و الأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة و سكون و تغير و ثبات بأمره تعالى و قد عرف أمره بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: يس: ٨٢. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} {إِذَا} الأولى شرطية و {إِذَا} الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و {مِنَ اَلْأَرْضِ} متعلق بقوله: {دَعْوَةً} و الجملة معطوفة على محل الجملة الأولى لأن المراد بالجملة أعني قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} إلخ البعث و الرجوع إلى الله و ليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر احتج عليه سابقا و سيحتج عليه لاحقا. 

  • و أما قول القائل: إن الجملة على تأويل المفرد و هي معطوفة على {أَنْ تَقُومَ} و التقدير و من آياته قيام السماء و الأرض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض. 

  • فلازمه كون البعث معدودا من الآيات و ليس منها على أن البعث أحد الأصول الثلاثة التي يحتج بالآيات عليه، و لا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد عليه فافهم ذلك. 

  • و لما كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب و خلقهم أزواجا و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و منامهم و ابتغائهم من فضله و إراءة البرق و تنزيل الماء من السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله: {أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ} بمعونة السياق ثبات السماء و الأرض على وضعهما الطبيعي و حالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الإنساني المرتبطة بهما و كان قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} إلخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي إن خروجهم من الأرض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى. 

  • و يظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق {وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية و ينفعانها. 

  • و قد رتبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان و تكونه ثم تصنفه صنفين: الذكر و الأنثى ثم ارتباط وجوده بالسماء و الأرض و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم 

تفسير الميزان ج۱٦

170
  • ثم السعي في طلب الرزق و سكون المنام ثم إراءة البرق و تنزيل الأمطار حتى تنتهي إلى قيام السماء و الأرض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الإنساني ما قدر له من أمد الحياة و يعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات. 

  • و قد رتبت الفواصل أعني قوله {يَتَفَكَّرُونَ} {لِلْعَالِمِينَ} {يَسْمَعُونَ} {يَعْقِلُونَ} على هذا الترتيب لأن الإنسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم عقله و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} كانت الآيات المذكورة مسوقة لإثبات ربوبيته تعالى و ألوهيته كما تقدمت الإشارة إليه و لما انتهى الكلام إلى ذكر البعث و الرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على إمكانه و الحجة مأخوذة من الخلق و التدبير المذكورين في الآيات السابقة. 

  • فقوله: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقي لجميع من في السماوات و الأرض و هم المحشورون إليه و ذلك لأن وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر و حاجة لا استقلال و لا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه و هذا هو الملك الحقيقي الذي أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة. 

  • و قد أكد ذلك بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} و القنوت‌ لزوم الطاعة مع الخضوع على ما ذكره الراغب في المفردات ، و المراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية على ما يعطيه السياق دون التشريعية التي ربما تخلفت. 

  • و ذلك أنهم الملائكة و الجن و الإنس فأما الملائكة فليس عندهم إلا خضوع الطاعة، و أما الجن و الإنس فهم مطيعون منقادون للعلل و الأسباب الكونية و كلما احتالوا في إلغاء أثر علة من العلل أو سبب من الأسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى و سبب آخر كوني ثم علمهم و إرادتهم كاختيارهم جميعا من الأسباب الكونية فلا يكون إلا ما شاء الله أي الذي تمت علله في الخارج و لا يتحقق مما شاءوا إلا ما أذن فيه و شاءه فهو المالك لهم و لما يملكونه. 

تفسير الميزان ج۱٦

171
  • [سورة الروم (٣٠): الآیات ٢٧ الی ٣٩]

  • {وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٧ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٢٨ بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ٢٩ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٠مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ٣١ مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ٣٢ وَ إِذَا مَسَّ اَلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ٣٣ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٣٤ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ٣٥ وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ٣٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ 

تفسير الميزان ج۱٦

172
  • يُؤْمِنُونَ ٣٧ فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى‌ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٣٨ وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ ٣٩} 

  • (بيان)

  • لما انساق الاحتجاج على الوحدانية و المعاد من طريق عد الآيات الدالة على ذلك بقوله: {وَ مِنْ آيَاتِهِ} إلى قوله: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية)، و هو من صفات الفعل غير سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية و أوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل المستوجبة للوحدانية و المعاد و هي قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلخ، و قوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} إلخ، و قوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ} إلخ، و قوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} إلخ. 

  • و إنما لم يبدأ الفصل الأول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الأخر لسبق ذكره في الآية السابقة عليه المتصلة به أعني قوله: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الذي هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فصل في صورة الوصل. 

  • قوله تعالى{وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية، بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق و الإعادة إنشاء بعد إنشاء. 

  • و قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الضمير الأول للإعادة المفهوم من قوله: {يُعِيدُهُ} و الضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق. 

  • و قد استشكل قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الدال ظاهرا على كون الإعادة أسهل و أهون عليه من البدء و هو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فإن القدرة 

تفسير الميزان ج۱٦

173
  • اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشي‌ء دون شي‌ء فتعلقها بالصعب و السهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل هاهنا. 

  • و قد أجيب عنه بوجوه: 

  • منها: أن ضمير {عَلَيْهِ} راجع إلى الخلق دونه تعالى و الإعادة أهون على الخلق لأنه مسبوق بالابتداء الذي يسهل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذي لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الإعادة و الإعادة بالعكس، فالمعنى: أن الإعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق و إذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق. 

  • و فيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية. 

  • و منها: أن أفعل هاهنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه نظير قوله: {مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ}. 

  • و فيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه. 

  • و منها: أن التفضيل إنما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الإنشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى و وقوع التفضيل بين فعل منه و فعل لا بأس به كما في قوله تعالى: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ}: المؤمن: ٥٧. 

  • و هذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} حتى كأنها فضلت على قيام السماوات و الأرض بأمره ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى. 

  • و فيه أن تقييد الوصف بقوله: {عَلَيْهِ} أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الإعادة و الإنشاء إنما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة و الإنشاء فالإشكال على ما كان. 

  • و منها: أن التفضيل إنما هو بالنظر إلى الأصول الدائرة بين الناس و الموازين المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الأمر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل: و الإعادة 

تفسير الميزان ج۱٦

174
  • أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم و إلا فالإنشاء و الإعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء. 

  • و فيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ و لا شاهد عليه من جهة لفظ الآية. 

  • و منها: ما ذكره أيضا في الكشاف، قال: و وجه آخر و هو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله و أن لا يفعله و الإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد له من فعله لأنها لجزاء الأعمال و جزاؤها واجب و الأفعال إما محال و المحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور و أما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف و هو القبيح و هو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، و إما تفضل و التفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله و أن لا يفعله، و إما واجب لا بد من فعله و لا سبيل إلى الإخلال به. 

  • فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع و أقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع و إذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتي و التسهل فكانت أهون منها و إذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء انتهى. 

  • و فيه أولا: أنه مبني على تحقق الأشياء بالأولوية دون الوجوب و قد تحقق في محله بطلانه. 

  • و ثانيا: أن القرب و البعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض و السهولة و الصعوبة وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشي‌ء من حيث صدوره عن فاعله الموجد له و لا يبتني الوصف الوجودي على الاعتبار العقلي. 

  • و ثالثا: أن الإنشاء أيضا كالإعادة في الابتناء على المصلحة و هي الغاية فما لم يكن الإنشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الإعادة كذلك فهما في القرب و البعد من الامتناع على السواء كما قيل. 

  • و رابعا: أن مقتضى هذا الوجه كون الإعادة أهون من الإنشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث و يتوجه إليه ما توجه إليه. 

تفسير الميزان ج۱٦

175
  • و الذي ينبغي أن يقال أن الجملة أعني قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} معلل بقوله بعده: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} فهو الحجة المثبتة لقوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}

  • و المستفاد من قوله: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ} إلخ، إن كل وصف كمالي يمثل به شي‌ء في السماوات و الأرض كالحياة و القدرة و العلم و الملك و الجود و الكرم و العظمة و الكبرياء و غيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف و أرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال: {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}: الأعراف: ١٨٠. 

  • و ذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شي‌ء مما في السماوات و الأرض فله في حد نفسه ما يقابله فإنه مما أفاضه الله عليه و هو في نفسه خال عنه فالحي منها ميت في ذاته و القادر منها عاجز في ذاته و لذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا بشي‌ء دون شي‌ء و حال دون حال، و هكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه و كذلك الحياة و القدرة و الملك و العظمة و غيرها. 

  • و الله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله و الذي له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود و صرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه و لا ممات يقابل حياته و هكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية و الأرضية - و هي صفات غير ممحضة و لا مطلقة - ما هو أعلاها أي مطلقها و محضها. 

  • فكل صفة توجد فيه تعالى و في غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها و أفضلها و الذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده. 

  • و لما كانت الإعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الإنشاء فيما عند الخلق فهو عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة و مشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق و لا يلزم منه أن يكون في الإنشاء صعوبة و مشقة عليه تعالى لأن المشقة و الصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة و كلما كثرت قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، و قدرته تعالى غير متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا و هو المستفاد من قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} فإن القدرة إذا جاز تعلقها بكل شي‌ء لم تكن إلا غير متناهية فافهم ذلك. 

تفسير الميزان ج۱٦

176
  • و قوله: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} تقدم أنه في مقام الحجة بالنسبة إلى قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} و محصله أن كل صفة كمالية يتصف به شي‌ء مما في السماوات و الأرض من جمال أو جلال فإن لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد و محضها من غير شوب و صرفها من غير خلط. 

  • و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ} إلخ، أي إنه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شي‌ء حكيم لا يعرض فعله فتور، و لو لم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة و مخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص و القصور فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الإطلاق و أحدث ذاك النقص في فعله ثلمة و فتورا فلم يكن حكيما على الإطلاق. 

  • قوله تعالى{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} إلخ، {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات التي لديكم، و قوله: {هَلْ لَكُمْ} شروع في المثل المضروب و الاستفهام للإنكار، و {مَا} في {مِنْ مَا مَلَكَتْ} للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الإماء، و {مِنْ} في {مِنْ شُرَكَاءَ} زائدة و هو مبتدأ، و قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} تفريع على الشركة، و {فَأَنْتُمْ} خطاب شامل للمالكين و المملوكين على طريق التغليب، و قوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف المال المشترك من غير إذن منهم و رضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار. 

  • و هذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في الألوهية و الربوبية و قد ألقى المثل في صورة الاستفهام الإنكاري: هل يوجد بين مماليككم من العبيد و الإماء من يكونون شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم - و الحال أنهم مماليك لكم تملكونهم و ما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم بغير إذن منهم و رضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم؟

  • لا يكون ذلك أبدا و لا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله و إذا لم 

تفسير الميزان ج۱٦

177
  • يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة و الجن و هم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه و آلهة و أربابا من دونه؟ 

  • ثم تمم الكلام بقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و فيه تمهيد لما يتلوه من الكلام. 

  • قوله تعالى{بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} إضراب عما يستفاد من ذيل الآية السابقة و التقدير و هؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم. 

  • و كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا و إنما بدله من قوله: {بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ} فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ»}: إبراهيم: ٢٧. 

  • فقوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ} استفهام إنكاري مدلوله الإيئاس من نعمة الهداية للمشركين المتبعين لأهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لإضلالهم و قد تكرر في كلامه تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ}. 

  • و قوله: {وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} نفي لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال و تبعاته من عند أنفسهم لإضلال الله لهم و نفي الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء. 

  • و قول القائل إن معنى نفي الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد. 

  • و معنى الآية: بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم و تعقل فأضلهم الله بظلمهم و لا هادي يهديهم و ليس لهم ناصرون ينصرونهم. 

  • قوله تعالى{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الكلام متفرع على ما تحصل 

تفسير الميزان ج۱٦

178
  • من الآيات السابقة المثبتة للمبدإ و المعاد أي إذا ثبت أن الخلق و التدبير لله وحده لا شريك له و هو سيبعث و يحاسب و لا نجاة لمن أعرض عنه و أقبل على غيره فأقم وجهك للدين و الزمه فإنه الدين الذي تدعو إليه الخلقة الإلهية. 

  • و قيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال على ما هو الحق و أن المشركين لظلمهم اتبعوا الأهواء و أعرضوا عن التعقل الصحيح فأضلهم الله و لم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية و لا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت و لا غيرك فاستيئس منهم و اهتم بخاصة نفسك و من تبعك من المؤمنين و أقم وجهك و من تبعك للدين. 

  • فقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} المراد بإقامة الوجه للدين الإقبال عليه بالتوجه من غير غفلة منه كالمقبل على الشي‌ء بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا و شمالا و الظاهر أن اللام في الدين للعهد و المراد به الإسلام. 

  • و قوله: {حَنِيفاً} حال من فاعل أقم و جوز أن يكون حالا من الدين أو حالا من الوجه و الأول أظهر و أنسب للسياق، و الحنف‌ ميل القدمين إلى الوسط و المراد به الاعتدال. 

  • و قوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الإيجاد و الإبداع و {فِطْرَتَ اَللَّهِ} منصوب على الإغراء أي الزم الفطرة ففيه إشارة إلى أن هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة و يهدي إليه الفطرة الإلهية التي لا تبديل لها. 

  • و ذلك أنه ليس الدين إلا سنة الحياة و السبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته فلا غاية للإنسان يتبعها إلا السعادة و قد هدي كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته التي هي بغية حياته بفطرته و نوع خلقته و جهز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ}: طه: ٥٠و قال: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ}: الأعلى: ٣. 

  • فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه و رفع حوائجه و تهتف له بما ينفعه و ما يضره في حياته، قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا 

تفسير الميزان ج۱٦

179
  • فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا}: الشمس: ٨ و هو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى: {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ}: عبس: ٢٠. 

  • فللإنسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة و سبيل معينة ذات غاية مشخصة ليس له إلا أن يسلكها خاصة و هو قوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} و ليس الإنسان العائش في هذه النشأة إلا نوعا واحدا لا يختلف ما ينفعه و ما يضره بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح و بدن فما للإنسان من جهة أنه إنسان إلا سعادة واحدة و شقاء واحد فمن الضروري حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه إليها هاد واحد ثابت. 

  • و ليكن ذاك الهادي هو الفطرة و نوع الخلقة و لذلك عقب قوله {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} بقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ}

  • فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الأمم المختلفة بمعنى أن يكون الأساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة كان الإنسان أنواعا مختلفة باختلاف الأقطار، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة بمعنى أن تكون الأعصار و القرون هي الأساس الوحيد للسنة الدينية اختلفت نوعية كل قرن و جيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم و لم يسر الاجتماع الإنساني سير التكامل و لم تكن الإنسانية متوجهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق النقص و الكمال إلا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما. 

  • و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل إثبات أن الأساس للسنة الدينية هو البنية الإنسانية التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانية سنة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإنسان و هي التي تدير رحى الإنسانية مع ما يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة. 

  • و هذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: {ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} و سنزيد المقام إيضاحا في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. 

تفسير الميزان ج۱٦

180
  • و للقوم في مفردات الآية و معناها أقوال أخر متفرقة: 

  • منها: أن المراد بإقامة الوجه تسديد العمل فإن الوجه هو ما يتوجه إليه و هو العمل و إقامته تسديده. 

  • و فيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه و هي غير العمل و الذي في الآية هو {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} و لم يقل فأقم وجه عملك. 

  • و منها: أن {فِطْرَتَ اَللَّهِ} منصوب بتقدير أعني و الفطرة هي الملة، و المعنى: اثبت و أدم الاستقامة للدين أعني الملة التي خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله. 

  • و فيه: أنه مبني على اختلاف المراد بالفطرة و هي الملة و {فَطَرَ اَلنَّاسَ} و هو الخلقة و التفكيك خلاف ظاهر الآية و لو أخذ {فَطَرَ اَلنَّاسَ} بمعنى الإدانة أي الحمل على الدين و هو التوحيد بقي قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} لا يلائم ما قبله. 

  • على أن فيه خلاف ظاهر آخر و هو حمل الدين على التوحيد، و لو أخذ الدين بمعنى الإسلام أو مجموع الدين كله و أبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها و هو الخلقة لم يستقم تقدير «أعني» فإن الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة. 

  • و منها: أن {فِطْرَتَ} بدل من {حَنِيفاً} و الفطرة بمعنى الملة و يرد عليه ما يرد على سابقه. 

  • و منها: أن {فِطْرَتَ} مفعول مطلق لفعل محذوف مقدر، و التقدير: فطر الله فطرة فطر الناس عليها و فساده غني عن البيان. 

  • و منها: أن معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله و هو ما دلك عليه ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم و ركبهم و صورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي‌ء. 

  • و فيه أنه مبني على كون {فِطْرَتَ} منصوبا بتقدير اتبع و قد ذكره أبو السعود و قبله أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة و المراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة، و هذا قريب من المعنى الذي قدمناه للآية بحمل {فِطْرَتَ} على الإغراء لكن يبقى عليه أن الآية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد. 

تفسير الميزان ج۱٦

181
  • و منها: أن لا في قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} تفيد النهي أي لا تبدلوا خلق الله أي دينه الذي أمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بإنكار دلالته على التوحيد و منه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهي عن الخصاء. 

  • و فيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين و لا موجب لتسمية الإعراض عن دلالة الخلقة أو إنكارها تبديلا لخلق الله. و أما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر. 

  • و منها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير، قال: و يحتمل أن يقال: خلق الله الخلق لعبادته و هم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره و يخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة و العبودية. و هذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال و العبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، و قول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله و إنما الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد الله، و قول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه و صار إلها فقال: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى. 

  • و فيه أنه مغالطة بين الملك و العبادة التكوينيين و الملك و العبادة التشريعيين فإن ملكه تعالى الذي لا يقبل الانتقال و البطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الأشياء به تعالى و العبادة التي بإزائه عبادة تكوينية و هو خضوع ذوات الأشياء له تعالى و لا تقبل التبديل و الترك كما في قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: إسراء: ٤٤ و أما العبادة الدينية التي تقبل التبديل و الترك فهي عبادة تشريعية بإزاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه. 

  • و لو دل قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} على عدم تبديل الملك و العبادة و العبودية لدل على التكويني منهما و الذي يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنما يعني به التشريعي منهما. 

  • قوله تعالى{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نظير قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ}: الطلاق: ١ و قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لاَ تَطْغَوْا}: هود: ١١٢ 

تفسير الميزان ج۱٦

182
  • فيئول المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفا أنت و من معك منيبين إلى الله، و الإنابة الرجوع بالتوبة. 

  • و قوله: {وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} القول في اختصاصه من بين المحرمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، و قد قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}: النساء: ٤٨ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • قوله تعالى{مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} «من» للتبيين و {مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} إلخ، بيان للمشركين و فيه تعريفهم بأخص صفاتهم في دينهم و هو تفرقهم في دينهم و عودهم شيعة شيعة و حزبا حزبا يفرح و يسر كل شيعة و حزب بما عندهم من الدين و السبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله: {بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الأهواء و أنه لا يهديهم و لا هادي غيره. 

  • و من المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل و لا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الأحوال و إذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الأهواء و ينزل بنزولها، و لا فرق في ذلك بين الدين الباطل و الدين الحق المبني على أساس الهوى. 

  • و من هنا يظهر أن النهي عن تفرق الكلمة في الدين نهي في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل، و ربما احتمل كون الآية استئنافا من الكلام و هو لا يلائم السياق. 

  • و في الآية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة و التحزب في الدين. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا مَسَّ اَلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} التعبير بالمس للدلالة على القلة و الخفة و تنكير ضر 

تفسير الميزان ج۱٦

183
  • و رحمة أيضا لذلك و المعنى: إذا أصاب الناس شي‌ء من الضر و لو قليلا كمرض ما و فقر ما و شدة ما دعوا ربهم و هو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه و يعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الأنداد و الشركاء. 

  • أي إنهم كافرون للنعمة طبعا و إن اعترفوا بها عند الضر و قد أخذ لذلك فريقا منهم لأن منهم من ليس كذلك. 

  • قوله تعالى{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد لأولئك المشركين عند إذاقة الرحمة و اللام في {لِيَكْفُرُوا} للأمر الغائب و قوله: {فَتَمَتَّعُوا} متفرع على سابقه و هو أمر آخر و الأمران جميعا للتهديد، و الالتفات من الأمر الغائب إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد و السخط من تفريطهم في جنب الله و استهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر و يكفروا إذا كشف. 

  • قوله تعالى{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} {أَمْ} منقطعة و المراد بالإنزال الاعلام أو التعليم مجازا، و السلطان‌ البرهان، و المراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم. 

  • و يمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان و هو الملك فلا مجاز في الإنزال و التكلم و المعنى: بل أ أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} الإذاقة كالمس تدل على قليل النيل و يسيره، و القنوط اليأس. 

  • و إذا الأولى شرطية و الثانية فجائية و المقابلة بين {إِذَا} في إذاقة الرحمة و {إِنْ} في إصابة السيئة لأن الرحمة كثيرة قطعية و السيئة قليلة احتمالية، و نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لأن الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى و السيئة عدمية هي عدم الإفاضة و لذا عللها بقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، و في تعليل السيئة بذلك و عدم التعليل في جانب الرحمة بشي‌ء إشارة إلى أن الرحمة تفضل. 

  • و التعبير في الرحمة بقوله: {فَرِحُوا} و في السيئة بقوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} للدلالة على حدوث القنوط و لم يكن بمترقب فإن الرحمة و السيئة بيد الله و الرحمة واسعة 

تفسير الميزان ج۱٦

184
  • و لهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم. 

  • و المراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة و النقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا و يعقلوا أن الأمر بيد غيرهم و بمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن، و إذا فقدوا قنطوا كان ليس ذلك بإذن من ربهم و إذا لم يشأ لم يأذن و فتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون. 

  • و بهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية و بين قوله السابق: {وَ إِذَا مَسَّ اَلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} (الآية) و ذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا قنطوا و مدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا دعوا الله و هم قانطون من الشي‌ء و أسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع. 

  • و ربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الآية السابقة و لو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال و قنوطهم في حال أخرى. 

  • و أجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة و لا ينافي القنوط الذي هو أمر قلبي و أنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور. 

  • و أجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء. و فيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح و القنوط عند إذاقة الرحمة و إصابة السيئة فإن الرزق في سعته و ضيقه تابع لمشية الله فعلى الإنسان أن يعلم أن الرحمة التي ذاقها و السيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه و لا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده و لا للقنوط مما يرجى زواله. 

  • و أما أنه أمر ظاهر للإنسان مقطوع به كأنه يراه فلأن الرزق الذي يناله الإنسان أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف و ألوف من الأسباب و الشرائط ليس الإنسان الذي يراه لنفسه إلا أحد تلك الأسباب و لا السبب الذي يركن إليه و يطيب به نفسا إلا بعض تلك الأسباب و عامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطي و يمنع و هو 

تفسير الميزان ج۱٦

185
  • الذي يبسط و يقدر أي يوسع و يضيق، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{فَآتِ ذَا اَلْقُرْبىَ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ} إلخ، ذو القربى‌ صاحب القرابة من الأرحام و المسكين‌ أسوأ حالا من الفقير و ابن السبيل‌ المسافر ذو الحاجة، و إضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقا ثابتا، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس و التكليف للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتبعه غيره ممن كلف بالخمس، و القرابة على أي حال قرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية و أما على تقدير كونها مكية كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإحسان للقرابة و المسكين و ابن السبيل. 

  • و لعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ}

  • قوله تعالى{وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ} الربا نماء المال، و قوله: {لِيَرْبُوَا} إلخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله - فليس يزيد و ينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه. 

  • و قوله: {وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ} المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، و المضعف‌ ذو الضعف، و المعنى: و ما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأولئك هم الذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم. 

  • فالمراد بالربا و الزكاة بقرينة المقابلة و ما احتف بهما من الشواهد، الربا الحلال و هو العطية من غير قربة، و الصدقة و هي إعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على تقدير كون الآية مكية و أما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم و بالزكاة هي الزكاة المفروضة. 

  • و هذه الآية و التي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات و لا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الإجماع المنقول. 

تفسير الميزان ج۱٦

186
  • (بحث روائي) 

  • في العيون عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى و سبيل الهدى و المثل الأعلى و الحجة العظمى و العروة الوثقى (الحديث). 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (الآية) أن سبب نزولها أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج إبراهيم (عليه السلام) و يلبون تلبيته: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك. 

  • فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبيك اللهم لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنكر عليهم ذلك و قال: إنه شرك. 

  • فأنزل الله عز و جل: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي أ ترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكا فيما أملك؟ 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} قال: هي الولاية. 

  • و فيه بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: التوحيد.

  • أقول: و رواه أيضا عن الحلبي و زرارة عنه (عليه السلام) و رواه الصدوق في التوحيد عن العلاء بن فضيل و زرارة و بكير عنه (عليه السلام). 

  • و في روضة الكافي بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت شريعة نوح (عليه السلام) أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد، و هو الفطرة التي فطر الناس عليها. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن علي (عليه السلام): في قوله عز و جل: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: 

تفسير الميزان ج۱٦

187
  • هو لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين ولي الله إلى هاهنا التوحيد. 

  • أقول: و روى هذا المعنى في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه في التوحيد عن عبد الرحمن مولى أبي جعفر عنه (عليه السلام). 

  • و معنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الإنسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها و هو التوحيد و بما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله و هو النبوة، و بما يجد من الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين و هو الولاية و الفاتح لها في الإسلام هو علي (عليه السلام)، و ليس معناه أن كل إنسان حتى الإنسان الأولي يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث. 

  • و إلى هذا يئول معنى الرواية السابقة أنها الولاية فإنها تستلزم التوحيد و النبوة و كذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فإن التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد و النبوة و الولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات الثلاث و التوحيد و الولاية واحد. 

  • و في المحاسن بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم و لو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم و من رازقهم؟ 

  • و في الكافي بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: فقال (عليه السلام): إن الله عز و جل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة و لا كفرا بجحود ثم بعث الله عز و جل الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به فمنهم من هدى الله و منهم من لم يهده.

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}: البقرة: ٢١٣ و المراد فيها بالإنسان الفطري الإنسان الساذج الذي يعيش على الفطرة الإنسانية الذي لم يفسده الأوهام الفكرية و الأهواء النفسانية فإنه بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة و كليات الشرائع الإلهية فإنه يعيش ببعث و تحريك من فطرته و خصوص خلقته. و أما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة 

تفسير الميزان ج۱٦

188
  • و تفاصيل الشرائع الإلهية فيتوقف على هداية خاصة إلهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب. 

  •  و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} فقال: حدثني أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: دين الله. 

  • و فيه أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} (الآية). 

  • أقول: و رواه أيضا عن مالك و أبي داود و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء. 

  • و رواه أيضا في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه (الحديث). 

  • و في التوحيد بإسناده عن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، و أربعة أشهر الصلاة على النبي و أربعة أشهر الدعاء لوالديه.

  • أقول: هو حديث لطيف و معناه: أن الطفل في الأربعة أشهر الأولى لا يعرف أحدا و إنما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها و الرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرع إليه و يشهد له بالوحدانية. 

  • و في الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه و بين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما و الواسطة بينه و بين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة من ربه للنبي حتى يصل بتوسطه إليه. 

  • و في الأربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما و طلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففي الحديث ألطف الإشارة إلى كيفية جريان 

تفسير الميزان ج۱٦

189
  • الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىَ حَقَّهُ}: و روى أبو سعيد الخدري و غيره: أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أعطى فاطمة (عليه السلام) فدكا و سلمه إليها و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و في الكافي بإسناده عن إبراهيم اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الربا رباءان: ربا يؤكل و ربا لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذي يؤكل، و هو قول الله عز و جل: {وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اَللَّهِ} و أما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه و أوعد عليه النار.

  • أقول: و رواه أيضا في التهذيب عن إبراهيم بن عمر عنه (عليه السلام)، و في تفسير القمي عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام)، و في المجمع، مرسلا عن أبي جعفر (عليه السلام). 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ} قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، و الزكاة تسبيبا للرزق، و الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، و صلة الأرحام منماة للعدد. 

  • و في الفقيه: خطبة للزهراء (عليه السلام) و فيها: ففرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك و الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة زيادة في الرزق. 

  • (كلام في معنى كون الدين فطريا، في فصول) 

  • ١ - إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون و تتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة و شعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعية على ما يظهر لنا وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض و بعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله و قبل الوصول إلى ما بعده و لا يزال يستكمل بطي هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها و هو نهاية كماله. 

  • نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم و لا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها 

تفسير الميزان ج۱٦

190
  • رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى و لا ينتقل إلى غير مكانه و من هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها. 

  • فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الأرض استقرارا يهيئها للنمو على اجتماع مما يتوقف عليه النمو من العلل و الشرائط كالرطوبة و الحرارة و غيرهما أخذ لبها في النمو و شق القشر و شرع في ازدياد من أقطار جسمه و لم يزل يزيد و ينمو حتى يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة و لا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني و هو في أول وجوده قاصدا قاصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة. 

  • و كذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضأن مثلا لا نشك في أنها في أول تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصها فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها و لا تنسى غايتها يوما فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا فكل نوع من الأنواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا بحركته التكوينية و النوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته و بلوغه إلى غايته. 

  • و هذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة إلهية و هي كما عرفت لا تضل و لا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني و سوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي و بإعمال قواه و أدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته، قال تعالى: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ}: طه: ٥٠و قال: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ وَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلْمَرْعىَ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوى‌}: الأعلى: ٥. 

  • ٢ - نوع الإنسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامة له فنحن نعلم أن النطفة الإنسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة إنسان تام كامل له آثاره و خواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية و الطفولية و المراهقة و الشباب و الكهولة و الشيب. 

تفسير الميزان ج۱٦

191
  • غير أن الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية و النباتية و غيرها فيما نعلم في أمر۱ و هو أنه لسعة حاجته التكوينية و كثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية و رفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الإنسان لا تتم له حياته الإنسانية و هو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج و التعاون و التعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية. 

  • و قد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للإنسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الأمور الطبيعية ثم أقسام النبات و الحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال و المقاصد و في الجهازات و القوى فيضطر إلى المسالمة و أن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه. 

  • و ينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع و يعطى منه لكل ما يستحقه. 

  • و كيف كان فالمجتمع الإنساني لا يتم انعقاده و لا يعمر إلا بأصول علميه و قوانين اجتماعية يحترمها الكل و حافظ يحفظها من الضيعة و يجريها في المجتمع و عند ذلك تطيب لهم العيشة و تشرف عليهم السعادة. 

  • أما الأصول العلمية فهي معرفته إجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة و ما عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية فإن المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنه مادي محض ليس له من الحياة إلا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلا السبب المادي الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادية ما وراءها شي‌ء. 

  •  

    1. و عامة الحيوان و إن كان لها شي‌ء من الاجتماع الحيوي لكنه يسير في جنب الاجتماع لا يعبأ به.

تفسير الميزان ج۱٦

192
  • و المعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه. 

  • و أما القوانين و السنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلمونها تفرق الجمع و انحل المجتمع. 

  • و هذه السنن و القوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز و هي أيا ما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع و المجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الأعمال و مفاسدها. 

  • ٣ - قد عرفت أن الإنسان إنما ينال ما قدر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته التي تليق به و هذه السعادة أمر أو أمور كمالية تكوينية تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضا موجود تكويني فتجعله إنسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده. 

  • فهذه السنن و القوانين و هي قضايا عملية اعتبارية واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانية، و هذه الكمالات أمور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقية. 

  • فحوائج الإنسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية و اعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانية بأميالها و عزائمها و يصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير و النافع و بين الشر و الضار دون ما تطلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فإنه كمال حيواني غير إنساني. 

  • فأصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقة التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية. 

  • و قد عرفت أن الصنع و الإيجاد قد جهز كل نوع من الأنواع و منها الإنسان 

تفسير الميزان ج۱٦

193
  • من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج أن للجهازات التكوينية التي جهز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنين و القوانين التي بالعمل بها يستقر الإنسان في مقر كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذي المعتبرة بما أن الإنسان مجهز بجهاز التغذي و الراجعة إلى النكاح بما أن الإنسان مجهز بجهاز التوالد و التناسل. 

  • فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين أي الأصول العلمية و السنن و القوانين العملية التي تضمن باتخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقية من اقتضاءات الخلقة الإنسانية و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطريا و هو قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}

  • ٤ - قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالإسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة الإنسانية تقتضيه و تهدي إليه. 

  • و يسمى إسلاما لما أن فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتف به من مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ}

  • و يسمى دين الله لأنه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من معنى الإرادة. 

  • و يسمى سبيل الله لما أنه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً»}: الأعراف: ٤٥. 

  • و أما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوة و لا يكفي فيه العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة و غيرها من مباحث الكتاب. 

تفسير الميزان ج۱٦

194
  • [سورة الروم (٣٠): الآیات ٤٠الی ٤٧]

  • {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٤٠ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٤١ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ٤٢ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ٤٣ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ٤٤ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ ٤٥ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٤٦ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ٤٧} 

  • (بيان) 

  • هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالأفعال الخاصة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيتهم و ألوهيتهم و على إثبات المعاد. 

تفسير الميزان ج۱٦

195
  • قوله تعالى{اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و {اَلَّذِي خَلَقَكُمْ} خبره، و كذا قوله: {مَنْ يَفْعَلُ} إلخ مبتدأ خبره {مِنْ شُرَكَائِكُمْ} المقدم عليه و الاستفهام إنكاري و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر. 

  • و المعنى: أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا و كذا وصفا من أوصاف الألوهية و الربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربكم لا إله إلا هو. 

  • و لعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق. 

  • فليس لهم أن يقولوا: إن الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبر كل شأن من شئون العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك و من المسلم أن الرزق مثلا خلق و كذا سائر الشئون لا تنفك عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشئون. 

  • ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

  • قوله تعالى{ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الآية) بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضية. 

  • و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواء كان 

تفسير الميزان ج۱٦

196
  • مستندا إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الإنساني. 

  • و قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ} أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‌ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية): الأعراف: ٩٦ و أيضا في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس و الحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر إحداهما من صلاح الأخرى و فسادها. 

  • و قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا} اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنما كان بعض ما عملوا لأن الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}: الشورى: ٣٠. 

  • و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيوي و إذاقة بعضه لأكله من غير نظر إلى وبال الأعمال الأخروي فما قيل: إن المراد إذاقة الوبال الدنيوي و تأخير الوبال الأخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعله جعل تقدير الكلام: «ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن التقدير «ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا»، لأن الذي يحوجنا إلى تقدير المضاف لو أحوجنا هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا. 

  • و قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة. 

  • و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما احتج في الآية السابقة على التوحيد و نزهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك و هو معصية من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام. 

  • و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكة و قول بعضهم: المراد بالبر القفار التي لا يجري فيها نهر و بالبحر كل قرية على شاطئ نهر عظيم، و قول بعضهم: البر الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن‌ التي عند 

تفسير الميزان ج۱٦

197
  • البحر و النهر، و قول بعضهم: البر البرية و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إن هناك مضافا محذوفا و التقدير في البر و مدن البحر، و لعل الذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أن الآية ناظرة إلى القحط الذي وقع بمكة إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على قريش لما لجوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلف. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كل سفينة غصبا و هو كما ترى. 

  • قوله تعالى{قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة. 

  • قوله تعالى{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحق بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم. 

  • و قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللَّهِ} متعلق بقوله: {فَأَقِمْ} و المرد مصدر ميمي بمعنى الرد و هو بمعنى الراد و اليوم الذي لا مرد له من الله يوم القيامة. 

  • و قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون، و التصدع‌ في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل، و المراد به كما قيل تفرقهم يومئذ إلى الجنة و النار. 

  • و قيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ}: القارعة: ٤ و لكل وجه، و لعل الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي. 

  • قوله تعالى{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} الظاهر أنه تفسير لقوله في الآية السابقة: {يَتَفَرَّقُونَ} و قوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبال 

تفسير الميزان ج۱٦

198
  • كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذي سينقلب عليه نارا يخلد فيها و هذا أحد الفريقين. 

  • و قوله: {وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جي‌ء بالجزاء {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جي‌ء به مفردا في الشرطية السابقة {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} نظرا إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأن العمل إنما يصلح بالإيمان على أنه مذكور في الآية التالية. 

  • و المعنى: و الذين عملوا عملا صالحا بعد الإيمان فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرون عليه. 

  • قوله تعالى{لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ} قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى: {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}، و قال: {لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، يقال: جزيته كذا و بكذا. انتهى. 

  • و قوله: {لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} اللام للغاية و لا ينافي عد ما يؤتيهم جزاء و فيه معنى المقابلة عده من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، و أين العبودية من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق. 

  • لكنه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكا لأعمالهم في عين أنه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، و جعل ما ينالونه من الجنة و الزلفى أجرا مقابلا لأعمالهم و هذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه. 

  • و منشأ ذلك حبه تعالى لهم لأنهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم و اتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ}: آل عمران: ٣١. 

  • و لذا كانت الآية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة 

تفسير الميزان ج۱٦

199
  • و تعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشؤه حبه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ}

  • و من هنا يظهر أن قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ}، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعا أي أنه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنه يحب هؤلاء و لا يحب هؤلاء. 

  • قوله تعالى{وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله. 

  • و قوله: {وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك مما يشمله إطلاق الجملة. 

  • و قوله: {وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أي لجريان الرياح و هبوبها. و قوله: {وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتطلبوا من رزقه الذي هو من فضله. 

  • و قوله: {وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظي عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جي‌ء بلعل المفيدة للرجاء فإن الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ} قال الراغب: أصل الجرم بالفتح فالسكون قطع الثمرة عن الشجر إلى أن قال و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و أستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى. 

  • و الآية كالمعترضة و كأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على 

تفسير الميزان ج۱٦

200
  • نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره. 

  • و قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا} الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقا علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه من النصر.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ} قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دواب البحر بذلك. و قال الصادق (عليه السلام): حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.

  • أقول: و هو من الجري. 

  • و في روضة الكافي بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم. 

  • و في المجمع في قوله: {وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}: روى منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه. 

  • و فيه و جاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ما من امرئ يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء. 

تفسير الميزان ج۱٦

201
  • [سورة الروم (٣٠): الآیات ٤٨ الی ٥٣]

  • {اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ٤٨ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ٤٩ فَانْظُرْ إِلى‌ آثَارِ رَحْمَتِ اَللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتى‌ وَ هُوَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٥٠وَ لَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ٥١ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتى‌ وَ لاَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ٥٢ وَ مَا أَنْتَ بِهَادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ٥٣}  

  • (بيان) 

  • هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لما كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج بإيئاس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحق. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب‌ الغمام و السماء جهة العلو فكل ما علاك و أظلك فهو سماء و الكسف‌ بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق‌ 

تفسير الميزان ج۱٦

202
  • القطر من المطر و الخلال‌ جمع خلة و هي الفرجة. 

  • و المعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك و تنشر سحابا و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة حياتهم و حياة الحيوان و النبات. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} الإبلاس: اليأس و القنوط. 

  • و ضمير {يُنَزَّلَ} للمطر و كذا ضمير {مِنْ قَبْلِهِ} على ما قيل، و عليه يكون {مِنْ قَبْلِهِ} تأكيدا لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} و فائدة التأكيد على ما قيل الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفسحة في الزمان فجاء {مِنْ قَبْلِهِ} للدلالة على الاتصال و دفع ذلك الاحتمال. 

  • و في الكشاف، أن قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي اَلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} و معنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى. 

  • و ربما قيل: إن ضمير {مِنْ قَبْلِهِ} لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين. 

  • قوله تعالى{فَانْظُرْ إِلىَ آثَارِ رَحْمَتِ اَللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشي‌ء فيدل عليه كأثر القدم و أثر البناء و أستعير لكل ما يتفرع على شي‌ء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها. 

  • و لذا قال: {فَانْظُرْ إِلىَ آثَارِ رَحْمَتِ اَللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فجعل آثار الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها 

تفسير الميزان ج۱٦

203
  • من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضا من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح و السحاب و المطر. 

  • و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ} الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة التي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة. 

  • و المراد بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ} الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شي‌ء محفوظ و حياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر. 

  • و قوله: {وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإن القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلا لزم تقيدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} ضمير {فَرَأَوْهُ} للنبات المفهوم من السياق، و قوله {لَظَلُّوا} جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و أقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه. 

  • ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلمات من النعم. 

  • و قيل: ضمير {فَرَأَوْهُ} للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنه يذكر و يؤنث، و القولان بعيدان. 

  • قوله تعالى{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتى‌} إلى قوله {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقلها فإنهم موتى و صم و عمي 

تفسير الميزان ج۱٦

204
  • و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدقها فهم مسلمون. و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل. 

  •  

  • [سورة الروم (٣٠): الآیات ٥٤ الی ٦٠]

  • {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ ٥٤ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ٥٥ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‌ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٥٦ فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ٥٧ وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ٥٨ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‌ قُلُوبِ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٩ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ٦٠} 

  • (بيان) 

  • هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً} إلخ، الضعف و القوة متقابلان، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ 

تفسير الميزان ج۱٦

205
  • ضَعْفٍ} للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية و إن أمكن صدقه على النطفة. 

  • و المراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الأشد و بالضعف بعد القوة الشيخوخة و لذا عطف عليه {شَيْبَةً} عطف تفسير، و تنكير {ضَعْفٍ} و {قُوَّةً} للدلالة على الإبهام و عدم تعين المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك. 

  • و قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتم الإشارة إلى أن تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إن ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلا كما يقوله الوثنية. 

  • ثم تمم الكلام بالعلم و القدرة فقال: {وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ}

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادة للآيات و الحجج على وحدانيته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية التي تختتم بها السورة فإنه لما عد شيئا من الآيات و الحجج و أشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث الحق باطلا و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به. 

  • و هذا الإفك و التقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتى قيام الساعة فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا. 

  • فقوله: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتى ظنوه ساعة من ساعات الدنيا. 

  • و قوله: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون إلى الحق و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنونه باطلا من القول و خرافة من الرأي. 

تفسير الميزان ج۱٦

206
  • قوله تعالى{وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ} إلخ، رد منهم لقول المجرمين: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} فإن المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه و بين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لأنه مبلغ علمهم. 

  • فرد عليهم أهل العلم و الإيمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الذي يشير إليه قوله: {وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: المؤمنون: ١٠٠. 

  • فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث و لكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم إلا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ}، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أن العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهية، و من هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله الكتب‌۱ السماوية أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتد به. 

  • قوله تعالى{فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الاستعتاب‌ طلب العتبى، و العتبى‌ إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} إلخ، إشارة 

    1. و يمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالا على قولهم بكتاب الله و يكون نظير ما في قوله: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق»، الجاثية: ٢٩ بناء على ما سيأتي من معناه «منه».

تفسير الميزان ج۱٦

207
  • إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم لأنها مطبوع عليها، و لذا عقبه بقوله: {وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي جاءون بالباطل و هذا القول منهم لأنهم مصروفون عن الحق يرون كل حق باطلا، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول. 

  • قوله تعالى{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي يجهلون بالله و آياته و منها البعث و هم يصرون على جهلهم و ارتيابهم. 

  • قوله تعالى{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} و سائر تهكماتهم، إن وعد الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}، و لا يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه. 

  • و قول بعضهم: إن المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البينات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشي‌ء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعا بالنصرة. 

تفسير الميزان ج۱٦

208
  • (٣١) (سورة لقمان مكية، و هي أربع و ثلاثون آية) (٣٤) 

  • [سورة لقمان (٣١): الآیات ١ الی ١١]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ ٢ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ٣ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٤ أُولَئِكَ عَلى‌ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٥ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ٦ وَ إِذَا تُتْلى‌ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلنَّعِيمِ ٨ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٩ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَ أَلْقى‌ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ١٠هَذَا خَلْقُ اَللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ١١} 

تفسير الميزان ج۱٦

209
  • (بيان) 

  • غرض السورة كما يومئ إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامة آياتها الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكليات شرائع الدين. 

  • و يلوح من صدر السورة أنها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصد الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} (الآية)، و سيوافي حديثه. فنزلت السورة تبين أصول عقائد الدين و كليات شرائعه الحقة و قصت شيئا من خبر لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية. 

  • و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ} (الآية). 

  • قوله تعالى{تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} إلى قوله {يُوقِنُونَ} تقدم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة. 

  • و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شي‌ء بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضا بأنه هدى و رحمة للمحسنين تتميما لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحق و يوصل إليه لا كاللهو الشاغل للإنسان عما يهمه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة. 

