20

تفسير الميزان ج20

تفسير الميزان ج20 21295
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

وهو الجزء الأخير من الكتاب، وقد تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير السور التالية: من سورة المعارج إلى سورة الناس

/۳٩٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۲۰

1
  •  

تفسير الميزان ج۲۰

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء العشرون 

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۲۰

3
  •  

تفسير الميزان ج۲۰

4
  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تمتاز هذه الطبعة عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

  • واضافات و تغییرات هامة من قبل المؤلف

  •  

  • ملاحظة: تم تطبيق الصفحات مع طبعة الأعلمي الثالثة المطبوعة في سنة ۱٩۷٣ م

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۲۰

5
  • (٧٠) سورة المعارج مكية و هي أربع و أربعون آية (٤٤) 

  • [سورة المعارج (٧٠): الآیات ١ الی ١٨ ]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ١ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ٢ مِنَ اَللَّهِ ذِي اَلْمَعَارِجِ ٣ تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ٤ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ٥ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ٦ وَ نَرَاهُ قَرِيباً ٧ يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ٨ وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ٩ وَ لاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ١٠يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ١١ وَ صَاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ ١٢ وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ ١٣ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ١٤ كَلاَّ إِنَّهَا لَظى‌ ١٥ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‌١٦ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ١٧ وَ جَمَعَ فَأَوْعى‌ ١٨} 

  • (بيان‌) 

  • الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه و العذاب الذي أعد لهم فيه و تستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق و العمل الصالح. 

  • و هذا السياق يشبه ساياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله: {وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} مدني و الاعتبار يؤيده لأن ظاهره الزكاة و قد شرعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية قوله: {إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ} - إلى قوله - {فِي 

تفسير الميزان ج۲۰

6
  •  جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} مدنية لما في سياقها من الاتحاد و استلزام البعض للبعض. 

  • و مدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات قوله: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } - إلى قوله - {مَنُوعاً}

  • على أن قوله: {فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية. 

  • و من جهة أخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصة قوله: {أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ} إلخ، و قوله: {عَلى‌ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} إلخ على ما سيجي‌ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها. 

  • على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الأنفال: ٣٢ و قد تقدم في تفسير الآية أن سياقها و التي بعدها سياق مدني لا مكي. لكن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة. 

  • و لا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة. 

  • قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدي بالباء كما في قوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} الدخان: ٥٥ و قيل: الفعل مضمن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد، و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفرا و عتوا. 

  • و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} الفرقان: ٥٩، و فيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أن سياق الآيات التالية و خاصة قوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار. 

  • فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغيانا و كفرا، و قد وصف العذاب المسئول من الأوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم و التحقير و هو قوله: {وَاقِعٍ} 

تفسير الميزان ج۲۰

7
  • و قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}

  • و المعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي أنه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيري و إجابة لمسئوله تهكما. 

  • قوله تعالى: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} للكافرين متعلق بعذاب و صفة له، و كذا قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} و قد مرت الإشارة إلى معنى الآية. 

  • قوله تعالى: {مِنَ اَللَّهِ ذِي اَلْمَعَارِجِ} الجار و المجرور متعلق بقوله: {دَافِعٌ} أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلق بقوله: {بِعَذَابٍ}

  • و المعارج جمع معرج و فسروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتبة علوا و شرفا التي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهمية اعتبارية. 

  • و قيل: المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق و العمل الصالح قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الفاطر ١٠، و قال: {وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‌ مِنْكُمْ} الحج: ٣٧. 

  • و قيل: المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل الصالح قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} آل عمران: ١٦٣ و قال: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ} الأنفال: ٤ و قال: {رَفِيعُ اَلدَّرَجَاتِ ذُو اَلْعَرْشِ} المؤمن: ١٥. 

  • و الحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول، و الدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية. 

  • قوله تعالى: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية. 

  • و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا 

تفسير الميزان ج۲۰

8
  • و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبباتها و الملائكة وسائط موكلة على أمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها و زيل الله بينهم و رجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم و صفوا قال تعالى: {وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ } الزمر - ٧٥، و قال: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} النبأ: ٣٨. 

  • و الظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إسراء: ٨٥ و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} النحل: ٢. 

  • فلا يعبأ بما قيل: إن المراد بالروح جبرئيل و إن أطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ} الشعراء: ١٩٤ و قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} النحل: ١٠٣ فإن المقيد غير المطلق. 

  • قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت و استكبار و هو مما يشق تحمله أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و وصفه بالجميل و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى، و علله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب. 

  • قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَرَاهُ قَرِيباً} ضميرا {يَرَوْنَهُ} و {نَرَاهُ} للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيد الأول قوله فيما بعد: {يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} إلخ. 

  • و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية و رؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الإمكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه و ردا لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه و كل ما هو آت قريب. 

  • و في الآيتين تعليل أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر الجميل فإن تحمل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أن الفرج قريب و تذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع و شكوى فأنا نعلم أن 

تفسير الميزان ج۲۰

9
  • العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} المهل‌ المذاب من المعدنيات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: دردي الزيت، و قيل: عكر القطران‌۱

  • و الظرف متعلق بقوله: {وَاقِعٍ} على ما يفيده السياق. 

  • قوله تعالى: {وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} العهن‌ مطلق الصوف، و لعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى: {وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ} القارعة: ٥. 

  • و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألوانا لأن الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود٢

  • قوله تعالى: {وَ لاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} الحميم القريب الذي تهتم بأمره و تشفق عليه. 

  • إشارة إلى شدة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه. 

  • قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم. 

  • و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: لا يسأل حميم حميما سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فأجيب: يبصرونهم و يمكن أن يكون {يُبَصَّرُونَهُمْ} صفة {حَمِيماً}

  • و من ردي‌ء التفسير قول بعضهم: إن معنى قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} يبصر الملائكة الكفار، و ما قيل: إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إن المعنى يبصر اتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعا وجوه لا دليل عليها. 

  • قوله تعالى: {يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صَاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ} قال في المجمع: المودة مشتركة بين التمني و بين المحبة يقال: وددت الشي‌ء أي تمنيته و وددته أي أحببته أود فيهما جميعا. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين. 

  •  

    1. أي ردية و خبيثه‌
    2. كما في الآية من سورة فاطر

تفسير الميزان ج۲۰

10
  • و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‌ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة. انتهى، و ذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كالآباء الأدنين. 

  • و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقي بالنسبة إلى قوله: {وَ لاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه. 

  • و المعنى {يَوَدُّ} و يتمنى {اَلْمُجْرِمُ} و هو المتلبس بالأجرام أعم من الكافر {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} و هذا هو الذي يتمناه، و الجملة قائمة مقام مفعول يود. {بِبَنِيهِ} الذين هم أحب الناس عنده {وَ صَاحِبَتِهِ} التي كانت سكنا له و كان يحبها و ربما قدمها على أبويه {وَ أَخِيهِ} الذي كان شقيقه و ناصره {وَ فَصِيلَتِهِ} من عشيرته الأقربين {اَلَّتِي تُؤْوِيهِ} و تضمه إليها {وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً} من أولي العقل {ثُمَّ يُنْجِيهِ} هذا الافتداء. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظى‌ نَزَّاعَةً لِلشَّوىَ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعىَ} كلا للردع، و ضمير {إِنَّهَا} لجهنم أو للنار و سميت لظى لكونها تتلظى و تشتعل، و النزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى‌ الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء. 

  • فقوله: {كَلاَّ} ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علل الردع بقوله: {إِنَّهَا لَظى‌} إلخ و محصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان. 

  • فقوله: {إِنَّهَا لَظى‌} أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله: {نَزَّاعَةً لِلشَّوى‌} أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذبه. 

  • و قوله: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‌} أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهية إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم. 

  • و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه. 

تفسير الميزان ج۲۰

11
  • (بحث روائي)

  • في المجمع، حدثنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) النعمان بن الحارث الفهري. 

  • فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي‌ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله. 

  • فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}

  • أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد رد الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية، و قد عرفت الكلام في مكية السورة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و النسائي و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} قال هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. 

  • و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} قال. نزلت بمكة في النضر بن الحارث و قد قال: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية و كان عذابه يوم بدر. 

  • أقول: و هذا المعنى مروي أيضا عن غير السدي، و في بعض رواياتهم أن القائل: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أن سائل العذاب هو أبو جهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنية السورة و المعتمد على أي حال نزول السورة بعد قول القائل: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية و قد تقدم كلام في سياق الآية. 

  • و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل 

تفسير الميزان ج۲۰

12
  • أن تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}

  • أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام). 

  • و في المجمع، روى أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أطول هذا اليوم فقال: و الذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من الجوامع عن أبي سعيد عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء. 

  • و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} يقول: يعرفونهم ثم لا يتساءلون.

  • و فيه: في قوله تعالى: {نَزَّاعَةً لِلشَّوى‌} قال: تنزع عينه و تسود وجهه. 

  • و فيه: في قوله تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى} قال: تجره إليها. 

  •  

  • [سورة المعارج (٧٠): الآیات ١٩ الی ٣٥ ]

  • {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ١٩ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً ٢٠وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً ٢١ إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ ٢٢ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‌ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ٢٣ وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٢٤ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ٢٥ وَ اَلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ٢٦ وَ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ٢٧ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ٢٨ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٢٩ إِلاَّ عَلى‌ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ٣٠فَمَنِ اِبْتَغى‌ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ ٣١ وَ اَلَّذِينَ 

تفسير الميزان ج۲۰

13
  • هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ ٣٢ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ٣٣ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‌ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٣٤ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ٣٥} 

  • (بيان)‌ 

  • تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات. 

  • و ذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أن الإنسان يفسدها على نفسه و يسي‌ء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً} الهلوع‌ صفة مشتقة من الهلع بفتحتين و هو شدة الحرص، و ذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه. 

  • و ذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الإنسان ليس حرصا منه على كل شي‌ء خيرا كان أو شرا أو نافعا أو ضارا بل حرصا على الخير و النافع و لا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مس الشر و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسه و يؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا و أنفع بحاله فالجزع عند مس الشر و المنع عند مس الخير من لوازم الهلع و شدة الحرص. 

  • و ليس الهلع و شدة الحرص المجبول عليه الإنسان - و هو من فروع حب الذات - في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها 

تفسير الميزان ج۲۰

14
  • فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحق و بغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة. 

  • فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أو شرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة و هي التي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء و نحوه. 

  • و هو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحق و الباطل و الخير و الشر و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق و الباطل و الخير و الشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده و بالعكس. 

  • فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيات و اشتغل بها عن اتباع الحق و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه و لا ذا حق إلا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه و لا منع ذا حق حقه. 

  • فالإنسان في بادئ أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتقاء الشر قال تعالى: {وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} العاديات: ٨. 

  • ثم إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزا آخر و هو العقل الذي بها يدرك حقائق الأمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق و ما هو الخير في العمل، و يتبدل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعا عند مس الشر و منوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسه شر أخروي و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي و هو مواجهة الحسنة، و أما الشر و الخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كمالية لهذا الإنسان. 

  • و أما إذا أعرض الإنسان عما يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدى إلى حق كل ذي حق و لم يقف في حرصه على الخير على حد 

تفسير الميزان ج۲۰

15
  • فقد بدل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات. 

  • و قد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذم و قد قال تعالى: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} السجدة ٧، و ذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره. 

  • و ذكر الزمخشري فرارا من الإشكال أن في الكلام استعارة، و المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما، و كأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقا لله حقيقة لأن الكلام مسوق للذم و الله سبحانه لا يذم فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعا. 

  • و فيه أن الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى. 

  • و استثناء المؤمنين ليس لأجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنهم أبقوها على كمالها و لم يبدلوها رذيلة و نقمة. 

  • و أجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع و هو كما ترى. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ} استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنها خير الأعمال. 

  • على أن لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى: {إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} العنكبوت ٤٥. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ هُمْ عَلىَ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة، و فيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ} فسره بعضهم بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): أن الحق المعلوم ليس من الزكاة و إنما هو مقدار 

تفسير الميزان ج۲۰

16
  • معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الذي يسأل، و المحروم الفقير الذي يتعفف و لا يسأل‌ و السياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله: {إِنَّمَا اَلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقَابِ وَ اَلْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللَّهِ} التوبة ٦٠و ليست مختصة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ} الذي يفيده سياق عد الأعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أن ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا. 

  • و في التعبير بقوله: {يُصَدِّقُونَ} دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم. 

  • و لازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإن الأمن لا يجامع الخوف. 

  • و الملاك في الإشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً} المائدة ١٧. 

  • على أن الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فيصفهم بالخوف و هو يصرح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه: {وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} الأحزاب: ٣٩، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}

  • قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} تعليل لإشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدم وجهه. 

تفسير الميزان ج۲۰

17
  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } - إلى قوله - {هُمُ اَلعَادُونَ} تقدم تفسير الآيات الثلاث في أول سورة المؤمنون. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ} المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة التي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جي‌ء بلفظ الجمع بخلاف العهد. 

  • و قيل: المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد و عمل فتعم حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه. 

  • و قيل: كل نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه. 

  • و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوز. 

  • و قيل: العهد كل ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شي‌ء مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها و أداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع. 

  • قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها. 

  • قوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} الإشارة إلى المصلين في قوله: {إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ} و تنكير جنات للتفخيم، و {فِي جَنَّاتٍ} خبر و {مُكْرَمُونَ} خبر بعد خبر أو ظرف لقوله: {مُكْرَمُونَ}

تفسير الميزان ج۲۰

18
  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير القمي: {إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً} قال: الشر هو الفقر و الفاقة {وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً} قال: الغنى و السعة. 

  • و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ثم استثنى فقال {إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ} فوصفهم بأحسن أعمالهم {اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‌ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} يقول: إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه.

  •  أقول: قوله: إذا فرض على نفسه «إلخ» استفاد (عليه السلام) هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير {هُمْ} و قد أشرنا إليه فيما مر. 

