المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء السادس عشر
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
تمتاز هذه الطبعة عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل
واضافات و تغییرات هامة من قبل المؤلف
ملاحظة: تم تطبيق الصفحات مع طبعة الأعلمي الثالثة المطبوعة في سنة ۱٩۷٣ م
(٢٨) (سورة القصص مكية، و هي ثمان و ثمانون آية) (٨٨)
[سورة القصص (٢٨): الآیات ١ الی ١٤]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ طسم ١ تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ٢ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٣ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ٤ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ ٥ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ٦ وَ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٧ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ٨ وَ قَالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩ وَ أَصْبَحَ
فُؤَادُ أُمِّ مُوسى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١١ وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ اَلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ١٢ فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ١٣ وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٤}
(بيان)
غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدة و عسرة و فتنة بأن الله سيمن عليهم و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين و يمكن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى و فرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم فرباه في حجر عدو، حتى إذا استوى و بلغ أشده نجاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم رسولا منه بسلطان مبين حتى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين.
و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعد لهم بالملك و العزة و السلطان و وعد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) برده إلى معاد.
و انتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى
و الجواب عنه، و تعللهم عن الإيمان بقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثل بقصة قارون و خسفه.
و السورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده.
قوله تعالى: {طسم تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ} تقدم الكلام فيه في نظائره.
قوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسىَ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {مِنْ} للتبعيض و {بِالْحَقِّ} متعلق بقوله: {نَتْلُوا} أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهو من عندنا و بوحي منا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلقا بنبإ أي حال كون النبإ الذي نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه.
و قوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} اللام فيه للتعليل و هو متعلق بقوله: {نَتْلُوا} أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.
و محصل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحق لأجل أن يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك و هم طائفة أذلاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذي آمنوا به و برسوله و تحملوا كل أذى في سبيله هو الله الذي أنشأ موسى (عليه السلام) لإحياء الحق و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره.
أنشأه و الجو ذلك الجو المظلم الذي لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجى به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما.
فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم و يرمز له و لهم بقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل بأولئك و يمن على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.
قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} إلخ، العلو في الأرض كناية عن التجبر و الاستكبار، و الشيع جمع شيعة و هي
الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق و كل فرقة شيعة و سموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا. انتهى. و كان المراد بجعل أهل الأرض و كأنهم أهل مصر و اللام للعهد فرقا إلقاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهن.
و محصل المعنى: أن فرعون علا في الأرض و تفوق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعا و فرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شيء و بذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته و الامتناع من نفوذ إرادته.
و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوب (عليه السلام) و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف (عليه السلام) أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتى بلغوا الألوف.
و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسى (عليه السلام) يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء و يزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم.
و السبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الأرض فإن الخلقة العامة التي أوجدت الإنسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانية ثم جهز الكل بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الأرضية و لكل ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون.
هذا هو الإصلاح الذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الذي يسوق الإنسانية إلى البيد و الهلاك.
و في الآية تصوير الظرف الذي ولد فيه موسى (عليه السلام) و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه.
قوله تعالى: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ} إلى قوله {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} الأصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب الثقل و منه تسمية ما يوزن به منا، و المنة النعمة الثقيلة و من عليه منا أي أثقله بالنعمة. قال: و يقال
ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا} أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} و هو مستقبح إلا عند كفران النعمة. انتهى ملخصا.
و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكانا يملكونه و يستقرون فيه و عن الخليل أن المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام أجري مجرى فعال. فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى.
و قوله: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} إلخ الأنسب أن يكون حالا من {طَائِفَةً} و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ} و الأول أظهر، و {نُرِيدُ} على أي حال لحكاية الحال الماضية.
و قوله: {وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} عطف تفسير على قوله: {نَمُنَّ} و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة.
و المعنى: أن الظرف كان ظرف علو فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافا يبيدهم و يفنيهم و الحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلا ما أراد غيرهم أن يبوئهم فيه و يقرهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنتهم كما قالوا في موسى و أخيه لما أرسلا إليهم: {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلىَ} طه: ٦٣.
و الآية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهية تعلقت بأن تنجيهم منهم و تحول ثقل النعمة من آل فرعون
الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلاء المستضعفين و تبدل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقب لحكمه.
قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ} إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفي و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا}: الزلزال: ٥ و قوله: {وَ أَوْحىَ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ}: النحل: ٦٨ و قوله في أم موسى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ} (الآية) أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله: {إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلىَ أَوْلِيَائِهِمْ}: الأنعام: ١٢١، و الإلقاء الطرح، و اليم البحر و النهر الكبير.
و قوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ} في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت أم موسى به و الحال هذه الحال من الشدة و الحدة و وضعته و أوحينا إليها إلخ.
و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لأم موسى لما وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه أن يطلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إياك إنا رادوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولا إلى آل فرعون و بني إسرائيل.
فقوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} تعليل للنهي في قوله: {وَ لاَ تَحْزَنِي} كما يشهد به أيضا قوله بعد: {فَرَدَدْنَاهُ إِلىَ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ} و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أن الخوف إنما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعي الوقوف.
قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} الالتقاط أصابه الشيء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللام في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً} للعاقبة على ما قيل و الحزن بفتحتين و الحزن بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم.
و الخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأ كعلم يعلم علما كما أن المخطئ اسم فاعل من أخطأ يخطئ إخطاء، و الفرق بين الخاطئ و المخطئ على ما ذكره الراغب أن الخاطئ يطلق على من أراد فعلا لا يحسنه ففعله قال تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً}، و قال: {وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، و المخطئ يستعمل فيمن أراد فعلا يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى: {وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً}: النساء: ٩٢ و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخصا.
فقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجم الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربوه في حجورهم و كان هو الذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم.
و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليم و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوا و سبب حزن إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدون في تربيته.
و بذلك يظهر أن تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربي عدوهم على أيديهم ليس بسديد.
قوله تعالى: {وَ قَالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاءوا إليه بموسى و هو طفل ملتقط من اليم تخاطب فرعون بقوله: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ} أي هو قرة عين لنا {لاَ تَقْتُلُوهُ} و إنما خاطب بالجمع لأن شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور.
و إنما قالت ما قالت لأن الله سبحانه ألقى محبة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمه إليها، قال تعالى فيما يمن به على موسى (عليه السلام): {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلىَ عَيْنِي}: طه: ٣٩.
و قوله: {عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} قالته لما رأت في وجهه من آثار الجلال و سيماء الجذبة الإلهية، و في قولها: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} دلالة على أنهما كانا فاقدين للابن.
و قوله: {وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟
قوله تعالى: {وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسىَ فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلىَ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} الإبداء بالشيء إظهاره، و الربط على الشيء شدة و هو كناية عن التثبيت.
و المراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه و خلوة من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.
و ذلك أن ظاهر السياق أن سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: {لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} إلخ.
و قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ} إلخ {إِنْ} مخففة من الثقيلة أي إنها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السر لو لا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، و قوله: {لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره.
و المجموع أعني قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله: {وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسىَ فَارِغاً} و محصل معنى الآية و صار قلب أم موسى بسبب وحينا خاليا من الخوف و الحزن المؤديين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.
و بما تقدم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في {وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسىَ فَارِغاً} أي صفرا من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغا من الوحي الذي أوحي إليها
بالنسيان، و ما قيل: أي فارغا من كل شيء إلا ذكر موسى أي صار فارغا له. فإنها جميعا وجوه لا يحتمل شيئا منها السياق.
و نظير ذلك في الضعف قولهم: إن جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إن لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدم جوابها عليها. و قد تقدمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأىَ بُرْهَانَ رَبِّهِ}: يوسف: ٢٤.
قوله تعالى: {وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قال في المجمع: القص اتباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنه يتبع فيه الثاني الأول. و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى.
و المعنى: و قالت أم موسى لأخته اتبعي أثر موسى حتى ترين إلام يئول أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنها تقصه و تراقبه.
قوله تعالى: {وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ اَلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} التحريم في الآية تكويني لا تشريعي و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها.
و قوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل.
و قوله: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} تفريع على ما تقدمه غير أن السياق يدل على أن هناك حذفا كأنه قيل: و حرمنا عليه المراضع غير أمه من قبل أن تجيء أخته فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلما جاءت أخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون؟
قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلىَ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} تفريع على ما تقدمه مع تقدير ما يدل عليه السياق، و المحصل أنها قالت: هل أدلكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلتهم على أمه فسلموه إليها فرددناه إلى أمه بنظم هذه الأسباب.
و قوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ} إلخ، تعليل للرد و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنها كانت تعلم من قبل أن وعد الله حق و كانت مؤمنة و إنما أريد بالرد أن توقن بالمشاهدة أن وعد الله حق.
و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهي بدليل قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئن إليها نفوسهم، و محصله أن توقع بمشاهدة حقية هذا الذي وعدها الله به أن مطلق وعده تعالى حق.
و ربما يقال: إن المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} و لا يلائمه قوله بعد: {وَ لَكِنَّ} إلخ على ما تقدم.
قوله تعالى: {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشد، و قد تقدم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب.
بحث روائي
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رض في قوله تعالى: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ} قال: يوسف و ولده.
أقول: لعل المراد بنو إسرائيل، و إلا فظهور الآية في خلافه غير خفي.
و في معاني الأخبار بإسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نظر إلى علي و الحسن و الحسين (عليه السلام) فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال: معناه أنكم الأئمة بعدي إن الله عز و جل يقول: {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ} فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.
أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمة أهل البيت (عليه السلام) كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنها جميعا من قبيل الجري و الانطباق.
و في نهج البلاغة: لتعطفن الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك {وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ}.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ} إلى آخر الآية: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنه لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.
فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت: يذبح الساعة فعطف الله عز و جل قلب الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}.
فأحبته القبطية الموكلة بها و أنزل الله على أم موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليم و هو البحر {وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل.
و كان لفرعون قصر على شط النيل متنزه فنظر من قصره و معه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون - فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت و رفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال: هذا إسرائيلي فألقى الله في قلب فرعون محبة شديدة و كذلك في قلب آسية.
و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه موسى.
و في المجمع في قوله تعالى: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} إلخ عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): و الذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه.
و في المعاني بإسناده عن محمد بن نعمان الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى} قال: أشده ثمان عشرة سنة {وَ اِسْتَوىَ} التحى.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ١٥ الی ٢١]
{وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىَ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ١٥ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ١٦ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ١٧ فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ١٨ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ ١٩ وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ ٢٠
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢١}
(بيان)
فصل ثان من قصة موسى (عليه السلام) فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فأدى إلى خروجه من مصر و قصده مدين.
قوله تعالى: {وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىَ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} إلخ، لا ريب أن المدينة التي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنه كان يعيش عند فرعون، و يستفاد من ذلك أن القصر الملكي الذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله: {وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىَ} على ما سيجيء من الاستظهار.
و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقة من المارة كالظهيرة و أواسط الليل.
و قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} حكاية حال تمثل به الواقعة، و معناه: أن أحدهما كان إسرائيليا من متبعيه في دينه فإن بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام) في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون و الآخر قبطيا عدوا له لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب ربه: {وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: الشعراء: ١٤.
و قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطي.
و قوله: {فَوَكَزَهُ مُوسىَ فَقَضىَ عَلَيْهِ} ضميرا {فَوَكَزَهُ} و {عَلَيْهِ} للذي من عدوه و الوكز على ما ذكره الراغب و غيره الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكف،
و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يعبر بالقتل.
و قوله: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} و {مِنْ} ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية، و المعنى: هذا الذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنه هو الذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة و أن القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام.
فعند ذلك تنبه (عليه السلام) أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدي إلا إلى الحق و الصواب فقضي أن ذلك منسوب إلى الشيطان.
و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعا لكافر ظالم، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة.
فقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدي إلى قتل القبطي و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} إشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية التي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذي هو عدو مضل مبين، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لما اعترض عليه فرعون بقوله: {وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ
مِنَ اَلْكَافِرِينَ} أجابه بقوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ}: الشعراء: ٢٠.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ} اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في قوله: {فَاغْفِرْ لِي} هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغم و تخليصه من شر فرعون و ملئه، كما يظهر من قوله تعالى: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ}: طه: ٤٠.
و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكي في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} الأعراف: ٢٣.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} قيل: الباء في قوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ} للسببية و المعنى رب بسبب ما أنعمت علي، لك علي أن لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: أقسم بما أنعمت علي لأتوبن أو لأمتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، و قيل: القسم استعطافي و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى أقسمك أن تعطف علي و تعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين.
و الوجه الأول هو الأوجه لأن المراد بقوله: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} على ما ذكروه أما إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلصه من قتل فرعون و رده إلى أمه، و أما إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطي و غفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى أقسم بحفظك إياي أو أقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.
و قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدت إعانته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرما.
و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: أقسم بإنعامك علي لأتوبن فلن
أكون معينا لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم.
و رد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام.
و الحق أن قوله: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} عهد من موسى (عليه السلام) أن لا يعين مجرما على إجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد أطلقت إطلاقا الولاية الإلهية على ما يشهد به قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ}: النساء: ٦٩.
و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ} الفاتحة: ٧ و ترتب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.
و من هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطي جرما حتى يتوب (عليه السلام) منه كيف؟ و هو (عليه السلام) من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته، و قد نص تعالى على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}: مريم: ٥١.
و قد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما و علما و أنه من المحسنين و من المتقين من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه.
و قد كرر {قَالَ} ثلاثا حيث قيل: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الأولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام.
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسىَ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} تقييد {فَأَصْبَحَ} بقوله: {فِي اَلْمَدِينَةِ} دليل على أنه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد.
و المعنى: فأصبح موسى في المدينة و لم يرجع إلى بلاط فرعون و الحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا و تأنيبا: إنك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنه كان يخاصم و يقتتل قوما ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلا الشر كل الشر.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} إلى آخر الآية، ذكر جل المفسرين أن ضمير {قَالَ} للإسرائيلي الذي كان يستصرخه و ذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال: {يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ} إلخ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى و عزموا على قتله.
و ما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل: إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي، هذا و معنى باقي الآية ظاهر. و في قوله: {أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين، و فيه أيضا تأييد أن القائل: {يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ} إلخ، الإسرائيلي دون القبطي لأن سياقه سياق اللوم و الشكوى.
قوله تعالى: {وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىَ قَالَ يَا مُوسىَ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة.
و الظاهر كون قوله: {مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ} قيدا لقوله: {جَاءَ} فسياق القصة يعطي أن الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أن هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة.
و هذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصر فرعون الذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلم به موسى (عليه السلام) من التوحيد حتى هم به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة.
فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له. {أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ}؟ فخلى عن صاحبه و هرب.
و في العيون بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله: {فَوَكَزَهُ مُوسىَ فَقَضىَ عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} قال الرضا (عليه السلام): إن موسى (عليه السلام) دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله {إِنَّهُ} يعني الشيطان {عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}.
قال المأمون: فما معنى قول موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال موسى: رب بما أنعمت علي من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى.
فأصبح موسى (عليه السلام) في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قاتلت رجلا بالأمس و تقاتل هذا اليوم لأؤدبنك و أراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما و هو من شيعته {قَالَ: يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ}. قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ٢٢ الی ٢٨]
{وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ ٢٢ وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلرِّعَاءُ وَ أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ٢٣ فَسَقى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ٢٤ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢٥ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ ٢٦ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٢٧
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اَللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ٢٨}
(بيان)
فصل ثالث من قصته (عليه السلام) يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفا من فرعون و تزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و بعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين.
قوله تعالى: {وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ} قال في المجمع: تلقاء الشيء حذاؤه، و يقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه. و قال: سواء السبيل وسط الطريق انتهى.
و مدين على ما في مراصد الاطلاع، مدينة قوم شعيب و هي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل و هي أكبر من تبوك و بها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (عليه السلام) انتهى، و يقال: إنه كان بينهما و بين مصر مسيرة ثمان و كانت خارجة من سلطان فرعون و لذا توجه إليها.
و المعنى: و لما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه و الخروج منه إلى غيره.
و السياق - كما ترى - يعطي أنه (عليه السلام) كان قاصدا لمدين و هو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.
قوله تعالى: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ} إلخ الذود الحبس و المنع، و المراد بقوله: {تَذُودَانِ} أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: {يَسْقُونَ} سقيهم أغنامهم و مواشيهم، و الرعاء جمع الراعي و هو الذي يرعى الغنم.
و المعنى: و لما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم و وجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما و تمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما حيث وجدهما تذودان الغنم و ليس على غنمهما رجل: ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون و يخرجوا أغنامهم و أبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي و لذا تصدينا الأمر.
قوله تعالى: {فَسَقىَ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فهم» (عليه السلام) من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف و تحجب منهما و تعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك و سقى لهما.
و قوله: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه و الحر شديد و قال ما قال، و قد حمل الأكثرون قوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ} إلخ على سؤال طعام يسد به الجوع، و عليه فالأولى أن يكون المراد بقوله {لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ} القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي و الهرب من فرعون بقصد مدين و سقي غنم شعيب و اللام في {لِمَا أَنْزَلْتَ} بمعنى إلى و إظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شيء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة.
و يظهر منه أنه (عليه السلام) كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل و لا يريده و إن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه و جهادا فيه و هذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} ثم القائل لما أخذ في السلوك: {عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ} ثم القائل لما سقى و تولى إلى الظل: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا و عقد على بنته: {وَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.
و ما نقل عن بعضهم أن اللام في {لِمَا أَنْزَلْتَ} للتعليل و كذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين و هو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.
قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيَاءٍ} إلى آخر الآية. ضمير إحداهما للمرأتين، و تنكير الاستحياء للتفخيم و المراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، و قوله: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، و قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ} إلخ يلوح إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجا منهم إذ لا سلطان لهم على مدين.
و عند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى (عليه السلام) أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب (عليه السلام) بالنجاة و ترجى أن يهديه سواء السبيل و هو في معنى الدعاء فورد مدين، و سأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى و زاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين و وهب له زوجا يسكن إليها.
قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه و إن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم.
و قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ} إلخ، في مقام التعليل لقوله: {اِسْتَأْجِرْهُ} و هو من وضع السبب موضع المسبب و التقدير استأجره لأنه قوي أمين و خير من استأجرت هو القوي الأمين.
و في حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته و كذا من ظهور عفته في تكليمهما و سقي أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.
و من هنا يظهر أن هذه القائلة: {يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ} إلخ، هي التي جاءته و أخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و ذهب إليه جمع من المفسرين.
قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} إلخ، عرض من شعيب لموسى (عليه السلام) أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا
قبال تزويجه إحدى ابنتيه و ليس بعقد قاطع و من الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه (عليه السلام).
فقوله: {إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} دليل على حضورهما إذ ذاك، و قوله: {عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج، و الحجج جمع حجة و المراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، و به يظهر أن حج البيت و هو من شريعة إبراهيم (عليه السلام) - كان معمولا به عندهم.
و قوله: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك و باختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي.
و قوله: {وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة و أنه عمل غير موصوف بالمشقة و أنه مخدوم صالح.
و قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ} أي إني من الصالحين و ستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.
قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} الضمير لموسى (عليه السلام).
و قوله: {ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ} أي ذلك الذي ذكرته و قررته من المشارطة و المعاهدة و عرضته علي ثابت بيننا ليس لي و لا لك أن نخالف ما شارطناه، و قوله: {أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب (عليه السلام) و هو قوله: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو علي و تلزمني بالزيادة و إن اخترت الزيادة و خدمتك عشرا فليس لك أن تعدو علي بالمنع من الزيادة.
و قوله: {وَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان و إرجاع الحكم و القضاء بينهما إليه لو اختلفا، و لذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة و القضاء كليهما إليه تعالى، و هذا كقول يعقوب (عليه السلام) حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: يوسف: ٦٦.
(بحث روائي)
في كتاب كمال الدين بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: {وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَا مُوسى إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} من مصر بغير ظهر و لا دابة و لا خادم تخفضه أرض و ترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين.
فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر و إذا عندها أمة من الناس يسقون و إذا جاريتان ضعيفتان و إذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير و نحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس.
ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها و قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فروي أنه قال ذلك و هو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}.
فروي أن موسى (عليه السلام) قال لها: وجهني إلى الطريق و امشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه و قص عليه القصص قال: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ}.
قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} فروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء (عليه السلام) لا تأخذ إلا بالفضل و التمام.
أقول: و روى ما في معناه القمي في تفسيره.
و في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل حكاية عن موسى (عليه السلام): {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال: سأل الطعام.
أقول: و روى العياشي عن حفص عنه (عليه السلام): مثله، و لفظه إنما عنى الطعام:
و أيضا عن ليث عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله، و في نهج البلاغة: مثله و لفظه و الله ما سأله إلا خبزا يأكله.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال: إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر.
و في تفسير القمي قال: قالت إحدى بنات شعيب: {يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ}، فقال لها شعيب (عليه السلام): أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه لما قال لي: تأخري عني و دليني على الطريق فإنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته.
أقول: و روي مثله في المجمع عن علي (عليه السلام).
و في المجمع و روى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رسائل أيتهما التي قالت: إن أبي يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.
أقول: و روى قضاء عشر سنين في الدر المنثور عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعدة طرق.
و في تفسير العياشي و قال الحلبي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن البيت أ كان يحج قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ قال: نعم و تصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى (عليه السلام) حيث تزوج: {عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} و لم يقل ثماني سنين.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ٢٩ الی ٤٢]
{فَلَمَّا قَضىَ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ
نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٢٩ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٣٠وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ ٣١ اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ٣٢ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ٣٣ وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ٣٤ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ ٣٥ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ ٣٦ وَ قَالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ ٣٧ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلَهِ مُوسى وَ إِنِّي
لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٣٨ وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ٣٩ فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلظَّالِمِينَ ٤٠وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ ٤١ وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ ٤٢}
(بيان)
فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) و قد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر و بعثته بالرسالة إلى فرعون و ملئه لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم و تنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب و كأنه هو العمدة في سرد القصة.
قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضىَ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ نَاراً} إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) و المروي أنه قضى أطول الأجلين، و الإيناس الإبصار و الرؤية، و الجذوة من النار القطعة منها، و الاصطلاء الاستدفاء.
و السياق يشهد أن الأمر كان بالليل و كانت ليلة شديدة البرد و قد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور و قد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، و قد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} إلخ قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً} طه: ١٠، و هو أدل على كونهم ضلوا الطريق.
و كذا في قوله خطابا لأهله: {اُمْكُثُوا} إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح
معه خطاب۱ الجمع.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ} إلخ قال في المفردات: شاطئ الوادي جانبه، و قال: أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء و منه سمي المنفرج بين الجبلين واديا و جمعه أودية انتهى و البقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.
و المراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر و هو صفة الشاطئ و لا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.
و البقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً}: طه: ١٢.
و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شيء محيط، قال تعالى: {وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}: الشورى: ٥١.
و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.
و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليه السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ. و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.
و قوله: {أَنْ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} أن فيه تفسيرية، و فيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا و الرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره و إله معبود سواه.
ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد و النبوة و المعاد إذ قال: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ} الآيات: طه: ١٤-١٦.
قوله تعالى: {وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ} تقدم تفسيره في سورة النمل.
قوله تعالى: {يَا مُوسىَ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ} بتقدير القول أي قيل له: أقبل و لا تخف إنك من الآمنين، و في هذا الخطاب تأمين له، و به يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: {يَا مُوسىَ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ}: النمل: ١٠و أنه تأمين معناه أنك مرسل و المرسلون آمنون لدي و ليس من العتاب و التوبيخ في شيء.
قوله تعالى: {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه و المراد بالسوء على ما قيل البرص.
و الظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا۱ الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها و إذا يده برصاء مثل الثلج.
قوله تعالى: {وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ} إلى آخر الآية، الرهب بالفتح فالسكون و بفتحتين و بالضم فالسكون الخوف، و الجناح قيل: المراد به اليد و قيل: العضد.
قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.
و قيل: إنه لما ألقى العصا و صارت حية بسط يديه كالمتقي و هما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.
و الوجهان كما ترى مبنيان على كون الجملة أعني قوله: {وَ اُضْمُمْ} إلخ، من تتمة قوله: {أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ} و هذا لا يلائم تخلل قوله: {اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.
و قيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه و الحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.
و لا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه و جنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: {وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}: الحجر: ٨٨ على بعض المعاني.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} إشارة إلى قتله القبطي بالوكز و كان يخاف أن يقتلوه قصاصا.
قوله تعالى: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} قال في المجمع: يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره و يشد ظهره. انتهى.
و قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، و السياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب و لا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه و من الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلىَ هَارُونَ}: الشعراء: ١٣.
فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين
صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.
قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ} شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، و عدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل و نحوه كأن الطائفتين يتسابقان و إحداهما متقدمة دائما و الأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.
و المعنى: قال سنقويك و نعينك بأخيك هارون و نجعل لكما سلطة و غلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها. ثم قال: {أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ} و هو بيان لقوله: {وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما و من اتبعهما من الناس.
و قد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر و الغلبة و قيل: هو بمعنى الحجة و الأولى حينئذ أن يكون قوله: {بِآيَاتِنَا} متعلقا بقوله: {اَلْغَالِبُونَ} لا بقوله: {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} و قد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسىَ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى و المفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.
و الإشارة في قوله: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.
و الإشارة في قوله: {وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ} إلى ما جاء به من الدعوة و أقام عليها حجة الآيات، و أما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ}: طه: ٥٨ على أن عدم معهودية السحر و عدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.
فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، و يناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ} إلخ.
قوله تعالى: {وَ قَالَ مُوسىَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: {وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ} في رد دعوى موسى، و هو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي و هو رب العالمين له الخلق و الأمر هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى و من تكون له عاقبة الدار و هو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى و هو دين التوحيد و وعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، و الحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.
فقوله: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ} يريد به نفسه و المراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.
و قوله: {وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: {وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}: الزمر: ٧٤ و إما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: {قَالَ مُوسىَ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: الأعراف: ١٢٨ و إما الأعم الشامل للدنيا و الآخرة، و الثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ}.
و في قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} تعريض لفرعون و قومه و فيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم و فيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.
قال بعض المفسرين: و الوجه في عطف قوله: {وَ قَالَ مُوسىَ رَبِّي أَعْلَمُ} إلخ، على قولهم: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد. انتهى. و ما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.
قوله تعالى: {وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى و لا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من
عند الله و أنه ما علم لهم من إله غيره.
فقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرىَ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ}: المؤمن: ٢٩.
فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى و آياته أن هناك إلها هو رب العالمين و لا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.
و بذلك يظهر أن قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه و ينفيها عن غيره و هو ينفيها عنه تعالى و يثبتها لنفسه، و أما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو و قومه فلا تعرض لها.
و قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً} المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، و الصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشيء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر و بناء قصر عال منه.
و قوله: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلىَ إِلَهِ مُوسىَ} نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، و الكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة و التقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس و إضلالهم.
و يمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، و يؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: {يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلىَ إِلَهِ مُوسىَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً}: المؤمن: ٣٧.
و قوله: {وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إلى الظن بعدم الوجود و قد كان كاذبا في قوله هذا و لا يقوله إلا تمويها و تعمية على الناس و قد خاطبه موسى بقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ
هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}: إسراء: ١٠٢.