  • و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامة التقوى، كل ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث. 

  • قوله تعالى{وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً} إلخ، اللهو ما يشغلك عما يهمك، و لهو الحديث: الحديث الذي يلهي عن الحق بنفسه كالحكايات الخرافية و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما يقارنه كالتغني بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكل ذلك يشمله لهو الحديث. 

تفسير الميزان ج۱٦

210
  • و قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية و العلمية و خاصة قصص الأنبياء و أممهم الخالية فإن لهو الحديث و الأساطير المزوقة المختلقة تعارض أولا هذه القصص ثم تهدم بنيان سائر المعارف الحقة و توهنها في أنظار الناس. 

  • و يؤيد ذلك قوله بعد: {وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً} فإن لهو الحديث بما أنه حديث كما سمعت يعارض أولا الحديث و يتخذه سخريا. 

  • فالمراد بسبيل الله القرآن بما فيه من القصص و المعارف و كأن مراد من كان يشتري لهو الحديث أن يضل الناس بصرفهم عن القرآن و أن يتخذ القرآن هزوا بأنه حديث مثله و أساطير كأساطيره. 

  • و قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بيضل و هو في الحقيقة وصف ضلال الضالين دون إضلال المضلين و إن كانوا أيضا لا علم لهم ثم هددهم بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي مذل يوهنهم و يذلهم حذاء استكبارهم في الدنيا. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} إلخ، وصف لذاك الذي يشتري لهو الحديث ليضل الناس عن القرآن و يهزأ به و الوقر الحمل الثقيل و المراد بكون الوقر على أذنيه أن يشد عليهما ما يمنع من السمع و قيل: هو كناية عن الصمم. 

  • و المعنى: و إذا تتلى على هذا المشتري لهو الحديث آياتنا أي القرآن ولى و أعرض عنها و هو مستكبر كأن لم يسمعها قط كأنه أصم فبشره بعذاب أليم. 

  • و قد أعيد إلى من يشتري ضمير الإفراد أولا كما في {يَشْتَرِي} و {لِيُضِلَّ} و {يَتَّخِذَهَا} باعتبار اللفظ و الضمير الجمع، ثانيا باعتبار المعنى ثم ضمير الإفراد باعتبار اللفظ كما في {عَلَيْهِ} و غيره كذا قيل، و من الممكن أن يكون ضمير {لَهُمْ} في الآية السابقة راجعا إلى مجموع المضل و الضالين المدلول عليهم بالسياق فتكون الضمائر الراجعة إلى {مِنَ} مفردة جميعا. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلنَّعِيمِ} إلى قوله {اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} رجوع بعد إنذار ذاك المشتري و تهديده بالعذاب المهين ثم العذاب 

تفسير الميزان ج۱٦

211
  • الأليم إلى تبشير المحسنين و تطييب أنفسهم بجنة النعيم الخالدة الموعودة من قبله تعالى و وعده الحق. 

  • و لما كان غرض من اشترى لهو الحديث أن يلتبس الأمر على من يضله بغير علم فيحسب القرآن من الأساطير الباطلة كأساطيره و يهين به و كان لا يعتني بما تتلى عليه من الآيات مستكبرا و ذلك استهانة بالله سبحانه أكد أولا ما وعده للمحسنين بقوله: {وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا} ثم وصف ثانيا نفسه بالعزة المطلقة، فلا يطرأ عليه ذلة و أهانه و الحكمة المطلقة فلا يداخل كلامه باطل و لا هزل و خرافة. 

  • ثم وصفه ثالثا بأنه الذي يدبر أمر السماء و الأرض و النبات و الحيوان و الإنسان لأنه خالقها فله أن يعد هؤلاء بالجنة و أولئك بالعذاب و هو قوله: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} إلخ. 

  • قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} إلخ، تقدم في تفسير قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}: الرعد: ٢ أن قوله: {تَرَوْنَهَا} يحتمل أن يكون قيدا توضيحيا، و المعنى أنكم ترونها و لا أعمدة لها، و أن يكون قيدا احترازيا و المعنى خلقها بغير أعمدة مرئية إشعارا بأن هناك أعمدة غير مرئية. 

  • و قوله: {وَ أَلْقىَ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، أي ألقى فيها جبالا شامخة لئلا تضطرب بكم و فيه إشعار بأن بين الجبال و الزلازل رابطة مستقيمة. 

  • و قوله: {وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي نشر في الأرض من كل حيوان يدب عليها. 

  • و قوله: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي و أنزلنا من جهة العلو ماء و هو المطر و أنبتنا فيها شيئا من كل زوج نباتي شريف فيه منافع و له فوائد، و فيه إشارة إلى تزوج النبات و قد تقدم الكلام فيه في نظيره. 

  • و الالتفات فيها من الغيبة إلى التكلم مع الغير للإشارة إلى كمال العناية بأمره كما قيل. 

  • قوله تعالى{هَذَا خَلْقُ اَللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، لما أراهم خلقه و تدبيره تعالى للسماوات و الأرض و ما عليها فأثبت به ربوبيته و ألوهيته تعالى كلفهم أن يروه شيئا من خلق آلهتهم إن كانوا آلهة و أربابا فإن 

تفسير الميزان ج۱٦

212
  • لم يقدروا على إراءة شي‌ء ثبت بذلك وحدانيته تعالى في ألوهيته و ربوبيته. 

  • و إنما كلفهم بإراءة شي‌ء من خلق آلهتهم و هم يعترفون أن الخلق لله وحده و لا يسندون إلى آلهتهم خلقا و إنما ينسبون إليهم التدبير فقط، لأنه نسب إلى الله خلقا هو بعينه تدبير من غير انفكاك، فلو كان لآلهتهم تدبير في العالم كان لهم خلق ما يدبرون أمره و إذ ليس لهم خلق فليس لهم تدبير فلا إله إلا الله و لا رب غيره. 

  • و قد سيقت الآية خطابا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأن نوع هذا الخطاب {فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} لا يستقيم من غيره (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: نزل قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ} في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم و يحدث بها قريشا و يقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد و ثمود و أنا أحدثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه و يتركون استماع القرآن: عن الكلبي. 

  • أقول: و روى هذا المعنى في الدر المنثور عن البيهقي عن ابن عباس، و لا يبعد أن يكون ذلك سبب نزول تمام السورة كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • و في المعاني بإسناده عن يحيى بن عبادة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ} قال: منه الغناء. 

  • أقول: و روى هذا المعنى في الكافي بإسناده عن مهران عنه (عليه السلام)، و بإسناده عن الوشاء عن الرضا عنه (عليه السلام)، و بإسناده عن الحسن بن هارون عنه (عليه السلام). 

  • و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الغناء مما أوعد الله عليه النار و تلا هذه الآية: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً - أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}

  • و فيه بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن كسب المغنيات 

تفسير الميزان ج۱٦

213
  • فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس - و هو قول الله عز و جل: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ}

  • و في المجمع و روى أبو أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا يحل تعليم المغنيات و لا بيعهن و أثمانهن حرام و قد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ} (الآية).

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن جم غفير من أصحاب الجوامع عن أبي أمامة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و فيه و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: هو الطعن في الحق و الاستهزاء به و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به إذ قال: يا معاشر قريش أ لا أطعمكم من الزقوم الذي يخوفكم به صاحبكم؟ ثم أرسل إلى زبد و تمر فقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفكم به. قال: و منه الغناء. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا عن علي بن الحسين قال: ما قدست أمة فيها البربط. 

  • و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار بن قصي، و كان النضر ذا رواية لأحاديث الناس و أشعارهم، يقول الله عز و جل: {وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً} (الآية). 

  • و فيه عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَ اَلسَّمَاءِ ذَاتِ اَلْحُبُكِ} قال: هي محبوكة إلى الأرض و شبك بين أصابعه. فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و الله يقول: {رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}؟ فقال: سبحان الله أ ليس يقول: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}؟ فقلت: بلى. فقال: فثم عمد و لكن لا ترونها. 

  •  

  • [سورة لقمان (٣١): الآیات ١٢ الی ١٩]

  • {وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا 

تفسير الميزان ج۱٦

214
  • يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ١٢ وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ١٣ وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىَ وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ ١٤ وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلىَ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا فِي اَلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٥ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ١٦ يَا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى‌ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ ١٧ وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ١٨ وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ ١٩}  

  • (بيان) 

  • في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة و نبذة من حكمه و مواعظه لابنه و لم يذكر في القرآن إلا في هذه السورة و يناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة حكمة و موعظة لما قص من حديث من كان يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا. 

تفسير الميزان ج۱٦

215
  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلَّهِ} إلخ، الحكمة على ما يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة و هي وسط الاعتدال بين الجهل و الجربزة. و قوله: {أَنِ اُشْكُرْ لِي} قيل: هو بتقدير القول أي و قلنا: {أَنِ اُشْكُرْ لِي}

  • و الظاهر أنه تفسير إيتائه الحكمة من غير تقدير القول، و ذلك أن حقيقة الشكر هي وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير إلى إنعام المنعم، و إيقاعه كما هو حقه يتوقف على معرفة المنعم و معرفة نعمه بما هي نعمة و كيفية وضعها موضعه بحيث يحكي عن إنعامه فإيتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فإيتاء الحكمة أمر بالشكر بالملازمة. 

  • و في قوله: {أَنِ اُشْكُرْ لِلَّهِ} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و ذلك أن التكلم مع الغير من المتكلم إظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه و خدمه و قول أن اشكر لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر و هو ظاهر. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} استغناء منه تعالى أن نفع الشكر إنما يرجع إلى نفس الشاكر و الكفر لا يتضرر به إلا نفسه دونه سبحانه و من يشكر فإنما يوقع الشكر لنفع نفسه و لا ينتفع به الله سبحانه لغناه المطلق و من كفر فإنما يتضرر به نفسه إن الله غني لا يؤثر فيه الشكر نفعا و لا ضرا حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر. 

  • و في التعبير عن الشكر بالمضارع الدال على الاستمرار و في الكفر بالماضي الدال على المرة إشعار بأن الشكر إنما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرة منه. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} عظمة كل عمل بعظمة أثره و عظمة المعصية بعظمة المعصي فإن مؤاخذة العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته و كبريائه فوق كل عظمة و كبرياء بأنه الله لا شريك له و أعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له. 

  • و قوله: {إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} حيث أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدر بقدر. 

  • قوله تعالى{وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى آخر الآية، اعتراض واقع بين الكلام المنقول عن لقمان و ليس من كلام لقمان و إنما اطرد هاهنا للدلالة على وجوب 

تفسير الميزان ج۱٦

216
  • شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته و أمره تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى و عبادته شكر. 

  • و قوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىَ وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ذكر بعض ما تحملته أمه من المحنة و الأذى في حمله و تربيته ليكون داعيا له إلى شكرهما و خاصة الأم. 

  • و الوهن‌ الضعف و هو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق و التقدير تهن وهنا على وهن، و الفصال‌ الفطم و ترك الإرضاع، و معنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق العامين فيئول إلى كون الإرضاع عامين، و إذا ضم إلى قوله تعالى: {وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}: الأحقاف: ١٥ بقي لأقل الحمل ستة أشهر، و ستكرر الإشارة إليه فيما سيأتي‌۱

  • و قوله: {أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ} تفسير لقوله: {وَصَّيْنَا} إلخ، في أول الآية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله، و قوله: {إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ} إنذار و تأكيد للأمر بالشكر. 

  • و القول في الالتفات الواقع في الآية في قوله: {أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ} إلخ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات في قوله السابق: {أَنِ اُشْكُرْ لِلَّهِ}

  • قوله تعالى{وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلىَ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} إلى آخر الآية. أي إن ألحا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته شريكا لي فلا تطعهما و لا تشرك بي، و المراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه معدوما مجهولا مطلقا لا يتعلق به علم فيئول المعنى: لا تشرك بي ما ليس بشي‌ء، هذا محصل ما ذكره في الكشاف، و ربما أيده قوله تعالى: {أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ}: يونس: ١٨. 

  • و قيل: {تُشْرِكَ} بمعنى تكفر و {مَا} بمعنى الذي، و المعنى: و إن جاهداك أن تكفر بي كفرا لا حجة لك به فلا تطعهما و يؤيده تكرار نفي السلطان على الشريك 

    1. في بحث روائي في ذيل آية الأحقاف. 

تفسير الميزان ج۱٦

217
  • في كلامه تعالى كقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}: يوسف: ٤٠إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و قوله: {وَ صَاحِبْهُمَا فِي اَلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} الجملتان كالتلخيص و التوضيح لما تقدم في الآيتين من الوصية بهما و النهي عن إطاعتهما إن جاهدا على الشرك بالله. 

  • يقول سبحانه: يجب على الإنسان أن يصاحبهما في الأمور الدنيوية غير الدين الذي هو سبيل الله صحابا معروفا و معاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما بالرفق و اللين من غير جفاء و خشونة و تحمل المشاق التي تلحقه من جهتهما فليست الدنيا إلا أياما معدودة متصرمة، و أما الوالدين فإن كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع سبيلهما و إلا فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله. 

  • و من هنا يظهر أن في قوله: {وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} إيجازا لطيفا فهو يفيد أنهما لو كانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما و إلا فلا يطاعا و لتتبع سبيل غيرهما ممن أناب إلى الله. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي هذا الذي ذكر، تكليفكم في الدنيا ثم ترجعون إلي يوم القيامة فأظهر لكم حقيقة أعمالكم التي عملتموها في الدنيا فأقضي بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أو شر. 

  • و بما مر يظهر أن قوله: {فِي اَلدُّنْيَا} يفيد أولا قصر المصاحبة بالمعروف في الأمور الدنيوية دون الدينية، و ثانيا: تهوين أمر الصحبة و أنها ليست إلا في أيام قلائل فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما، و ثالثا المقابلة ليوم الرجوع إلى الله المشار إليه بقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} إلخ. 

  • قوله تعالى{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللَّهُ} إلخ، ذكروا أن الضمير في {إِنَّهَا} للخصلة من الخير و الشر لدلالة السياق على ذلك و هو أيضا اسم كان و {مِثْقَالَ حَبَّةٍ} خبره، و المراد بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أو في السماوات أو في الأرض، و المراد بالإتيان بها إحضارها للحساب و الجزاء. 

تفسير الميزان ج۱٦

218
  • كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعا إلى التوحيد و نفي الشريك و ما في هذه الآية فصل ثان في المعاد و فيه حساب الأعمال، و المعنى: يا بني إن تكن الخصلة التي عملت من خير أو شر أخف الأشياء و أدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أو في أي مكان من السماوات و الأرض يأت بها الله للحساب و الجزاء لأن الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء و يصل إلى كل خفي خبير يعلم كنه الموجودات. 

  • قوله تعالى{يَا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلىَ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ} (الآية) و ما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من الأعمال و الأخلاق الفاضلة. 

  • فمن الأعمال الصلاة التي هي عمود الدين و يتلوها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و من الأخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة. 

  • و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ} الإشارة إلى الصبر و الإشارة البعيدة للتعظيم و الترفيع و قول بعضهم: إن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الصبر ليس في محله لتكرر عد الصبر من عزم الأمور في كلامه تعالى كقوله: {وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ}: الشورى: ٤٣ و قوله: {إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ}: آل عمران: ١٨٦. 

  • و العزم على ما ذكره الراغب عقد القلب على إمضاء الأمر و كون الصبر و هو حبس النفس في الأمر من العزم إنما هو من حيث إن العقد القلبي ما لم ينحل و ينفصم ثبت الإنسان على الأمر الذي عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد و المحافظة عليه و هو من قدرة النفس و شهامتها. 

  • و قول بعضهم: إن المعنى أن ذلك من عزيمة الله و إيجابه في الأمور بعيد و كذا قول بعضهم: إن العزم هو الجزم و هو لغة هذيل. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} قال الراغب: الصعر ميل في العنق و التصعير إمالته عن النظر كبرا قال: {وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} و قال: المرح‌ شدة الفرح و التوسع فيه انتهى. 

تفسير الميزان ج۱٦

219
  • فالمعنى: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا و لا تمش في الأرض مشية من اشتد فرحه إن الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء و هو التكبر بتخيل الفضيلة و يكثر من الفخر. و قال بعضهم إن معنى: {لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لا تلو عنقك لهم تذللا عند الحاجة و فيه أنه لا يلائمه ذيل الآية. 

  • قوله تعالى{وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ} القصد في الشي‌ء الاعتدال فيه و الغض على ما ذكره الراغب النقصان من الطرف و الصوت فغض الصوت النقص و القصر فيه. 

  • و المعنى: و خذ بالاعتدال في مشيك و بالنقص و القصر في صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن من الكبائر عقوق الوالدين و اليأس من روح الله و الأمن من مكر الله. و قد روي: أكبر الكبائر الشرك بالله. 

  • و في الفقيه في الحقوق المروية عن سيد العابدين (عليه السلام): حق الله الأكبر عليك أن تعبده و لا تشرك به شيئا فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا و الآخرة. 

  • قال: و أما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا و أعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا و وقتك بجميع جوارحها، و لم تبال أن تجوع و تطعمك، و تعطش و تسقيك، و تعرى و تكسوك، و تضحى و تظلك، و تهجر النوم لأجلك، و وقتك الحر و البرد لتكون لها فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله و توفيقه. 

  • و أما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك فإنك لولاه لم تكن فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله و اشكره على قدر ذلك و لا قوة إلا بالله. 

  • و في الكافي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل 

تفسير الميزان ج۱٦

220
  •  إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك.

  • و في المناقب: مر الحسين بن علي (عليه السلام) على عبد الرحمن بن عمرو بن العاص. فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز و ما كلمته منذ ليالي صفين. 

  • فأتى به أبو سعيد الخدري إلى الحسين (عليه السلام) فقال له الحسين (عليه السلام): أ تعلم أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء و تقاتلني و أبي يوم صفين؟ و الله إن أبي لخير مني. فاستعذر و قال إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لي: أطع أباك. فقال له الحسين (عليه السلام): أ ما سمعت قول الله عز و جل: {وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلىَ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما الطاعة بالمعروف، و قوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 

  • و في الفقيه: في ألفاظه (صلى الله عليه وآله و سلم) الموجزة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا، يقول أحدكم أذنب و أستغفر إن الله عز و جل يقول: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} و قال عز و جل: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.

  • و فيه بإسناده إلى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة (الحديث). 

  • و فيه بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: الصلاة قربان كل تقي. 

  • و في المجمع: {وَ اِصْبِرْ عَلىَ مَا أَصَابَكَ} من المشقة و الأذى في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: عن علي (عليه السلام).

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي و لا تمل وجهك من الناس بكل و لا تعرض عمن يكلمك استخفافا به: و هذا المعنى قول ابن عباس و أبي عبد الله (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج۱٦

221
  • و في الدر المنثور أخرج الطبراني و ابن عدي و ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قول الله: {وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قال: إلى الشدق. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ}: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة و الرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن.

  • أقول: و في جميع هذه المعاني و خاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة. 

  • (كلام في قصة لقمان و نبذ من حكمه، في فصلين 

  • ١ - لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى إلا في سورة لقمان و لم يذكر من قصصه إلا ما في قوله عز من قائل: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلَّهِ} و قد وردت في قصته و حكمه روايات كثيرة مختلفة و نحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى الاعتبار. 

  • ففي الكافي عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام إن الله قال: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ اَلْحِكْمَةَ} قال: الفهم و العقل. 

  • و في المجمع روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: حقا أقول لم يكن لقمان نبيا و لكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه و من عليه بالحكمة . 

  • كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن هو عزم علي فسمعا و طاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني. 

  • فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحكم أشد المنازل و آكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وفى فبالحري أن ينجو، و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا و في الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا و من تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة. 

تفسير الميزان ج۱٦

222
  • فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يوازر داود بحكمته فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ تدرون ما كان لقمان؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: كان حبشيا. 

  • ٢ - و في تفسير القمي بإسناده عن حماد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لقمان و حكمته التي ذكرها الله عز و جل، فقال: أما و الله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب و لا مال و لا أهل و لا بسط في جسم و لا جمال. 

  • و لكنه كان رجلا قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا مستكينا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط و لم يره أحد من الناس علي بول و لا غائط و لا اغتسال لشدة تستره و عموق نظره و تحفظه في أمره، و لم يضحك من شي‌ء قط مخافة الإثم و لم يغضب قط، و لم يمازح إنسانا قط، و لم يفرح بشي‌ء أتاه من أمر الدنيا و لا حزن منها على شي‌ء قط و قد نكح من النساء و ولد له من الأولاد الكثير و قدم أكثرهم أفراطا فما بكى على موت أحد منهم. 

  • و لم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما و لم يمض عنهما حتى تحابا، و لم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره و عمن أخذه، و كان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، و يرحم الملوك و السلاطين لغرتهم بالله و طمأنينتهم في ذلك، و يعتبر و يتعلم ما يغلب به نفسه و يجاهد به هواه و يحترز به من الشيطان يداوي قلبه بالفكر و يداوي نفسه بالعبر، و كان لا يظعن إلا فيما يعنيه فبذلك أوتي الحكمة و منح العصمة. 

  • و إن الله تبارك و تعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار و هدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع و لا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع و الطاعة لأنه إن فعل ذلك أعانني عليه و علمني و عصمني و إن هو خيرني قبلت العافية. 

  • فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل و أكثر 

تفسير الميزان ج۱٦

223
  • فتنا و بلاء يخذل و لا يعان و يغشاه الظلم من كل مكان و صاحبه فيه بين أمرين إن أصاب فيه الحق فبالحري أن يسلم و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكما سريا شريفا، و من اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه و لا تدرك تلك. 

  • قال: فتعجب الملائكة من حكمته و استحسن الرحمن منطقه - فلما أمسى و أخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه و هو نائم و غطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ و هو أحكم الناس في زمانه، و خرج على الناس ينطق بالحكمة و يبثها فيها. 

  • قال: فلما أوتي الحكم بالخلافة و لم يقبلها أمر الله عز و جل الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبلها و لم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عز و جل الخلافة في الأرض و ابتلي بها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطإ يقيله الله و يغفر له، و كان لقمان يكثر زيارة داود (عليه السلام) و يعظه بمواعظه و حكمته و فضل علمه، و كان داود يقول له: طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة و صرفت عنك البلية و أعطي داود الخلافة و ابتلي بالحكم و الفتنة. 

  • ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} قال: فوعظ لقمان ابنه بآثار۱ حتى تفطر و انشق. 

  • و كان فيما وعظه به يا حماد أن قال: يا بني إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها و استقبلت الآخرة فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بني جالس العلماء و زاحمهم بركبتيك و لا تجادلهم فيمنعوك، و خذ من الدنيا بلاغا و لا ترفضها فتكون عيالا على الناس، و لا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك، و صم صوما يقطع شهوتك و لا تصم صياما يمنعك من الصلاة فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام. 

  • يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان و اجعل شراعها التوكل، و اجعل زادك فيها تقوى الله فإن نجوت فبرحمة الله و إن 

    1. بآثار ابنه و التفطر و الانشقاق كناية عن كمال التأثر.

تفسير الميزان ج۱٦

224
  • هلكت فبذنوبك. 

  • يا بني: إن تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا و من عنى بالأدب اهتم به، و من اهتم به تكلف علمه و من تكلف علمه اشتد له طلبه و من اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فإنك تخلف في سلفك و ينتفع به من خلفك و يرتجيك فيه راغب و يخشى صولتك راهب، و إياك و الكسل عنه بالطلب لغيره فإن غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة و إذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الآخرة و اجعل في أيامك و لياليك و ساعاتك نصيبا في طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعا أشد من تركه و لا تمارين فيه لجوجا و لا تجادلن فقيها و لا تعادين سلطانا، و لا تماشين ظلوما و لا تصادقنه و لا تؤاخين فاسقا و لا تصاحبن متهما و اخزن علمك كما تخزن ورقك. 

  • يا بني: خف الله عز و جل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك و ارج الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك. 

  • فقال له ابنه: يا أبت كيف أطيق هذا و إنما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان: يا بني: لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف و نور للرجاء لو وزنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز و جل و من يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله، و من لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله فإن هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض. 

  • فمن يؤمن بالله إيمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا و من يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا و من أطاع الله خافه، و من خافه فقد أحبه، و من أحبه فقد اتبع أمره و من اتبع أمره استوجب جنته و مرضاته، و من لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه نعوذ بالله من سخط الله. 

  • يا بني: لا تركن إلى الدنيا و لا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقا هو أهون عليه منها أ لا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين و لم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين. 

  • و في قرب الإسناد: هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قيل للقمان: ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال: لا أتكلف ما قد كفيته و لا أضيع ما وليته. 

  • و في البحار عن قصص الأنبياء بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان 

تفسير الميزان ج۱٦

225
  • فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال: يا بني: إن تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم و لن تستطيع ذلك و إن كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه و لن تستطيع ذلك فإنك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك و إنما النوم بمنزلة الموت و إنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، و قال: قال لقمان لابنه: يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك و لا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها و ابن آدم‌۱ لا يحب مثله. لا تنشر٢ بزك إلا عند باغيه، و كما ليس بين الكبش و الذئب خلة، كذلك ليس بين البار و الفاجر خلة، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرفه، من يحب المراء يشتم، و من يدخل مدخل السوء يتهم، و من يقارن قرين السوء لا يسلم، و من لا يملك لسانه يندم. 

  • و قال يا بني صاحب مائة و لا تعاد واحدا، يا بني إنما هو خلاقك و خلقك فخلاقك دينك و خلقك بينك و بين الناس - فلا تبغضن إليهم و تعلم محاسن الأخلاق. 

  • يا بني كن عبدا للأخيار و لا تكن ولدا للأشرار. يا بني أد الأمانة تسلم دنياك و آخرتك و كن أمينا فإن الله لا يحب الخائنين. يا بني لا تر الناس أنك تخشى الله و قلبك فاجر.

  • و في الكافي بإسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان فيما وعظ به لقمان لابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا و لم يبق من جمعوا له، و إنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل و وعدت عليه أجرا فأوف عملك و استوف أجرك، و لا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، و لكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها و لم ترجع إليها آخر الدهر أخربها و لا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها. 

  • و اعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز و جل عن أربع: شبابك فيما 

    1. أي أن ابن آدم لا يجب أن يكافيه غيره في مزية من المزايا
    2. أي لا تظهر متاعك إلا عند طالبه.

تفسير الميزان ج۱٦

226
  • أبليته، و عمرك فيما أفنيته، و مالك مما اكتسبته و فيما أنفقته، فتأهب لذلك و أعد له جوابا و لا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه و كثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك، و جد في أمرك، و اكشف الغطاء عن وجهك، و تعرض لمعروف ربك، و جدد التوبة في قلبك، و أكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك، و يقضى قضاؤك، و يحال بينك و بين ما تريد. 

  • و في البحار عن القصص بإسناده عن حماد عن الصادق (عليه السلام) قال: قال لقمان: يا بني إياك و الضجر و سوء الخلق و قلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب، و ألزم نفسك التؤدة۱ في أمورك و صبر على مئونات الإخوان نفسك، و حسن مع جميع الناس خلقك. 

  • يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك و تتفضل به على إخوانك فلا يعدمنك حسن الخلق و بسط البشر فإن من أحسن خلقه أحبه الأخيار و جانبه الفجار، و اقنع بقسم الله ليصفو عيشك فإن أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي الناس - فإنما بلغ الأنبياء و الصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم. 

  • أقول: و الأخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه إيثارا للاختصار. 

  •  

  • [سورة لقمان (٣١): الآیات ٢٠الی ٣٤]

  • {أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ ٢٠وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ اَلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلى‌ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ ٢١ وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللَّهِ وَ هُوَ

    1. التؤدة بضم التاء كهمزة السكون و الرزانة. 

تفسير الميزان ج۱٦

227
  • مُحْسِنٌ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىَ وَ إِلَى اَللَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ ٢٢ وَ مَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٢٣ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى‌ عَذَابٍ غَلِيظٍ ٢٤ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٢٥ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ٢٦ وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٧ مَا خَلْقُكُمْ وَ لاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٢٨ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اَللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٢٩ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ ٣٠أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ٣١ وَ إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ٣٢ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ 

تفسير الميزان ج۱٦

228
  • وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ ٣٣ إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلْأَرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ٣٤} 

  • (بيان) 

  • رجوع إلى ما قبل القصة من آيات الوحدانية و نفي الشريك و أدلتها المنتهية إلى قوله: {هَذَا خَلْقُ اَللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً} رجوع إلى ما قبل قصة لقمان و هو الدليل على أن الخطاب للمشركين و إن كان ذيل الآية يشعر بعموم الخطاب. 

  • و عليه فصدر الآية من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتصل بقوله: {هَذَا خَلْقُ اَللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} و لا التفات في قوله: {أَ لَمْ تَرَوْا}

  • و على تقدير كونه من كلامه تعالى ففي قوله: {أَ لَمْ تَرَوْا} التفات من سياق الغيبة الذي في قوله: {بَلِ اَلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} إلى الخطاب، و الالتفات في مثل هذه الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم و تأكد غيظه من جهل المخاطبين و تماديهم في غيهم بحيث لا ينفعهم دلالة و لا ينجح فيهم إشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرأى منهم و مسمع لعلهم يتنبهوا عن نومتهم و ينتزعوا عن غفلتهم. 

  • و كيف كان فالمراد بتسخير السماوات و الأرض للإنسان و هم يرون ذلك ما نشاهده من ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض في نظام عام يدبر أمر العالم عامة و الإنسان خاصة لكونه أشرف أجزاء هذا العالم المحسوس بما فيه من الشعور و الإرادة فقد سخر الله الكون لأجله. 

تفسير الميزان ج۱٦

229
  • و التسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر و يريده كتسخير الكاتب القلم للكتابة و كما يسخر المولى عبده و المخدوم خادمه في أن يفعل باختياره و إرادته ما يختاره و يريده المولى و المخدوم و الأسباب الكونية كائنة ما كانت تفعل بسببيتها الخاصة ما يريده الله من نظام يدبر به العالم الإنساني. 

  • و مما مر يظهر أن اللام في {لَكُمْ} للتعليل الغائي و المعنى لأجلكم و المسخر بالكسر هو الله تعالى دون الإنسان، و ربما احتمل كون اللام للملك و المسخر بالكسر هو الإنسان بمشية من الله تعالى كما يشاهد من تقدم الإنسان بمرور الزمان في تسخير أجزاء الكون و استخدامه لها في سبيل مقاصده لكن لا يلائمه تصدير الكلام بقوله: {أَ لَمْ تَرَوْا}

  • و قوله: {وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً} الإسباغ‌ الإتمام و الإيساع أي أتم و أوسع عليكم نعمه، و النعم‌ جمع نعمة و هو في الأصل بناء النوع و غلب عليه استعماله في ما يلائم الإنسان فيستلذ منه، و المراد بالنعم الظاهرة و الباطنة بناء على كون الخطاب للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع و البصر و سائر الجوارح و الصحة و العافية و الطيبات من الرزق و النعم الغائبة عن الحس كالشعور و الإرادة و العقل. 

  • و بناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما تقدم و كالدين الذي به ينتظم أمور دنياهم و آخرتهم و الباطنة منها كما تقدم و كالمقامات المعنوية التي تنال بإخلاص العمل. 

  • و قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ} رجوع الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما كان في السياق السابق، و المجادلة المخاصمة النظرية بطريق المغالبة، و المقابلة بين العلم و الهدى و الكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو مكتسب من حجة عقلية، و بالهدى ما يفيضه الله بالوحي أو الإلهام، و بالكتاب الكتاب السماوي المنتهي إليه تعالى بالوحي النبوي و لذلك وصفه بالمنير فهذه طرق ثلاث من العلم لا رابع لها. 

  • فمعنى قوله: {يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ} كذا و كذا أنه يجادل في وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية بغير حجة يصح الركون إليها بل عن تقليد. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ 

تفسير الميزان ج۱٦

230
  • آبَاءَنَا} إلخ، ضمائر الجمع راجعة إلى {مِنَ} باعتبار المعنى كما أن ضمير الإفراد في الآية السابقة راجع إليه باعتبار اللفظ. 

  • و قوله: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ} في التعبير بما أنزل الله من غير أن يقال: اتبعوا الكتاب أو القرآن إشارة إلى كون الدعوة دعوة ذات حجة لا تحكم فيها لأن نزول الكتاب مؤيد بحجة النبوة فكأنه قيل: و إذا دعوا إلى دين التوحيد الذي يدل عليه الكتاب المقطوع بنزوله من عند الله سبحانه، و بعبارة أخرى إذا ألقى إليهم القول مع الحجة قابلوه بالتحكم من غير حجة فقالوا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. 

  • و قوله: {أَ وَ لَوْ كَانَ اَلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلىَ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ} أي أ يتبعون آباءهم و لو كان الشيطان يدعوهم بهذا الاتباع إلى عذاب السعير؟ فالاستفهام للإنكار و لو وصلية معطوفة على محذوف مثلها و التقدير أ يتبعونهم لو لم يدعهم الشيطان و لو دعاهم. 

  • و محصل الكلام: أن الاتباع إنما يحسن إذا كانوا على الحق و أما لو كانوا على الباطل و كان اتباعا يدعوهم به إلى الشقاء و عذاب السعير و هو كذلك فإنه اتباع في عبادة غير الله و لا معبود غيره. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىَ وَ إِلَى اَللَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ} استئناف و يحتمل أن يكون حالا من مفعول {يَدْعُوهُمْ} و في معنى الجملة الحالية ضمير عائد إليهم، و المعنى: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى كذا و الحال أن من أسلم وجهه إلى الله كذا فقد نجا و أفلح و الحال أن عاقبة الأمور ترجع إلى الله فيجب أن يكون هو المعبود. 

  • و إسلام الوجه إلى الله تسليمه له و هو إقبال الإنسان بكليته عليه بالعبادة و إعراضه عمن سواه. و الإحسان الإتيان بالأعمال الصالحة عن إيقان بالآخرة كما فسره به في أول السورة {هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} و العروة الوثقى‌ المستمسك الذي لا انفصام له. 

  • و المعنى: و من وحد الله و عمل صالحا مع اليقين بالمعاد فهو ناج غير هالك البتة في عاقبة أمره لأنها إلى الله و هو الذي يعده بالنجاة و الفلاح. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ} في مقام التعليل لقوله: {فَقَدِ

تفسير الميزان ج۱٦

231
  • اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىَ} بما أنه استعارة تمثيلية عن النجاة و الفلاح. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}- إلى قوله - {إِلى‌ عَذَابٍ غَلِيظٍ} تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب لنفسه أن لا يغلبه الحزن و هم بالآخرة راجعون إليه تعالى فينبؤهم بما عملوا أي يظهر لهم حقيقة أعمالهم و تبعاتها و هي النار. 

  • و قوله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلىَ عَذَابٍ غَلِيظٍ} كشف عن حقيقة حالهم ببيان آخر فإن البيان السابق {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} ربما أوهم أنهم ما داموا متنعمين في الدنيا خارجون من قدرة الله ثم إذا ماتوا أو بعثوا دخلوا فيما خرجوا منه فانتقم منهم بالعذاب جي‌ء بهذا البيان للدلالة على أنهم غير خارجين من التدبير قط و إنما يمتعهم في الدنيا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ فهم مغلوبون مقهورون على كل حال و أمرهم إلى الله دائما لن يعجزوا الله في حال التنعم و لا غيرها. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} إشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث لا يشعرون، فإنهم إن سئلوا عمن خلق السماوات و الأرض اعترفوا بأنه الله عز اسمه و إذا كان الخالق هو هو فالمدبر لها هو هو لأن التدبير لا ينفك عن الخلق، و إذا كان مدبر الأمر و المنعم الذي يبسط و يقبض و يرجى و يخاف هو فالمعبود هو هو وحده لا شريك له فقد اعترفوا بالوحدة من حيث لا يعلمون. 

  • و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا يشعرون فقال: {قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم أشار إلى أن كون أكثرهم لا يعلمون معنى اعترافهم أن الله هو الخالق و ما يستلزمه فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} نعم قليل منهم يعلمون ذلك و لكنهم لا يطاوعون الحق بل يجحدونه و قد أيقنوا به كما قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}: النمل: ١٤. 

  • قوله تعالى{لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ} لما كان اعترافهم بأن الخالق هو الله سبحانه إنما يثبت التوحد بالربوبية و الألوهية إذا كان التدبير و التصرف إليه تعالى و كان نفس الخلق كافيا في استلزامه اكتفى به في تمام الحجة و استحمد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و استجهل القوم لغفلتهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

232
  • ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا مطلقا و تقريره أنه تعالى مبدئ كل خلق و معطي كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج إليه الأشياء فهو غني على الإطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن مبدئا له معطيا لكماله هذا خلف، و إذا كان غنيا على الإطلاق كان له ما في السماوات و الأرض فهو المالك لكل شي‌ء على الإطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء فكل تدبير و تصرف يقع في العالم فهو له إذ لو كان شي‌ء من التدبير لغيره لا له كان مالكه ذلك الغير دونه و إذا كان التدبير و التصرف له تعالى فهو رب العالمين و الإله الذي يعبد و يشكر إنعامه و إحسانه. 

  • و هذا هو الذي يشير إليه قوله: {لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ} فقوله: {لِلَّهِ مَا فِي} إلخ، حجة على وحدانيته و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ} تعليل للملك. 

  • و أما قوله: {اَلْحَمِيدُ} أي المحمود في أفعاله فهو مبدأ آخر للحجة و ذلك أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري و كل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود الثناء فيه فهو حميد على الإطلاق و لو كان شي‌ء من هذا التدبير المتقن الجميل من غيره تعالى من غير انتساب إليه لكان الحمد و الثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون حميدا على الإطلاق و بالنسبة إلى كل شي‌ء و قد فرض أنه حميد على الإطلاق هذا خلف. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اَللَّهِ} إلخ، {مِنْ شَجَرَةٍ} بيان للموصول و الشجرة واحد الشجر و تفيد في المقام و هي في سياق {لَوْ} الاستغراق أي كل شجرة في الأرض، و المراد بالبحر مطلق البحر، و قوله: {يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي يعينه بالانضياف إليه سبعة أمثاله و الظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد و الكلمة هي اللفظ الدال على معنى، و قد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى، و قد قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: يس: ٨٢ و قد أطلق على المسيح (عليه السلام) الكلمة في قوله: {وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى‌ مَرْيَمَ}: النساء: ١٧١. 

  • فالمعنى: و لو جعل أشجار الأرض أقلاما و أخذ البحر و أضيف إليه سبعة أمثاله و جعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله بتبديلها ألفاظا دالة عليها بتلك 

تفسير الميزان ج۱٦

233
  • الأقلام من ذلك المداد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لكونها غير متناهية. 

  • و من هنا يظهر أن في الكلام إيجازا بالحذف و أن قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في مقام التعليل، و المعنى: لأنه تعالى عزيز لا يعزه و لا يقهره شي‌ء فهذه الكتابة لا ينفد بها ما هو من عنده حكيم لا يفوض التدبير إلى غيره. 

  • و الآية متصلة بما قبلها من حيث دلالته على كون تدبير الخلق له سبحانه لا لغيره فسيقت هذه الآية للدلالة على سعة تدبيره و كثرة أوامره التكوينية في الخلق و التدبير إلى حيث ينفد البحر الممدود بسبعة أمثاله لو جعل مدادا و كتبت به أشجار الأرض المجعولة أقلاما قبل أن ينفد أوامره و كلماته. 

  • قوله تعالى{مَا خَلْقُكُمْ وَ لاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} سوق للكلام إلى إمكان الحشر و خاصة من جهة استبعادهم المعاد لكثرة عدد الموتى و اختلاطهم بالأرض من غير تميز بعضهم من بعض. 

  • فقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَ لاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} في الإمكان و التأتي فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن و لا يعجزه كثرة و لا يتفاوت بالنسبة إليه الواحد و الجمع، و ذكر الخلق مع البعث للدلالة على عدم الفرق بين البدء و العود من حيث السهولة و الصعوبة بل لا يتصف فعله بالسهولة و الصعوبة. 

  • و يشهد لما ذكر إضافة الخلق و البعث إلى ضمير الجمع المخاطب و المراد به الناس ثم تنظيره بالنفس الواحدة، و المعنى: ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم و لا بعثكم إلا كخلق نفس واحدة و بعثها فأنتم على كثرتكم و النفس الواحدة سواء لأنه لو أشكل عليه بعث الجميع على كثرتهم و البعث لجزاء الأعمال فإنما يشكل من جهة الجهل بمختلف أعمالكم على كثرتها و اختلاط بعضها ببعض لكنه ليس يجهل شيئا منها لأنه سميع لأقوالكم بصير بأعمالكم و بعبارة أخرى عليم بأعمالكم من طريق المشاهدة. 

  • و بما مر يندفع الاعتراض على الآية بأن المناسب لتعليل كون خلق الكثير و بعثهم كنفس واحدة أن يعلل بمثل قولنا: إن الله على كل شي‌ء قدير أو قوي عزيز أو ما يشبه ذلك لا بمثل السميع البصير الذي لا ارتباط له بالخلق و البعث. 

  • و ذلك أن الإشكال الذي تعرضت الآية لدفعه هو أن البعث لجزاء الأعمال و هي 

تفسير الميزان ج۱٦

234
  • على كثرتها و اندماج بعضها في بعض كيف تتميز حتى تجزى عليها فالإشكال متوجه إلى ما ذكره قبل ثلاث آيات بقوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} و قد أجيب بأنه كيف يخفى عليه شي‌ء من الأقوال و الأعمال و هو سميع بصير لا يشذ عن مشاهدته قول و لا فعل. 

  • و قد كان ذيل قوله السابق: {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ} و هو مبني على أن الجزاء على حسب ما يحمله القلب من الحسنة و السيئة كما يشير إليه قوله: {وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ}: البقرة: ٢٨٤ و جواب عن هذا الإشكال لو وجه إلى ما تحمله القلوب على كثرته فيجاب عنه أن الله عليم بذات الصدور و لو وجه إلى نفس الأعمال الخارجية من الأقوال و الأفعال فالجواب عنه بما في هذه الآية التي نحن فيها: {إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، فالإشكال و الجواب بوجه نظير ما وقع في قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ}: طه: ٥٢، فافهم. 

  • و قد أجابوا عن الاعتراض بأجوبة أخرى غير تامة من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى} إلخ، استشهاد لما تقدم في الآية السابقة من علمه بالأعمال بأن التدبير الجاري في نظام الليل و النهار حيث يزيد هذا و ينقض ذاك و بالعكس بحسب الفصول المختلفة و بقاع الأرض المتفرقة في نظم ثابت جار على اختلافه، و كذا التدبير الجاري في الشمس و القمر على اختلاف طلوعهما و غروبهما و اختلاف جريانهما و مسيرهما بحسب الحس و كل منهما يجري لأجل مسمى و لا اختلاف و لا تشوش في النظام الدقيق الذي لهما فهذا كله مما يمتنع من غير علم و خبرة من مدبرها. 

  • فالمراد بإيلاج الليل في النهار أخذ الليل في الطول و إشغاله بعض ساعات النهار من قبل و بإيلاج النهار في الليل عكس ذلك، و المراد بجريان الشمس و القمر المسخرين إلى أجل مسمى انتهاء كل وضع من أوضاعهما إلى وقت محدود مقدر ثم عودهما إلى بدء فمن شاهد هذا النظام الدقيق الجاري و أمعن فيه لم يشك في أن مدبره إنما يدبره عن علم لا يخالطه جهل و ليس ذلك عن صدفة و اتفاق. 

تفسير الميزان ج۱٦

235
  • و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطف على موضع {أَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ} و التقدير أ لم تر أن الله بما تعملون خبير و ذلك لأن من شاهد نظام الليل و النهار و الشمس و القمر لم يكد يغفل عن كون صانعه عليما بجلائل أعماله و دقائقها، كذا قيل. 

  • و فيه أن استنتاج العلم بالأعمال من العلم بالنظام الجاري في الليل و النهار و الشمس و القمر و إن صح في نفسه فهو علم حدسي لا مصحح لتسميتها رؤية و هو ظاهر. 

  • و لعل المراد من مشاهدة خبرته تعالى بالأعمال أن الإنسان لو أمعن في النظام الجاري في أعمال نفسه بما أنها صادرة عن العالم الإنساني موزعة من جهة إلى الأعمال الصادرة عن القوى الظاهرة من سمع و بصر و شم و ذوق و لمس و الصادرة عن القوى الباطنة المدركة أو الفعالة أو من جهة إلى بعض القوى و الأدوات أو كلها و من جهة إلى جاذبة و دافعة و من جهة إلى سني العمر من طفولية و رهاق و شباب و شيب إلى غير ذلك. 