  • و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال: هي الفريضة. قلت: {اَلَّذِينَ هُمْ عَلىَ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} قال: هي النافلة. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الحق المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي‌ء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة و إن شئت كل يوم، و لكل ذي فضل فضله. 

  • قال: و روي عنه أيضا أنه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدق على من عاداك. 

  • أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) بعدة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفر (عليه السلام). 

  • و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل {لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ} قال: المحروم المحارف الذي قد حرم كد يمينه في الشراء و البيع.

  • قال: و في رواية أخرى عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا: المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‌ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} روى محمد بن الفضيل 

تفسير الميزان ج۲۰

19
  • عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

  •  أقول: و لعله مبني على ما ورد عنهم (عليهم السلام) أن تشريع النوافل اليومية لتتميم الفرائض.

  •  

  • [سورة المعارج (٧٠): الآیات ٣٦ الی ٤٤] 

  • {فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ٣٦ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ عِزِينَ ٣٧ أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ٣٨ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ٣٩ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ٤٠عَلى‌ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ٤١ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ٤٢ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‌ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ٤٣ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ٤٤} 

  • (بيان‌) 

  • لما ذكر سبحانه في الفصل الأول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع و هو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر و تولى و جمع فأوعى. 

  • ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أن الإنسان مجهز بغريزة الهلع و حب خير نفسه و يؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم. 

  • انعطف في هذا الفصل من الآيات - و هو الفصل الثالث - على أولئك الكفار كالمتعجب 

تفسير الميزان ج۲۰

20
  • من أمرهم حيث يجتمعون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه (صلى الله عليه وآله و سلم): ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر و قد قدر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم و يخلق مما خلقهم منه، غيرهم ممن يعبده و يدخل جنته. 

  • ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون. 

  • قوله تعالى: {فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ عِزِينَ} قال في المجمع: قال الزجاج: المهطع‌ المقبل ببصره على الشي‌ء لا يزايله و ذلك من نظر العدو، و قال أبو عبيدة الإهطاع‌ الإسراع، و عزين‌ جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة. انتهى، و قبل‌ الشي‌ء بالكسر فالفتح الجهة التي تليه و الفاء في «فما» فصيحة. 

  • و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثني من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين. 

  • قوله تعالى: {أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}، الاستفهام للإنكار - أي ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك و يهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة. 

  • و نسب الطمع إلى كل امرئ منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا «إلخ» كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأن النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث إنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد. 

  • و في قوله: {أَنْ يُدْخَلَ} مجهولا من باب الإفعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم و مشيتهم بل لو كان فإنما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة 

تفسير الميزان ج۲۰

21
  • إن شاء و لن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر. 

  • قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يصلي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا و فرقا يستمعون و يستهزءون بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات. 

  • و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و إهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أن قولهم: سندخل الجنة قبل المؤمنين و هم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنة إنما كان استهزاء و تهكما. 

  • فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار و الجنة و السؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة و إنكاره عليهم. 

  • فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله: {فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} قوما من المنافقين آمنوا به (صلى الله عليه وآله و سلم) ظاهرا و لازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ} المنافقون ٣، و قوله: {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} التوبة ٦٦، و قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } التوبة ٧٧. 

  • فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين. 

  • و يؤيده قوله الآتي: {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلىَ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} إلخ على ما سنشير إليه. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم. 

  • و قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} المراد بما يعلمون النطفة فإن الإنسان مخلوق منها. و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة 

تفسير الميزان ج۲۰

22
  • - و هم يعلمون - به فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غير رادين لشي‌ء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار و يسبقونا فندخلهم الجنة و ينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر. 

  • و قيل: «من» في قوله: {مِمَّا يَعْلَمُونَ} تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفار؟ و إنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و قيل: «من» لابتداء الغاية، و المعنى: أنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتى تتطهر بالإيمان و الطاعة و تتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنى لهم ذلك و هم كفار. 

  • و قيل: المراد بما في {مِمَّا يَعْلَمُونَ} الجنس، و المعنى أنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل و لا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة. 

  • قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلىَ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا و مغربا لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم و مغاربها. 

  • و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} التفات من التكلم مع الغير في {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} إلى التكلم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه. 

  • و في قوله: {بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ} التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيل و هي ربوبيته للمشارق و المغارب فإن الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضية المقارنة له. 

  • و في قوله: {إِنَّا لَقَادِرُونَ} التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة 

تفسير الميزان ج۲۰

23
  • إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شي‌ء من الحوادث التي هي أفعاله عن شي‌ء منها و لا يمنعه شي‌ء من خلقه من أن يبدله خيرا منه و إلا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك. 

  • و قوله: {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلىَ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} {عَلىَ} متعلق بقوله: {لَقَادِرُونَ} و المفعول الأول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم و إنما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و {خَيْراً} مفعوله الثاني و هو صفة أقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم، و خيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتبعوا الحق و لا يردوه. 

  • و قوله: {وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم. 

  • و سياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإن ظاهر قوله: {خَيْراً مِنْهُمْ} لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية و لله أن يبدل خيرا منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به و لم يردوه من خير للإسلام. 

  • فقد بان بما تقدم أن قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله: {كَلاَّ}، و أن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة - و هم يعلمون ذلك - و هي خلقة جارية و الله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الإنسان جيلا بعد جيل و المدبر لها قادر أن يذهب بهم و يبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم و يدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الإيمان. 

  • قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلح عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم 

تفسير الميزان ج۲۰

24
  • فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون و هو يوم القيامة. 

  • و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلىَ نُصُبٍ يُوفِضُونَ} بيان ليومهم الذي يوعدون و هو يوم القيامة. 

  • و الأجداث‌ جمع جدث و هو القبر، و سراعا جمع سريع، و النصب‌ ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض‌ الإسراع و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} الخشوع‌ تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق‌ غشيان الشي‌ء بقهر. 

  • و قوله: {ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} الإشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعا و خشوع الأبصار و رهق الذلة. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه. 

  • أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه جلوس حلقا حلقا فقال: ما لي أراكم عزين‌، و روي هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة. 

  • و في تفسير القمي: و قوله: {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} قال: من نطفة ثم علقة، و قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} أي أقسم {بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ} قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف. 

  • و في المعاني، بإسناده إلى عبد الله بن أبي حماد رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لها ثلاثمائة و ستون مشرقا و ثلاثمائة و ستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل. 

  • و في تفسير القمي: و قوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} قال: من القبر {كَأَنَّهُمْ إِلى‌ نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال: إلى الداعي ينادون، و قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} قال: تصيبهم ذلة. 

تفسير الميزان ج۲۰

25
  • (٧١) سورة نوح مكية و هي ثمان و عشرون آية (٢٨) 

  • [سورة نوح (٧١): الآیات ١ الی ٢٤ ]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٢ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ٣ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٤ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً ٥ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً ٦ وَ إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْبَاراً ٧ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ٨ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ٩ فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ١٠يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً ١١ وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ١٢ مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ١٣ وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ١٤ أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ١٥ وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً ١٦ وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً ١٧ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ١٨ وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِسَاطاً ١٩ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ٢٠قَالَ نُوحٌ رَبِّ 

تفسير الميزان ج۲۰

26
  • إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ٢١ وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ٢٢ وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاَ سُوَاعاً وَ لاَ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً ٢٣ وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ٢٤} 

  • (بيان‌) 

  • تشير السورة إلى رسالة نوح (عليه السلام) إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات ثم حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى‌ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر «إلخ». 

  • و في الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدل عليه ما حكي من قوله (عليه السلام) في الآية التالية: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ} و ذلك أن الإنذار تخويف و التخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذر، و قد أفاد قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إنه متوجه إليهم غير تاركهم لو لا تحذرهم منه. 

  • قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ} بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} و تفصيلا بقوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ} إلخ. 

  • و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي أنكم قومي يجمعكم و إياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم و سعادتكم إني لكم نذير إلخ. 

  • و في قوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ} دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و الوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوزوا 

تفسير الميزان ج۲۰

27
  • عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة. 

  • و في قوله: {وَ اِتَّقُوهُ} دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية. 

  • و في قوله: {وَ أَطِيعُونِ} دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه و يستن به في الحياة منه (عليه السلام) ففي قوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ} ندب إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} و المعاد الذي هو أساس التقوى۱ و التصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة. 

  • قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} مجزوم في جواب الأمر و كلمة {مِنْ} للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب التي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، و لا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها. 

  • و يؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الأحقاف ٣١، و قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} إبراهيم ١٠و قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الأنفال ٣٨. 

  • و أما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ }الصف ١٢ فهو و إن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلما تحققت. 

  • و قد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آية الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإيمان في هذه الأمة جميع الذنوب و في سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأمته: 

  •  

    1. إذ لو لا المعاد بما فيه من الحساب و الجزاء لم يكن للتقوى الديني وجه، منه. 

تفسير الميزان ج۲۰

28
  • {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} و قول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}

  • و فيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه. على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفار هذه الأمة. 

  • و ذهب بعضهم إلى كون {مِنْ} في قوله: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} زائدة، و لم تثبت زيادة «من» في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أن {مِنْ} بيانية، و قول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية. 

  • قوله تعالى: {وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر، و إن الأجل المسمى أقصى الأجلين و أبعدهما. 

  • ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا و في قوله: {إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى و غير المسمى فلا راد لقضائه تعالى و لا معقب لحكمه. 

  • و المعنى: أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم و لم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا. 

  • و قد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمى. 

  • و ذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة أنه إذا جاء لا يؤخر. 

  • و أنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}

تفسير الميزان ج۲۰

29
  • و قوله: {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله أجلين و أن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف يدل عليه سابق الكلام. 

  • و قيل: إن {تَعْلَمُونَ} منزل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلق بأول الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر. 

  • قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} القائل هو نوح (عليه السلام) و الذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلا و نهارا كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان. 

  • و قوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد و التأبي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا، و قد قال تعالى في صفة القرآن: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} إسراء ٨٢. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته و الأصل (دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم) لأن الغرض الإشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته و لم يرد إلا ما فيه خير دنياهم و عقباهم. 

  • و قوله: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، و قوله: {وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا بها رءوسهم و وجوههم لئلا يروني و لا يسمعوا كلامي و هو كناية عن التنفر و عدم الاستماع إلى قوله. 

  • و قوله: {وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْبَاراً} أي و ألحوا على الامتناع من الاستماع و استكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} {ثُمَّ} للتراخي بحسب رتبة الكلام و الجهار النداء بأعلى الصوت. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} الإعلان و الإسرار متقابلان 

تفسير الميزان ج۲۰

30
  • و هما الإظهار و الإخفاء، و ظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا و علانية فتارة علانية و تارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن و سائرا في كل مسير مرجو. 

  • قوله تعالى: {فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } - إلى قوله - {أَنْهَاراً} علل أمرهم بالاستغفار بقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة و هي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى. 

  • و قوله: {يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} مجزوم في جواب الأمر، و المراد بالسماء السحاب، و المدرار كثير الدرور بالأمطار. 

  • و قوله: {وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ} الأمداد إلحاق المدد و هو ما يتقوى به الممد على حاجته، و الأموال و البنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية. 

  • و قوله: {وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر. 

  • و الآيات - كما ترى - تعد النعم الدنيوية و تحكي عنه (عليه السلام) أنه يعد قومه توافر النعم و تواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب و النقمات العامة و انفتاح أبواب النعم من السماء و الأرض أي إن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني و فساده و بين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية و طيب عيشه و نكده. 

  • كما يدل عليه قوله تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ }الروم ٤١، و قوله: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى ٣٠، و قوله: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ }الأعراف ٩٤، و قد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام. 

  • قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} استفهام إنكاري و الوقار - كما في المجمع - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، و الرجاء مقابل الخوف و هو الظن بما فيه مسرة، و المراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، و قيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما. 

تفسير الميزان ج۲۰

31
  • و المعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه. 

  • و الحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف و هو ما يقابل الخوف و نفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، و الوقار الثبوت و الاستقرار و التمكن و هو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع، و وقاره تعالى ثبوته و استقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته و معبوديته. 

  • كان الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره و هو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، و العبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر و تدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة و الجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، و أما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد إيجاد الأرباب و مربوبيهم جميعا دون التدبير. 

  • و الآية أعني قوله: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} و ما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبية و حجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة و غيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، و يتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى. 

  • و محصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للألوهية و المعبودية و اليأس عن وقاره؟ و أنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم و خلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، و ليس تدبير الكون و من فيه من الإنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه و النظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا. 

  • و يتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق و الرزق و الرحمة و سائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته‌۱

  •  

    1. و إنما أخذناه بما نعرفه من صفاته الفعلية لأن من المنسوب إليهم أنهم ينكرون صفاته الذاتية و يفسرونها بسلب النقائص فمعنى كونه حيا قديرا عليما عندهم أنه ليس بميت و لا عاجز و لا جاهل على أن الآيات أيضا تصفه بالصفات الفعلية، منه.

تفسير الميزان ج۲۰

32
  •  قوله تعالى: {وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} حال من فاعل {لاَ تَرْجُونَ} و الأطوار جمع طور و هو حد الشي‌ء و حاله التي هو عليها. 

  • و محصل المعنى - لا ترجون لله وقارا في ربوبية - و الحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا و أنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة و الأنوثة و الألوان و الهيئات و القوة و الضعف إلى غير ذلك، و هل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن و تماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك. 

  • و المراد بالرؤية العلم، و توصيف السماوات السبع و الكلام مسوق سوق الحجة يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا و يسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم. 

  • و كيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الأنبياء (عليهم السلام) من أقدم العهود. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً} الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهي على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته. 

  • و على هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا و لولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، و كون القمر نورا هو كونه منورا لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا. 

  • و أما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله: {وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن و إن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئرا و إن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن و كما تقول: أتيت بني تميم و إنما أتيت بعضهم. 

  • قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً} أي أنبتكم إنبات النبات و ذلك أن 

تفسير الميزان ج۲۰

33
  • الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي و ينمو و يولد المثل، و هذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه و استعارة. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} الإعادة فيها بالإماتة و الإقبار، و الإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية و التي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ} الأعراف: ٢٥. 

  • و في قوله: {وَ يُخْرِجُكُمْ} دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الإعادة و الإخراج كالصنع الواحد و الإعادة مقدمة للإخراج، و الإنسان في حالتي الإعادة و الإخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور. 

  • قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِسَاطاً} أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، و الانتقال من قطر إلى قطر. 

  • قوله تعالى: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} السبل جمع سبيل بمعنى الطريق و الفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، و قيل: الطريق الواقعة بين الجبلين. 

  • قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} رجوع منه (عليه السلام) إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم و ما ألقاه من القول إليهم من قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} إلى آخر الآيات. 

  • و شكواه السابق له قوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً}

  • و في الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه (عليه السلام) كانوا يصدون الناس عنه و يحرضونهم على مخالفته و إيذائه. 

  • و معنى قوله: {لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} و قد عد المال و الولد في سابق كلامه من النعم أن المال و الولد اللذين هما من نعمك و كان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا و أورثهم ذلك خسرانا من رحمتك. 

  • قوله تعالى: {وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} الكبار اسم مبالغة من الكبر. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاَ سُوَاعاً وَ لاَ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً} توصية منهم بالتمسك بآلهتهم و عدم ترك عبادتها. 

تفسير الميزان ج۲۰

34
  • و ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن و لذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، و لعل تصدير ود و ذكر سواع و يغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق و نسر و الله أعلم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} ضمير {أَضَلُّوا} للرؤساء المتبوعين و يتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: {وَ مَكَرُوا} {وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} و قيل: الضمير للأصنام فهم المضلون، و لا يخلو من بعد. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} دعاء من نوح على الظالمين بالضلال و المراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم و فسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك. 

  • (بحث روائي) 

  • في نهج البلاغة: و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق و رحمة الخلق فقال سبحانه: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ} فرحم الله امرأ استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيته‌ 

  • أقول: و الروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق و الأمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة. 

  • و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: أكثر الاستغفار تجلب الرزق.

  • و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال؟ لا تخافون لله عظمة. 

  • أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس. 

  • و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} يقول بعضها فوق بعض

  • و فيه في قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} قال: اتبعوا الأغنياء. 

تفسير الميزان ج۲۰

35
  • و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأصنام و الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. 

  • أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، و أما سواع فكانت لهذيل، و أما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبإ، و أما يعوق فكانت لهمدان، و أما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. 

  • و كانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم - أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و نسخ العلم عبدت. 

  • أقول: لعل المراد بصيرورة تلك الأصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف و الأسماء، و أما انتقال تلك الأصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته. 

  • و روي القصة أيضا في علل الشرائع، بإسناده عن جعفر بن محمد (عليه السلام) كما في الرواية. 

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتي بالخشب من بعد حتى فرغ منها. 

  • قال: فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الداريين و هو موضع دار ابن حكيم، و ذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضل و هنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر. 

  •  

  • [سورة نوح (٧١): الآیات ٢٥ الی ٢٨ ]

  • {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْصَاراً ٢٥ وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً ٢٦ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ٢٧ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ٢٨} 

تفسير الميزان ج۲۰

36
  • (بيان)

  • تتضمن الآيات هلاك القوم و تتمة دعاء نوح (عليه السلام) عليهم. 

  • قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} إلخ {مِنْ} لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و {مِمَّا} زائدة لتأكيد أمر الخطايا و تفخيمه، و الخطيئات‌ المعاصي و الذنوب، و تنكير النار للتفخيم. 

  • و المعنى: من أجل معاصيهم و ذنوبهم أغرقوا بالطوفان فأدخلوا أدخلهم الله نارا لا يقدر عذابها بقدر، و من لطيف نظم الآية الجمع بين الإغراق بالماء و إدخال النار. 

  • و المراد بالنار نار البرزخ التي يعذب بها المجرمون بين الموت و البعث دون نار الآخرة، و الآية من أدلة البرزخ إذ ليس المراد أنهم أغرقوا و سيدخلون النار يوم القيامة، و لا يعبأ بما قيل: إن من الجائز أن يراد بها نار الآخرة. 

  • و قوله: {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْصَاراً} أي ينصرونهم في صرف الهلاك و العذاب عنهم. تعريض لأصنامهم و آلهتهم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} الديار نازل الدار، و الآية تتمة دعائه (عليه السلام) عليهم، و كان قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} إلخ معترضا واقعا بين فقرتي الدعاء للإشارة إلى أنهم أهلكوا لما عد نوح من خطيئاتهم و لتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبين أن إغراقهم كان استجابة لدعائه، و أن العذاب استوعبهم عن آخرهم. 

  • قوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} تعليل لسؤال إهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فإنهم يضلونهم، و لا فيمن يلدونه من الأولاد فإنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا و الفجور الفسق الشنيع و الكفار المبالغ في الكفر. 

  • و قد استفاد (عليه السلام) ما ذكره من صفتهم من الوحي الإلهي على ما تقدم في تفسير قصة نوح من سورة هود. 

  • قوله تعالى: {رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ} 

تفسير الميزان ج۲۰

37
  • «إلخ» المراد بمن دخل بيته مؤمنا المؤمنون به من قومه، و بالمؤمنين و المؤمنات عامتهم إلى يوم القيامة. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً} التبار الهلاك، و الظاهر أن المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة و هو الضلال و هلاك الدنيا بالغرق، و قد تقدما جميعا في دعائه، و هذا الدعاء آخر ما نقل من كلامه (عليه السلام) في القرآن الكريم. 

  •  

  • (٧٢) سورة الجن مكية و هي ثمان و عشرون آية (٢٨) 

  • [سورة الجن (٧٢): الآیات ١ الی ١٧] 

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ١ يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ٢ وَ أَنَّهُ تَعَالى‌ جَدُّ رَبِّنَا مَا اِتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لاَ وَلَداً ٣ وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اَللَّهِ شَطَطاً ٤ وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً ٥ وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ٦ وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اَللَّهُ أَحَداً ٧ وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً ٨ وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ٩ وَ أَنَّا لاَ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ١٠وَ أَنَّا مِنَّا اَلصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا 

تفسير الميزان ج۲۰

38
  • طَرَائِقَ قِدَداً ١١ وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اَللَّهَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ١٢ وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدى‌ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَ لاَ رَهَقاً ١٣ وَ أَنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا اَلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ١٤ وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ١٥ وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ١٧} 

  • (بيان) 

  • تشير السورة إلى قصة نفر من الجن استمعوا القرآن فآمنوا به و أقروا بأصول معارفه، و تتخلص منها إلى تسجيل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الإشارة إلى وحدانيته تعالى في ربوبيته و إلى المعاد، و السورة مكية بشهادة سياقها. 

  • قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقص القصة لقومه، و الموحي هو الله سبحانه، و مفعول {اِسْتَمَعَ} القرآن حذف لدلالة الكلام عليه، و النفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، و قيل: بل إلى أربعين. 

  • و العجب‌ بفتحتين ما يدعو إلى التعجب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله، و إنما وصفوا القرآن بالعجب لأنه كلام خارق للعادة في لفظه و معناه أتى به رجل أمي ما كان يقرأ و لا يكتب. 

  • و الرشد إصابة الواقع و هو خلاف الغي، و هداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد و أعمال تتضمن للمتلبس بها سعادته الواقعية. 

  • و المعنى: يا أيها الرسول قل للناس: {أُوحِيَ } - أي أوحى الله - إلي أنه استمع القرآن جماعة من الجن فقالوا - لقومهم لما رجعوا إليهم - إنا سمعنا كلاما مقروا خارقا للعادة يهدي إلى معارف من عقائد و أعمال في التلبس بها إصابة الواقع و الظفر بحقيقة السعادة. 

تفسير الميزان ج۲۰

39
  • كلام في الجن‌ 

  • الجن‌ نوع من الخلق مستورون من حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم و يذكر أنهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان، و أنهم مخلوقون من النار كما أن الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى: {وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ} الحجر ٢٧. 

  • و أنهم يعيشون و يموتون و يبعثون كالإنسان قال تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} الأحقاف ١٨. 

  • و أن فيهم ذكورا و إناثا يتكاثرون بالتوالد و التناسل قال تعالى: {وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ} الجن ٦. 

  • و أن لهم شعورا و إرادة و أنهم يقدرون على حركات سريعة و أعمال شاقة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و تسخير الجن له و قصة ملكة سبإ. 

  • و أنهم مكلفون كالإنسان، منهم مؤمنون و منهم كفار، و منهم صالحون و آخرون طالحون، قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات ٥٤ و قال تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} الجن: ٢ و قال: {وَ أَنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا اَلْقَاسِطُونَ} الجن ١٤ و قال: {وَ أَنَّا مِنَّا اَلصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِكَ } الجن ١١ و قال تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلىَ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ} الأحقاف ٣١ إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية. 

  • و يظهر من كلامه تعالى أن إبليس من الجن و أن له ذرية و قبيلا قال تعالى: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الكهف ٥٠و قال تعالى: {أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} الكهف: ٥٠و قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} الأعراف ٢٧. 

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} إخبار عن إيمانهم بالقرآن و تصديقهم بأنه حق، و قوله: {وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} تأكيد لمعنى إيمانهم به أن إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الذي أنزله فهو ربهم، و أن إيمانهم به تعالى إيمان توحيد لا يشركون به أحدا أبدا. 

تفسير الميزان ج۲۰

40
  •  قوله تعالى: {وَ أَنَّهُ تَعَالىَ جَدُّ رَبِّنَا مَا اِتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لاَ وَلَداً} فسر الجد بالعظمة و فسر بالحظ، و الآية في معنى التأكيد لقولهم: {وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}

  • و القراءة المشهورة {أَنَّهُ} بالفتح، و قرئ بالكسر في هذه الآية و فيما بعدها من الآيات - اثنا عشر موردا - إلى قوله: {وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا} فبالفتح و هو الأرجح لظهور سياق الآيات في أنها مقولة قول الجن. 

  • و أما قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء، و قد وجهها بعضهم بأن الجملة {وَ أَنَّهُ} «إلخ» معطوفة على الضمير المجرور في قوله {فَآمَنَّا بِهِ} و التقدير و آمنا بأنه تعالى جد ربنا إلخ فهو إخبار منهم بالإيمان بنفي الصاحبة و الولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيون. 

  • و هذا إنما يستقيم على قول الكوفيين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتصل المجرور، و أما على قول البصريين منهم من عدم جوازه فقد وجهه بعضهم كما عن الفراء و الزجاج و الزمخشري بأنها معطوفة على محل الجار و المجرور و هو النصب فإن قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} في معنى صدقناه، و التقدير و صدقنا أنه تعالى جد ربنا إلخ، و لا يخفى ما فيه من التكلف. 

  • و وجهه بعضهم بتقدير حرف الجر في الجملة المعطوفة و ذلك مطرد في أن و أن، و التقدير آمنا به و بأنه تعالى جد ربنا «إلخ». 

  • و يرد على الجميع أعم من العطف على الضمير المجرور أو على محله أو بتقدير حرف الجر أن المعنى إنما يستقيم حينئذ في قوله: {وَ أَنَّهُ تَعَالىَ جَدُّ رَبِّنَا} إلخ، و قوله: {وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} إلخ، و أما بقية الآيات المصدرة بأن كقوله: {وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ} إلخ، و قوله: {وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ} إلخ، و قوله: {وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ} فلا يصح قطعا فلا معنى لأن يقال: آمنا أو صدقنا أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله شططا، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنه كان رجال من الإنس يعوذون إلخ، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنا لمسنا السماء إلخ. 

  • و لا يندفع الإشكال إلا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنه إذا وجه الفتح في الآيتين الأوليين بتقدير الإيمان أو التصديق فليوجه في كل من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير. 

  • و وجه بعضهم الفتح بأن قوله: {وَ أَنَّهُ تَعَالىَ} إلخ و سائر الآيات المصدرة بأن 

تفسير الميزان ج۲۰

41
  • معطوفة على قوله: {أَنَّهُ اِسْتَمَعَ} إلخ. 

  • و لا يخفى فساده فإن محصله أن الآيات في مقام الإخبار عما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أقوالهم و قد أخبر عن قولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا فآمنا به بعنوان أنه إخبار عن قولهم ثم حكى سائر أقوالهم بألفاظها فالمعنى أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا كذا و كذا و أوحي إلي أنه تعالى جد ربنا «إلخ» و أوحي إلي أنه كان يقول سفيهنا إلى آخر الآيات. 

  • فيرد عليه أن ما وقع في صدر الآيات من لفظة {أَنَّهُ} و {أَنَّهُمْ} و {أَنَّا} إن لم يكن جزء من لفظهم المحكي كان زائدا مخلا بالكلام، و إن كان جزء من كلامهم المحكي بلفظه لم يكن المحكي من مجموع أن و ما بعدها كلاما تاما و احتاج إلى تقدير ما يتم به كلاما حتى تصح الحكاية، و لم ينفع في ذلك عطفه على قوله: {أَنَّهُ اِسْتَمَعَ} شيئا فلا تغفل. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اَللَّهِ شَطَطاً} السفه - على ما ذكره الراغب - خفة النفس لنقصان العقل، و الشطط القول البعيد من الحق. 

  • و الآية أيضا في معنى التأكيد لقولهم: {لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} و مرادهم بسفيههم من سبقهم من مشركي الجن، و قيل: المراد إبليس و هو من الجن، و هو بعيد من سياق قوله: {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} إلخ. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} اعتراف منهم بأنهم ظنوا أن الإنس و الجن صادقون فيما يقولون و لا يكذبون على الله فلما وجدوهم مشركين و سمعوهم ينسبون إليه تعالى الصاحبة و الولد أذعنوا به و قلدوهم فيما يقولون فأشركوا مثلهم حتى سمعوا القرآن فانكشف لهم الحق، و فيه تكذيب منهم للمشركين من الإنس و الجن. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} قال الراغب: العوذ الالتجاء إلى الغير، و قال: رهقه‌ الأمر غشيه بقهر انتهى. و فسر الرهق بالإثم، و بالطغيان، و بالخوف، و بالشر، و بالذلة و الضعف، و هي تفاسير بلازم المعنى. 