و ذكر بعضهم أن قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: {قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ}: يونس: ١٨ و أنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.
قوله تعالى: {وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع و ذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا}.
قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ} إلخ النبذ الطرح، و اليم البحر و الباقي ظاهر.
و في الآية من الاستهانة بأمرهم و تهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.
قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر و المعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب و إرادة سببه.
و معنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود و ليس من الإضلال الابتدائي في شيء.
و قيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: {وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً}: الزخرف: ١٩.
و فيه أن الآية التالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه. على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.
و قوله: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.
قوله تعالى: {وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ} بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر و المعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر و المعاصي من مقتديهم و متبعيهم و عليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر و المعاصي بعدهم.
فالآية في معنى قوله: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}: العنكبوت: ١٣ و قوله: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ}: يس: ١٢ و تنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها و استمرارها.
و كذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر و يشمئز عنهم النفوس و يفر منهم الناس و لا يدنو منهم أحد و هو معنى القبح و قد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.
(بحث روائي)
في المجمع روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما.
أقول: و روي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.
و في المجمع روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل و سار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا {قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً}.
و عن كتاب طب الأئمة بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: و قال الله عز و جل في قصة موسى (عليه السلام): {وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} يعني من غير برص.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} قال الراوي: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فكم مكث موسى (عليه السلام) غائبا عن أمه حتى رده الله عز و جل عليها؟ قال: ثلاثة أيام.
قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى (عليه السلام) لأبيه و أمه؟ قال: نعم أ ما تسمع الله عز و جل يقول: {يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي}؟ فقلت:
فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: كان الوحي ينزل على موسى و موسى يوحيه إلى هارون .
فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي كان ذلك إليهما؟ قال: كان موسى الذي يناجي ربه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل و هارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة. قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون قبل موسى و ماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرية له.
أقول: و آخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، و في التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.
في جوامع الجامع في قوله تعالى: {وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ} قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز و جل: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.
و في الكافي بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عز و جل إمامان قال الله تبارك و تعالى: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم و حكم الله قبل حكمهم. قال: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ} يقدمون أمرهم قبل أمر الله و حكمهم قبل حكم الله و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز و جل.
(كلام حول قصص موسى و هارون (عليه السلام)) في فصول
١ - منزلة موسى عند الله و موقفه العبودي
كان (عليه السلام) أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء و لهم كتاب و شريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله: {وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}: الأحزاب: ٧، و قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسى}: الشورى: ١٣
و لقد امتن الله سبحانه عليه و على أخيه في قوله: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ}: الصافات: ١١٤ و سلم عليهما في قوله: {سَلاَمٌ عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ}: الصافات: ١٢٠.
و أثنى على موسى (عليه السلام) بأجمل الثناء في قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}: مريم: ٥٢ و قال: {وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً}: الأحزاب: ٦٩ و قال: {وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً}: النساء: ١٦٤.
و ذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية ٨٤-٨٨ فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين و أنه فضلهم على العالمين و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم. و ذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية ٥٨ منها أنهم الذين أنعم الله عليهم.
فاجتمع بذلك له (عليه السلام) معنى الإخلاص و التقريب و الوجاهة و الإحسان و الصلاح و التفضيل و الاجتباء و الهداية و الإنعام و قد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب و كذا البحث عن معنى النبوة و الرسالة و التكليم.
و ذكر الكتاب النازل عليه و هو التوراة فوصفها بأنها إمام و رحمة (سورة الأحقاف: ١٢) و بأنها فرقان و ضياء و ذكر: (الأنبياء: ٤٨) و بأن فيها هدى و نور: (المائدة: ٤٤) و قال: {وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ}: الأعراف: ١٤٥.
غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها و اختلفوا فيها. و قصة بخت نصر و فتحه فلسطين ثانيا و هدمه الهيكل و إحراقه التوراة و حشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثلاثين قبل المسيح و إذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا و كتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ و قد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح (عليه السلام).
٢ - قصص موسى (عليه السلام) في القرآن
هو (عليه السلام) أكثر الأنبياء ذكرا في
القرآن الكريم فقد ذكر اسمه على ما عدوه في مائة و ستة و ستين موضعا من كلامه تعالى، و أشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع و ثلاثين سورة من سور القرآن، و قد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، و قد ذكر في القرآن شيء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إنزال المن و السلوى، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و إحياء الموتى، و رفع الطور فوق القوم و غير ذلك.
و قد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه (عليه السلام) من دون استيفائها في كل ما دق و جل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية و الإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء و أممهم.
و هذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون و جعلت أمه إياه في تابوت و ألقته في البحر و أخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع و التربية و نشأ في بيت فرعون.
ثم بلغ أشده و قتل القبطي و هرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون و ملئه أن يقتلوه قصاصا.
ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (عليه السلام) و تزوج إحدى بنتيه.
ثم لما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا و قد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم و ذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة و كلمه و اجتباه و آتاه معجزة العصا و اليد البيضاء في تسع آيات و اختاره للرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و أمره بالذهاب إليه.
فأتى فرعون و دعاه إلى كلمة الحق و أن يرسل معه بني إسرائيل و لا يعذبهم و أراه آية العصا و اليد البيضاء فأبى و عارضة بسحر السحرة و قد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين و حيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون و أصر فرعون على جحوده و هدد السحرة و لم يؤمن.
فلم يزل موسى (عليه السلام) يدعوه و ملأه و يريهم الآية بعد الآية كالطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات و هم يصرون على استكبارهم، و كلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.
فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر و اتبعهم فرعون و جنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.
و لما أنجاهم الله من فرعون و جنوده و أخرجهم إلى البر و لا ماء فيه و لا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن و السلوى و أمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها و أكلوا منهما و ظللهم الغمام.
ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، و لما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة و أخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.
فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل و نسفه في اليم و طرد السامري و قال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس و أما القوم فأمروا أن يتوبوا و يقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم.
ثم إنهم ملوا المن و السلوى و قالوا لن نصبر على طعام واحد و سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم و ابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.
و من قصص موسى (عليه السلام) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى
مجمع البحرين للقاء العبد الصالح و صحبته حتى فارقه.
٣ - منزلة هارون (عليه السلام) عند الله و موقفه العبودي
أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام) في سورة الصافات في المن و إيتاء الكتاب و الهداية إلى الصراط المستقيم و في التسليم و أنه من المحسنين و من عباده المؤمنين (الصافات: ١١٤-١٢٢) و عده مرسلا (طه: ٤٧) و نبيا (مريم: ٥٣) و أنه ممن أنعم عليهم (مريم: ٥٨) و أشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان و الصلاح و الفضل و الاجتباء و الهداية (الإنعام: ٨٤-٨٨).
و في دعاء موسى ليلة الطور: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً}: طه: ٣٥.
و كان (عليه السلام) ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره و يعينه على جميع مقاصده.
و لم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات و قال لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا و قد عبدوا العجل ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين.
٤ - قصة موسى (عليه السلام)
في التوراة الحاضرة: قصصه (عليه السلام) موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة و هي: سفر الخروج و سفر اللاويين و سفر العدد و سفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه (عليه السلام) من حين ولادته إلى حين وفاته و ما أوحي إليه من الشرائع و الأحكام.
غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة.
و من أهمها أنها تذكر أن نداء موسى و تكليمه من الشجرة كان في أرض مدين
قبل أن يسير بأهله و ذلك حين كان يرعى غنم يثرون۱ حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية و جاء إلى جبل الله حوريب و ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله و كلمه بما كلمه و أرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.٢
و منها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى و رباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص.٣
و منها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون و عارضوا موسى في آيتي الدم و الضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى (عليه السلام) معجزة.٤
و منها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى (عليه السلام) و ذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون و قالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا (موسى) الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و أتوني بها.
فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم و أتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم و صوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أ هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.٥
و في الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه (عليه السلام) غير خفية على المتدبر فيها.
و هناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن
المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين.۱
و أيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.٢
و أيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات و نزول الصاعقة عليهم و إحياءهم بعده.
و أيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل و ألقاها كانت لوحين من حجر و هما لوحا الشهادة٣. إلى غير ذلك من الاختلافات.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ٤٣ الی ٥٦]
{وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٣ وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ ٤٤ وَ لَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ٤٥ وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٦ وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٤٧ فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ٤٨ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٩ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ٥٠وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٥١ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ٥٢ وَ إِذَا يُتْلى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ٥٣ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٥٤ وَ إِذَا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ ٥٥ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ٥٦}
(بيان)
سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) راجعوا بعض أهل الكتاب و استفتوهم في أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه و هو
مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه و الإيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة و أنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: {وَ إِذَا يُتْلىَ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
فساء المشركين ذلك و شاجروهم و أغلظوا عليهم في القول و قالوا: إن القرآن سحر و التوراة سحر مثله {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} و {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} فأعرض الكتابيون عنهم و قالوا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ}.
هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، و هو سبحانه لما ساق قصة موسى (عليه السلام) و أنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم و تستحيي نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه و رده إليهم و أظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين و أنجى شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.
عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة و به تتم الحجة و هو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى (عليه السلام) فيه بصائر للناس و هدى و رحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم.
و كذا أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القرآن و قص عليه قصص موسى (عليه السلام) و لم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه و لا حاضرا في الطور لما ناداه و كلمه، و قص عليه ما جرى بين موسى و شعيب (عليه السلام) و لم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته و لكن أنزله و قص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم و فسوقهم في معرض نزول العذاب و أصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب و لم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و كانت الحجة لهم على الله سبحانه.
فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزول القرآن قالوا: {لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسىَ مِنْ قَبْلُ} حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يعنون التوراة و القرآن، و قالوا {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}.
ثم لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)الحجة عليهم بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدىَ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق و تتم به الحجة على الناس و هم يعرفون فإن لم تكن التوراة و القرآن كتابي هدى و كافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما و ليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإعجاز و بدلالة البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى و القوم في الإعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم و هو قوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إلخ.
ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و القرآن فأظهروا لهم الإيمان و التصديق و أعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة بوحيه إليه.
و قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ} أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح و من بعدهم من الأمم الهالكة و لعل منهم قوم فرعون، و في هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين و ليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم و حلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون و يتذكر به المتذكرون.
و قوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به و كان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق و يميز بها بينه و بين الباطل، و هي حال من الكتاب و قيل: مفعول له.
و قوله: {وَ هُدىً} بمعنى الهادي أو ما يهتدى به و كذا قوله: {وَ رَحْمَةً} بمعنى ما يرحم به و هما حالان من الكتاب كبصائر، و قيل: كل منهما مفعول له.
و المعنى: و أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة من بعد ما أهلكنا
الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة و الإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة و هدى يهتدون به إليها و رحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه و أحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد و العمل.
قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلىَ مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الغربي صفة محذوفة الموصوف و المراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.
و قوله: {إِذْ قَضَيْنَا إِلىَ مُوسَى اَلْأَمْرَ} كان القضاء مضمن معنى العهد، و المراد بعهد الأمر إليه على ما قيل أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه و أما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} و قوله: {وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} تأكيد لسابقه.
و المعنى: و ما كنت حاضرا و شاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل.
قوله تعالى: {وَ لَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ} تطاول العمر تمادي الأمد و الجملة استدراك عن النفي في قوله: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ}، و المعنى: ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه و لكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته و خبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.
قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} الثاوي المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه و الضمير في {عَلَيْهِمُ} لمشركي مكة الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى (عليه السلام) في مدين زمن كونه فيه.
و قوله: {وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} استدراك من النفي في صدر الآية.
و المعنى: و ما كنت مقيما في أهل مدين و هم شعيب و قومه مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك و لكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.
قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا} إلخ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا.
و قوله: {وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} إلخ، استدراك عن النفي السابق، و الظاهر أن {رَحْمَةً} مفعول له، و الالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: {مِنْ رَبِّكَ} للدلالة على كمال عنايته تعالى به (صلى الله عليه وآله و سلم).
و قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم و من يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود و صالح و شعيب و إسماعيل (عليه السلام).
و المعنى: و ما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى و كلمناه و اخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد و لكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا} إلخ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد و العمل بدليل ذيل الآية، و المراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا و الآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر و الفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، و قد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ}: الأعراف: ٩٦ و غيره.
و قوله: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ} متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول و جواب لو لا محذوف لظهوره و التقدير: لما أرسلنا رسولا.
و محصل المعنى: أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول و أخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر و الفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا و نكون من المؤمنين.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ}
إلخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق و أنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا و الظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول و هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و المراد بقولهم: {لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ} أي لو لا أوتي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثل التوراة التي أوتيها موسى (عليه السلام)، و كأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}: الفرقان: ٣٢.
و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: {أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسىَ مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يعنون القرآن و التوراة {وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}. و الفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين و الثاني كفر بأصل النبوة و لعله الوجه لتكرار {قَالُوا} في الكلام.
قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدىَ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تفريع على كون القرآن و التوراة سحرين تظاهرا، و لا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم و يجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، و هو كذلك على ما تبين بقوله: {وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} إلخ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب و يرسل إليهم الرسول، و لذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه.
ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل الوصف لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.
و القرآن الكريم و إن كان يصرح بتسرب التحريف و الخلل في التوراة الحاضرة و ذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى (عليه السلام) و هي التي يصدقها القرآن.
على أن موضوع الكلام هما معا و القرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما.
و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إلى آخر الآية، الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه و إلى الداعي باللام، و يحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، و لا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. انتهى.
فقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} تفريع على قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدىَ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أي فإن قلت لهم كذا و كلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن و التوراة و تعين أن لا هدى أتم و أكمل من هداهما و هم مع ذلك يرمونها بالسحر و يعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق و لا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل و إنما يتبعون أهواءهم و يدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}.
و يمكن أن يكون المراد بقوله: {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و هم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء و لا يعتقدون بأصل النبوة و أن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي و عليهم أن يتبعوه و يسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، و ربما أيد هذا المعنى قوله بعد: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ} إلخ.
و قوله: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ} استفهام إنكاري و المراد به استنتاج أنهم ضالون، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق و انحراف عن صراط الرشد و ذلك ظلم و الله لا يهدي القوم الظالمين و غير المهتدي هو الضال.
و محصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و ليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، و متبع الهوى ظالم و الظالم غير مهتد و غير المهتدي ضال فهم ضالون.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} التوصيل تفعيل من
الوصل يفيد التكثير كالقطع و التقطيع و القتل و التقتيل، و الضمير لمشركي مكة و المعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الآية بعد الآية، و السورة إثر السورة من وعد و وعيد و معارف و أحكام و قصص و عبر و حكم و مواعظ لعلهم يتذكرون.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الضميران للقرآن و قيل: للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و الأول أوفق للسياق، و في الآية و ما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.
و سياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.
قوله تعالى: {وَ إِذَا يُتْلىَ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} إلخ، ضمائر الإفراد للقرآن، و اللام في {اَلْحَقُّ} للعهد و المعنى و إذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.
و قوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه و يسميه إسلاما.
و قيل: الضميران للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما تقدم أوفق للسياق، و كيف كان فهم يعنون بذلك ما قرءوه في كتبهم من أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ}: الأعراف: ١٥٧ و قوله: {أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: الشعراء: ١٩٧.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا و مدح لهم على حسن سلوكهم و مداراتهم مع جهلة المشركين و لذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم و أجر الإيمان بالقرآن و صبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.
و قيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم و على أذى الكفار و تحمل المشاق و قد عرفت ما يؤيده السياق.
و قوله: {وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} إلخ الدرء الدفع، و المراد بالحسنة و السيئة قيل: الكلام الحسن و الكلام القبيح، و قيل: العمل الحسن و السيئ و هما المعروف و المنكر، و قيل: الخلق الحسن و السيئ و هما الحلم و الجهل، و سياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {وَ إِذَا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} إلخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، و المراد سقط القول الذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سب و كل ما فيه خشونة، و لذا لما سمعوه أعرضوا عنه و لم يقابلوه بمثله و قالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} و هو متاركة، و قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أي أمان منا لكم، و هو أيضا متاركة و توديع تكرما كما قال تعالى: {وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}.
و قوله: {لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ} أي لا نطلبهم بمعاشرة و مجالسة، و فيه تأكيد لما تقدمه، و هو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيئ بالسيئ.
قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} المراد بالهداية الإيصال إلى المطلوب و مرجعه إلى إفاضة الإيمان على القلب و معلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، و ليس المراد بها إراءة الطريق فإنه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، و المراد بالاهتداء قبول الهداية.
لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين و هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من نعمة الهداية و ضلالهم باتباع الهوى و استكبارهم عن الحق النازل عليهم و إيمان أهل الكتاب به و اعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء و هم من غير قومك الذين تدعوهم و لا يهدي هؤلاء و هم قومك الذين تحب اهتداءهم و هو أعلم بالمهتدين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج البزار و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أهلك الله قوما و لا قرنا و لا أمة و لا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة. أ لم تر إلى قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى}؟
أقول: و في دلالة الآية على الإهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء.
و فيه في قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} (الآية): أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا و كلمتني تكليما. قال: نعم، محمد أكرم علي منك. قال: فإن كان محمد أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر و أنجيتهم من فرعون و عمله و أطعمتهم المن و السلوى. قال: نعم، أمة محمد أكرم علي من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم و إن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي.
فنادى ربنا أمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا و هم في أصلاب آبائهم و أرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا و نحن عبيدك حقا. قال: صدقتم و أنا ربك و أنتم عبيدي حقا قد غفرت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة.
قال ابن عباس: فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) أراد أن يمن عليه بما أعطاه و بما أعطى أمته فقال: يا محمد {وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا}.
أقول: و رواه فيه أيضا بطرق أخرى عن غيره و روى هذا المعنى أيضا الصدوق في العيون عن الرضا (عليه السلام) لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق و فساد ارتباط الجمل المتقدمة و المتأخرة بعضها ببعض.
و في البصائر بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ} يعني من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى.
أقول: و روي مثله بإسناده عن المعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هو من الجري أو من البطن.
و في المجمع في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ} الآيات، نزل قوله: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ} و ما بعده في عبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و العبدي و سلمان الفارسي فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة.
و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء و أبرهة و الأشرف و أيمن و إدريس و نافع و تميم.
أقول: و روي غير ذلك.
و فيه في معنى قوله تعالى: {وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} و قيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، و معناه يدفعون بالمدارأة مع الناس أذاهم عن أنفسهم: و روي مثل ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و مسلم و الترمذي و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لو لا أن يعيرني قريش - يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك فأنزل الله عليه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
أقول: و روي ما في معناه عن ابن عمر و ابن المسيب و غيرهما، و روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) مستفيضة على إيمانه و المنقول من أشعار مشحون بالإقرار على صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حقية دينه، و هو الذي آوى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صغيرا و حماه بعد البعثة و قبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين و الأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ٥٧ الی ٧٥]
{وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٧ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ ٥٨ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىَ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي اَلْقُرىَ إِلاَّ وَ أَهْلُهَا ظَالِمُونَ ٥٩ وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٠أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ ٦١ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٦٢ قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ٦٣ وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ٦٤ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ ٦٥ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ ٦٦ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسىَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ ٦٧ وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٨ وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٦٩
وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٧٠قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ ٧١ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ ٧٢ وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٧٣ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٧٤ وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٧٥}
(بيان)
تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق: {لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى} و ردته و هو قولهم: إن آمنا بما جاء به كتابك من الهدى و هو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل و السبي و النهب و سلب الأمن و السلام.
فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب و يجبى إليه ثمرات كل شيء فلا موجب لخوفهم من تخطفهم.
على أن تنعمهم بالأموال و الأولاد و بطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله و استأصلها و ورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.
على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى إنما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة و لا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه.
على أن الخلق و الأمر لله فإذا اختار شيئا و أمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون و خسفه به و بداره الأرض.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} إلى آخر الآية. التخطف الاختلاس بسرعة، و قيل الخطف و التخطف الاستلاب من كل وجه، و كان تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل و السبي و نهب الأموال كأنهم و ما يتعلق بهم من أهل و مال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، و المراد بالأرض أرض مكة و الحرم بدليل قوله بعد: {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} و القائل بعض مشركي مكة.
و الجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنهم إن آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بإيمانهم و رفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة و أن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله و الإيمان به، و لهذا عبر بقوله: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ} و لم يقل: إن نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.
و قوله: {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} قيل: التمكين مضمن معنى الجعل و المعنى أ و لم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم، و قيل: حرما منصوبا على الظرفية و المعنى: أ و لم نمكن لهم في حرم، و {آمِناً} صفة {حَرَماً} أي حرما ذا أمن، و عد الحرم ذا أمن و المتلبس بالأمن أهله من المجاز في النسبة، و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير أ و لم نعصمهم و نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم.
و هذا جواب أول منه تعالى لقولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و محصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها أن آمنوا.
و قوله: {يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} الجباية الجمع، و الكل للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعا، و المعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، و الجملة
صفة لحرما جيء بها لما عسى أن يتوهم أنهم يتضررون إن آمنوا بانقطاع الميرة.
و قوله: {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} مفعول مطلق أو حال من ثمرات، و قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} استدراك عن جميع ما تقدم أي إنا نحن حفظناهم في أمن و رزقناهم من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذي يحفظهم من تخطف العرب هو شركهم و عبادتهم الأصنام.
قوله تعالى: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و {مَعِيشَتَهَا} منصوب بنزع الخافض أي و كم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها.
و قوله: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي إن مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر و لم تسكن بعد هلاكهم إلا قليلا منها.
و بذلك يظهر أن الأنسب كون {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء من {مَسَاكِنُهُمْ} لا من قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم في الأسفار.
و قوله: {وَ كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ} حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، و في الجملة أعني قوله: {كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ} عناية لطيفة فإنه تعالى هو المالك لكل شيء ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم و قد ملكها إياهم بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم بإهلاكهم و بقيت بعدهم لا مالك لها إلا هو فسمى نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم و هو المالك لما كان بأيديهم كان ملكهم الاعتباري انتقل إليه و لا انتقال هناك بالحقيقة و إنما ظهر ملكه الحقيقي بزوال ملكهم الاعتباري.
و الآية جواب ثان منه تعالى لقولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و محصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء و لا يحفظ لكم أرضكم و التنعم فيها كما تشاءون فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر و بطر أهلكنا أهلها و بقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلا الله.
قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىَ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أم القرى هي أصلها و كبيرتها التي ترجع إليها و في الآية بيان السنة الإلهية في عذاب القرى بالاستئصال و هو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلا بعد إتمام الحجة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، و إلا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله و تكذيب رسوله.
و في تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكة المشركين بالإيماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأن الله قد بعث في أم قراهم و هي مكة رسولا يتلو عليهم آياته و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.
و بذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىَ} فإن في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تقوية لنفسه و تأكيدا لحجته، و أما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله: {وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي اَلْقُرىَ} فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.
قوله تعالى: {وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلخ الإيتاء: الإعطاء و {مِنْ شَيْءٍ} بيان لما لإفادة العموم أي كل شيء أوتيتموه، و المتاع ما يتمتع به و الزينة ما ينضم إلى الشيء ليفيده جمالا و حسنا، و الحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة التي هي أقرب الحياتين منا و تقابلها الحياة الآخرة التي هي خالدة مؤبدة، و المراد بما عند الله الحياة الآخرة السعيدة التي عند الله و جواره و لذا عد خيرا و أبقى.
و المعنى: أن جميع النعم الدنيوية التي أعطاكم الله إياها متاع و زينة زينت بها هذه الحياة الدنيا التي هي أقرب الحياتين منكم و هي بائدة فانية و ما عند الله من ثوابه في الدار الآخرة المترتب على اتباع الهدى و الإيمان بآيات الله خير و أبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا و زينتها أ فلا تعقلون.
و الآية جواب ثالث عن قولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} محصله لنسلم أنكم إن اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا و زينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع
الهدى و سعادة الحياة الآخرة و هي خير و أبقى.
قوله تعالى: {أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ} (الآية) إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة و هو أن إيثار اتباع الهدى أولى من تركه و التمتع بمتاع الحياة الدنيا ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتبع الهدى و ما يلقاه من الوعد الحسن الذي وعده الله، من حال من لم يتبعه و اقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا و سيستقبله يوم القيامة الإحضار و تبري آلهته منه و عدم استجابتهم لدعوته و مشاهدة العذاب و السؤال عن إجابتهم الرسل.
فقوله: {أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} الاستفهام إنكاري، و الوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة و الجنة كما قال تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ}: المائدة: ٩، و لا يكذب وعده تعالى قال: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ: } يونس: ٥٥.
و قوله: {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} أي و هو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتع بمتاعها، و الدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد و التمتيع.
و قوله: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ} أي للعذاب، أو للسؤال و المؤاخذة و {ثُمَّ} للترتيب الكلامي و إتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: {فَهُوَ لاَقِيهِ} للدلالة على التحقق.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الشركاء هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا و كونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شئونه تعالى كالعبادة و التدبير، و في قوله: {يُنَادِيهِمْ} إشارة إلى بعدهم و خذلانهم يومئذ.
قوله تعالى: {قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقربين و عيسى بن مريم (عليه السلام)، و صنف منهم كعتاة الجن و مدعي الألوهية من الإنس كفرعون و نمرود و غيرهما و قد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل
كإبليس و قرناء الشياطين و أئمة الضلال كما قال: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ} إلى أن قال {وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً}: يس: ٦٢، و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الجاثية: ٢٣، و قال: {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ}: التوبة: ٣١.
و الذين يشير إليهم قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ} هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم و تبريهم من عبادتهم و هؤلاء المشركون و إن كانوا أنفسهم أيضا ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: {حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: الم السجدة: ١٣، و لكن المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الذين ينتهي إليهم الشرك و الضلال.
و إيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسئولين أشاروا إليهم لعله للإشارة إلى أنهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} حم السجدة: ٤٨.
و قوله: {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي هؤلاء يشيرون إلى المشركين هم الذين أغويناهم و الجملة توطئة للجملة التالية.
و قوله: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، و الدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ}: إبراهيم: ٢٢ و قال حاكيا لتساؤل الظالمين و قرنائهم: {وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}: الصافات: ٣٢ أي ما كان ليصل إليكم منا و نحن غاوون غير الغواية.
و من هنا يظهر أن لقولهم: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} معنى آخر، و هو أنهم اكتسبوا نظير الوصف الذي كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء.
و قوله: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجئوهم و يسلبوا منهم الاختيار، و قوله {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي بإلجاء منا، أو لتبرينا من أعمالهم فإن من تبرأ من عمل لم ينتسب إليه و إلى هذا المعنى يئول قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف: {وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: الأنعام: ٢٤ {وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ}: حم السجدة: ٤٨ {وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: يونس: ٢٨ إلى غير ذلك من الآيات فافهم.
و قيل: المعنى تبرأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. و لا يخلو من سخافة.
و لكون كل من قوليه: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} في معنى قوله: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} جيء بالفصل من غير عطف.
قوله تعالى: {وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} المراد بشركائهم الآلهة التي كانوا شركاء لله بزعمهم و لذا أضافهم إليهم. و المراد بدعوتهم دعوتهم إياهم لينصروهم و يدفعوا عنهم العذاب و لذا قال: {وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ} بعد قوله: {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}.