  • ثم في ارتباط بعضها ببعض و استخدام بعضها لبعض و اهتداء النفس إلى وضع كل في موضعه الذي يليق به و حركته بهذه القافلة من القوى و الأعمال نحو غايتها من الكمال و سعادتها في المال و تورطها في ورطات عالم المادة و موطن الزينة و الفتنة فمن ناج أو هالك. 

  • فإذا أمعن في هذا النظام المحير للأحلام لم يرتب أنه تقدير قدره ربه و نظام نظمه صانعه العليم القدير و مشاهدة هذا النظام العلمي العجيب مشاهدة أنه بما يعملون خبير، و الله العالم. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} لما ذكر سبحانه أن منه بدء كل شي‌ء فيستند إليه في وجوده و تدبير أمره و أن إليه عود كل شي‌ء من غير فرق بين الواحد و الكثير و أنه ليس إلى من يدعون من دونه خلق و لا أمر جمع الجميع تحت بيان واحد جامع فقال مشيرا إلى ما تقدم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ} إلخ. 

  • توضيحه أن الحق هو الثابت من جهة ثبوته و الباطل يقابل الحق فهو اللاثابت من جهة عدم ثبوته، و قوله: {بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ} بما فيه من ضمير الفصل و تعريف 

تفسير الميزان ج۱٦

236
  • الخبر باللام يفيد القصر أعني حصر المبتدإ في الخبر. 

  • فقوله: {بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ} قصر له تعالى في الثبوت، أي هو ثابت لا يشوب ثبوته بطلان و بعبارة أخرى هو ثابت من جميع الجهات و بعبارة ثالثة هو موجود على كل تقدير فوجوده مطلق غير مقيد بقيد و لا مشروط بشرط فوجوده ضروري و عدمه ممتنع و غيره من الموجودات الممكنة موجود على تقدير و هو تقدير وجود سببه و هو الوجود المقيد الذي يوجد بغيره من غير ضرورة في ذاته. 

  • و إذا كان حقية الشي‌ء هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته و غيره إنما يحق و يتحقق به. 

  • و إذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولا: أن الأشياء بأجمعها تستند في وجودها إليه تعالى و أيضا تستند في النظام الجاري فيها عامة و في النظامات الجزئية الجارية في كل نوع من أنواعها و كل فرد من أفرادها إليه تعالى. 

  • و ثانيا: أن الكمالات الوجودية التي هي صفات الوجود كالعلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و الوحدة و الخلق و الملك و الغنى و الحمد و الخبرة مما عد في الآيات السابقة أو لم يعد صفات قائمة به تعالى على حسب ما يليق بساحة كبريائه و عز قدسه لأنها صفات وجودية و الوجود قائم به تعالى فهي إما عين ذاته كالعلم و القدرة و إما صفات خارجة عن ذاته منتزعة عن فعله كالخلق و الرزق و الرحمة. 

  • و ثالثا: أن قبول الشريك في ذاته أو في تدبيره و كل ما يحمل معنى الفقد و النقص مسلوب عنه تعالى و هذه هي الصفات السلبية كنفي الشريك و نفي التعدد و نفي الجسم و المكان و الزمان و الجهل و العجز و البطلان و الزوال إلى غيرها. 

  • فإن إطلاق وجوده و عدم تقيده بقيد ينفي عنه كل معنى عدمي أي إثبات الوجود مطلقا فإن مرجع نفي النفي إلى الإثبات. 

  • و لعل قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها بناء على أن اسم {اَلْعَلِيُّ} يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته فهو مجمع الصفات السلبية و الكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية. 

  • و أن صدر الآية برهان على ذيلها و ذيلها برهان على استجماعه تعالى الصفات الثبوتية و السلبية جميعا على ما تقدم تقريره فهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال 

تفسير الميزان ج۱٦

237
  • فهو الله عز اسمه. 

  • و قوله: {وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ} يجري فيه ما جرى في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ} فالذي يدعونه من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شي‌ء و لا إليهم من الخلق و التدبير شي‌ء لأن الشريك في الألوهية و الربوبية باطلا لا حق فيه و إذ كان باطلا على كل تقدير فلا يستند إليه خلق و لا تدبير مطلقا. 

  • و الحق و العلي و الكبير ثلاثة من الأسماء الحسنى و قد تحقق مما تقدم أن الحق في معنى الواجب الوجود و أن العلي من الصفات السلبية و الكبير من الصفات الثبوتية قريب المعنى من قولنا: المستجمع لصفات الكمال. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} إلخ، الباء في {بِنِعْمَتِ اَللَّهِ} للسببية و ذكر النعمة كالتوطئة لآخر الآية و فيه تلويح إلى وجوب شكره على نعمته لأن شكر المنعم واجب. 

  • و المعنى: أ لم تر أن الفلك تجري و تسير في البحر بسبب نعمة الله و هي أسباب جريانها من الريح و رطوبة الماء و غير ذلك. 

  • و احتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية و المراد بالنعمة ما تحمله السفن من الطعام و سائر أمتعة الحياة. 

  • و قد تمم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} و الصبار الشكور أي كثير الصبر عند الضراء و كثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} إلخ، قال الراغب: الظلة سحابة تظل و أكثر ما يقال فيما يستوخم و يكره، قال: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} {عَذَابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ} انتهى. 

  • و المعنى: و إذا غشيهم و أحاط بهم في البحر موج كقطع السحاب انقطعوا إلى الله و دعوه للنجاة حال كونهم مخلصين له الدين أي و في ذلك دليل على أن فطرتهم على التوحيد. 

  • و قوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} المقتصد سألك القصد أي الطريق المستقيم و المراد به التوحيد الذي دلتهم عليه فطرتهم إذ ذلك، و في التعبير بمن التبعيضية 

تفسير الميزان ج۱٦

238
  • استقلال عدتهم أي فلما نجا الله سبحانه هؤلاء الداعين بالإخلاص إلى البر فقليل منهم المقتصدون. 

  • و قوله: {وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختار مبالغة من الختر و هو شدة الغدر و في السياق دليل على الاستكثار و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ} لما ساق الحجج و المواعظ الشافية الوافية جمعهم في خاتمتها في خطاب عام يدعوهم إلى التقوى و ينذرهم بيوم القيامة الذي لا يغني فيه مغن إلا الإيمان و التقوى. 

  • قال الراغب: الجزاء الغنى و الكفاية، و قال: يقال: غررت فلانا أصبت غرته و نلت منه ما أريد و الغرة غفلة في اليقظة و الغرار غفلة مع غفوة، إلى أن قال: فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و قد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين و بالدنيا لما قيل: الدنيا تغر و تضر و تمر انتهى. 

  • فمعنى الآية: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ} و هو الله سبحانه {وَ اِخْشَوْا يَوْماً} و هو يوم القيامة {لاَ يَجْزِي} لا يغني {وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ} مغن كاف {عَنْ وَالِدِهِ» شَيْئاً «إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ} بالبعث {حَقٌّ} ثابت لا يخلف {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا} بزينتها الغارة {وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ} أي جنس ما يغر الإنسان من شئون الحياة الدنيا أو خصوص الشيطان. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلْأَرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الغيث‌ المطر و معنى جمل الآية ظاهر. 

  • و قد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه و هي العلم بالساعة و هو مما استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه إلا هو و يدل على القصر قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ} و تنزيل الغيث و علم ما في الأرحام و يختصان به تعالى إلا أن يعلمه غيره. 

  • و عد أمرين آخرين يجهل بهما الإنسان و بذلك يجهل كل ما سيجري عليه من الحوادث و هو قوله: {وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً} و قوله: {وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}

تفسير الميزان ج۱٦

239
  • و كان المراد تذكرة أن الله يعلم كل ما دق و جل حتى مثل الساعة التي لا يتيسر علمها للخلق و أنتم تجهلون أهم ما يهمكم من العلم فالله يعلم و أنتم لا تعلمون فإياكم أن تشركوا به و تتمردوا عن أمره و تعرضوا عن دعوته فتهلكوا بجهلكم. 

  • (بحث روائي) 

  • في كمال الدين بإسناده إلى حماد بن أبي زياد قال: سألت سيدي موسى بن جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً} فقال: النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، و الباطنة الإمام الغائب. 

  • أقول: هو من الجري و الآية أعم مدلولا. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن جابر قال: قال رجل عند أبي جعفر (عليه السلام): {وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً} قال: أما النعمة الظاهرة فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما جاء به من معرفة الله عز و جل و توحيده و أما النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت و عقد مودتنا. الحديث. 

  • أقول: هو كسابقه. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} (الآية): و في رواية الضحاك عن ابن عباس قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عنه فقال: يا ابن عباس أما ما ظهر فالإسلام و ما سوى الله من خلقك و ما أفاض عليك من الرزق و أما ما بطن فستر مساوي عملك و لم يفضحك به، يا ابن عباس إن الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهن للمؤمن و لم يكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، و جعلت له ثلث ماله أكفر به عنه خطاياه، و الثالث سترت مساوي عمله و لم أفضحه بشي‌ء منه و لو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم. 

  • أقول: روى ما يقرب منه في الدر المنثور، بطرق عن ابن عباس، و الحديث كسابقيه من الجري. 

  • و في التوحيد بإسناده عن عمر بن أذينة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث: و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه فذلك قوله عز و جل: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ}

تفسير الميزان ج۱٦

240
  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللَّهِ} قال: السفن تجري في البحر بقدرة الله. 

  • و فيه في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال: الذي يصبر على الفقر و الفاقة و يشكر الله عز و جل على جميع أحواله. 

  • و في المجمع في الآية و في الحديث: الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر. 

  • أقول: و هو مأخوذ من الآية فقد مر أنه كناية عن المؤمن. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} قال: الختار الخداع و في قوله: {إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ} قال: ذلك القيامة. 

  • و في إرشاد المفيد: من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل سمعه يذم الدنيا من غير معرفة بما يجب أن يقول في معناها: الدنيا دار صدق لمن صدقها، و دار عافية لمن فهم عنها، و دار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله و مهبط وحيه، و مصلى ملائكته و متجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، و ربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها؟ و قد آذنت ببينها، و نادت بفراقها، و نعت نفسها، فشوقت بسرورها إلى السرور، و حذرت ببلائها البلاء تخويفا و تحذيرا و ترغيبا و ترهيبا. 

  • فيا أيها الذام للدنيا و المغتر بتغريرها متى غرتك؟ أ بمصارع آبائك في البلى أم بمصارع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك و مرضت بيديك تبتغي لهم الشفاء و استوصفت لهم الأطباء، و تلتمس لهم الدواء، لم تنفعهم بطلبك و لم تشفعهم بشفاعتك مثلت بهم الدنيا مصرعك و مضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك و لا تغني عنك أحباؤك. 

  • و في الخصال عن أبي أسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أ لا أخبركم بخمسة لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه؟ قال: قلت: بلى قال: {إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلْأَرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

  • أقول: هناك روايات كثيرة جدا عن النبي و الأئمة (عليه السلام) تخبر عن مستقبل حالهم و عن زمان موتهم و مكانه و هي تقيد هذه الرواية و ما في معناها من الروايات بالتعليم الإلهي لكن بعض الروايات يأبى التقييد و لا يعبأ بأمرها. 

تفسير الميزان ج۱٦

241
  • و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة: أن رجلا يقال له الوراث - من بني مازن بن حفصة بن قيس غيلان جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد، متى تقوم الساعة؟ و قد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ و قد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ و قد علمت ما كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا؟ و قد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية. 

  • أقول: الحديث لا يخلو من شي‌ء لعدم انطباق الآية على فقرات السؤال. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: لم يعم على نبيكم (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا الخمس من سرائر الغيب - هذه الآية في آخر لقمان إلى آخر السورة. 

تفسير الميزان ج۱٦

242
  • (٣٢) (سورة السجدة مكية، و هي ثلاثون آية) (٣٠) 

  • [سورة السجده (٣٢): الآیات ١ الی ١٤]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٢ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٣ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ٤ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ٥ ذَلِكَ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٦ اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ٨ ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ٩ وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ١٠قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ١١ وَ لَوْ تَرى‌ إِذِ 

تفسير الميزان ج۱٦

243
  • اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ١٢ وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١٣ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٤} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة تقرير المبدإ و المعاد و إقامة الحجة عليهما و دفع ما يختلج القلوب في ذلك مع إشارة إلى النبوة و الكتاب ثم بيان ما يتميز به الفريقان المؤمنون بآيات الله حقا و الفاسقون الخارجون عن زي العبودية و وعد أولئك بما هو فوق تصور المتصورين من الثواب و وعيد هؤلاء بالانتقام الشديد بأليم العذاب المخلد و أنهم سيذوقون عذابا أدنى دون العذاب الأكبر، و تختتم السورة بتأكيد الوعيد و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالانتظار كما هم منتظرون. 

  • و هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت كما قيل بالمدينة و هي قوله تعالى: {أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً} إلى تمام ثلاث آيات. 

  • و الذي أوردناه من آياتها يتضمن الفصل الأول من فصلي غرض السورة الذي أشرنا إليه. 

  • قوله تعالى{تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}، أي هذا تنزيل الكتاب، و التنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول و إضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف، و المعنى: هذا هو الكتاب المنزل لا ريب فيه. 

  • و قوله: {مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} فيه براعة استهلال لما في غرض السورة أن يتعاطى بيانه من الوحدانية و المعاد اللذين ينكرهما الوثنية لما مر مرارا أنهم لا يقولون برب 

تفسير الميزان ج۱٦

244
  • العالمين بل يثبتون لكل عالم إلها و لمجموع الآلهة إلها هو الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا. 

  • قوله تعالى{أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} إلخ، أم منقطعة، و المعنى: بل يقولون افترى القرآن على الله و ليس من عنده فرده بقوله: {بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ} إلخ. 

  • و قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} قيل: يعني قريشا فإنهم لم يأتهم نبي قبله (صلى الله عليه وآله و سلم) بخلاف غيرهم من قبائل العرب فإنهم أتاهم بعض الأنبياء كخالد بن سنان العبسي و حنظلة على ما في الروايات. 

  • و قيل: المراد به أهل الفترة بين عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فكانوا كأنهم في غفلة عما لزمهم من حق نعم الله و ما خلقهم له من العبادة و فيه أن معنى الفترة هو عدم انبعاث نبي له شريعة و كتاب و أما الفترة عن مطلق النبوة فلا نسلم تحققها و خلو جميع الزمان و هو قريب من ستة قرون من النبي مطلقا. 

  • و قوله: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} غاية رجائية لإرسال الرسول و الترجي قائم بالمقام أو بالمخاطب دون المتكلم كما تقدم في نظائره. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} إلى قوله {أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} تقدم الكلام في تفسير قوله: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ} في نظائره من الآيات و تقدم أيضا أن الاستواء على العرش كناية عن مقام تدبير الموجودات بنظام عام إجمالي يحكم على الجميع و لذا اتبع العرش في أغلب ما وقع فيه من الموارد بما فيه معنى التدبير كقوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ}: الأعراف: ٥٤ و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ}: يونس: ٣ و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ}: الحديد: ٤ و قوله: {ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: البروج: ١٦. 

  • و الوجه في ذكر الاستواء على العرش، بعد ذكر خلق السماوات و الأرض أن الكلام في اختصاص الربوبية و الألوهية بالله وحده و مجرد استناد الخلقة إليه تعالى لا ينفع في إبطال ما يقول به الوثنية شيئا فإنهم لا ينكرون استناد الخلقة إليه وحده و إنما يقولون باستناد التدبير و هو الربوبية للعالم إلى آلهتهم ثم اختصاص الألوهية و هي المعبودية بآلهتهم و لله تعالى من الشأن أنه رب الأرباب و إله الآلهة. 

تفسير الميزان ج۱٦

245
  • فكان من الواجب عند إقامة الحجة لإبطال قولهم إن يذكر أمر الخلقة ثم يتعقب بأمر التدبير لمكان تلازمهما و عدم انفكاك أحدهما من الآخر حتى يكون موجد الأشياء و خالقها هو الذي يربها و يدبر أمرها فيكون ربا وحده و إلها وحده كما أنه موجد خالق وحده. 

  • و لذلك بعينه ذكر أمر التدبير بعد ذكر الخلقة في الآية التي نحن فيها إذ قيل: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ} فالولاية و الشفاعة كالاستواء على العرش من شئون التدبير. 

  • و قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ} الولي‌ هو الذي يملك تدبير أمر الشي‌ء و من المعلوم أن أمورنا و الشئون التي تقوم به حياتنا قائمة بالوجود محكومة مدبرة للنظام العام الحاكم في الأشياء عامة و ما يخص بنا من نظام خاص، و النظام أيا ما كان من لوازم خصوصيات خلق الأشياء و الخلقة كيفما كانت مستندة إليه تعالى فهو تعالى ولينا القائم بأمرنا المدبر لشئوننا و أمورنا، كما هو ولي كل شي‌ء كذلك وحده لا شريك له. 

  • و الشفيع على ما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب هو الذي ينضم إلى سبب ناقص فيتمم سببيته و تأثيره، و الشفاعة تتميم السبب الناقص في تأثيره و إذا طبقناها على الأسباب و المسببات الخارجية كانت أجزاء الأسباب المركبة و شرائطها بعضها شفيعا لبعض لتتميم حصة من الأثر منسوبة إليه كما أن كلا من السحاب و المطر و الشمس و الظل و غيرها شفيع للنبات. 

  • و إذ كان موجد الأسباب و أجزائها و الرابط بينها و بين المسببات هو الله سبحانه فهو الشفيع بالحقيقة الذي يتمم نقصها و يقيم صلبها فالله سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره. 

  • و ببيان آخر أدق قد تقدم في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن أسماءه تعالى الحسنى وسائط بينه و بين خلقه في إيصال الفيض إليهم فهو تعالى يرزقهم مثلا بما أنه رازق جواد غني رحيم و يشفي المريض بما أنه شاف معاف رءوف رحيم و يهلك الظالمين بما أنه شديد البطش ذو انتقام عزيز و هكذا. 

تفسير الميزان ج۱٦

246
  • فما من شي‌ء من المخلوقات المركبة الوجود إلا و يتوسط لوجوده عدة من الأسماء الحسنى بعضها فوق بعض و بعضها في عرض بعض و كل ما هو أخص منها يتوسط بين الشي‌ء و بين الأعم منها كما أن الشافي يتوسط بين المريض و بين الرءوف الرحيم و الرحيم يتوسط بينه و بين القدير و هكذا. 

  • و التوسط المذكور في الحقيقة تتميم لتأثير السبب فيه و إن شئت فقل هو تقريب للشي‌ء من السبب لفعلية تأثيره و ينتج منه أنه تعالى شفيع ببعض أسمائه عند بعض فهو الشفيع ليس من دونه شفيع في الحقيقة فافهم. 

  • و قد تبين بما مر أن لا إشكال في إطلاق الشفيع عليه تعالى بمعنى كونه شفيعا بنفسه عند نفسه و حقيقته توسط صفة من صفاته الكريمة بين الشي‌ء و صفة من صفاته كما يستعاذ من سخطه إلى رحمته و من عدله إلى فضله، و أما كونه تعالى شفيعا بمعنى شفاعته لشي‌ء عند غيره فهو مما لا يجوز البتة. 

  • و القوم لتقريبهم إشكال إطلاق الشفيع عليه تعالى على المعنى الثاني أي بمعنى كونه شفيعا عند غيره اختلفوا في تفسير الآية على أقوال: 

  • فقال بعضهم: إن دون في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ شَفِيعٍ} بمعنى عند و {مِنْ دُونِهِ} حال من ضمير {لَكُمْ} و المعنى: ما لكم حال كونكم مجاوزين دونه و من عند ولي و لا شفيع أي لا ولي لكم و لا شفيع ففيه نفي الولي و الشفيع لهم عند الله. 

  • و فيه أن دون و إن صح كونه بمعنى عند لكن وجود {مِنْ} قرينة على أنه بمعنى غير، و لا معنى لأخذ المجاوزة و رجوع {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ} إلى معنى «ما لكم عنده». 

  • و قال بعضهم: إن الشفيع في الآية بمعنى الناصر مجازا و دون بمعنى غير و {مِنْ دُونِهِ} حال من {وَلِيٍّ} و المعنى: ما لكم ولي و لا ناصر غيره، و فيه أنه تجوز من غير موجب. 

  • و قال بعضهم إن إطلاق الشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم: هؤلاء شفعاؤنا و يزعمون أن كل واحد منهم شفيع لهم و المعنى: على هذا لو فرض و قدر أن الإله ولي شفيع ما لكم ولي و لا شفيع غير الله سبحانه. 

تفسير الميزان ج۱٦

247
  • و قال بعضهم: إن دون بمعنى عند و الضمير في {مِنْ دُونِهِ} للعذاب، و المعنى: ليس لكم من دون عذابه ولي، أي قريب ينفعكم و يرد عذابه عنكم و لا شفيع يشفع لكم. 

  • و فيه أن إرجاع الضمير إلى العذاب تحكم من غير دليل، و يرد على جميع هذه الوجوه أنها تكلفات ناشئة من أخذ الشفيع غير المشفوع عنده و قد عرفت أن المعنى تحليلي و الشفيع و المشفوع عنده واحد. 

  • و قوله: {أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} استفهام توبيخي يوبخهم على استمرارهم على الإعراض عن أدلة العقول حتى يتذكروا أن الملك و التدبير لله سبحانه و هو المعبود بالحق ليس لهم دونه ولي و لا شفيع كما يزعمون ذلك لآلهتهم. 

  • قوله تعالى{يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} تتميم لبيان أن تدبير أمر الموجودات قائم به سبحانه و هذا هو القرينة على أن المراد بالأمر في الآية الشأن دون الأمر المقابل للنهي. 

  • و التدبير وضع الشي‌ء في دابر الشي‌ء و الإتيان بالأمر بعد الأمر فيرجع إلى إظهار وجود الحوادث واحدا بعد واحد كالسلسلة المتصلة بين السماء و الأرض و قد قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}: الحجر: ٢١ و قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}: القمر: ٤٩. 

  • و قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} بعد قوله: {يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ} لا يخلو من إشعار بأن {يُدَبِّرُ} مضمن معنى التنزيل و المعنى: يدبر الأمر منزلا أو ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض و لعله الأمر الذي يشير إليه قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‌ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}: حم السجدة: ١٢. 

  • و في قوله: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ} إشعار بأن المراد بالسماء مقام القرب الذي تنتهي إليه أزمة الأمور دون السماء بمعنى جهة العلو أو ناحية من نواحي العالم الجسماني فإن الأمر قد وصف قبل العروج بالنزول فظاهر العروج أنه صعود من الطريق التي نزل منها، و لم يذكر هناك إلا علو هو السماء، و سفل هو الأرض و نزول و عروج فالنزول من السماء و العروج إلى الله يشعر بأن السماء هو مقام الحضور الذي يصدر منه تدبير 

تفسير الميزان ج۱٦

248
  • الأمر أو أن موطن تدبير الأمر الأرضي هو السماء و الله المحيط بكل شي‌ء ينزل التدبير الأرضي من هذا الموطن، و لعل هذا هو الأقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله: {وَ أَوْحى‌ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}

  • و قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} معناه على أي حال أنه في ظرف لو طبق على ما في الأرض من زمان الحوادث و مقدار حركتها انطبق على ألف سنة مما نعده فإن من المسلم أن الزمان الذي يقدره ما نعده من الليل و النهار و الشهور و السنين لا يتجاوز العالم الأرضي. 

  • و إذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب و الحضور و هو مما لا سبيل للزمان إليه كان المراد أنه وعاء لو طبق على مقدار حركة الحوادث في الأرض كان مقداره ألف سنة مما تعدون. 

  • و أما أن هذا المقدار هل هو مقدار النزول و اللبث و العروج أو مقدار مجموع النزول و العروج دون اللبث أو مقدار كل واحد من النزول و العروج أو مقدار نفس العروج فقط بناء على أن {فِي يَوْمٍ} قيد لقوله: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ} فقط كما وقع في قوله: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}: المعارج: ٤. 

  • ثم على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى الله أو العروج يوم القيامة و هو مقدار يوم القيامة، و أما كونه خمسين ألف سنة فهو بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقة أو أن الألف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة و هو خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة. 

  • ثم المراد بقوله: {مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرد التكثير كما في قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}: البقرة: ٩٦ أي يعمر عمرا طويلا جدا و إن كان هذا الاحتمال بعيدا من السياق. 

  • و الآية كما ترى تحتمل الاحتمالات جميعا و لكل منها وجه و الأقرب من بينها إلى الذهن كون {فِي يَوْمٍ} قيدا لقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} و كون المراد بيوم عروج الأمر مشهدا من خمسين مشهدا من مشاهد يوم القيامة، و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ} تقدم تفسير مفردات الآية، و مناسبة الأسماء الثلاثة الكريمة للمقام ظاهرة. 

تفسير الميزان ج۱٦

249
  • قوله تعالى{اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} قال الراغب: الحسن‌ عبارة عن كل مبهج بصيغة الفاعل مرغوب فيه و ذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل و مستحسن من جهة الهوى و مستحسن من جهة الحس. انتهى. و هذا تعريف له من جهة خاصته و انقسامه بانقسام الإدراكات الإنسانية. 

  • و حقيقته ملاءمة أجزاء الشي‌ء بعضها لبعض و المجموع للغرض و الغاية الخارجة منه فحسن الوجه تلاؤم أجزائه من العين و الحاجب و الأنف و الفم و غيرها، و حسن العدل ملاءمته للغرض من الاجتماع المدني و هو نيل كل ذي حق حقه، و هكذا. 

  • و التدبر في خلقة الأشياء و كل منها في نفسه متلائم الأجزاء بعضها لبعض و المجموع من وجوده مجهز بما يلائم كماله و سعادته تجهيزا لا أتم و لا أكمل منه يعطي أن كلا منها حسن في نفسه حسنا لا أتم و أكمل منه بالنظر إلى نفسه. 

  • و أما ما نرى من المساءة و القبح في الأشياء فلأحد أمرين: إما لكون الشي‌ء السيئ ذا عنوان عدمي يعود إليه المساءة لا لوجوده في نفسه كالظلم و الزنا فإن الظلم ليس بسيئ قبيح بما أنه فعل من الأفعال بل بما أنه مبطل لحق ثابت و الزنا ليس بسيئ قبيح من جهة نفس العمل الخارجي الذي هو مشترك بينه و بين النكاح بل بما أن فيه مخالفة للنهي الشرعي أو للمصلحة الاجتماعية. 

  • أو بقياسه إلى شي‌ء آخر فيعرضه المساءة و القبح من طريق المقايسة كقياس الحنظل إلى البطيخ و قياس الشوك إلى الورد و قياس العقرب إلى الإنسان فإن المساءة إنما تطرأ هذه الأشياء من طريق القياس إلى مقابلاتها ثم قياسها إلى طبعنا، و يرجع هذا الوجه من المساءة إلى الوجه الأول بالحقيقة. 

  • و كيف كان فالشي‌ء بما أنه موجود مخلوق لا يتصف بالمساءة و يدل عليه الآية {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} إذا انضم إلى قوله: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ}: الزمر: ٦٢ فينتجان أولا: أن الخلقة تلازم الحسن فكل مخلوق حسن من حيث هو مخلوق. 

  • و ثانيا: أن كل سيئ و قبيح ليس بمخلوق من حيث هو سيئ قبيح كالمعاصي و السيئات من حيث هي معاص و سيئات و الأشياء السيئة من جهة القياس. 

  • قوله تعالى{وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} المراد بالإنسان النوع فالمبدو خلقه 

تفسير الميزان ج۱٦

250
  • من طين هو النوع الذي ينتهي أفراده إلى من خلق من طين من غير تناسل من أب و أم كآدم و زوجه (عليه السلام)، و الدليل على ذلك قوله بعده: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلوق من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حق الكلام أن يقال: ثم جعله سلالة من ماء مهين فافهمه. 

  • و قوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} السلالة كما في المجمع، الصفوة التي تنسل أي تنزع من غيرها و يسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه، و المهين‌ من الهون و هو الضعف و الحقارة و ثم للتراخي الزماني. 

  • و المعنى: ثم جعل ولادته بطريق الانفصال من صفوة من ماء ضعيف أو حقير. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} التسوية التصوير و تتميم العمل، و في قوله: {نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} استعارة بالكناية بتشبيه الروح بالنفس الذي يتنفس به ثم نفخة في قالب من سواه، و إضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريفية، و المعنى: ثم صور الإنسان المبدو خلقه من الطين و المجعول نسله من سلالة من ماء مهين و نفخ فيه من روح شريف منسوب إليه تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} امتنان بنعمة الإدراك الحسي و الفكري فالسمع و البصر للمحسوسات و القلوب للفكريات أعم من الإدراكات الجزئية الخيالية و الكلية العقلية. 

  • و قوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي تشكرون شكرا قليلا، و الجملة اعتراضية في محل التوبيخ و قيل: الجملة حالية، و المعنى: جعل لكم الأبصار و الأفئدة و الحال أنكم تشكرون قليلا، و الجملة على أي حال مسوقة للبث و الشكوى و التوبيخ. 

  • و الالتفات في قوله: {وَ جَعَلَ لَكُمُ} إلخ، من الغيبة إلى خطاب الجمع لتسجيل أن الإنعام الإلهي الشامل للجميع يربو على شكرهم فهم قاصرون أو أكثرهم مقصرون. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} حجة من منكري البعث مبنية على الاستبعاد. و الضلال في الأرض قيل: هو الضيعة كما يقال: ضلت النعمة أي ضاعت، و قيل: هو بمعنى الغيبة، و كيف 

تفسير الميزان ج۱٦

251
  • كان فمرادهم به أ إنا إذا متنا و انتشرت أجزاء أبداننا في الأرض و صرنا بحيث لا تميز لأجزائنا من سائر أجزاء الأرض و لا خبر عنا نقع في خلق جديد و نخلق ثانيا خلقنا الأول؟ 

  • و الاستفهام للإنكار، و الخلق الجديد هو البعث. 

  • و قوله: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} إضراب عن فحوى قولهم: {أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ} كأنه قيل: إنهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع إلينا و لقائنا و لذا جي‌ء في الجواب عن قولهم بما يدل على الرجوع. 

  • قوله تعالى{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} توفي الشي‌ء أخذه تاما كاملا كتوفي الحق و توفي الدين من المديون. 

  • و قوله: {مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} قيل: أي وكل بإماتتكم و قبض أرواحكم و الآية مطلقة ظاهرة في أعم من ذلك. 

  • و قد نسب التوفي في الآية إلى ملك الموت، و في قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}: الزمر: ٤٢ إليه تعالى، و في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}: الأنعام: ٦١ و قوله: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}: النحل: ٢٨ إلى الرسل و الملائكة نظرا إلى اختلاف مراتب الأسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت و فوقهم ملك الموت الآمر بذلك المجرى لأمر الله و الله من ورائهم محيط و هو السبب الأعلى و مسبب الأسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الإنسان بالقلم فالقلم كاتب و اليد كاتبة و الإنسان كاتب. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} هو الرجوع الذي عبر عنه في الآية السابقة باللقاء و موطنه البعث المترتب على التوفي و المتراخي عنه، كما يدل عليه العطف بثم الدالة على التراخي. 

  • و الآية - على أي تقدير جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الأرض على نفي البعث و من المعلوم أن إماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادة الإشكال فيبقى قوله: {ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدللة و الكلام 

تفسير الميزان ج۱٦

252
  • الإلهي أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجة. 

  • لكنه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنية على الاستبعاد بأن حقيقة الموت ليس بطلانا لكم و ضلالا منكم في الأرض بل ملك الموت الموكل بكم يأخذكم تامين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان و أرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعني بلفظة «كم» محفوظون لا يضل منكم شي‌ء في الأرض و إنما يضل الأبدان و تتغير من حال إلى حال و قد كانت في معرض التغير من أول كينونتها. ثم إنكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث و رجوع الأرواح إلى أجسادها. 

  • و بهذا يندفع حجتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء قررت على نحو الاستبعاد أو قررت على أن تلاشي البدن يبطل شخصية الإنسان فينعدم و لا معنى لإعادة المعدوم فإن حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها بقول «أنا» و هي غير البدن و البدن تابع لها في شخصيته و هي لا تتلاشى بالموت و لا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب و الجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه. 

  • و ظهر بما تقدم أولا وجه اتصال قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ} إلخ بقوله: {أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ و أنه جواب حاسم للإشكال قاطع للشبهة، و قد أشكل الأمر على بعض من فسر التوفي بمطلق الإماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفي فتكلف في توجيه اتصال الآيتين بما لا يرتضيه العقل السليم. 

  • و ثانيا: أن الآية من أوضح الآيات القرآنية الدالة على تجرد النفس بمعنى كونها غير البدن أو شي‌ء من حالات البدن. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} نكس‌ الرأس إطراقه و طأطأته، و المراد بالمجرمين بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد أي هؤلاء الذين يجحدون المعاد و يقولون: {أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ. 

  • و في التعبير عن البعث بقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} محاذاة لما تقدم من قوله: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي واقفون موقفا من اللقاء لا يسعهم إنكاره، و قولهم: {أَبْصَرْنَا 

تفسير الميزان ج۱٦

253
  • وَ سَمِعْنَا} و مسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلي لهم أن النجاة في الإيمان و العمل الصالح و قد حصل لهم الإيمان اليقيني و بقي العمل الصالح و لذا يعترفون باليقين و يسألون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيتم لهم سببا النجاة. 

  • و المعنى: و لو ترى إذ هؤلاء الذين يجرمون بإنكار لقاء الله مطرقوا رءوسهم عند ربهم في موقف اللقاء من الخزي و الذل و الندم يقولون ربنا أبصرنا بالمشاهدة و سمعنا بالطاعة فارجعنا نعمل عملا صالحا إنا موقنون و المحصل أنك تراهم يجحدون اللقاء و لو تراهم إذ أحاط بهم الخزي و الذل فنكسوا رءوسهم و اعترفوا بما ينكرونه اليوم و سألوا العود إلى هاهنا و لن يعودوا. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخر الآية أي لو شئنا أن نعطي كل نفس أعم من المؤمنة و الكافرة الهدى الذي يختص بها و يناسبها لأعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر و إرادته أن يتلبس بالهدى فيتلبس بها من طريق الاختيار و الإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبس بالهدى باختيار منه و إرادة من دون أن ينجر إلى الإلجاء و الاضطرار فيبطل التكليف و يلغو الجزاء. 

  • و قوله: {وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي و لكن هناك قضاء سابق مني محتوم و هو إملاء جهنم من الجنة و الناس أجمعين و هو قوله لإبليس لما امتنع من سجدة آدم و قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} ... {فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}: ص: ٨٥ فقضى أن يدخل متبعي إبليس العذاب المخلد. 

  • و لازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم و فسقهم بالخروج عن زي العبودية كما قال: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ}: التوبة: ٨٠إلى غير ذلك من الآيات. 

  • قوله تعالى{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} إلى آخر الآية، تفريع على قوله: {وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي} و النسيان‌ ذهول صورة الشي‌ء عن الذاكرة و يكنى به عن عدم الاعتناء بما يهم الشي‌ء و هو المراد في الآية. 

  • و المعنى: فإذا كان من القضاء إذاقة العذاب لمتبعي إبليس فذوقوا العذاب بسبب 

تفسير الميزان ج۱٦

254
  • عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتى جحدتموه و لم تعملوا صالحا تثابون به فيه لأنا لم نعتن بما يهمكم في هذا اليوم من السعادة و النجاة، و قوله: {وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تأكيد و توضيح لسابقه أي إن الذوق الذي أمرنا به ذوق عذاب الخلد و نسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيئة. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات {أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً} إلى تمام الآيات الثلاث. 

  • و فيه أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة عن علي قال: عزائم سجود القرآن الم تنزيل السجدة، و حم تنزيل السجدة، و النجم، و اقرأ باسم ربك الذي خلق. 

  • و في الخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العزائم أربع: اقرأ باسم ربك الذي خلق، و النجم، و تنزيل السجدة، و حم السجدة. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و الطبراني عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رجلا قد أسبل إزاره فقال له: ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي. قال: ارفع إزارك كل خلق الله حسن. 

  • و في الفقيه: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} و عن قول الله عز و جل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} و عن قول الله عز و جل: {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ} و {اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} و عن قول الله عز و جل: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} و عن قوله عز و جل: {وَ لَوْ تَرى‌ إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلاَئِكَةُ} و قد يموت في الدنيا في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلا الله عز و جل، فكيف هذا؟ 

  • فقال: إن الله تبارك و تعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه فيتوفاهم الملائكة و يتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، و يتوفاها الله تعالى من ملك الموت. 

تفسير الميزان ج۱٦

255
  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عند رأسه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق. 

  • و اعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول: و الله ما لي من ذنب و إن لي لعودة و عودة الحذر الحذر و ما خلق الله من أهل بيت و لا مدر و لا شعر و لا وبر في بر و لا بحر إلا و أنا أتصفحهم في كل يوم و ليلة خمس مرات -حتى إني لأعرف بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم. و الله يا محمد إني لا أقدر أن أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك و تعالى هو الذي يأمر بقبضه. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} قال: لو شئنا أن نجعلهم كلهم معصومين لقدرنا. 

  • أقول: العصمة لا تنافي الاختيار فلا تنافي بين مضمون الرواية و ما قدمناه في تفسير الآية. 

  • (كلام في كينونة الإنسان الأولي) 

  • تقدم في تفسير أول سورة النساء كلام في هذا المعنى و كلامنا هذا كالتكملة له. 

  • قدمنا هناك أن الآيات القرآنية ظاهرة ظهورا قريبا من الصراحة في أن البشر الموجودين اليوم و نحن منهم ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل و امرأة بعينهما و قد سمي الرجل في القرآن بآدم و هما غير متكونين من أب و أم بل مخلوقان من تراب أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن. 

  • فهذا هو الذي يفيده الآيات ظهورا معتدا به و إن لم تكن نصة صريحة لا تقبل التأويل و لا المسألة من ضروريات الدين نعم يمكن عد انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريا من القرآن و أما أن آدم هذا هل أريد به آدم النوعي أعني الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص أو عدة معدودة من الأفراد هم أصول النسب و الآباء و الأمهات الأولية أو فرد إنساني واحد بالشخص؟ 

تفسير الميزان ج۱٦

256
  • و على هذا التقدير هل هو فرد من نوع الإنسان تولد من نوع آخر كالقردة مثلا على طريق تطور الأنواع و ظهور الأكمل من الكامل و الكامل من الناقص و هكذا أو هو فرد من الإنسان كامل بالكمال الفكري تولد من زوج من الإنسان غير المجهز بجهاز التعقل فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهز بالتعقل القابل للتكليف و انفصاله من النوع غير المجهز بذلك فالبشر الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يسمى بآدم، و ينشعب هذا النوع الكامل بالتولد تطورا من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقل و هو يسير القهقرى في أنواع حيوانية مترتبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزا و أنقصها كمالا و إن أخذنا من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل و من كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقل ثم إلى الإنسان الكامل كل ذلك في سلسلة نسبية متصلة مؤلفة من آباء و أعقاب. 

  • أو أن سلسلة التوالد و التناسل تنقطع بالاتصال بآدم و زوجه و هما متكونان من الأرض من غير تولد من أب و أم فليس شي‌ء من هذه الصور ضروريا. 

  • و كيف كان فظاهر الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة و هي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه المتكونين من الأرض من غير أب و أم. 

  • غير أن الآيات لم تبين كيفية خلق آدم من الأرض و أنه هل عملت في خلقه علل و عوامل خارقة للعادة؟ و هل تمت خلقته بتكوين إلهي آني من غير مهل فتبدل الجسد المصنوع من طين بدنا عاديا ذا روح إنساني أو أنه عاد إنسانا تاما كاملا في أزمنة معتد بها يتبدل عليه فيها استعداد بعد استعداد و صورة و شكل بعد صورة و شكل حتى تم الاستعداد فنفخ فيه الروح و بالجملة اجتمعت عليه من العلل و الشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم. 

  • و من أوضح الدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: آل عمران: ٥٩ فإن الآية نزلت جوابا عن احتجاج النصارى على بنوة عيسى بأنه ولد من غير أب بشري و لا ولد إلا بوالد فأبوه هو الله سبحانه، فرد في الآية بما محصله أن صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم 

تفسير الميزان ج۱٦

257
  • الأرض بغير والد يولده فلم لا يقولون بأن آدم ابن الله؟ 

  • و لو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته كسائر المتكونين من النطف إلى الأرض كان المعنى: أن صفة عيسى و لا أب له كمثل آدم حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض، و من المعلوم أن لا خصوصية لآدم على هذا المعنى حتى يؤخذ و يقاس إليه عيسى فيفسد معنى الآية في نفسه و من حيث الاحتجاج به على النصارى. 

  • و بهذا يظهر دلالة جميع الآيات الدالة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك، على المطلوب كقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ}: ص: ٧١ و قوله: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}: الم السجدة: ٧. 

  • و أما قول من قال: إن المراد بآدم هو آدم النوعي دون الشخصي بمعنى الطبيعة الإنسانية الخارجية الفاشية في الأفراد، و المراد ببنوة الأفراد له تكثر الأشخاص منه بانضمام القيود إليه و قصة دخوله الجنة و إخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييلي لمكانته في نفسه و وقوفه موقف القرب ثم كونه في معرض الهبوط باتباع الهوى و طاعة إبليس. 

  • ففيه أنه مدفوع بالآية السابقة و ظواهر كثير من الآيات كقوله: {اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً}: النساء: ١ فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي لم يبق لفرض الزوج لها محل و نظير الآية الآيات التي تفيد أن الله أدخله و زوجه الجنة و أنه و زوجه عصيا الله بالأكل من الشجرة. 

  • على أن أصل القول بآدم النوعي مبني على قدم الأرض و الأنواع المتأصلة و منها الإنسان و أن أفراده غير متناهية من الجانبين و الأصول العلمية تبطل ذلك بتاتا. 

  • و أما القول بكون النسل منتهيا إلى أفراد معدودين كأربعة أزواج مختلفين ببياض اللون و سواده و حمرته و صفرته أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة و بعضهم بالدنيا الحديثة و الأراضي المكشوفة أخيرا و فيها بشر قاطنون كإمريكا و أستراليا. 

  • فمدفوع بجميع الآيات الدالة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه فإن المراد بآدم فيها إما شخص واحد إنساني و إما الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأفراد و هو آدم 

تفسير الميزان ج۱٦

258
  • النوعي و أما الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك البتة. 

  • على أنه مبني على تباين الأصناف الأربعة من الإنسان: البيض و السود و الحمر و الصفر و كون كل من هذه الأصناف نوعا برأسه ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر أو كون قارات الأرض منفصلا بعضها عن بعض انفصالا أبديا غير مسبوق بالعدم، و قد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلانا كاد يلحقها بالبديهيات. 

  • و أما القول بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصلا أو انفصلوا من نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه كالقرد مثلا انفصال الأكمل من الكامل تطورا. 

  • ففيه أن الآيات السابقة الدالة على خلق الإنسان الأول من تراب من غير أب و أم تدفعه. 

  • على أن ما أقيم عليه من الحجة العلمية قاصر عن إثباته كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي. 

  • و أما القول بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكري من طريق التولد ثم انشعابهما و انفصالهما بالتطور من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكري ثم انقراض الأصل و بقاء الفرع المتولد منهما على قاعدة تنازع البقاء و انتخاب الأصلح. 

  • فيدفعه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} على التقريب المتقدم و ما في معناه من الآيات. 

  • على أن الحجة التي أقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته فإنها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقي و أجنة الحيوان و الآثار الحفرية الدالة على التغير التدريجي في صفات الأنواع و أعضائها و ظهور الحيوان تدريجا آخذا من الناقص إلى الكامل و خلق ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشد تركيبا. 

  • و فيه أن ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيوية بعد الناقص زمانا لا يدل على أزيد من تدرج المادة في استكمالها لقبول الصور الحيوانية المختلفة فهي قد استعدت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة و الشريفة بعد الخسيسة و أما كون الكامل من الحيوان منشعبا من الناقص بالتولد و الاتصال النسبي فلا و لم يعثر هذا الفحص و البحث على غزارته و طول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرع نوع آخر على أن 

تفسير الميزان ج۱٦

259
  • يقف على نفس التولد دون الفرد و الفرد. 

  • و ما وجد منها شاهدا على التغير التدريجي فإنما هو تغير في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة أخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته و المدعى خلاف ذلك. 

  • فالذي يتسلم أن نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال و النقص و الشرف و الخسة و أعلى مراتبها الحياة الإنسانية ثم ما يليها ثم الأمثل فالأمثل و أما أن ذلك من طريق تبدل كل نوع مما يجاوره من النوع الأكمل، فلا يفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج. 