تفسير الميزان ج۲۰

42
  • و المراد بعوذ الإنس بالجن - على ما قيل -: إن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه، و نقل عن مقاتل أن أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب. 

  • و لا يبعد أن يكون المراد بالعوذ بالجن الاستعانة بهم في المقاصد من طريق الكهانة، و إليه يرجع ما نقل عن بعضهم أن المعنى كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجن و من معرتهم و أذاهم. 

  • و الضميران في قوله: {فَزَادُوهُمْ} أولهما لرجال من الإنس و ثانيهما لرجال من الجن و المعنى فزاد رجال الإنس رجال الجن رهقا بالتجائهم إليهم فاستكبر رجال الجن و طغوا و أثموا، و يجوز العكس بأن يكون الضمير الأول لرجال الجن و الثاني لرجال الإنس، و المعنى فزاد رجال الجن رجال الإنس رهقا أي إثما و طغيانا أو ذلة و خوفا. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اَللَّهُ أَحَداً} ضمير «أنهم» لرجال من الإنس، و الخطاب في {ظَنَنْتُمْ} لقومهم من الجن، و المراد بالبعث بعث الرسول بالرسالة فالمشركون ينكرون ذلك، و قيل: المراد به الإحياء بعد الموت، و سياق الآيات التالية يؤيد الأول. 

  • و عن بعضهم أن هذه الآية و التي قبلها ليستا من كلام الجن بل كلامه تعالى معترضا بين الآيات المتضمنة لكلام الجن، و عليه فضمير {أَنَّهُمْ} للجن و خطاب {ظَنَنْتُمْ} للناس، و فيه أنه بعيد من السياق. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً} لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، و الحرس على ما قيل اسم جمع لحارس و لذا وصف بالمفرد و المراد بالحرس الشديد الحفاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها و لذا شفع بالشهب و هي سلاحهم. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أن مل‌ء السماء بالحرس الشديد و الشهب مما حدث أخيرا و أنهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة و يفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم أن من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعدا للسمع يجد له 

تفسير الميزان ج۲۰

43
  • شهابا من صفته أنه راصد له يرميه به الحرس. 

  • فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع. 

  • و من عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أن في الآيتين ردا على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لظهور قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً} في أن الحادث هو المل‌ء و كثرة الحرس لا أصل الحرس، و ظهور قوله: {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} في أنا كنا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. 

  • و يدفعه أنه لو كان المراد بالآيتين هو الإخبار عن مل‌ء السماء بالحرس و تكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم و قد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجه النفي في قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرد السمع. 

  • سلمنا أن المراد نفي السمع على الإطلاق و هو يكفي في ذلك لكن تعلق الغرض في الكلام بالإخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، و كذا تقييد قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ} إلخ، بقوله: {اَلْآنَ} يدل على حدوث أمر جديد في رجم الجن و هو استيعاب الرجم لهم في أي مقعد قعدوا و المنع من السمع مطلقا بعد ما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، و هذا المقدار كاف للمدعي فيما يدعيه. 

  • و ليتنبه أن مدلول الآية حدوث رجم الجن بشهاب رصد و هو غير حدوث الشهاب السماوي و هو ظاهر فلا ورود لما قيل: إن الشهب السماوية كانت من الحوادث الجوية الموجودة قبل زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزول القرآن. 

  • وجه عدم الورود أن الذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجن بالشهب من غير تعرض لحدوث أصل الشهب، و قد تقدم في تفسير أول سورة الصافات بعض ما يتعلق بهذا المقام. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا لاَ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} 

تفسير الميزان ج۲۰

44
  • الرشد بفتحتين و الرشد بالضم فالسكون خلاف الغي و تنكير {رَشَداً} لإفادة النوع أي نوعا من الرشد. 

  • هذا منهم إظهار للجهل و التحير فيما شاهدوه من أمر الرجم و منع شياطين الجن من الاطلاع على أخبار السماء غير أنهم تنبهوا على أن ذلك لأمر ما يرجع إلى أهل الأرض إما خير أو شر و إذا كان خيرا فهو نوع هدى لهم و سعادة و لذا بدلوا الخير و هو المقابل للشر من الرشد، و يؤيده قولهم: {أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ} المشعر بالرحمة و العناية. 

  • و قد صرحوا بالفاعل لإرادة الرشد و حذفوه في جانب الشر أدبا و لا يراد شر من جانبه تعالى إلا لمن استحقه. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا مِنَّا اَلصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} الصلاح‌ مقابل الطلاح، و المراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، و الظاهر أن دون بمعنى غير، و يؤيده قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} الدال على التفرق و التشتت و الطرائق‌ جمع طريقة و هي الطريق المطروقة المسلوكة، و القدد القطع جمع قدة بمعنى قطعة من القد بمعنى القطع و صفت الطرائق بالقدد لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها، و إلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرقة المتشتتة. 

  • و الظاهر أن المراد بقوله: {اَلصَّالِحُونَ} الصالحون بحسب الطبع الأولي في المعاشرة و المعاملة دون الصالحين بحسب الإيمان، و لو كان المراد صلاح الإيمان لكان الأنسب أن يذكر بعد ما سيجي‌ء من حديث إيمانهم لما سمعوا الهدى. 

  • و ذكر بعضهم أن قوله: {طَرَائِقَ قِدَداً} منصوب على الظرفية أي في طرائق قدد و هي المذاهب المتفرقة المتشتتة، و قال آخرون إنه على تقدير مضاف أي ذوي طرائق، و لا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف و التباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتتة. 

  • و المعنى: و أنا منا الصالحون طبعا و منا غير ذلك كنا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اَللَّهَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} الظن هو 

تفسير الميزان ج۲۰

45
  • العلم اليقيني، و الأنسب أن يكون المراد بقوله: {لَنْ نُعْجِزَ اَللَّهَ فِي اَلْأَرْضِ} إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها و ذلك بالإفساد في الأرض و إخلال النظام الذي يجري فيها فإن إفسادهم لو أفسدوا من القدر، و المراد بقوله: {وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم. 

  • و قيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الأرض و لن نعجزه هربا إلى السماء أي لن نعجزه لا في الأرض و لا في السماء هذا و هو كما ترى. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدىَ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَ لاَ رَهَقاً} المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمنه من الهدى، و البخس‌ النقص على سبيل الظلم، و الرهق‌ غشيان المكروه. 

  • و الفاء في قوله: {فَمَنْ يُؤْمِنْ} للتفريع و هو من تفريع العلة على المعلول لإفادة الحجة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث و لا مهل. 

  • و محصل المعنى: أنا لما سمعنا القرآن الذي هو الهدى بادرنا إلى الإيمان به من دون مكث لأن من آمن به فقد آمن بربه و من يؤمن بربه فلا يخاف نقصانا في خير أو غشيانا من مكروه حتى يكف عن المبادرة و الاستعجال و يتروى في الإقدام عليه لئلا يقع في بخس أو رهق. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا اَلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} المراد بالإسلام تسليم الأمر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الأمر المطيعون له فيما يريده و يأمر به، و القاسطون‌ هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع: القاسط هو العادل عن الحق و المقسط العادل إلى الحق، انتهى. 

  • و المعنى: أنا معشر الجن منقسمون إلى من يسلم لأمر الله مطيعين له، و إلى من يعدل عن التسليم لأمر الله و هو الحق. 

  • و قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} تحري‌ الشي‌ء توخيه و قصده، و المعنى فالذين أسلموا فأولئك قصدوا إصابة الواقع و الظفر بالحق. 

  • قوله تعالى: {وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} فيعذبون بتسعرهم و اشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الإنس قال تعالى: {فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ} البقرة ٢٦. 

تفسير الميزان ج۲۰

46
  • و قد عد كثير منهم قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ} - إلى قوله - {لِجَهَنَّمَ حَطَباً} تتمة لكلام الجن يخاطبون به قومهم و قيل: إنه من كلامه تعالى يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • قوله تعالى: {وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} {أَنْ} مخففة من الثقيلة، و المراد بالطريقة طريقة الإسلام، و الاستقامة عليها لزومها و الثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله و آياته. 

  • و الماء الغدق الكثير منه، و لا يبعد أن يستفاد من السياق أن قوله: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} مثل أريد به التوسعة في الرزق، و يؤيده قوله بعده: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}

  • و المعنى: و أنه لو استقاموا أي الجن و الإنس على طريقة الإسلام لله لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىَ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} الأعراف ٩٦. 

  • و الآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أول السورة: {أَنَّهُ اِسْتَمَعَ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} العذاب الصعد هو الذي يتصعد على المعذب و يغلبه، و قيل: هو العذاب الشاق. 

  • و الإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة و هو الأصل في سلوك العذاب، و لذا وضع موضعه ليدل على السبب الأصلي في دخول النار. 

  • و هو الوجه أيضا في الالتفات عن التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: {ذِكْرِ رَبِّهِ} و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا و ذلك أن صفة الربوبية هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلم مع الغير ليدل على المبدإ الأصلي كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدل على السبب. 

  • قيل: و قوله: {يَسْلُكْهُ} مضمن معنى يدخله و لذا عدي إلى المفعول الثاني، و المعنى ظاهر. 

  • بحث روائي‌ 

  • في المجمع، روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:ما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الجن و ما رآهم، انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في طائفة من أصحابه عامدين إلى 

تفسير الميزان ج۲۰

47
  • سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم: قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك إلا من شي‌ء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها. 

  • فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ}

  • و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح. 

  • أقول: و روى القمي في تفسيره ما يقرب منه و قد أوردنا الرواية في تفسير سورة الأحقاف في ذيل قوله: {وَ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ} إلخ. 

  • لكن ظاهر روايته أن النفر الذين نزلت فيهم آيات سورة الأحقاف هم النفر الذين نزلت فيهم هذه السورة و ظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فإن ظاهر قولهم المنقول في سورة الأحقاف: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‌ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ} الآية أنهم كانوا مؤمنين بموسى و مصدقين للتوراة و ظاهر آيات هذه السورة أنهم كانوا مشركين لا يرون النبوة و لازم ذلك تغاير الطائفتين اللهم إلا أن يمنع الظهور. 

  • و فيه، عن علقمة بن قيس قال:قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا و أرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأما أن يكون صحبة منا أحد فلا. 

  • و فيه، و عن الربيع بن أنس قال: ليس لله تعالى جد و إنما قالته الجن بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام). 

  • أقول: المراد بالجد المنفي عنه تعالى الحظ و البخت. 

  • و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث: فأقبل إليه الجن و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببطن 

تفسير الميزان ج۲۰

48
  • النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، و لقد أقبل إليه أحد و سبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم و الصلاة و الزكاة و الحج و الجهاد و نصح المسلمين فاعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا. 

  • أقول: بيعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على الصوم و الصلاة إلخ، يصدقها قولهم المحكي في أول السورة: {فَآمَنَّا بِهِ} و قولهم: {وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدى‌ آمَنَّا بِهِ}، و أما كيفية عملهم بها و خاصة بالزكاة و الجهاد فمجهولة لنا، و اعتذارهم الأول المذكور لا يخلو من خفاء. 

  • و في تفسير القمي، بإسناده إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله: {وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك. 

  • و فيه في قوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَ لاَ رَهَقاً} قال: البخس النقصان، و الرهق العذاب. 

  • و سئل العالم عن مؤمني الجن أ يدخلون الجنة؟ فقال: لا و لكن لله حظائر بين الجنة و النار يكون فيها مؤمنوا الجن و فساق الشيعة.

  • أقول: لعل المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنة التي هي دون جنة الصالحين. 

  • و اعلم أنه ورد في بعض الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تطبيق ما في الآيات من الهدى و الطريقة على ولاية علي (عليه السلام) و هي من الجري و ليست من التفسير في شي‌ء. 

  •  

  • [سورة الجن (٧٢): الآیات ١٨ الی ٢٨ ]

  • {وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً ١٨ وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اَللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ٢٠قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ رَشَداً ٢١ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اَللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ٢٢ 

تفسير الميزان ج۲۰

49
  • إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِسَالاَتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ٢٥ عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‌ غَيْبِهِ أَحَداً ٢٦ إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‌ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ٢٧ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‌ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عَدَداً ٢٨} 

  • (بيان) 

  • في الآيات تسجيل للنبوة و ذكر وحدانيته تعالى و المعاد كالاستنتاج من القصة و تختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً} معطوف على قوله: {أَنَّهُ اِسْتَمَعَ} إلخ، و جملة {أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} في موضع التعليل لقوله: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً} و التقدير لا تدعوا مع الله أحدا غيره لأن المساجد له. 

  • و المراد بالدعاء العبادة و قد سماها الله دعاء كما في قوله: {وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} المؤمن ٦٠. 

  • و قد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، و قيل المسجد الحرام، و قيل: المسجد الحرام و بيت المقدس، و يدفعها كون المساجد جمعا لا ينطبق على الواحد و الاثنين. 

  • و قيل: الحرم، و هو تهكم لا دليل عليه، و قيل: الأرض كلها لقوله (صلى الله عليه وآله و سلم): جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و فيه أنه لا يدل على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من 

تفسير الميزان ج۲۰

50
  • بقاع الأرض خلافا لما هو المعروف عن اليهود و النصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع و الكنائس، و أما تسمية بقاعها مساجد حتى يحمل عليها عند الإطلاق فلا. 

  • و قيل: المراد به الصلوات فلا يصلى إلا لله، و هو تهكم لا دليل عليه. 

  • و عن الإمام الجواد (عليه السلام): أن المراد بالمساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و أصابع الرجلين‌، و ستوافيك روايته في البحث الروائي التالي إن شاء الله، و نقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير و الفراء و الزجاج. 

  • و الأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصا تشريعيا، و المراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنها تتضمن السجود لله سبحانه. 