و قوله: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه و التقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، و يمكن أن يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ} معطوف على قوله السابق: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} إلخ، سئلوا أولا: عن شركائهم و أمروا أن يستنصروهم، و ثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله.
و المعنى: ما ذا قلتم في جواب من أرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان و العمل الصالح؟
قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} العمى استعارة عن
جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، و كان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ} للدلالة على أخذهم من كل جانب و سد جميع الطرق و تقطع الأسباب بهم كما قال: {وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ}: البقرة: ١٦٦ فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار و لا يجدون شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب.
و قوله: {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرع بعض أفراد العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل و ردهم الدعوة.
و قد فسر صدر الآية و ذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها فرأينا الصفح عنها أولى.
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسىَ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ} أي هذه حال من كفر و لم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع و آمن و عمل صالحا فمن المرجو أن يكون من المفلحين، و عسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب، و المعنى: فليتوقع الفلاح.
قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير.
و الآية جواب رابع عن قولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و الذي يتضمنه حجة قاطعة.
بيان ذلك: أن الخلق و هو الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: الزمر: ٦٢ فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شيء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإن هذا الشيء المفروض إما مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده و آثار وجوده ينتهي إليه تعالى و لا معنى لتأثير الشيء و لا لتأثير أثره في نفسه و إما غير مخلوق له و لا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالإلجاء و القهر و لا مؤثر في الوجود غيره و لا أن هناك شيئا لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شيء أثرا و لا يمنعه شيء من أثر كما قال: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}: الرعد: ٤١ و قال: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلىَ أَمْرِهِ}: يوسف: ٢١.
و إذ لا قاهر يقهره على فعل و لا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين و التشريع يتبعه فإن حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلا بإتيان أمور هي الواجبات و ما في حكمها و ترك أمور هي المحرمات و ما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله و سعادته هو الذي أمر به و ندب إليه و ما يتضرر به هو الذي نهى عنه و حذر منه.
فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام و القوانين ما يشاء كما أن له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق و التدبير ما يشاء، و هذا معنى قوله: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ} و قد أطلق إطلاقا.
و الظاهر أن قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} إشارة إلى اختياره التكويني فإن معنى إطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شيء و لا يمنعه شيء عما يشاؤه و بعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شيء لا بنفسه و لا بمانع يمنع و هذا هو الاختيار بحقيقة معناه، و قوله: {وَ يَخْتَارُ} إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري و يكون عطفه على قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من عطف المسبب على سببه لكون التشريع و الاعتبار متفرعا على التكوين و الحقيقة.
و يمكن حمل قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} على الاختيار التكويني و قوله: {وَ يَخْتَارُ} على الأعم من الحقيقة و الاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، و من الدليل عليه كون المنفي في قوله الآتي: {مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} هو الاختيار التشريعي الاعتباري، و الاختيار المثبت في قوله {وَ يَخْتَارُ} يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباري.
ثم لا ريب في أن الإنسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم و الإرادة و إن لم يكن اختيارا مطلقا فإن للأسباب و العلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا و قابليته و ملائمته و قربه منه و مساعدة أدوات الأخذ و القبض و الالتقام و المضغ و البلع و غير ذلك مما لا يحصى. فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله، و الله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا و إليه ينتهي الكل و هو الذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار و أعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.
ثم إن الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شيء أو يمنعه عن شيء لكونهم أمثالا له لا يزيدون عليه بشيء في معنى الإنسانية و لا يملكون منه شيئا، و هذا هو المراد بكون الإنسان حرا بالطبع.
فالإنسان مختار في نفسه حر بالطبع إلا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الإنسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى موارد السنن و القوانين الجارية في مجتمعة بدخوله في المجتمع و إمضائه ما يجري فيه من سنن و قوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، و كما أن المتقاتلين يملك كل منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، و كما أن الأجير إذا ابتاع عمله و آجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية.
فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حر في عمله مختار في فعله إلا أن يسلب باختيار منه شيئا من اختياره فيملك غيره، و الله سبحانه يملك الإنسان في نفسه و في فعله الصادر منه ملكا مطلقا بالملك التكويني و بالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له و لا حرية بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهي تشريعيين كما لا خيرة و لا حرية له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيته التكوينية.
و هذا هو المراد بقوله: {مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لأنفسهم ما يشاءون و إن خالف ما اختاره الله و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}: الأحزاب: ٣٦ و للقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات.
و قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن شركهم باختيارهم أصناما آلهة يعبدونها من دون الله.
و هاهنا معنى آخر أدق أي تنزه و تعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فإن الخيرة بهذا المعنى لا تتم إلا بدعوى الاستقلال في
الوجود و الاستغناء عنه تعالى و لا تتم إلا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الألوهية.
و في قوله: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ} التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة و النكتة فيه تأييد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تقويته و تطييب نفسه بإضافة صفة الرب إليه فإن معناه أن ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله و رده، و لأنهم لا يقبلون ربوبيته.
و في قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ} وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية التي هي المبدأ للتنزه و التعالي عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فإنه تعالى يتصف بكل كمال و يتنزه عن كل نقص لأنه هو الله عز اسمه.
قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ} الإكنان الإخفاء و الإعلان الإظهار، و لكون الصدر يعد مخزنا للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور و الإعلان إليهم أنفسهم.
و لعل تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنه تعالى إنما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم و باطنهم من أوساخ الشرك و المعصية فطهرهم بذلك بحكمته.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ظاهر السياق أن الضمير في صدر الآية راجع إلى {رَبُّكَ} في الآية السابقة، و الظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} تأكيد للحصر المستفاد من قوله: {هُوَ اَللَّهُ} كأنه قيل: و هو الإله المتصف وحده بالألوهية لا إله إلا هو.
و على ذلك فالآية كالمتمم لبيان الآية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، و هو يعلم ظاهرهم و باطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده و هو الإله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.
و يكون ما في ذيل الآية من قوله: {لَهُ اَلْحَمْدُ} إلخ، وجوها ثلاثة توجه كونه تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده.
أما قوله: {لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ} فلأن كل كمال موجود في الدنيا و الآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، و كل جميل من هذه النعم
الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء و لا يستقل شيء غيره بشيء من الثناء يثنى عليه به إلا و ينتهي إليه و العبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده.
و أما قوله: {وَ لَهُ اَلْحُكْمُ} فلأنه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلا ما ملكه إياه و هو المالك لما ملكه و هو سبحانه مالك في مرحلة التشريع و الاعتبار كما أنه مالك في مرحلة التكوين و الحقيقة، و من آثار ملكه أن يقضي على عبيده و مملوكيه أن لا يعبدوا إلا إياه.
و أما قوله: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فلأن الرجوع للحساب و الجزاء و إذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي و إذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الذي يجب أن يعبد وحده و له دين يجب أن يتعبد به وحده.
قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، و قيل: هو من السرد و الميم زائدة و معناه المتتابع المطرد، و تقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.
و قوله: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} أي من الإله الذي ينقض حكمه تعالى و يأتيكم بضياء تستضيئون به و تسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، و يجري نظيره في قوله الآتي: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ} إلخ.
و بذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة لم يتصور معه الإتيان بضياء أصلا لأن الذي يأتي به إما هو الله تعالى و إما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، و أما الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل و النهار و هو محال و المحال لا يتعلق به القدرة و لا الإرادة، و كذا الكلام في جانب النهار.
و ربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: {إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ} إن أراد الله أن يجعل عليكم. و هو كما ترى.
و كان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل و النهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل
الإلزام في الحجة بأهون ما يفرض و أيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور كأنه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشيء على ذلك إن القدرة كلها لله سبحانه.
و لا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأن المأتي به إن كان ظلمة ما لم تكف للسكن و إن كان ظلمة ممتدة كانت هي الليل.
و تنكير {بِضِيَاءٍ} يؤيد ما ذكر من الوجه، و قد أوردوا وجوها أخرى في ذلك لا تخلو من تعسف.
و قوله: {أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ} أي سمع تفهم و تفكر حتى تتفكروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى.
قوله تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب السعي للمعاش.
و قوله: {أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ} أي إبصار تفهم و تذكر و إذ لم يبصروا و لم يسمعوا فهم عمي صم، و من اللطيف تذييل الآيتين بقوله: {أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ} {أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ} و لعل آية النهار خص بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار و بقي السمع لآية الليل و هو لا يخلو من مناسبة معه.
قوله تعالى: {وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الآية) بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض.
و قوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} اللام للتعليل و الضمير لليل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه و قوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي و جعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الذي هو عطيته فرجوع {لِتَسْكُنُوا} و {لِتَبْتَغُوا} إلى الليل و النهار بطريق اللف و النشر المرتب، و قوله: {وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} راجع إليهما جميعا.
و قوله: {وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ} في معنى قولنا: جعل لكم و ذلك رحمة منه و فيه إشارة إلى أن التكوين كالسكون و الابتغاء و التشريع و هو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} تقدم تفسيره و قد كررت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.
قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، و المراد بالشهيد شهيد الأعمال كما تقدمت الإشارة إليه مرارا و لا ظهور للآية في كونه هو النبي المبعوث إلى الأمة نظرا إلى إفراد الشهيد و ذكر الأمة إذ الأمة هي الجماعة من الناس و لا ظهور و لا نصوصية له في الجماعة الذين أرسل إليهم نبي و إن كانت من مصاديقها.
و قوله: {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن لله شركاء.
و قوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم زعمهم الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الألوهية لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسروه، ففي الكلام تقديم و تأخير و الأصل فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله.
و على هذا فقوله: {أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ} نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: أن الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين حيث يدعون أن الألوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعي تعالى أنه حقه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله فالألوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له.
و هذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التي يعطيها كلامه تعالى أن من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فليرتفع به كل باطل يلتبس به الأمر و يتشبه بالحق، و لازمه أن يظهر أمر الألوهية ظهورا لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء
فيستنتج منه توحده تعالى بالألوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك.
و بذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا حجة عقلية لهم على مدعاهم و لا موجب على هذا لتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم القيامة، و يرتفع ثانيا حديث التقديم و التأخير المذكور الذي لا نكتة له ظاهرا إلا رعاية السجع.
و من الممكن أن يكون {اَلْحَقَّ} في قوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ} مصدرا فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}: النور: ٢٥ فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا إن أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما به إن أريد به غيره، كما قال تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: آل عمران: ٦٠و لم يقل: الحق مع ربك.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} (الآية)، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى الإسلام و الهجرة و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز و جل: {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
أقول: و روي هذا المعنى في كشف المحجة، و روضة الواعظين، للمفيد و رواه في الدر المنثور عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس.
و في الدر المنثور أخرج النسائي و ابن المنذر عن ابن عباس : أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ} (الآية)، قال: يختار الله عز و جل الإمام و ليس لهم أن يختاروا.
أقول: و هو من الجري مبنيا على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبي، و قد مر تفصيل الكلام فيه.
و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} يقول: من هذه الأمة إمامها.
أقول: و هو من الجري.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ٧٦ الی ٨٤]
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغىَ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ ٧٦ وَ اِبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ وَ لاَ تَبْغِ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ٧٧ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ٧٨ فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ٧٩ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ لاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ ٨٠فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ ٨١ وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ
وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لاَ أَنْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ ٨٢ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ٨٣ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٨٤}
(بيان)
قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين: {إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} و أجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهي و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين.
قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغىَ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ} قال في المجمع: البغي طلب العتو بغير حق. قال: و المفاتح جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عما يفتح به الأغلاق. قال: و ناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. و قال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله و هو الأوفق للآية.
و قال في المجمع أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض. و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة
إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلا عن أبي صالح۱، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، و قيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. انتهى. و يزيف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف: {وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ}: يوسف: ٨ و هم تسعة نفر.
و المعنى: أن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق و أعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ} فسر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى: {وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}: الحديد: ٢٣.
و لذا أيضا علل النهي بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ}.
قوله تعالى: {وَ اِبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ} إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى.
و قوله: {وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا} أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسي و اعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له.
و قيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا و قد أقبلت عليك شيء قليل مما أوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلا و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيد. و هناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق.
و قوله: {وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ} أي أنفقه لغيرك إحسانا كما آتاكه الله إحسانا من غير أن تستحقه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله: {وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا} على أول الوجهين السابقين و متممة له على الوجه الثاني.
و قوله: {وَ لاَ تَبْغِ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ} أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح.
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} إلى آخر الآية. لا شك أن قوله {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به و كان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه الله إحسانا إليه و فضلا منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر.
فأجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق و دعوى أنه إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدره في أنواع التنعم و بسط السلطة و العلو و البلوغ إلى الآمال و الأماني.
و هذه المزعمة التي ابتلي بها قارون فأهلكته أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز و ساق إليه القوة و الجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة و قدرته النفسانية لا غير مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة و قوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله.
و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: الزمر: ٥٢، و قال: {أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}: المؤمن: ٨٣ و عرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكا في أن المراد بالعلم في كلام ما قدمناه.
و في قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: {فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ} نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه.
و قوله: {أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً} استفهام توبيخي و جواب عن قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتعه منه هو علمه الذي عنده و هو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا، و كان ما له من القوة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر و يتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلا و إحسانا لنجاهم من الهلاك و متعهم من أموالهم و دافعوا بقوتهم و انتصروا بجمعهم.
و قوله: {وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ} ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإلهية في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيئوه من التذلل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولي الطول و القوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، و ربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.
و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق و يكون جوابا عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنما يؤاخذه بذنبه، و أيضا يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل أخرى:
فقيل: المراد بالعلم في قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلىَ عِلْمٍ عِنْدِي} علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها.
و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب.
و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزا و دفائن كثيرة.
و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: أوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله: {عِنْدِي} هو كذلك في ظني و رأيي.
و قيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، و المعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و {عَلىَ} على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوز أن تكون للتعليل.
و قيل: المراد بالسؤال في قوله: {وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ} سؤال يوم القيامة و المنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أما قوله تعالى: {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}: الصافات: ٢٤ فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.
و قيل: الضمير في قوله: {عَنْ ذُنُوبِهِمُ} لمن هو أشد و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.
و هذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الحظ هو النصيب من السعادة و البخت.
و قوله: {يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ}:
النجم: ٣٠و لذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} إلخ، الويل الهلاك و يستعمل للدعاء بالهلاك و زجرا عما لا يرتضي، و هو في المقام زجرا عن التمني.
و القائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون و عدوه سعادة عظيمة على الإطلاق، و مرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا مما أوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه.
و قوله: {وَ لاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ} التلقية التفهيم و التلقي التفهم و الأخذ، و الضمير على ما قالوا للكلمة المفهومة من السياق، و المعنى: و ما يفهم هذه الكلمة و هي قولهم: {ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} إلا الصابرون.
و قيل: الضمير للسيرة أو الطريقة و معنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها.
و الصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد و على الطاعات و عن المعاصي، و وجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي و هو لا ينفك عن الإيمان و العمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء و الحرمان عن كثير من المشتهيات لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع و عصيان النفس الأمارة.
قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ} إلى آخر الآية، الضميران لقارون و الجملة متفرعة على بغيه.
و قوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ} الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، و في النصر و الانتصار معنى المنع و الامتناع، و محصل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب و ما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه و لم تفده قوته من دون الله و بان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه.
فالفاء في قوله: {فَمَا كَانَ} لتفريع الجملة على قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ} إلخ، أي فظهر بخسفنا به و بداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق و الاستغناء
عن الله سبحانه و أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه و قد اكتسبهما بنبوغه العلمي.
قوله تعالى: {وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ} إلخ، ذكروا أن «وي» كلمة تندم و ربما تستعمل للتعجب و كلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد و إن كان التندم أسبق إلى الذهن.
و قوله: {وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ} اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون و هم يصدقونه أن القوة و الجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان في علمه و جودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق و ضيقه بمشية من الله.
و المقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك و التردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم {وَيْكَأَنَّ} للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون و قد قبلوه و صدقوه من قبل و هذه صنعة شائعة في الاستعمال.
و الدليل على ذلك قولهم بعده: {لَوْ لاَ أَنْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} على طريق الجزم و التحقيق.
و قوله: {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ} تندم منهم ثانيا و انتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون.
قوله تعالى: {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الآية) و ما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة.
و قوله: {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ} الإشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها و بهائها و علو مكانتها و هو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة و لذا فسروها بالجنة.
و قوله: {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً} أي نختصها بهم و إرادة العلو هو الاستعلاء و الاستكبار على عباد الله و إرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فإن الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للإنسان على مقتضيات فطرته و خلقته و لا تقتضي فطرته إلا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الإنسانية الأرضية فكل معصية تقضي إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: {ظَهَرَ
اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ}: الروم: ٤١.
و من هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد و إنما أفردت و خصت بالذكر اعتناء بأمرها، و محصل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة تخصها بالذين لا يريدون فسادا في الأرض بالعلو على عباد الله و لا بأي معصية أخرى.
و الآية عامة يخصصها قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً}: النساء: ٣١.
و قوله: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي العاقبة المحمودة الجميلة و هي الدار الآخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا و الآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول.
قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي لأنها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: الأنعام: ١٦٠.
قوله تعالى: {وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا و فيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخير منها كمال الفضل.
و كان مقتضى الظاهر في قوله: {فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا} إلخ، الإضمار و لعل في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء إنما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية و أحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، و قوله: {كَانُوا يَعْمَلُونَ} الدال على الإصرار و الاستمرار، و أما من جاء بالسيئة و الحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال: {وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: التوبة: ١٠٢.
و ليعلم أن الملاك في الحسنة و السيئة على الأثر الحاصل منها عند الإنسان و بها تسمى الأعمال حسنة أو سيئة و عليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من الحركة - يثاب الإنسان أو يعاقب، قال تعالى: {وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ}: البقرة: ٢٨٤.
و به يظهر الجواب عما استشكل على إطلاق الآية بأن التوحيد حسنة و لا يعقل خير منه و أفضل، فالآية إما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.
و ذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه و إن لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.
على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة و الضعف و الزيادة و النقيصة و إذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس: أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه و كان يبتغي العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى و حسده.
فقال له موسى (عليه السلام): إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة و جاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم .
فجاء قارون إلى موسى (عليه السلام) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و أن تصلوا الرحم و كذا و كذا و قد أمرني في الزاني إذا زنى و قد أحصن أن يرجم. قالوا: و إن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟
فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى (عليه السلام): أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني و جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي و أنا أشهد أنك بريء و أنك رسول الله.
فخر موسى (عليه السلام) ساجدا يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم - فجعلوا يقولون: يا
موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي و تضرعوا إليك فلم تجبهم فوعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: و ذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ} خسف به إلى الأرض السفلى.
أقول: و روي فيه أيضا عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة : لكن فيها أن المرأة أحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملإ من بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) بالفجور و تشكوه إلى قارون فجاءت إليه و اعترفت عند الملإ بالحق فبلغ ذلك موسى (عليه السلام) فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه.
و روى القمي في تفسيره: في القصة أن موسى (عليه السلام) جاء إلى قارون و بلغه حكم الزكاة فاستهزأ به و أخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلطه الله عليه فخسف به و بداره الأرض، و الرواية موقوفة مشتملة على أمور منكرة و لذلك تركنا نقلها كما أن روايتي ابن عباس و ابن نوفل أيضا موقوفتان.
على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى (عليه السلام) و الذي تقصه الآيات بغيه على بني إسرائيل، و تشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصله بالتعلم و ظاهر الآية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة و نحوها.
و قد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الإصحاح السادس عشر من سفر العدد: و أخذ قورح بن بصهار بن نهات بن لاوي و داثان و أبيرام ابنا ألياب و أون بن فالت بنو رأوبين يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مائتين و خمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى و هارون و قالوا لهما كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة و في وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟
فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلم قورح و جميع قومه قائلا: غدا يعلن الرب من هو له؟ و من المقدس؟ حتى يقربه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا: خذوا لكم محابر قورح و كل جماعته و اجعلوا فيها نارا و ضعوا عليها بخورا أمام الرب غدا فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بني لاوي.
ثم سيقت القصة و ذكر فيها حضورهم غدا و مجيؤهم بالمجامر و فيها النار و البخور و اجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقت الأرض التي تحتهم و فتحت الأرض فاها و ابتلعتهم و بيوتهم و كل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم و كل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، و كل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعل الأرض تبتلعنا، و خرجت نار من عند الرب و أكلت المائتين و الخمسين رجلا الذين قربوا البخور. انتهى موضع الحاجة.
و في المجمع في قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ}: و هو ابن خالته: عن عطاء عن ابن عباس و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ} (الآية)، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة أولوا القوة.
و في المعاني بإسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن جده عن آبائه عن علي (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا} قال: لا تنس صحتك و قوتك و فراغك و شبابك و نشاطك أن تطلب بها الآخرة.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال: في الثياب المصبغات يجرها بالأرض.
و في المجمع و روى زاذان عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه كان يمشي في الأسواق و هو وال يرشد الضال و يعين الضعيف و يمر بالبياع و البقال فيفتح عليه القرآن و يقرأ: {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً} و يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من سائر الناس.
و فيه روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية {تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ} (الآية).
أقول: و عن السيد ابن طاووس في سعد السعود، أنه رواه عن الطبرسي هكذا: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها.
و في الدر المنثور أخرج المحاملي و الديلمي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية قال: التجبر في الأرض و الأخذ بغير الحق.
[سورة القصص (٢٨): الآیات ٨٥ الی ٨٨]
{إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٨٥ وَ مَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ اَلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ٨٦ وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ اُدْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ٨٧ وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٨}
(بيان)
الآيات خاتمة السورة و فيها وعد جميل للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الله سبحانه سيمن عليه برفع قدره و نفوذ كلمته و تقدم دينه و انبساط الأمن و السلام عليه و على المؤمنين به كما فعل ذلك بموسى و بني إسرائيل، و قد كانت قصة موسى و بني إسرائيل مسوقة في السورة لبيان ذلك.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} إلى آخر الآية الفرض على ما ذكره بمعنى الإيجاب فمعنى {فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ} أي أوجب عليك العمل به أي بما فيه من الأحكام ففيه مجاز في النسبة.
و أحسن منه قول بعضهم: إن المعنى أوجب عليك تلاوته و تبليغه و العمل به و ذلك لكونه أوفق لقوله: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} بما سيجيء من معناه.
و قوله: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} المعاد اسم مكان أو زمان من العود و قد اختلفت كلماتهم في تفسير هذا المعاد فقيل: هو مكة فالآية وعد له أن الله سيرده بعد هجرته
إلى مكة ثانيا، و قيل: هو الموت، و قيل: هو القيامة، و قيل: هو المحشر، و قيل هو المقام المحمود و هو موقف الشفاعة الكبرى، و قيل: هو الجنة، و قيل: هو بيت المقدس، و هو في الحقيقة وعد بمعراج ثان يعود فيه إلى بيت المقدس بعد ما كان دخله في المعراج الأول: و قيل: هو الأمر المحبوب فيقبل الانطباق على جل الأقوال السابقة أو كلها.
و الذي يعطيه التدبر في سياق آيات السورة هو أن تكون الآية تصريحا بما كانت القصة المسرودة في أول السورة تلوح إليه ثم الآيات التالية لها تؤيده.
فإنه تعالى أورد قصة بني إسرائيل و موسى (عليه السلام) في أول السورة ففصل القول في أنه كيف من عليهم بالأمن و السلام و العزة و التمكن بعد ما كانوا أذلاء مستضعفين بأيدي آل فرعون يذبحون أبناءهم يستحيون نساءهم، و قد كانت القصة تدل بالالتزام و مطلع السورة يؤيده على وعد جميل للمؤمنين أن الله سبحانه سينجيهم مما هم عليه من الفتنة و الشدة و العسرة و يظهر دينهم على الدين كله و يمكنهم في الأرض بعد ما كانوا لا سماء تظلهم و لا أرض تقلهم.
ثم ذكر بعد الفراغ من القصة أن من الواجب في الحكمة أن ينزل كتابا يهدي الناس إلى الحق تذكرة و إتماما للحجة ليتقوا بذلك من عذاب الله كما نزله على موسى بعد ما أهلك القرون الأولى و كما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إن كذبوا به عنادا للحق و إيثارا للدنيا على الآخرة.
و هذا السياق يرجي السامع أنه تعالى سيتعرض صريحا لما أشار إليه في سرد القصة تلويحا فإذا سمع قوله: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلى مَعَادٍ} لم يلبث دون أن يفهم أنه هو الوعد الجميل الذي كان يترقبه و خاصة مع الابتداء بقوله: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ} و قد قدم تنظير التوراة بالقرآن و قد كان ما قصه في إنجاء بني إسرائيل مقدمة لنزول التوراة حتى يكونوا بالأخذ بها و العمل بها أئمة و يكونوا هم الوارثين.
فمعنى الآية: إن الذي فرض عليك القرآن لتقرأه على الناس و تبلغه و تعملوا به سيردك و يصيرك إلى محل تكون هذه الصيرورة منك إليه عودا و يكون هو معادا لك
كما فرض التوراة على موسى و رفع به قدره و قدر قومه، و من المعلوم أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان بمكة على ما فيها من الشدة و الفتنة ثم هاجر منها ثم عاد إليها فاتحا مظفرا و ثبتت قواعد دينه و استحكمت أركان ملته و كسرت الأصنام و انهدم بنيان الشرك و المؤمنون هم الوارثون للأرض بعد ما كانوا أذلاء معذبين.
و في تنكير قوله: {مَعَادٍ} إشارة إلى عظمة قدر هذا العود و أنه لا يقاس إلى ما قبله من القطون بها و التاريخ يصدقه.
و قوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} يؤيد ما قدمنا من المعنى فإنه يحاذي قول موسى (عليه السلام) - لما كذبوه و رموا آياته البينات بأنها سحر مفترى : {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول للفراعنة من مشركي قومه لما كذبوه و رموه بالسحر ما قال موسى لآل فرعون لما كذبوه و رموه بالسحر للتشابه التام بين مبعثيهما و سير دعوتهما كما يظهر من القصة و يظهر ذلك تمام الظهور بالتأمل في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً}: المزمل: ١٥.
و لعل الاكتفاء بالشطر الأول من قول موسى (عليه السلام) و السكوت عن الشطر الثاني أعني قوله: {وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ} لبناء الكلام بحسب سياقه على أن لا يتعدى حد الإشارة و الإيماء كما يستشم من سياق قوله: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} أيضا حيث خص الخطاب بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نكر معادا.
و كيف كان فالمراد بقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ} النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه و بقوله: {وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} المشركون من قومه، و اختلاف سياق الجملتين حيث قيل في جانبه (صلى الله عليه وآله و سلم): {مَنْ جَاءَ بِالْهُدى} و في جانبهم: {مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} فقوبل بين ضلالهم و بين مجيئه بالهدى لا بين ضلالهم و اهتدائه لكون تكذيبهم متوجها بالطبع إلى ما جاء به لا إلى نفسه.
و قد ذكروا في قوله: {أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدىَ} أن {مَنْ} منصوب بفعل مقدر يدل عليه {أَعْلَمُ} و التقدير يعلم من جاء به بناء على ما هو المشهور أن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به، و ذكر بعضهم أنه منصوب بأعلم و هو بمعنى عالم و لا دليل عليه،
و ما أذكر قائلا بأنه منصوب بنزع الخافض و إن لم يظهر فيه النصب لبنائه و التقدير ربي أعلم بمن جاء بالهدى، و لا دليل على منعه.
قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقىَ إِلَيْكَ اَلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} صدر الآية تقرير للوعد الذي في قوله: {إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} أي أنه سيردك إلى معاد و ما كنت ترجوه كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه .
و قيل: تذكرة استينافية لنعمته تعالى عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هذا وجه وجيه و تقريره أنه تعالى لما وعده بالرد إلى معاد و فيه ارتفاع ذكره و تقدم دعوته و انبساط دينه خط له السبيل التي يجب عليه سلوكها بجهد و مراقبة فبين له أن إلقاء الكتاب إليه لم يكن على نهج الحوادث العادية التي من شأنها أن ترتجى و تترقب بل كانت رحمة خاصة من ربه و قد وعده في فرضه عليه ما وعده فمن الواجب عليه قبال هذه النعمة و في تقدم دعوته و بلوغها الغاية التي وعدها أن لا ينصر الكافرين و لا يطيعهم و يدعو إلى ربه و لا يكون من المشركين و لا يدعو معه إلها آخر.
و قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء منقطع أي لكنه ألقى إليك رحمة من ربك و ليس بإلقاء عادي يرجى مثله.
و قوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} تفريع على قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي فإذا كان إلقاؤه إليك رحمة من ربك خصك بها و هو فوق رجائك فتبرء من الكافرين و لا تكن معينا و ناصرا لهم.
و من المحتمل قريبا أن يكون في الجملة نوع محاذاة لقول موسى (عليه السلام) لما قتل القبطي: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} و على هذا يكون في النهي عن إعانتهم إشارة إلى أن إلقاء الكتاب إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) نعمة أنعمها الله عليه يهدي به إلى الحق و يدعو إلى التوحيد فعليه أن لا يعين الكافرين على كفرهم و لا يميل إلى صدهم إياه عن آيات الله بعد نزولها عليه كما عاهد موسى (عليه السلام) ربه بما أنعم عليه من الحكم و العلم أن لا يكون ظهيرا للمجرمين أبدا، و سيأتي أن قوله: {وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ} إلخ، بمنزلة الشارح لهذه الجملة.
قوله تعالى: {وَ لاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اَللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية، نهي له (صلى الله عليه وآله و سلم) على الانصراف عن آيات الله بلسان نهي الكفار عن الصد و الصرف و وجهه كون انصرافه مسببا لصدهم و هو كقوله لآدم و زوجه: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ} أي لا تخرجا منها بإخراجه لكما بالوسوسة.
و الظاهر أن الآية و ما بعدها في مقام الشرح لقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} و فائدته تأكيد النهي بعد موارده واحدا بعد واحد فنهاه أولا عن الانصراف عن القرآن النازل عليه برميهم كتاب الله بأنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين اكتتبها، و أمره ثانيا أن يدعو إلى ربه، و نهاه ثالثا أن يكون من المشركين و فسره بأن يدعو مع الله إلها آخر.
و قد كرر صفة الرب مضافا إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) للدلالة على اختصاصه بالرحمة و النعمة و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) متفرد في عبادته لا يشاركه المشركون فيها.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} قد تقدم أنه كالتفسير لقوله: {وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ}.
قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كلمة الإخلاص في مقام التعليل لقوله قبله: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أي لأنه لا إله غيره و ما بعدها في مقام التعليل بالنسبة إليها كما سيتضح.
و قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} الشيء مساو للموجود و يطلق على كل أمر موجود حتى عليه تعالى كما يدل عليه قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ}: الأنعام: ١٩، و الهلاك البطلان و الانعدام.
و الوجه و الجهة واحد كالوعد و العدة، و وجه الشيء في العرف العام ما يستقبل به غيره و يرتبط به إليه كما أن وجه الجسم السطح الظاهر منه و وجه الإنسان النصف المقدم من رأسه و وجهه تعالى ما يستقبل به غيره من خلقه و يتوجه إليه خلقه به و هو صفاته الكريمة من حياة و علم و قدرة و سمع و بصر و ما ينتهي إليها من صفات الفعل كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و الرحمة و كذا آياته الدالة عليه بما هي آياته.
فكل شيء هالك في نفسه باطل في ذاته لا حقيقة له إلا ما كان عنده مما أفاضه
الله عليه و أما ما لا ينسب إليه تعالى فليس إلا ما اختلقه وهم المتوهم أو سرابا صوره الخيال و ذلك كالأصنام ليس لها من الحقيقة إلا أنها حجارة أو خشبة أو شيء من الفلزات و أما أنها أرباب أو آلهة أو نافعة أو ضارة أو غير ذلك فليست إلا أسماء سماها عبدتهم و كالإنسان ليس له من الحقيقة إلا ما أودعه فيه الخلقة من الروح و الجسم و ما اكتسبه من صفات الكمال و الجميع منسوبة إلى الله سبحانه و أما ما يضيفه إليه العقل الاجتماعي من قوة و سلطة و رئاسة و وجاهة و ثروة و عزة و أولاد و أعضاد فليس إلا سرابا هالكا و أمنية كاذبة و على هذا السبيل سائر الموجودات.
فليس عندها من الحقيقة إلا ما أفاض الله عليها بفضله و هي آياته الدالة على صفاته الكريمة من رحمة و رزق و فضل و إحسان و غير ذلك.
فالحقيقة الثابتة في الواقع التي ليست هالكة باطلة من الأشياء هي صفاته الكريمة و آياته الدالة عليها و الجميع ثابتة بثبوت الذات المقدسة.
هذا على تقدير كون المراد بالهالك في الآية الهالك بالفعل و على هذا يكون محصل تعليل كلمة الإخلاص بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أن الإله و هو المعبود بالحق إنما يكون إلها معبودا إذا كان أمرا ذا حقيقة واقعية غير هالك و لا باطل له تدبير في العالم بهذا النعت و كل شيء غيره تعالى هالك باطل في نفسه إلا ما كان وجها له منتسبا إليه فليس في الوجود إله غيره سبحانه.
و الوثنيون و إن كانوا يرون وجود آلهتهم منسوبا إليه تعالى و من جهته إلا أنهم يجعلونها مستقلة في التدبير مقطوعة النسبة في ذلك عنه من دون أن يكون حكمها حكمه، و لذلك يعبدونها من دون الله، و لا استقلال لشيء في شيء عنه تعالى فلا يستحق العبادة إلا هو.
و هاهنا وجه آخر أدق منه بناء على أن المراد بالوجه ذات الشيء فقد ذكر بعضهم ذلك من معاني الوجه كما يقال: وجه النهار و وجه الطريق لنفسهما و إن أمكنت المناقشة فيه و ذكر بعض آخر: أن المراد به الذات الشريفة كما يقال: وجوه الناس أي أشرافهم و هو من المجاز المرسل أو الاستعارة و على كلا التقديرين فالمراد أن غيره تعالى من الموجودات ممكنة و الممكن و إن كان موجودا بإيجاده تعالى فهو معدوم بالنظر
إلى حد ذاته هالك في نفسه و الذي لا سبيل للبطلان و الهلاك إليه هو ذاته الواجبة بذاتها.
و محصل التعليل على هذا المعنى: أن الإله المعبود بالحق يجب أن يكون ذاتا بيده شيء من تدبير العالم، و التدبير الكوني لا ينفك عن الخلق و الإيجاد فلا معنى لأن يوجد الحوادث شيء و يدبر أمرها شيء آخر - و قد أوضحناه مرارا في هذا الكتاب - و لا يكون الخالق الموجد إلا واجب الوجود و لا واجب إلا هو تعالى فلا إله إلا هو.
و قولهم: إنه تعالى أجل من أن يحيط به عقل أو وهم فلا يمكن التوجه العبادي إليه فلا بد أن يتوجه بالعبادة إلى بعض مقربي حضرته من الملائكة الكرام و غيرهم ليكونوا شفعاء عنده.
مدفوع بمنع توقف التوجه بالعبادة على العلم الإحاطي بل يكفي فيه المعرفة بوجه و هو حاصل بالضرورة.
و أما على تقدير كون المراد بالهالك ما يستقبله الهلاك و الفناء بناء على ما قيل: إن اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال فظاهر الآية أن كل شيء سيستقبله الهلاك بعد وجوده إلا وجهه. نعم استقبال الهلاك يختلف باختلاف الأشياء فاستقباله في الزمانيات انتهاء أمد وجودها و بطلانها بعده و في غيرها كون وجودها محاطا بالفناء من كل جانب.
و هلاك الأشياء على هذا بطلان وجودها الابتدائي و خلو النشأة الأولى عنها بانتقالها إلى النشأة الأخرى و رجوعها إلى الله و استقرارها عنده، و أما البطلان المطلق بعد الوجود فصريح كتاب الله ينفيه فالآيات متتابعة في أن كل شيء مرجعه إلى الله و أنه المنتهى و إليه الرجعى و هو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده.
فمحصل معنى الآية - لو أريد بالوجه صفاته الكريمة - أن كل شيء سيخلي مكانه و يرجع إليه إلا صفاته الكريمة التي هي مبادئ فيضه فهي تفيض ثم تفيض إلى ما لا نهاية له و الإله يجب أن يكون كذلك لا بطلان لذاته و لا انقطاع لصفاته الفياضة و ليس شيء غيره تعالى بهذه الصفة فلا إله إلا هو.
و لو أريد بوجهه الذات المقدسة فالمحصل أن كل شيء سيستقبله الهلاك و الفناء بالرجوع إلى الله سبحانه إلا ذاته الحقة الثابتة التي لا سبيل للبطلان إليها - و الصفات على هذا محسوبة من صقع الذات - و الإله يجب أن يكون بحيث لا يتطرق الفناء إليه
و ليس شيء غيره بهذه الصفة فلا إله إلا هو.
و بما تقدم من التقرير يندفع الاعتراض على عموم الآية بمثل الجنة و النار و العرش فإن الجنة و النار لا تنعدمان بعد الوجود و تبقيان إلى غير النهاية، و العرش أيضا كذلك بناء على ما ورد في بعض الروايات أن سقف الجنة هو العرش.
وجه الاندفاع أن المراد بالهلاك هو تبدل نشأة الوجود و الرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة و التلبس بالعود بعد البدء، و هذا إنما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيوي، و أما الدار الآخرة و ما هو موجود بوجود أخروي كالجنة و النار فلا يتصف شيء من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى.
قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ}: النحل: ٩٦، و قال: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}: آل عمران: ١٩٨ و قال: {سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ}: الأنعام: ١٢٤ و نظيرتهما خزائن الرحمة كما قال: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ}: الحجر: ٢١ و كذا اللوح المحفوظ كما قال: {وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}: ق: ٤.
و أما ما ذكروه من العرش فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ} (الآية): الأعراف: ٥٤.
و يمكن أن يراد بالوجه جهته تعالى التي تنسب إليه و هي الناحية التي يقصد منها و يتوجه إليه بها، و تؤيده كثرة استعمال الوجه في كلامه تعالى بهذا المعنى كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: الأنعام: ٥٢ و قوله: {إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اَلْأَعْلىَ}: الليل: ٢٠إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
و عليه فتكون عبارة عن كل ما ينسب إليه وحده فإن كان الكلام على ظاهر عمومه انطبق على الوجه الأول الذي أوردناه و يكون من مصاديقه أسماؤه و صفاته و أنبياؤه و خلفاؤه و دينه الذي يؤتى منه.
و إن خص الوجه بالدين فحسب كما وقع في بعض الروايات إن لم يكن من باب التطبيق كان المراد بالهلاك الفساد و عدم الأثر، و كانت الجملة تعليلا لقوله: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} و كان ما قبلها قرينة على أن المراد بالشيء الدين و الأعمال المتعلقة
به و كان محصل المعنى: و لا تتدين بغير دين التوحيد لأن كل دين باطل لا أثر له إلا دينه.
و الأنسب على هذا أن يكون الحكم في ذيل الآية بمعنى الحكم التشريعي أو الأعم منه و من التكويني و المعنى: كل دين هالك إلا دينه لأن تشريع الدين إليه و إليه ترجعون لا إلى مشرعي الأديان الأخر.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين فيها أقوال أخر مختلفة.
فقيل: المراد بالوجه ذاته تعالى المقدسة و بالهلاك الانعدام، و المعنى: كل شيء في نفسه عرضة للعدم لكون وجوده عن غيره إلا ذاته الواجبة الوجود، و الكلام على هذا مبني على التشبيه أي كل شيء غيره كالهالك لاستناد وجوده إلى غيره.
و قيل: الوجه بمعنى الذات و المراد به ذات الشيء و الضمير لله باعتبار أن وجه الشيء مملوك له، و المعنى: كل شيء هالك إلا وجه الله الذي هو ذات ذلك الشيء و وجوده.
و قيل: المراد بالوجه الجهة المقصودة و الضمير لله، و المعنى: كل شيء هالك بجميع ما يتعلق به إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى و هو الوجود الذي أفاضه الله تعالى عليه.
و قيل: الوجهة هو الجهة المقصودة و المراد به الله سبحانه الذي يتوجه إليه كل شيء و الضمير للشيء، و المعنى: كل شيء هالك إلا الله الذي هو الجهة المطلوبة له.
و قيل: المراد بالهلاك هلاك الموت و العموم مخصوص بذوي الحياة و المعنى: كل ذي حياة فإنه سيموت إلا وجهه.
و قيل: المراد بالوجه العمل الصالح و المعنى أن العمل كان في حيز العدم، فلما فعله العبد ممتثلا لأمره تعالى أبقاه الله من غير إحباط حتى يثيبه أو أنه بالقبول صار غير قابل للهلاك لأن الجزاء قائم مقامه و هو باق.
و قيل: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي أثبته في الناس.
و قيل: الهلاك عام لجميع ما سواه تعالى دائما لكون الوجود المفاض عليها متجددا في كل آن فهي متغيرة هالكة دائما في الدنيا و الآخرة و المعنى كل شيء متغير الذات دائما إلا وجهه.
و هذه الوجوه بين ما لا ينطبق على سياق الآية و بين ما لا ينجح به حجتها و بين ما هو بعيد عن الفهم، و بالتأمل فيما قدمناه يظهر ما في كل منها فلا نطيل.
و قوله: {لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الحكم هو قضاؤه النافذ في الأشياء و عليه يدور التدبير في نظام الكون، و أما كونه بمعنى فصل القضاء يوم القيامة فيبعده تقديم الحكم في الذكر على الرجوع إليه الذي هو يوم القيامة فإن فصل القضاء متفرع عليه.
و كلتا الجملتين مسوقتان للتعليل و كل واحدة منهما وحدها حجة تامة على توحده. تعالى بالألوهية صالحة للتعليل كلمة الإخلاص، و قد تقدم إمكان أخذ الحكم على بعض الوجوه بمعنى الحكم التشريعي.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلىَ مَعَادٍ} قال: إلى مكة. زاد ابن مردويه كما أخرجك منها.
أقول: و روي عنه و عن أبي سعيد الخدري: أن المراد به الموت، و أيضا عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن المراد به الجنة و انطباقهما على الآية لا يخلو من خفاء.
و روى القمي في تفسيره عن حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين (عليه السلام): أن المراد به الرجعة و لعله من البطن دون التفسير.
و في الإحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل: و أما قوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فالمراد كل شيء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء و يبقى الوجه. هو أجل و أعظم من ذلك و إنما يهلك من ليس منه أ لا ترى أنه قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقىَ وَجْهُ رَبِّكَ} ففصل بين خلقه و وجهه؟
و في الكافي بإسناده عن سيف عمن ذكره عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك و تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فقال: ما يقولون فيه؟ قلت: يقولون: يهلك كل شيء إلا وجه الله فقال: سبحان الله لقد قالوا عظيما إنما عنى به وجه الله الذي يؤتى منه.
أقول: و روى مثله في التوحيد بإسناده عن الحارث بن المغيرة النصري عنه
(عليه السلام) و لفظه: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: كل شيء هالك إلا من أخذ طريق الحق.
و في محاسن البرقي: مثله إلا أن آخره «من أخذ الطريق الذي أنتم عليه». و التشويش الذي يتراءى في الروايات تطرق إليها من جهة النقل بالمعنى، فإن كان المراد بالوجه الذي يؤتى منه مطلق ما ينسب إليه و كان من صقعه تعالى و من جانبه كان منطبقا على المعنى الأول الذي قدمناه في معنى الآية.
و إن كان الوجه بمعنى الدين الذي يتوجه إليه تعالى بقصده كان المراد بالهلاك البطلان و عدم التأثير و كان المعنى: لا إله إلا هو كل دين باطل إلا دينه الحق الذي يؤتى منه فإنه سينفع و يثاب عليه، و قد تقدمت الإشارة إلى الوجهين في تفسير الآية.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} قال: المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى للناس، و قوله: {وَ لاَ تَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} المخاطبة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى للناس، و هو قول الصادق (عليه السلام) إن الله بعث نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): بإياك أعني، و اسمعي يا جارة.
(٢٩) (سورة العنكبوت مكية، و هي تسع و ستون آية) (٦٩)
[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ١ الی ١٣]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ٢ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ ٣ أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ٤ مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٥ وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ ٦ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ٧ وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٨ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصَّالِحِينَ ٩ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ ١٠
وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ ١١ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ١٢ وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ١٣}
(بيان)
يلوح من سياق آيات السورة و خاصة ما في صدرها من الآيات أن بعضا ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفا من فتنة كانت تهدده من قبل المشركين فإن المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملتهم و يضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذبوهم ليعيدوهم إلى ملتهم.
يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (الآية)، و قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} (الآية).
و كان في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله تعالى: {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (الآية)، و قد نزلت السورة في شأن هؤلاء.
فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أن الذي يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرد قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} بل هو حقيقة الإيمان التي لا تحركها عواصف الفتن و لا تغيرها غير الزمن و هي إنما تتثبت و تستقر بتوارد الفتن و تراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ} دون أن يفتنوا و يمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة الكفر فليعلمن الله الذين صدقوا و يعلم الكاذبين.
فالفتنة و المحنة سنة إلهية لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الأمم الماضين كقوم نوح و عاد ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام منهم من استقام و هلك منهم من هلك و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه و يعبد الله وحده فإن تعذر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يخف عسر المعاش فإن الرزق على الله و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياه.
و أما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلا أن يقولوا ربنا الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله و يسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و تعذيبهم فإنما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا و إن شاء أخرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه و ما لهم من محيص.
و أما ما لفقوه من الحجة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و الحجة قائمة تامة عليهم.
فهذا محصل غرض السورة و مقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، و قول القائل: إنها مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - و سيجيء في البحث الروائي التالي غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم إلا زمن العسرة و الشدة قبل الهجرة.
قوله تعالى: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} الحسبان هو الظن، و جملة {أَنْ يُتْرَكُوا} قائمة مقام مفعوليه، و قوله: {أَنْ يَقُولُوا} بتقدير باء السببية، و الفتنة الامتحان و ربما تطلق على المصيبة و العذاب، و الأوفق للسياق هو المعنى الأول، و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم و لا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرد قولهم: آمنا؟
و قيل: المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية و لا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الإيمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الإنسان مدى حياته؟ و لا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ} اللامان للقسم، و قوله: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حال من الناس في قوله: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ} أو من ضمير الجمع في قوله {لاَ يُفْتَنُونَ} و على الأول فالإنكار و التوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الإلهية على الفتنة و الامتحان و على الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوما و لا يفتن آخرين، و لعل الوجه الأول أوفق للسياق.
فالظاهر أن المراد بقوله: {وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أن الفتنة و الامتحان سنة جارية لنا و قد جرت في الذين من قبلهم و هي جارية فيهم و لن تجد لسنة الله تبديلا.
و قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا} إلخ تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإن السعادة التي تترتب على الإيمان المدعو إليه و كذا الثواب إنما تترتب على حقيقة الإيمان الذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجردة.
و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلي الذي هو نفس الأمر الخارجي فإن الأمور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أما علمه تعالى الذاتي فلا يتوقف على الامتحان البتة.
و المعنى: أ حسبوا أن يتركوا و لا يفتنوا بمجرد دعوى الإيمان و إظهاره و الحال أن الفتنة سنتنا و قد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب أولئك الملازم لاستقرار الإيمان في قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب أولئك.
و الالتفات في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ} إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية المهابة و الظاهر أنه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل و ذلك أن الدعوة إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمى بالله الذي منه يبدأ كل شيء و به يقوم كل شيء و إليه ينتهي كل شيء بحقيقته فمن الواجب أن يتميز عنده حقيقة الإيمان من
دعواه الخالية و يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة و لذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمن إلى قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ}.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أم منقطعة، و المراد بقوله: {اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} المشركون الذين كانوا يفتنون المؤمنين و يصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ} هم الذين قالوا: آمنا و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفا من الفتنة و التعذيب.
و المراد بقوله: {أَنْ يَسْبِقُونَا} الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدهم عن سبيل الله - على ما يعطيه السياق.
و قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صد فإن ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صد لهم عن سبيل السعادة و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
و قيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين و هم المراد بقوله: {اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} و المراد بالسيئات المعاصي التي يقترفونها غير الشرك، و أنت خبير بأن السياق لا يساعد عليه.
و قيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك و اقتراف سائر المعاصي فالآية عامة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.
و فيه أن اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر و اعتبارها مستقلة في نفسها أمر آخر و الذي يقتضيه الاعتبار الأول و هو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، و أما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم و لا ضير فيه على ذلك التقدير.
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} إلى تمام ثلاث آيات. لما وبخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأي فتنة و إيذاء من المشركين و وبخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و صدهم عن سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزا له فيما شاء و خطأ الفريقين فيما ظنوا.
رجع إلى بيان الحق الذي لا معدل عنه و الواجب الذي لا مخلص منه، فبين في
هذه الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقع الرجوع إليه و لقائه فليعلم أنه آت لا محالة و أن الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله فليأخذ حذره و ليؤمن حق الإيمان الذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حق جهاده، و ليعلم أن الذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره من العالمين و ليعلم أنه إن آمن و عمل صالحا فإن الله سيكفر عنه سيئاته و يجزيه بأحسن أعماله، و العلمان الأخيران يؤكدان العلم الأول و يستوجبان لزومه الإيمان و صبره على الفتن و المحن في جنب الله.
فقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنه إنما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا المعاد لغا الدين من أصله، فالمراد بقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبب.
و المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفا لا حجاب بينه و بين ربه كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}.
و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث، و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت و الحساب و الجزاء، و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب و قيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.
و هذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها إلا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.
و قوله: {فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} الأجل هو الغاية التي ينتهي إليها زمان الدين و نحوه و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأول.
و {أَجَلَ اَللَّهِ} هو الغاية التي عينها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد أكد القول تأكيدا بالغا، و لازم تحتم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حق الإيمان و الصبر عليه عند الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله: {وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} إذ هو تعالى لما كان سميعا لأقوالهم عليما بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلا عن ظهر القلب و مع الصبر على كل فتنة و محنة.
و من هنا يظهر أن ذيل الآية: {فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} إلخ، من قبيل وضع
السبب موضع المسبب كما كان صدرها: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} أيضا كذلك، و الأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيما صابرا عليه مجاهدا في ربه.
و قوله: {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ} المجاهدة و الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه حتى لا يهمهم و يلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه.
فقوله: {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} تأكيد لحجة الآية السابقة، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ} تعليل لما قبله.
و الالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مر من الالتفات في قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا} (الآية).
و قوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} بيان لعاقبة إيمانهم حق الإيمان المقارن للجهاد و يتبين به أن نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنه عطية من الله و فضل.
و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان و العمل الصالح فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: {وَ مَنْ جَاهَدَ} من قوله في هذه الآية: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ}.
و تكفير السيئات هو العفو عنها و الأصل في معنى الكفر هو الستر، و قيل: تكفير السيئات هو تبديل كفرهم السابق إيمانا و معاصيهم السابقة طاعات، و ليس بذاك.
و جزاؤهم بأحسن الذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة و خسة فيعاملون في كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة و إن اشتملت على بعض جهات الرداءة و هكذا.
قوله تعالى: {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} إلخ، التوصية العهد و هو هاهنا الأمر، و قوله: {حُسْناً}
مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف و التقدير: و وصينا الإنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما و هذا مثل قوله: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي قولا حسنا أو ذا حسن، و يمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، و ربما وجه بتوجيهات أخر.
و قوله: {وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} إلخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهي للإنسان بنهيه عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك و الوجه في ذلك أن التوصية في معنى الأمر فكأنه قيل: و قلنا للإنسان أحسن إلى والديك و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.
و لم يقل: و أن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك إلخ، لما في الخطاب من الصراحة و ارتفاع الإبهام و لذلك قال أيضا: {لِتُشْرِكَ بِي} بضمير المتكلم وحده فافهمه و يئول معنى الجملة إلى أنا نهيناه عن الشرك طاعة لهما و رفعنا عنه كل إبهام.
و في قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل و عبادة ما ليس له به علم افتراء على الله و قد نهى الله عن اتباع غير العلم قال: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: إسراء: ٣٨ و بهذه المناسبة ذيلها بقوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي سأعلمكم ما معنى أعمالكم و منها عبادتكم الأصنام و شرككم بالله سبحانه.
و معنى الآية: و عهدنا إلى الإنسان في والديه عهدا حسنا و أمرناه أن أحسن إلى والديك و إن بذلا جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنه اتباع ما ليس لك به علم.
و في الآية كما تقدمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم رجع عن إيمانه بمجاهدة من والديه.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصَّالِحِينَ} معنى الآية ظاهر، و في وقوعها بعد الآية السابقة و في سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى و تطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما و فارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما و هجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فإنا سنرزقه خيرا منهما و ندخله بإيمانه و عمله الصالح في الصالحين و هم العباد
المنعمون في الجنة، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلىَ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي}: الفجر: ٣٠.
و أما إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.
قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، لما كان إيمان هؤلاء مقيدا بالعافية و السلامة مغيى بالإيذاء و الابتلاء لم يعده إيمانا بقول مطلق و لم يقل: و من الناس من يؤمن بالله بل قال: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} فالآية بوجه نظيرة قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلىَ وَجْهِهِ}: الحج: ١١.
و قوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ} أي أوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أن في للسببية كما قيل و فيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى أي جعل الإيمان بالله ظرفا للإيذاء و لمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أن الإيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه و ينطبق على معنى السببية و الغرضية و نظيره قوله: {يَا حَسْرَتىَ عَلىَ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللَّهِ}: الزمر: ٥٦ و قوله: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}: العنكبوت: ٦٩.
و قيل: معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله و كأنه مبني على تقدير مضاف محذوف.
و فيه أن العناية الكلامية مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإيمان بالله و هو قولهم: ربنا الله، و الإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل التي هي الدين قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي}: آل عمران: ١٩٥ و من الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} حيث جعل الجهاد في الله طريقا إلى الاهتداء إلى سبله و لو كانا بمعنى واحد لم يصح ذلك.
و قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ} أي نزل العذاب و الإيذاء الذي يصيبه من الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن الإيمان إلى الشرك خوفا و جزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت و لا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم.
و قوله: {وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج و يسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة و العسرة من قبل أعداء الله ليقولن هؤلاء إنا كنا معكم فلنا منه نصيب.
و {لَيَقُولُنَّ} بضم اللام صيغة جمع، و الضمير راجع إلى {مِنَ} باعتبار المعنى كما أن ضمائر الإفراد الأخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.
و قوله: {أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ} استفهام إنكاري فيه رد دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور و لا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان.
و المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من أولي العقل إنسانا كان أو غيره كالجن و الملك، و لو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور و غيرهم كان المراد بالصدور البواطن و هو بعيد.
قوله تعالى: {وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ} من تتمة الكلام في الآية السابقة و المحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين و المنافقين بالفتنة و الامتحان.
و في الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين و ذلك لكون إيمانهم مقيدا بعدم الفتنة و هم يظهرونه مطلقا غير مقيد و الفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها.
و قد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية و ذلك أن الآية تحدث عن النفاق و النفاق إنما ظهر بالمدينة بعد الهجرة و أما مكة قبل الهجرة فلم يكن للإسلام فيها شوكة و لا للمسلمين فيها إلا الذلة و الإهانة و الشدة و الفتنة و لا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في المجتمع العربي يومئذ و خاصة عند قريش عزة و لا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان و هو ينوي الكفر.
على أن قوله في الآية: {وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} يخبر عن النصر و هو الفتح و الغنيمة و قد كان ذلك بالمدينة دون مكة.
و نظير الآيتين قوله السابق: {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} ضرورة إن الجهاد و القتال إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.
و هو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكا للنفاق و هو قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} حتى إذا أوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في
غيرها و هو ظاهر بل الذي ذكر من الإيذاء و الفتنة إنما كان بمكة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة.
و أما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح و الغنيمة فله مصاديق أخر يفرج الله بها عن عباده. على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} يدل على تحقق الإيذاء و الفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجيء النصر حيث عبر عنه بأن الشرطية الدالة على إمكان الوقوع دون تحققه.
و أما قوله تعالى: {وَ مَنْ جَاهَدَ} إلخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شيء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنية.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، و بالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة و قولهم لهم: {اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} نوع استمالة لهم و تطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك و اتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، و إن كانت فهم حاملون لها عنهم، و لذلك لم يقولوا: و لنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.
فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فإنا نحملها عنكم و نحمل كل ما يتفرع عليه من الخطايا أو أنا نحمل عنكم خطاياكم عامة و من جملتها هذه الخطيئة.
و قوله: {وَ مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} رد لقولهم: {وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} و هو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم و رجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين و انتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله و رضى فهو الذي يؤاخذهم به و يجازيهم و هو سبحانه يصرح و يقول: {مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} و قد عمم النفي لكل شيء من خطاياهم.
و قوله: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} تكذيب لهم لما أن قولهم: {وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} يشتمل على دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها و أن الله يجيز لهم ذلك.
قوله تعالى: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من تمام القول السابق في ردهم و هو في محل الاستدراك أي إنهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا و أحمالا من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى أثقال أنفسهم و أحمالها لما أنهم ضالون مضلون.
فالآية في معنى قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: النحل: ٢٥.
و قوله: {وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فشركهم افتراء على الله سبحانه و كذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه و أن الله يجيز لهم ذلك.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن الضريس و النحاس و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس و أيضا ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت بمكة.
أقول: و قد نقل في روح المعاني عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية.
و في المجمع: قيل نزلت الآية يعني قوله تعالى: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} في عمار بن ياسر و كان يعذب في الله. عن ابن جريج.
و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} (الآية)، قال: أنزلت في أناس بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار و لا إسلام حتى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا و كذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
و فيه أخرج ابن جرير عن قتادة: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله {وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ} قال هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، و هذه الآيات العشر مدنية.
و فيه أخرج ابن جرير عن الضحاك : في قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا و أصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر و الشرك مخافة من يؤذيهم و جعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.
و فيه أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أمي: لا آكل طعاما و لا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام و الشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} (الآية).
و في المجمع قال الكلبي: نزل قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ} (الآية) في عياش بن أبي ربيعة المخزومي و ذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنا حتى يرجع إليها فلما رأى ابناها أبو جهل و الحارث ابنا هشام و هما أخوا عياش لأمه جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه و ذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت و شربت .
فلما خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كتافا و جلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برىء من دين محمد جزعا من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان الحارث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه .
فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون إلى المدينة و هاجر عياش و حسن إسلامه و أسلم الحارث بن هشام و هاجر إلى المدينة و بايع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على الإسلام و لم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إن الرجل قد أسلم فاسترجع عياش و بكى ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره بذلك فنزل: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} (الآية).
أقول: و أنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات و قد تقدم أن الذي يعطيه سياق آيات السورة أنها مكية محضة.
و في الكافي عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ}. ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: «يفتنون كما يفتن الذهب. ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب.
و في المجمع قيل: إن معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و فيه في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}: و في تفسير الكلبي: أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض.
فنزل جبرئيل و لم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): يا جبرئيل ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام و عاد إلى الدعاء فنزل: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتعين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
و في نهج البلاغة: و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها؟ فقال (عليه السلام): لما أنزل الله سبحانه قوله: {الم أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي.
و في التوحيد عن علي (عليه السلام) في حديث طويل: و قد سأله رجل عن آيات من القرآن و قوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} يعني بقوله: من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث.
أقول: مراده (عليه السلام) نفي الرؤية الحسية و التفسير بلازم المعنى.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ} (الآية) قال: من أحب لقاء الله جاءه الأجل {وَ مَنْ جَاهَدَ} نفسه عن اللذات و الشهوات و المعاصي {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ}. {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} قال: هما اللذان ولداه.
و فيه في قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإن الذي تخافون أنتم ليس بشيء فإن كان حقا نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عز و جل مرتين: مرة بذنوبهم و مرة بذنوب غيرهم.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر عن ابن الحنفية قال: كان أبو جهل و صناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر و يحرم الزنا و يحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}.
و فيه أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأمسك القوم ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من سن خيرا فاستن به كان له أجره و من أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، و من سن شرا فاستن به كان عليه وزره و من أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و في بعضها تفسير قوله: {وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} بذلك.
[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ١٤ الی ٤٠]
{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ ١٤ فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ١٥ وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ
وَ اِتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١٦ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللَّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ١٧ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ١٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ١٩ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللَّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢٠يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ٢١ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ ٢٢ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٣ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٢٤ وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ٢٥ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٦ وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ
وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ ٢٧ وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ ٢٨ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اِئْتِنَا بِعَذَابِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٢٩ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ ٣٠وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ٣١ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٣٢ وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ ٣٣ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلىَ أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ٣٤ وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٣٥ وَ إِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٣٦ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٣٧ وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ
وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ٣٨ وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسىَ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ ٣٩ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٠}
(بيان)
لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة إلهية لا معدل عنها و قد جرت في الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين و أممهم و هم: نوح و إبراهيم و لوط و شعيب و هود و صالح و موسى (عليه السلام) فتنهم الله و امتحنهم فنجا منهم من نجا و هلك، منهم من هلك و قد ذكر سبحانه في الثلاثة الأول النجاة و الهلاك معا و في الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفَانُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ}، في المجمع: الطوفان الماء الكثير الغامر لأنه يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى. و قيل: هو كل ما يطوف بالشيء على كثرة و شدة من السيل و الريح و الظلام و الغالب استعماله في طوفان الماء.
و التعبير بألف سنة إلا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة و خمسين سنة للتكثير و الآية ظاهرة في أن الألف إلا خمسين مدة دعوة نوح (عليه السلام) ما بين بعثته إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره (عليه السلام) و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قصصه (عليه السلام) في تفسير سورة هود، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَ أَصْحَابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي فأنجينا
نوحا و أصحاب السفينة الراكبين معه فيها و هم أهله و عدة قليلة من المؤمنين به و لم يكونوا ظالمين.
و قوله: {وَ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة و أما رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، و العالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم.
قوله تعالى: {وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} معطوف على قوله: {نُوحاً} أي و أرسلنا إبراهيم إلى قومه.
و قوله لقومه: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ} دعوة إلى التوحيد و إنذار بقرينة الآيات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.
على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه و إنما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى لا يمكن أن يعبد إلا من طريق الأسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة و الجن و لو عبد لكان معبودا وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} تفيد الدعوة إليه وحده و إن لم تقيد بأداة الحصر.
قوله تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً} إلى آخر الآية، الأوثان جمع وثن بفتحتين و هو الصنم، و الإفك الأمر المصروف عن وجهه قولا أو فعلا.
و قوله: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً} بيان لبطلان عبادة الأوثان و يظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقة و بالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى {أَوْثَاناً} منكر للدلالة على وهن أمرها و كون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلا أوثانا من أمرها كذا و كذا.
و لذا عقب الجملة بقوله: {وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي و تفتعلون كذبا بتسميتها آلهة و عبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الأوثان.
و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة و عبادتها و محصله أن هؤلاء الذين تعبدون من دون الله و هم الأوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة و الجن إنما تعبدونهم لجلب النفع و هو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم و يدروا عليكم الرزق لكنهم ليسوا يملكون لكم رزقا
فإن الله هو الذي يملك رزقكم الذي هو السبب الممد لبقائكم لأنه الذي خلقكم و خلق رزقكم فجعله ممدا لبقائكم و الملك تابع للخلق و الإيجاد.
و لذلك عقبه بقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللَّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ} أي فاطلبوا الرزق من عند الله لأنه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله و اشكروا له على ما رزقكم و أنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.
و قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في مقام التعليل لقوله: {وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ} و لذا جيء بالفصل من غير عطف، و في هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع و الحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصل لأن الرزق و ما يجري مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات و القربات و لا يزيد و لا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان و الكفر و العبادة و الشكر و خلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة و الشكر دون ابتغاء الرزق.
قوله تعالى: {وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ} الظاهر أنه من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام)، و ذكر بعضهم أنه خطاب منه تعالى لمشركي قريش و لا يخلو من بعد.
و معنى الشرط و الجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنة الجارية في الأمم المشركة و قد كذب من قبلكم و أنتم منهم و في آخرهم و ليس علي بما أنا رسول إلا البلاغ المبين.
و يمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الأمم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله و لم يكونوا بمعجزين في الأرض و لا في السماء و لم يكن لهم من دون الله من ولي و لا نصير، فكذلكم أنتم، و قوله: {وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ} يناسب الوجهين جميعا.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة على المعاد و ترفع استبعادهم له متعلقه بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
فقوله: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا} إلخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق و لاحق و المراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، و قوله: {كَيْفَ يُبْدِئُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} في موضع المفعول لقوله: {يَرَوْا} بعطف {يُعِيدُهُ} على موضع {يُبْدِئُ} خلافا لمن يرى عطفه على {أَ وَ لَمْ يَرَوْا} و الاستفهام للتوبيخ.
و المعنى: أ و لم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة أي إنهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن، و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الإبداء و فيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء و إذ كانت القدرة المطلقة تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء و هي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار و إنزال للسائرين إليه في دار القرار.
و قول بعضهم: إن المراد بالإبداء ثم الإعادة إنشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم بعد إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى دون مثله.
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللَّهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الآية) إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفية بدء الخلق و إنشائهم على اختلاف طبائعهم و تفاوت ألوانهم و أشكالهم من غير مثال سابق و حصر أو تحديد في عدتهم و عدتهم ففيه دلالة على عدم التحديد في القدرة الإلهية فهو ينشئ النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى فالآية في معنى قوله: {وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولىَ فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ}: الواقعة: ٦٢.
قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} من مقول القول، و الظاهر أنه بيان لقوله: {يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ} و قلب الشيء تحويله عن وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه و جعل باطنه ظاهره و هذا المعنى الأخير يناسب قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ}: الطارق: ٩.
و فسروا القلب بالرد قال في المجمع: و القلب هو الرجوع و الرد فمعناه أنكم تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع و الضر إلا الله. انتهى و هذا
معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله و الرد إليه و هو وقوفهم موقفا تنقطع فيه عنهم الأسباب و لا يحكم فيه إلا الله سبحانه فالآية في معنى قوله: {وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: يونس: ٣٠.
و محصل المعنى: أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء و هم المجرمون و يرحم من يشاء و هم غيرهم و إليه تردون فلا يحكم فيكم غيره.
قوله تعالى: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ} من مقول القول و توصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ.
فقوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ} أي أنكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه و الخروج من حكمه و سلطانه بالفرار و الخروج من ملكه و النفوذ من أقطار الأرض و السماء، فالآية تجري مجرى قوله: {يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا}: الرحمن: ٣٣.
و قيل: الكلام في معنى «من في السماء» فحذف من لدلالة الكلام عليه و التقدير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا من في السماء بمعجزين في السماء.
و هو بعيد و دلالة الكلام عليه غير مسلمة و لو بني عليه لكفى فيه أن الخطاب للأعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن و الملك و المعنى: و ما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض و لا في السماء.
و قوله: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ} أي ليس لكم اليوم ولي من دون الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله و لا نصير ينصركم فيقوي جانبكم و يتمم ناقص قوتكم فيظهركم عليه سبحانه.
فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله و تعجيزهم له بالخروج و الامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك و هو قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} إلخ و لا غيرهم يستقل بذلك و هو قوله: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} و لا المجموع منهم و من غيرهم يعجزه تعالى و هو قوله: {وَ لاَ نَصِيرٍ}.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ لِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خطاب مصروف إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خارج من مقول القول السابق {قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ و المطلوب فيه أن ينبئه (صلى الله عليه وآله و سلم) صريح الحق فيمن يشقى و يهلك يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله أولا: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}.
و من الدليل عليه الخطاب في {أُولَئِكَ} مرتين و لو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقيل: أولئكم».
و يؤيد ذلك أيضا قوله: {مِنْ رَحْمَتِي} فإن الانتقال من مثل قولنا: أولئك يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} يفيد التصديق و الاعتراف مضافا إلى أصل الإخبار فيفيد صريح التعيين لأهل العذاب، و يؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة و ما في السياق من التأكيد.
و كان في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذا الإخبار تقوية لنفسه الشريفة و عزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله و هم لا يؤمنون.
و المراد بآيات الله على ما يفيده إطلاق اللفظ جميع الأدلة الدالة على الوحدانية و النبوة و المعاد من الآيات الكونية و المعجزات النبوية و منها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء و هو المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاص بعد العام و الوجه فيه الإشارة إلى أهمية الإيمان بالمعاد إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله و هو ظاهر.
و المراد بالرحمة ما يقابل العذاب و يلازم الجنة و قد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}: الجاثية: ٣٠و قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}: الإنسان: ٣١.
و المراد بإسناد اليأس إليهم إما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة آيسون من السعادة المؤبدة و الجنة الخالدة و إما أنه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر.
و المعنى: و الذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق و خاصة المعاد أولئك يئسوا من الرحمة و الجنة و أولئك لهم عذاب أليم.
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ} إلخ، تفريع على قوله في صدر القصة: {وَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ}.
و ظاهر قوله: {قَالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم و المراد بالقتل القتل بالسيف و نحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه و إن اتفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}: الأنبياء: ٦٨ و يمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على إحراقه.
و قوله: {فَأَنْجَاهُ اَللَّهُ مِنَ اَلنَّارِ} فيه حذف و إيجاز و تقديره ثم اتفقوا على إحراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، و قد فصلت القصة في مواضع من كلامه تعالى.
قوله تعالى: {وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم مما يستنون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه و يحترمون جانبه كالآباء للأبناء و الرؤساء المعظمين لأتباعهم و الأصدقاء لأصدقائهم و بالأخرة الأمة لأفرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها.
فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار الموت الاجتماعية يرى العامة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده و الاستنان به مثله ثم هذا الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية و يقيم الاتحاد و الاتفاق على ساقه.
هذه حال العامة منهم و أما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة و ما هو بحجة كقولهم إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل فلا يتعلق به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة و الجن ليقربونا إليه زلفى و يشفعوا لنا عنده.
فقوله: {إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} خطاب منه (عليه السلام) لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية، و قد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ
مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}: الأنبياء: ٥٣ {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}: الشعراء: ٧٤.
و من هنا يظهر أن قوله: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير لام التعليل و المودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان، و أن يكون مفعولا له، و المودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان، لكن ذيل الآية إنما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر.
ثم عقب (عليه السلام) بقوله: {إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ} إلخ، بقوله: {ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة و هو باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا المتاع القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم و أكبر الكبائر الموبقة و اجتمعوا عليه و توافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم و يلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من بعض و ينكره بعضهم على بعض.
و المراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم و تبريهم منهم، كما قال تعالى: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}: مريم: ٨٢ و قال: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}: فاطر: ١٤ و في معناه: تبري المتبوعين من تابعيهم، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ}: البقرة: ١٦٦ و المراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}: الأعراف: ٣٨.
ثم عقب ذلك بقوله: {وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} إشارة إلى لحوق الوبال و وقوع الجزاء و هو النار التي فيها الهلاك المؤبد و لا ناصر ينصرهم و يدفع عنهم العذاب فهم إنما توسلوا إلى المودة ليتناصروا و يتعاونوا و يتعاضدوا في الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة و مضادة و أورثت تبريا و خذلانا.
قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} أي آمن به لوط و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء و المعنى واحد.
و قوله: {وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي} قيل الضمير راجع إلى لوط، و قيل: راجع إلى إبراهيم و يؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}: الصافات: ٩٩.
و كأن المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه و خروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون و لا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقلي.
و قوله: {إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه.
قوله تعالى: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ} معناه ظاهر.
قوله تعالى: {وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} الأجر هو الجزاء الذي يقابل العمل و يعود إلى عامله و الفرق بينه و بين الأجرة أن الأجرة تختص بالجزاء الدنيوي و الأجر يعم الدنيا و الآخرة، و الفرق بينه و بين الجزاء أن الأجر لا يقال إلا في الخير و النافع، و الجزاء يعم الخير و الشر و النافع و الضار.
و الغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب و درجات الولاية و منها الجنة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ}: يوسف: ٩٠و قوله: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ}: يوسف: ٥٦ إطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن.
فقوله: {وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا} يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي الحسن و الأنسب على هذا أن يكون {فِي اَلدُّنْيَا} متعلقا بالأجر لا بالإيتاء و ربما تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه (عليه السلام) في موضع آخر: {وَ آتَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ}: النحل: ١٢٢ فإن الظاهر أن المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة و إيتاؤها فعلية إعطائها دون تقديرها و كتابتها.
و يمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات
القرب في حقه (عليه السلام) و إيتاؤه ذلك في الدنيا و قد تقدم إحصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماته (عليه السلام) في قصصه من تفسير سورة الأنعام.
و قوله: {وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: {وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ}: البقرة: ١٣٠في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: {وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ} أي و أرسلنا لوطا أو و اذكر لوطا إذ قال لقومه، و قوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ} إخبار بداعي الاستعجاب و الإنكار، و المراد بالفاحشة إتيان الذكران.
و قوله: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ} استئناف يوضح معنى الفاحشة و يؤكده، و كأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من فاعل {لَتَأْتُونَ}.
قوله تعالى: {أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ} إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحري أن لا يصدقه سامع و لا يقبله ذو لب و لذا أكد بالنون و اللام، و هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط و بقطع السبيل إهمال طريق التناسل و إلغاؤها و هي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء و ترك نكاحهن، و بإتيانهم المنكر في ناديهم و النادي هو المجلس الذي يجتمعون فيه و لا يسمى نادية إلا إذا كان فيه أهله الإتيان بالفحشاء أو بمقدماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة.
و قيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم أصابه كان أولى به فيأخذون ماله و ينكحونه و يغرمونه ثلاثة دراهم و كان لهم قاض يقضي بذلك و قيل: بل كانوا يقطعون الطرق، و قد عرفت أن السياق يقضي بخلاف ذلك.
و قيل: المراد بإتيان المنكر في النادي أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات و القبائح مثل الشتم و السخف و القمار و خذف الأحجار على من مر بهم و ضرب المعازف و المزامير و كشف العورات و اللواط و نحو ذلك و قد عرفت ما يقتضيه السياق.
و قوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اِئْتِنَا بِعَذَابِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} استهزاء و سخرية منهم، و يظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله و قد قال الله في قصته في موضع آخر: {وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}: القمر: ٣٦.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ} سؤال للفتح و دعاء منه عليهم، و قد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض و يقطع النسل و يهدد الإنسانية بالفناء.
قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرىَ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} إجمال قصة هلاك قوم لوط، و قد كان ذلك برسل من الملائكة أرسلهم الله أولا إلى إبراهيم (عليه السلام) فبشروه و بشروا امرأته بإسحاق و يعقوب ثم أخبروه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط، و القصة مفصلة في سورة هود و غيرها.
و قوله: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ} أي قالوا لإبراهيم، و في الإتيان بلفظ الإشارة القريبة هذه القرية دلالة على قربها من الأرض التي كان إبراهيم (عليه السلام) نازلا بها، و هي الأرض المقدسة.
و قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} تعليل لإهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت فيهم رذيلة الظلم، و قد كان مقتضى الظاهر أن يقال: إنهم كانوا ظالمين فوضع المظهر موضع المضمر للإشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك و ليس من مطلق الظلم الذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: إن أهلها بما أنهم أهلها ظالمون.
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} ظاهر السياق أنه (عليه السلام) كان يريد بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا و إهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب و هم أهله إلا امرأته.
لكنه (عليه السلام) لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا و هو نبي مرسل، و إن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته و لا أنه يخوفه و يزعره و يفزعه بقهره عليهم بل كان (عليه السلام) يريد بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه و إخراجه من بين أهل القرية و معه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْرىَ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}: هود: ٧٦ فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه.
فظاهر كلامه (عليه السلام) في الآية التي نحن فيها الدفاع عن لوط و على ذلك جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره و أجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها و عالمون بأن فيها لوطا و معه أهله ممن لا ينبغي أن يعذب لكنهم سينجونه و أهله إلا امرأته، لكن الذي أراده إبراهيم (عليه السلام) بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فأجيب بأنه من الأمر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود.
و للقوم في قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}، و قوله: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: {وَ لَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ} إلى آخر الآية، ضميرا الجمع في {سِيءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ} للرسل و الباء للسببية أي أخذته المساءة و هي سوء الحال بسببهم و ضاقت طاقته بسببهم لكونهم في صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم إياهم بالسوء و ضعف لوط من أن يدفعهم عنهم و هم ضيف له نازلون بداره.
و قوله: {وَ قَالُوا لاَ تَخَفْ وَ لاَ تَحْزَنْ} أي لا خطر محتملا يهددك و لا مقطوعا يقع عليك فإن الخوف إنما هو في المكروه الممكن و الحزن في المكروه الواقع.
و قوله: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} أي الباقين في العذاب تعليل لنفي الخوف و الحزن.
قوله تعالى: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلىَ أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} بيان لما يشير إليه قوله: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ} من العذاب، و الرجز العذاب.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ضمير التأنيث للقرية
و الترك الإبقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتقوا الله و هي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب.
و هي اليوم مجهولة المحل لا أثر منها و ربما يقال: إن الماء غمرها بعد و هي بحر لوط، لكن الآية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن و أوضح منها قوله تعالى: {وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}: الحجر: ٧٦ و قوله: {وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ}: الصافات: ١٣٨.
قوله تعالى: {وَ إِلىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} يدعوهم إلى عبادة الله و هو التوحيد و إلى رجاء اليوم الآخر و هو الاعتقاد بالمعاد و أن لا يفسدوا في الأرض و كانت عمدة إفسادهم فيها على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر نقص الميزان و المكيال.
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الرجفة الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، و الجثم و الجثوم في المكان القعود فيه أو البروك على الأرض و هو كناية عن الموت و المعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم.
و قال في قصتهم في موضع آخر: {وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: هود: ٩٤ و يستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة و الرجفة.
قوله تعالى: {وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} إلى آخر الآية غير السياق تفننا فبدأ بذكر عاد و ثمود و كذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون و فرعون و هامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح و إبراهيم و لوط و شعيب. و قوله: {وَ عَاداً وَ ثَمُودَ} منصوبان بفعل مقدر تقديره و اذكر عادا و ثمود.
و قوله: {وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم و تأكيد تعلقهم بها و صده إياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التي هي سبيل الفطرة، و لذا قال بعضهم: إن المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة.
لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ}: البقرة: ٢١٣ أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و عاد و ثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على عبادة الله و دين التوحيد و هو دين الفطرة.
قوله تعالى: {وَ قَارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسىَ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانُوا سَابِقِينَ} السبق استعارة كنائية من الغلبة، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} إلى آخر الآية أي كل واحدة من الأمم المذكورين أخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} و الحاصب الحجارة و قيل: الريح التي ترمي بالحصى و على الأول فهم قوم لوط، و على الثاني قوم عاد {وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ اَلصَّيْحَةُ} و هم قوم ثمود و قوم شعيب {وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ} و هو قارون {وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} و هم قوم نوح و فرعون و هامان و قومهما.
ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة و ما انتهى إليه أمر تلك الأمم من الأخذ و العذاب فبين ببيان عام أن الذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل بظلم منهم لأنفسهم فقال: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي فيجازيهم الله على ظلمهم لأن الدار دار الفتنة و الامتحان و هي السنة الإلهية التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه و من ضل فعليها.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى: {وَ قَالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} يعني يتبرأ بعضكم من بعض الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى في التوحيد عن علي (عليه السلام) في حديث طويل يجيب فيه عما سئل عنه من تهافت الآيات و فيه: و الكفر في هذه الآية البراءة يقول: يتبرأ
بعضهم من بعض، و نظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} و قول إبراهيم خليل الرحمن: {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي تبرأنا».
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن الخذف۱ و هو قول الله: {وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ}.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن أم هاني بنت أبي طالب و لفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله: {وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ} قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل و يسخرون منهم.
و في الكافي بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط. فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ فقال جبرئيل: لا.
قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها ثلاثون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين. قال الحسن بن علي (عليه السلام): لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}.
[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٤١ الی ٥٥]
{مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٤١ إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٤٢
وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ ٤٣ خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ٤٤ اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ٤٥ وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ٤٦ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلْكَافِرُونَ ٤٧ وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ اَلْمُبْطِلُونَ ٤٨ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ ٤٩ وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ٥٠أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٥٢ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٣ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ٥٤ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٥٥}
(بيان)
تتضمن الآيات تذييلا لقصص أولئك الأمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادي ببطلانه و فساده خلق السماوات و الأرض و أنهم ليس لهم من دونه من ولي كما يذكره هذا الكتاب.
و من هنا ينتقل إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتلاوة هذا الكتاب الذي أوحي إليه و إقامة الصلاة و دعوة أهل الكتاب بقول لين و مجادلة حسناء و يجيب عن اقتراح المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بآيات غير القرآن و أن يعجلهم بالعذاب الذي ينذرهم به.
قوله تعالى: {مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى آخر الآية، العنكبوت معروف و يطلق على الواحد و الجمع و يذكر و يؤنث.
العناية في قوله: {مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا} إلخ، باتخاذ الأولياء من دون الله و لذا جيء بالموصول و الصلة كما أن العناية في قوله: {كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى اتخاذها البيت فيئول المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء كصفة العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، و هو الوصف الذي يدل عليه تنكير {بَيْتاً}.
و يكون قوله: {إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ} بيانا لصفة البيت الذي أخذته العنكبوت و لم يقل: إن أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة بمنزلة المثل السائر الذي لا يتغير.
و المعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء و هم آلهتهم الذين يتولونهم و يركنون
إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت إلا اسمه لا يدفع حرا و لا بردا و لا يكن شخصا و لا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم إلا الاسم فقط لا ينفعون و لا يضرون و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا.
و مورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الآلهة زعمهم أن لهم ولاية لأمرهم و تدبيرا لشأنهم من جلب الخير إليهم و دفع الشر عنهم و الشفاعة في حقهم.