  • نعم يوجب حدسا ما غير يقيني بذلك فالقول بتبدل الأنواع بالتطور فرضية حدسية تبتني عليها العلوم الطبيعية اليوم و من الممكن أن يتغير يوما إلى خلافها بتقدم العلوم و توسع الأبحاث. 

  • و ربما استدل على هذا القول بقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفىَ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ}: آل عمران: ٣٣ بتقريب أن الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشي‌ء و إنما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يختار المصطفى من بينهم و يؤثر عليهم كما اصطفي كل من نوح و آل إبراهيم و آل عمران من بين قومهم و لازم ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيصطفى من بينهم عليهم، و ليس إلا البشر الأولي غير المجهز بجهاز التعقل فاصطفي آدم من بينهم فجهز بالعقل فانتقل من مرتبة نوعيتهم إلى مرتبة الإنسان المجهز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم ثم نسل و كثر نسله و انقرض الإنسان الأولي الناقص. 

  • و فيه أن {اَلْعَالَمِينَ} في الآية جمع محلى باللام و هو يفيد العموم و يصدق على عامة البشر إلى يوم القيامة فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم كمثل قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فما المانع من كون آدم مصطفى مختارا من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟ 

  • و على تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم ما هو المانع من كونه مصطفى مختارا من بين أولاده المعاصرين له و لا دلالة في الآية على كون اصطفائه أول خلقته قبل ولادة أولاده. 

تفسير الميزان ج۱٦

260
  • على أن اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأولي كما يذكره المستدل كان ذلك بما أنه مجهز بالعقل و كان ذلك مشتركا بينه و بين بني آدم جميعا على الإنسان الأولي فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصا من غير مخصص. 

  • و ربما استدل بقوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} (الآية): الأعراف: ١١ بناء على أن «ثم» تدل على التراخي الزماني فقد كان للنوع الإنساني وجود قبل خلق آدم و أمر الملائكة بالسجدة له. 

  • و فيه أن {ثُمَّ} في الآية للترتيب الكلامي و هو كثير الورود في كلامه تعالى على أن هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب. 

  • و ربما استدل بقوله: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} الآيات و تقريبه أن الآية الأولى المتعرضة لأول خلق الإنسان تذكر خلقته الأولية من تراب التي يشترك فيها جميع الأفراد، و الآية الثالثة تذكر تسويته و نفخ الروح فيه و بالجملة كماله الإنساني و العطف بثم تدل على توسط زمان معتد به بين أول خلقته من تراب و بين ظهوره بكماله. 

  • و ليس هذا الزمان المتوسط إلا زمان توسط الأنواع الأخر التي تنتهي بتغيرها التدريجي إلى الإنسان الكامل و خاصة بالنظر إلى تنكر {سُلاَلَةٍ} المفيد للعموم. 

  • و فيه أن قوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ} عطف على قوله {بَدَأَ} و الآيات في مقام بيان ظهور النوع الإنساني بالخلق و أن بدأ خلقه و هو خلقه و هو خلق آدم كان من طين ثم بدل سلالة من ماء في ظهور أولاده، ثم تمت الخلقة سواء كان فيه أو في أولاده بالتسوية و نفخ الروح. 

  • و هذا معنى صحيح يقبل الانطباق على اللفظ و لا يلزم منه حمل قوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} على أنواع متوسطة بين الخلق من الطين و بين التسوية و نفخ الروح، و كون {سُلاَلَةٍ} نكرة لا يستلزم العموم فإن إفادة النكرة للعموم إنما هو فيما إذا وقعت في سياق النفي دون الإثبات. 

  • و قد استدل بآيات أخر مربوطة بخلقه الإنسان و آدم بنحو مما مر يعلم الجواب عنها بما قدمناه فلا موجب لنقلها و إطالة الكلام بالجواب عنها. 

تفسير الميزان ج۱٦

261
  • [سورة السجده (٣٢): الآیات ١٥ الی ٣٠]

  • {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ١٥ تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ١٦ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٧ أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ ١٨ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ اَلْمَأْوى‌ نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٩ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢٠وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْأَدْنى‌ دُونَ اَلْعَذَابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٢١ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ٢٢ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٢٣ وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٢٥ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَ فَلاَ يَسْمَعُونَ ٢٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ اَلْمَاءَ 

تفسير الميزان ج۱٦

262
  • إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلاَ يُبْصِرُونَ ٢٧ وَ يَقُولُونَ مَتى‌ هَذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٨ قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ٢٩ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ٣٠} 

  • (بيان) 

  • الآيات تفرق بين المؤمنين بحقيقة معنى الإيمان و بين الفاسقين و الظالمين و تذكر لكل ما يلزمه من الآثار و التبعات ثم تنذر الظالمين بعذاب الدنيا و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بانتظار الفتح و عند ذلك تختم السورة. 

  • قوله تعالى{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لما ذكر شطرا من الكلام في الكفار الذين يجحدون لقاءه و يستكبرون في الدنيا عن الإيمان و العمل الصالح أخذ في صفة الذين يؤمنون بآيات ربهم و يخضعون للحق لما ذكروا و وعظوا. 

  • فقوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} حصر للإيمان بحقيقة معناه فيهم و معناه أن علامة التهيؤ للإيمان الحقيقي هو كذا و كذا. 

  • و قوله: {اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً} ذكر سبحانه شيئا من أوصافهم و شيئا من أعمالهم، أما ما هو من أوصافهم فتذللهم لمقام الربوبية و عدم استكبارهم عن الخضوع لله و تسبيحه و حمده و هو قوله: {إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} أي الدالة على وحدانيته في ربوبيته و ألوهيته و ما يلزمها من المعاد و الدعوة النبوية إلى الإيمان و العمل الصالح {خَرُّوا سُجَّداً} أي سقطوا على الأرض ساجدين لله تذللا و استكانة {وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي نزهوه مقارنا للثناء الجميل عليه. و السجدة و التسبيح و التحميد و إن كانت من الأفعال لكنها مظاهر لصفة التذلل و الخضوع لمقام الربوبية و الألوهية، و لذا أردفها بصفة تلازمها فقال: {وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}

تفسير الميزان ج۱٦

263
  • قوله تعالى{تَتَجَافى‌ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} هذا معرفهم من حيث أعمالهم كما أن ما في الآية السابقة كان معرفهم من حيث أوصافهم. 

  • فقوله: {تَتَجَافى‌ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ} التجافي‌ التنحي و الجنوب‌ جمع جنب و هو الشق، و المضاجع‌ جمع مضجع و هو الفراش و موضع النوم، و التجافي عن المضاجع كناية عن ترك النوم. 

  • و قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً} حال من ضمير جنوبهم و المراد اشتغالهم بدعاء ربهم في جوف الليل حين تنام العيون و تسكن الأنفاس لا خوفا من سخطه تعالى فقط حتى يغشيهم اليأس من رحمة الله و لا طمعا في ثوابه فقط حتى يأمنوا غضبه و مكره بل يدعونه خوفا و طمعا فيؤثرون في دعائهم أدب العبودية على ما يبعثهم إليه الهدى و هذا التجافي و الدعاء ينطبق على النوافل الليلية. 

  • و قوله: {وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} عمل آخر لهم و هو الإنفاق لله و في سبيله. 

  • قوله تعالى{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تفريع لما لهم من الأوصاف و الأعمال يصف ما أعد الله لهم من الثواب. 

  • و وقوع نفس و هي نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و إضافة قرة إلى أعين لا أعينهم تفيد أن فيما أخفي لهم قرة عين كل ذي عين. 

  • و المعنى: فلا تعلم نفس من النفوس أي هو فوق علمهم و تصورهم ما أخفاه الله لهم مما تقر به عين كل ذي عين جزاء في قبال ما كانوا يعملون في الدنيا. 

  • قوله تعالى{أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ} الإيمان‌ سكون علمي خاص من النفس بالشي‌ء و لازمه الالتزام العملي بما آمن به و الفسق‌ هو الخروج عن الالتزام المذكور من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها و مآل معناه الخروج عن زي العبودية. 

  • و الاستفهام في الآية للإنكار، و قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ} نفي لاستواء الفريقين تأكيدا لما يفيده الإنكار السابق. 

  • قوله تعالى{أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ اَلْمَأْوى‌ نُزُلاً بِمَا كَانُوا 

تفسير الميزان ج۱٦

264
  • يَعْمَلُونَ} المأوى‌ المكان الذي يأوي إليه و يسكن فيه الإنسان، و النزل‌ بضمتين كل ما يعد للنازل في بيت من الطعام و الشراب، ثم عمم كما قيل لكل عطية، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ} إلى آخر الآية، كون النار مأواهم لازمه خلودهم فيها و لذلك عقبه بقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}، و قوله: {وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} دليل على أن المراد بالذين فسقوا هم منكرو المعاد و خطابهم و هم في النار بهذا الخطاب شماتة بهم و كثيرا ما كانوا يشمتون في الدنيا بالمؤمنين لقولهم بالمعاد. 

  • قوله تعالى{وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْأَدْنىَ دُونَ اَلْعَذَابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لما كان غاية إذاقتهم العذاب رجوعهم المرجو و الرجوع المرجو هو الرجوع إلى الله بالتوبة و الإنابة كان المراد بالعذاب الأدنى هو عذاب الدنيا النازل بهم للتخويف و الإنذار ليتوبوا دون عذاب الاستئصال و دون العذاب الذي بعد الموت و حينئذ المراد بالعذاب الأكبر عذاب يوم القيامة. 

  • و المعنى: أقسم لنذيقنهم من العذاب الأدنى أي الأقرب مثل السنين و الأمراض و القتل و نحو ذلك قبل العذاب الأكبر يوم القيامة لعلهم يرجعون إلينا بالتوبة من شركهم و جحودهم. 

  • قيل: سمي عذاب الدنيا أدنى و لم يقل: الأصغر، حتى يقابل الأكبر لأن المقام مقام الإنذار و التخويف و لا يناسبه عد العذاب أصغر، و كذا لم يقل دون العذاب الأبعد حتى يقابل العذاب الأدنى لعدم ملاءمته مقام التخويف. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} كأنه في مقام التعليل لما تقدم من عذابهم بالعذاب الأكبر بما أنهم مكذبون فعلله بأنهم ظالمون أشد الظلم بالإعراض عن الآيات بعد التذكرة فيكونون مجرمين و الله منتقم منهم. 

  • فقوله: {وَ مَنْ أَظْلَمُ} إلخ تعليل لعذابهم بأنهم ظالمون أشد الظلم ثم قوله: {إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}، تعليل لعذاب الظالمين بأنهم مجرمون و العذاب انتقام منهم، و الله منتقم من المجرمين. 

تفسير الميزان ج۱٦

265
  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} المراد بالكتاب التوراة و المرية الشك و الريب. 

  • و قد اختلفوا في مرجع الضمير في قوله: {مِنْ لِقَائِهِ} و معنى الكلمة فقيل: الضمير لموسى و هو مفعول اللقاء و التقدير فلا تكن في مرية من لقائك موسى و قد لقيه ليلة المعراج كما وردت به الروايات فإن كانت السورة نازلة بعد المعراج فهو تذكرة لما قد وقع و إن كانت نازلة قبله فهو وعد منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه سيراه. 

  • و قيل: الضمير لموسى و المعنى: فلا تكن في مرية من لقائك موسى يوم القيامة. 

  • و قيل: الضمير للكتاب و التقدير فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب. 

  • و قيل: التقدير من لقائك الكتاب أو من لقاء الكتاب إياك. 

  • و قيل: الضمير لما لقي موسى من الأذى من قومه و المعنى: فلا تكن في مرية من لقاء الأذى كما لقيه موسى من قومه و أنت خبير بأن الطبع السليم لا يقبل شيئا من هذه الوجوه - على أنها لا تفي لبيان وجه اتصال الآية بما قبلها. 

  • و من الممكن و الله أعلم أن يرجع ضمير لقائه إليه تعالى و المراد بلقائه البعث بعناية أنه يوم يحضرون لربهم لا حجاب بينه و بينهم كما تقدم، و قد عبر عنه باللقاء قبل عدة آيات في قوله: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}، ثم عبر عنه بما في معناه في قوله: {نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}

  • فيكون المعنى: و لقد آتينا موسى الكتاب كما آتيناك القرآن فلا تكن في مرية من البعث الذي ينطق به القرآن بالشك في نفس القرآن و قد أيد نزول القرآن عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) بنزول التوراة على موسى في مواضع من القرآن، و يؤيده قوله بعد: {وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} إلخ. 

  • و يمكن أن يكون المراد بلقائه الانقطاع التام إليه تعالى عند وحي القرآن أو بعضه كما في بعض الروايات، فيكون رجوعا إلى ما في صدر السورة من قوله: {تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}، و ذيل الآية أشد تأييدا لهذا الوجه من سابقه و الله أعلم. 

  • و قوله: {وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي هاديا فالمصدر بمعنى اسم الفاعل 

تفسير الميزان ج۱٦

266
  • أو بمعناه المصدري مبالغة. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أي و جعلنا من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس بأمرنا و إنما نصبناهم أئمة هداة للناس حين صبروا في الدين و كانوا قبل ذلك موقنين بآياتنا. 

  • و قد تقدم البحث عن معنى الإمامة و هداية الإمام بأمر الله في تفسير قوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}: البقرة: ١٢٤ و قوله: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: الأنبياء: ٧٣ و غير ذلك من الموارد المناسبة. 

  • و قد تضمنت هاتان الآيتان من الرحمة المنبسطة بالتوراة أنها هدى في نفسه يهدي من اتبعه إلى الحق، و أنها أنشأت في حجر تربيتها أناسا اجتباهم الله للإمامة فصاروا يهدون بأمره فهي مباركة للعمل بها و مباركة بعد العمل. 

  • قوله تعالى{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يريد اختلافهم في الدين و إنما كان ذلك بغيا بينهم كما يذكره في مواضع من كلامه كقوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ} إلى أن قال {فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: الجاثية: ١٧. 

  • فالمراد بقوله: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} القضاء الفاصل بين الحق و الباطل و المحق و المبطل و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} إلخ، العطف على محذوف كأنه قيل: أ لم يبين لهم كذا و كذا، {أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ} إلخ، و الهداية بمعنى التبيين أو هو مضمن معنى التبيين و لذا عدي باللام. 

  • و قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ} مشير إلى الفاعل قائم مقامه، و المعنى: أ و لم يبين لهم كثرة من أهلكنا من القرون و الحال أنهم يمشون في مساكنهم. 

  • و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَ فَلاَ يَسْمَعُونَ} المراد بالسمع سمع المواعظ المؤدي إلى طاعة الحق و قبوله. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ اَلْمَاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ} إلخ، قال في المجمع: السوق‌ الحث على السير من ساقه يسوقه، 

تفسير الميزان ج۱٦

267
  • و قال: الجرز الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها. انتهى. 

  • و الزرع مصدر في الأصل و المراد به هنا المزروع. 

  • و الآية تذكر آية أخرى من آيات الله سبحانه تدل على حسن تدبيره للأشياء و خاصة ذوي الحياة منها كالأنعام و الإنسان، و المراد بسوق الماء إلى الأرض الخالية من النبات سوق السحب الحاملة للأمطار إليها، ففي نزول ماء المطر منها حياة الأرض و خروج الزرع و اغتذاء الإنسان و الأنعام التي يسخرها و يربيها لمقاصد حياته. 

  • و قوله: {أَ فَلاَ يُبْصِرُونَ} تنبيه و توبيخ و تخصيص هذه الآية بالإبصار، و الآية السابقة بالسمع لما أن العلم بإهلاك الأمم الماضين إنما هو بالأخبار التي تنال من طريق السمع و أما العلم بسوق الأمطار إلى الأرض الجرز و إخراج الزرع و اغتذاء الأنعام و الإنسان فالطريق إليه حاسة البصر. 

  • قوله تعالى{وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْفَتْحُ} إلى قوله {وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} قال الراغب: الفتح‌ إزالة الإغلاق و الإشكال إلى أن قال و فتح القضية فتاحا فصل الأمر فيها و أزال الإغلاق عنها، قال: {رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ} انتهى. 

  • و قد تقدم في الآيات السابقة مما يصدق عليه الفتح بمعنى الفصل أمران: أحدهما فصل بينهم يوم القيامة، و الآخر إذاقة العذاب الأدنى أو الانتقام منهم في الدنيا و لذا فسر الفتح بعضهم بيوم القيامة فيكون معنى قولهم: {مَتىَ هَذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هو معنى قولهم المحكي كرارا في كلامه تعالى: {مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

  • و فسره بعضهم بيوم بدر فإنه لم ينفع الذين قتلوا من المشركين إيمانهم بعد القتل. 

  • و ذكر بعضهم أن المراد به فتح مكة و لا يلائمه الجواب المذكور في قوله: {قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} إلا أن يقول قائل: إن إيمانهم يومئذ و قد عاندوا الحق و قاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سنين و جاهدوا في إطفاء نور الله لم يكن إيمانا إلا نفاقا من غير أن يدخل في قلوبهم و ينتفع به نفوسهم و قد ألزموا بالإيمان و لم ينظروا. 

  • و يمكن أن يكون المراد هو القضاء بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين الأمة و يكون ذلك في 

تفسير الميزان ج۱٦

268
  • آخر الزمان كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} (الآية): يونس: ٤٧. 

  • و كيف كان فالمراد بالآيتين استعجال المشركين بالفتح و الجواب أنه فتح لا ينفع حال الذين كفروا إيمانهم لأنه ظرف لا ينفع نفسا إيمانها و لا أن العذاب يمهلهم و ينظرهم. 

  • قوله تعالى{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أمر بالإعراض عنهم و انتظار الفتح كما أنهم ينتظرون و إنما كانوا منتظرين موته أو قتله (صلى الله عليه وآله و سلم) و بالجملة انقطاع دابر دعوته الحقة فلينتظر هو كما هم ينتظرون حتى يظهر الله الحق على الباطل و المحق على المبطل. 

  • و من هذا السياق يظهر أن المراد بالفتح الفتح الدنيوي. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: {تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ}، قال: هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقتها قبل أن ينام الصغير و يكسل الكبير. 

  • أقول: و رواها أيضا فيه بطرق أخر موصولة و موقوفة و روى صدر الحديث الشيخ في أماليه بالإسناد عن الصادق (عليه السلام) في الآية و لفظه كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. 

  • و في الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أ لا أخبرك بالإسلام أصله و فرعه و ذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك. قال: أما أصله فالصلاة و فرعه الزكاة و ذروة سنامه الجهاد. 

  • ثم قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير: قلت: نعم جعلت فداك. قال: الصوم جنة و الصدقة تذهب بالخطيئة و قيام الرجل في جوف الليل يذكر الله ثم قرأ: {تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ} 

تفسير الميزان ج۱٦

269
  • أقول: و روى هذا المعنى في المحاسن بإسناده عن علي بن عبد العزيز عن الصادق (عليه السلام) و في المجمع عن الواحدي بالإسناد عن معاذ بن جبل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رواه في الدر المنثور عن الترمذي و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن معاذ عنه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: ذكر لنا رسول الله قيام الليل ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه فقال: {تَتَجَافى‌ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ}

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و الطبراني و ابن جرير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و محمد بن نصر في كتاب الصلاة من طريق أبي صخر عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يصف الجنة حتى انتهى. 

  • ثم قال: فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم قرأ: {تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ} الآيتين.

  • و في المجمع و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: ما من حسنة إلا و لها ثواب مبين في القرآن إلا صلاة الليل فإن الله عز اسمه لم يبين ثوابها لعظم خطرها قال: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} (الآية). 

  • و في تفسير القمي حدثني أبي عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من عمل حسن يعمله العبد إلا و له ثواب في القرآن إلا صلاة الليل - فإن الله عز و جل لم يبين ثوابها لعظيم خطره عنده، فقال جل ذكره: {تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} إلى قوله {يَعْمَلُونَ}

  • ثم قال: إن لله عز و جل كرامة في عباده المؤمنين في كل يوم جمعة فإذا كان يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمن ملكا معه حلتان فينتهي إلى باب الجنة فيقول: استأذنوا لي على فلان فيقال له هذا رسول ربك على الباب فيقول لأزواجه: أي شي‌ء ترين علي أحسن؟ فيقلن يا سيدنا و الذي أباحك الجنة ما رأينا عليك أحسن من هذا الذي قد بعث إليك ربك فيتزر بواحدة و يتعطف بالأخرى فلا يمر بشي‌ء إلا أضاء له حتى ينتهي إلى الموعد. 

  • فإذا اجتمعوا تجلى لهم الرب تبارك و تعالى فإذا نظروا إليه أي إلى رحمته خروا 

تفسير الميزان ج۱٦

270
  • سجدا فيقول: عبادي ارفعوا رءوسكم ليس هنا يوم سجود و لا عبادة قد رفعت عنكم المئونة فيقولون: يا ربنا و أي شي‌ء أفضل مما أعطيتنا؟ أعطيتنا الجنة فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين مرة. 

  • فيرجع المؤمن في كل جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه و هو قوله: {وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} و هو يوم الجمعة إن ليلها ليلة غراء و يومها يوم أزهر فأكثروا من التسبيح و التهليل و التكبير و الثناء على الله عز و جل و الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قال: فيمر المؤمن فلا يمر بشي‌ء إلا أضاء له حتى ينتهي إلى أزواجه فيقلن: و الذي أباحنا الجنة، يا سيدنا ما رأيناك أحسن منك الساعة. فيقول: إني نظرت إلى نور ربي إلى أن قال: قلت جعلت فداك زدني. فقال: إن الله تعالى خلق جنة بيده و لم يرها عين و لم يطلع عليها مخلوق يفتحها الرب كل صباح فيقول: ازدادي ريحا ازدادي طيبا و هو قول الله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

  • أقول: ذيل الرواية تفسير لصدرها و قوله: أي إلى رحمة ربه. من كلام الراوي. 

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله جل و عز ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا الله رب العالمين. 

  • و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ} قال: إن علي بن أبي طالب و الوليد بن عقبة بن أبي معيط تشاجرا فقال الفاسق وليد بن عقبة: أنا و الله أبسط منك لسانا و أحد منك سنانا و أمثل منك جثوا في الكتيبة. فقال علي (عليه السلام): اسكت إنما أنت فاسق فأنزل الله {أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ}

  • أقول: و رواه في المجمع عن الواحدي عن ابن عباس و في الدر المنثور عن كتاب الأغاني و الواحدي و ابن عدي و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عنه و أيضا عن ابن إسحاق و ابن جرير عن عطاء بن يسار و عن ابن أبي حاتم عن السدي عنه و أيضا عن ابن أبي حاتم عن ابن أبي ليلى مثله. 

تفسير الميزان ج۱٦

271
  • و في الاحتجاج عن الحسن بن علي (عليه السلام) في حديث يحاج فيه رجالا عند معاوية: و أما أنت يا وليد بن عقبة فوالله ما ألومك أن تبغض عليا و قد جلدك في الخمر ثمانين جلدة و قتل أباك صبرا بيده يوم بدر أم كيف تسبه و قد سماه الله مؤمنا في عشر آيات من القرآن و سماك فاسقا و هو قول الله عز و جل: {أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ}

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال: سألت عبادة بن الصامت عن قول الله: {وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْأَدْنى‌ دُونَ اَلْعَذَابِ اَلْأَكْبَرِ} فقال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها فقال: هي المصائب و الأسقام و الأنصاب عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت: يا رسول الله فما هي لنا؟ قال: زكاة و طهور. 

  • و في المجمع في الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): أن العذاب الأدنى الدابة و الدجال. 

تفسير الميزان ج۱٦

272
  • (٣٣) (سورة الأحزاب مدنية، و هي ثلاث و سبعون آية) (٧٣) 

  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ١ الی ٨]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ١ وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحى‌ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ٢ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى‌ بِاللَّهِ وَكِيلاً ٣ مَا جَعَلَ اَللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اَللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ ٤ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٥ اَلنَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى‌ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً ٦ وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ 

تفسير الميزان ج۱٦

273
  • نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‌ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ٧ لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ٨} 

  • (بيان) 

  • تتضمن السورة تفاريق من المعارف و الأحكام و القصص و العبر و المواعظ و فيها قصة غزوة الخندق و إشارة إلى قصة بني القريظة من اليهود، و سياق آياتها يشهد بأنها مما نزلت بالمدينة. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتقوى الله و فيه تمهيد للنهي الذي بعده {وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ}

  • و في سياق النهي و قد جمع فيه بين الكافرين و المنافقين و نهى عن إطاعتهم كشف عن أن الكافرين كانوا يسألونه أمرا لا يرتضيه الله سبحانه و كان المنافقون يؤيدونهم في مسألتهم و يلحون، أمرا كان الله سبحانه بعلمه و حكمته قد قضى بخلافه و قد نزل الوحي الإلهي بخلافه، أمرا خطيرا لا يؤمن مساعدة الأسباب على خلافه إلا أن يشاء الله فحذر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن إجابتهم إلى ملتمسهم و أمر بمتابعة ما أوحى الله إليه و التوكل عليه. 

  • و بهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن عدة من صناديد قريش بعد وقعة أحد دخلوا المدينة بأمان من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتركهم و آلهتهم فيتركوه و إلهه فنزلت الآيات و لم يجبهم النبي إلى ذلك و سيأتي في البحث الروائي التالي. 

  • و بما تقدم ظهر وجه تذييل الآية بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} و كذا تعقيب الآية بالآيتين بعدها. 

  • قوله تعالى{وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} 

تفسير الميزان ج۱٦

274
  • (الآية) عامة في حد نفسها لكنها من حيث وقوعها في سياق النهي تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باتباع ما نزل به الوحي فيما يسأله الكافرون و المنافقون و أتباعه إجراؤه عملا بدليل قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}

  • قوله تعالى{وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفىَ بِاللَّهِ وَكِيلاً} (الآية) كالآية السابقة في أنها عامة في حد نفسها، لكنها لوقوعها في سياق النهي السابق تدل على الأمر بالتوكل على الله فيما يأمره به الوحي و تشعر بأنه أمر صعب المنال بالنظر إلى الأسباب الظاهرية لا يسلم القلب معه من عارضة المخافة و الاضطراب إلا التوكل على الله سبحانه فإنه السبب الوحيد الذي لا يغلبه سبب مخالف. 

  • قوله تعالى{مَا جَعَلَ اَللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} كناية عن امتناع الجمع بين المتنافيين في الاعتقاد فإن القلب الواحد أي النفس الواحدة لا يسع اعتقادين متنافيين و رأيين متناقضين فإن كان هناك متنافيان فهما لقلبين و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فالرجل الواحد لا يسعه أن يعتقد المتنافيين و يصدق بالمتناقضين و قوله: {فِي جَوْفِهِ} يفيد زيادة التقرير كقوله: {وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ}: الحج: ٤٦. 

  • قيل: الجملة توطئة و تمهيد كالتعليل لما يتلوها من إلغاء أمر الظهار و التبني فإن في الظهار جعل الزوجة بمنزلة الأم و في التبني و الدعاء جعل ولد الغير ولدا لنفسه و الجمع بين الزوجية و الأمومة و كذا الجمع بين بنوة الغير و بنوة نفسه جمع بين المتنافيين و لا يجتمعان إلا في قلبين و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. 

  • و لا يبعد أن تكون الجملة في مقام التعليل لقوله السابق: {لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ} {وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فإن طاعة الله و ولايته و طاعة الكفار و المنافقين و ولايتهم متنافيتان متباينتان كالتوحيد و الشرك لا يجتمعان في القلب الواحد و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. 

  • قوله تعالى{وَ مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اَللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} كان الرجل في الجاهلية يقول لزوجته أنت مني كظهر أمي أو ظهرك علي كظهر أمي فيشبه ظهرها بظهر أمه و كان يسمى ذلك ظهارا و يعد طلاقا لها، و قد ألغاه الإسلام. 

  • فمفاد الآية أن الله لم يجعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن بقول ظهرك علي 

تفسير الميزان ج۱٦

275
  • كظهر أمي أمهات لكم و إذ لم يجعل ذلك فلا أثر لهذا القول و الجعل تشريعي. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} الأدعياء جمع دعي و هو المتخذ ولدا المدعو ابنا و قد كان الدعاء و التبني دائرا بينهم في الجاهلية و كذا بين الأمم الراقية يومئذ كالروم و فارس و كانوا يرتبون على الدعي أحكام الولد الصلبي من التوارث و حرمة الازدواج و غيرهما و قد ألغاه الإسلام. 

  • فمفاد الآية أن الله لم يجعل الذين تدعونهم لأنفسكم أبناء لكم بحيث يجري فيهم ما يجري في الأبناء الصلبيين. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ} الإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ} إلى ما تقدم من الظهار و الدعاء أو إلى الدعاء فقط و هو الأظهر و يؤيده اختصاص الآية التالية بحكم الدعاء فحسب. 

  • و قوله: {قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} أي إن نسبة الدعي إلى أنفسكم ليس إلا قولا تقولونه بأفواهكم ليس له أثر وراء ذلك فهو كناية عن انتفاء الأثر كما في قوله: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}: المؤمنون: ١٠٠. 

  • و قوله: {وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ} معنى كون قوله: هو الحق أنه إن أخبر عن شي‌ء كان الواقع مطابقا لما أخبر به و إن أنشأ حكما ترتب عليه آثاره و طابقته المصلحة الواقعية. 

  • و معنى هدايته السبيل أنه يحمل من هداه على سبيل الحق التي فيها الخير و السعادة و في الجملتين تلويح إلى أن دعوا أقوالكم و خذوا بقوله. 

  • قوله تعالى{اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ} إلى آخر الآية. اللام في {لِآبَائِهِمْ} للاختصاص أي ادعوهم و هم مخصوصون بآبائهم أي انسبوهم إلى آبائهم و قوله: {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ}، الضمير إلى المصدر المفهوم من قوله: {اُدْعُوهُمْ} نظير قوله: {اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىَ} و «أقسط» صيغة تفضيل من القسط بمعنى العدل. 

  • و المعنى: انسبوهم إلى آبائهم إذا دعوتموهم لأن الدعاء لآبائهم أعدل عند الله. 

  • و قوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ}، المراد بعدم 

تفسير الميزان ج۱٦

276
  • علمهم آباءهم عدم معرفتهم بأعيانهم، و الموالي هم الأولياء، و المعنى: و إن لم تعرفوا آباءهم فلا تنسبوهم إلى غير آبائهم بل ادعوهم بالإخوة و الولاية الدينية. 

  • و قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي لا ذنب لكم في الذي أخطأتم به لسهو أو نسيان فدعوتموهم لغير آبائهم و لكن الذي تعمدته قلوبكم ذنب أو و لكن تعمد قلوبكم بذلك فيه الذنب. 

  • و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} راجع إلى ما أخطئ به. 

  • قوله تعالى{اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أنفس المؤمنين هم المؤمنون فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم أنه أولى بهم منهم: و معنى الأولوية هو رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه و بين ما هو أولى منه فالمحصل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ و الكلاءة و المحبة و الكرامة و استجابة الدعوة و إنفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه و لو دار الأمر بين النبي و بين نفسه في شي‌ء من ذلك كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه. 

  • ففيما إذا توجه شي‌ء من المخاطر إلى نفس النبي فليقه المؤمن بنفسه و يفده نفسه و ليكن النبي أحب إليه من نفسه و أكرم عنده من نفسه و لو دعته نفسه إلى شي‌ء و النبي إلى خلافه أو أرادت نفسه منه شيئا و أراد النبي خلافه كان المتعين استجابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و طاعته و تقديمه على نفسه. 

  • و كذا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الإطلاق في قوله: {اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}

  • و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن المراد أنه أولى بهم في الدعوة فإذا دعاهم إلى شي‌ء و دعتهم أنفسهم إلى خلافه كان عليهم أن يطيعوه و يعصوا أنفسهم، فتكون الآية في معنى قوله: {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}: النساء: ٥٩ و قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ}: النساء: ٦٤ و ما أشبه ذلك من الآيات و هو مدفوع بالإطلاق. 

  • و كذا ما قيل إن المراد أن حكمه فيهم أنفذ من حكم بعضهم على بعض كما في قوله: {فَسَلِّمُوا عَلىَ أَنْفُسِكُمْ}: النور: ٦١ و يئول إلى أن ولايته على المؤمنين فوق ولاية بعضهم على بعض المدلول عليه بقوله: {اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: براءة: - ٧١. 

  • و فيه أن السياق لا يساعد عليه. 

تفسير الميزان ج۱٦

277
  • و قوله: {وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} جعل تشريعي أي أنهن منهم بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن و حرمة نكاحهن بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما سيأتي التصريح به في قوله: {وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً}

  • فالتنزيل إنما هو في بعض آثار الأمومة لا في جميع الآثار كالتوارث بينهن و بين المؤمنين و النظر في وجوههن كالأمهات و حرمة بناتهن على المؤمنين لصيرورتهن أخوات لهم و كصيرورة آبائهن و أمهاتهن أجدادا و جدات و إخوتهن و أخواتهن أخوالا و خالات للمؤمنين. 

  • قوله تعالى{وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ} إلخ، الأرحام‌ جمع رحم و هي العضو الذي يحمل النطفة حتى تصير جنينا فيتولد، و إذ كانت القرابة النسبية لازمة الانتهاء إلى رحم واحدة عبر عن القرابة بالرحم فسمي ذوو القرابة أولي الأرحام. 

  • و المراد بكون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، الأولوية في التوارث، و قوله: {فِي كِتَابِ اَللَّهِ} المراد به اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة، و قوله: {مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ} مفضل عليه و المراد بالمؤمنين غير المهاجرين منهم، و المعنى: و ذوو القرابة بعضهم أولى ببعض من المهاجرين و سائر المؤمنين الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة الدينية، و هذه الأولوية في كتاب الله و ربما احتمل كون قوله: {مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ} بيانا لقوله: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ}

  • و الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة و الموالاة في الدين. 

  • و قوله: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىَ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} الاستثناء منقطع، و المراد بفعل المعروف إلى الأولياء الوصية لهم بشي‌ء من التركة، و قد حد شرعا بثلث المال فما دونه، و قوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً} أي حكم فعل المعروف بالوصية مسطور في اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} إضافة الميثاق إلى ضمير النبيين دليل على أن المراد بالميثاق ميثاق خاص بهم كما أن ذكرهم بوصف النبوة مشعر بذلك فالميثاق 

تفسير الميزان ج۱٦

278
  • المأخوذ من النبيين ميثاق خاص من حيث إنهم نبيون و هو غير الميثاق المأخوذ من عامة البشر الذي يشير إليه في قوله: {وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلىَ}: الأعراف: ١٧٢. 

  • و قد ذكر أخذ الميثاق من النبيين في موضع آخر و هو قوله: {وَ إِذْ أَخَذَ اَللَّهُ مِيثَاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلىَ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}: آل عمران: ٨١. 

  • و الآية المبحوث عنها و إن لم تبين ما هو الميثاق المأخوذ منهم و إن كانت فيها إشارة إلى أنه أمر متعلق بالنبوة لكن يمكن أن يستفاد من آية آل عمران أن الميثاق مأخوذ على وحدة الكلمة في الدين و عدم الاختلاف فيه كما في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}: الأنبياء: ٩٢ و قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسىَ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}: الشورى: ١٣. 

  • و قد ذكر النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثم سمى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم فقال: {وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ} و معنى العطف إخراجهم من بينهم و تخصيصهم بالذكر كأنه قيل: و إذ أخذنا الميثاق منكم أيها الخمسة و من باقي النبيين. 

  • و لم يخصهم بالذكر على هذا النمط إلا لعظمة شأنهم و رفعة مكانهم فإنهم أولوا عزم و أصحاب شرائع و كتب و قد عدهم على ترتيب زمانهم: نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى بن مريم (عليه السلام)، لكن قدم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو آخرهم زمانا لفضله و شرفه و تقدمه على الجميع. 

  • و قوله: {وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} تأكيد و تغليظ للميثاق نظير قوله: {وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}: هود: ٥٨. 

  • قوله تعالى{لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} اللام في {لِيَسْئَلَ} للتعليل أو للغاية و هو متعلق بمحذوف يدل عليه قوله: {وَ إِذْ أَخَذْنَا} و قوله: {وَ أَعَدَّ} معطوف على ذلك المحذوف، و التقدير فعل ذلك أي أخذ الميثاق 

تفسير الميزان ج۱٦

279
  • ليتمهد له سؤال الصادقين عن صدقهم و أعد للكافرين عذابا أليما. 

  • و لم يقل: و ليعد للكافرين عذابا، إشارة أن عذابهم ليس من العلل الغائية لأخذ الميثاق و إنما النقص من ناحيتهم و الخلف من قبلهم. 

  • و أما سؤال الصادقين عن صدقهم فقيل: المراد بالصادقين الأنبياء و سؤالهم عن صدقهم هو سؤالهم يوم القيامة عما جاءت به أممهم و كأنه مأخوذ من قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ}: المائدة: ١٠٩. 

  • و قيل: المراد سؤال الصادقين في توحيد الله و عدله و الشرائع عن صدقهم أي عما كانوا يقولون فيه و قيل: المراد سؤال الصادقين في أقوالهم عن صدقهم في أفعالهم، و قيل: المراد سؤال الصادقين عما قصدوا بصدقهم أ هو وجه الله أو غيره؟ إلى غير ذلك من الوجوه و هي كما ترى. 

  • و التأمل فيما يفيده قوله: {لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} يرشد إلى خلاف ما ذكروه، ففرق بين قولنا: سألت الغني عن غناه و سألت العالم عن علمه، و بين قولنا: سألت زيدا عن ماله أو عن علمه، فالمتبادر من الأولين أني طالبته أن يظهر غناه و أن يظهر علمه، و من الأخيرين أني طالبته أن يخبرني هل له مال أو هل له علم؟ أو يصف لي ما له من المال أو من العلم. 

  • و على هذا فمعنى سؤال الصادقين عن صدقهم مطالبتهم أن يظهروا ما في باطنهم من الصدق في مرتبة القول و الفعل و هو عملهم الصالح في الدنيا فالمراد بسؤال الصادقين عن صدقهم توجيه التكليف على حسب الميثاق إليهم ليظهر منهم صدقهم المستبطن في نفوسهم و هذا في الدنيا لا في الآخرة فأخذ الميثاق في نشأة أخرى قبل الدنيا كما يدل عليه آيات الذر {وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلىَ} الآيات. 

  • و بالجملة الآيتان من الآيات المنبئة عن عالم الذر المأخوذ فيه الميثاق و تذكر أن أخذ الميثاق من الأنبياء (عليه السلام) و ترتب شأنهم و عملهم في الدنيا على ذلك في ضمن ترتب صدق كل صادق على الميثاق المأخوذ منه. 

  • و لمكان هذا التعميم ذكر عاقبة أمر الكافرين مع أنهم ليسوا من قبيل النبيين 

تفسير الميزان ج۱٦

280
  • و الكلام في الميثاق المأخوذ منهم فكأنه قيل: أخذنا ميثاقا غليظا من النبيين أن تتفق كلمتهم على دين واحد يبلغونه ليسأل الصادقين و يطالبهم بالتكليف و الهداية إظهار صدقهم في الاعتقاد و العمل ففعلوا فقدر لهم الثواب و أعد للكافرين عذابا أليما. 

  • و من هنا يظهر وجه الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: {لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ} إلخ، و ذلك لأن الميثاق على عبادته وحده لا شريك له و إن كان أخذه منه تعالى بوساطة من الملائكة المصحح لقوله: {أَخَذْنَا} {وَ أَخَذْنَا} فالمطالب لصدق الصادقين و المعد لعذاب الكافرين بالحقيقة هو تعالى وحده ليعبد وحده فتدبر. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ} الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبي الأعور السلمي قدموا المدينة و نزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليكلموه فقاموا و قام معهم عبد الله بن أبي و عبد الله بن سعيد بن أبي سرح و طعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات و العزى و مناة و قل: إن لها شفاعة لمن عبدها و ندعك و ربك. فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان و أمر فأخرجوا من المدينة و نزلت الآية {وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ} من أهل مكة أبا سفيان و أبا الأعور و عكرمة {وَ اَلْمُنَافِقِينَ} ابن أبي و ابن سعيد و طعمة.

  • أقول: و روي إجمال القصة في الدر المنثور عن جرير عن ابن عباس، و روي أسباب أخر لنزول الآيات لكنها أجنبية غير ملائمة لسياق الآيات فأضربنا عنها. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة و رأى زيدا يباع و رآه غلاما كيسا حصينا فاشتراه فلما نبئ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دعاه إلى الإسلام فأسلم و كان يدعى زيد مولى محمد. 

تفسير الميزان ج۱٦

281
  • فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة و كان رجلا جليلا فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي و بلغني أنه صار إلى ابن أخيك تسأله إما أن يبيعه و إما أن يفاديه و إما أن يعتقه. 

  • فكلم أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال رسول الله: هو حر فليذهب حيث شاء فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني الحق بشرفك و حسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله، فقال له أبوه: فتدع حسبك و نسبك و تكون عبدا لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حيا، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش اشهدوا أني قد برئت منه و ليس هو ابني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اشهدوا أن زيدا ابني أرثه و يرثني. فكان زيد يدعى ابن محمد - و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يحبه و سماه زيد الحب. 

  • فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش و أبطأ عنه يوما فأتى رسول الله منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها يستحق طيبها بفهر لها فدفع رسول الله الباب و نظر إليها و كانت جميلة حسنة فقال: سبحان الله رب النور و تبارك الله أحسن الخالقين، ثم رجع رسول الله إلى منزله و وقعت زينب في قلبه موقعا عجيبا. 

  • و جاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله فقال لها زيد: هل لك أن أطلقك حتى يتزوج بك رسول الله؟ فقالت: أخشى أن تطلقني و لا يتزوجني رسول الله. فجاء زيد إلى رسول الله فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا و كذا فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال له رسول الله: لا اذهب و اتق الله و أمسك عليك زوجك، ثم حكى الله فقال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضى‌ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} إلى قوله {وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً} فزوجه الله من فوق عرشه. 

  • فقال المنافقون: يحرم علينا نساء أبنائنا و يزوج امرأة ابنه زيد فأنزل الله في هذا {وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} إلى قوله {يَهْدِي اَلسَّبِيلَ}

  • أقول: و روى قريبا منه مع اختلاف ما في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس. 

تفسير الميزان ج۱٦

282
  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و أبو داود و ابن مردويه عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات و ترك دينا فالي، و من ترك مالا فهو لورثته. 

  • أقول: و في معناه روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و النسائي عن بريدة قال: غزوت مع على اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تغير و قال: يا بريدة أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

  • و في الاحتجاج عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في حديث طويل قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. من كنت أولى به من نفسه فأنت أولى به من نفسه و علي بين يديه في البيت.

  • أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن جعفر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأحاديث في هذا المعنى من طرق الفريقين فوق حد الإحصاء. 

  • و في الكافي بإسناده عن حنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي شي‌ء للموالي؟ فقال: ليس لهم من الميراث إلا ما قال الله عز و جل: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىَ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً}.

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: و آدم بين الروح و الجسد. 

  • أقول: و هو بلفظه مروي بطرق مختلفة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و معناه كون الميثاق مأخوذا في نشأة غير هذه النشأة و قبلها.

  •  

  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٩ الی ٢٧ ]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَ كَانَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ 

تفسير الميزان ج۱٦

283
  • بَصِيراً ٩ إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ اَلظُّنُونَا ١٠هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ١١ وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ١٢ وَ إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ١٣ وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً ١٤ وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً ١٥ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٦ قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ١٧ قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لاَ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٨ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى‌ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً ١٩ 

تفسير الميزان ج۱٦

284
  • يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي اَلْأَعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ٢٠لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيراً ٢١ وَ لَمَّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً ٢٢ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‌ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ٢٣ لِيَجْزِيَ اَللَّهُ اَلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ٢٤ وَ رَدَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ وَ كَانَ اَللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ٢٥ وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً ٢٦ وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيَارَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهَا وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيراً ٢٧} 

  • (بيان) 

  • قصة غزوة الخندق و ما عقبها من أمر بني قريظة و وجه اتصالها بما قبلها ما فيها من ذكر حفظ العهد و نقضه. 

تفسير الميزان ج۱٦

285
  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} إلخ، تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم أيام الخندق بنصرهم و صرف جنود المشركين عنهم و قد كانوا جنودا مجندة من شعوب و قبائل شتى كغطفان و قريش و الأحابيش و كنانة و يهود بني قريظة و النضير أحاطوا بهم من فوقهم و من أسفل منهم فسلط الله عليهم الريح و أنزل ملائكة يخذلونهم. 