  • و المعنى: و أوحي إلي أن أعضاء السجود يختص بالله تعالى فاسجدوا له بها أو اعبدوه بها و لا تسجدوا أو لا تعبدوا أحدا غيره. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اَللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضم فالسكون المجتمعة المتراكمة، و المراد بعبد الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما تدل عليه الآية التالية، و التعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي}. و الأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله: {كَادُوا يَكُونُونَ} المشركين و قد كانوا يزدحمون عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا صلى و قرأ القرآن يستهزءون و يرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل. 

  • و المعنى: و أنه لما قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبدا مجتمعين متراكمين. 

  • و قيل: الضميران للجن و أنهم اجتمعوا عليه و تراكموا ينظرون إليه متعجبين مما يشاهدون من عبادته و قراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله. 

  • و قيل: الضميران للمؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلى و إنصاتا لما يتلوه من كلام الله. 

  • و الوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۲۰

51
  • أن يبين لهم وجه عبادته بيانا يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، و يتعجبون حاملين له على نوع من المكيدة و المكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض أخر دنيوية. 

  • و محصل البيان: أني لست أريد بما آتي به من العمل شيئا من المقاصد التي تحسبونها و ترمونني بها و إنما أدعو ربي وحدة غير مشرك به أحدا و عبادة الإنسان لمن عرفه ربا لنفسه مما لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجب منه. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ رَشَداً} الذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) يبين فيها بأمر من ربه موقع نفسه و بالنسبة إلى ربه و بالنسبة إلى الناس. 

  • أما موقعه بالنسبة إلى ربه فهو أنه يدعوه و لا يشرك به أحدا و هو قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}

  • و أما موقعه بالنسبة إليهم فهو أنه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرا و لا رشدا حتى يضرهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، و أنه مأمور من الله بدعوتهم أمرا ليس له إلا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه و لا ملجأ يلتجئ إليه لو خالف و عصى كما ليس لهم إلا أن يطيعوا الله و رسوله و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، و سيعلمون إذا رأوا ما يوعدون. 

  • و لازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضر القدرة على إيقاع الضر بهم فيوقعه بهم إذا أراد، و المراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أي إني لا أدعي أني أقدر أن أضركم أو أنفعكم، و قيل: المراد بالضر الغي المقابل للرشد تعبيرا باسم المسبب عن السبب. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اَللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِسَالاَتِهِ} الإجارة إعطاء الجوار و حكمه حماية المجير للجار و منعه ممن يقصده بسوء، و الظاهر أن الملتحد اسم مكان و هو المكان الذي يعدل و ينحرف إليه للتحرز من الشر، و قيل: المدخل و يتعلق به قوله: {مِنْ دُونِهِ} و هو كالقيد التوضيحي و الضمير لله و البلاغ التبليغ. 

  • و قوله: {إِلاَّ بَلاَغاً} استثناء من قوله: {مُلْتَحَداً} و قوله: {مِنَ اَللَّهِ} متعلق بمقدر 

تفسير الميزان ج۲۰

52
  • أي كائنا من الله و ليس متعلقا بقوله: {بَلاَغاً} لأنه يتعدى بعن لا بمن و لذا قال بعض من جعله متعلقا ببلاغا: إن «من» بمعنى عن، و المعنى على أي حال إلا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء و الصفات. 

  • و قوله: {وَ رِسَالاَتِهِ} قيل: معطوف على {بَلاَغاً} و التقدير إلا بلاغا من الله و إلا رسالاته و قيل: معطوف على لفظ الجلالة و من بمعنى عن، و المعنى إلا بلاغا عن الله و عن رسالاته. 

  • و فيما استثني منه بلاغا قول آخر و هو أنه مفعول {لاَ أَمْلِكُ} و المعنى لا أملك لكم ضرا و لا رشدا إلا تبليغا من الله و رسالاته، و يبعده الفصل بين المستثنى و المستثنى منه بقوله: {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اَللَّهِ أَحَدٌ} إلخ و هو كلام مستأنف. 

  • و معنى الآيتين على ما قدمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه و لن أجد من دونه مكانا التجئ إليه إلا تبليغا كائنا منه و رسالاته أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه و صفاته و إلا رسالاته في شرائع الدين. 

  • قوله تعالى: {وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} إفراد ضمير {اَللَّهِ} باعتبار لفظ {مِنَ} كما أن جمع {خَالِدِينَ} باعتبار معناها. 

  • و عطف الرسول على الله في قوله: {وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلا رسالة ربه فالرد عليه فيما أتي به رد على الله سبحانه و طاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ} النساء ٨٠. 

  • و المراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرع عليه من أصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله. 

  • و الظاهر أن قوله: {وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ} إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً} لقوله: {حَتَّى} دلالة على معنى مدخولها غاية له و مدخولها يدل على أنهم كانوا يستضعفون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ناصريه - و هم المؤمنون - ضعفاء و استقلال عدده بعد عددهم قليلا 

تفسير الميزان ج۲۰

53
  • فالكلام يدل على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك و يستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون إلخ. 

  • و المراد بما يوعدون نار جهنم لأنها هي الموعودة في الآية، و الآية من كلامه تعالى يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لو كانت من كلامه و هي مصدرة بقوله تعالى {قُلْ} لكان من حق الكلام أن يقال: حتى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ. 

  • قوله تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} الأمد الغاية التي ينتهي إليها، و الآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنهم لما سمعوا الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً} إظهار الشي‌ء على الشي‌ء إعانته و تسليطه عليه، و {عَالِمُ اَلْغَيْبِ} خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو عالم الغيب، و مفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كل غيب، و لذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانيا فقال: {عَلىَ غَيْبِهِ} بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص و لو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك. 

  • و المعنى هو عالم كل غيب علما يختص به فلا يطلع على الغيب و هو مختص به أحدا من الناس فالمفاد سلب كلي و إن أصر بعضهم على كونه سلبا جزئيا محصل معناه لا يظهر على كل غيبه أحدا و يؤيد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اِرْتَضىَ مِنْ رَسُولٍ} استثناء من قوله: {أَحَداً} و {مِنْ رَسُولٍ} بيان لقوله {مَنِ اِرْتَضىَ} فيفيد أن الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختص به فالآية إذا انضمت إلى الآيات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله: {وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} الأنعام: ٥٩، و قوله: {وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} النحل: ٧٧، و قوله: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ} النمل: ٦٥ أفاد ذلك معنى الأصالة و التبعية فهو تعالى يعلم الغيب لذاته و غيره يعلمه بتعليم من الله. 

  • فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرضة للتوفي كقوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ} الزمر: ٤٢ الدال على الحصر، و قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الم السجدة: ١١، و قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الأنعام: ٦١ فالتوفي منسوب إليه تعالى على 

تفسير الميزان ج۲۰

54
  • نحو الأصالة و إلى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسبابا متوسطة مسخرة له تعالى. 

  • قوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } - إلى قوله - {عَدَداً} ضمير {فَإِنَّهُ} لله تعالى، و ضميرا {يَدَيْهِ} و {خَلْفِهِ} للرسول، و الراصد المراقب للأمر الحارس له، و الرصد الراصد يطلق على الواحد و الجماعة و هو في الأصل مصدر، و المراد بما بين يدي الرسول ما بينه و بين الناس المرسل إليهم، و بما خلفه ما بينه و بين مصدر الوحي الذي هو الله سبحانه و قد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهم يأخذ من المرسل اسم فاعل و ينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدي رسالته، و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول و هو الرسالات التي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ}

  • و المعنى: فإن الله يسلك ما بين الرسول و من أرسل إليه و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة و من المعلوم أن سلوك الرصد من بين يديه و من خلفه لحفظ الوحي من كل تخليط و تغيير بالزيادة و النقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها. 

  • و قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} ضمير {لِيَعْلَمَ} لله سبحانه، و ضميرا {قَدْ أَبْلَغُوا} و {رَبِّهِمْ} لقوله: {مَنِ} باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، و المراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربهم العلم الفعلي و هو تحقق الإبلاغ في الخارج على حد قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ} العنكبوت: ٣ و هو كثير الورود في كلامه تعالى. 

  • و الجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول و من خلفه، و المعنى ليتحقق إبلاغ رسالات ربهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغير و تبدل. 

  • و من المحتمل أن يرجع ضميرا {بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} إلى {غَيْبِهِ} فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل و من خلفه إلى أن يبلغ الرسول، و يضعفه أنه لا يلائم قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} بالمعنى الذي تقدم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليما من تعرض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس. 

  • و إلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إن الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل الوحي. و يضعفه مضافا إلى ما مر عدم سبق ذكره. 

تفسير الميزان ج۲۰

55
  • و قيل: ضمير ليعلم للرسول و ضميرا {قَدْ أَبْلَغُوا} و {رَبِّهِمْ} للملائكة الرصد و المعنى يرصد الملائكة الوحي و يحرسونه ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئن نفسه أنه سليم من تعرض الشياطين فإن لازم العلم بإبلاغهم إياه العلم ببلوغه. 

  • و يبعده أن ظاهر السياق - و يؤيده سبق ذكر الرسول - أن المراد بالرسالات الرسالات التي حملها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حملها ملك الوحي فضمير {رَبِّهِمْ} للرسل دون الملائكة، على أن الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد و هو غير عنوان الرسالة و شأن الرصد الحفظ و الحراسة دون الرسالة. 

  • و قيل: المعنى ليعلم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم، و هو وجه سخيف لا دليل عليه، و أسخف منه ما قيل: إن المعنى ليعلم مكذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم إليهم. 

  • و قوله: {وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدم من المعنى و الظاهر أن الجملة متممة لمعنى الحراسة المذكورة سابقا فقوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} يشير إلى رصد ما بين الرسول و المرسل إليهم، و قوله: {وَ مِنْ خَلْفِهِ} إلى حفظ ما بينه و مصدر الوحي، و قوله: {وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} يشير إلى ظرف نفس الرسول و الإحاطة إحاطة علمية فالوحي في أمن من تطرق التغيير و التبديل فيما بين مصدر الوحي و الرسول و في نفس الرسول و في ما بين الرسول و المرسل إليهم. 

  • و يمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلق ما بالرسل أعم من مسير الوحي أو أنفسهم كما أن قوله: {وَ أَحْصىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عَدَداً} مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنه العلم بعددها و تميز بعضها من بعض. 

  • فقد تبين مما مر في الآيات الثلاث: 

  • أولا: أن اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته و غيره يعلمه بتعليم منه. 

  • و به يظهر أن ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة و الاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ 

تفسير الميزان ج۲۰

56
  •  أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ} الأنعام: ٥٠، و قوله: {وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ }الأعراف: ١٨٨ و قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحىَ إِلَيَّ} الأحقاف: ٩. 

  • و ثانيا: أن عموم قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً} لما خصص بقوله: {إِلاَّ مَنِ اِرْتَضىَ مِنْ رَسُولٍ} عاد عاما مخصصا لا يأبى تخصيصا بمخصص آخر كما في مورد الأنبياء فإن الآيات القرآنية تدل على أنهم يوحى إليهم كقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلىَ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} النساء: ١٦٣ و تدل على أن الوحي من الغيب فالنبي ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبي و أما لو أريد مطلق من أرسله الله إلى الناس و النبي ممن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ} الآية: الحج: ٥٢، و قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ }الأعراف: ٩٤ فالنبي خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد. 

  • و كذا في مورد الإمام بالمعنى الذي يستعمله فيه القرآن فإنه تعالى يصفه بالصبر و اليقين كما في قوله: {وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} الم السجدة ٢٤ و يعرفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} الأنعام: ٧٥، و قوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ} التكاثر: ٦ و قد تقدم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة. 

  • و أما الملائكة فما يحملونه من الوحي السماوي قبل نزوله و كذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم و إن كان غيبا بالنسبة إلينا. على أن قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً} إنما يشمل أهل الدنيا ممن يعيش على بسيط الأرض و إلا لانتقض بالأموات المشاهدين لأمور الآخرة و هي من الغيب بنص القرآن فلم يبق تحت عموم النفي حتى فرد واحد إذ ما من أحد إلا و هو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود، و كما أن الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادة. 

  • و ثالثا: أن قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} إلى آخر الآيتين يدل على أن الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه. 

تفسير الميزان ج۲۰

57
  • أما مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله {مِنْ خَلْفِهِ} ۱و أما مصونيته حين أخذ الرسول إياه و تلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله، و مصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} حيث يدل على أن الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إياهم و لو لا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعا لم يتم الغرض الإلهي و هو ظاهر، و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقا غير سلوك الرصد دل ذلك على أن الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول كما أنه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، و يؤكده قوله بعد: {وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ}

  • و أما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} على ما تقدم من معناه. 

  • أضف إلى ذلك دلالة قوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} بما تقدم من تقريب دلالته. 

  • و يتفرع على هذا البيان أن الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعا لما مر من دلالة الآية على أن ما نزله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس. 

  • و التبليغ يعم القول و الفعل فإن في الفعل تبليغا كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية لأن في ذلك تبليغا لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولا. 

  • و قد تقدمت الإشارة إلى أن النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، و يتحصل بذلك أن أصحاب الوحي سواء كانوا رسلا أو أنبياء 

    1. هذا بناء على رجوع الضمير إلى الرسول و أما بناء على احتمال رجوع الضمير إلى الغيب فالدال عليه مجموع «من بين يديه و من خلفه» لكنه ضعيف كما تقدم.

تفسير الميزان ج۲۰

58
  • معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما أوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولا و فعلا. 

  • و رابعا: أن الذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقق إبلاغ رسالته أعم من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية و شرائع الدين و القصص و العبر و الحكم و المواعظ أو يكون من آيات الرسالة و المعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيبات كقول صالح لقومه: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} هود: ٦٥، و قول عيسى لبني إسرائيل: {وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ }آل عمران: ٤٩، و كذا ما ورد من مواعد الرسل، و ما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كل ذلك من إظهارهم على الغيب. 

  • بحث روائي 

  • عن تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه سأله المعتصم عن السارق من أي موضع يجب أن يقطع؟ فقال: إن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فتترك الكف. 

  • فقال: و ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): السجود على سبعة أجزاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يدا يسجد عليها و قال الله: {وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً} و ما كان لله فلا يقطع. (الحديث). 