و الآية - مضافا إلى إيفاء هذه النكتة - تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من الأمور و شأن من الشئون وليا من دون الله يركن إليه و يراه مستقلا في أثره الذي يرجوه منه و إن لم يعد من الأصنام إلا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول و الأئمة و المؤمنين كما قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ}: يوسف: ١٠٦.
و قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما اتخذوهم أولياء. كذا قيل.
قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} يمكن أن يكون {مَا} في {مَا يَدْعُونَ} موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية و {مِنْ} في {مِنْ شَيْءٍ} على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد و على الباقي للتبيين و أرجح الاحتمالات الأولان و أرجحهما أولهما.
و المعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي إن الذي يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل و زيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا.
و المعنى: على الأول أن الله يعلم الشيء الذي يدعون من دونه و لا يجهل ذلك فيكون كناية عن أن المثل الذي ضربه في محله، و ليس لأوليائهم من الولاية إلا اسمها.
و يؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شيء فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق و الإيجاد أحد، الحكيم الذي يأتي بالمتقن من الفعل و التدبير فلا يفوض تدبير خلقه إلى أحد، و هذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: {خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ}.
قوله تعالى: {وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ} يشير إلى أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الإشراف على حقيقة معانيها و لب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور و لا ينجمد على ظواهرها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: {وَ مَا يَعْقِلُهَا} دون أن يقول: و ما يؤمن بها أو ما في معناه.
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لا حظ له منها إلا تلقي ألفاظها و تصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها و سبر لأغوارها، و من سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة و يعقل حقائقها الأنيقة.
و فيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري و دعوى خالية من البينة بل متك على حجة برهانية و حقيقة حقة ثابتة و هي التي تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: {خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} المراد بكون خلق السماوات و الأرض بالحق نفي اللعب في خلقها، كما قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: الدخان: ٣٩.
فخلق السماوات و الأرض على نظام ثابت لا يتغير و سنة إلهية جارية لا تختلف و لا تتخلف، و الخلق و التدبير لا يختلفان حقيقة و لا ينفك أحدهما عن الآخر۱، و إذ كان الخلق و الصنع ينتهي إليه تعالى انتهاء ضروريا و لا محيص فالتدبير أيضا له و لا محيص و ما من شيء غيره تعالى إلا و هو مخلوقة القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و من المحال قيامه بشيء من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا
في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذي لا لعب فيه و الجد الذي لا هزل فيه.
فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب و تفويضه تعالى أمر التدبير إليه لعبا منه تعالى و تقدس إذ ليس إلا فرضا لا حقيقة له و وهما لا واقع له و هو معنى اللعب.
و منه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها إلا اسم الولاية من غير مسمى كما أن بيت العنكبوت كذلك.
و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية لهم و لغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم.
قوله تعالى: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} إلخ، لما ذكر إجمال قصص الأمم و ما انتهى إليه شركهم و ارتكابهم الفحشاء و المنكر من الشقاء اللازم و الخسران الدائم انتقل من ذلك مستأنفا للكلام إلى أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بتلاوة ما أوحي إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك و ارتكاب الفحشاء و المنكر بما فيه من الآيات البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق و تشتمل على القصص و العبر و المواعظ و التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه و من سمعه.
و شفعه بالأمر بإقامة الصلاة التي هي خير العمل و علل ذلك بقوله: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} و السياق يشهد أن المراد بهذا النهي ردع طبيعة العمل عن الفحشاء و المنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة.
فلطبيعة هذا التوجه العبادي إذ أتى به العبد و هو يكرره كل يوم خمس مرات و يداوم عليه و خاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به و يهتم فيه بما اهتم به أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الديني كقتل النفس عدوانا و أكل مال اليتيم ظلما و الزنا و اللواط، و عن كل ما ينكره الطبع السليم و الفطرة المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين و العمل.
و ذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الإيمان بوحدانيته تعالى و الرسالة و جزاء يوم الجزاء و أن يخاطب ربه بإخلاص العبادة و الاستعانة به و سؤال الهداية إلى صراطه
المستقيم متعوذا من غضبه و من الضلال، و يحمله ثانيا على أن يتوجه بروحه و بدنه إلى ساحة العظمة و الكبرياء و يذكر ربه بحمده و الثناء عليه و تسبيحه و تكبيره ثم السلام على نفسه و أترابه و جميع الصالحين من عباد الله.
مضافا إلى حمله إياه على التطهر من الحدث و الخبث في بدنه و الطهارة في لباسه و التحرز عن الغصب في لباسه و مكانه و استقبال بيت ربه فالإنسان لو داوم على صلاته مدة يسيرة و استعمل في إقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء و المنكر البتة، و لو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح بها لهذا الشأن و تتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة و لا روضك بأزيد مما تروضك به.
و قد استشكل على الآية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالي ارتكاب الكبائر و لا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر.
و لذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الآية بمعنى الدعاء و المراد الدعوة إلى أمر الله و المعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فإن ذلك يردع الناس عن الفحشاء و المنكر. و فيه أنه صرف الكلام عن ظاهره.
و ذكر آخرون أن الصلاة في الآية في معنى النكرة و المعنى أن بعض أنواع الصلاة أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و هو كذلك و ليس المراد الاستغراق حتى يرد الإشكال.
و ذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء و المنكر ما دامت قائمة و المصلي في صلاته كأنه قيل: إن المصلي ما دام مصليا في شغل من معصية الله بإتيان الفحشاء و المنكر.
و قال بعضهم: إن الآية على ظاهرها و الصلاة بمنزلة من ينهى و يقول: لا تفعل كذا و لا تقترف كذا لكن النهي لا يستوجب الانتهاء فليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه تعالى كما في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي اَلْقُرْبىَ وَ يَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ}: النحل: ٩٠و نهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء و ليس الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء و هو توهم باطل.
و عن بعضهم في دفع الإشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: {أَقِمِ
اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} و من كان ذاكرا لله تعالى منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه و كل من تراه يصلي و يأتي بالفحشاء و المنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه و منكره.
و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم و التعليل في الآية فإن الذي يعطيه السياق أن الأمر بإقامة الصلاة إنما علل بقوله: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث إقامته صفة روحية في الإنسان تكون رادعة له عن الفحشاء و المنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء و المنكر و تتطهر عن قذارة الذنوب و الآثام.
فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو الاقتضاء لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، و لا أنها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، و لا أن المراد هو التوسل إلى تلقي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، و لا أن المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء و المنكر كما في الجواب الخامس.
فالحق في الجواب أن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي إلى الله سبحانه و هو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب و العلية التامة فربما تخلف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر و تقربه من الغفلة و الانصراف عن حاق الذكر فكلما قوي الذكر و كمل الحضور و الخشوع و تمحض الإخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء و المنكر و كلما ضعف ضعف الأثر.
و أنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالإسلام من الناس و هو تارك الصلاة وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و عامة الواجبات الدينية و لا يفرق بين طاهر و نجس و حلال و حرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شيء ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعا عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه و على هذا القياس.
و قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره. و تارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر. انتهى.
و الظاهر أن الأصل في معناه هو المعنى الأول و تسمية اللفظ ذكرا إنما هو لاشتماله على المعنى القلبي و الذكر القلبي بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتب على سببه و الغاية المقصودة من الفعل.
و الصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الأذكار القولية من تهليل و تحميد و تنزيه و هي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله سبحانه كما قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اَللَّهِ}: الجمعة: ٩ و هي باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذي الغاية يشير إليه قوله تعالى: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي}: طه: ١٤.
و الذكر الذي هو غاية مترتبة على الصلاة أعني الذكر القلبي بمعنى استحضار المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته نسيانا أو إدامة استحضاره، أفضل عمل يتصور صدوره عن الإنسان و أعلاه كعبا و أعظمه قدرا و أثرا فإنه السعادة الأخيرة التي هيئت للإنسان و مفتاح كل خير.
ثم إن الظاهر من سياق قوله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} إن قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} متصل به مبين لأثر آخر للصلاة و هو أكبر مما بين قبله، فيقع قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} موقع الإضراب و الترقي و يكون المراد الذكر القلبي الذي يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذي الغاية فكأنه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء و المنكر بل الذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهي عن الفحشاء و المنكر لأنه أعظم ما يناله الإنسان من الخير و هو مفتاح كل خير و النهي عن الفحشاء و المنكر بعض الخير.
و من المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة.
و الجملة أيضا واقعة موقع الإضراب، و المعنى: بل الذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر الله أو نفس الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الذي هو النهي عن الفحشاء و المنكر لأن النهي أثر من آثارها الحسنة و {لَذِكْرُ اَللَّهِ} على الاحتمالين جميعا من المصدر المضاف إلى مفعوله و المفضل عليه لقوله: {أَكْبَرُ} هو النهي عن الفحشاء و المنكر.
و لهم في معنى الذكر و كون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر و كون المفضل عليه خاصا أو عاما أقوال أخر.
فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى و ذلك أن الله تعالى يذكر من ذكره لقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}: البقرة: ١٥٢ و قيل: المعنى: ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل شيء.
و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، و قيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات و قيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما أكبر من زجر الصلاة و ردعها، و قيل: إن قوله: {أَكْبَرُ} معرى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى مفضل عليه كقوله: {مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ}.
فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها إيثارا للاختصار، و التدبر في الآية يكفي مئونة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى.
و قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي ما تفعلونه من خير أو شر فعليكم أن تراقبوه و لا تغفلوا عنه ففيه حث و تحريض على المراقبة و خاصة على القول الأول.
قوله تعالى: {وَ لاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} لما أمر في قوله: {اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} إلخ، بالتبليغ و الدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب و هم على ما يقتضيه الإطلاق اليهود و النصارى و يلحق بهم المجوس و الصابئون إلا بالمجادلة التي هي أحسن المجادلة.
و المجادلة إنما تحسن إذا لم تتضمن إغلاظا و طعنا و إهانة، فمن حسنها أن تقارن
رفقا و لينا في القول لا يتأذى به الخصم و أن يقترب المجادل من خصمه و يدنو منه حتى يتفقا و يتعاضدا لإظهار الحق من غير لجاج و عناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام و الاقتراب بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن.
و لهذا لما نهى عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم، فإن المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق و اللين و الاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة و هوان للمجادل و يعتبره تمويها و احتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن.
و لهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم و بناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه و يتعاضدان على ظهور الحق فقال: {وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلْكَافِرُونَ} أي على تلك الصفة و هي الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله أنزلنا إليك القرآن.
و قيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى و عيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب و هو القرآن.
فقوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ} إلخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان القرآن نازلا في الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الإيمان بالله و تصديق كتبه و رسله، و من هؤلاء و هم المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا و لا ينكرها من أهل الكتاب و هؤلاء المشركين إلا الكافرون و هم الساترون للحق بالباطل.
و قد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين و المشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب و هو بعيد، و مثله في البعد إرجاع الضمير في «يؤمن به» إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في قوله: {وَ مِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} نوع استقلال لمن آمن به من المشركين.
قوله تعالى: {وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ اَلْمُبْطِلُونَ} التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط و المراد به
في الآية الثاني بقرينة المقام، و الخط الكتابة، و المبطلون جمع مبطل و هو الذي يأتي بالباطل من القول، و يقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعي بطلانه، و الأنسب في الآية المعنى الثاني و إن جاز أن يراد المعنى الأول.
و ظاهر التعبير في قوله: {وَ مَا كُنْتَ تَتْلُوا} إلخ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو و تخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ}: يونس: ١٦.
و قيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو و تخط من قبله و الوجه الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة و قد أقامها لتثبيت حقية القرآن و نزوله من عنده.
و تقييد قوله: {وَ لاَ تَخُطُّهُ} بقوله: {بِيَمِينِكَ} نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل: رأيته بعيني و سمعته بأذني.
و المعنى: و ما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا و لا كان من عادتك أن تخط كتابا و تكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك أميا و لو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم تحسن القراءة و الكتابة و استمرت على ذلك و عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم و معاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله تعالى و ليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين و نقلته من أقاصيصهم و غيرهم حتى يرتاب المبطلون و يعتذروا به.
قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ} إضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) التلاوة و الخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله: {بَلْ هُوَ} أي القرآن {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ}.
و قوله: {وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ اَلظَّالِمُونَ} المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لآيات الله بتكذيبها و الاستكبار عن قبولها عنادا و تعنتا.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} لما ذكر الكتاب و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتلوه و يدعوهم إليه به و أن منهم
من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و هم الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية و الآيتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الذي هو آية النبوة و اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بآيات غيره و الجواب عنه.
فقوله: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية و زعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة إلهية غيبية يقوى على كل ما يريد، و في قولهم: لو لا أنزل عليه، دون أن يقولوا: لو لا يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ}: الحجر: ٧.
و قوله: {قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ} جواب عن زعمهم أن من يدعي الرسالة يدعي قوة غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد و كيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شيء إلا أن يشاء الله ثم زاده بيانا بقصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الإنذار فحسب بقوله: {إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر الآية توطئة و تمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، و الاستفهام للإنكار و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك و هو يتلى عليهم فيسمعونه و يعرفون مكانته من الإعجاز و هو مملو رحمة و تذكرة للمؤمنين.
قوله تعالى: {قُلْ كَفىَ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً} إلقاء جواب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليجيبهم به و هو أن الله سبحانه شهيد بيني و بينكم فيما نتخاصم فيه و هو أمر الرسالة فإنه سبحانه يشهد في كلامه الذي أنزله علي برسالتي و هو تعالى يعلم ما في السماوات و الأرض من غير أن يجهل شيئا و كفى بشهادته لي دليلا على دعواي.
و ليس لهم أن يقولوا إنه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال الآيات و منه يعلم أن قوله: {قُلْ كَفىَ بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً} ليس دعوى مجردة أو كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالي و حجة قاطعة على ما عرفت.
و قوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ} قصر الخسران فيهم لعدم إيمانهم بالله بالكفر بكتابه الذي فيه شهادته على الرسالة و هم بكفرهم بالله
الحق يؤمنون بالباطل و لذلك خسروا في إيمانهم.
قوله تعالى: {وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَوْ لاَ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و قد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: {وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلىَ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}: هود: ٨.
و المراد بالأجل المسمى هو الذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ}: البقرة: ٣٦ و قال: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ}: الأعراف: ٣٤.
و هذا العذاب الذي يحول بينه و بينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: {وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً}: الكهف: ٥٨ و لا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال و إنظار، قال تعالى: {وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ}: إسراء: ٥٩.
قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ اَلْعَذَابُ} إلى آخر الآية، تكرار {يَسْتَعْجِلُونَكَ} للدلالة على كمال جهلهم و فساد فهمهم و أن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا و استعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا.
و الغشاوة و الغشاية التغطية بنحو الإحاطة، و قوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} ظرف لقوله: {لَمُحِيطَةٌ} و الباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: {وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ}: روى الواحدي بالإسناد عن جابر قال: تلا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية و قال: العالم الذي يعقل عن الله فعمل بطاعته و اجتنب سخطه.
و فيه في قوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ}: روى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلا بعدا.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن عمران بن الحصين و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و رواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا.
و فيه و أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا صلاة لمن لم تطع الصلاة و طاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن ابن مسعود و غيره.
و فيه و روى أنس: أن فتى من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن صلاته تنهاه يوما ما.
و فيه روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ}: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} يقول: ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إياه أ لا ترى أنه يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.
أقول: و هذا أحد المعاني التي تقدم نقلها.
و في نور الثقلين عن مجمع البيان و روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الله عند ما أحل و حرم.
و فيه عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله عز و جل.
و فيه و قال (صلى الله عليه وآله و سلم): يا معاذ إن السابقين الذين يسهرون بذكر الله عز و جل و من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز و جل.
و في الكافي بإسناده عن العبدي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ} قال: هم الأئمة.
أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، و في بصائر الدرجات، بعدة طرق: و هو من الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية.
و في البصائر بإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ} فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا؟
و في الدر المنثور أخرج الإسماعيلي في معجمه و ابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن أحمق الحمق و أضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم و إلى أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ} (الآية).
و فيه أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن كريز إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها و قالت: يتتبع الكتب و قد قال الله: {أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ يُتْلىَ عَلَيْهِمْ} فقيل لها: إنه عبد الله بن عامر فقبلها.
أقول: ظاهر الروايتين و خاصة الأولى الآية في بعض الصحابة و سياق الآيات يأبى ذلك.
[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٥٦ الی ٦٠]
{يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ٥٦ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٥٧ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ ٥٨ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٥٩ وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦٠}
(بيان)
لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة و كانوا يهددونهم بالفتنة و العذاب فأمرهم أن يصبروا و يتوكلوا على ربهم و أن يهاجروا منها إن أشكل عليهم أمر الدين و إقامة فرائضه، و أن لا يخافوا أمر الرزق فإن الرزق على الله سبحانه و هو يرزقهم إن ارتحلوا و هاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم.
قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} توجيه للخطاب إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق و الاستنان بسنته و يدل على ذلك ذيل الآية.
و قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه الأرض التي نعيش عليها و إضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق عنده في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، و وسعة الأرض كناية عن أنه إن امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحق و العمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال.
و قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و الفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام و الظاهر أن تقديم «إياي» لإفادة الحصر فيكون قصر قلب و المعنى: لا تعبدوا غيري بل اعبدوني، و قوله: {فَاعْبُدُونِ} قائم مقام الجزاء.
و محصل المعنى: أن أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و لا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها و اعبدوني وحدي فيها.
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الآية) تأكيد للأمر السابق في قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} و كالتوطئة لقوله الآتي: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا} إلخ.
و قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} من الاستعارة بالكناية و المراد أن كل نفس
ستموت لا محالة، و الالتفات في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} من سياق التكلم وحده إلى سياق التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
و محصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست إلا أياما قلائل و الموت وراءه ثم الرجوع إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا و هي زينة فانية عن التهيؤ للقاء الله بالإيمان و العمل ففيه السعادة الباقية و في الحرمان منه هلاك مؤبد مخلد.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً} إلخ، بيان لأجر الإيمان و العمل الصالح بعد الموت و الرجوع إلى الله و فيه حث و ترغيب للمؤمنين على الصبر في الله و التوكل على الله، و التبوئة الإنزال على وجه الإقامة، و الغرف جمع غرفة و هي في الدار، العلية العالية.
و قد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ قال: {نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ} ثم فسر العاملين بقوله: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فعاد بذلك الصبر و التوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن إنما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله و توكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كل أذى و جفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج و ليهاجر إلى أرض غيرها و ليصبر على ما يصيبه من التعب و العناء في الله.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وصف للعالمين، و الصبر أعم من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر على المعصية، و إن كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة.
قوله تعالى: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} كأين للتكثير، و حمل الرزق هو ادخاره كما يفعله الإنسان و النمل و الفأر و النحل من سائر الحيوان.
و في الآية تطييب لنفس المؤمنين و تقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا و لا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: و كثير من
الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله و يرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون الأرزاق و هو السميع العليم.
و في تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها و هو أن الإنسان و سائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه و الله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه و مقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فإن أرضي واسعة، و هو يقول: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ} فقال: {أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.
و في المجمع: و قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها.
و في العيون بإسناده إلى الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما نزلت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} قلت: يا رب أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء؟ فنزلت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ}:
أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي، و لا يخلو متنه عن شيء فإن قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يخبر عن موته (صلى الله عليه وآله و سلم) و موت سائر الناس، و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يعلم أن الأنبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء.
و في الجمع عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى دخلنا بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر و يأكل فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر
إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتى نزلت {وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ}.
أقول: و قد روى الرواية في الدر المنثور، و ضعف سندها و هي مع ذلك لا تلائم وقوع الآية في سياق ما تقدمها.
[سورة العنكبوت (٢٩): الآیات ٦١ الی ٦٩]
{وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ٦١ اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٦٢ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ٦٣ وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٦٤ فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ٦٥ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٦٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَكْفُرُونَ ٦٧ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ ٦٨ وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ ٦٩}
(بيان)
الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في المعنى خطاب عام يشمل الجميع و إن كان في اللفظ خاصا به (صلى الله عليه وآله و سلم) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع.
و الآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات و الأرض و مدبر الشمس و القمر و عليهما مدار الأرزاق هو الله و أن منزل الماء من السماء و محيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم و هم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره و يقيمون في حرم آمن و هو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل و يجحدون الحق و يكفرون بنعمة الله.
و ما ختمت به السورة من قوله: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} يلائم ما في مفتتح السورة {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} إلى أن قال {وَ مَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} إلخ.
قوله تعالى: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
خلق السماوات و الأرض من الإيجاد و تسخير الشمس و القمر و ذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع و الغروب و القرب و البعد من الأرض من التدبير الذي يتفرع عليه كينونة أرزاق الإنسان و سائر الحيوان و هذا الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.
و إذا كان الله هو الخالق و بيده تدبير السماوات و يتبعه تدبير الأرض و كينونة الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق و سائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا و هو قوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فإذا كان الخلق و تدبير الشمس و القمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام و عبادته.
قوله تعالى: {اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ} في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، و القدر التضييق و يقابله البسط و المراد به لازم معناه و هو التوسعة، و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} للدلالة على تعليل الحكم، و المعنى: و هو بكل شيء عليم لأنه الله.
و المعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده و يضيقه على من يشاء و لا يشاء إلا على طبق المصلحة لأنه بكل شيء عليم لأنه الله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال.
قوله تعالى: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} إلى قوله {لاَ يَعْقِلُونَ} المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع.
و قوله: {قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ} أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام و أرباب الأصنام.
و قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي لا يتدبرون الآيات و لا يحكمون العقول حتى يعرفوا الله و يميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل.
قوله تعالى: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} اللهو ما يلهيك و يشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من اللهو لأنها تلهي الإنسان و تشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية.
و اللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان و الحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه و يتولعون به ساعة ثم يتفرقون و سرعان ما يتفرقون.
على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون و يتكالب عليه الظالمون أمور وهمية سرابية كالأموال و الأزواج و البنين و أنواع التقدم و التصدر و الرئاسة و المولوية و الخدم و الأنصار و غيرها فالإنسان لا يملك شيئا منها إلا في ظرف الوهم و الخيال.
و أما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه بإيمانه و عمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها و الجد الذي لا لعب فيها و لا لغو و لا تأثيم، و البقاء الذي لا فناء معه، و اللذة التي لا ألم عندها و السعادة التي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.
و هذا معنى قوله سبحانه: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ}.
و في الآية كما ترى قصر الحياة الدنيا في اللهو و اللعب و الإشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير و قصر الحياة الآخرة في الحيوان و هو الحياة و تأكيده بأدوات التأكيد كان و اللام و ضمير الفصل و الجملة الاسمية.
و قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الأمر كما وصفنا.
قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم و هو أنهم يؤفكون و أن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و أكثرهم لا يعقلون و يناقضون أنفسهم بالاعتراف و الجحد {فَإِذَا رَكِبُوا}«إلخ».
و الركوب الاستعلاء بالجلوس على الشيء المتحرك و هو متعد بنفسه و تعديته في الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، و المعنى: فإذا ركبوا مستقرين في الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، و معنى الآية ظاهر و هي تحكي عنهم تناقضا آخر و كفرانا للنعمة.
قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} اللام في {لِيَكْفُرُوا} و {لِيَتَمَتَّعُوا} لام الأمر و أمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد و إنذار كقولك لمن تهدده: «افعل ما شئت»، قال تعالى: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: حم السجدة: ٤٠.
و احتمل كون اللام للغاية، و المعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى كفران النعمة التي آتيناهم و إلى التمتع، و أول الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، و يؤيده قوله في موضع آخر: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: الروم: ٣٤ و لذا قرأه من قرأ {وَ لِيَتَمَتَّعُوا} بسكون اللام إذ لا يسكن غير لام الأمر.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الحرم الأمن هو مكة و ما حولها و قد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم (عليه السلام) و التخطف
كالخطف استلاب الشيء بسرعة و اختلاسه و قد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور و التناهب و لا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل و السبي و النهب لكنهم يحترمون الحرم و لا يتعرضون لمن أقام بها فيها.
و المعنى: أ و لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبي أو نهب و الحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.
و قوله: {أَ فَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللَّهِ يَكْفُرُونَ} توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة و هي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام و هي باطلة ليس لها إلا الاسم.
قوله تعالى: {وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم و أعظمه و هو افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة و أن الله اتخذهم شركاء لنفسه، و تكذيب الإنسان بالحق لما جاءه و الوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام و كذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون و مثوى الكافرين و محل إقامتهم في الآخرة جهنم.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ} الجهد الوسع و الطاقة و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو و الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.
و قوله: {جَاهَدُوا فِينَا} أي استقر جهادهم فينا و هو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به و الائتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.
و قوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أثبت لنفسه سبلا و هي أيا ما كانت تنتهي إليه تعالى فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل و هو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه و الهادية إليه تعالى، و إذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً}: محمد: ١٧.
و مما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: {فِينَا} إلى تقدير مضاف كشأن و التقدير في شأننا.
و قوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ} قيل أي معية النصرة و المعونة و تقدم الجهاد المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك. انتهى. و هو وجه حسن و أحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة و العناية فيشمل معية النصرة و المعونة و غيرهما من أقسام العنايات التي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم و شمول رحمته لهم، و هذه المعية أخص من معية الوجود الذي ينبئ عنه قوله تعالى: {وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}: الحديد: ٤.
و قد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان و هو يسعى لدار الغرور.
و فيه أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا و العرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} (الآية).
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ}: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: هذه الآية لآل محمد (عليه السلام) و لأشياعهم.
(٣٠) (سورة الروم مكية، و هي ستون آية) (٦٠)
[سورة الروم (٣٠): الآیات ١ الی ١٩]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ غُلِبَتِ اَلرُّومُ ٢ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ ٤ بِنَصْرِ اَللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ ٥ وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٦ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ٧ أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ٨ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثَارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اَللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٩ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ ١٠اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ١١ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ ١٢
وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ١٣ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ١٤ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ١٥ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ١٦ فَسُبْحَانَ اَللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ ١٧ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ١٨ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ١٩}
(بيان)
تفتتح السورة بوعد من الله و هو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله و تقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات الربوبية و تصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تؤكد القول فيه إذ تقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} و قد قيل قبيل ذلك: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}.
فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصرة دينه و قد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد، و كذا يحتج به و من طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.
قوله تعالى: {غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ} الروم جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت الروم، و الظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز و اللام للعهد.
قوله تعالى: {وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} ضمير الجمع الأول للروم و كذا الثالث و أما الثاني فقد قيل إنه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبني للمفعول و الضمير للروم كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون. و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.
قوله تعالى: {لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ} قبل و بعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء.
و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين و المعنى الأول أرجح إن لم يكن راجحا متعينا.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ} الظرف متعلق بيفرح و كذا قوله {يَنْصُرُ} و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثم استأنف و قال: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} تقريرا لقوله: {لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ}.
و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ} أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء.
و في الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها:
منها: أن قوله {وَ يَوْمَئِذٍ} عطف على قوله: {مِنْ قَبْلُ} و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل و الحال كأنه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثم ابتداء و قيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. و فيه أنه يبطل
انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أولها.