  • و هو قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ} ظرف للنعمة أو لثبوتها {جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} من طوائف كل واحدة منهم جند كغطفان و قريش و غيرهما {فَأَرْسَلْنَا} بيان للنعمة و هو الإرسال المتفرع على مجيئهم {عَلَيْهِمْ رِيحاً} و هي الصبا و كانت باردة في ليال شاتية {وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} و هي الملائكة لخذلان المشركين {وَ كَانَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}

  • قوله تعالى{إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} إلخ الجاءون من فوقهم و هو الجانب الشرقي للمدينة غطفان و يهود بني قريظة و بني النضير و الجاءون من أسفل منهم و هو الجانب الغربي لها قريش و من انضم إليهم من الأحابيش و كنانة فقوله: {إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} عطف بيان لقوله: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}

  • و قوله: {إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنَاجِرَ}، عطف بيان آخر لقوله: {إِذْ جَاءَتْكُمْ} إلخ، و زيغ الأبصار ميلها و القلوب‌ هي الأنفس و الحناجر جمع حنجر و هو جوف الحلقوم. 

  • و الوصفان أعني زيغ الأبصار و بلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال غشيان الخوف لهم حتى حولهم إلى حال المحتضر الذي يزيغ بصره و تبلغ روحه الحلقوم. 

  • و قوله: {وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ اَلظُّنُونَا} أي يظن المنافقون و الذين في قلوبهم مرض الظنون فبعضهم يقول: إن الكفار سيغلبون و يستولون على المدينة، و بعضهم يقول: إن الإسلام سينمحق و الدين سيضيع، و بعضهم يقول: إن الجاهلية ستعود كما كانت، و بعضهم يقول: إن الله غرهم و رسوله إلى غير ذلك من الظنون. 

  • قوله تعالى{هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} هنالك‌ إشارة بعيدة إلى زمان أو مكان و المراد الإشارة إلى زمان مجي‌ء الجنود و كان شديدا عليهم 

تفسير الميزان ج۱٦

286
  • لغاية بعيدة، و الابتلاء الامتحان، و الزلزلة و الزلزال‌ الاضطراب، و الشدة القوة و تختلفان في أن الغالب على الشدة أن تكون محسوسا بخلاف القوة، قيل: و لذلك يطلق القوي عليه تعالى دون الشديد. 

  • و المعنى في ذلك الزمان الشديد امتحن المؤمنون و اضطربوا خوفا اضطرابا شديدا. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين و هم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، و إنما سمي المنافقون الرسول لمكان إظهارهم الإسلام. 

  • و الغرور حمل الإنسان على الشر بإراءته في صورة الخير و الاغترار احتماله له. قال الراغب: يقال: غررت فلانا أصبت غرته و نلت منه ما أريد، و الغرة بكسر الغين غفلة في اليقظة. انتهى. 

  • و الوعد الذي يعدونه غرورا من الله و رسوله لهم بقرينة المقام هو وعد الفتح و ظهور الإسلام على الدين كله و قد تكرر في كلامه تعالى كما ورد أن المنافقين قالوا: يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى و قيصر و نحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} يثرب اسم المدينة قبل الإسلام ثم غلب عليه اسم مدينة الرسول بعد الهجرة ثم المدينة، و المقام بضم الميم الإقامة، و قولهم: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} أي لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة فارجعوا ثم أتبعه بحكاية ما قاله آخرون فقال عاطفا على قوله: قالت طائفة: {وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ} أي من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض {اَلنَّبِيَّ} في الرجوع {يَقُولُونَ} استئذانا {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي فيها خلل لا يأمن صاحبها دخول السارق و زحف العدو {وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ} أي ما يريدون بقولهم هذا {إِلاَّ فِرَاراً}

  • قوله تعالى{وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً} ضمائر الجمع للمنافقين و المرضى القلوب و الضمير في {دُخِلَتْ} للبيوت و معنى دخلت عليهم دخل الجنود البيوت حال كونه دخولا عليهم، و الأقطار جمع قطر و هو الجانب، و المراد بالفتنة بقرينة المقام الردة و الرجعة من الدين و المراد بسؤالها 

تفسير الميزان ج۱٦

287
  • طلبها منهم، و التلبث‌ التأخر. 

  • و المعنى: و لو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها و هم فيها ثم طلبوا منهم أن يرتدوا عن الدين لأعطوهم مسئولهم و ما تأخروا بالردة إلا يسيرا من الزمان بمقدار الطلب و السؤال أي إنهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فإذا هجمت عليهم الشدة و البأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً} اللام للقسم، و قوله: {لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ} أي لا يفرون عن القتال و هو بيان للعهد و لعل المراد بعهدهم من قبل هو بيعتهم بالإيمان بالله و رسوله و ما جاء به رسوله و مما جاء به: الجهاد الذي يحرم الفرار فيه و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} إذ لا بد لكل نفس من الموت لأجل مقضي محتوم لا يتأخر عنه ساعة و لا يتقدم عليه فالفرار لا يؤثر في تأخير الأجل شيئا. 

  • و قوله: {وَ إِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي و إن نفعكم الفرار فمتعتم بتأخر الأجل فرضا لا يكون ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو في زمان قليل لكونه مقطوع الآخر لا محالة. 

  • قوله تعالى{قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} كانت الآية السابقة تنبيها لهم على أن حياة الإنسان مقضي مؤجل لا ينفع معه فرار من الزحف و في هذه الآية تنبيه - على أن الشر و الخير تابعان لإرادة الله محضا لا يمنع عن نفوذها سبب من الأسباب و لا يعصم الإنسان منها أحد فالحزم إيكال الأمر إلى إرادته تعالى و القرار على أمره بالتوكل عليه. 

  • و لما كانت قلوبهم مرضى أو مشغولة بكفر مستبطن عدل عن أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتكليمهم إلى تكليم نفسه فقال: {وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً}

  • قوله تعالى{قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} إلى قوله {يَسِيراً}التعويق‌ التثبيط و الصرف، و هلم‌ اسم فعل بمعنى أقبل، و لا يثنى و لا يجمع في لغة الحجاز، و البأس‌ الشدة و الحرب، و أشحة جمع شحيح بمعنى البخيل، و الذي يغشى عليه هو الذي أخذته 

تفسير الميزان ج۱٦

288
  • الغشوة فغابت حواسه و أخذت عيناه تدوران، و السلق‌ بالفتح فالسكون الضرب و الطعن. 

  • و معنى الآيتين: إن الله ليعلم الذين يثبطون منكم الناس و يصرفونهم عن القتال و هم المنافقون و يعلم الذين يقولون من المنافقين لإخوانهم من المنافقين أو ضعفة الإيمان تعالوا و أقبلوا و لا يحضرون الحرب إلا قليلا بخلاء عليكم بنفوسهم. 

  • فإذا جاء الخوف بظهور مخائل القتال تراهم ينظرون إليك من الخوف نظرا لا إرادة لهم فيه و لا استقرار فيه لأعينهم تدور أعينهم كالمغشي عليه من الموت فإذا ذهب الخوف ضربوكم و طعنوكم بألسنة حداد قاطعة حال كونهم بخلاء على الخير الذي نلتموه. 

  • أولئك لم يؤمنوا و لم يستقر الإيمان في قلوبهم و إن أظهروه في ألسنتهم فأبطل الله أعمالهم و أحبطها و كان ذلك على الله يسيرا. 

  • قوله تعالى{يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} إلى آخر الآية، أي يظنون من شدة الخوف أن الأحزاب و هم جنود المشركين المتحزبون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يذهبوا بعد {وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزَابُ} مرة ثانية بعد ذهابهم و تركهم المدينة {يَوَدُّوا} و يحبوا {أَنَّهُمْ بَادُونَ} أي خارجون من المدينة إلى البدو {فِي اَلْأَعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} و أخباركم {وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ} و لم يخرجوا منها بادين {مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} أي و لا كثير فائدة في لزومهم إياكم و كونهم معكم فإنهم لن يقاتلوا إلا قليلا لا يعتد به. 

  • قوله تعالى{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيراً} الأسوة القدوة و هي الاقتداء و الاتباع، و قوله: {فِي رَسُولِ اَللَّهِ} أي في مورد رسول الله و الأسوة التي في مورده هي تأسيهم به و اتباعهم له و التعبير بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ} الدال على الاستقرار و الاستمرار في الماضي إشارة إلى كونه تكليفا ثابتا مستمرا. 

  • و المعنى: و من حكم رسالة الرسول و إيمانكم به أن تتأسوا به في قوله و فعله و أنتم ترون ما يقاسيه في جنب الله و حضوره في القتال و جهاده في الله حق جهاده. 

  • و في الكشاف: فإن قلت: فما حقيقة قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؟ و قرئ أسوة بالضم. قلت: فيه وجهان: أحدهما أنه في نفسه أسوة حسنة 

تفسير الميزان ج۱٦

289
  • أي قدوة و هو المؤتسى أي المقتدى به كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. و الثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها و تتبع و هي المواساة بنفسه انتهى و أول الوجهين قريب مما قدمناه. 

  • و قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيراً} بدل من ضمير الخطاب في {لَكُمْ} للدلالة على أن التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خصلة جميلة زاكية لا يتصف بها كل من تسمى بالإيمان، و إنما يتصف بها جمع ممن تلبس بحقيقة الإيمان فكان يرجو الله و اليوم الآخر أي تعلق قلبه بالله فآمن به و تعلق قلبه باليوم الآخر فعمل صالحا و مع ذلك ذكر الله كثيرا فكان لا يغفل عن ربه فتأسى بالنبي في أفعاله و أعماله. 

  • و قيل: قوله: {لِمَنْ كَانَ} إلخ، صلة لقوله: {حَسَنَةٌ} أو صفة له للمنع عن الإبدال من ضمير الخطاب و مآل الوجوه الثلاثة بحسب المعنى واحد. 

  • قوله تعالى{وَ لَمَّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ}، وصف لحال المؤمنين لما شاهدوا الأحزاب و نزول جيوشهم حول المدينة فكان ذلك سبب رشدهم و تبصرهم في الإيمان و تصديقهم لله و لرسوله على خلاف ما ظهر من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من الارتياب و سيئ القول، و بذلك يظهر أن المراد بالمؤمنين المخلصون لإيمانهم بالله و رسوله. 

  • و قوله: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} الإشارة بهذا إلى ما شاهدوه مجردا عن سائر الخصوصيات، كما في قوله: {فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي}: الأنعام: ٧٨. 

  • و الوعد الذي أشاروا إليه قيل: هو ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد وعدهم أن الأحزاب سيتظاهرون عليهم فلما شاهدوهم تبين لهم أن ذلك هو الذي وعدهم. 

  • و قيل: إنهم كانوا قد سمعوا قوله تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَ اَلضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتىَ نَصْرُ اَللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ}: البقرة: ٢١٤ فتحققوا 

تفسير الميزان ج۱٦

290
  • أنهم سيصيبهم ما أصاب الأنبياء و المؤمنين بهم من الشدة و المحنة التي تزلزل القلوب و تدهش النفوس فلما رأوا الأحزاب أيقنوا أنه من الوعد الموعود و أن الله سينصرهم على عدوهم. 

  • و الحق هو الجمع بين الوجهين نظرا إلى جمعهم بين الله و رسوله في الوعد إذ قالوا: هذا ما وعدنا الله و رسوله. 

  • و قوله: {وَ صَدَقَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} شهادة منهم على صدق الوعد، و قوله: {وَ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً} أي إيمانا بالله و رسوله و تسليما لأمر الله بنصرة دينه و الجهاد في سبيله. 

  • قوله تعالى{مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىَ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} قال الراغب: النحب‌ النذر المحكوم بوجوبه، يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىَ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، و يعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله و استوفى أكله و قضى من الدنيا حاجته. انتهى. 

  • و قوله: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ} أي حققوا صدقهم فيما عاهدوه أن لا يفروا إذا لاقوا العدو، و يشهد على أن المراد بالعهد ذلك أن في الآية محاذاة لقوله السابق في المنافقين و الضعفاء الإيمان: {وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ} كما أن في الآية السابقة محاذاة لما ذكر سابقا من ارتياب القوم و عدم تسليمهم لأمر الله. 

  • و قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىَ نَحْبَهُ} إلخ، أي منهم من قضى أجله بموت أو قتل في سبيل الله و منهم من ينتظر ذلك و ما بدلوا شيئا مما كانوا عليه من قول أو عهد تبديلا. 

  • قوله تعالى{لِيَجْزِيَ اَللَّهُ اَلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} اللام للغاية و ما تتضمنه الآية غاية لجميع من تقدم ذكرهم من المنافقين و المؤمنين. 

  • فقوله: {لِيَجْزِيَ اَللَّهُ اَلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} المراد بالصادقين المؤمنين و قد ذكر صدقهم قبل، و الباء في {بِصِدْقِهِمْ} للسببية أي ليجزي المؤمنين الذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

291
  • و قوله: {وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي و ليعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم و ذلك فيما لو لم يتوبوا أو يتوب عليهم إن تابوا إن الله كان غفورا رحيما. 

  • و في الآية من حيث كونها بيان غاية نكتة لطيفة هي أن المعاصي ربما كانت مقدمة للسعادة و المغفرة لا بما أنها معاص بل لكونها سائقة للنفس من الظلمة و الشقوة إلى حيث تتوحش النفس و تتنبه فتتوب إلى ربها و تنتزع عن معاصيها و ذنوبها فيتوب الله عليها في الغاية. 

  • قوله تعالى{وَ رَدَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ وَ كَانَ اَللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} الغيظ الغم و الحنق و المراد بالخير ما كان يعده الكفار خيرا و هو الظفر بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين. 

  • و المعنى: و رد الله الذين كفروا مع غمهم و حنقهم و الحال أنهم لم ينالوا ما كانوا يتمنونه و كفى الله المؤمنين القتال فلم يقاتلوا و كان الله قويا على ما يريد عزيزا لا يغلب. 

  • قوله تعالى{وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ}إلى قوله {قَدِيراً} المظاهرة المعاونة، و الصياصي‌ جمع صيصية و هي الحصن الذي يمتنع به و لعل التعبير بالإنزال دون الإخراج لأن المتحصنين يصعدون بروج الحصون و يشرفون منها و من أعالي الجدران على أعدائهم في خارجها و محاصريهم. 

  • و المعنى: {وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} أي عاونوا المشركين و هم بنو قريظة {مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} و هم اليهود {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} و حصونهم {وَ قَذَفَ} و ألقى {فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ} و الخوف {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} و هم الرجال {وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً} و هم الذراري و النساء {وَ أَوْرَثَكُمْ} أي و ملككم بعدهم {أَرْضَهُمْ وَ دِيَارَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهَا} و هي أرض خيبر أو الأرض التي أفاء الله مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، و أما تفسيرها بأنها كل أرض ستفتح إلى يوم القيامة أو أرض مكة أو أرض الروم و فارس فلا يلائمه سياق الآيتين {وَ كَانَ اَللَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيراً}

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع ذكر محمد بن كعب القرظي و غيره من أصحاب السير قالوا: كان من 

تفسير الميزان ج۱٦

292
  • حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق و حيي بن أخطب في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: إنا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم. 

  • فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه فأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدى‌ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى قوله {وَ كَفى‌ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} فسر قريشا ما قالوا و نشطوا لما دعوهم إليه فأجمعوا لذلك و اتعدوا له. 

  • ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخبروهم أنهم سيكونون عليه و أن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم. 

  • فخرجت قريش و قائدهم أبو سفيان بن حرب، و خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة و الحارث بن عوف في بني مرة و مسعر بن جبلة الأشجعي فيمن تابعه من الأشجع و كتبوا إلى حلفائهم من بني أسد - فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد و هما حليفان أسد و غطفان و كتب قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلمي فيمن اتبعه من بني سليم مددا لقريش. 

  • فلما علم بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ضرب الخندق على المدينة و كان الذي أشار إليه سلمان الفارسي و كان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يومئذ حر قال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون حتى أحكموه. 

  • فما ظهر من دلائل النبوة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة فاختلف المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسي و كان رجلا قويا فقال الأنصار: سلمان منا، و قال المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سلمان منا أهل البيت

  • قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرن 

تفسير الميزان ج۱٦

293
  • و ستة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الثرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة فكسرت حديدنا و شقت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره عن الصخرة، فأما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب و إما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مضروب عليه قبة فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدورة فكسرت حديدنا و شقت علينا حتى ما يحك فيها قليل و لا كثير فمرنا فيها بأمرك فهبط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مع سلمان في الخندق و أخذ المعول و ضرب بها ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة حتى لكان مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تكبيرة -فتح فكبر المسلمون ثم ضرب ضربة أخرى فلمعت برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى. 

  • فقال سلمان: بأبي أنت و أمي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟ فقال: أما الأولى فإن الله عز و جل فتح علي بها اليمن - و أما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام و المغرب و أما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك و قالوا: الحمد لله موعد صادق. 

  • قال: و طلعت الأحزاب فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله، و قال المنافقون: ألا تعجبون؟ يحدثكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق و لا تستطيعون أن تبرزوا.۱ 

  • و مما ظهر فيه أيضا من آيات النبوة ما رواه أبو عبد الله الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال حدثني، أيمن المخزومي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية و هي الجبل فقلنا: يا رسول الله إن كدية عرضت فيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رشوا عليها ماء ثم قام و أتاها و بطنه معصوب الحجر٢ من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا - ثم ضرب فعادت كثيبا٣ 

  •  

    1. أي تقضوا حاجتكم بالتخلي.
    2. الحجر حضن الإنسان و هو ما دون الإبط إلى الكشح.
    3. أي تلا من الرمل.

تفسير الميزان ج۱٦

294
  • أهيل فقلت: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ففعل فقلت للمرأة هل عندك من شي‌ء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق‌۱ فطحنت الشعير فعجنته و ذبحت العناق و سلختها و خليت بين المرأة و بين ذلك. 

  • ثم أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجلست عنده ساعة ثم قلت: ائذن لي يا رسول الله ففعل فأتيت المرأة فإذا العجين و اللحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقلت: إن عندنا طعيما لنا فقم يا رسول الله أنت و رجلان من أصحابك فقال: و كم هو؟ فقلت: صاع من شعير و عناق فقال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله فقلت: جاء بالخلق إلى صاع شعير و عناق. 

  • فدخلت على المرأة و قلت قد افتضحت جاءك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالخلق أجمعين فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم. فقالت: الله و رسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا فكشفت عني غما شديدا. 

  • فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: خذي و دعيني من اللحم فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يثرد و يفرق اللحم ثم يحم هذا و يحم هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين و يعود التنور و القدر أملأ ما كانا. 

  • ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كلي و أهدي -فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع أورده البخاري في الصحيح

  • قالوا: و لما فرغ رسول الله من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف‌٢ و الغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة، و أقبلت غطفان و من تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع‌٣ في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره و الخندق بينه و بين القوم و أمر بالذراري و النساء فرفعوا في الآطام‌٤ 

  •  

    1. الأنثى من أولاد المعز.
    2. مكان خارج المدينة.
    3. جبل بالمدينة.
    4. حصون لأهل المدينة.

تفسير الميزان ج۱٦

295
  • و خرج عدو الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة و كان قد وادع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على قومه و عاهده على ذلك فلما سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه يا كعب افتح لي فقال: ويحك يا حيي إنك رجل مشئوم، إني قد عاهدت محمدا و لست بناقض ما بيني و بينه، و لم أر منه إلا وفاء و صدقا. قال: ويحك افتح لي حتى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: إن أغلقت دوني إلا على جشيشة تكره أن آكل منها معك. 

  • فأحفظ۱ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر و ببحر طام‌٢ جئتك بقريش على قادتها و سادتها و بغطفان على سادتها و قادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا و من معه. فقال كعب: جئتني و الله بذل الدهر بجهام‌٣ قد أهراق ماءه يرعد و يبرق و ليس فيه شي‌ء فدعني و محمدا و ما أنا عليه فلم أر من محمد إلا صدقا و وفاء. 

  • فلم يزل حيي بكعب يفتل منه في الذروة٤ و الغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا و ميثاقا لئن رجعت قريش و غطفان و لم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده -و برى‌ء مما كان عليه فيما بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • فلما انتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل و هو يومئذ سيد الأوس و سعد بن عبادة أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج و هو يومئذ سيد الخزرج -و معهما عبد الله بن رواحة و خوات بن جبير فقال: انطلقوا حتى تنظروا أ حق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن 

    1. أحفظ الرجل: أغضبه.
    2. الطام: البحر العظيم.
    3. السحاب الذي لا ماء فيه.
    4. الذروة و الغارب أعلى الشي‌ء و أصله مثل مأخوذ من فتل ذروة البعير المصعب و غاربه لوضع الخطام في أنفه.

تفسير الميزان ج۱٦

296
  • كان حقا فالحنوا لنا لحنا نعرفه و لا تفتوا أعضاد الناس و إن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس. 

  • و خرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم. قالوا: لا عقد بيننا و بين محمد و لا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة و شاتموه، و قال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا و بينهم أعظم من المشاتمة. 

  • ثم أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: عضل و القارة لغدر عضل و القارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عدي و أصحابه أصحاب الرجيع فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، و عظم عند ذلك البلاء و اشتد الخوف و أتاهم عدوهم من فوقهم و من أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن و ظهر النفاق من بعض المنافقين

  • فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة - لم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لوي و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطاب و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبد الله قد تلبسوا للقتال و خرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق‌۱ بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: و الله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق و سلع و خرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا - و أقبلت الفرسان نحوهم. 

  • و كان عمرو بن عبد ود فارس قريش و كان قد قاتل يوم بدر حتى ارتث و أثبته الجراح و لم يشهد أحدا - فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، و كان يعد بألف فارس و كان يسمى فارس يليل لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذا كانوا بيليل و هو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم أن يصلوا إليه فعرف بذلك. 

  •  

    1. أعنق به فرسه: سار به سيرا واسعا فسيحا مسيطرا ممتدا.

تفسير الميزان ج۱٦

297
  • و كان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد و كان أول من طفره عمرو و أصحابه فقيل في ذلك. 

  • عمرو بن عبد كان أول فارس***جزع المذاد و كان فارس يليل
  • و ذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود كان ينادي: من يبارز؟ فقام علي و هو مقنع في الحديد فقال: أنا له يا نبي الله، فقال: إنه عمرو اجلس. و نادى عمرو: أ لا رجل؟ و هو يؤنبهم و يقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ و قام علي فقال: أنا له يا رسول الله. ثم نادى الثالثة فقال: 

  • و لقد بححت عن النداء***بجمعكم هل من مبارز؟
  • و وقفت إذ جبن المشجع***موقف البطل المناجز 
  • إن السماحة و الشجاعة في***الفتى خير الغرائز
  • فقام علي فقال: يا رسول الله أنا له، فقال: إنه عمرو، فقال: و إن كان عمرا فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأذن له

  • قال ابن إسحاق: فمشى إليه و هو يقول: 

  • لا تعجلن فقد أتاك***مجيب صوتك غير عاجز
  • ذو نية و بصيرة***والصدق منجي كل فائز
  • إني لأرجو أن أقيم***عليك نائحة الجنائز
  • من ضربة نجلاء يبقى***ذكرها عند الهزاهز
  • قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك. فقال علي: لكني و الله ما أكره أن أهريق دمك. فغضب عمرو و نزل و سل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا فاستقبله علي بدرقته۱ فضربه عمرو بالدرقة فقدها و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجه، و ضربه علي على حبل العاتق فسقط. 

  •  

    1. الدرقة: الجنة. 

تفسير الميزان ج۱٦

298
  • و في رواية حذيفة: و تسيف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه و ثارت بينهما عجاجة فسمع علي يكبر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قتله و الذي نفسي بيده فكان أول من ابتدر العجاج عمرو بن الخطاب و قال: يا رسول الله قتله فجز على رأسه و أقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجهه يتهلل. 

  • قال حذيفة: فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم و ذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا و قد دخله وهن بقتل عمرو، و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا و قد دخله عز بقتل عمرو. 

  • و عن الحاكم أبي القاسم أيضا بالإسناد عن سفيان الثوري عن زبيد الثاني عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: كان يقرأ {وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ} بعلي. 

  • و خرج أصحابه منهزمين حتى طفرت خيولهم الخندق و تبادر المسلمون فوجدوا نوفل بن عبد العزى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام، و ذكر ابن إسحاق: أن عليا طعنة في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق. 

  • و بعث المشركون إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، و ذكر علي أبياتا منها: 

  • نصر الحجارة من سفاهة رأيه***و نصرت رب محمد بصواب
  • فضربته و تركته متجدلا***كالجذع بين دكادك و رواب
  • و عففت عن أثوابه لو أنني***كنت المقطر بزني أثوابي‌
  • قال ابن إسحاق: و رمى حنان بن قيس بن العرفة سعد بن معاذ بسهم و قال: خذها و أنا ابن العرفة فقطع أكحله فقال سعد: عرف الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا - فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك و كذبوه و أخرجوه، و إن كنت وضعت الحرب بيننا و بينهم فاجعله لي شهادة و لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. 

  • قال: و جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت و لم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما أنت فينا 

تفسير الميزان ج۱٦

299
  • رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإنما الحرب خدعة. 

  • فانطلق نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة فقال لهم: إني لكم صديق، و الله ما أنتم و قريش و غطفان من محمد بمنزلة واحدة إن البلد بلدكم و به أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم و إنما قريش و غطفان بلادهم غيرها و إنما جاءوا حتى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها و إن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم و خلوا بينكم و بين الرجل و لا طاقة لكم به فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتى يناجزوا محمدا. فقالوا له: قد أشرت برأي. 

  • ثم ذهب فأتى أبا سفيان و أشراف قريش فقال: يا معشر قريش إنكم قد عرفتم ودي إياكم و فراقي محمدا و دينه و إني قد جئتكم بنصيحة فاكتموا علي. فقالوا: نفعل ما أنت عندنا بمتهم. قال: تعلمون أن بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم و بين محمد فبعثوا إليه أنه لا يرضيك عنا إلا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم و ندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ثم نكون معك عليهم حتى نخرجهم من بلادك. فقال: بلى فإن بعثوا إليكم يسألونك نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا و احذروا. 

  • ثم جاء غطفان و قال: يا معشر غطفان إني رجل منكم، ثم قال لهم ما قال لقريش. 

  • فلما أصبح أبو سفيان و ذلك يوم السبت في شوال سنة خمس من الهجرة بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أن أبا سفيان يقول لكم: يا معشر اليهود إن الكراع و الخف قد هلكا و إنا لسنا بدار مقام فاخرجوا إلى محمد حتى نناجزه. 

  • فبعثوا إليه أن اليوم السبت و هو يوم لا نعمل فيه شيئا و لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا و تدعونا حتى نناجز محمدا.

  • فقال أبو سفيان: و الله لقد حذرنا هذا نعيم فبعث إليهم أبو سفيان: أنا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا و تقاتلوا و إن شئتم فاقعدوا، فقالت اليهود: هذا و الله الذي قال لنا نعيم. فبعثوا إليهم أنا و الله لا نقاتل حتى تعطونا رهنا، و خذل الله بينهم و بعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتى انصرفوا راجعين. 

تفسير الميزان ج۱٦

300
  • قال محمد بن كعب قال حذيفة بن اليمان و الله لقد رأيتنا يوم الخندق و بنا من الجهد و الجوع و الخوف ما لا يعلمه إلا الله و قام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يصلي ما شاء الله من الليل ثم قال: أ لا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنة. قال حذيفة: فوالله ما قام منا أحد مما بنا من الخوف و الجهد و الجوع، فلما لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدا من إجابته. قلت: لبيك قال: اذهب فجي‌ء بخبر القوم و لا تحدثن شيئا حتى ترجع. 

  • قال: و أتيت القوم فإذا ريح الله و جنوده تفعل بهم ما تفعل ما يستمسك لهم بناء و لا تثبت لهم نار و لا يطمئن لهم قدر فإني لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثم قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه؟ قال حذيفة: فبدأت بالذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان. 

  • ثم عاد أبو سفيان براحلته فقال: يا معشر قريش و الله ما أنتم بدار مقام هلك الخف و الحافر و أخلفتنا بنو قريظة و هذه الريح لا يستمسك لنا معها شي‌ء ثم عجل فركب راحلته و إنها لمعقولة ما حل عقالها إلا بعد ما ركبها. 

  • قال: قلت في نفسي: لو رميت عدو الله و قتلته كنت قد صنعت شيئا فوترت قوسي - ثم وضعت السهم في كبد القوس و أنا أريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا تحدثن شيئا حتى ترجع. قال فحططت القوس ثم رجعت إلى رسول الله و هو يصلي فلما سمع حسي فرج بين رجليه فدخلت تحته، و أرسل على طائفة من مرطة۱ فركع و سجد ثم قال: ما الخبر؟ فأخبرته. 

  • و عن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين أجلى عنه الأحزاب: الآن نغزوهم و لا يغزوننا فكان كما قال فلم يغزهم قريش بعد ذلك و كان هو يغزوهم حتى فتح الله عليهم مكة.

  • أقول: هذا ما أورده الطبرسي في مجمع البيان، من القصة أوردناه ملخصا و روى القمي في تفسيره، قريبا منه و أورده في الدر المنثور، في روايات متفرقة. 

  • و في المجمع، أيضا روى الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: 

    1. كساء من صوف و نحوه يؤتزر به.

تفسير الميزان ج۱٦

301
  • لما انصرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الخندق و وضع عنه اللأمة و اغتسل و استحم تبدي له جبريل فقال: عذيرك من محارب أ لا أراك أن قد وضعت عنك اللأمة و ما وضعناها بعد. 

  • فوثب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس و اختصم الناس فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي قريظة فإنما نحن في عزمة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فليس علينا إثم، و صلى طائفة من الناس احتسابا و تركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاءوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) واحدا من الفريقين. 

  • و ذكر عروة أنه بعث علي بن أبي طالب على المقدم و دفع إليه اللواء و أمره أن ينطلق حتى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل و خرج رسول الله على آثارهم فمر على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فزعموا أنه قال: مر بكم الفارس آنفا فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليس ذلك بدحية و لكنه جبرائيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقذف في قلوبهم الرعب. 

  • قالوا: و سار علي حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرجع حتى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال: أظنك سمعت لي منهم أذى؟ فقال: نعم يا رسول الله فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من حصونهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير! هل أخزاكم الله و أنزل بكم نقمته؟ فقالوا: يا أبا لقاسم ما كنت جهولا. 

  • و حاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خمسا و عشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار و قذف الله في قلوبهم الرعب، و كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش و غطفان فلما أيقنوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون و إني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم قالوا: ما هن؟ 

تفسير الميزان ج۱٦

302
  • قال: نبايع هذا الرجل و نصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل و أنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره. 

  • قال: فإذا أبيتم علي هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا و نساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف و لم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا و بين محمد فإن نهلك نهلك و لم نترك وراءنا نسلا يهمنا و إن نظهر لنجدن النساء و الأبناء. فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير في العيش بعدهم. 

  • قال: فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت و عسى أن يكون محمد و أصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فلعلنا نصيب منهم غرة. فقالوا: نفسد سبتنا؟ و نحدث فيه ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما. 

  • قال الزهري: و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بسلاحهم فجعل في قبته و أمر بهم فكتفوا و أوثقوا و جعلوا في دار أسامة، و بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى سعد بن معاذ فجي‌ء به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلوهم و تسبى ذراريهم و نساؤهم و تغنم أموالهم و أن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار و قال للأنصار: إنكم ذو عقار و ليس للمهاجرين عقار، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز و جل، و في بعض الروايات: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة و أرقعة جمع رقيع اسم سماء الدنيا. 

  • فقتل رسول الله مقاتليهم، و كانوا فيما زعموا: ستمائة مقاتل، و قيل: قتل منهم أربعمائة و خمسين رجلا و سبى سبعمائة و خمسين، و روي أنهم قالوا لكعب بن أسد و هم يذهب بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إرسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب: أ في كل موطن تقولون؟ أ لا ترون أن الداعي لا ينزع و من يذهب منكم لا يرجع هو و الله القتل. 

تفسير الميزان ج۱٦

303
  • و أتي بحيي بن أخطب عدو الله عليه حلة فاختية قد شقها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما بصر برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أما و الله ما لمت نفسي على عداوتك و لكنه من يخذل الله يخذل ثم قال: يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب الله و قدرة ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه. 

  • ثم قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نساءهم و أبناءهم و أموالهم على المسلمين و بعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بهم خيلا و سلاحا، قالوا: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد. 

  • و روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبرائيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء و تحرك له العرش فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا سعد بن معاذ قد قبض. 

  • أقول: و روى القصة القمي في تفسيره، مفصلة و فيه: فأخرج كعب بن أسيد مجموعة يداه إلى عنقه فلما نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال له: يا كعب أ ما نفعك وصية ابن الحواس الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر و الخمير و جئت إلى البئوس و التمور لنبي يبعث مخرجه بمكة و مهاجرته في هذه البحيرة يجتزي بالكسيرات و التميرات، و يركب الحمار العري، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر فقال قد كان ذلك يا محمد و لو لا أن اليهود يعيروني أني جزعت عند القتل لآمنت بك و صدقتك و لكني على دين اليهود عليه أحيا و عليه أموت. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قدموه و اضربوا عنقه فضربت. 

  • و فيه أيضا: فقتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في البردين بالغداة و العشي في ثلاثة أيام و كان يقول: اسقوهم العذب و أطعموهم الطيب و أحسنوا أساراهم حتى قتلهم كلهم فأنزل الله عز و جل فيهم: {وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} إلى قوله {وَ كَانَ اَللَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيراً}

تفسير الميزان ج۱٦

304
  • و في المجمع: روى أبو القاسم الحسكاني عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن علي (عليه السلام) قال: فينا نزلت {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ} فأنا و الله المنتظر ما بدلت تبديلا. 

  •  

  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٢٨ الی ٣٥]

  • {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ٢٨ وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ٢٩ يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً ٣٠وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ٣١ يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ٣٢ وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولى‌ وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاَةَ وَ آتِينَ اَلزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ٣٣ وَ اُذْكُرْنَ مَا يُتْلى‌ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ٣٤ إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ اَلْقَانِتِينَ 

تفسير الميزان ج۱٦

305
  • وَ اَلْقَانِتَاتِ وَ اَلصَّادِقِينَ وَ اَلصَّادِقَاتِ وَ اَلصَّابِرِينَ وَ اَلصَّابِرَاتِ وَ اَلْخَاشِعِينَ وَ اَلْخَاشِعَاتِ وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقَاتِ وَ اَلصَّائِمِينَ وَ اَلصَّائِمَاتِ وَ اَلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحَافِظَاتِ وَ اَلذَّاكِرِينَ اَللَّهَ كَثِيراً وَ اَلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ٣٥} 

  • (بيان) 

  • آيات راجعة إلى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تأمره أولا: أن ينبئهن أن ليس لهن من الدنيا و زينتها إلا العفاف و الكفاف إن اخترن زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، ثم تخاطبهن ثانيا: أنهن واقفات في موقف صعب على ما فيه من العلو و الشرف فإن اتقين الله يؤتين أجرهن مرتين و إن أتين بفاحشة مبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين و يأمرهن بالعفة و لزوم بيوتهن من غير تبرج و الصلاة و الزكاة و ذكر ما يتلى في بيوتهن من الآيات و الحكمة ثم يعد مطلق الصالحين من الرجال و النساء وعدا بالمغفرة و الأجر العظيم. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين، سياق الآيتين يلوح أن أزواج النبي أو بعضهن كانت لا ترتضي ما في عيشتهن في بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الضيق و الضنك فاشتكت إليه ذلك و اقترحت عليه أن يسعدهن في الحياة بالتوسعة فيها و إيتائهن من زينتها. 

  • فأمر الله سبحانه نبيه أن يخيرهن بين أن يفارقنه و لهن ما يردن و بين أن يبقين عنده و لهن ما هن عليه من الوضع الموجود. 

  • و قد ردد أمرهن بين أن يردن الحياة الدنيا و زينتها و بين أن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة، و هذا الترديد يدل أولا: أن الجمع بين سعة العيش و صفائها بالتمتع من الحياة و زينتها و زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و العيشة في بيته مما لا يجتمعان. 

تفسير الميزان ج۱٦

306
  • و ثانيا: أن كلا من طرفي الترديد مقيد بما يقابل الآخر، و المراد بإرادة الحياة الدنيا و زينتها جعلها هي الأصل سواء أريدت الآخرة أو لم يرد، و المراد بإرادة الحياة الآخرة جعلها هي الأصل في تعلق القلب بها سواء توسعت معها الحياة الدنيا و نيلت الزينة و صفاء العيش أو لم يكن شي‌ء من ذلك. 

  • ثم الجزاء أعني نتيجة اختيارهن كلا من طرفي الترديد مختلف فلهن على تقدير اختيارهن الحياة الدنيا و زينتها بمفارقة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يطلقهن و يمتعهن جمعاء من مال الدنيا، و على تقدير بقائهن على زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اختيار الآخرة على الحياة الدنيا و زينتها الأجر العظيم عند الله لكن لا مطلقا بل بشرط الإحسان و العمل الصالح. 

  • و يتبين بذلك أن ليس لزوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حيث هي زوجية كرامة عند الله سبحانه و إنما الكرامة لزوجيته المقارنة للإحسان و التقوى و لذلك لما ذكر ثانيا علو منزلتهن قيده أيضا بالتقوى فقال: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ} و هذا كقوله في النبي و أصحابه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} إلى أن قال {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً} حيث مدحهم عامة بظاهر أعمالهم أولا ثم قيد وعدهم الأجر العظيم بالإيمان و العمل الصالح. 

  • و بالجملة فإطلاق قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: الحجرات: ١٠على حاله غير منتقض بكرامة أخرى بسبب أو نسب أو غير ذلك. 

  • فقوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغ الآيتين أزواجه و لازمه أن يطلقهن و يمتعهن إن اخترن الشق الأول و يبقيهن على زوجيته إن اخترن الله و رسوله و الدار الآخرة. 

  • و قوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا} إرادة الحياة الدنيا و زينتها كناية بقرينة المقابلة عن اختيارها و تعلق القلب بتمتعاتها و الإقبال عليها و الإعراض عن الآخرة. 

  • و قوله: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} قال في الكشاف: أصل تعال‌ أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطأ ثم كثرت حتى استوت في 

تفسير الميزان ج۱٦

307
  • استعماله الأمكنة، و معنى تعالين أقبلن بإرادتكن و اختياركن لأحد أمرين و لم يرد نهوضهن بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني و ذهب يكلمني و قام يهددني. انتهى. 

  • و التمتيع‌ إعطاؤهن عند التطليق مالا يتمتعن به و التسريح‌ هو التطليق و السراح الجميل‌ هو الطلاق من غير خصومة و مشاجرة بين الزوجين. 

  • و في الآية أبحاث فقهية أوردها المفسرون و الحق أن ما تتضمنه من الأحكام الشخصية خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا دليل من جهة لفظها على شموله لغيره و تفصيل القول في الفقه. 

  • و قوله: {وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ} فقد تقدم أن المقابلة بين هذه الجملة و بين قوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا} إلخ، تقيد كلا منهما بخلاف الأخرى و عدمها، فمعنى الجملة: و إن كنتن تردن و تخترن طاعة الله و رسوله و سعادة الدار الآخرة مع الصبر على ضيق العيش و الحرمان من زينة الحياة الدنيا و هي مع ذلك كناية عن البقاء في زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصبر على ضيق العيش و إلا لم يصح اشتراك الإحسان في الأجر الموعود و هو ظاهر. 

  • فالمعنى: و إن كنتن تردن و تخترن البقاء على زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصبر على ضيق العيش فإن. الله هيأ لكن أجرا عظيما بشرط أن تكن محسنات في أعمالكن مضافا إلى إرادتكن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن لم تكن محسنات لم يكن لكن إلا خسران الدنيا و الآخرة جميعا. 

  • قوله تعالى{يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} إلخ، عدل عن مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهن إلى مخاطبتهن أنفسهن لتسجيل ما لهن من التكليف و زيادة التوكيد، و الآية و التي بعدها تقرير و توضيح بنحو لما يستفاد من قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} إثباتا و نفيا. 

  • فقوله: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الفاحشة الفعلة البالغة في الشناعة و القبح و هي الكبيرة كإيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الافتراء و الغيبة و غير ذلك، و المبينة هي الظاهرة. 

  • و قوله: {يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي حال كونه ضعفين و الضعفان المثلان 

تفسير الميزان ج۱٦

308
  • و يؤيد هذا المعنى قوله في جانب الثواب بعد: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} فلا يعبأ بما قيل إن المراد بمضاعفة العذاب ضعفين تعذيبهم بثلاثة أمثاله بتقريب أن مضاعفة العذاب زيادته و إذا زيد على العذاب ضعفاه صار المجموع ثلاثة أمثاله. 

  • و ختم الآية بقوله: {وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً} للإشارة إلى أنه لا مانع من ذلك من كرامة الزوجية و نحوها إذ لا كرامة إلا للتقوى و زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما تؤثر الأثر الجميل إذا قارن التقوى و أما مع المعصية فلا تزيد إلا بعدا و وبالا. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} إلخ، القنوت‌ الخضوع، و قيل: الطاعة و قيل: لزوم الطاعة مع الخضوع، و الاعتاد التهيئة، و الرزق الكريم مصداقه الجنة. 

  • و المعنى: و من يخضع منكن لله و رسوله أو لزم طاعة الله و رسوله مع الخضوع و يعمل عملا صالحا نعطها أجرها مرتين أي ضعفين و هيأنا لها رزقا كريما و هي الجنة. 

  • و الالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله: {نُؤْتِهَا} و {أَعْتَدْنَا} للإيذان بالقرب و الكرامة، خلاف البعد و الخزي المفهوم من قوله: {يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}

  • قوله تعالى{يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} إلخ، الآية تنفي مساواتهن لسائر النساء إن اتقين و ترفع منزلتهن على غيرهن ثم تذكر أشياء من النهي و الأمر متفرعة على كونهن لسن كسائر النساء كما يدل عليه قوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}{وَ قَرْنَ}{وَ لاَ تَبَرَّجْنَ} إلخ، و هي خصال مشتركة بين نساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سائر النساء. 

  • فتصدير الكلام بقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ} ثم تفريع هذه التكاليف المشتركة عليه، يفيد تأكد هذه التكاليف عليهن كأنه قيل: لستن كغيركن فيجب عليكن أن تبالغن في امتثال هذه التكاليف و تحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء. 

  • و تؤيد بل تدل على تأكد تكاليفهن مضاعفة جزائهن خيرا و شرا كما دلت عليها الآية السابقة فإن مضاعفة الجزاء لا تنفك عن تأكد التكليف. 

  • و قوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} بعد ما بين علو 

تفسير الميزان ج۱٦

309
  • منزلتهن و رفعة قدرهن لمكانهن من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شرط في ذلك التقوى فبين أن فضيلتهن بالتقوى لا بالاتصال بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نهاهن عن الخضوع في القول‌ و هو ترقيق الكلام و تليينه مع الرجال بحيث يدعو إلى الريبة و تثير الشهوة فيطمع الذي في قلبه مرض و هو فقدان قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء. 

  • و قوله: {وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} أي كلاما معمولا مستقيما يعرفه الشرع و العرف الإسلامي و هو القول الذي لا يشير بلحنه إلى أزيد من مدلوله معرى عن الإيماء إلى فساد و ريبة. 

  • قوله تعالى{وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولىَ} إلى قوله {وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} «قرن» من قر يقر إذا ثبت و أصله اقررن حذفت إحدى الرائين أو من قار يقار إذا اجتمع كناية عن ثباتهن في بيوتهن و لزومهن لها، و التبرج‌ الظهور للناس كظهور البروج لناظريها. و الجاهلية الأولى‌ الجاهلية قبل البعثة فالمراد الجاهلية القديمة، و قول بعضهم: إن المراد به زمان ما بين آدم و نوح (عليه السلام) ثمان مائة سنة، و قول آخرين إنها ما بين إدريس و نوح، و قول آخرين زمان داود و سليمان و قول آخرين إنه زمان ولادة إبراهيم، و قول آخرين إنه زمان الفترة بين عيسى (عليه السلام) و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أقوال لا دليل يدل عليها. 

  • و قوله: {وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاَةَ وَ آتِينَ اَلزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} أمر بامتثال الأوامر الدينية و قد أفرد الصلاة و الزكاة بالذكر من بينها لكونهما ركنين في العبادات و المعاملات ثم جمع الجميع في قوله: {وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ}

  • و طاعة الله‌ هي امتثال تكاليفه الشرعية و طاعة رسوله فيما يأمر به و ينهى بالولاية المجعولة له من عند الله كما قال: {اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}

  • قوله تعالى{إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} كلمة {إِنَّمَا} تدل على حصر الإرادة في إذهاب الرجس و التطهير و كلمة أهل البيت سواء كان لمجرد الاختصاص أو مدحا أو نداء يدل على اختصاص إذهاب الرجس و التطهير بالمخاطبين بقوله: {عَنْكُمُ}، ففي الآية في الحقيقة قصران قصر الإرادة في إذهاب الرجس و التطهير و قصر إذهاب الرجس و التطهير في أهل البيت. 