  • و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: و سجد يعني أبا عبد الله (عليه السلام) على ثمانية أعظم: الكفين و الركبتين و إبهامي الرجلين و الجبهة و الأنف، و قال: سبعة منها فرض يسجد عليها و هي التي ذكرها الله في كتابه فقال: {وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً} و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و الإبهامان و وضع الأنف على الأرض سنة.

  • و عن الخرائج و الجرائح، روى محمد بن الفضل الهاشمي عن الرضا (عليه السلام): أنه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك لكنت مصدقا لي؟ قال: لا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. قال: أ و ليس أنه يقول: {عَالِمُ 

تفسير الميزان ج۲۰

59
  •  اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‌ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‌ مِنْ رَسُولٍ} فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عند الله مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

  •  أقول: و الأخبار في هذا الباب فوق حد الإحصاء، و مدلولها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أخذه بوحي من ربه و أنهم أخذوه بالوراثة منه (صلى الله عليه وآله و سلم).

  •  

  • (٧٣) سورة المزمل مكية و هي عشرون آية (٢٠) 

  • [سورة المزمل (٧٣): الآیات ١ الی ١٩]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ ١ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ٢ نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ٣ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ٤ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ٥ إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً ٦ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً ٧ وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ٨ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ٩ وَ اِصْبِرْ عَلى‌ مَا يَقُولُونَ وَ اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ١٠وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ١١ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَ جَحِيماً ١٢ وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَ عَذَاباً أَلِيماً ١٣ يَوْمَ تَرْجُفُ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً ١٤ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلى‌ فِرْعَوْنَ رَسُولاً ١٥ فَعَصى‌ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ١٦ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ 

تفسير الميزان ج۲۰

60
  • يَوْماً يَجْعَلُ اَلْوِلْدَانَ شِيباً ١٧ اَلسَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ١٨ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‌ رَبِّهِ سَبِيلاً ١٩} 

  • (بيان) 

  • السورة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقيام الليل و الصلاة فيه ليستعد بذلك لتلقي ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل و القرآن الموحي إليه، و تأمره أن يصبر على ما يقولون فيه أنه شاعر أو كاهن أو مجنون إلى غير ذلك و يهجرهم هجرا جميلا، و فيها وعيد و إنذار للكفار و تعميم الحكم لسائر المؤمنين، و في آخرها تخفيف ما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين. 

  • و السورة مكية من عتائق السور النازلة في أول البعثة حتى قيل: إنها ثانية السور النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو ثالثتها. 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ} بتشديد الزاي و الميم و أصله المتزمل اسم فاعل من التزمل‌ بمعنى التلفف بالثوب لنوم و نحوه، و ظاهره أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قد تزمل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي و خوطب بالمزمل. 

  • و ليس في الخطاب به تهجين و لا تحسين كما توهمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قد قوبل في دعوته بالهزء و السخرية و الإيذاء فاغتم في الله فتزمل بثوب لينام دفعا للهم فخوطب بالمزمل و أمر بقيام الليل و الصلاة فيه و الصبر على ما يقولون على حد قوله تعالى: {اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ} البقرة: ١٥٣ فأفيد بذلك أن عليه أن يقاوم الكرب العظام و النوائب المرة بالصلاة و الصبر لا بالتزمل و النوم. 

  • و قيل: المراد يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها، و لا شاهد عليه من جهة اللفظ. 

  • قوله تعالى: {قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} المراد بقيام الليل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعا كما في قولهم: دخلت الدار، و قيل: معمول {قُمِ} مقدر و {اَللَّيْلَ} منصوب على الظرفية و التقدير قم إلى الصلاة في الليل، و قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء من الليل. 

تفسير الميزان ج۲۰

61
  • و قوله: {نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ظاهر السياق أنه بدل من {اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} المتعلق به تكليف القيام، و ضميرا {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} للنصف، و ضمير {نِصْفَهُ} لليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف قليلا، و الترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خير بين قيام النصف و قيام أقل من النصف بقليل و قيام أكثر منه بقليل. 

  • و قيل: {نِصْفَهُ} بدل من المستثنى أعني {قَلِيلاً} فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقل من النصف، و تكون جملة البدل رافعا لإبهام المستثنى بالمطابقة و لإبهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق. 

  • و الوجهان و إن اتحدا في النتيجة غير أن الوجه السابق أسبق إلى الذهن لأن الحاجة إلى رفع الإبهام عن متعلق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الإبهام عن توابعه و ملحقاته فكون قوله: «نصفه» إلخ بدلا من الليل و لازمه رفع إبهام متعلق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلا من {قَلِيلاً}

  • و قيل: إن نصفه بدل من الليل لكن المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلا أو زد عليه إلا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، و لا بأس بهذا الوجه لكن الوجه الأول أسبق منه إلى الذهن. 

  • و قوله: {وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ترتيل‌ القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، و الجملة معطوفة على قوله: {قُمِ اَللَّيْلَ} أي قم الليل و اقرأ القرآن بترتيل. 

  • و الظاهر أن المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها و قد عبر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىَ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} إسراء: ٧٨، و قيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} الثقل‌ كيفية جسمانية من خاصته أنه يشق حمل الجسم الثقيل و نقله من مكان إلى مكان و ربما يستعار للمعاني إذا شق على النفس 

تفسير الميزان ج۲۰

62
  • تحملها أو لم تطقها فربما أضيف إلى القول من جهة معناه فعد ثقيلا لتضمنه معنى يشق على النفس إدراكه أو لا تطيق فهمه أو تتحرج من تلقيه كدقائق الأنظار العلمية إذا ألقيت على الأفهام العامة، أو لتضمنه حقائق يصعب التحقق بها أو تكاليف يشق الإتيان بها و المداومة عليها. 

  • و القرآن قول إلهي ثقيل بكلا المعنيين: أما من حيث تلقي معناه فإنه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة و الكبرياء لا تتلقاه إلا نفس طاهرة من كل دنس منقطع عن كل سبب إلا الله سبحانه، و كتاب عزيز له ظهر و بطن و تنزيل و تأويل تبيانا لكل شي‌ء، و قد كان ثقله مشهودا من حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما كان يأخذه من البرحاء و شبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة. 

  • و أما من حيث التحقق بحقيقة التوحيد و ما يتبعها من الحقائق الاعتقادية فكفى في الإشارة إلى ثقله قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلىَ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر: ٢١، و قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتىَ} الرعد ٣١. 

  • و أما من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة و إقامة مراسم الدين الحنيف، و إظهاره على الدين كله فيشهد به ما لقي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المصائب و المحن في سبيل الله و الأذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنية الحاكية لما لقيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المشركين و الكفار و المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من أنواع الإيذاء و الهزء و الجفاء. 

  • فقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أول البعثة، و به فسره المفسرون. 

  • و الآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: {قُمِ اَللَّيْلَ} إلخ فتفيد بمقتضى السياق - و الخطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - أن أمره بقيام الليل و التوجه فيه إليه تعالى بصلاة الليل تهيئة له و إعداد لكرامة القرب و شرف الحضور و إلقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدية إلى هذا الموقف الكريم و قد عد سبحانه صلاة الليل سبيلا إليه في قوله الآتي: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ سَبِيلاً}

  • و قد زاد سبحانه وعدا على ما في هذه الآية في قوله: {وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً 

تفسير الميزان ج۲۰

63
  • لَكَ عَسىَ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} إسراء: ٧٩ و قد تقدم معنى المقام المحمود في تفسير الآية. 

  • و إذ كان من ثقل القرآن ثقله من حيث التحقق بحقائقه و من حيث استجابته فيما يندب إليه من الشرائع و الأحكام فهو ثقيل على الأمة كما هو ثقيل عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) و معنى الآية إنا سنوحي إليك قولا يثقل عليك و على أمتك أما ثقله عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما في التحقق بحقائقه من الصعوبة و لما فيه من محنة الرسالة و ما يتبعها من الأذى في جنب الله و ترك الراحة و الدعة و مجاهدة النفس و الانقطاع إلى الله مضافا إلى ما في تلقيه من مصدر الوحي من الجهد، و أما ثقله على أمته فلأنهم يشاركونه (صلى الله عليه وآله و سلم) في لزوم التحقق بحقائقه و اتباع أوامره و نواهيه و رعاية حدوده كل طائفة منهم على قدر طاقته. 

  • و للقوم في معنى ثقل القرآن أقوال أخر: 

  • منها: أنه ثقيل بمعنى أنه عظيم الشأن متين رصين كما يقال: هذا كلام له وزن إذا كان واقعا موقعه. 

  • و منها: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة حقيقة أو مجازا بمعنى كثرة الثواب عليه. 

  • و منها: أنه ثقيل على الكفار و المنافقين بما له من الإعجاز و بما فيه من الوعيد. 

  • و منها: أن ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى و يثبت في مكانه. 

  • و منها: غير ذلك و الوجوه المذكورة و إن كانت لا بأس بها في نفسها لكن ما تقدم من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} الآية الأولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتا لهذه الصلاة، و الآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار و الإعراض عنه كما أن الآية السابقة أعني قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة. 

  • فقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً} الناشئة إما مصدر كالعاقبة و العافية بمعنى النشأة و هي الحدوث و التكون، و إما اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه و كيف كان فالمراد بها الليل و إطلاق الحادثة على الليل كإطلاقها على سائر أجزاء 

تفسير الميزان ج۲۰

64
  • الخلقة و ربما قيل: إنها الصلاة في الليل و وطء الأرض وضع القدم عليها، و كونها أشد وطأ كناية عن كونها أثبت قدما لصفاء النفس و عدم تكدرها بالشواغل النهارية و قيل: الوطء مواطاة القلب اللسان و أيد بقراءة {أَشَدُّ وَطْئاً} و المراد بكونها أقوم قيلا كونها أثبت قولا و أصوب لحضور القلب و هدوء الأصوات. 

  • و المعنى أن حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدما - أو أشد في مواطاة القلب اللسان و أثبت قولا و أصوب لما أن الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الإنسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه و فراغ باله. 

  • و قوله: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} السبح‌ المشي السريع في الماء و السبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمات المعاش و أنواع التقلب في قضاء حوائج الحياة. 

  • و المعنى أن لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغا تشتغل فيه بالتوجه التام إلى ربك و الانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل و الصلاة فيه. 

  • و قيل: المعنى أن لك في النهار فراغا لنومك و تدبير أمر معاشك و التصرف في حوائجك فتهجد في الليل. 

  • و قيل: المعنى أن لك في النهار فراغا فإن فاتك من الليل شي‌ء أمكنك أن تتداركه في النهار و تقضيه فيه فالآية في معنى قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} الفرقان: ٦٢. 

  • و الذي قدمناه من المعنى أنسب للمقام. 

  • قوله تعالى: {وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} الظاهر أنه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيري على قوله: {وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} و على هذا فالمراد بذكر اسم الرب تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب و كذا المراد بالتبتل التبتل مع اللفظ. 

  • و قيل: الآية تعميم بعد التخصيص و المراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلا و نهارا على أي وجه كان من تسبيح و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و غير ذلك، و إنما فسر الذكر بالدوام لأنه (صلى الله عليه وآله و سلم) لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره، و المراد الدوام العرفي دون الحقيقي لعدم إمكانه. انتهى. 

  • و فيه أنه إن أراد بالذكر الذكر اللفظي فعدم نسيانه (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه تعالى لا ينافي أمره 

تفسير الميزان ج۲۰

65
  • بالذكر اللفظي، و إن أراد ما يعم الذكر القلبي فهو ممنوع و لو سلم ففيه أولا أن عدم نسيانه (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده و ثانيا أن عده الدوام الحقيقي غير ممكن و حمل الدوام على العرفي وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جل ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه و لا لحظة سواء تنبه عليه الإنسان أو غفل عنه. و من الممكن أن يعرفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه و لا في حال قال تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} حم السجدة: ٣٨ و قال: {يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} الأنبياء: ٢٠و قد تقدم في تفسير الآيتين و آخر سورة الأعراف أن ذلك لا يختص بالملائكة. 

  • و بالجملة قوله: {وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ} أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصة و قيل: المراد به البسملة. 

  • و في قوله: {رَبِّكَ} التفات عن التكلم مع الغير في قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي} إلى الغيبة و لعل الوجه فيه إيقاظ ذلة العبودية التي هي الرابطة بين العبد و ربه، بذكر صفة الربوبية. 

  • و قوله {وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} فسر التبتل‌ بالانقطاع أي و انقطع إلى الله، و من المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن التبتل رفع اليد إلى الله و التضرع إليه، و هذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظي كما تقدم. 

  • و {تَبْتِيلاً} مفعول مطلق ظاهرا و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و تبتل إليه تبتلا فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتل معنى بتل، و المعنى و قطع نفسك من غيره إليه تقطيعا أو احمل نفسك على رفع اليد إليه و التضرع حملا، و قيل: لمراعاة الفواصل. 

  • قوله تعالى: {رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} وصف مقطوع عن الوصفية و التقدير هو رب المشرق و المغرب، و رب المشرق و المغرب في معنى رب العالم كله فإن المشرق و المغرب جهتان نسبيتان تشملان جهات العالم المشهود كلها، و إنما اختصا بالذكر لمناسبة ما تقدم من ذكر الليل و النهار المرتبطين بالشروق و الغروب. 

  • و إنما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيته تعالى بقوله السابق: {رَبِّكَ} للإيذان بأنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مأمور باتخاذه ربا لأنه ربه و رب العالم كله لا لأنه ربه وحده كما ربما كان الرجل 

تفسير الميزان ج۲۰

66
  • من الوثنيين يتخذ صنما لنفسه فحسب غير ما اتخذه غيره من الأصنام و لو كان اتخاذه (صلى الله عليه وآله و سلم) له تعالى ربا من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصح دعوته إلى التوحيد. 

  • و ليكون قوله: {رَبِّكَ }{رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ } و هو في معنى رب العالم كله توطئة و تمهيدا لقوله بعده: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} يعلل به توحيد الألوهية فإن الألوهية و هي المعبودية من فروع الربوبية التي هي الملك و التدبير كما تقدم مرارا فهو تعالى الإله وحده لا إله إلا هو لأنه الرب وحده لا رب إلا هو. 