و منها: أن قوله: {بِنَصْرِ} متعلق بقوله: {اَلْمُؤْمِنُونَ} دون {يَفْرَحُ} و يدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله.
و فيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعا فإن في الغلبة نصرا و كل نصر من الله قال تعالى: {وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ»}: آل عمران: ١٢٦ فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه.
و منها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس و إن توافق النصران زمانا فكأنه قيل: إن الروم سيغلبون في بضع سنين و يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم.
و فيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}.
و منها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض و تفرق كلمتهم و انكسار شوكتهم. و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبأ بها.
قوله تعالى: {وَعْدَ اَللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} {وَعْدَ اَللَّهِ} مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعدا و إخلاف الوعد خلاف إنجازه و قوله: {وَعْدَ اَللَّهِ} تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله: {سَيَغْلِبُونَ} و {يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ} كما أن قوله: {لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ} تأكيد و تقرير لقوله: {وَعْدَ اَللَّهِ}.
و قوله: {لاَ يُخْلِفُ اَللَّهُ وَعْدَهُ} كقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ}: الرعد: ٣١ و خلف الوعد و إن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.
على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما و يستحيل النقص عليه تعالى.
على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو القائل عز من قائل: {وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ}: ص: ٨٤.
و قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي هم جهلاء بشئونه تعالى لا يثقون بوعده و يقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق و يكذب و ينجز و يخلف.
قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} جملة {يَعْلَمُونَ} على ما ذكره في الكشاف، بدل من قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ} و في هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل و بين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.
و قيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق و أن لله الأمر من قبل و من بعد و أنه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى و هذا أظهر.
و تنكير {ظَاهِراً} للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الذي يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلقة بها و الغفلة عما فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة.
و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله:
و عيرها الواشون أني أحبها | *** | و تلك شكاة ظاهر عنك عارها |
و المعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما و ذلك جملة العالم المشهود بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد و يعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنما خلقها لغاية تترتب عليها.
ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق و كل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد قوله: {مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا} بقوله: {وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} بعد تقييده بقوله: {إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
فقوله: {أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال و حضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا و سعيهم للمعيشة و تشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين
في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق و يرشدهم إلى الواقع.
و قيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم و أن الواحد منهم محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السيئ فلا بد من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون فيها و هي الآخرة.
و فيه أن الجملة أعني قوله: {أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: {مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير.
و قوله: {مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} هو الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا و لا بعضا إلا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له و لا إلى أجل معين فلا يبقى شيء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كل من أجزائه و المجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها و ليس شيء منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها.
و قوله: {وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدءوا منه ثم لا ينتهوا إليه، و لذلك أكده بإن إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى آخر الآية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر. و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك.
و قوله: {وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي بالكفر و المعاصي.
قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواىَ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ} بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين و لذا عبر بثم، و {عَاقِبَةَ} بالنصب خبر كان و اسمه {اَلسُّواىَ} قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و {أَسَاؤُا} مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، و السوآى الخلة التي يسوء صاحبها و المراد بها سوء العذاب و {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ} بحذف لام التعليل و التقدير لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.
و المعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.
و قيل: إن {اَلسُّواىَ} مفعول لقوله: {أَسَاؤُا} و خبر كان هو قوله: {أَنْ كَذَّبُوا} إلخ، و المراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها.
و فيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لأن المقام مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب و الاستهزاء الذي هو أعظمها.
قوله تعالى: {اَللَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد ما ذكر الحجة و تكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها و هو أن البدء و العود بيده سبحانه و سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في ترجعون.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ} ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس اليأس من الله و فيه كل الشقاء.
قوله تعالى: {وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَ كَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} إلى قوله {مُحْضَرُونَ} قال
في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظرا و طيبا. انتهى. و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن إلى أن قال و قوله عز و جل: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى.
و المراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء النار و دخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.
و لزوم هذا التميز و التفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال: {أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: الجاثية: ٢١.
قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اَللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ} لما ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيدهم و يرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة و النعمة و أهل النار و العذاب، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات و أما أهل النار فهم الكفار المكذبون لآيات الله و قد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة و نعمة لكنهم نسوا الآخرة و كذبوا بآيات الله و استهزءوا بها حتى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون و أن للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاما و خطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه و اتخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي.
ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره في السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة و الأعمال الردية و محمود في جميع ما خلقه و دبره في السماوات و الأرض.
و من هناك يظهر:
أولا: أن التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ}: الصافات: ١٨٠و قوله: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلىَ عَبْدِهِ}: الفرقان: ١.
و ثانيا: أن المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا. و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله.
و ثالثا: أن قوله: {وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} معترضة واقعة بين المعطوف و المعطوف عليه، و قوله: {وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ} معطوفان على محل {حِينَ تُمْسُونَ} لا على قوله: {فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} حتى يختص المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات و الأرض و العشي و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و ما فيها للتحميد.
فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه حمدا و ثناء لله سبحانه و أن للإنسان على مر الدهور و تغير الأزمنة و الأوقات من الشرك و المعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدس.
نعم هاهنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أن الأزمنة و الأوقات على تغيرها و تصرمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى، ثم كل ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلتها دونه و نقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: إسراء: ٤٤ لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما.
و للمفسرين في الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي قدمناها.
و تغيير السياق في قوله: {وَ عَشِيًّا} لكون العشي لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل.
و الخطاب الذي في الآيتين في قوله: {تُمْسُونَ} و {تُصْبِحُونَ} و {تُظْهِرُونَ} ليس من الالتفات في شيء بل تعميم للخطاب الذي للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منذ شرعت السورة، و المعنى:
فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشي و حينما دخلتم في ظهيرة و له الثناء الجميل في السماوات و الأرض.
و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} و لاحقا في قوله: {وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
قوله تعالى: {يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ظاهر إخراج الحي من الميت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة، و قد فسر بخلق المؤمن من الكافر و خلق الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا و الكافر ميتا، قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً}: الأنعام: ١٢٢.
و أما إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله: {وَ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي تبعثون و تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدم تفسير نظير صدر الآية و ذيلها مرارا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء عن ابن عباس: في قوله: {الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ} قال: غلبت و غلبت.
قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) -فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ لا جعلته أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: {الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ} فغلبت ثم غلبت بعد.
يقول الله: {لِلَّهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللَّهِ} قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أن المقامرة كانت بين أبي بكر و أبي بن خلف و في بعضها أنها كانت بين المسلمين و المشركين و كان أبو بكر من قبل المسلمين و أبي من قبل المشركين، و في بعضها أنها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه الرواية.
ثم الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ست، و في بعضها سبع سنين.
و في بعضها أن الأجل المضروب أولا انقضى بمكة و هو سبع سنين فمادهم أبو بكر سنتين بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فغلبت الروم، و في بعضها خلافه.
ثم في بعضها أن الأجل الثاني انقضى بمكة و في بعضها أنه انقضى بعد الهجرة و كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية.
و في بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إنه سحت تصدق به.
و الذي تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فإنه حرم مع الخمر في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و قد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أن الخمر كانت محرمة من أول البعثة و كان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر و الزنا.
على أن الخمر و الميسر من الإثم بنص آية البقرة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (الآية): البقرة: ٢١٩ و الإثم محرم بنص آية الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ} (الآية): الأعراف: ٣٣ و الأعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمقامرة.
و على تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يشكل قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأبي بكر لما أتى بالخطر إليه أنه سحت ثم قوله: تصدق به. فلا سبيل إلى تصحيح شيء من ذلك
بالموازين الفقهية و قد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد إلا إشكالا.
ثم إن ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فإنهم و إن كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا.
و في تفسير القمي في قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة.
و في الخصال: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ} فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.
و في تفسير القمي و قوله عز و جل: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} قال: إلى الجنة و النار.
[سورة الروم (٣٠): الآیات ٢٠الی ٢٦]
{وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ٢٠وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ٢٢ وَ مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ اِبْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٢٣ وَ مِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٢٤ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا
أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ٢٥ وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ٢٦}
(بيان)
يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية بمعنى ملك التدبير و الألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما إلا الله الذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده و التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و ليس له سبحانه إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإن مراتب تكون الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية.
و قوله: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة و شعور عقلي ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} في معنى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}: المؤمنون: ١٤.
فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع إنسانا ذا حياة و شعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الأمر و يجري هذا النظام العجيب.
و قد ظهر بهذا المعنى أن {ثُمَّ} للتراخي الرتبي و الجملة معطوفة على قوله: {خَلَقَكُمْ} لا على قوله: {أَنْ خَلَقَكُمْ}.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}
إلى آخر الآية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج، قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىَ} و قال: {وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ} و زوجة لغة رديئة و جمعها زوجات إلى أن قال و جمع الزوج أزواج. انتهى.
فقوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي خلق لأجلكم أو لينفعكم من جنسكم قرائن و ذلك أن كل واحد من الرجل و المرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الآخر و يتم بمجموعهما أمر التوالد و التناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر و يحصل من المجموع واحد تام له أن يلد و ينسل، و لهذا النقص و الافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله و كل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره و هذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين.
و قوله: {وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً} المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة و الكبرياء.
و الرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال و حاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان و رفع نقصه.
و من أجل موارد المودة و الرحمة المجتمع المنزلي فإن الزوجين يتلازمان بالمودة و المحبة و هما معا و خاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم و عجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم و حراستهم و تغذيتهم و كسوتهم و إيوائهم و تربيتهم و لو لا هذه الرحمة لانقطع النسل و لم يعش النوع قط.
و نظير هذه المودة و الرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة و يرحم المساكين و العجزة و الضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة.
و المراد بالمودة و الرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية.
و قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي و المودة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتية الدنيا و الأخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به أحلامهم.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ} إلى آخر الآية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربية و الفارسية و الأردوية و غيرها و باختلاف الألوان اختلاف الأمم في ألوانهم كالبياض و السواد و الصفرة و الحمرة.
و يمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم و الأصوات و نحو التكلم و النطق و باختلاف الألوان اختلاف كل فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن.
فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن الصنع و الإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلا بالله و لا ينتهي إلا إليه.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ اِبْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة و يطلق على العطية لأن المعطي إنما يعطي ما فضل من مقدار حاجته، و المراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق.
و في خلق الإنسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق و رفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة و السعي ثم هدايته إلى الاستراحة و السكون لرفع متاعب السعي و تجديد تجهيز القوى و تخصيص الليل و النهار المتعاقبين للسعي و السكون و التسبيب إلى وجود الليل و النهار بأوضاع سماوية قائمة بالأرض و الشمس لآيات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقا اتبعه.
قال في الكشاف، في الآية: هذا من باب اللف و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان و الزمان و الواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد و يجوز أن
يراد منامكم في الزمانين و ابتغاؤكم فيهما، و الظاهر هو الأول لتكرره في القرآن و أسد المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى.
و قد ظهر مما تقدم معنى تذييل الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر و لذلك لم يصدر بأن المصدرية كما صدر به قوله: {أَنْ خَلَقَكُمْ} و قوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} و تنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربية جيدة و عليه يحمل المثل السائر: «و تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» و لا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله: {مَنَامُكُمْ} {يُرِيكُمُ} {أَنْ تَقُومَ}.
و احتمل في قوله: {يُرِيكُمُ} أن يكون بحذف أن المصدرية و التقدير أن يريكم البرق و أيد بقراءة النصب في يريكم.
و احتمل أن يكون من حذف المضاف، و التقدير: و من آياته آية أن يريكم البرق، و احتمل أن يكون التقدير و من آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم البرق إلخ، و احتمل أن يكون {مِنْ آيَاتِهِ} متعلقا بقوله: {يُرِيكُمُ}، و التقدير: و يريكم من آياته البرق، و احتمل أن يكون {مِنْ آيَاتِهِ} حالا من البرق، و التقدير: و يريكم البرق حال كون البرق من آياته.
و هذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الآية عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين.
و قوله: {خَوْفاً وَ طَمَعاً} أي خوفا من الصاعقة و طمعا في المطر، و قوله: {وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} تقدم تفسيره كرارا، و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقه بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق و صدفة.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} القيام مقابل القعود و لما كان أعدل حالات الإنسان حيث يقوى به على عامة أعماله أستعير لثبوت الشيء و استقراره على أعدل حالاته كما يستعار
لتدبير الأمر، قال تعالى: {أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلىَ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}: الرعد: ٣٣.
و المراد بقيام السماء و الأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة و سكون و تغير و ثبات بأمره تعالى و قد عرف أمره بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: يس: ٨٢.
و قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} {إِذَا} الأولى شرطية و {إِذَا} الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و {مِنَ اَلْأَرْضِ} متعلق بقوله: {دَعْوَةً} و الجملة معطوفة على محل الجملة الأولى لأن المراد بالجملة أعني قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} إلخ البعث و الرجوع إلى الله و ليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر احتج عليه سابقا و سيحتج عليه لاحقا.
و أما قول القائل: إن الجملة على تأويل المفرد و هي معطوفة على {أَنْ تَقُومَ} و التقدير و من آياته قيام السماء و الأرض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض.
فلازمه كون البعث معدودا من الآيات و ليس منها على أن البعث أحد الأصول الثلاثة التي يحتج بالآيات عليه، و لا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد عليه فافهم ذلك.
و لما كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب و خلقهم أزواجا و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و منامهم و ابتغائهم من فضله و إراءة البرق و تنزيل الماء من السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله: {أَنْ تَقُومَ اَلسَّمَاءُ وَ اَلْأَرْضُ} بمعونة السياق ثبات السماء و الأرض على وضعهما الطبيعي و حالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الإنساني المرتبطة بهما و كان قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} إلخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي إن خروجهم من الأرض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى.
و يظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق {وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية و ينفعانها.
و قد رتبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان و تكونه ثم تصنفه صنفين: الذكر و الأنثى ثم ارتباط وجوده بالسماء و الأرض و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم
ثم السعي في طلب الرزق و سكون المنام ثم إراءة البرق و تنزيل الأمطار حتى تنتهي إلى قيام السماء و الأرض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الإنساني ما قدر له من أمد الحياة و يعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات.
و قد رتبت الفواصل أعني قوله {يَتَفَكَّرُونَ} {لِلْعَالِمِينَ} {يَسْمَعُونَ} {يَعْقِلُونَ} على هذا الترتيب لأن الإنسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم عقله و الله أعلم.
قوله تعالى: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} كانت الآيات المذكورة مسوقة لإثبات ربوبيته تعالى و ألوهيته كما تقدمت الإشارة إليه و لما انتهى الكلام إلى ذكر البعث و الرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على إمكانه و الحجة مأخوذة من الخلق و التدبير المذكورين في الآيات السابقة.
فقوله: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقي لجميع من في السماوات و الأرض و هم المحشورون إليه و ذلك لأن وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر و حاجة لا استقلال و لا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه و هذا هو الملك الحقيقي الذي أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة.
و قد أكد ذلك بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع على ما ذكره الراغب في المفردات ، و المراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية على ما يعطيه السياق دون التشريعية التي ربما تخلفت.
و ذلك أنهم الملائكة و الجن و الإنس فأما الملائكة فليس عندهم إلا خضوع الطاعة، و أما الجن و الإنس فهم مطيعون منقادون للعلل و الأسباب الكونية و كلما احتالوا في إلغاء أثر علة من العلل أو سبب من الأسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى و سبب آخر كوني ثم علمهم و إرادتهم كاختيارهم جميعا من الأسباب الكونية فلا يكون إلا ما شاء الله أي الذي تمت علله في الخارج و لا يتحقق مما شاءوا إلا ما أذن فيه و شاءه فهو المالك لهم و لما يملكونه.
[سورة الروم (٣٠): الآیات ٢٧ الی ٣٩]
{وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٧ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٢٨ بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ٢٩ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٠مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ٣١ مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ٣٢ وَ إِذَا مَسَّ اَلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ٣٣ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٣٤ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ٣٥ وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ٣٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ ٣٧ فَآتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٣٨ وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ ٣٩}
(بيان)
لما انساق الاحتجاج على الوحدانية و المعاد من طريق عد الآيات الدالة على ذلك بقوله: {وَ مِنْ آيَاتِهِ} إلى قوله: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية)، و هو من صفات الفعل غير سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية و أوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل المستوجبة للوحدانية و المعاد و هي قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلخ، و قوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} إلخ، و قوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ} إلخ، و قوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} إلخ.
و إنما لم يبدأ الفصل الأول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الأخر لسبق ذكره في الآية السابقة عليه المتصلة به أعني قوله: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الذي هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فصل في صورة الوصل.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية، بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق و الإعادة إنشاء بعد إنشاء.
و قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الضمير الأول للإعادة المفهوم من قوله: {يُعِيدُهُ} و الضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق.
و قد استشكل قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الدال ظاهرا على كون الإعادة أسهل و أهون عليه من البدء و هو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فإن القدرة
اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشيء دون شيء فتعلقها بالصعب و السهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل هاهنا.
و قد أجيب عنه بوجوه:
منها: أن ضمير {عَلَيْهِ} راجع إلى الخلق دونه تعالى و الإعادة أهون على الخلق لأنه مسبوق بالابتداء الذي يسهل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذي لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الإعادة و الإعادة بالعكس، فالمعنى: أن الإعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق و إذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق.
و فيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية.
و منها: أن أفعل هاهنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه نظير قوله: {مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ}.
و فيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه.
و منها: أن التفضيل إنما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الإنشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى و وقوع التفضيل بين فعل منه و فعل لا بأس به كما في قوله تعالى: {لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ}: المؤمن: ٥٧.
و هذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} حتى كأنها فضلت على قيام السماوات و الأرض بأمره ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.
و فيه أن تقييد الوصف بقوله: {عَلَيْهِ} أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الإعادة و الإنشاء إنما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة و الإنشاء فالإشكال على ما كان.
و منها: أن التفضيل إنما هو بالنظر إلى الأصول الدائرة بين الناس و الموازين المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الأمر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل: و الإعادة
أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم و إلا فالإنشاء و الإعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء.
و فيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ و لا شاهد عليه من جهة لفظ الآية.
و منها: ما ذكره أيضا في الكشاف، قال: و وجه آخر و هو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله و أن لا يفعله و الإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد له من فعله لأنها لجزاء الأعمال و جزاؤها واجب و الأفعال إما محال و المحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور و أما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف و هو القبيح و هو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، و إما تفضل و التفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله و أن لا يفعله، و إما واجب لا بد من فعله و لا سبيل إلى الإخلال به.
فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع و أقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع و إذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتي و التسهل فكانت أهون منها و إذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء انتهى.
و فيه أولا: أنه مبني على تحقق الأشياء بالأولوية دون الوجوب و قد تحقق في محله بطلانه.
و ثانيا: أن القرب و البعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض و السهولة و الصعوبة وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشيء من حيث صدوره عن فاعله الموجد له و لا يبتني الوصف الوجودي على الاعتبار العقلي.
و ثالثا: أن الإنشاء أيضا كالإعادة في الابتناء على المصلحة و هي الغاية فما لم يكن الإنشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الإعادة كذلك فهما في القرب و البعد من الامتناع على السواء كما قيل.
و رابعا: أن مقتضى هذا الوجه كون الإعادة أهون من الإنشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث و يتوجه إليه ما توجه إليه.
و الذي ينبغي أن يقال أن الجملة أعني قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} معلل بقوله بعده: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} فهو الحجة المثبتة لقوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.
و المستفاد من قوله: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ} إلخ، إن كل وصف كمالي يمثل به شيء في السماوات و الأرض كالحياة و القدرة و العلم و الملك و الجود و الكرم و العظمة و الكبرياء و غيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف و أرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال: {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}: الأعراف: ١٨٠.
و ذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شيء مما في السماوات و الأرض فله في حد نفسه ما يقابله فإنه مما أفاضه الله عليه و هو في نفسه خال عنه فالحي منها ميت في ذاته و القادر منها عاجز في ذاته و لذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا بشيء دون شيء و حال دون حال، و هكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه و كذلك الحياة و القدرة و الملك و العظمة و غيرها.
و الله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله و الذي له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود و صرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه و لا ممات يقابل حياته و هكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية و الأرضية - و هي صفات غير ممحضة و لا مطلقة - ما هو أعلاها أي مطلقها و محضها.
فكل صفة توجد فيه تعالى و في غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها و أفضلها و الذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده.
و لما كانت الإعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الإنشاء فيما عند الخلق فهو عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة و مشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق و لا يلزم منه أن يكون في الإنشاء صعوبة و مشقة عليه تعالى لأن المشقة و الصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة و كلما كثرت قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، و قدرته تعالى غير متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا و هو المستفاد من قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن القدرة إذا جاز تعلقها بكل شيء لم تكن إلا غير متناهية فافهم ذلك.
و قوله: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} تقدم أنه في مقام الحجة بالنسبة إلى قوله: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} و محصله أن كل صفة كمالية يتصف به شيء مما في السماوات و الأرض من جمال أو جلال فإن لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد و محضها من غير شوب و صرفها من غير خلط.
و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: {وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىَ} إلخ، أي إنه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شيء حكيم لا يعرض فعله فتور، و لو لم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة و مخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص و القصور فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الإطلاق و أحدث ذاك النقص في فعله ثلمة و فتورا فلم يكن حكيما على الإطلاق.
قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} إلخ، {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات التي لديكم، و قوله: {هَلْ لَكُمْ} شروع في المثل المضروب و الاستفهام للإنكار، و {مَا} في {مِنْ مَا مَلَكَتْ} للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الإماء، و {مِنْ} في {مِنْ شُرَكَاءَ} زائدة و هو مبتدأ، و قوله: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} تفريع على الشركة، و {فَأَنْتُمْ} خطاب شامل للمالكين و المملوكين على طريق التغليب، و قوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف المال المشترك من غير إذن منهم و رضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار.
و هذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في الألوهية و الربوبية و قد ألقى المثل في صورة الاستفهام الإنكاري: هل يوجد بين مماليككم من العبيد و الإماء من يكونون شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم - و الحال أنهم مماليك لكم تملكونهم و ما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم بغير إذن منهم و رضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم؟
لا يكون ذلك أبدا و لا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله و إذا لم
يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة و الجن و هم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه و آلهة و أربابا من دونه؟
ثم تمم الكلام بقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و فيه تمهيد لما يتلوه من الكلام.
قوله تعالى: {بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} إضراب عما يستفاد من ذيل الآية السابقة و التقدير و هؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم.
و كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا و إنما بدله من قوله: {بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ} فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ»}: إبراهيم: ٢٧.
فقوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ} استفهام إنكاري مدلوله الإيئاس من نعمة الهداية للمشركين المتبعين لأهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لإضلالهم و قد تكرر في كلامه تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ}.
و قوله: {وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} نفي لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال و تبعاته من عند أنفسهم لإضلال الله لهم و نفي الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء.
و قول القائل إن معنى نفي الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد.
و معنى الآية: بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم و تعقل فأضلهم الله بظلمهم و لا هادي يهديهم و ليس لهم ناصرون ينصرونهم.
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الكلام متفرع على ما تحصل
من الآيات السابقة المثبتة للمبدإ و المعاد أي إذا ثبت أن الخلق و التدبير لله وحده لا شريك له و هو سيبعث و يحاسب و لا نجاة لمن أعرض عنه و أقبل على غيره فأقم وجهك للدين و الزمه فإنه الدين الذي تدعو إليه الخلقة الإلهية.
و قيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال على ما هو الحق و أن المشركين لظلمهم اتبعوا الأهواء و أعرضوا عن التعقل الصحيح فأضلهم الله و لم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية و لا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت و لا غيرك فاستيئس منهم و اهتم بخاصة نفسك و من تبعك من المؤمنين و أقم وجهك و من تبعك للدين.
فقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} المراد بإقامة الوجه للدين الإقبال عليه بالتوجه من غير غفلة منه كالمقبل على الشيء بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا و شمالا و الظاهر أن اللام في الدين للعهد و المراد به الإسلام.
و قوله: {حَنِيفاً} حال من فاعل أقم و جوز أن يكون حالا من الدين أو حالا من الوجه و الأول أظهر و أنسب للسياق، و الحنف ميل القدمين إلى الوسط و المراد به الاعتدال.
و قوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الإيجاد و الإبداع و {فِطْرَتَ اَللَّهِ} منصوب على الإغراء أي الزم الفطرة ففيه إشارة إلى أن هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة و يهدي إليه الفطرة الإلهية التي لا تبديل لها.
و ذلك أنه ليس الدين إلا سنة الحياة و السبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته فلا غاية للإنسان يتبعها إلا السعادة و قد هدي كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته التي هي بغية حياته بفطرته و نوع خلقته و جهز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ}: طه: ٥٠و قال: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ}: الأعلى: ٣.
فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه و رفع حوائجه و تهتف له بما ينفعه و ما يضره في حياته، قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا}: الشمس: ٨ و هو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى: {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ}: عبس: ٢٠.
فللإنسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة و سبيل معينة ذات غاية مشخصة ليس له إلا أن يسلكها خاصة و هو قوله: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} و ليس الإنسان العائش في هذه النشأة إلا نوعا واحدا لا يختلف ما ينفعه و ما يضره بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح و بدن فما للإنسان من جهة أنه إنسان إلا سعادة واحدة و شقاء واحد فمن الضروري حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه إليها هاد واحد ثابت.
و ليكن ذاك الهادي هو الفطرة و نوع الخلقة و لذلك عقب قوله {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} بقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ}.
فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الأمم المختلفة بمعنى أن يكون الأساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة كان الإنسان أنواعا مختلفة باختلاف الأقطار، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة بمعنى أن تكون الأعصار و القرون هي الأساس الوحيد للسنة الدينية اختلفت نوعية كل قرن و جيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم و لم يسر الاجتماع الإنساني سير التكامل و لم تكن الإنسانية متوجهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق النقص و الكمال إلا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما.
و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل إثبات أن الأساس للسنة الدينية هو البنية الإنسانية التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانية سنة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإنسان و هي التي تدير رحى الإنسانية مع ما يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة.
و هذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: {ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} و سنزيد المقام إيضاحا في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
و للقوم في مفردات الآية و معناها أقوال أخر متفرقة:
منها: أن المراد بإقامة الوجه تسديد العمل فإن الوجه هو ما يتوجه إليه و هو العمل و إقامته تسديده.
و فيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه و هي غير العمل و الذي في الآية هو {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} و لم يقل فأقم وجه عملك.
و منها: أن {فِطْرَتَ اَللَّهِ} منصوب بتقدير أعني و الفطرة هي الملة، و المعنى: اثبت و أدم الاستقامة للدين أعني الملة التي خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
و فيه: أنه مبني على اختلاف المراد بالفطرة و هي الملة و {فَطَرَ اَلنَّاسَ} و هو الخلقة و التفكيك خلاف ظاهر الآية و لو أخذ {فَطَرَ اَلنَّاسَ} بمعنى الإدانة أي الحمل على الدين و هو التوحيد بقي قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} لا يلائم ما قبله.
على أن فيه خلاف ظاهر آخر و هو حمل الدين على التوحيد، و لو أخذ الدين بمعنى الإسلام أو مجموع الدين كله و أبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها و هو الخلقة لم يستقم تقدير «أعني» فإن الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة.