تفسير الميزان ج۱٦

310
  • و ليس المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة لمكان الخطاب الذي في قوله: {عَنْكُمُ} و لم يقل: عنكن فأما أن يكون الخطاب لهن و لغيرهن كما قيل: إن المراد بأهل البيت أهل البيت الحرام و هم المتقون لقوله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ} أو أهل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أو أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم الذين يصدق عليهم عرفا أهل بيته من أزواجه و أقربائه و هم آل عباس و آل عقيل و آل جعفر و آل علي أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أزواجه، و لعل هذا هو المراد مما نسب إلى عكرمة و عروة أنها في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة. 

  • أو يكون الخطاب لغيرهن كما قيل: إنهم أقرباء النبي من آل عباس و آل عقيل و آل جعفر و آل علي. 

  • و على أي حال فالمراد بإذهاب الرجس و التطهير مجرد التقوى الديني بالاجتناب عن النواهي و امتثال الأوامر فيكون المعنى أن الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف إليكم و إنما يريد إذهاب الرجس عنكم و تطهيركم على حد قوله: {مَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}: المائدة: ٦ و هذا المعنى لا يلائم شيئا من معاني أهل البيت السابقة لمنافاته البينة للاختصاص المفهوم من أهل البيت لعمومه لعامة المسلمين المكلفين بأحكام الدين. 

  • و إن كان المراد بإذهاب الرجس و التطهير التقوى الشديد البالغ و يكون المعنى: أن هذا التشديد في التكاليف المتوجهة إليكن أزواج النبي و تضعيف الثواب و العقاب ليس لينتفع الله سبحانه به بل ليذهب عنكم الرجس و يطهركم و يكون من تعميم الخطاب لهن و لغيرهن بعد تخصيصه بهن، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصا بغيرهن و هو ظاهر و لا عموم الخطاب لهن و لغيرهن فإن الغير لا يشاركهن في تشديد التكليف و تضعيف الثواب و العقاب. 

  • لا يقال: لم لا يجوز أن يكون الخطاب على هذا التقدير متوجها إليهن مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تكليفه شديد كتكليفهن. 

  • لأنه يقال: إنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مؤيد بعصمة من الله و هي موهبة إلهية غير مكتسبة بالعمل فلا معنى لجعل تشديد التكليف و تضعيف الجزاء بالنسبة إليه مقدمة أو سببا لحصول 

تفسير الميزان ج۱٦

311
  • التقوى الشديد له امتنانا عليه على ما يعطيه سياق الآية و لذلك لم يصرح بكون الخطاب متوجها إليهن مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقط أحد من المفسرين و إنما احتملناه لتصحيح قول من قال: إن الآية خاصة بأزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و إن كان المراد إذهاب الرجس و التطهير بإرادته تعالى ذلك مطلقا لا بتوجيه مطلق التكليف و لا بتوجيه التكليف الشديد بل إرادة مطلقة لإذهاب الرجس و التطهير لأهل البيت خاصة بما هم أهل البيت كان هذا المعنى منافيا لتقييد كرامتهن بالتقوى سواء كان المراد بالإرادة الإرادة التشريعية أو التكوينية. 

  • و بهذا الذي تقدم يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآية نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي و فاطمة و الحسنين (عليه السلام) خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم. 

  • و هي روايات جمة تزيد على سبعين حديثا يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة و عائشة و أبي سعيد الخدري و سعد و وائلة بن الأسقع و أبي الحمراء و ابن عباس و ثوبان مولى النبي و عبد الله بن جعفر و علي و الحسن بن علي (عليه السلام) في قريب من أربعين طريقا. 

  • و روتها الشيعة عن علي و السجاد و الباقر و الصادق و الرضا (عليه السلام) و أم سلمة و أبي ذر و أبي ليلى و أبي الأسود الدؤلي و عمرو بن ميمون الأودي و سعد بن أبي وقاص في بضع و ثلاثين طريقا. 

  • فإن قيل: إن الروايات إنما تدل على شمول الآية لعلي و فاطمة و الحسنين (عليه السلام) و لا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهن. 

  • قلنا: إن كثيرا من هذه الروايات و خاصة ما رويت عن أم سلمة و في بيتها نزلت الآية تصرح باختصاصها بهم و عدم شمولها لأزواج النبي و سيجي‌ء الروايات و فيها الصحاح. 

  • فإن قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن كوقوع الآية في سياق خطابهن. 

  • قلنا: إنما الشأن كل الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصة في نزول الآية وحدها، و لم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي و لا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج 

تفسير الميزان ج۱٦

312
  • النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءا من آيات نساء النبي و لا متصلة بها و إنما وضعت بينها إما بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو عند التأليف بعد الرحلة، و يؤيده أن آية {وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} على انسجامها و اتصالها لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية {وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} كموقع آية {اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} من آية محرمات الأكل من سورة المائدة، و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء الخامس من الكتاب. 

  • و بالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا في عرف القرآن بهؤلاء الخمسة و هم النبي و علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) لا يطلق على غيرهم، و لو كان من أقربائه الأقربين و إن صح بحسب العرف العام إطلاقه عليهم. 

  • و الرجس بالكسر فالسكون صفة من الرجاسة و هي القذارة، و القذارة هيئة في الشي‌ء توجب التجنب و التنفر منها، و تكون بحسب ظاهر الشي‌ء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}: الأنعام: ١٤٥ و بحسب باطنه و هو الرجاسة و القذارة المعنوية كالشرك و الكفر و أثر العمل السيئ، قال تعالى: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ مَاتُوا وَ هُمْ كَافِرُونَ}: التوبة: ١٢٥ و قال: {وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأنعام: ١٢٥. 

  • و أيا ما كان فهو إدراك نفساني و أثر شعوري من تعلق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيئ و إذهاب الرجس و اللام فيه للجنس إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تخطئ حق الاعتقاد و العمل فتنطبق على العصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد و سيئ العمل. 

  • على أنك عرفت أن إرادة التقوى أو التشديد في التكاليف لا تلائم اختصاص الخطاب في الآية بأهل البيت، و عرفت أيضا أن إرادة ذلك لا تناسب مقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من العصمة. 

  • فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة و يكون المراد بالتطهير في قوله: {وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} و قد أكد بالمصدر إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله 

تفسير الميزان ج۱٦

313
  • بعد إذهاب أصله، و من المعلوم أن ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد و العمل، و يكون المراد بالإرادة أيضا غير الإرادة التشريعية لما عرفت أن الإرادة التشريعية التي هي توجيه التكاليف إلى المكلف لا تلائم المقام أصلا. 

  • و المعنى: أن الله سبحانه تستمر إرادته أن يخصكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل و أثر العمل السيئ عنكم أهل البيت و إيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم و هي العصمة. 

  • قوله تعالى{وَ اُذْكُرْنَ مَا يُتْلىَ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} ظاهر السياق أن المراد بالذكر ما يقابل النسيان إذ هو المناسب لسياق التأكيد و التشديد الذي في الآيات فيكون بمنزلة الوصية بعد الوصية بامتثال ما وجه إليهن من التكاليف، و في قوله {فِي بُيُوتِكُنَّ} تأكيد آخر. 

  • و المعنى: و احفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة و ليكن منكن في بال حتى لا تغفلن و لا تتخطين مما خط لكم من المسير. 

  • و أما قول بعضهم: إن المراد و اشكرن الله إذ صيركن في بيوت يتلى فيهن القرآن و السنة فبعيد من السياق و خاصة بالنظر إلى قوله في ذيل الآية: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ} إلخ، الإسلام لا يفرق بين الرجال و النساء في التلبس بكرامة الدين و قد أشار سبحانه إلى ذلك إجمالا في مثل قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىَ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: الحجرات: ١٣ ثم صرح به في مثل قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ}: آل عمران: ١٩٥ ثم صرح به تفصيلا في هذه الآية. 

  • فقوله: {إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ} المقابلة بين الإسلام و الإيمان تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة و الذي يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى: {قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 

تفسير الميزان ج۱٦

314
  • إلى أن قال {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}: الحجرات: ١٥ يفيد أولا أن الإسلام هو تسليم الدين بحسب العمل و ظاهر الجوارح و الإيمان أمر قلبي. و ثانيا: أن الإيمان الذي هو أمر قلبي اعتقاد و إذعان باطني بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح. 

  • فالإسلام هو التسليم العملي للدين بإتيان عامة التكاليف و المسلمون و المسلمات هم المسلمون لذلك و الإيمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح و المؤمنون و المؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح فكل مؤمن مسلم و لا عكس. 

  • و قوله: {وَ اَلْقَانِتِينَ وَ اَلْقَانِتَاتِ} القنوت على ما قيل لزوم الطاعة مع الخضوع و قوله: {وَ اَلصَّادِقِينَ وَ اَلصَّادِقَاتِ} الصدق‌ مطابقة ما يخبر به الإنسان أو يظهره، للواقع. فهم صادقون في دعواهم صادقون في قولهم صادقون في وعدهم. 

  • و قوله: {وَ اَلصَّابِرِينَ وَ اَلصَّابِرَاتِ} فهم متلبسون بالصبر عند المصيبة و النائبة و بالصبر على الطاعة و بالصبر عن المعصية، و قوله: {وَ اَلْخَاشِعِينَ وَ اَلْخَاشِعَاتِ} الخشوع‌ تذلل باطني بالقلب كما أن الخضوع تذلل ظاهري بالجوارح. 

  • و قوله: {وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقَاتِ} و الصدقة إنفاق المال في سبيل الله و منه الزكاة الواجبة، و قوله: {وَ اَلصَّائِمِينَ وَ اَلصَّائِمَاتِ} بالصوم الواجب و المندوب، و قوله: {وَ اَلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحَافِظَاتِ} أي لفروجهن و ذلك بالتجنب عن غير ما أحل الله لهم، و قوله: {وَ اَلذَّاكِرِينَ اَللَّهَ كَثِيراً وَ اَلذَّاكِرَاتِ} أي الله كثيرا حذف لظهوره و هم الذين يكثرون من ذكر الله بلسانهم و جنانهم و يشمل الصلاة و الحج. 

  • و قوله: {أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً} التنكير للتعظيم. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} كان سبب نزولها أنه لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوة خيبر و أصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه أعطنا ما أصبت فقال لهن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قسمته بين المسلمين على ما أمر الله عز و جل 

تفسير الميزان ج۱٦

315
  • فغضبن من ذلك، و قلن: لعلك ترى أنك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا؟ 

  • فأنف الله عز و جل لرسوله فأمره أن يعزلهن فاعتزلهن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في مشربة أم إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتى حضن و طهرن ثم أنزل الله عز و جل هذه الآية و هي آية التخيير فقال: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قوله {أَجْراً عَظِيماً} فقامت أم سلمة أول من قامت فقالت: قد اخترت الله و رسوله فقمن كلهن فعانقنه و قلن مثل ذلك‌ الحديث. 

  • أقول: و روي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة و فيها أن أول من اختارت الله و رسوله منهن عائشة. 

  • و في الكافي بإسناده عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن زينب بنت جحش قالت: يرى رسول الله إن خلى سبيلنا أن لا نجد زوجا غيره و قد كان اعتزل نساءه تسعة و عشرين ليلة فلما قالت زينب الذي قالت بعث الله جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآيتين كلتيهما فقلن: بل نختار الله و رسوله و الدار الآخرة. 

  • و فيه بإسناده عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها بانت؟ قال: لا. إنما هذا شي‌ء كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة أمر بذلك ففعل، و لو اخترن أنفسهن لطلقهن و هو قول الله عز و جل: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}.

  • و في المجمع روى الواحدي بالإسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالسا مع حفصة فتشاجرا بينهما فقال لها: هل لك أن أجعل بيني و بينك رجلا؟ قالت: نعم. 

  • فأرسل إلى عمر فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي، فقالت: يا رسول الله تكلم و لا تقل إلا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها ثم رفع يده فوجأ وجهها . 

  • فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): كف فقال عمر: يا عدوة الله النبي لا يقول إلا حقا و الذي بعثه بالحق، لو لا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي فقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فصعد 

تفسير الميزان ج۱٦

316
  • إلى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه يتغدى و يتعشى فيها فأنزل الله تعالى هذه الآيات. 

  • و في الخصال عن الصادق (عليه السلام) قال: تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بخمس عشرة امرأة و دخل بثلاث عشر امرأة منهن، و قبض عن تسع فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة و سنا. و أما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد ثم سودة بنت زمعة ثم أم سلمة و اسمها هند بنت أبي أمية ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر ثم حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش ثم أم حبيب رملة بنت أبي سفيان ثم ميمونة بنت الحارث ثم زينب بنت عميس ثم جويرية بنت الحارث ثم صفية بنت حيي بن أخطب و التي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم السلمي . 

  • و كان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية و ريحانة الخندفية. 

  • و التسع اللاتي قبض عنهن عائشة و حفصة و أم سلمة و زينب بنت جحش و ميمونة بنت الحارث و أم حبيب بنت أبي سفيان و جويرية و سودة و صفية. و أفضلهن خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة ثم ميمونة. 

  • و في المجمع: في قوله: {يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} الآيتين: روى محمد بن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن علي بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام): أنه قال رجل إنكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب و قال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبي من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر و لمسيئنا ضعفين من العذاب.

  • و في تفسير القمي مسندا عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية {وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولى‌} قال: أي ستكون جاهلية أخرى

  • أقول: و هو استفادة لطيفة. 

  • و في الدر المنثور أخرج الطبراني عن أم سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لفاطمة: ائتيني بزوجك و ابنيه فجاءت بهم فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل محمد و في لفظ آل محمد فاجعل صلواتك 

تفسير الميزان ج۱٦

317
  • و بركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . 

  • قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي و قال: إنك على خير.

  • أقول: و رواه في غاية المرام عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بإسناده عن أم سلمة. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} و في البيت سبعة جبريل و ميكائيل و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و أنا على باب البيت. 

  • قلت: يا رسول الله أ لست من أهل البيت؟ قال: إنك على خير إنك من أزواج النبي. 

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة زوج النبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ادعي زوجك و ابنيك حسنا و حسينا فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}

  • فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بفضلة إزاره فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء و أومأ بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالها ثلاث مرات. 

  • قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله و أنا معكم؟ فقال: إنك إلى خير مرتين. 

  • أقول: و روى الحديث في غاية المرام عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بثلاث طرق عن أم سلمة و كذا عن تفسير الثعلبي. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: كان يوم أم سلمة أم المؤمنين فنزل جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بحسن و حسين و فاطمة و علي فضمهم إليه و نشر عليهم الثوب، و الحجاب على أم سلمة مضروب، ثم 

تفسير الميزان ج۱٦

318
  • قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: فأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك و إنك على خير.

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): نزلت هذه الآية في خمسة في و في علي و فاطمة و حسن و حسين {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

  • أقول: و رواه أيضا في غاية المرام عن الثعلبي في تفسيره. 

  • و فيه أخرج الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ} و في البيت فاطمة و علي و الحسن و الحسين فجللهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

  • و في غاية المرام عن الحميدي قال: الرابع و الستون من المتفق عليه من الصحيحين عن البخاري و مسلم من مسند عائشة عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: خرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذات غداة و عليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

  • أقول: و الحديث مروي عنها بطرق مختلفة. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما دخل علي بفاطمة جاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أربعين صباحا إلى بابها يقول: السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته الصلاة رحمكم الله {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} أنا حرب لمن حاربتم أنا سلم لمن سالمتم.

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

  • أقول: و رواه أيضا عن الطبراني عن أبي الحمراء و لفظه: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۱٦

319
  • يأتي باب علي و فاطمة ستة أشهر فيقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ} (الآية). و أيضا عن ابن جرير و ابن مردويه عن أبي الحمراء و لفظه: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى إلى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال: الصلاة الصلاة {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ} (الآية). 

  • و رواه أيضا عن ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس و لفظه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر و يقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

  • أقول: و الروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة و كذا من طرق الشيعة، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني و العبقات. 

  • و في غاية المرام عن الحمويني بإسناده عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ألا إني تركت فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله عز و جل من اتبعه كان على هدى و من تركه كان على ضلالة، ثم أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاث مرات 

  • قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أهل بيته عصبته الذين حرموا الصدقة بعده آل علي و آل عباس و آل جعفر و آل عقيل.

  • و فيه أيضا عن مسلم في صحيحة بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على ضلالة، فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر ثم الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أهلها و قومها. أهل بيته أصله و عصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

  • أقول: فسر البيت بالنسب كما يطلق عرفا على هذا المعنى، يقال: بيوتات العرب بمعنى الأنساب، لكن الروايات السابقة عن أم سلمة و غيرها تدفع هذا المعنى و تفسير أهل البيت بعلي و فاطمة و ابنيهما (عليه السلام). 

  •  و في المجمع قال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع 

تفسير الميزان ج۱٦

320
  • زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: هل نزل فينا شي‌ء من القرآن؟ قلن: لا. 

  • فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة و خسار، فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): و مم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله تعالى هذه الآية {إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ} إلخ. 

  • أقول: و في روايات أخر أن القائلة هي أم سلمة. 

  •  

  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٣٦ الی ٤٠]

  • {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ٣٦ وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضى‌ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً ٣٧ مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ٣٨ اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ وَ كَفى‌ بِاللَّهِ حَسِيباً ٣٩ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً ٤٠}  

تفسير الميزان ج۱٦

321
  • (بيان) 

  • الآيات أعني قوله: {وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ} إلى قوله {وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً} في قصة تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بزوج مولاه زيد الذي كان قد اتخذه ابنا، و لا يبعد أن تكون الآية الأولى أعني قوله: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ} (الآية)، مرتبطة بالآيات التالية كالتوطئة لها. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} إلخ، يشهد السياق على أن المراد بالقضاء هو القضاء التشريعي دون التكويني فقضاء الله تعالى حكمه التشريعي في شي‌ء مما يرجع إلى أعمال العباد أو تصرفه في شأن من شئونهم بواسطة رسول من رسله، و قضاء رسوله هو الثاني من القسمين و هو التصرف في شأن من شئون الناس بالولاية التي جعلها الله تعالى له بمثل قوله: {اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}

  • فقضاؤه (صلى الله عليه وآله و سلم) قضاء منه بولايته و قضاء من الله سبحانه لأنه الجاعل لولايته المنفذ أمره، و يشهد سياق قوله: {إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً} حيث جعل الأمر الواحد متعلقا لقضاء الله و رسوله معا، على أن المراد بالقضاء التصرف في شئون الناس دون الجعل التشريعي المختص بالله. 

  • و قوله: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ} أي ما صح و لا يحق لأحد من المؤمنين و المؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاءوا و قوله: {إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً} ظرف لنفي الاختيار. 

  • و ضميرا الجمع في قوله: {لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} للمؤمن و المؤمنة المراد بهما جميع المؤمنين و المؤمنات لوقوعهما في حيز النفي و وضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل: {مِنْ أَمْرِهِمْ} و لم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشإ توهم الخيرة و هو انتساب الأمر إليهم. 

  • و المعنى: ليس لأحد من المؤمنين و المؤمنات إذا قضى الله و رسوله بالتصرف في 

تفسير الميزان ج۱٦

322
  • أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم و كونه أمرا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله و رسوله بل عليهم أن يتبعوا إرادة الله و رسوله. 

  • و الآية عامة لكنها لوقوعها في سياق الآيات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما سيجي‌ء من قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (الآية)، حيث يلوح منه أن بعضهم كان قد اعترض على تزوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بزوج زيد و تعييره بأنها كانت زوج ابنه المدعو له بالتبني و سيجي‌ء في البحث الروائي بعض ما يتعلق بالمقام. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ} إلى آخر الآية المراد بهذا الذي أنعم الله عليه و أنعم النبي عليه زيد بن حارثة الذي كان عبدا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم حرره و اتخذه ابنا له و كان تحته زينب بنت جحش بنت عمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الطلاق ثم طلقها زيد فتزوجها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزلت الآيات. 

  • فقوله: {أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ} أي بالهداية إلى الإيمان و تحبيبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قوله: {وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أي بالإحسان إليه و تحريره و تخصيصه بنفسك، و قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ} كناية عن الكف عن تطليقها، و لا يخلو من إشعار بإصرار زيد على تطليقها. 

  • و قوله: {وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ} أي مظهره {وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ذيل الآيات أعني قوله: {اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} دليل على أن خشيته (صلى الله عليه وآله و سلم) الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره عابه الناس و طعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في إيمان العامة، و هذا الخوف كما ترى ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه. 

  • و قوله: {وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الظاهر في نوع من العتاب ردع عن نوع من خشية الله و هي خشيته عن طريق الناس و هداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى و أنه كان من الحري أن يخشى الله دون الناس و لا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه و هذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتروج زوج زيد الذي كان تبناه 

تفسير الميزان ج۱٦

323
  • ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الأدعياء و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخفيه في نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فآمنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إلى قوله {وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ} (الآية). 

  • فظاهر العتاب الذي يلوح من قوله: {وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} مسوق لانتصاره و تأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممن في قلوبهم مرض نظير ما تقدم في قوله: {عَفَا اَللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكَاذِبِينَ}: التوبة: ٤٣. 

  • و من الدليل على أنه انتصار و تأييد في صورة العتاب قوله بعد: {فَلَمَّا قَضى‌ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} حيث أخبر عن تزويجه إياها كأنه أمر خارج عن إرادة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اختياره ثم قوله: {وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً}

  • فقوله: {فَلَمَّا قَضى‌ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} متفرع على ما تقدم من قوله: {وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ} و قضاء الوطر منها كناية عن الدخول و التمتع، و قوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} تعليل للتزويج و مصلحة للحكم، و قوله: {وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً} مشير إلى تحقق الوقوع و تأكيد للحكم. 

  • و من ذلك يظهر أن الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوجها لا هواها و حبه الشديد لها و هي بعد مزوجة كما ذكره جمع من المفسرين و اعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا: منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية، و ثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوز في الإسلام لذكر حلائل الناس و التشبب بهن. 

  • قوله تعالى{مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ} إلخ، الفرض‌ هو التعيين و الاسهام يقال: فرض له كذا أي عينه له و أسهمه به، و قيل: هو في المقام بمعنى الإباحة و التجويز، و الحرج‌ الكلفة و الضيق، و المراد بنفي الحرج نفي سببه و هو المنع عما فرض له. 

  • و المعنى: ما كان على النبي من منع فيما عين الله له أو أباح الله له حتى يكون عليه حرج في ذلك. 

تفسير الميزان ج۱٦

324
  • و قوله: {سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} اسم موضوع موضع المصدر فيكون مفعولا مطلقا و التقدير سن الله ذلك سنة، و المراد بالذين خلوا من قبل هم الأنبياء و الرسل الماضون بقرينة قوله بعد: {اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ} إلخ. 

  • و قوله: {وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} أي يقدر من عنده لكل أحد ما يلائم حاله و يناسبها، و الأنبياء لم يمنعوا مما قدره الله و أباحه لغيرهم حتى يمنع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من بعض ما قدر و أبيح. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} إلخ، الموصول بيان للموصول المتقدم أعني قوله: {اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}

  • و الخشية هي تأثر خاص للقلب عن المكروه و ربما ينسب إلى السبب الذي يتوقع منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بي فلان كذا أو خشيت فلانا أن يفعل بي كذا، و الأنبياء يخشون الله و لا يخشون أحدا غيره لأنه لا مؤثر في الوجود عندهم إلا الله. 

  • و هذا غير الخوف الذي هو توقع المكروه بحيث يترتب عليه الاتقاء عملا سواء كان معه تأثر قلبي أو لا فإنه أمر عملي ربما ينسب إلى الأنبياء كقوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}: الشعراء: ٢١ و قوله في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}: الأنفال: ٥٨ و هذا هو الأصل في معنى الخوف و الخشية و ربما استعملا كالمترادفين. 

  • و مما تقدم يظهر أن الخشية منفية عن الأنبياء (عليه السلام) مطلقا و إن كان سياق قوله: {يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ} إلخ، يلوح إلى أن المنفي هو الخشية في تبليغ الرسالة. على أن جميع أفعال الأنبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ مستوعبة لجميع أعمالهم. 

  • و قوله: {وَ كَفىَ بِاللَّهِ حَسِيباً} أي محاسبا يحاسب على الصغيرة و الكبيرة فيجب أن يخشى و لا يخشى غيره. 

  • قوله تعالى{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ} إلخ، لا شك في أن الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه تزوج زوج ابنه و محصل الدفع أنه ليس أبا زيد و لا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون 

تفسير الميزان ج۱٦

325
  • تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} للناس الموجودين في زمن نزول الآية، و المراد بالرجال ما يقابل النساء و الولدان و نفي الأبوة نفي تكويني لا تشريعي و لا تتضمن الجملة شيئا من التشريع. 

  • و المعنى: ليس محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه و زيد أحد هؤلاء الرجال فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة و أما تبنيه زيدا فإنه لا يترتب عليه شي‌ء من آثار الأبوة و البنوة و ما جعل أدعياءكم أبناءكم. 

  • و أما القاسم و الطيب و الطاهر۱ و إبراهيم فإنهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الآية و كذا الحسن و الحسين و هما ابنا رسول الله فإن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبض قبل أن يبلغا حد الرجال. 

  • و مما تقدم ظهر أن الآية لا تقتضي نفي أبوته (صلى الله عليه وآله و سلم) للقاسم و الطيب و الطاهر و إبراهيم و كذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجولية. 

  • و قوله: {وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ} الخاتم‌ بفتح التاء ما يختم به كالطابع و القالب‌ بمعنى ما يطبع به و ما يقلب به و المراد بكونه خاتم النبيين أن النبوة اختتمت به (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا نبي بعده. 

  • و قد عرفت فيما مر معنى الرسالة و النبوة و أن الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس و النبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين و حقائقه و لازم ذلك أن يرتفع الرسالة بارتفاع النبوة فإن الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة. 

  • و من هنا يظهر أن كونه (صلى الله عليه وآله و سلم) خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل. 

  • و في الآية إيماء إلى أن ارتباطه (صلى الله عليه وآله و سلم) و تعلقه بكم تعلق الرسالة و النبوة و أن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه. 

  • و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً} أي ما بينه لكم إنما كان بعلمه. 

    1. هذا على ما هو المعروف و قال بعضهم: إن الطيب و الطاهر لقبان للقاسم. 

تفسير الميزان ج۱٦

326
  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه و قالت: أنا خير منه حسبا و كانت امرأة فيها حدة فأنزل الله {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ} (الآية) كلها. 

  • أقول: و في معناها روايات أخر. 

  • و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالت إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده فنزلت. 

  • أقول: و الروايتان أشبه بالتطبيق منهما بسبب النزول. 

  • و في العيون: في باب مجلس الرضا (عليه السلام) عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث يجيب فيه عن مسألة علي بن الجهم في عصمة الأنبياء. 

  • قال: و أما محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و قول الله عز و جل: {وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} فإن الله عز و جل عرف نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أسماء أزواجه في دار الدنيا و أسماء أزواجه في الآخرة و أنهن أمهات المؤمنين و أحد من سمي له زينب بنت جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى (صلى الله عليه وآله و سلم) اسمها في نفسه و لم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: أنه قال في امرأة في بيت رجل: إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين و خشي قول المنافقين . 

  • قال الله عز و جل: {وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} يعني في نفسك‌ )الحديث(. 

  • أقول: و روي ما يقرب منه فيه عنه (عليه السلام) في جواب مسألة المأمون عنه في عصمة الأنبياء. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ} قيل: إن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه و أن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد و قال له: أريد أن أطلق زينب قال له: أمسك عليك زوجك، فقال 

تفسير الميزان ج۱٦

327
  • سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟ و روي ذلك عن علي بن الحسين (عليه السلام). 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و الترمذي و ابن المنذر و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: اتق الله و أمسك عليك زوجك فنزلت: {وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ}

  • قال أنس: فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كاتما شيئا لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)‌ )الحديث(. 

  • أقول: و الروايات كثيرة في المقام و إن كان كثير منها لا يخلو من شي‌ء و في الروايات: ما أولم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم، و في الروايات أنها كانت تفتخر على سائر نساء النبي بثلاث أن جدها و جد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) واحد فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أن الذي زوجها منه هو الله سبحانه و أن السفير جبريل. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ}: و صح‌- الحديث عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها و نظر إليها فقال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة. قال (صلى الله عليه وآله و سلم): فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء: أورده البخاري و مسلم في صحيحيهما. 

  • أقول: و روى هذا المعنى غيرهما كالترمذي و النسائي و أحمد و ابن مردويه عن غير جابر كأبي سعيد و أبي هريرة. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنت أقرئ الحسن و الحسين فمر بي علي بن أبي طالب و أنا أقرئهما فقال لي: أقرئهما و خاتم النبيين بفتح التاء. 

تفسير الميزان ج۱٦

328
  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٤١ الی ٤٨]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ٤١ وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ٤٢ هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ٤٣ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ٤٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ٤٥ وَ دَاعِياً إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً ٤٦ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ٤٧ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى‌ بِاللَّهِ وَكِيلاً ٤٨} 

  • (بيان)

  • آيات تدعو المؤمنين إلى الذكر و التسبيح و تبشرهم و تعدهم الوعد الجميل و تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بصفاته الكريمة و تأمره أن يبشر المؤمنين و لا يطيع الكافرين و المنافقين، و يمكن أن يكون القبيلان مختلفين في النزول زمانا. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} الذكر ما يقابل النسيان و هو توجيه الإدراك نحو المذكور و أما التلفظ بما يدل عليه من أسمائه و صفاته فهو بعض مصاديق الذكر. 

  • قوله تعالى{وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً} التسبيح‌ هو التنزيه و هو مثل الذكر لا يتوقف على اللفظ و إن كان التلفظ بمثل سبحان الله بعض مصاديق التسبيح. 

  • و البكرة أول النهار و الأصيل‌ آخره بعد العصر و تقييد التسبيح بالبكرة و الأصيل 

تفسير الميزان ج۱٦

329
  • لما فيهما من تحول الأحوال فيناسب تسبيحه و تنزيهه من التغير و التحول و كل نقص طار، و يمكن أن يكون البكرة و الأصيل معا كناية عن الدوام كالليل و النهار في قوله: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ}: حم السجدة: ٣٨. 

  • قوله تعالى{هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} المعنى الجامع للصلاة على ما يستفاد من موارد استعمالها هو الانعطاف فيختلف باختلاف ما نسب إليه و لذلك قيل: إن الصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الناس الدعاء لكن الذي نسب من الصلاة إلى الله سبحانه في القرآن هو الصلاة بمعنى الرحمة الخاصة بالمؤمنين و هي التي تترتب عليها سعادة العقبى و الفلاح المؤبد و لذلك علل تصليته عليهم بقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}

  • و قد رتب سبحانه في كلامه على نسيانهم له نسيانه لهم و على ذكرهم له ذكره لهم فقال: {نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}: التوبة: ٦٧ و قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}: البقرة: ١٥٢ و تصليته عليهم ذكر منه لهم بالرحمة فإن ذكروه كثيرا و سبحوه بكرة و أصيلا صلى عليهم كثيرا و غشيهم بالنور و أبعدهم من الظلمات. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} إلخ، في مقام التعليل لقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} و تفيد التعليل أنكم إن ذكرتم الله كثيرا ذكركم برحمته كثيرا و بالغ في إخراجكم من الظلمات إلى النور و يستفاد منه أن الظلمات إنما هي ظلمات النسيان و الغفلة و النور نور الذكر. 

  • و قوله: {وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} وضع الظاهر موضع المضمر، أعني قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} و لم يقل: و كان بكم رحيما، ليدل به على سبب الرحمة و هو وصف الإيمان. 

  • قوله تعالى{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} ظاهر السياق أن {تَحِيَّتُهُمْ} مصدر مضاف إلى المفعول أي إنهم يحيون - بالبناء للمفعول - يوم يلقون ربهم من عند ربهم و من ملائكته بالسلام أي إنهم يوم اللقاء في أمن و سلام لا يصيبهم مكروه و لا يمسهم عذاب. 

  • و قوله: {وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} أي و هيأ الله لهم ثوابا جزيلا. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً} شهادته (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۱٦

330
  • على الأعمال أن يتحملها في هذه النشأة و يؤديها يوم القيامة و قد تقدم في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}: البقرة: ١١٢ و غيره من آيات الشهادة أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) شهيد الشهداء. 

  • و كونه مبشرا و نذيرا تبشيره المؤمنين المطيعين لله و رسوله بثواب الله و الجنة و إنذاره الكافرين و العاصين بعذاب الله و النار. 

  • قوله تعالى{وَ دَاعِياً إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً} دعوته إلى الله هي دعوته الناس إلى الإيمان بالله وحده، و لازمه الإيمان بدين الله و تقيد الدعوة بإذن الله يجعلها مساوقة للبعثة. 

  • و كونه (صلى الله عليه وآله و سلم) سراجا منيرا هو كونه بحيث يهتدي به الناس إلى سعادتهم و ينجون من ظلمات الشقاء و الضلالة فهو من الاستعارة، و قول بعضهم: إن المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير ذا سراج منير تكلف من غير موجب. 

  • قوله تعالى{وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً}، الفضل‌ من العطاء ما كان من غير استحقاق ممن يأخذه و قد وصف الله عطاءه فقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: الأنعام: ١٦٠و قال: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ}: ق: ٣٥ فبين أنه يعطي من الثواب ما لا يقابل العمل و هو الفضل و لا دليل في الآية يدل على اختصاصه بالآخرة. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ} إلخ، تقدم معنى طاعة الكافرين و المنافقين في أول السورة. 

  • و قوله: {وَ دَعْ أَذَاهُمْ} أي اترك ما يؤذونك بالإعراض عنه و عدم الاشتغال به و الدليل على هذا المعنى قوله: {وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ} أي لا تستقل بنفسك في دفع أذاهم بل اجعل الله وكيلا في ذلك و كفى بالله وكيلا. 

  • (بحث روائي) 

  •  في الكافي بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شي‌ء إلا 

تفسير الميزان ج۱٦

331
  • و له حد ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حد ينتهي إليه فرض الله عز و جل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن و شهر رمضان فمن صامه فهو حده و الحج فمن حج فهو حده إلا الذكر فإن الله عز و جل لم يرض منه بالقليل و لم يجعل له حدا ينتهي إليه ثم تلا: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً} فقال: لم يجعل الله له حدا ينتهي إليه. 

  • قال: و كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه و إنه ليذكر الله و آكل معه الطعام و إنه ليذكر الله و لقد كان يحدث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله و كنت أرى لسانا لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله. 

  • و كان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس و يأمر بالقراءة من كان يقرأ منا و من كان لا يقرأ منا أمره بالذكر، و البيت الذي يقرأ فيه القرآن و يذكر الله عز و جل فيه يكثر بركته و يحضره الملائكة و يهجره الشياطين و يضي‌ء لأهل السماء كما يضي‌ء الكوكب لأهل الأرض و البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن و لا يذكر الله يقل بركته و يهجره الملائكة و يحضره الشياطين. 

  • و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ لا أخبركم بخير أعمالكم أرفعها في درجاتكم و أزكاها عند مليككم و خير لكم من الدينار و الدرهم و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم و يقتلوكم؟ فقالوا: بلى. قال: ذكر الله عز و جل كثيرا. 

  • ثم قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال: أكثرهم لله ذكرا. 

  • و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من أعطي لسانا ذاكرا فلقد أعطي خير الدنيا و الآخرة. 

  • و قال في قوله تعالى: {وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله.

  • و فيه بإسناده عن أبي المعزى رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيرا إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: {يُرَاؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لاَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}

  • أقول: و هو استفادة لطيفة. 

  • و في الخصال عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ابتلي المؤمن 

تفسير الميزان ج۱٦

332
  • بشي‌ء أشد عليه من ثلاث خصال يحرمها. قيل: و ما هي؟ قال: المواساة في ذات يده، و الإنصاف من نفسه، و ذكر الله كثيرا. أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحل له و ذكر الله عند ما حرم عليه.

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و الترمذي و البيهقي عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا. قلت: يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل درجة منه. 

  • و في العلل بإسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي (عليه السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسأله أعلمهم فيما سأله فقال: لأي شي‌ء سميت محمدا و أحمد و أبا القاسم و بشيرا و نذيرا و داعيا؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): أما الداعي فإني أدعو الناس إلى دين ربي عز و جل، و أما النذير فإني أنذر بالنار من عصاني، و أما البشير فإني أبشر بالجنة من أطاعني (الحديث). 

  • و في تفسير القمي: في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} إلى قوله {وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفىَ بِاللَّهِ وَكِيلاً} أنها نزلت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين.

  •  

  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٤٩ الی ٦٢] 

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ٤٩ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَنَاتِ عَمِّكَ وَ بَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَ بَنَاتِ خَالِكَ وَ بَنَاتِ خَالاَتِكَ اَللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا

تفسير الميزان ج۱٦

333
  • خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٥٠تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنىَ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لاَ يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ٥١ لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ رَقِيباً ٥٢ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَ لَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيماً ٥٣ إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً ٥٤ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَ لاَ أَبْنَائِهِنَّ وَ لاَ إِخْوَانِهِنَّ وَ لاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَ لاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَ لاَ نِسَائِهِنَّ وَ لاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلى ‌كُلِّ 

تفسير الميزان ج۱٦

334
  • شَيْ‌ءٍ شَهِيداً ٥٥ إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً ٥٦ إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً ٥٧ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ٥٨ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنى‌ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٥٩ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً ٦٠مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً ٦١ سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً ٦٢} 

  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات أحكاما متفرقة بعضها خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أزواجه و بعضها عامة. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} المراد بنكاحهن العقد عليهن بالنكاح، و بالمس الدخول، و بالتمتيع إعطاؤهن شيئا من المال يناسب شأنهن و حالهن و التسريح بالجميل إطلاقهن من غير خصومة و خشونة. 

  • و المعنى: إذا طلقتم النساء بعد النكاح و قبل الدخول فلا عدة لهن للطلاق و يجب 

تفسير الميزان ج۱٦

335
  • تمتيعهن بشي‌ء من المال و السراح الجميل. 

  • و الآية مطلقة تشمل ما إذا فرض لهن فريضة المهر و ما إذا لم يفرض فيقيدها قوله: {وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}: البقرة: ٢٣٧ و تبقى حجة فيما لم يفرض لهن فريضة. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى آخر الآية، يذكر سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإحلال سبعة أصناف من النساء: الصنف الأول ما في قوله: {أَزْوَاجَكَ اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} و المراد بالأجور المهور، و الثاني ما في قوله: {وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْكَ} أي من يملكه من الإماء الراجعة إليه من الغنائم و الأنفال، و تقييد ملك اليمين بكونه مما أفاء الله عليه كتقييد الأزواج بقوله: {اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} للتوضيح لا للاحتراز. 

  • و الثالث و الرابع ما في قوله: {وَ بَنَاتِ عَمِّكَ وَ بَنَاتِ عَمَّاتِكَ} قيل: يعني نساء قريش، و الخامس و السادس ما في قوله: {وَ بَنَاتِ خَالِكَ وَ بَنَاتِ خَالاَتِكَ} قيل: يعني نساء بني زهرة، و قوله: {اَللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قال في المجمع: هذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل. 

  • و السابع ما في قوله: {وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} و هي المرأة المسلمة التي بذلت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمعنى أن ترضى أن يتزوج بها من غير صداق و مهر فإن الله أحلها له إن أراد أن يستنكحها، و قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ} إيذان بأن هذا الحكم أي حلية المرأة للرجل ببذل النفس من خصائصه لا يجري في المؤمنين، و قوله بعده: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} تقرير لحكم الاختصاص. 

  • و قوله: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} تعليل لقوله في صدر الآية: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص و الأول أظهر و قد ختمت الآية بالمغفرة و الرحمة. 

  • قوله تعالى{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} إلخ، الإرجاء التأخير و التبعيد، و هو كناية عن الرد، و الإيواء: الإسكان في المكان و هو كناية عن القبول و الضم إليه. 

تفسير الميزان ج۱٦

336
  • و السياق يدل على أن المراد به أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) على خيرة من قبول من وهبت نفسها له أو رده. 

  • و قوله: {وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}، الابتغاء هو الطلب أي و من طلبتها من اللاتي عزلتها و لم تقبلها فلا إثم عليك و لا لؤم أي يجوز لك أن تضم إليك من عزلتها و رددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل و الرد. 

  • و يمكن أن يكون إشارة إلى أن له (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقسم بين نسائه و أن يترك القسم فيؤخر من يشاء منهن و يقدم من يشاء و يعزل بعضهن من القسم فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل و هو أوفق لقوله بعده: {وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنىَ} أي أقرب {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي يسررن {وَ لاَ يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} و ذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له و رجاء المتأخرة أن تتقدم بعد. 

  • و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} أي يعلم مصالح عباده و لا يعاجل في العقوبة. 

  • و في الآية أقوال مختلفة أخر و الذي أوردناه هو الأوفق لوقوعها في سياق سابقتها متصلة بها و به وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) كما سيجي‌ء. 

  • قوله تعالى{لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} إلخ، ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها تحريم النساء له (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا من خيرهن فاخترن الله و نفي جواز التبدل بهن يؤيد ذلك. 

  • لكن لو فرضت متصلة بما قبلها و هو قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} إلخ، كان مدلولها تحريم ما عدا المعدودات و هي الأصناف الستة التي تقدمت. 

  • و في بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن المراد بالآية محرمات النساء المعدودة في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ} (الآية): النساء: ٢٣. 

  • فقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد اللاتي اخترن الله و رسوله و هي التسعة على المعنى الأول أو من بعد من عددناه في قولنا: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} على المعنى الثاني أو من بعد المحللات و هي المحرمات على المعنى الثالث. 

  • و قوله: {وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي أن تطلق بعضهن و تزوج مكانها 

تفسير الميزان ج۱٦

337
  • من غيرهن، و قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} يعني الإماء و هو استثناء من قوله في صدر الآية {لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ}. 

  • و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ رَقِيباً} معناه ظاهر و فيه تحذير عن المخالفة. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}- إلى قوله - {مِنَ اَلْحَقِّ} بيان لأدب الدخول في بيوت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله: {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناء من النهي، و قوله: {إِلىَ طَعَامٍ} متعلق بالإذن، و قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي غير منتظرين لورود إناء الطعام بأن تدخلوا من قبل فتطيلوا المكث في انتظار الطعام و يبينه قوله: {وَ لَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ}- أي أكلتم - {فَانْتَشِرُوا}، و قوله: {وَ لاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} عطف على قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} و هو حال بعد حال، أي غير ماكثين في حال انتظار الإناء قبل الطعام و لا في حال الاستئناس لحديث بعد الطعام. 

  • و قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} تعليل للنهي أي لا تمكثوا كذلك لأن مكثكم ذلك كان يتأذى منه النبي فيستحيي منكم أن يسألكم الخروج و قوله: {وَ اَللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ} أي من بيان الحق لكم و هو ذكر تأذيه و التأديب بالأدب اللائق. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ}، ضمير {سَأَلْتُمُوهُنَّ} لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سؤالهن متاعا كناية عن تكليمهن لحاجة أي إذا مست الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكلموهن من وراء حجاب، و قوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ} بيان لمصلحة الحكم. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} إلخ، أي ليس لكم إيذاؤه بمخالفة ما أمرتم في نسائه و في غير ذلك و ليس لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيما، و في الآية إشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده و هو كذلك كما سيأتي في البحث الروائي الآتي. 

تفسير الميزان ج۱٦

338
  • قوله تعالى{إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً} معناه ظاهر و هو في الحقيقة تنبيه تهديدي لمن كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يذكر نكاح أزواجه من بعده. 

  • قوله تعالى{لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إلى آخر الآية ضمير {عَلَيْهِنَّ} لنساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب و قد استثنى الآباء و الأبناء و الإخوان و أبناء الإخوان و أبناء الأخوات و هؤلاء محارم، قيل: و لم يذكر الأعمام و الأخوال لأنهم من الممكن أن يصفوهن لأبنائهم. 

  • و استثنى أيضا نساءهن و إضافة النساء إلى ضمير هن يلوح إلى أن المراد النساء المؤمنات دون الكوافر كما مر في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}: النور: ٣١ و استثنى أيضا ما ملكت أيمانهن من العبيد و الإماء. 