  • و قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي في جميع أمورك، و توكيل‌ الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته و عمله مقام عمله فاتخاذه تعالى وكيلا أن يرى الإنسان الأمر كله له و إليه تعالى أما في الأمور الخارجية و الحوادث الكونية فأن لا يرى لنفسه و لا لشي‌ء من الأسباب الظاهرية استقلالا في التأثير فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلا الله فلا يتعلق بتأثير سبب من الأسباب برضى أو سخط أو سرور أو أسف و غير ذلك بل يتوسل إلى مقاصده و مآربه بما عرفه الله من الأسباب من غير أن يطمئن إلى استقلالها في التأثير و يرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه. 

  • و أما الأمور التي لها تعلق بالعمل من العبادات و المعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربه التشريعية فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرع من الشريعة. 

  • و من هنا يظهر أن لقوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ارتباطا بقوله: {وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ} إلخ و ما تقدم عليه من الأوامر التشريعية كما أن له ارتباطا بما تأخر عنه من قوله {وَ اِصْبِرْ} و قوله {اُهْجُرْهُمْ} و قوله: {وَ ذَرْنِي}

  • قوله تعالى: {وَ اِصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} معطوف هو و ما بعده على مدخول الفاء في قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} فالمعنى اتخذه وكيلا و لازم اتخاذه وكيلا أن تصبر على ما يقولون مما فيه إيذاؤك و الاستهزاء بك و رميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأولين و غير ذلك مما يقصه القرآن. 

  • و أن تهجرهم هجرا جميلا، و المراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق و الدعوة إلى الحق بالمناصحة، و لا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، و الآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنها منسوخة بآية القتال. 

تفسير الميزان ج۲۰

67
  • قوله تعالى: {وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} تهديد للكفار يقال: دعني و فلانا و ذرني‌ و فلانا أي لا تحل بيني و بينه حتى أنتقم منه. 

  • و المراد بالمكذبين أولي النعمة الكفار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم المتبوعون، و الجمع بين توصيفهم بالمكذبين و توصيفهم بأولي النعمة للإشارة إلى علة ما يهددهم به من العذاب فإن تكذيبهم بالدعوة الإلهية و هم متنعمون بنعمة ربهم كفران منهم بالنعمة و جزاء الكفران سلب النعمة و تبديلها من النقمة. 

  • و المراد بالقليل الذي يمهلونه الزمان القليل الذي يمكثون في الأرض حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم و يجازيهم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَرَاهُ قَرِيباً} المعارج: ٧، و قال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ} آل عمران ١٩٧. 

  • و الآية بظاهرها عامة، و قيل: وعيد لهم بوقعة بدر و ليس بظاهر، و في الآية التفات عن الغيبة في {رَبِّكَ} إلى التكلم وحده في {ذَرْنِي} و لعل الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثم التفت في قوله: {إِنَّ لَدَيْنَا} إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَ جَحِيماً} تعليل لقوله {ذَرْنِي} إلخ و الأنكال‌ القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشي‌ء ضعف و عجز، و نكلته قيدته و النكل‌ - بالكسر فالسكون - قيد الدابة و حديدة اللجام لكونهما مانعين، و الجمع الأنكال انتهى، و قال: الجحمة شدة تأجج النار و منه الجحيم، انتهى. 

  • قوله تعالى: {وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَ عَذَاباً أَلِيماً} قال في المجمع: الغصة تردد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال: غص بريقه يغص غصصا، و في قلبه غصة من كذا و هي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام و الشراب، انتهى. 

  • و الآيتان تذكران نقم الآخرة التي بدلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب: الرجف‌ الاضطراب الشديد يقال: رجفت الأرض و البحر انتهى. و في المجمع: الكثيب‌ الرمل المجتمع الكثير، و هلت‌ أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه انتهى، و المعنى ظاهر. 

تفسير الميزان ج۲۰

68
  •  قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً} إنذار للمكذبين أولي النعمة من قومه (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما أوعد مطلق المكذبين أولي النعمة بما أعد لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله و رسوله المستذل لرسول الله و من آمن معه من قومه ثم قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذا وبيلا فليتعظوا و ليأخذوا حذرهم. 

  • و في الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كان المتكلم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على أولئك المكذبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبدي لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أي شك و ترديد و تتم عليهم الحجة و لعلهم يتقون، و لذا عقب قياسهم إلى فرعون و قياس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى موسى (عليه السلام) و الإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً} إلخ. 

  • فقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} إشارة إلى تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من قبله تعالى و شهادته على أعمالهم بتحملها في الدنيا و تأديتها يوم القيامة، و قد تقدم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مرارا، و في الإشارة إلى شهادته (صلى الله عليه وآله و سلم) نوع زجر لهم عن عصيانه و مخالفته و تكذيبه. 

  • و قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً} هو موسى بن عمران (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {فَعَصىَ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي شديدا ثقيلا. إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسى (عليه السلام)، و في التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أن السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنه موسى، و إذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • كما أن وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: {فَعَصىَ فِرْعَوْنُ} للإيماء إلى أن ما كان له من العزة و العلو في الأرض و التبجح بكثرة العدة و سعة المملكة و نفوذ المشية لم يغن عنه شيئا و لم يدفع عنه عذاب الله فما الظن بهؤلاء المكذبين؟ و هم كما قال الله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزَابِ} ص ١١. 

  • قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ اَلْوِلْدَانَ شِيباً} نسبة الاتقاء إلى اليوم من المجاز العقلي و المراد اتقاء العذاب الموعود فيه، و عليه فيوما مفعول به لتتقون، 

تفسير الميزان ج۲۰

69
  • و قيل: مفعول {تَتَّقُونَ} محذوف و {يَوْماً} ظرف له و التقدير فكيف تتقون العذاب الكائن في يوم، و قيل: المفعول محذوف و {يَوْماً} ظرف للاتقاء و قيل غير ذلك. 

  • و قوله: {يَجْعَلُ اَلْوِلْدَانَ شِيباً} الشيب‌ جمع أشيب مقابل الشاب، و جعل الولدان شيبا كناية عن شدة اليوم لا عن طوله. 

  • قوله تعالى: {اَلسَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} إشارة بعد إشارة إلى شدة اليوم، و الانفطار الانشقاق و تذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكر و يؤنث، و ضمير {بِهِ} لليوم، و الباء بمعنى في أو للسببية، و المعنى السماء منشقة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدته. 

  • و قوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} استئناف لتسجيل ما تقدم من الوعيد و أنه حتم مقضي و نسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعله للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ سَبِيلاً} الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع و الزواجر، و التذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه. 

  • و قوله: {فَمَنْ شَاءَ} مفعول {شَاءَ} محذوف و المعروف في مثل هذا المورد أن يقدر المفعول من جنس الجواب و السياق يلائمه، و التقدير فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا اتخذ إلخ، و قيل: المقدر الاتعاظ، و المراد باتخاذ السبيل إليه اتخاذ السبيل إلى التقرب منه، و السبيل هو الإيمان و الطاعة هذا ما ذكره المفسرون. 

  • و من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل و التهجد فيه، و الآية مسوقة لتوسعة الخطاب و تعميمه لغير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصا به (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الدليل على هذا التعميم قوله: {فَمَنْ شَاءَ} إلخ. 

  • و يؤيد ما ذكرنا وقوع هذه الآية {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: {وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} و يستنتج من ذلك أن صلاة الليل سبيل خاصة تهدي العبد إلى ربه. 

تفسير الميزان ج۲۰

70
  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج البزار و الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرق بين الحبيب و حبيبه فتفرق المشركون على ذلك. 

  • فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فتزمل في ثيابه و تدثر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر.

  •  أقول: آخر الرواية لا يخلو من شي‌ء حيث إن ظاهرها نزول السورتين معا. على أن القرآن حتى في سورة المدثر يحكي تسميتهم له (صلى الله عليه وآله و سلم) بألقاب السوء كالكاهن و الساحر و المجنون و الشاعر و لم يذكر فيها قولهم: يفرق بين الحبيب و حبيبه. 

  • و فيه، أخرج عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد و محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قلما ينام من الليل لما قال الله له: {قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}

  • و في الكشاف، عن عائشة :أنها سألت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي و أنا نائمة و نصفه عليه و هو يصلي. فسئلت: ما كان؟ قالت: و الله ما كان خزا و لا قزا و لا مرعزيا و لا إبريسما و لا صوفا. كان سداه شعرا و لحمته وبرا. 

  • أقول: الرواية مرمية بالوضع فإن السورة من العتائق النازلة بمكة، و عائشة إنما بنى عليها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة بعد الهجرة. 

  • و عن جوامع الجامع، روي: أنه قد دخل على خديجة و قد جئث فرقا۱ فقال: زملوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: {يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ}

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} مكث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } - إلى قوله - {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين. 

    1. جئث الرجل ثقل عند القيام أو عند حمل شي‌ء ثقيل و الفرق: الفزع و الخوف.

تفسير الميزان ج۲۰

71
  • أقول: و روي نزول آية التخفيف بعد سنة و روي أيضا نزولها بعد ثمانية أشهر، و لم يكن قيام الليل واجبا على غير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما أشير إليه بقوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} الآية كما تقدم، و يؤيده ما في الرواية من قوله: «و طائفة من أصحابه». 

  • و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: {قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} قال: أمره الله أن يصلي كل ليلة إلا أن تأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا.

  • أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية.

  • و في المجمع: و قيل: إن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى، و يؤيد هذا القول‌ ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج العسكري في المواعظ عن علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قول الله: {وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال: بينه تبيينا، و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حركوا به القلوب، و لا يكن هم أحدكم آخر السورة. 

  • أقول: و روي هذا المعنى في أصول الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سليمان عن الصادق عن علي (عليه السلام) و لفظ بينه تبيينا و لا تهذه هذ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أفرغوا۱ قلوبكم القاسية و لا يكن هم أحدكم آخر السورة. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أي الناس أحسن قراءة قال الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله. 

  • و في أصول الكافي، بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن القرآن لا يقرأ هذرمة٢ و لكن يرتل ترتيلا فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها و اسأل الله عز و جل الجنة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوذ بالله من النار. 

  • و في المجمع، في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هو أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك. 

    1. أفرغ الإناء: أخلاه.
    2. الهذرمة: الإسراع في القراءة. 

تفسير الميزان ج۲۰

72
  • و فيه روي عن أم سلمة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقطع قراءته آية آية. 

  • و فيه عن أنس قال: كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يمد صوته مدا.

  • و فيه سأل الحارث بن هشام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم‌۱ عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول. 

  • قالت عائشة: إنه كان ليوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو على راحلته فتضرب بجرانها. 

  • قالت: و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد - فيفصم عنه و إن جبينه ليرفض عرقا. 

  • و عن تفسير العياشي، بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بآخره. 

  • و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شي‌ء لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليها الوحي حتى وقفت و تدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض.

  •  أقول: إن صحت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسم المعاني و كثيرا ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات و كرامات الأولياء، و أما اتصاف الوحي و هو كلام بالثقل المادي فغير معقول. 

  • و في التهذيب، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً} قال: يعني بقوله: {وَ أَقْوَمُ قِيلاً} قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عز و جل لا يريد به غيره. 

  • أقول: و رواه أيضا بسندين آخرين في التهذيب و العلل عن هشام عنه (عليه السلام).

  • و في المجمع في قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ} (الآية) و المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) أنهما قالا: هي القيام في آخر الليل. 

    1. الفصم: القطع. 

تفسير الميزان ج۲۰

73
  • و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن حسين بن علي أنه رئي يصلي بين المغرب و العشاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنهما من الناشئة.

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} و روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) أن التبتل هذا رفع اليدين في الصلاة. و في رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله و تضرعك.

  • أقول: و ينطبق على قنوت الصلاة، و في رواية هو رفع اليدين و تحريك السبابتين، و في رواية الإيماء بالإصبع و في رواية الدعاء بإصبع واحدة يشير بها. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} (الآية) عن عبد الله بن عمر :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سمع قارئا يقرأ هذا فصعق.

  • و في تفسير القمي، :في قوله: {وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} قال: مثل الرمل ينحدر.

  •  

  • [ سورة المزمل (٧٣): آیة ٢٠]

  • {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنىَ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طَائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ وَ اَللَّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‌ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٠} 

تفسير الميزان ج۲۰

74
  • (بيان‌) 

  • آية مبنية على التخفيف فيما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في صدر السورة من قيام الليل و الصلاة فيه ثم عمم الحكم لسائر المؤمنين بقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} الآية. 

  • و لسان الآية هو التخفيف بما تيسر من القرآن من غير نسخ لأصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. 

  • و قد ورد في غير واحد من الأخبار أن الآية مكية نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى: {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} فإن ظاهره أن المراد بالزكاة - و قد ذكرت قبلها الصلاة و بعدها الإنفاق المستحب - هو الزكاة المفروضة و إنما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة. 

  • و قول بعضهم: إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين الأنصباء و الذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء، تحكم من غير دليل، و كذا قول بعضهم: إنه من الممكن أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله. 

  • على أن في الآية ذكرا من القتال إذ يقول: {وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} و لم يكن من مصلحة الدعوة الحقة يومئذ ذاك و الظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأي وجه كان، فالظاهر أن الآية مدنية و ليست بمكية و قد مال إليه بعضهم. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنىَ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ} إلى آخر الآية. الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في التعبير بقوله: {رَبَّكَ} تلويح إلى شمول الرحمة و العناية الإلهية، و كذا في قوله: {يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلخ مضافا إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى: {وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} الدهر ٢٢. 

  • و قوله: {تَقُومُ أَدْنىَ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ} أدنى‌ اسم تفضيل من الدنو بمعنى القرب، و قد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشي‌ء و هو أقل فيقال: إن عدتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلا دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله: {أَدْنىَ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ} أقرب من ثلثيه و أقل بقليل. 