و منها: أن {فِطْرَتَ} بدل من {حَنِيفاً} و الفطرة بمعنى الملة و يرد عليه ما يرد على سابقه.
و منها: أن {فِطْرَتَ} مفعول مطلق لفعل محذوف مقدر، و التقدير: فطر الله فطرة فطر الناس عليها و فساده غني عن البيان.
و منها: أن معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله و هو ما دلك عليه ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم و ركبهم و صورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا و لا يشبهه شيء.
و فيه أنه مبني على كون {فِطْرَتَ} منصوبا بتقدير اتبع و قد ذكره أبو السعود و قبله أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة و المراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة، و هذا قريب من المعنى الذي قدمناه للآية بحمل {فِطْرَتَ} على الإغراء لكن يبقى عليه أن الآية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.
و منها: أن لا في قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} تفيد النهي أي لا تبدلوا خلق الله أي دينه الذي أمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بإنكار دلالته على التوحيد و منه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهي عن الخصاء.
و فيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين و لا موجب لتسمية الإعراض عن دلالة الخلقة أو إنكارها تبديلا لخلق الله. و أما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر.
و منها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير، قال: و يحتمل أن يقال: خلق الله الخلق لعبادته و هم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره و يخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة و العبودية. و هذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال و العبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، و قول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله و إنما الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد الله، و قول النصارى إن عيسى كان يحل الله فيه و صار إلها فقال: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى.
و فيه أنه مغالطة بين الملك و العبادة التكوينيين و الملك و العبادة التشريعيين فإن ملكه تعالى الذي لا يقبل الانتقال و البطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الأشياء به تعالى و العبادة التي بإزائه عبادة تكوينية و هو خضوع ذوات الأشياء له تعالى و لا تقبل التبديل و الترك كما في قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: إسراء: ٤٤ و أما العبادة الدينية التي تقبل التبديل و الترك فهي عبادة تشريعية بإزاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه.
و لو دل قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ} على عدم تبديل الملك و العبادة و العبودية لدل على التكويني منهما و الذي يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنما يعني به التشريعي منهما.
قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نظير قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ}: الطلاق: ١ و قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لاَ تَطْغَوْا}: هود: ١١٢
فيئول المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفا أنت و من معك منيبين إلى الله، و الإنابة الرجوع بالتوبة.
و قوله: {وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين.
و قوله: {وَ لاَ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} القول في اختصاصه من بين المحرمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، و قد قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}: النساء: ٤٨ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} «من» للتبيين و {مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} إلخ، بيان للمشركين و فيه تعريفهم بأخص صفاتهم في دينهم و هو تفرقهم في دينهم و عودهم شيعة شيعة و حزبا حزبا يفرح و يسر كل شيعة و حزب بما عندهم من الدين و السبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله: {بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللَّهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الأهواء و أنه لا يهديهم و لا هادي غيره.
و من المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل و لا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الأحوال و إذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الأهواء و ينزل بنزولها، و لا فرق في ذلك بين الدين الباطل و الدين الحق المبني على أساس الهوى.
و من هنا يظهر أن النهي عن تفرق الكلمة في الدين نهي في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل، و ربما احتمل كون الآية استئنافا من الكلام و هو لا يلائم السياق.
و في الآية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة و التحزب في الدين.
قوله تعالى: {وَ إِذَا مَسَّ اَلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} التعبير بالمس للدلالة على القلة و الخفة و تنكير ضر
و رحمة أيضا لذلك و المعنى: إذا أصاب الناس شيء من الضر و لو قليلا كمرض ما و فقر ما و شدة ما دعوا ربهم و هو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه و يعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الأنداد و الشركاء.
أي إنهم كافرون للنعمة طبعا و إن اعترفوا بها عند الضر و قد أخذ لذلك فريقا منهم لأن منهم من ليس كذلك.
قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد لأولئك المشركين عند إذاقة الرحمة و اللام في {لِيَكْفُرُوا} للأمر الغائب و قوله: {فَتَمَتَّعُوا} متفرع على سابقه و هو أمر آخر و الأمران جميعا للتهديد، و الالتفات من الأمر الغائب إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد و السخط من تفريطهم في جنب الله و استهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر و يكفروا إذا كشف.
قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} {أَمْ} منقطعة و المراد بالإنزال الاعلام أو التعليم مجازا، و السلطان البرهان، و المراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم.
و يمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان و هو الملك فلا مجاز في الإنزال و التكلم و المعنى: بل أ أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم.
قوله تعالى: {وَ إِذَا أَذَقْنَا اَلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} الإذاقة كالمس تدل على قليل النيل و يسيره، و القنوط اليأس.
و إذا الأولى شرطية و الثانية فجائية و المقابلة بين {إِذَا} في إذاقة الرحمة و {إِنْ} في إصابة السيئة لأن الرحمة كثيرة قطعية و السيئة قليلة احتمالية، و نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لأن الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى و السيئة عدمية هي عدم الإفاضة و لذا عللها بقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، و في تعليل السيئة بذلك و عدم التعليل في جانب الرحمة بشيء إشارة إلى أن الرحمة تفضل.
و التعبير في الرحمة بقوله: {فَرِحُوا} و في السيئة بقوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} للدلالة على حدوث القنوط و لم يكن بمترقب فإن الرحمة و السيئة بيد الله و الرحمة واسعة
و لهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم.
و المراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة و النقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا و يعقلوا أن الأمر بيد غيرهم و بمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن، و إذا فقدوا قنطوا كان ليس ذلك بإذن من ربهم و إذا لم يشأ لم يأذن و فتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون.
و بهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية و بين قوله السابق: {وَ إِذَا مَسَّ اَلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} (الآية) و ذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا قنطوا و مدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا دعوا الله و هم قانطون من الشيء و أسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع.
و ربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الآية السابقة و لو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال و قنوطهم في حال أخرى.
و أجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة و لا ينافي القنوط الذي هو أمر قلبي و أنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور.
و أجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء. و فيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط.
قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح و القنوط عند إذاقة الرحمة و إصابة السيئة فإن الرزق في سعته و ضيقه تابع لمشية الله فعلى الإنسان أن يعلم أن الرحمة التي ذاقها و السيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه و لا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده و لا للقنوط مما يرجى زواله.
و أما أنه أمر ظاهر للإنسان مقطوع به كأنه يراه فلأن الرزق الذي يناله الإنسان أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف و ألوف من الأسباب و الشرائط ليس الإنسان الذي يراه لنفسه إلا أحد تلك الأسباب و لا السبب الذي يركن إليه و يطيب به نفسا إلا بعض تلك الأسباب و عامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطي و يمنع و هو
الذي يبسط و يقدر أي يوسع و يضيق، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {فَآتِ ذَا اَلْقُرْبىَ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ} إلخ، ذو القربى صاحب القرابة من الأرحام و المسكين أسوأ حالا من الفقير و ابن السبيل المسافر ذو الحاجة، و إضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقا ثابتا، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس و التكليف للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتبعه غيره ممن كلف بالخمس، و القرابة على أي حال قرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية و أما على تقدير كونها مكية كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإحسان للقرابة و المسكين و ابن السبيل.
و لعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ}.
قوله تعالى: {وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ} الربا نماء المال، و قوله: {لِيَرْبُوَا} إلخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله - فليس يزيد و ينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه.
و قوله: {وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ} المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، و المضعف ذو الضعف، و المعنى: و ما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأولئك هم الذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم.
فالمراد بالربا و الزكاة بقرينة المقابلة و ما احتف بهما من الشواهد، الربا الحلال و هو العطية من غير قربة، و الصدقة و هي إعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على تقدير كون الآية مكية و أما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم و بالزكاة هي الزكاة المفروضة.
و هذه الآية و التي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات و لا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الإجماع المنقول.
(بحث روائي)
في العيون عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى و سبيل الهدى و المثل الأعلى و الحجة العظمى و العروة الوثقى (الحديث).
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (الآية) أن سبب نزولها أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج إبراهيم (عليه السلام) و يلبون تلبيته: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك.
فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبيك اللهم لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنكر عليهم ذلك و قال: إنه شرك.
فأنزل الله عز و جل: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أي أ ترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكا فيما أملك؟
و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} قال: هي الولاية.
و فيه بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: التوحيد.
أقول: و رواه أيضا عن الحلبي و زرارة عنه (عليه السلام) و رواه الصدوق في التوحيد عن العلاء بن فضيل و زرارة و بكير عنه (عليه السلام).
و في روضة الكافي بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت شريعة نوح (عليه السلام) أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد، و هو الفطرة التي فطر الناس عليها.
و في تفسير القمي بإسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن علي (عليه السلام): في قوله عز و جل: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال:
هو لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين ولي الله إلى هاهنا التوحيد.
أقول: و روى هذا المعنى في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه في التوحيد عن عبد الرحمن مولى أبي جعفر عنه (عليه السلام).
و معنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الإنسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها و هو التوحيد و بما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله و هو النبوة، و بما يجد من الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين و هو الولاية و الفاتح لها في الإسلام هو علي (عليه السلام)، و ليس معناه أن كل إنسان حتى الإنسان الأولي يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث.
و إلى هذا يئول معنى الرواية السابقة أنها الولاية فإنها تستلزم التوحيد و النبوة و كذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فإن التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد و النبوة و الولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات الثلاث و التوحيد و الولاية واحد.
و في المحاسن بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم و لو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم و من رازقهم؟
و في الكافي بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: فقال (عليه السلام): إن الله عز و جل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة و لا كفرا بجحود ثم بعث الله عز و جل الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به فمنهم من هدى الله و منهم من لم يهده.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}: البقرة: ٢١٣ و المراد فيها بالإنسان الفطري الإنسان الساذج الذي يعيش على الفطرة الإنسانية الذي لم يفسده الأوهام الفكرية و الأهواء النفسانية فإنه بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة و كليات الشرائع الإلهية فإنه يعيش ببعث و تحريك من فطرته و خصوص خلقته. و أما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة
و تفاصيل الشرائع الإلهية فيتوقف على هداية خاصة إلهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} فقال: حدثني أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} قال: دين الله.
و فيه أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا} (الآية).
أقول: و رواه أيضا عن مالك و أبي داود و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء.
و رواه أيضا في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه (الحديث).
و في التوحيد بإسناده عن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، و أربعة أشهر الصلاة على النبي و أربعة أشهر الدعاء لوالديه.
أقول: هو حديث لطيف و معناه: أن الطفل في الأربعة أشهر الأولى لا يعرف أحدا و إنما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها و الرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرع إليه و يشهد له بالوحدانية.
و في الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه و بين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما و الواسطة بينه و بين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة من ربه للنبي حتى يصل بتوسطه إليه.
و في الأربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما و طلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففي الحديث ألطف الإشارة إلى كيفية جريان
الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك.
و في المجمع في قوله تعالى: {وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىَ حَقَّهُ}: و روى أبو سعيد الخدري و غيره: أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أعطى فاطمة (عليه السلام) فدكا و سلمه إليها و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الكافي بإسناده عن إبراهيم اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الربا رباءان: ربا يؤكل و ربا لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذي يؤكل، و هو قول الله عز و جل: {وَ مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ اَلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اَللَّهِ} و أما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه و أوعد عليه النار.
أقول: و رواه أيضا في التهذيب عن إبراهيم بن عمر عنه (عليه السلام)، و في تفسير القمي عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام)، و في المجمع، مرسلا عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في المجمع في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ} قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، و الزكاة تسبيبا للرزق، و الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، و صلة الأرحام منماة للعدد.
و في الفقيه: خطبة للزهراء (عليه السلام) و فيها: ففرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك و الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة زيادة في الرزق.
(كلام في معنى كون الدين فطريا، في فصول)
١ - إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون و تتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة و شعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعية على ما يظهر لنا وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض و بعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله و قبل الوصول إلى ما بعده و لا يزال يستكمل بطي هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها و هو نهاية كماله.
نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم و لا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها
رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى و لا ينتقل إلى غير مكانه و من هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها.
فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الأرض استقرارا يهيئها للنمو على اجتماع مما يتوقف عليه النمو من العلل و الشرائط كالرطوبة و الحرارة و غيرهما أخذ لبها في النمو و شق القشر و شرع في ازدياد من أقطار جسمه و لم يزل يزيد و ينمو حتى يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة و لا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني و هو في أول وجوده قاصدا قاصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.
و كذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضأن مثلا لا نشك في أنها في أول تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصها فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها و لا تنسى غايتها يوما فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا فكل نوع من الأنواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا بحركته التكوينية و النوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته و بلوغه إلى غايته.
و هذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة إلهية و هي كما عرفت لا تضل و لا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني و سوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي و بإعمال قواه و أدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته، قال تعالى: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ}: طه: ٥٠و قال: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ وَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلْمَرْعىَ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوى}: الأعلى: ٥.
٢ - نوع الإنسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامة له فنحن نعلم أن النطفة الإنسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة إنسان تام كامل له آثاره و خواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية و الطفولية و المراهقة و الشباب و الكهولة و الشيب.
غير أن الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية و النباتية و غيرها فيما نعلم في أمر۱ و هو أنه لسعة حاجته التكوينية و كثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية و رفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الإنسان لا تتم له حياته الإنسانية و هو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج و التعاون و التعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية.
و قد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للإنسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الأمور الطبيعية ثم أقسام النبات و الحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال و المقاصد و في الجهازات و القوى فيضطر إلى المسالمة و أن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه.
و ينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع و يعطى منه لكل ما يستحقه.
و كيف كان فالمجتمع الإنساني لا يتم انعقاده و لا يعمر إلا بأصول علميه و قوانين اجتماعية يحترمها الكل و حافظ يحفظها من الضيعة و يجريها في المجتمع و عند ذلك تطيب لهم العيشة و تشرف عليهم السعادة.
أما الأصول العلمية فهي معرفته إجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة و ما عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية فإن المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنه مادي محض ليس له من الحياة إلا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلا السبب المادي الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادية ما وراءها شيء.
و المعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه.
و أما القوانين و السنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلمونها تفرق الجمع و انحل المجتمع.
و هذه السنن و القوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز و هي أيا ما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع و المجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الأعمال و مفاسدها.
٣ - قد عرفت أن الإنسان إنما ينال ما قدر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته التي تليق به و هذه السعادة أمر أو أمور كمالية تكوينية تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضا موجود تكويني فتجعله إنسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده.
فهذه السنن و القوانين و هي قضايا عملية اعتبارية واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانية، و هذه الكمالات أمور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقية.
فحوائج الإنسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية و اعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانية بأميالها و عزائمها و يصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير و النافع و بين الشر و الضار دون ما تطلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فإنه كمال حيواني غير إنساني.
فأصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقة التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية.
و قد عرفت أن الصنع و الإيجاد قد جهز كل نوع من الأنواع و منها الإنسان
من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج أن للجهازات التكوينية التي جهز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنين و القوانين التي بالعمل بها يستقر الإنسان في مقر كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذي المعتبرة بما أن الإنسان مجهز بجهاز التغذي و الراجعة إلى النكاح بما أن الإنسان مجهز بجهاز التوالد و التناسل.
فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين أي الأصول العلمية و السنن و القوانين العملية التي تضمن باتخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقية من اقتضاءات الخلقة الإنسانية و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطريا و هو قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}.
٤ - قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالإسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة الإنسانية تقتضيه و تهدي إليه.
و يسمى إسلاما لما أن فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتف به من مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: {إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ}.
و يسمى دين الله لأنه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من معنى الإرادة.
و يسمى سبيل الله لما أنه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً»}: الأعراف: ٤٥.
و أما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوة و لا يكفي فيه العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة و غيرها من مباحث الكتاب.
[سورة الروم (٣٠): الآیات ٤٠الی ٤٧]
{اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٤٠ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٤١ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ٤٢ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ٤٣ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ٤٤ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ ٤٥ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٤٦ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ٤٧}
(بيان)
هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالأفعال الخاصة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيتهم و ألوهيتهم و على إثبات المعاد.
قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و {اَلَّذِي خَلَقَكُمْ} خبره، و كذا قوله: {مَنْ يَفْعَلُ} إلخ مبتدأ خبره {مِنْ شُرَكَائِكُمْ} المقدم عليه و الاستفهام إنكاري و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر.
و المعنى: أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا و كذا وصفا من أوصاف الألوهية و الربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربكم لا إله إلا هو.
و لعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق.
فليس لهم أن يقولوا: إن الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبر كل شأن من شئون العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك و من المسلم أن الرزق مثلا خلق و كذا سائر الشئون لا تنفك عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشئون.
ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قوله تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الآية) بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضية.
و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواء كان
مستندا إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الإنساني.
و قوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ} أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية): الأعراف: ٩٦ و أيضا في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس و الحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر إحداهما من صلاح الأخرى و فسادها.
و قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا} اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنما كان بعض ما عملوا لأن الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}: الشورى: ٣٠.
و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيوي و إذاقة بعضه لأكله من غير نظر إلى وبال الأعمال الأخروي فما قيل: إن المراد إذاقة الوبال الدنيوي و تأخير الوبال الأخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعله جعل تقدير الكلام: «ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن التقدير «ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا»، لأن الذي يحوجنا إلى تقدير المضاف لو أحوجنا هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.
و قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة.
و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما احتج في الآية السابقة على التوحيد و نزهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك و هو معصية من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام.
و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكة و قول بعضهم: المراد بالبر القفار التي لا يجري فيها نهر و بالبحر كل قرية على شاطئ نهر عظيم، و قول بعضهم: البر الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن التي عند
البحر و النهر، و قول بعضهم: البر البرية و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إن هناك مضافا محذوفا و التقدير في البر و مدن البحر، و لعل الذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أن الآية ناظرة إلى القحط الذي وقع بمكة إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على قريش لما لجوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلف.
و قول بعضهم: إن المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كل سفينة غصبا و هو كما ترى.
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحق بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم.
و قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللَّهِ} متعلق بقوله: {فَأَقِمْ} و المرد مصدر ميمي بمعنى الرد و هو بمعنى الراد و اليوم الذي لا مرد له من الله يوم القيامة.
و قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون، و التصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل، و المراد به كما قيل تفرقهم يومئذ إلى الجنة و النار.
و قيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ}: القارعة: ٤ و لكل وجه، و لعل الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} الظاهر أنه تفسير لقوله في الآية السابقة: {يَتَفَرَّقُونَ} و قوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبال
كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذي سينقلب عليه نارا يخلد فيها و هذا أحد الفريقين.
و قوله: {وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جيء بالجزاء {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جيء به مفردا في الشرطية السابقة {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} نظرا إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأن العمل إنما يصلح بالإيمان على أنه مذكور في الآية التالية.
و المعنى: و الذين عملوا عملا صالحا بعد الإيمان فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرون عليه.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ} قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى: {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}، و قال: {لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، يقال: جزيته كذا و بكذا. انتهى.
و قوله: {لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} اللام للغاية و لا ينافي عد ما يؤتيهم جزاء و فيه معنى المقابلة عده من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، و أين العبودية من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.
لكنه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكا لأعمالهم في عين أنه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، و جعل ما ينالونه من الجنة و الزلفى أجرا مقابلا لأعمالهم و هذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه.
و منشأ ذلك حبه تعالى لهم لأنهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم و اتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ}: آل عمران: ٣١.
و لذا كانت الآية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة
و تعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشؤه حبه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ}.
و من هنا يظهر أن قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْكَافِرِينَ}، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعا أي أنه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنه يحب هؤلاء و لا يحب هؤلاء.
قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله.
و قوله: {وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك مما يشمله إطلاق الجملة.
و قوله: {وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أي لجريان الرياح و هبوبها. و قوله: {وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتطلبوا من رزقه الذي هو من فضله.
و قوله: {وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظي عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جيء بلعل المفيدة للرجاء فإن الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ} قال الراغب: أصل الجرم بالفتح فالسكون قطع الثمرة عن الشجر إلى أن قال و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و أستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى.
و الآية كالمعترضة و كأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على
نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره.
و قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا} الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقا علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه من النصر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ} قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دواب البحر بذلك. و قال الصادق (عليه السلام): حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.
أقول: و هو من الجري.
و في روضة الكافي بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم.
و في المجمع في قوله: {وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}: روى منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.
و فيه و جاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ما من امرئ يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.
[سورة الروم (٣٠): الآیات ٤٨ الی ٥٣]
{اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ٤٨ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ٤٩ فَانْظُرْ إِلى آثَارِ رَحْمَتِ اَللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٥٠وَ لَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ٥١ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتى وَ لاَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ٥٢ وَ مَا أَنْتَ بِهَادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ٥٣}
(بيان)
هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لما كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقب الاحتجاج بإيئاس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحق.
قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكل ما علاك و أظلك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق
القطر من المطر و الخلال جمع خلة و هي الفرجة.
و المعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك و تنشر سحابا و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجو كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.
قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} الإبلاس: اليأس و القنوط.
و ضمير {يُنَزَّلَ} للمطر و كذا ضمير {مِنْ قَبْلِهِ} على ما قيل، و عليه يكون {مِنْ قَبْلِهِ} تأكيدا لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} و فائدة التأكيد على ما قيل الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفسحة في الزمان فجاء {مِنْ قَبْلِهِ} للدلالة على الاتصال و دفع ذلك الاحتمال.
و في الكشاف، أن قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي اَلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} و معنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.
و ربما قيل: إن ضمير {مِنْ قَبْلِهِ} لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.
قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلىَ آثَارِ رَحْمَتِ اَللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشيء فيدل عليه كأثر القدم و أثر البناء و أستعير لكل ما يتفرع على شيء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.
و لذا قال: {فَانْظُرْ إِلىَ آثَارِ رَحْمَتِ اَللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فجعل آثار الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها
من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضا من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.
و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ} الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة التي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.
و المراد بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ} الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ و حياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.
و قوله: {وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإن القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلا لزم تقيدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.
قوله تعالى: {وَ لَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} ضمير {فَرَأَوْهُ} للنبات المفهوم من السياق، و قوله {لَظَلُّوا} جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و أقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه.
ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلمات من النعم.
و قيل: ضمير {فَرَأَوْهُ} للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنه يذكر و يؤنث، و القولان بعيدان.
قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتى} إلى قوله {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقلها فإنهم موتى و صم و عمي
و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدقها فهم مسلمون. و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل.
[سورة الروم (٣٠): الآیات ٥٤ الی ٦٠]
{اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ ٥٤ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ٥٥ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٥٦ فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ٥٧ وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ٥٨ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى قُلُوبِ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٩ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ٦٠}
(بيان)
هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.
قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً} إلخ، الضعف و القوة متقابلان، و {مِنْ} في قوله: {مِنْ
ضَعْفٍ} للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية و إن أمكن صدقه على النطفة.
و المراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الأشد و بالضعف بعد القوة الشيخوخة و لذا عطف عليه {شَيْبَةً} عطف تفسير، و تنكير {ضَعْفٍ} و {قُوَّةً} للدلالة على الإبهام و عدم تعين المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.
و قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتم الإشارة إلى أن تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إن ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلا كما يقوله الوثنية.
ثم تمم الكلام بالعلم و القدرة فقال: {وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ}.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادة للآيات و الحجج على وحدانيته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية التي تختتم بها السورة فإنه لما عد شيئا من الآيات و الحجج و أشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث الحق باطلا و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به.
و هذا الإفك و التقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتى قيام الساعة فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا.
فقوله: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتى ظنوه ساعة من ساعات الدنيا.
و قوله: {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون إلى الحق و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنونه باطلا من القول و خرافة من الرأي.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ} إلخ، رد منهم لقول المجرمين: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} فإن المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه و بين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لأنه مبلغ علمهم.
فرد عليهم أهل العلم و الإيمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الذي يشير إليه قوله: {وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: المؤمنون: ١٠٠.
فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث و لكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم إلا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلىَ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ}، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أن العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهية، و من هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله الكتب۱ السماوية أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتد به.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} الاستعتاب طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} إلخ، إشارة
إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم لأنها مطبوع عليها، و لذا عقبه بقوله: {وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي جاءون بالباطل و هذا القول منهم لأنهم مصروفون عن الحق يرون كل حق باطلا، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي يجهلون بالله و آياته و منها البعث و هم يصرون على جهلهم و ارتيابهم.
قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} و سائر تهكماتهم، إن وعد الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}، و لا يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.
و قول بعضهم: إن المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البينات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشيء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعا بالنصرة.
(٣١) (سورة لقمان مكية، و هي أربع و ثلاثون آية) (٣٤)
[سورة لقمان (٣١): الآیات ١ الی ١١]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ الم ١ تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ ٢ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ٣ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ٤ أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٥ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ٦ وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٧ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلنَّعِيمِ ٨ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٩ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ١٠هَذَا خَلْقُ اَللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ١١}
(بيان)
غرض السورة كما يومئ إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامة آياتها الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكليات شرائع الدين.
و يلوح من صدر السورة أنها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصد الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} (الآية)، و سيوافي حديثه. فنزلت السورة تبين أصول عقائد الدين و كليات شرائعه الحقة و قصت شيئا من خبر لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ} (الآية).
قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} إلى قوله {يُوقِنُونَ} تقدم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.
و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شيء بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضا بأنه هدى و رحمة للمحسنين تتميما لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحق و يوصل إليه لا كاللهو الشاغل للإنسان عما يهمه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.
و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامة التقوى، كل ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث.
قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً} إلخ، اللهو ما يشغلك عما يهمك، و لهو الحديث: الحديث الذي يلهي عن الحق بنفسه كالحكايات الخرافية و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما يقارنه كالتغني بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكل ذلك يشمله لهو الحديث.
و قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية و العلمية و خاصة قصص الأنبياء و أممهم الخالية فإن لهو الحديث و الأساطير المزوقة المختلقة تعارض أولا هذه القصص ثم تهدم بنيان سائر المعارف الحقة و توهنها في أنظار الناس.
و يؤيد ذلك قوله بعد: {وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً} فإن لهو الحديث بما أنه حديث كما سمعت يعارض أولا الحديث و يتخذه سخريا.
فالمراد بسبيل الله القرآن بما فيه من القصص و المعارف و كأن مراد من كان يشتري لهو الحديث أن يضل الناس بصرفهم عن القرآن و أن يتخذ القرآن هزوا بأنه حديث مثله و أساطير كأساطيره.
و قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بيضل و هو في الحقيقة وصف ضلال الضالين دون إضلال المضلين و إن كانوا أيضا لا علم لهم ثم هددهم بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي مذل يوهنهم و يذلهم حذاء استكبارهم في الدنيا.
قوله تعالى: {وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} إلخ، وصف لذاك الذي يشتري لهو الحديث ليضل الناس عن القرآن و يهزأ به و الوقر الحمل الثقيل و المراد بكون الوقر على أذنيه أن يشد عليهما ما يمنع من السمع و قيل: هو كناية عن الصمم.
و المعنى: و إذا تتلى على هذا المشتري لهو الحديث آياتنا أي القرآن ولى و أعرض عنها و هو مستكبر كأن لم يسمعها قط كأنه أصم فبشره بعذاب أليم.
و قد أعيد إلى من يشتري ضمير الإفراد أولا كما في {يَشْتَرِي} و {