  • و قوله: {وَ اِتَّقِينَ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيداً} فيه تأكيد الحكم و خاصة من جهة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في {اِتَّقِينَ اَللَّهَ}

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً} قد تقدم أن أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة انعطافا مطلقا لم يقيد في الآية بشي‌ء دون شي‌ء و كذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف عليه بالتزكية و الاستغفار و هي من المؤمنين الدعاء بالرحمة. 

  • و في ذكر صلاته تعالى و صلاة ملائكته عليه قبل أمر المؤمنين بالصلاة عليه دلالة على أن في صلاة المؤمنين له اتباعا لله سبحانه و ملائكته و تأكيدا للنهي الآتي. 

  • و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن طريق صلاة المؤمنين أن يسألوا الله تعالى أن يصلي عليه و آله. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} من المعلوم أن الله سبحانه منزه من أن يناله الأذى و كل ما فيه وصمة النقص و الهوان فذكره مع الرسول و تشريكه في إيذائه تشريف للرسول و إشارة إلى أن من قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضا بالسوء إذ ليس للرسول بما أنه رسول إلا ربه فمن قصده فقد قصد ربه. 

تفسير الميزان ج۱٦

339
  • و قد أوعدهم باللعن في الدنيا و الآخرة و اللعن‌ هو الإبعاد من الرحمة و الرحمة الخاصة بالمؤمنين هي الهداية إلى الاعتقاد الحق و حقيقة الإيمان، و يتبعه العمل الصالح فالإبعاد من الرحمة في الدنيا تحريمه عليه جزاء لعمله فيرجع إلى طبع القلوب كما قال: {لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}: المائدة: ١٣ و قال: {وَ لَكِنْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}: النساء: ٤٦ و قال: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىَ أَبْصَارَهُمْ}: سورة محمد: ٢٣. 

  • و أما اللعن في الآخرة فهو الإبعاد من رحمة القرب فيها و قد قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}: المطففين: ١٥. 

  • ثم أوعدهم بأنه أعد لهم أي في الآخرة عذابا مهينا و وصف العذاب بالمهين لأنهم يقصدون باستكبارهم في الدنيا إهانة الله و رسوله فقوبلوا في الآخرة بعذاب يهينهم. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً} تقييد إيذائهم بغير ما اكتسبوا لأن إيذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص و الحد و التعزير لا إثم فيه. 

  • و أما إيذاؤهم بغير ما اكتسبوا و من دون استحقاق فيعده سبحانه احتمالا للبهتان و الإثم المبين، و البهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، و وجه كون الإيذاء من غير اكتساب بهتانا أن المؤذي إنما يؤذي لسبب عنده يعده جرما له يقول: لم قال كذا؟ لم فعل كذا؟ و ليس بجرم فيبهته عند الإيذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة و ليس بجرم. 

  • و كونه إثما مبينا لأن الافتراء و البهتان مما يدرك العقل كونه إثما من غير حاجة إلى ورود النهي عنهما شرعا. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} إلخ، الجلابيب‌ جمع جلباب و هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطي جميع بدنها أو الخمار الذي تغطي به رأسها و وجهها. 

  • و قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} أي يتسترن بها فلا تظهر جيوبهن و صدورهن للناظرين. 

  • و قوله: {ذَلِكَ أَدْنىَ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن 

تفسير الميزان ج۱٦

340
  • يعرفن أنهن أهل الستر و الصلاح فلا يؤذين أي لا يؤذيهن أهل الفسق بالتعرض لهن. 

  • و قيل: المعنى ذلك أقرب من أن يعرفن أنهن مسلمات حرائر فلا يتعرض لهن بحسبان أنهن إماء أو من غير المسلمات من الكتابيات أو غيرهن و الأول أقرب. 

  • قوله تعالى{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} إلخ، الانتهاء عن الشي‌ء الامتناع و الكف عنه، و الإرجاف‌ إشاعة الباطل للاغتمام به و إلقاء الاضطراب بسببه، و الإغراء بالفعل التحريض عليه. 

  • و المعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض عن الإفساد و الذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدينة لإلقاء الاضطراب بين المسلمين لنحرضنك عليهم ثم يجاورونك في المدينة بسبب نفيهم عنها إلا زمانا قليلا و هو ما بين صدور الأمر و فعلية إجرائه. 

  • قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً} الثقف‌ إدراك الشي‌ء و الظفر به، و الجملة حال من المنافقين و من عطف عليهم أي حال كونهم ملعونين أينما وجدوا أخذوا و بولغ في قتلهم فعمهم القتل. 

  • قوله تعالى{سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً} السنة هي الطريقة المعمولة التي تجري بطبعها غالبا أو دائما. 

  • يقول سبحانه هذا النكال الذي أوعدنا به المنافقين و من يحذو حذوهم من النفي و القتل الذريع هي سنة الله التي جرت في الماضين فكلما بالغ قوم في الإفساد و إلقاء الاضطراب بين الناس و تمادوا و طغوا في ذلك أخذناهم كذلك و لن تجد لسنة الله تبديلا فتجري فيكم كما جرت في الأمم من قبلكم. 

  • (بحث روائي) 

  • في الفقيه روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} قال: متعوهن أي أجملوهن بما قدرتم عليه من معروف 

تفسير الميزان ج۱٦

341
  • فإنهن يرجعن بكآبة و وحشة و هم عظيم و شماتة من أعدائهن فإن الله كريم يستحيي و يحب أهل الحياء إن أكرمكم أشدكم إكراما لحلائلهم.

  • و في الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها. قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع به مثلها من النساء.

  • أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و هي مبنية على تخصيص الآية بآية البقرة كما تقدم في تفسير الآية. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن حبيب بن ثابت قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين فسأله عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق قال: ليس بشي‌ء بدأ الله بالنكاح قبل الطلاق فقال: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}.

  • أقول: و رواه في المجمع عن حبيب بن ثابت عنه (عليه السلام). 

  • و فيه أخرج ابن ماجة و ابن مردويه عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا طلاق قبل نكاح و لا عتق قبل ملك.

  • أقول: و روي مثله عن جابر و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في الكافي بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} كم أحل له من النساء؟ قال: ما شاء من شي‌ء. 

  • و فيه بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: {لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينكح ما شاء من بنات عمه و بنات عماته و بنات خاله و بنات خالاته و أزواجه اللاتي هاجرن معه . 

  • و أحل له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر و هي الهبة و لا تحل الهبة إلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأما لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر و ذلك معنى قوله تعالى: {وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}.

  • و في الدر المنثور أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني عن علي بن الحسين: في قوله: {وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً} هي أم شريك الأزدية التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

تفسير الميزان ج۱٦

342
  • أقول: و روي أنها خولة بنت الحكيم و أنها ليلى بنت الخطيم و أنها ميمونة، و الظاهر أن الواهبة نفسها عدة من النساء. 

  • و في الكافي مسندا عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول الله خيرا و دعا لها. 

  • ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرني رجالكم و رغبت في نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال. فقال رسول الله: كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك رغبت في رسول الله و لمتها و عبتها. 

  • ثم قال للمرأة: انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في و تعرضك لمحبتي و سروري و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز و جل {وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ} قال: فأحل الله عز و جل هبة المرأة نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يحل ذلك لغيره. 

  • و في المجمع و قيل: إنها لما وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى الله إلا يسارع في هواك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فإنك إن أطعت الله سارع في هواك.

  • و في المجمع في قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام): من أرجى لم ينكح و من آوى فقد نكح. 

  • و في الكافي بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} فقال: إنما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله عليك في هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خَالاَتُكُمْ} إلى آخرها. 

  • و لو كان الأمر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له لأن أحدكم يستبدل كلما أراد و لكن الأمر ليس كما يقولون إن الله عز و جل أحل لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم في هذه الآية في سورة النساء. 

تفسير الميزان ج۱٦

343
  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي بن زيد عن الحسن: في قوله: {وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن. 

  • قال علي فأخبرت علي بن الحسين فقال: لو شاء تزوج غيرهن. و لفظ عبد بن حميد فقال: بل كان له أيضا أن يتزوج غيرهن. 

  • و في تفسير القمي: و أما قوله عز و جل {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فإنه لما أن تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بزينب بنت جحش و كان يحبها فأولم و دعا أصحابه فكان أصحابه إذا أكلوا يحبون أن يتحدثوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كان يحب أن يخلو مع زينب فأنزل الله عز و جل. {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} و ذلك أنهم كانوا يدخلون بلا إذن فقال عز و جل: {إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إلى قوله {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}.

  • أقول: و روي تفصيل القصة عن أنس بطرق مختلفة. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان قال: نزل حجاب رسول الله على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. 

  • أقول: و رواها أيضا ابن سعد عن أنس و فيه: أن السنة كانت مبتنى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بزينب. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا} (الآية): أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أ يحجبنا محمد عن بنات عمنا و يتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فنزلت الآية. 

  • أقول: و قد وردت بذلك عدة من الروايات و في بعضها أنه كان يريد عائشة و أم سلمة. 

  • و في ثواب الأعمال عن أبي المعزى عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: قلت: ما معنى صلاة الله و صلاة ملائكته و صلاة المؤمن؟ قال: صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له. 

  • و في الخصال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: صلوا على محمد 

تفسير الميزان ج۱٦

344
  • و آل محمد فإن الله تعالى يقبل دعاءكم عند ذكر محمد و دعاءكم و حفظكم إياه إذا قرأتم {إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ} فصلوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

  • أقول: و قد أورد ثماني عشرة حديثا غير هذه الرواية تدل على تشريك آل النبي معه في الصلاة روتها أصحاب السنن و الجوامع عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس و طلحة و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و أبو مسعود الأنصاري و بريدة و ابن مسعود و كعب بن عجرة و علي (عليه السلام) و أما روايات الشيعة فهي فوق حد الإحصاء. 

  • و فيه أخرج أحمد و الترمذي عن الحسن بن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} فإنه كان سبب نزولها أن النساء كن يخرجن إلى المسجد و يصلين خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا كان الليل و خرجن إلى صلاة المغرب و العشاء الآخرة يقعد الشباب لهن في طريقهن فيؤذونهن و يتعرضون لهن فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ} (الآية). 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و أبو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ} نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا خرج في بعض غزواته يقولون: قتل و أسر فيغتم المسلمون لذلك و يشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله عز و جل في ذلك {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} إلى قوله {إِلاَّ قَلِيلاً} أي نأمرك بإخراجهم من المدينة إلا قليلا. 

تفسير الميزان ج۱٦

345
  • {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً} و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: {مَلْعُونِينَ} فوجبت عليهم اللعنة بعد اللعنة بقول الله. 

  •  

  • [سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٦٣ الی ٧٣]

  • {يَسْئَلُكَ اَلنَّاسُ عَنِ اَلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ٦٣ إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ٦٤ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ٦٥ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اَللَّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ ٦٦ وَ قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ ٦٧ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذَابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ٦٨ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‌ فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً ٦٩ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ٧٠يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ٧١ إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ٧٢ لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْمُنَافِقَاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكَاتِ وَ يَتُوبَ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٧٣} 

تفسير الميزان ج۱٦

346
  • (بيان) 

  • آيات تذكر شأن الساعة و بعض ما يجري على الكفار من عذابها و تأمر المؤمنين بالقول السديد و تعدهم عليه وعدا جميلا ثم تختتم السورة بذكر الأمانة. 

  • قوله تعالى{يَسْئَلُكَ اَلنَّاسُ عَنِ اَلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} تذكر الآية سؤال الناس عن الساعة و إنما كانوا يريدون أن يقدر لهم زمن وقوعها و أنها قريبة أو بعيدة كما يومئ إليه التعبير عنها بالساعة فأمر أن يجيبهم بقصر العلم بها في الله سبحانه و على ذلك جرت الحال كلما ذكرت في القرآن. 

  • و قوله: {وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} زيادة في الإبهام و ليعلموا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثل غيره في عدم العلم بها و ليس من الستر الذي أسره إليه و ستره من الناس. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} لعن الكفار إبعادهم من الرحمة، و الإعداد التهيئة، و السعير النار التي أشعلت فالتهبت، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} الفرق بين الولي و النصير أن الولي‌ يلي بنفسه تمام الأمر و المولى عليه بمعزل، و النصير يعين المنصور على بعض الأمر و هو إتمامه فالولي يتولى الأمر كله و النصير يتصدى بعضه، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اَللَّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ} تقلب وجوههم في النار تحولها لحال بعد حال فتصفر و تسود و تكون كالحة أو انتقالها من جهة إلى جهة لتكون أبلغ في مس العذاب كما يفعل باللحم المشوي. 

  • و قولهم: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اَللَّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ} كلام منهم على وجه التحسر و التمني. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ} السادة جمع سيد و هو - على ما في المجمع - المالك المعظم الذي يملك تدبير السواد الأعظم و هو الجمع الأكثر، و الكبراء جمع كبير و لعل المراد به الكبير سنا فالعامة تطيع و تقلد أحد رجلين إما سيد القوم و إما أسنهم. 

  • قوله تعالى{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذَابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} الضعفان‌ المثلان 

تفسير الميزان ج۱٦

347
  • و إنما سألوا لهم ضعفي العذاب لأنهم ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم، و لذلك أيضا سألوا لهم اللعن الكبير. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىَ فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً} نهي عن أن يكونوا كبعض بني إسرائيل فيعاملوا نبيهم بمثل ما عامل به بنو إسرائيل من الإيذاء و ليس المراد مطلق الإيذاء بقول أو فعل و إن كان منهيا عنه بل قوله: {فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ} يشهد بأنه كان إيذاء من قبيل التهمة و الافتراء المحوج في رفعه إلى التبرئة و التنزيه. 

  • و لعل السكوت عن ذكر ما آذوا به موسى (عليه السلام) يؤيد ما ورد في الحديث أنهم قالوا: ليس لموسى ما للرجال فبرأه الله من قولهم و سيوافيك. 

  • و أوجه ما قيل في إيذائهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه إشارة إلى قصة زيد و زينب، و إن يكن كذلك فمن إيذائه (صلى الله عليه وآله و سلم) ما في كثير من روايات القصة من سردها على نحو لا يناسب ساحة قدسه. 

  • و قوله: {وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً} أي ذا جاه و منزلة و الجملة مضافا إلى اشتمالها على التبرئة إجمالا تعلل تبرئته تعالى له و للآية و ما بعدها نوع اتصال بالآيات الناهية عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}، السديد من السداد و هو الإصابة و الرشاد فالسديد من القول ما يجتمع فيه مطابقة الواقع و عدم كونه لغوا أو ذا فائدة غير مشروعة كالنميمة و غير ذلك فعلى المؤمن أن يختبر صدق ما يتكلم به و أن لا يكون لغوا أو يفسد به إصلاح. 

  • قوله تعالى{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} رتب على ملازمة القول السديد إصلاح الأعمال و مغفرة الذنوب و ذلك أن النفس إذا لازمت القول السديد انقطعت عن كذب القول و لغو الحديث و الكلام الذي يترتب عليه فساد، و برسوخ هذه الصفة فيها تنقطع طبعا عن الفحشاء و المنكر و اللغو في الفعل و عند ذلك يصلح أعمال الإنسان فيندم بالطبع على ما ضيعه من عمره في موبقات الذنوب إن كان قد ابتلي بشي‌ء من ذلك و كفى بالندم توبة. 

تفسير الميزان ج۱٦

348
  • و يحفظه الله فيما بقي من عمره عن اقتحام المهلكات و إن رام شيئا من صغائر الذنوب غفر الله له فقد قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}: النساء: ٣١ فملازمة القول السديد تسوق الإنسان إلى صلاح الأعمال و مغفرة الذنوب بإذن الله. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وعد جميل على الإتيان بجميع الأعمال الصالحة و الاجتناب عن جميع المناهي بترتيب الفوز العظيم على طاعة الله و رسوله. 

  • و بذلك تختتم السورة في معناها في الحقيقة لأن طاعة الله و رسوله هي الكلمة الجامعة بين جميع الأحكام السابقة، من واجبات و محرمات و الآيتان التاليتان كالمتمم لمعنى هذه الآية. 

  • قوله تعالى{إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} إلى قوله {غَفُوراً رَحِيماً} الأمانة أيا ما كانت شي‌ء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثم يرده إلى من أودعه، فهذه الأمانة المذكورة في الآية شي‌ء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ على سلامته و استقامته ثم يرده إليه سبحانه كما أودعه. 

  • و يستفاد من قوله: {لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْمُنَافِقَاتِ} إلخ، أنه أمر يترتب على حمله النفاق و الشرك و الإيمان، فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق و مشرك و مؤمن. 

  • فهو لا محالة أمر مرتبط بالدين الحق الذي يحصل بالتلبس به و عدم التلبس به النفاق و الشرك و الإيمان. 

  • فهل هو الاعتقاد الحق و الشهادة على توحده تعالى أو مجموع الاعتقاد و العمل بمعنى أخذ الدين الحق بتفاصيله مع الغض عن العمل به، أو التلبس بالعمل به أو الكمال الحاصل للإنسان من جهة التلبس بواحد من هذه الأمور. 

  • و ليست هي الأول أعني التوحيد فإن السماوات و الأرض و غيرهما من شي‌ء توحده تعالى و تسبح بحمده، و قد قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: إسراء: ٤٤ و الآية تصرح بإبائها عنه. 

تفسير الميزان ج۱٦

349
  • و ليست هي الثاني أعني الدين الحق بتفاصيله فإن الآية تصرح بحمل الإنسان كائنا من كان من مؤمن و غيره له و من البين أن أكثر من لا يؤمن لا يحمله و لا علم له به، و بهذا يظهر أنها ليست بالثالث و هو التلبس بالعمل بالدين الحق تفصيلا. 

  • و ليست هي الكمال الحاصل له بالتلبس بالتوحيد فإن السماوات و الأرض و غيرهما ناطقة بالتوحيد فعلا متلبسة به. 

  • و ليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحق و العلم به إذ لا يترتب على نفس الاعتقاد الحق و العلم بالتكاليف الدينية نفاق و لا شرك و لا إيمان و لا يستعقب سعادة و لا شقاء و إنما يترتب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحق و التلبس بالعمل. 

  • فبقي أنها الكمال الحاصل له من جهة التلبس بالاعتقاد و العمل الصالح و سلوك سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادة إلى أوج الإخلاص الذي هو أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره فيتولى هو سبحانه تدبير أمره و هو الولاية الإلهية. 

  • فالمراد بالأمانة الولاية الإلهية و بعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها و المراد بحملها و الإباء عنه وجود استعدادها و صلاحية التلبس بها و عدمه، و هذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية فالسماوات و الأرض و الجبال على ما فيها من العظمة و الشدة و القوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها و هو المراد بإبائهن عن حملها و إشفاقهن منها. 

  • لكن الإنسان الظلوم الجهول لم يأب و لم يشفق من ثقلها و عظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل و عظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة و عدمه بالخيانة إلى منافق و مشرك و مؤمن بخلاف السماوات و الأرض و الجبال فما منها إلا مؤمن مطيع. 

  • فإن قلت: ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملا لا يتحمله لثقله و عظم خطره السماوات و الأرض و الجبال على عظمتها و شدتها و قوتها و هو يعلم أنه أضعف من أن يطيق حمله و إنما حمله على قبولها ظلمه و جهله و أجرأه عليه غروره و غفلته عن عواقب الأمور فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلما و جهلا إلا كتقليد مجنون ولاية عامة يأبى قبولها العقلاء و يشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله و عدم استقامة فكره. 

تفسير الميزان ج۱٦

350
  • قلت: الظلم و الجهل في الإنسان و إن كانا بوجه ملاك اللوم و العتاب فهما بعينهما مصحح حمله الأمانة و الولاية الإلهية فإن الظلم و الجهل إنما يتصف بهما من كان من شأنه الاتصاف بالعدل و العلم فالجبال مثلا لا تتصف بالظلم و الجهل فلا يقال: جبل ظالم أو جاهل لعدم صحة اتصافه بالعدل و العلم و كذلك السماوات و الأرض لا يحمل عليها الظلم و الجهل لعدم صحة اتصافها بالعدل و العلم بخلاف الإنسان. 

  • و الأمانة المذكورة في الآية و هي الولاية الإلهية و كمال صفة العبودية إنما تتحصل بالعلم بالله و العمل الصالح الذي هو العدل و إنما يتصف بهذين الوصفين أعني العلم و العدل الموضوع القابل للجهل و الظلم فكون الإنسان في حد نفسه و بحسب طبعه ظلوما جهولا هو المصحح لحمل الأمانة الإلهية فافهم ذلك. 

  • فمعنى الآيتين‌۱ يناظر بوجه معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}: التين: ٦. 

  • فقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ} أي الولاية الإلهية و الاستكمال بحقائق الدين الحق علما و عملا و عرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء. 

  • و قوله: {عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ} أي هذه المخلوقات العظيمة التي خلقها أعظم من خلق الإنسان كما قال: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ}: المؤمن: ٥٧ و قوله: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا} إباؤها عن حملها و إشفاقها منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبس و تجافيها عن قبولها و في التعبير بالحمل إيماء إلى أنها ثقيلة ثقلا لا يحتملها السماوات و الأرض و الجبال. 

  • و قوله: {وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسَانُ} أي اشتمل على صلاحيتها و التهيؤ للتلبس بها على ضعفه و صغر حجمه {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} أي ظالما لنفسه جاهلا بما تعقبه هذه الأمانة لو خانها من وخيم العاقبة و الهلاك الدائم. 

  • و بمعنى أدق لكون الإنسان خاليا بحسب نفسه عن العدل و العلم قابلا للتلبس بما 

    1. فالآية الاولى تحاذي الاولى و الثانية تحاذي الثانية و الثالثة.

تفسير الميزان ج۱٦

351
  • يفاض عليه من ذلك و الارتقاء من حضيض الظلم و الجهل إلى أوج العدل و العلم. 

  • و الظلوم و الجهول‌ وصفان من الظلم و الجهل معناهما من كان من شأنه الظلم و الجهل نظير قولنا: فرس شموس و دابة جموح و ماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازي أو معناهما المبالغة في الظلم و الجهل كما ذكر غيره، و المعنى مستقيم كيفما كانا. 

  • و قوله: {لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْمُنَافِقَاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكَاتِ} اللام للغاية أي كانت عاقبة هذا الحمل أن يعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و ذلك أن الخائن للأمانة يتظاهر في الأغلب بالصلاح و الأمانة و هو النفاق و قليلا ما يتظاهر بالخيانة لها و لعل اعتبار هذا المعنى هو الموجب لتقديم المنافقين و المنافقات في الآية على المشركين و المشركات. 

  • و قوله: {وَ يَتُوبَ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} عطف على {لِيُعَذِّبَ} أي و كان عاقبة ذلك أن يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات، و التوبة من الله هي رجوعه إلى عبده بالرحمة فيرجع إلى الإنسان إذا آمن به و لم يخن بالرحمة و يتولى أمره و هو ولي المؤمنين فيهديه إليه بالستر على ظلمه و جهله و تحليته بالعلم النافع و العمل الصالح لأنه غفور رحيم. 

  • فإن قلت: ما هو المانع من جعل الأمانة بمعنى التكليف و هو الدين الحق و كون الحمل بمعنى الاستعداد و الصلاحية و الإباء هو فقده و العرض هو اعتبار القياس فيجري فيه حينئذ جميع ما تقدم في بيان الانطباق على الآية. 

  • قلت: نعم لكن التكليف إنما هو مطلوب لكونه مقدمة لحصول الولاية الإلهية و تحقق صفة العبودية الكاملة فهي المعروضة بالحقيقة و المطلوبة لنفسها. 

  • و الالتفات في قوله: {لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ} من التكلم إلى الغيبة و الإتيان باسم الجلالة للدلالة على أن عواقب الأمور إلى الله سبحانه لأنه الله. 

  • و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَ يَتُوبَ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ} للإشعار بكمال العناية في حقهم و الاهتمام بأمرهم. 

  • و لهم في تفسير الأمانة المذكورة في الآية أقوال مختلفة: 

  • فقيل: المراد بها التكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنة و معصيتها دخول النار و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال اعتبارها بالنسبة إلى استعدادها و إباؤهن 

تفسير الميزان ج۱٦

352
  • عن حملها و إشفاقهن منها عدم استعدادهن لها، و حمل الإنسان لها استعداده، و الكلام جار مجرى التمثيل. 

  • و قيل: المراد بها العقل الذي هو ملاك التكليف و مناط الثواب و العقاب. 

  • و قيل: هي قول لا إله إلا الله. 

  • و قيل: هي الأعضاء فالعين أمانة من الله يجب حفظها و عدم استعمالها إلا فيما يرتضيه الله تعالى، و كذلك السمع و اليد و الرجل و الفرج و اللسان. 

  • و قيل: المراد بها أمانات الناس و الوفاء بالعهود. 

  • و قيل: المراد بها معرفة الله بما فيها و هذا أقرب الأقوال من الحق يرجع بتقريب ما إلى ما قدمنا. 

  • و كذلك اختلف في معنى عرض الأمانة عليها على أقوال: 

  • منها: أن العرض بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالسماوات و الأرض و الجبال أهلها فعرضت على أهل السماء من الملائكة و بين لهم أن في خيانتها الإثم العظيم فأبوها و خافوا حملها و عرض على الإنسان فلم يمتنع. 

  • و منها: أنه بمعناه الحقيقي و ذلك أن الله لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما و قال لها: إني فرضت فريضة و خلقت جنة لمن أطاعني فيها و نارا لمن عصاني فيها فقلن: نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثوابا و لا عقابا و لما خلق آدم عرض عليه ذلك فاحتمله و كان ظلوما لنفسه جهولا بوخامة عاقبته. 

  • و منها: أن المراد بالعرض المعارضة و المقابلة، و محصل الكلام أنا قابلنا بهذه الأمانة السماوات و الأرض و الجبال فكانت هذه أرجح و أثقل منها. 

  • و منها أن الكلام جار مجرى الفرض و التقدير و المعنى: أنا لو قدرنا أن السماوات و الأرض و الجبال فهما، و عرضنا عليها هذه الأمانة لأبين حملها و أشفقن منها لكن الإنسان تحملها. 

  • و بالمراجعة إلى ما قدمناه يظهر ما في كل من هذه الأقوال من جهات الضعف و الوهن فلا تغفل. 

تفسير الميزان ج۱٦

353
  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و لا يلعن الله مؤمنا قال الله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً}.

  • و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، و كان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد فكان يوما يغتسل على شط نهر و قد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه فعلموا أن ليس كما قالوا فأنزل الله {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‌} (الآية).

  • و في المجمع: و اختلفوا فيما أوذي به موسى على أقوال: 

  • أحدها: أن موسى و هارون صعدا الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل و تكلمت الملائكة بموته حتى عرفوا أنه قد مات و برأه الله من ذلك عن علي و ابن عباس .

  • و ثانيها: أن موسى كان حييا ستيرا يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منا إلا لعيب في جلده إما برص و أما أدرة فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمر الحجر بثوبه فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرأه الله مما قالوا. رواه أبو هريرة مرفوعا. 

  • أقول: و روى الرواية الأولى في الدر المنثور، أيضا عن ابن مسعود و الثانية أيضا عن أنس و ابن عباس. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: ما جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على هذا المنبر قط إلا تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}

تفسير الميزان ج۱٦

354
  • أقول: و روي ما يقرب منه أيضا عن عائشة و أبي موسى الأشعري و عروة. 

  • و في نهج البلاغة: ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها إنها عرضت على السماوات المبنية و الأرض المدحوة و الجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها و لو امتنع شي‌ء بطول أو عرض أو قوة أو عز لأمتنعن و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.

  • و في الكافي بإسناده عن إسحاق بن عمار عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ} (الآية)، قال: هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

  • أقول: المراد بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان هو أول فاتح لبابه من هذه الأمة و هو كون الإنسان، بحيث يتولى الله سبحانه أمره بمجاهدته فيه بإخلاص العبودية له دون الولاية بمعنى المحبة أو بمعنى الإمامة و إن كان ظاهر بعض الروايات ذلك بنوع من الجري و الانطباق. 

تفسير الميزان ج۱٦

355
  • (٣٤) (سورة سبإ مكية، و هي أربع و خمسون آية) (٥٤) 

  • [سورة سبإ (٣٤): الآیات ١ الی ٩]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ ١ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ ٢ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا اَلسَّاعَةُ قُلْ بَلى‌ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٣ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٤ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ٥ وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى‌ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ ٦ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‌ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ٧ أَفْتَرى‌ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذَابِ وَ اَلضَّلاَلِ 

تفسير الميزان ج۱٦

356
  • اَلْبَعِيدِ ٨ أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ٩} 

  • (بيان) 

  • تتكلم السورة حول الأصول الثلاثة أعني الوحدانية و النبوة و البعث فتذكرها و تذكر ما لمنكريها من الاعتراض فيها و الشبه التي ألقوها ثم تدفعها بوجوه الدفع من حكمة و موعظة و مجادلة حسنة و تهتم ببيان أمر البعث أكثر من غيره فتذكره في مفتتح الكلام ثم تعود إليه عودة بعد عودة إلى مختتمه. 

  • و هي مكية بشهادة مقاصد آياتها على ذلك. 

  • قوله تعالى{اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ، المطلوب بيان البعث و الجزاء بيانا لا يعتريه شك بالإشارة إلى الحجة التي ينقطع بها الخصم و الأساس الذي يقوم عليه ذلك أمران أحدهما عموم ملكه تعالى لكل شي‌ء من كل جهة حتى يصح له أي تصرف أراد فيها من إبداء و رزق و إماتة و إحياء بالإعادة و جزاء، و ثانيهما كمال علمه تعالى بالأشياء من جميع جهاتها علما لا يطرأ عليه عزوب و زوال حتى يعيد كل من أراد و يجزيه على ما علم من أعماله خيرا أو شرا. 

  • و قد أشير إلى أول الأمرين في الآية الأولى التي نحن فيها و إلى الثانية في الآية الثانية و بذلك يظهر أن الآيتين تمهيد لما في الآية الثالثة و الرابعة. 

  • فقوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} ثناء عليه على ملكه المنبسط على كل شي‌ء بحيث له أن يتصرف في كل شي‌ء بما شاء و أراد. 

  • و قوله: {وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ} تخصيص الحمد بالآخرة لما أن الجملة الأولى تتضمن الحمد في الدنيا فإن النظام المشهود في السماوات و الأرض نظام دنيوي كما يشهد به قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ».}: إبراهيم: ٤٨. 

تفسير الميزان ج۱٦

357
  • و قوله: {وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ} ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أن تصرفه في نظام الدنيا ثم تعقيبه بنظام الآخرة مبني على الحكمة و الخبرة فبحكمته عقب الدنيا بالآخرة و إلا لغت الخلقة و بطلت و لم يتميز المحسن من المسي‌ء كما قال: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} إلى أن قال {أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}: ص: ٢٨، و بخبرته يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا و يجزي كل نفس بما كسبت. 

  • و الخبير من أسماء الله الحسنى مأخوذة من الخبرة و هي العلم بالجزئيات فهو أخص من العليم. 

  • قوله تعالى{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا} الولوج‌ مقابل الخروج و العروج‌ مقابل النزول و كان العلم بالولوج و الخروج و النزول و العروج كناية عن علمه بحركة كل متحرك و فعله و اختتام الآية بقوله: {وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ} كان فيه إشارة إلى أن له رحمة ثابتة و مغفرة ستصيب قوما بإيمانهم. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا اَلسَّاعَةُ قُلْ بَلىَ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ اَلْغَيْبِ} إلخ، يذكر إنكارهم لإتيان الساعة و هي يوم القيامة و هم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه و علمه بكل شي‌ء و لا مورد للارتياب في إتيانها مع ذلك كما تقدم فضلا عن إنكار إتيانها و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيب عن قولهم بقوله: {قُلْ بَلى‌ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي الساعة. 

  • و لما كان السبب العمدة في إنكارهم هو اختلاط الأشياء و منها أبدان الأموات بعضها ببعض و تبدل صورها تبدلا بعد تبدل بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع إعادتها من دون تميز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله: {عَالِمِ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ} أي لا يفوت «عن علمه {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ}

  • و قوله: {وَ لاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} تعميم لعلمه لكل شي‌ء و فيه مع ذلك إشارة إلى أن للأشياء كائنة ما كانت ثبوتا في كتاب مبين لا تتغير و لا تتبدل و إن زالت رسومها عن صفحة الكون و قد تقدم بعض الكلام في الكتاب المبين في سورة الأنعام و غيرها. 

تفسير الميزان ج۱٦

358
  • قوله تعالى{لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ} اللام في {لِيَجْزِيَ} للتعليل و هو متعلق بقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} و في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ} نوع محاذاة لقوله السابق: {وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ}

  • و في الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة و هو أن يجزي الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالمغفرة و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها و السبب الأخير ما يشير إليه قوله: {وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} إلخ. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} السعي‌ الجد في المشي و المعاجزة المبالغة في الإعجاز و قيل: المسابقة و الكلام مبني على الاستعارة بالكناية كان الآيات مسافة يسيرون فيها سيرا حثيثا ليعجزوا الله و يسبقوه و الرجز كالرجس القذر و لعل المراد به العمل السيئ فيكون إشارة إلى تبدل العمل عذابا أليما عليهم أو سببا لعذابهم، و قيل: الرجز هو سي‌ء العذاب. 

  • و في الآية تعريض للكفار الذين يصرون على إنكار البعث. 

  • قوله تعالى{وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ} الموصول الأول فاعل يرى و الموصول الثاني مفعوله الأول و الحق مفعوله الثاني و المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله و بآياته، و بالذي أنزل إليه القرآن النازل إليه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و جملة {وَ يَرَى} إلخ، استئناف متعرض لقوله السابق: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} أو حال من فاعل كفروا، و المعنى: أولئك يقولون: لا تأتينا الساعة و ينكرونه جهلا، و العلماء بالله و آياته يرون أن هذا القرآن النازل إليك المخبر بأن الساعة آتية هو الحق. 

  • و قوله: {وَ يَهْدِي إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ} معطوف على الحق أي و يرون القرآن يهدي إلى صراط من هو عزيز لا يغلب على ما يريد محمود يثنى على جميع أفعاله لأنه لا يفعل مع عزته إلا الجميل و هو الله سبحانه، و في التوصيف بالعزيز الحميد مقابلة لما وصفهم به في قوله: {اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}

  • قوله تعالى{وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىَ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ 

تفسير الميزان ج۱٦

359
  • مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} كلام منهم وارد مورد الاستهزاء يعرفون فيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعضهم لبعض بالقول بالمعاد. 

  • و التمزيق‌ التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانيا بعد عدمهم، و قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ} ظرف لقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}

  • و المعنى: و قال الذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لإنذاره إياهم بالبعث و الجزاء: هل ندلكم على رجل و المراد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ينبئكم و يخبركم أنكم ستستقرون في خلق جديد و يتجدد لكم الوجود إذا فرقت أبدانكم كل التفريق و قطعت بحيث لا يتميز شي‌ء منها من شي‌ء. 

  • قوله تعالى{أَفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} إلخ، الاستفهام للتعجيب فإن القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا رددوا الأمر بين الافتراء و الجنة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوه بما بدا له من غير فكر مستقيم. 

  • و قوله: {بَلِ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذَابِ وَ اَلضَّلاَلِ اَلْبَعِيدِ} رد لقولهم و إضراب عن الترديد الذي أتوا به مستفهمين، و محصله أن ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفار مستقرون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحق فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحق و يذعنوا به. 

  • و وضع الموصول موضع الضمير في قوله: {بَلِ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} للدلالة على أن علة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة. 

  • قوله تعالى{أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ} إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلهم و أرضا تقلهم لا مفر لهم منهما. 

تفسير الميزان ج۱٦

360
  • و قوله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ} أي إذ أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبرتان بتدبيرنا منقادتان مسخرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟ 

  • و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكل عبد منيب، راجع إلى ربه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الأمور و لا يجترءون على تكذيب هذه الآيات إلا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربهم و رجوعا إلى طاعته. 

  •  

  • [سورة سبإ (٣٤): الآیات ١٠الی ٢١]

  • {وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ ١٠أَنِ اِعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١ وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ وَ أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ ١٢ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ اَلشَّكُورُ ١٣ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى‌ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي اَلْعَذَابِ 

تفسير الميزان ج۱٦

361
  • اَلْمُهِينِ ١٤ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ١٥ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‌ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ١٦ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ ١٧ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَ قَدَّرْنَا فِيهَا اَلسَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ ١٨ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَ مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ١٩ وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٢٠وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ ٢١} 

  • (بيان) 

  • تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود و سليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على داود بتسخير الجبال و الطير معه و تليين الحديد له، و سخر لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر و سخر الجن يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و غيرها و أمرهما بالعمل الصالح شكرا و كانا عبدين شكورين. 

  • ثم إلى قصة سبإ حيث أنعم عليهم بجنتين عن اليمين و الشمال ليعيشوا فيها عيشا 

تفسير الميزان ج۱٦

362
  • رغدا فكفروا بالنعمة و أعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم و بدل جنتيهم جنتين دون ذلك و قد كان عمر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث و مزقهم كل ممزق، كل ذلك لكفرهم النعمة و إعراضهم عن الشكر و لا يجازى إلا الكفور. 

  • وجه اتصال القصص على ما تقدم من حديث البعث أن الله هو المدبر لأمور عباده و هم مغمورون في أنواع نعمه و للمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته و عليه أن يميز بين الشاكرين لنعمته و الكافر بها و إذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة أخرى يتميز فيها الفريقان فالبعث لا مفر عنه. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ} الفضل‌ العطية و التأويب‌ الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به ترجيع الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر: {إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}: ص: ١٩ و الطير معطوف على محل الجبال و منه يظهر فساد قول بعضهم: إن الأوب‌ بمعنى السير و أن الجبال كانت تسير معه حيثما سار. 

  • و قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ} بيان للفضل الذي أوتي داود و قد وضع فيه الخطاب الذي خوطبت به الجبال و الطير فسخرتا به موضع نفس التسخير الذي هو العطية و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبب و المعنى: سخرنا الجبال له تئوب معه و الطير، و هذا هو المتحصل من تسخير الجبال و الطير له كما يشير إليه قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}: ص: ١٩ و قوله: {وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ} أي و جعلناه لينا له على ما به من الصلابة. 

  • قوله تعالى{أَنِ اِعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ} إلخ، السابغات‌ جمع سابغة و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، و تقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه أي اعمل دروعا واسعة و أجعلها متناسبة الحلق، و جملة {أَنِ اِعْمَلْ} إلخ، نوع تفسير لا لأنه الحديد له. 

  • و قوله: {وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} معنى الجملة في نفسها ظاهر و هي لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل و عد النعم تفيد معنى الأمر بالشكر كأنه قيل: 

تفسير الميزان ج۱٦

363
  • و قلنا اشكر النعم أنت و قومك بالعمل الصالح. 

  • قوله تعالى{وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ} إلخ، أي و سخرنا لسليمان الريح مسير غدو تلك الريح و هو أول النهار إلى الظهر مسير شهر و رواح تلك الريح و هو من الظهر إلى آخر النهار مسير شهر أي أنها تسير في يوم مسير شهرين. 

  • و قوله: {وَ أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ} الإسالة إفعال من السيلان بمعنى الجريان و القطر النحاس أي و أذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية. 

  • قوله: {وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، أي و جمع من الجن بدليل قوله بعد: {يَعْمَلُونَ لَهُ} يعمل بين يديه بإذن ربه مسخرين له {وَ مَنْ يَزِغْ} أي ينحرف {عَنْ أَمْرِنَا} و لم يطع سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ} ظاهر السياق أن المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، و في لفظ الآية دلالة على أن المسخر له كان بعض الجن لا جميعهم. 

  • قوله تعالى{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} إلخ، المحاريب‌ جمع محراب و هو مكان إقامة الصلاة و العبادة، و التماثيل‌ جمع تمثال و هي الصورة المجسمة من الشي‌ء و الجفان‌ جمع جفنة و هي صحفة الطعام، و الجوابي‌ جمع جابية الحوض الذي يجبى أي يجمع فيه الماء، و القدور جمع قدر و هو ما يطبخ فيه الطعام، و الراسيات‌ الثابتات و المراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها. 

  • و قوله: {اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} خطاب لسليمان و سائر من معه من آل داود أن يعملوا و يعبدوا الله شكرا له، و قوله: {وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ اَلشَّكُورُ} أي الشاكر لله شكرا بعد شكر و الجملة إما في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأن المتمكنين في هذا المقام قليلون و هم الأوحديون من الناس، و إما في مقام التعليل كأنه قيل: إنهم قليل فكثروا عدتهم. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلىَ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} المراد بدابة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات و المنسأة العصا و قوله: 

تفسير الميزان ج۱٦

364
  • {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي اَلْعَذَابِ اَلْمُهِينِ} الخرور السقوط على الأرض. 

  • و يستفاد من السياق أنه (عليه السلام) لما قبض كان متكئا على عصاه فبقي على تلك الحال قائما متكئا على عصاه زمانا لا يعلم بموته إنس و لا جن فبعث الله عز و جل أرضة فأخذت في أكل منسأته حتى إذا أكلت انكسرت العصا و سقط سليمان على الأرض فعلموا عند ذلك بموته و تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم و ما لبثوا هذا المقدار من الزمان و هو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين المذل لهم. 

  • قوله تعالى{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ} إلخ، سبأ العرب العاربة باليمن سموا - كما قيل - باسم أبيهم سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قوله: {عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ} أي عن يمين مسكنهم و شماله. 

  • و قوله: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أمر بالأكل من جنتين و هو كناية عن رزقهم منهما، ثم بالشكر له على نعمته و رزقه، و قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ} أي بلدة ملائمة صالحة للمقام و رب كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيئاتكم. 

  • قوله تعالى{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‌ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} العرم‌ المسناة التي تحبس الماء، و قيل: المطر الشديد و قيل غير ذلك، و الأكل‌ بضمتين كل ثمرة مأكولة، و الخمط على ما قيل كل نبت أخذ طعما من المرارة، و الأثل‌ الطرفاء و قيل: شجر يشبهها أعظم منها لا ثمرة له، و السدر معروف، و الأثل و شي‌ء معطوفان على {أُكُلٍ} لا على خمط. 

  • و المعنى: فأعرضوا أي قوم سبإ عن الشكر الذي أمروا به فجازيناهم و أرسلنا عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم و ذهب بجنتيهم و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي ثمرة مرة و ذواتي طرفاء و شي‌ء قليل من السدر. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ} {ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من إرسال السيل و تبديل الجنتين و محله النصب مفعولا ثانيا لجزيناهم و الفرق بين الجزاء و المجازاة كما قيل إن المجازاة لا تستعمل إلا في الشر و الجزاء أعم. 

تفسير الميزان ج۱٦

365
  • و المعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم و إعراضهم عن الشكر أو في مقابلة ذلك و لا نجازي بالسوء إلا من كان كثير الكفران لأنعم الله. 

  • قوله تعالى{وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً} إلخ، ضمير {بَيْنَهُمْ} لسبإ و الكلام مسوق لبيان تتمة قصتهم المطلوب ذكرها و هو عطف على قوله: {كَانَ لِسَبَإٍ} و المراد بالقرى التي باركنا فيها القرى الشامية، و المراد بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض. 

  • و قوله: {وَ قَدَّرْنَا فِيهَا اَلسَّيْرَ} أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدرة متناسبة غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها و ما يليها كالنسبة بين ما يليها و ما يليه، و قوله: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ} على تقدير القول أي و قلنا: سيروا في هذه القرى على أمن إن شئتم ليالي و إن شئتم أياما، و المراد قررنا فيها الأمن يسيرون فيها متى ما شاءوا من غير خوف و قلق. 

  • قوله تعالى{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إلخ، أي أنعمنا عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه و قرب المنازل و أمن الطرق و سهولة السير و رغد العيش فملوا ذلك و سئموه و قالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أي اجعل أسفارنا ذوات مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل و نقطع المفاوز و البوادي و هذا بغي منهم و كفران كما طلبت بنو إسرائيل الثوم و البصل مكان المن و السلوى. 

  • و بالجملة أتم الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل و أمن الطرق و وفور النعمة كما أتم نعمه عليهم في الحضر و أراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في إسعاف ما اقترحوه فخرب بلادهم و فرق جمعهم و شتت شملهم. 

  • فقوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} اقتراح ضمني لتخريب بلادهم، و قوله: {وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي بالمعاصي. 

  • و قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَ مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي أزلنا أعيانهم و آثارهم فلم يبق منهم إلا أحاديث يحدث بها فيما يحدث فعادوا أسماء لا مسمى لهم إلا في وهم المتوهم و خيال المتخيل و فرقناهم كل تفرق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزءان 

تفسير الميزان ج۱٦

366
  • مجتمعان إلا فرقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعا ذا قوة و شوكة حتى ضرب بهم المثل «تفرقوا أيادي سبإ». 

  • و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي في هذا الذي ذكر من قصتهم لآيات لكل من كثر صبره في جنب الله و كثر شكره لنعمه التي لا تحصى يستدل بتلك الآيات على أن على الإنسان أن يعبد ربه شكرا لنعمه و أن وراءه يوما يبعث فيه و يجزى بعمله. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} أي حقق إبليس عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا عليهم إذ قال لربه: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} و {لَأُضِلَّنَّهُمْ} {وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، و قوله: {فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} بيان لتصديقه ظنه. 

  • و منه يظهر أن ضمير الجمع في {عَلَيْهِمْ} هاهنا و كذا في الآية التالية لعامة الناس لا لسبإ خاصة و إن كانت الآية منطبقة عليهم. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} ظاهر السياق أن المراد أنهم لم يتبعوه عن سلطان له عليهم يضطرهم إلى اتباعه حتى يكونوا معذورين بل إنما اتبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتباعه فيتسلط عليهم لا أنه يتسلط فيتبعونه، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢ و قال حاكيا عن إبليس يوم القيامة: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ}: إبراهيم: ٢٢. 

  • و منشأ اتباعهم له ريب و شك في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الذي هو الاتباع لإبليس، فإذنه سبحانه لإبليس أن يتسلط عليهم من طريق اختيارهم هذا المقدار من التسلط ليمتاز به أهل الشك في الآخرة من أهل الإيمان به و لا يرفع ذلك مسئوليتهم في اتباعه لكونه عن اختيار منهم. 

  • فقوله: {وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} نفي لكل سلطان، و قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي لنميز {مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} استثناء لسلطانه عليهم من طريق 

تفسير الميزان ج۱٦

367
  • اتباعهم له عن اختيار منهم، و قد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور موضع التسلط من طريق الاتباع الاختياري. 

  • و تقييد الإيمان و الشك بالآخرة في الآية لمكان أن الرادع الوحيد عن المعصية و الداعي إلى الطاعة هو الإيمان بالآخرة دون الإيمان بالله و رسوله لو لا الآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ}: ص: ٢٦ و قوله: {وَ رَبُّكَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ} أي عالم علما لا يفوته المعلوم بنسيان أو سهو أو غير ذلك و فيه تحذير عن الكفران و المعصية و إنذار لأهل الكفر و المعصية. 

  • (بحث روائي) 

  • في كمال الدين بإسناده إلى هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) في حديث يذكر فيه قصة داود (عليه السلام) قال: إنه خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلا أجابه.

  • و في تفسير القمي: قوله عز و جل: {أَنِ اِعْمَلْ سَابِغَاتٍ} قال: الدروع {وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ} قال: المسامير التي في الحلقة، و قوله عز و جل: {وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ} قال: كانت الريح تحمل كرسي سليمان - فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشي مسيرة شهر. 

  • و في الكافي بإسناده عن داود بن الحصين و عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العباس قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ} قال: ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنها تماثيل الشجر و شبهه.

  • و فيه عن بعض أصحابنا مرفوعا عن هشام بن الحكم قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام ثم مدح الله القلة فقال: {وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ اَلشَّكُورُ}

  • أقول: و قد وقع هذا المعنى في عدة روايات و هو ينطبق على أحد المعنيين المتقدمين في ذيل الآية. 

  • و في العلل بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا له قبة من قوارير فبينا هو متكئ على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف ينظرون 

تفسير الميزان ج۱٦

368
  • إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبة قال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرشا و لا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه و هو قائم متكئ على عصاه في القبة و الجن ينظرون إليه . 

  • قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز و جل الأرضة فأكلت منسأته و هي العصا، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‌ (الحديث). 

  • أقول: و بقاؤه (عليه السلام) على حال القيام متكئا على عصاه سنة وارد في عدة من روايات الشيعة و أهل السنة. 

  • و في المجمع في الحديث عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن سبإ أ رجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة و تشاءم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم و بجيلة. و أما الذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسان.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع و السنن عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد بالتيامن و التشاؤم السكونة باليمن و الشام. 

  • و في الكافي بإسناده عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (الآية) فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض و أنهار جارية و أموال ظاهرة فكفروا نعم الله عز و جل و غيروا ما بأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم من نعمة و الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم و خرب ديارهم و ذهب بأموالهم و أبدلهم مكان جنانهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شي‌ء من سدر قليل ثم قال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ}

  • أقول: و ورد في عدة من الروايات أن القرى التي بارك الله فيها هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و القرى الظاهرة هم الوسائط بينهم و بين الناس من حملة أحاديثهم و غيرهم، و هو من بطن القرآن و ليس من التفسير في شي‌ء. 

تفسير الميزان ج۱٦

369
  • [سورة سبإ (٣٤): الآیات ٢٢ الی ٣٠]

  • {قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَ مَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ٢٢ وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ ٢٣ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‌ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢٤ قُلْ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٢٥ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتَّاحُ اَلْعَلِيمُ ٢٦ قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٧ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٢٨ وَ يَقُولُونَ مَتى‌ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٩ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لاَ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَ لاَ تَسْتَقْدِمُونَ ٣٠} 

  • (بيان) 

  • آيات مقررة للتوحيد و احتجاجات حوله. 

  • قوله تعالى{قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إلى 

تفسير الميزان ج۱٦

370
  • آخر الآية، أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يحتج على إبطال ألوهية آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله: {قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} أي ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله فمفعولا {زَعَمْتُمْ} محذوفان لدلالة السياق عليهما و دعاؤهم هو مسألتهم شيئا من الحوائج. 

  • و قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ} واقع موقع الجواب كأنه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشي‌ء لأنهم {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ} و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتم الربوبية و الألوهية إلا بأن يملك الرب و الإله شيئا مما يحتاج إليه الإنسان فيملكه له و ينعم عليه به فيستحق بإزائه العبادة شكرا له فيعبد، أما إذا لم يملك شيئا فلا يكون ربا و لا إلها. 

  • و قوله: {وَ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} كان الملك المنفي في الجملة السابقة {لاَ يَمْلِكُونَ} إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفي في هذه الجملة الملك المحدود المتبعض الذي ينبسط على البعض دون الكل إما مشاعا أو مفروزا، لكن المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعا بل كانوا يقولون بملك كل من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أما الله سبحانه فهو رب الأرباب و إله الآلهة. 

  • و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيتهم و ألوهيتهم. 

  • و قوله: {وَ مَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي ليس لله سبحانه منهم كلا أو بعضا من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكا فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس. 

  • فتبين مما تقدم أن احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقا و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيرا لله سبحانه. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ}: يونس: ١٨ 

تفسير الميزان ج۱٦

371
  • و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة التي يثبتها القرآن الكريم فإنهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبادهم عند الله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم و إصلاح شئونهم بتوسط آلهتهم. 

  • و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كل وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلين بها إلا أن يملكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه. 

  • و قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} يحتمل أن يكون اللام في {لِمَنْ} لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه. انتهى. 

  • و هو الوجه فإن الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهي و إجرائه، قال تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}: الأنبياء: ٢٧ و قال: {جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}: فاطر: ١ و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب. 

  • فالملائكة جميعا شفعاء لكن لا في كل أمر و لكل أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ}: الأنبياء: ٢٨ لا في معنى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}: يونس: ٣. 

  • قوله تعالى{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} التفزيع‌ إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع على ما يعطيه السياق للشفعاء و هم الملائكة. 

  • و لازم قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} و هو غاية أن يكون هناك أمر مغيى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتد في انتظار أمر الله سبحانه حتى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ} إلى أن قال {وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ 

تفسير الميزان ج۱٦

372
  • لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}: النحل: ٥٠فالفزع‌ هو التأثر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذللا من خوف ربهم من فوقهم. 

  • و بذلك يظهر أن المراد بفزعهم حتى يفزع عنهم أن التذلل غشي قلوبهم و هو تذللهم من حيث إنهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية و وقوعه على ما صدر و كما أريد، و كشف هذا التذلل هو تلقيهم الأمر الإلهي و اشتغالهم بالعمل كأنهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلا أمره فافهم ذلك. 

  • و إنما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كل شي‌ء إلا ربهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشي‌ء غيره حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهي بلا مهل و لا تخلف فليس الأمر بحيث يعطل أو يتأخر عن الوقوع، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: يس: ٨٢ فالمستفاد من الآية نظرا إلى هذا المعنى أنهم في فزع حتى إذا أزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهي. 

  • و قوله: {قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ} يدل على أنهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضا عن الأمر الإلهي بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين. 

  • و يتبين منه أن كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإن لازم السؤال أن يكون المسئول عالما بما سئل عنه قبل السائل. 

  • فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقى الدانية منها الأمر الإلهي من العالية من غير تخلف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضا بالتدبر في قوله تعالى: {وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}: الصافات: ١٦٤ و قوله في وصف الروح الأمين: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}: التكوير: ٢١. 

  • فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلا لله سبحانه لأن المطاع منهم لا شأن له إلا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهي إلى مطيعه الذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحق في قوله: {قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ} أي قال 

تفسير الميزان ج۱٦

373
  • القول الثابت الذي لا سبيل للبطلان و التبدل إليه. 

  • و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى: {وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} أي هو العلي الذي دونه كل شي‌ء و الكبير الذي يصغر عنده كل شي‌ء فليس للملائكة المكرمين إلا تلقي قوله الحق و امتثاله و طاعته كما يريد. 

  • فقد تحصل من الآية الكريمة أن الملائكة فزعون في أنفسهم متذللون في ذواتهم ذاهلون عن كل شي‌ء إلا عن ربهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوا و دنوا يتوسط كل عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه. 

  • فهم مع كونهم شفعاء و أسبابا متوسطة لا يشفعون و لا يتوسطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلا بإذن خاص من ربهم في حدوثه فيتحملون الأمر النازل إليهم حتى يحققوه في الكون من غير أن يستقلوا من أنفسهم في شي‌ء أو يستبدوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشي‌ء إلا طاعة ربه فيما يأمره به كيف يكون ربا مستقلا في أمره مفوضا إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟ 

  • و في الآية أقوال مختلفة أخر: 

  • منها: أن ضمير {قُلُوبِهِمْ} و {قَالُوا} الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير {قَالُوا} الأول للملائكة و المعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربكم؟ قالت المشركون لهم: الحق فيعترفون بما أنكروه في الدنيا. 

  • و منها: أن ضمير {قُلُوبِهِمْ} للملائكة و المراد أن الملائكة الموكلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنها الساعة فيفزعون و يخرون سجدا لله سبحانه حتى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق. 

  • و منها: أن الله لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد فترة بينه و بين عيسى (عليه السلام) لم ينزل فيها شي‌ء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه 

تفسير الميزان ج۱٦

374
  • نزل بشي‌ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رءوسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق أي الوحي. 

  • و منها: أن الضمير للملائكة و المراد أن الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحي إليه ما ذا قال ربك؟ أو سأل بعضهم بعضا ما ذا قال ربكم؟ فيعلمون أن الأمر في غيرهم. 

  • و أنت بعد التدبر في الآية الكريمة و التأمل فيما قدمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أن شيئا منها على تقدير صحته في نفسه لا يصلح تفسيرا لها. 

  • قوله تعالى{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ} إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الذي هو الملاك العمدة في اتخاذهم الآلهة فإنهم يتعللون في عبادتهم الآلهة بأنها ترضيهم فيوسعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك. 

  • فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنه الله سبحانه لأن الرزق خلق في نفسه و لا خالق حتى عند المشركين إلا الله عز اسمه لكنهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال: {قُلِ اَللَّهُ}

  • و قوله: {وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلىَ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هذا القول بعد إلقاء الحجة القاطعة و وضوح الحق في مسألة الألوهية مبني على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أن كل قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفيا و إثباتا و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإما أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إما أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحجة و ميزوا المهدي من الضال و المحق من المبطل. 

  • و اختلاف التعبير في قوليه: {لَعَلىَ هُدىً} و {فِي ضَلاَلٍ} بلفظة على و في كما قيل للإشارة إلى أن المهتدي كأنه مستعل على منار يتطلع على السبيل و غايتها التي فيها سعادته، و الضال منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير 

تفسير الميزان ج۱٦

375
  • و ما ذا يراد به؟ 

  • قوله تعالى{قُلْ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي إن العمل و خاصة عمل الشر لا يتعدى عن عامله و لا يلحق وباله إلا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عما أجرمنا بل نحن المسئولون عنه و لا نسأل عما تعملون بل أنتم المسئولون. 

  • و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإن الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيرا و شرا كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميز كل من الأخرى حتى يلحق به جزاء عمله من خير أو شر أو سعادة أو شقاء و الذي يفتح و يميز هو الرب تعالى. 

  • و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله: {تَعْمَلُونَ} و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة. 

  • قوله تعالى{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتَّاحُ اَلْعَلِيمُ} لما كان من الواجب أن يلحق بكل من المحسن و المسي‌ء جزاء عمله و كان لازمه التمييز بينهما بالجمع ثم الفرق كان ذلك شأن مدبر الأمر و هو الرب أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)أن يذكرهم أن الذي يجمع بين الجميع ثم يفتح بينهم بالحق هو الله، فهو رب هؤلاء و أولئك فإنه هو الفتاح العليم يفتح بين كل شيئين بالخلق و التدبير فيتميز بذلك الشي‌ء من الشي‌ء كما قال: {أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}: الأنبياء: ٣٠و هو العليم بكل شي‌ء. 

  • فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسي‌ء أولا ثم انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبية فيه و يبطل بذلك ربوبية من اتخذوه من الأرباب. 

  • و الفتاح من أسماء الله الحسنى و الفتح‌ إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله. 

  • قوله تعالى{قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} أمر آخر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتى يختبر هل فيهم الصفات الضرورية للإله المستحق للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله: {أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} أي ألحقتموهم به شركاء له. 

تفسير الميزان ج۱٦

376
  • ثم ردع بنفسه و قال: كلا لا يكونون شركاء له لأنهم إما أن يروه الأصنام بما أنها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إما أن يروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلا أن ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شي‌ء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الذي يدعون أنه مفوض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شي‌ء من كماله. 

  • اللهم إلا أن يدعوا أنه شاركهم في بعض ما له من الشئون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتية و هذا ينافي حكمته تعالى. 

  • و قد أشير إلى هذه الحجة بقوله: {بَلْ هُوَ اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} فإن عزته تعالى و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحد بحد تمنع أن يشاركه في شي‌ء من صفات كماله كالربوبية و الألوهية المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتية من الشريك و لو كانت عن إرادة جزافية منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهية تمنع ذلك. 

  • و قد تبين بذلك أن الآية متضمنة لحجة قاطعة برهانية فأحسن التدبر فيها. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} قال الراغب في المفردات: الكف‌ كف الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفه، و كففته أصبته بالكف و دفعته بها و تعورف الكف بالدفع على أي وجه كان بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} أي كافا لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علامة و نسابة. انتهى. 

  • و يؤيد هذا المعنى توصيفه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالبشير و النذير، فقوله: {بَشِيراً وَ نَذِيراً} حالان يبينان صفته لقوله: {كَافَّةً لِلنَّاسِ}

  • و ربما قيل: إن التقدير و ما أرسلناك إلا إرساله كافة للناس و لا يخلو من تكلف و بعد. و 

تفسير الميزان ج۱٦

377
  • أما كون كافة بمعنى جميعا و حالا من الناس، و المعنى: و ما أرسلناك إلا للناس جميعا فهم يمنعون عن تقدم الحال على صاحبه المجرور. 

  • و اعلم أن منطوق الآية و إن كان راجعا إلى النبوة و فيها انتقال من الكلام في التوحيد إلى الكلام في النبوة على حد الآيات التالية، لكن في مدلولها حجة أخرى على التوحيد و ذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم و مسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالته (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو رسول الله تعالى لا رسول غيره دليل على أن الربوبية منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك رب غيره لجاءهم رسوله و لم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو عمتهم و احتاجوا معه إلى غيره، و هذا معنى قول علي (عليه السلام) - على ما روي - لو كان لربك شريك لأتتك رسله. 

  • و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه أمس بجهل الناس من كونه (صلى الله عليه وآله و سلم) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا و نذيرا. 

  • فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يروك شريكا له و الحال أنا لم نرسلك إلا كافا لجميع الناس بشيرا و نذيرا و لو كان لهم إله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم و هم عباد لإله آخر و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سؤال عن وقت الجمع و الفتح و هو البعث فالآية متصلة بقوله السابق: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} (الآية)، و هذا أيضا من شواهد ما قدمنا من المعنى لقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً} و إلا كانت هذه الآية و التي بعدها متخللتين بين قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ} (الآية)، و الآيات التالية المتعرضة لمسألة النبوة. 

  • قوله تعالى{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لاَ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَ لاَ تَسْتَقْدِمُونَ} أمر منه تعالى أن يجيبهم بأن لهم ميعاد يوم مقضي محتوم لا يتخلف عن الوقوع فهو واقع قطعا و لا يختلف وقت وقوعه البتة أي إن الله وعد به وعدا لا يخلفه إلا أن وقت وقوعه مستور لا يعلمه إلا الله سبحانه. 

تفسير الميزان ج۱٦

378
  • و ما قيل: إن المراد به يوم الموت غير سديد فإنهم لم يسألوا إلا عما تقدم وعده و هو يوم الجمع و الفتح و الجمع ثم الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} و ذلك أن أهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، فلما بعث الله جبرئيل إلى محمد سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق أهل السماوات. 

  • فلما فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلما مر بأهل سماء فزع عن قلوبهم يقول: كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق و هو العلي الكبير.

  • أقول: و روي مثله من طرق أهل السنة موصولا و موقوفا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و مدلول الرواية على أي حال مصداق من مصاديق الآية و لا تصلح لتفسيرها البتة. 

  • و في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس و في المجمع عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي. بعثت إلى الناس كافة الأحمر و الأسود و إنما كان النبي يبعث إلى قومه، و نصرت بالرعب يرعب مني عدوي على مسيرة شهر، و أطعمت المغنم، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و أعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة و هي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئا. 

  • أقول: و روي أيضا هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و الرواية معارضة لما ورد مستفيضا أن نوحا كان مبعوثا إلى الناس كافة و ذكر في بعضها إبراهيم (عليه السلام) و في بعضها أن أولي العزم كلهم مبعوثون إلى الدنيا كافة، و تخالف أيضا عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدة من الروايات و قد قال تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: الزخرف: ٨٦ و قد شهد القرآن بأن المسيح (عليه السلام) من الشهداء قال تعالى: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}: النساء: ١٥٩. 

تفسير الميزان ج۱٦

379
  • و الروايات من طرق العامة و الخاصة كثيرة في عموم رسالته للناس كافة و ظاهر كثير منها أخذ {كَافَّةً} في قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} حالا من {لِلنَّاسِ} قدم عليه و يمنعه البصريون من النحاة و يجوزه الكوفيون. 

  •  

  • [سورة سبإ (٣٤): الآیات ٣١ الی ٥٤]

  • {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ لاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى‌ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ٣١ قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ اَلْهُدى‌ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ٣٢ وَ قَالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٣٣ وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ٣٤ وَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٦ وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى‌ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ 

تفسير الميزان ج۱٦

380
  • لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ٣٧ وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ٣٨ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٣٩ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ٤٠قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ٤١ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ٤٢ وَ إِذَا تُتْلى‌ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ٤٣ وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ٤٤ وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٤٥ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى‌ وَ فُرَادى‌ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ٤٦ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ هُوَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ ٤٧ قُلْ إِنَّ

تفسير الميزان ج۱٦

381
  • رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ٤٨ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ ٤٩ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلىَ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ٥٠وَ لَوْ تَرى‌ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ٥١ وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٥٢ وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٥٣ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ٥٤} 

  • (بيان) 

  • فصل آخر من آيات السورة تتكلم في أمر النبوة و ما يرجع إليها و ما يقول المشركون فيها و تتخلص في خلالها بما يجري عليهم يوم الموت أو يوم القيامة، و قد اتصلت بقوله في الفصل السابق: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} (الآية)، و قد عرفت أن الآية كالبرزخ بين الفصلين تذكر الرسالة و تجعلها دليلا على التوحيد. 

  • قوله تعالى{وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ لاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} المراد بالذين كفروا المشركون و المراد بالذي بين يديه الكتب السماوية من التوراة و الإنجيل و ذلك أن المشركين و هم الوثنيون ليسوا قائلين بالنبوة و يتبعها الكتاب السماوي. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بالذي بين يديه هو أمر الآخرة مما لا دليل يساعده، و قد أكثر القرآن الكريم من التعبير عن التوراة و الإنجيل بالذي بين يديه، و من الخطإ قول بعضهم: إن المراد بالذين كفروا هم اليهود. 

تفسير الميزان ج۱٦

382
  • قوله تعالى{وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلخ، الظاهر أن اللام في {اَلظَّالِمُونَ} للعهد، و هذه الآية و الآيتان بعدها تشير إلى أن وبال هذا الكفر و أساسه ضلال أئمة الكفر و إضلالهم تابعيهم سيلحق بهم و سيندمون عليه و لن ينفعهم الندم. 

  • فقوله: {وَ لَوْ تَرىَ} خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ هم بمعزل عن فهم الخطاب {إِذِ اَلظَّالِمُونَ} و هم الكافرون بكتب الله و رسله، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} للحساب و الجزاء يوم القيامة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىَ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ} أي يتحاورون و يتراجعون في الكلام متخاصمين {يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا} بيان لرجوع بعضهم إلى بعض في القول و المستضعفون الأتباع الذين استضعفتهم المتبوعون {لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا} و هم الأئمة القادة {لَوْ لاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} يريدون أنكم أجبرتمونا على الكفر و حلتم بيننا و بين الإيمان. 

  • {قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا} جوابا عن قولهم و ردا لما اتهموهم به من الإجبار و الإكراه {أَ نَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ} الاستفهام للإنكار أي أ نحن صرفناكم {عَنِ اَلْهُدىَ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} فبلوغه إليكم بالدعوة النبوية أقوى الدليل على أنا لم نحل بينه و بينكم و كنتم مختارين في الإيمان به و الكفر {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} متلبسين بالإجرام مستمرين عليه فأجرمتم بالكفر به لما جاءكم من غير أن نجبركم عليه فكفركم منكم و نحن برآء منه. 

  • {وَ قَالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا} ردا لقولهم و دعواهم البراءة {بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} أي مكركم بالليل و النهار حملنا على الكفر {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} و أمثالا من الآلهة أي أنكم لم تزالوا في الدنيا تمكرون الليل و النهار و تخطون الخطط لتستضعفونا و تتآمروا علينا فتحملونا على طاعتكم فيما تريدون، فلم نشعر إلا و نحن مضطرون على الائتمار بأمركم إذ تأمروننا بالكفر و الشرك. 

  • {وَ أَسَرُّوا} و أخفوا {اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ} و شاهدوا أن لا مناص، و إخفاؤهم الندامة يوم القيامة و هو يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شي‌ء نظير كذبهم على الله و إنكارهم الشرك بالله و حلفهم لله كان بين كل ذلك من قبيل ظهور 

تفسير الميزان ج۱٦

383
  • ملكاتهم الرذيلة التي رسخت في نفوسهم فقد كانوا يسرون الندامة في الدنيا خوفا من شماتة الأعداء و كذلك يفعلون يوم القيامة مع ظهور ما أسروا و اليوم يوم تبلى السرائر كما يكذبون بمقتضى ملكة الكذب مع ظهور أنهم كاذبون في قولهم. 

  • ثم ذكر سبحانه أخذهم للعذاب فقال: {وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاَلَ} السلاسل {فِي أَعْنَاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فصارت أعمالهم أغلالا في أعناقهم تحبسهم في العذاب. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} المترفون‌ اسم مفعول من الإتراف و هو الزيادة في التنعيم، و فيه إشعار بأن الإتراف يفضي إلى الاستكبار على الحق كما تفيده الآية اللاحقة. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ضمير الجمع للمترفين، و من شأن الإتراف و الترفه و التقلب في نعم الدنيا أن يتعلق قلب الإنسان بها و يستعظمها فيرى السعادة فيها سواء وافق الحق أم خالفه فلا يذكر إلا ظاهر الحياة و ينسى ما وراءه. 

  • و لذا حكى سبحانه عنهم ذلك إذ قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً} فلا سعادة إلا فيها و لا شقوة معها {وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} في آخرة، و لم ينفوا العذاب إلا للغفلة و الانصراف عما وراء كثرة الأموال و الأولاد فإذ كانت هي السعادة و الفلاح فحسب فالعذاب في فقدها و لا عذاب معها. 

  • و هاهنا وجه آخر و هو أنهم لغرورهم بما رزقوا به من المال و الولد ظنوا أن لهم كرامة على الله سبحانه و هم على كرامتهم عليهم ما داموا، و المعنى: أنا ذوو كرامة على الله بما أوتينا من كثرة الأموال و الأولاد و نحن على كرامتنا فما نحن بمعذبين لو كان هناك عذاب. 

  • فتكون الآية في معنى قوله: {وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىَ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىَ} حم السجدة: ٥٠.

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ 

تفسير الميزان ج۱٦

384
  •  لاَ يَعْلَمُونَ} (الآية) و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات جواب عن قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً} إلخ، و قد أجيب عنه بوجهين أحدهما أن أمر الرزق من الأموال و الأولاد سعة و ضيقا بيد الله على ما تستدعيه الحكمة و المصلحة و هيأ من الأسباب لا بمشية الإنسان و لا لكرامة له على الله فربما بسط في رزق مؤمن أو كافر أو عاقل ذي حزم أو أحمق خفيف العقل، و ربما بسط على واحد ثم قدر له. فلا دلالة في الإتراف على سعادة أو كرامة. 

  • و هذا معنى قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي} نسبه إلى نفسه لأنهم لم يكونوا يرون الله ربا لأنفسهم و الرزق من شئون الربوبية {يَبْسُطُ} أي يوسع {اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} من عباده بحسب الحكمة و المصلحة {وَ يَقْدِرُ} أي يضيق {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فينسبونه ما لم يؤتوه إلى الأسباب الظاهرية الاتفاقية ثم إذا أوتوه نسبوه إلى حزمهم و حسن تدبيرهم أنفسهم و كفى به دليلا على الحمق. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفىَ} إلى آخر الآيتين هذا هو الجواب الثاني عن قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} و محصله أن انتفاء العذاب المترتب على القرب من الله لا يترتب على الأموال و الأولاد إذ لا توجب الأموال و الأولاد قربا و زلفى من الله حتى ينتفي معها العذاب الإلهي فوضع تقريب المال في الآية موضع انتفاء العذاب من قبيل وضع السبب موضع المسبب. 

  • و هذا معنى قوله: {وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ} التي تعتمدون عليها في السعادة و انتفاء عذاب الله {بِالَّتِي} أي بالجماعة التي {تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفىَ} أي تقريبا. 

  • {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} في ماله و ولده بأن أنفق من أمواله في سبيل الله و بث الإيمان و العمل الصالح في أولاده بتربية دينية {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ} لعله من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الجزاء المضاعف من جهة أنهم اهتدوا و هدوا و أيضا من جهة تضعيف الحسنات إلى عشر أضعافها و زيادة {وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ} أي في القباب العالية {آمِنُونَ} من العذاب فما هم بمعذبين. 

  • {وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي يجدون في آياتنا و هم يريدون أن يعجزونا أو أن يسبقونا {أُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} و إن كثرت أموالهم و أولادهم. 

تفسير الميزان ج۱٦

385
  • و في قوله: {وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ} إلخ، انتقال إلى خطاب عامة الناس من الكفار و غيرهم و الوجه فيه أن ما ذكره من الحكم حكم الأموال و الأولاد سواء في ذلك المؤمن و الكافر فالمال و الولد إنما يؤثران أثرهما الجميل إذا كان هناك إيمان و عمل صالح فيهما و إلا فلا يزيدان إلا وبالا. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ} قال في مجمع البيان: يقال: أخلف‌ الله له و عليه إذا أبدل له ما ذهب عنه. انتهى. 

  • سياق الآية يدل على أن المراد بالإنفاق فيها الإنفاق في وجوه البر و المراد بيان أن هذا النحو من الإنفاق لا يضيع عند الله بل يخلفه و يرزق بدله. 

  • فقوله في صدر الآية: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ} للإشارة إلى أن أمر الرزق في سعته و ضيقه إلى الله سبحانه لا ينقص بالإنفاق و لا يزيد بالإمساك ثم قال: {وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ} قليلا كان أو كثيرا و أيا ما كان من المال {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} و يرزقكم بدله إما في الدنيا و إما في الآخرة {وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ} فإنه يرزق جودا و رزق غيره معاملة في الحقيقة و معاوضة، و لأنه الرازق في الحقيقة و غيره ممن يسمى رازقا واسطة لوصول الرزق. 

  • قوله تعالى{وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} المراد بهم جميعا بشهادة السياق العابدون و المعبودون جميعا. 

  • و قوله: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} ليس سؤال استخبار عن أصل عبادتهم لهم و لو كان كذلك لم يسعهم إنكارها لأنهم عبدوهم في الدنيا و قد أنكروها كما في الآية بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم على حد قوله تعالى لعيسى بن مريم: {أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ}

  • و الغرض من السؤال تبكيت المشركين و إقناطهم من نصرة الملائكة و شفاعتهم لهم و قد عبدوهم في الدنيا لذلك. 

تفسير الميزان ج۱٦

386
  • قوله تعالى{قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} أخذت الملائكة في جوابهم عن سؤاله تعالى بجوامع الأدب فنزهوه سبحانه أولا تنزيها مطلقا فيه تنزيهه من أن يعبدوا من دونه ثم نفوا رضاهم بعبادة المشركين لهم لكن لا بالتصريح بنفي الرضا بالعبادة و لا بالتفوه بعبادتهم صونا لساحة المخاطبة عما يقرع السمع بذلك، و لو تصورا لا تصديقا بل أجابوا بقصر ولايتهم فيه تعالى و نفيها عنهم ليدل على نفي الرضا بعبادتهم لهم على طريق الكناية فإن الرضا بعبادتهم لازمه الموالاة بينهم، و الموالاة بينهم تنافي قصر الولاية في الله سبحانه فإذا انحصرت الولاية فيه تعالى لم تكن موالاة و إذا لم تكن موالاة لم يكن رضا. 

  • ثم قالوا على ما حكاه الله سبحانه: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} و الجن هم الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث التي يعبدهم الوثنيون و هم الملائكة و الجن و القديسون من البشر، و الأقدم في استحقاق العبادة عندهم هم الطائفتان الأوليان و الطائفة الثالثة ملحقة بهما بعد الكمال و إن كانوا أفضل منهما. 

  • و الإضراب في قولهم: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ} يدل على أن الجن كانوا على رضى من عبادتهم لهم. 

  • و هؤلاء من الجن هم الذين يعدهم الوثنيون مبادئ الشرور في العالم فيعبدونهم اتقاء من شرورهم كما يعبدون الملائكة طمعا في خيراتهم لما أنهم مباد للخيرات لا كما قيل: إن المراد بالجن إبليس و ذريته و قبيله و معنى عبادتهم لهم طاعتهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة أو مطلق المعاصي، و يرده ما وقع في الآية من التعبير بلفظ الإيمان دون الطاعة و لا ما قيل: إنهم كانوا يتمثلون لهم و يخيلون لهم أنهم الملائكة فيعبدونهم و لا ما قيل: إنهم كانوا يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها. 

  • و لعل الوجه في نسبة الإيمان بهم إلى أكثرهم دون جميعهم أن أكثرهم يعبدون الآلهة اتقاء من طروق الشر من قبلهم، و مبادئ الشر عندهم مطلقا الجن لا كما قيل: إن المراد بالأكثر الكل، و هو مبني على تفسير العبادة بمعنى الطاعة و قد عرفت ما فيه. 

  • قوله تعالى{فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا 

تفسير الميزان ج۱٦

387
  • ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} نوع تفريع على تبري الملائكة منهم و قد بين تبري عامة المتبوعين من تابعيهم و التابعين من متبوعيهم في مواضع كقوله تعالى: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}: فاطر: ١٤ و قوله: {ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}: العنكبوت: ٢٥. و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} إلخ، خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم و تحريض لهم عليه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و في توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات و هي بينة لا ريب فيها فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها حثوهم على الإصرار على تقليد آبائهم و حرضوهم عليه - و في إضافة الآباء إلى ضمير {يَصُدَّكُمْ} مبالغة في التحريض و الإثارة. 

  • و قوله: {وَ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً} معطوف على {قَالُوا} أي و قالوا مشيرا إلى الآيات البينات إشارة تحقير ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه مكذوبا به على الله، بدلا من أن يقولوا: إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى و قد أشاروا إلى الآيات البينات بهذا دلالة على أنهم لم يفهموا منها إلا أنها شي‌ء ما لا أزيد من ذلك. 

  • ثم غير سبحانه السياق و قال: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} و مجي‌ء الحق لهم بلوغه و ظهوره لهم، و الأخذ بوصف الكفر للإشعار بالتعليل و المعنى: و الذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم و ظهر لهم هذا سحر ظاهر سحريته و بطلانه. 

  • و أكد إصرارهم على دحض الحق باتباع الهوى من غير دليل يدل عليه بقوله: {وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} و الجملة حالية أي و عد الذين كفروا - أي كفار قريش - الحق الصريح الظاهر لهم سحرا مبينا و الحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل و لم نرسل إليهم قبلك من رسول ينذرهم و يبين لهم ذلك فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير: إنه حق أو باطل. 

تفسير الميزان ج۱٦

388
  • قوله تعالى{وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ضميرا الجمع الأول و الثاني لكفار قريش و من يتلوهم و الثالث و الرابع للذين من قبلهم، و المعشار العشر و النكير الإنكار، و المراد به في الآية لازمه و هو الأخذ بالعذاب. 

  • و المعنى: و كذب بالحق من الآيات الذين كانوا من قبل كفار قريش من الأمم الماضية و لم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة و الشدة فكذب أولئك الأقوام رسلي فكيف كان أخذي بالعذاب و ما أهون أمر قريش. و الالتفات في الآية إلى التكلم لاستعظام الجرم و تهويل المؤاخذة. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنىَ وَ فُرَادىَ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضمينا، و قوله: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} أي تنهضوا لأجل الله و لوجهه الكريم، و قوله‌{مَثْنىَ وَ فُرَادىَ} أي اثنين اثنين و واحدا واحدا كناية عن التفرق و تجنب التجمع و الغوغاء فإن الغوغاء لا شعور لها و لا فكر و كثيرا ما تميت الحق و تحيي الباطل. 

  • و قوله: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} استئناف {إِنَّمَا} نافية و يشهد بذلك قوله بعد: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} و يمكن أن يكون {إِنَّمَا} استفهامية أو موصولة و {مِنْ جِنَّةٍ} بيانا له. 

  • و المراد بصاحبكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه و الوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته الممتدة لهم أربعين سنة من حين ولادته إلى حين بعثته ليتذكروا أنهم لم يعهدوا منه اختلالا في فكر أو خفة في رأي أو أي شي‌ء يوهم أن به جنونا. 

  • و المعنى: قل لهم: إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا و تنتصبوا لوجه الله متفرقين حتى يصفو فكركم و يستقيم رأيكم اثنين اثنين و واحدا واحدا و تتفكروا في أمري فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي و صدق و أمانة ليس في من جنة. ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في يوم القيامة فأنا ناصح لكم غير خائن. 

  • قوله تعالى{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} إلخ، كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة فإنه إذا وهبهم كما سألهم من أجر فليس له عليهم أجر مسئول 

تفسير الميزان ج۱٦

389
  • و لازمه أن لا يسألهم و هذا تطييب لنفوسهم أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه. 

  • ثم تمم القول بقوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية فدفعه بأن لعملي أجرا لكنه على الله لا عليكم و هو يشهد عملي و هو على كل شي‌ء شهيد. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ} القذف‌ الرمي، و قوله: {عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ} خبر بعد خبر أو خبر لمبتدء محذوف و هو الضمير الراجع إليه تعالى. 

  • و مقتضى سياق الآيات السابقة أن المراد بالحق المقذوف القرآن النازل إليه بالوحي من عنده تعالى الذي هو قول فصل يحق الحق و يبطل الباطل فهو الحق المقذوف إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) من عند علام الغيوب فيدمغ الباطل و يزهقه، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}: الأنبياء: ١٨ و قال: {قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}: إسراء: ٨١. 

  • قوله تعالى{قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ} المراد بمجي‌ء الحق على ما تهدي إليه الآية السابقة نزول القرآن المبطل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة لكل باطل من أصله. 

  • و قوله: {وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ} أي ما يظهر أمرا ابتدائيا جديدا بعد مجي‌ء الحق و ما يعيد أمرا كان قد أظهره من قبل إظهارا ثانيا بنحو الإعادة فهو كناية عن بطلان الباطل و سقوطه عن الأثر من أصله بالحق الذي هو القرآن. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلىَ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} بيان لأثر الحق الذي هو الوحي فإنه عرفه حقا مطلقا فالحق إذا كان حقا من كل جهة لم يخطئ في إصابة الواقع في جهة من الجهات و إلا كان باطلا من تلك الجهة فالوحي يهدي و لا يخطئ البتة. 

  • و لذا قال تأكيدا لما تقدم: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ} و فرض مني ضلال {فَإِنَّمَا أَضِلُّ} مستقرا ذلك الضلال {عَلىَ نَفْسِي} فإن للإنسان من نفسه أن يضل {وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فوحيه حق لا يحتمل ضلالا و لا يؤثر إلا الهدى. 

تفسير الميزان ج۱٦

390
  • و قد علل الكلام بقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} للدلالة على أنه يسمع الدعوة و لا يحجبه عنها حاجب البعد و قد مهد له قبلا وصفه تعالى في قذف الحق بأنه علام الغيوب فلا يغيب عنه أمر يخل بأمره و يمنع نفوذ مشيته هداية الناس بالوحي قال تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضىَ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عَدَداً}: الجن: ٢٨. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ تَرىَ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} ظاهر السياق السابق و يشعر به قوله الآتي: {وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} أن الآيات الأربع وصف حال مشركي قريش و من يلحق بهم حال الموت. 

  • فقوله: {وَ لَوْ تَرىَ إِذْ فَزِعُوا} أي حين فزع هؤلاء المشركون عند الموت {فَلاَ فَوْتَ} أي لا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو أي حائل آخر. 

  • و قوله: {وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} كناية عن عدم فصل بينهم و بين من يأخذهم و قد عبر بقوله: {أُخِذُوا} مبنيا للمفعول ليستند الأخذ إليه سبحانه، و قد وصف نفسه بأنه قريب، و كشف عن معنى قربه بقوله: {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ}: الواقعة: ٨٥ و أزيد منه في قوله: {مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ}: ق: ١٦ و أزيد منه في قوله: {أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ}: الأنفال: ٢٤ فبين أنه أقرب إلى الإنسان من نفسه و هذا الموقف هو المرصاد الذي ذكره في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}: الفجر: ١٤ فكيف يتصور فوت الإنسان منه و هو أقرب إليه من نفسه؟ أو من ملائكته المكرمين الذين يأخذون الأمر منه تعالى من غير حاجب يحجبهم عنه أو واسط يتوسط بينه و بينهم. 

  • فقوله: {وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} نوع تمثيل لقربه تعالى من الإنسان بحسب ما نتصوره من معنى القرب لاحتباسنا في سجن الزمان و المكان و أنسنا بالأمور المادية و إلا فالأمر أعظم من ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} التناوش‌ التناول و ضمير {بِهِ} للقرآن على ما يعطيه السياق. 

  • و المراد بكونهم في مكان بعيد أنهم في عالم الآخرة و هي دار تعين الجزاء و هي 

تفسير الميزان ج۱٦

391
  • أبعد ما يكون من عالم الدنيا التي هي دار العمل و موطن الاكتساب بالاختيار و قد تبدل الغيب شهادة لهم و الشهادة غيبا كما تشير إليه الآية التالية. 

  • قوله تعالى{وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} حال من الضمير في {وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ} و المراد بقوله: {وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} رميهم عالم الآخرة و هم في الدنيا بالظنون مع عدم علمهم به و كونه غائبا عن حواسهم إذ كانوا يقولون: لا بعث و لا جنة و لا نار، و قيل: المراد به رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالسحر و الكذب و الافتراء و الشعر. 

  • و العناية في إطلاق المكان البعيد على الدنيا بالنسبة إلى الآخرة نظيره إطلاقه على الآخرة بالنسبة إلى الدنيا و قد تقدمت الإشارة إليه. 

  • و معنى الآيتين: و قال المشركون حينما أخذوا آمنا بالحق الذي هو القرآن و أنى لهم تناول الإيمان به إيمانا يفيد النجاة من مكان بعيد و هو الآخرة و الحال أنهم كفروا به من قبل في الدنيا و هم ينفون أمور الآخرة بالظنون و الأوهام من مكان بعيد و هو الدنيا. 

  • قوله تعالى: {وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} ظاهر السياق أن المراد بما يشتهون اللذائذ المادية الدنيوية التي يحال بينهم و بينها بالموت، و المراد بأشياعهم من قبل أشباههم من الأمم الماضية أو موافقوهم في المذهب، و قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} تعليل لقوله: {كَمَا فُعِلَ} إلخ. 

  • و المعنى: و وقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين و بين ما يشتهون من ملاذ الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الأمم الدارجة من قبلهم إنهم كانوا في شك مريب من الحق أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب. 

  • و اعلم أن ما قدمناه من الكلام في هذه الآيات الأربع مبني على ما يعطيه ظاهر السياق و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآيات ناظرة إلى خسف جيش السفياني بالبيداء و هو من علائم ظهور المهدي (عليه السلام) المتصلة به فعلى تقدير نزول الآيات في ذلك يكون ما قدمناه من المعنى من باب جري الآيات فيه. 

تفسير الميزان ج۱٦

392
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ} قال: يسرون الندامة في النار إذا رأوا ولي الله فقيل: يا بن رسول الله و ما يغنيهم أسرارهم الندامة و هم في العذاب؟ قال: يكرهون شماتة الأعداء. 

  • أقول: و رواه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و فيه: و ذكر رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) الأغنياء و وقع فيهم فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اسكت فإن الغني إذا كان وصولا لرحمه بارا بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لأن الله يقول: {وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفىَ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}.

  • و في أمالي الشيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يقول فيه: حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز و جل: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} و قال: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}

  • و في الكافي بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من صدق بالخلف جاد بالعطية.

  • و فيه بإسناده عن سماعة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة.

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة، ثم قال: اقرءوا مواضع الخلف فإني سمعت الله يقول: {وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} إذا لم ينفقوا كيف يخلف؟

  • و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سأل قومه أن يودوا أقاربه و لا يؤذوهم. و أما قوله: {فَهُوَ لَكُمْ} يقول: ثوابه لكم. 

تفسير الميزان ج۱٦

393
  • و في الدر المنثور في قوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا} (الآية): أخرج الحاكم و صححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق و عامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء و يقتل الصبيان فيجمع لهم قيس فيقتلها حتى لا يمنع ذنب تلعة و يخرج رجل من أهل بيتي فيبلغ السفياني فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم إلا المخبر منهم

  • أقول: و الرواية مستفيضة من طرق أهل السنة مختصرة أو مفصلة و قد رووها من طرق مختلفة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و أبي هريرة و جد عمرو بن شعيب و أم سلمة و صفية و عائشة و حفصة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نفيرة امرأة القعقاع عن سعيد بن جبير موقوفا. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى‌ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ}: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله لكأني أنظر إلى القائم (عليه السلام) و قد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم يقول: يا أيها الناس من يحاجني في الله. فأنا أولى بالله أيها الناس من يحاجني بآدم فأنا أولى بآدم. أيها الناس من يحاجني في نوح فأنا أولى بنوح. أيها الناس من يحاجني بإبراهيم فأنا أولى بإبراهيم. أيها الناس من يحاجني بموسى فأنا أولى بموسى. أيها الناس من يحاجني بعيسى فأنا أولى بعيسى. أيها الناس من يحاجني بمحمد فأنا أولى بمحمد. أيها الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى بكتاب الله . 

  • ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين و ينشد الله حقه. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): هو و الله المضطر في كتاب الله في قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ}

  • فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاثمائة و الثلاثة عشر فمن كان ابتلي بالمسير وافى و من لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه و هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هم المفقودون عن فرشهم و ذلك قول الله: {فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً} قال: الخيرات الولاية، و قال في موضع آخر: {وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلى‌ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} 

تفسير الميزان ج۱٦

394
  • و هم أصحاب القائم (عليه السلام) يجتمعون و الله إليه في ساعة واحدة. 

  • فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني فيأمر الله عز و جل الأرض فيأخذ بأقدامهم و هو قوله عز و جل: {وَ لَوْ تَرىَ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ} يعني بالقائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}{وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} يعني أن لا يعذبوا {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} يعني من كان قبلهم من المكذبين هلكوا {مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}

  • تم و الحمد لله . 

تفسير الميزان ج۱٦

395
  • بعض المواضیع المبحوث عنها فی هذا الجزء