تفسير الميزان ج۲۰

75
  • و الواو العاطفة في قوله: {وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ} لمطلق الجمع و المراد أنه يعلم أنك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل و في بعضها نصفه و في بعضها ثلثه. 

  • و قوله: {وَ طَائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ} المراد المعية في الإيمان و {مِنْ} للتبعيض فالآية تدل على أن بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و قيل «من» بيانية، و هو كما ترى. 

  • و قوله: {وَ اَللَّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ} في مقام التعليل لقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} و المعنى و كيف لا يعلم و هو الله الذي إليه الخلق و التقدير ففي تعيين قدر الليل و النهار تعيين ثلثهما و نصفهما و ثلثيهما، و نسبة تقدير الليل و النهار إلى اسم الجلالة دون اسم الرب و غيره لأن التقدير من شئون الخلق و الخلق إلى الله الذي إليه ينتهي كل شي‌ء. 

  • و قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ} الإحصاء تحصيل مقدار الشي‌ء و عدده و الإحاطة به، و ضمير {لَنْ تُحْصُوهُ} للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، و إحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولا و قصرا في أيام السنة مما لا يتيسر لعامة المكلفين و يشتد عسرا لمن نام أول الليل و أراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع الليل أو ما في حكمه. 

  • فالمراد بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} علمه تعالى بعدم تيسر إحصاء المقدار الذي أمروا بقيامه من الليل لعامة المكلفين. 

  • و المراد بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} توبته تعالى و رجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الإلهية عليهم بالتخفيف فلله سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم و أثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} التوبة ١١٨. 

  • كما أن له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم و أثرها مغفرة ذنوبهم، و قد تقدمت الإشارة إليه. 

  • و المراد بقوله: {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ} التخفيف في قيام الليل من حيث المقدار لعامة المكلفين تفريعا على علمه تعالى أنهم لن يحصوه. 

  • و لازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام الليل من حيث المقدار حتى يسع لعامة المكلفين الشاق عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين 

تفسير الميزان ج۲۰

76
  • لمن استطاع ذلك بدعة محرمة و ذلك أن الإحصاء المذكور إنما لا يتيسر لمجموع المكلفين لا لجميعهم و لو امتنع لجميعهم و لم يتيسر لأحدهم لم يشرع من أصله و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. 

  • على أنه تعالى يصدق لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و طائفة من الذين معه قيام الثلث و النصف و الأدنى من الثلثين و ينسب عدم التمكن من الإحصاء إلى الجميع و هم لا محالة هم القائمون و غيرهم فالحكم إنما كان شاقا على المجموع من حيث المجموع دون كل واحد فوسع في التكليف بقوله: {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ} و سهل الأمر بالتخفيف ليكون لعامة المكلفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكن من الإحصاء و إرادة، و الحكم استحبابي لسائر المؤمنين و إن كان ظاهر ما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الخطاب الوجوب كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • و للقوم في كون المراد بقيام الليل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، و على الأول في كونه واجبا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين أو مستحبا للجميع أو واجبا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مستحبا لغيره ثم في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءة ما تيسر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرض لها و البحث عنها. 

  • و قوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضىَ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} إشارة إلى مصلحة أخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقا على عامة المكلفين بالصفة المذكورة أولا فإن الإحصاء المذكور للمريض و المسافر و المقاتل مع ما هم عليه من الحال شاق عسير جدا. 

  • و المراد بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة. 

  • و قوله: {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} تكرار للتخفيف تأكيدا، و ضمير {مِنْهُ} للقرآن، و المراد الإتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الذي قاموا فيه. 

  • و المراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنية فالفرائض الخمس اليومية و إن كانت مكية فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، و المراد بالزكاة الزكاة 

تفسير الميزان ج۲۰

77
  • المفروضة، و المراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الإنفاقات المالية في سبيل الله. 

  • و عطف الأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإقراض للتلويح إلى أن التكاليف الدينية على حالها في وجوب الاهتمام بها و الاعتناء بأمرها، فلا يتوهمن متوهم سريان التخفيف و المسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} المجادلة: ١٣. 

  • و قوله: {وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً} {مِنْ خَيْرٍ} بيان للموصول، و المراد بالخير مطلق الطاعة أعم من الواجبة و المندوبة، و {هُوَ} ضمير فصل أو تأكيد للضمير في «تجدوه». 

  • و المعنى: و الطاعة التي تقدمونها لأنفسكم - أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله - أي في يوم اللقاء - خيرا من كل ما تعملون أو تتركون و أعظم أجرا. 

  • و قوله: {وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ختم الكلام بالأمر بالاستغفار، و في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إشعار بوعد المغفرة و الرحمة، و لا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الإتيان بمطلق الطاعات لأنها وسائل يتوسل بها إلى مغفرة الله فالإتيان بها استغفار. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‌ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ} ففعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذلك و بشر الناس به فاشتد ذلك عليهم و {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف الليل و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظه. 

  • فأنزل الله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } - إلى قوله - {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يقول: متى يكون النصف و الثلث نسخت هذه الآية {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ}، و اعلموا أنه لم يأت نبي قط إلا خلا بصلاة الليل، و لا جاء نبي قط بصلاة الليل في أول الليل. 

  • أقول: محصل الرواية أن صدر السورة توجب صلاة الليل و ذيلها تنسخها، و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره، و قد تقدم ما يتعلق به في البيان السابق. 

تفسير الميزان ج۲۰

78
  • و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَ طَائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ} قال: علي و أبو ذر. 

  • و فيه في قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} روي عن الرضا عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال: ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السر. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال: مائة آية.

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}

  • و في تفسير القمي، بإسناده عن زرعة عن سماعة قال: سألته عن قول الله: {وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} قال: هو غير الزكاة.

  • و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، و قدموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غدا.

  • أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى: {وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً}.

  •  

  • (٧٤) سورة المدثر مكية و هي ست و خمسون آية (٥٦) 

  • [سورة المدثر (٧٤): الآیات ١ الی ٧] 

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنْذِرْ ٢ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ٣ وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ٤ وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ ٥ وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ٦ وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ٧} 

تفسير الميزان ج۲۰

79
  • (بيان‌)

  • تتضمن السورة أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثم الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم و جلالة قدره، و الوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار و الرمي بالسحر، و ذم المعرضين عن دعوته. 

  • و السورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة و ظهور الدعوة حتى قيل: إنها أول سورة نزلت من القرآن و إن كان يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءته (صلى الله عليه وآله و سلم) القرآن على القوم و تكذيبهم به و إعراضهم عنهم و رميهم له بأنه سحر يؤثر. 

  • و لذا مال بعضهم إلى أن النازل أولا هي الآيات السبع الواقعة في أول السورة و لازمه كون السورة غير نازلة دفعة و هو و إن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أول سورة العلق الظاهر في كونه أول ما نزل من القرآن. 

  • و احتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة فهي في معنى قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} الحجر ٩٤، و بذلك جمع بين ما ورد من أنها أول ما نزل، و ما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق، و ما ورد أن سورتي المزمل و المدثر نزلتا معا، و هذا القول لا يتعدى طور الاحتمال. 

  • و كيف كان فالمتيقن أن السورة من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من السور القرآنية، و الآيات السبع التي نقلناها تتضمن الأمر بالإنذار و سائر الخصال التي تلزمه مما وصاه الله به. 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ} المدثر بتشديد الدال و الثاء أصله المتدثر اسم فاعل من التدثر بمعنى التغطي بالثياب عند النوم. 

  • و المعنى: يا أيها المتغطي بالثياب للنوم خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيسا و ملاطفة نظير قوله: {يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ}

  • و قيل.: المراد بالتدثر تلبسه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالنبوة بتشبيهها بلباس يتحلى به و يتزين و قيل: المراد به اعتزاله (صلى الله عليه وآله و سلم) و غيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، و قيل: المراد به الاستراحة و الفراغ فكأنه قيل له (صلى الله عليه وآله و سلم): يا أيها المستريح الفارغ قد 

تفسير الميزان ج۲۰

80
  • انقضى زمن الراحة و أقبل زمن متاعب التكاليف و هداية الناس. 

  • و هذه الوجوه و إن كانت في نفسها لا بأس بها لكن الذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأول. 

  • قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} الظاهر أن المراد به الأمر بالإنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإنذار، و ذكر بعضهم أن مفعول الفعل محذوف، و التقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء. 

  • و ذكر آخرون أن المفعول المحذوف عام و هو جميع الناس لقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} سبأ: ٢٨. 

  • و لم يذكر التبشير مع الإنذار مع أنهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأن السورة مما نزل في ابتداء الدعوة و الإنذار هو الغالب إذ ذاك. 

  • قوله تعالى: {وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي أنسب ربك إلى الكبرياء و العظمة اعتقادا و عملا قولا و فعلا و هو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شي‌ء فلا شي‌ء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، و لا نقص يعرضه، و لا وصف يحده. 

  • و لذا ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كل وصف نصفه به حتى من هذا الوصف، و هذا هو المناسب للتوحيد الإسلامي الذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية. 

  • و هذا الذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير و التسبيح الله أكبر و سبحان الله فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كل وصف عدمي مبني على النقص كالموت و العجز و الجهل و غير ذلك، و الله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كل وصف نصفه به أعم من أن يكون عدميا أو وجوديا حتى من نفس هذا الوصف لما أن كل مفهوم محدود في نفسه لا يتعدى إلى غيره من المفاهيم و هو تعالى لا يحيط به حد، فافهم ذلك. 

  • و قيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة. 

  • و التعبير عنه تعالى بربك لا يخلو من إشعار بأن توحيده تعالى يومئذ كان يختص به. 

  • قال في الكشاف، في قوله: {فَكَبِّرْ} و دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: و ما كان فلا تدع تكبيره. 

تفسير الميزان ج۲۰

81
  • قوله تعالى: {وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قيل: كناية عن إصلاح العمل، و لا يخلو من وجه فإن العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، و كثيرا ما يكنى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب. 

  • و قيل: كناية عن تزكية النفس و تنزيهها عن الذنوب و المعاصي. 

  • و قيل: المراد تقصير الثياب لأنه أبعد من النجاسة و لو طالت و انجرت على الأرض لم يؤمن أن تتنجس. 

  • و قيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر و المعاصي لقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ }البقرة ١٨٧. 

  • و قيل: الكلام على ظاهره و المراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة و الأقرب على هذا أن يجعل قوله: {وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ} إشارة إلى تكبير الصلاة و تكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارنا للأمر بالدعوة. 

  • و لا يرد عليه ما قيل: إن نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلا و ذلك أن تشريع الفرائض الخمس اليومية على ما هي عليها اليوم و إن كان في ليلة المعراج و هي جميعا عشر ركعات ثم زيد عليها سبع ركعات إلا أن أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة و سورتي العلق و المزمل، و يدل عليه الروايات. 

  • و قيل: المراد بتطهير الثياب التخلق بالأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة. 

  • و في معنى تطهير الثياب أقوال أخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدم من الوجوه، و أرجح الوجوه المتقدمة أولها و خامسها. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قيل: الرجز بضم الراء و كسرها العذاب، و المراد بهجره هجر سببه و هو الإثم و المعصية، و المعنى اهجر الإثم و المعصية. 

  • و قيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال و الأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كل ما يكرهه الله و لا يرتضيه مطلقا، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب و المعاصي. 

  • و قيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام. 

تفسير الميزان ج۲۰

82
  •  قوله تعالى: {وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} الذي يعطيه سياق الآيات و يناسب المقام أن يكون المراد بالمن تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىَ} البقرة: ٢٦٤، و قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} الحجرات ١٧ و المراد بالاستكثار رؤية الشي‌ء و حسبانه كثيرا لا طلب الكثرة. 

  • و المعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر و قيامك بالإنذار و تكبيرك ربك و تطهيرك ثيابك و هجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا و تعجبه - فإنما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئا إلا ما ملكك الله و أقدرك عليه و هو المالك لما ملكك و القادر على ما عليه أقدرك فله الأمر و عليك الامتثال -. 

  • و للقوم في الآية وجوه أخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطية لتعطى أكثر منها. 

  • و قيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة و القرآن على الناس مستكثرا به الأجر. 

  • و قيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على أمتك. 

  • و قيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك. 

  • و قيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا له. 

  • و قيل: أي إذا أعطيت عطية فأعطها لربك و اصبر حتى يكون هو الذي يثيبك. 

  • و قيل: هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت. 

  • قوله تعالى: {وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي لوجه ربك، و الصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية، و المعنى و لوجه ربك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة و الأذى في قيامك بالإنذار و امتثالك هذه الأوامر و اصبر على طاعة الله و اصبر عن معصيته، و هذا معنى جامع لمتفرقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلقه، و قول بعضهم: إنه الصبر على أذى المشركين، و قول بعضهم: إنه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك. 

تفسير الميزان ج۲۰

83
  • (بحث روائي‌) 

  • في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن الضريس و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن الأنباري في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أيها المدثر قلت: يقولون: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ}؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا و نظرت عن شمالي فلم أر شيئا، و نظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض فجثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثروني دثروني فنزلت: {يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } - إلى قوله - {وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ}

  • أقول: الحديث معارض بالأحاديث الآخر الدالة على كون سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن و يؤيدها سياق سورة اقرأ، على أن قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» يشعر بنزول الوحي عليه قبلا. 

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله {وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ} فأمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن نفتتح الصلاة بالتكبير. 

  • أقول: و في الرواية شي‌ء فأبو هريرة ممن آمن بعد الهجرة بكثير و السورة مما نزل في أول البعثة فأين كان أبو هريرة أو الصحابة يومئذ؟. 

  • و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك و تعالى: {وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يعني فشمر.

  •  أقول: و في المعنى عدة أخبار مروية في الكافي، و المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله. و أبي الحسن (عليهم السلام). 

  • و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: {وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ} برفع الراء، و قال: هي الأوثان. 

تفسير الميزان ج۲۰

84
  •  أقول: و قوله: «هي الأوثان» من كلام جابر أو غيره من رجال السند. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} و في رواية أبي الجارود يقول: لا تعط تلتمس أكثر منها. 

  •  

  • [سورة المدثر (٧٤): الآیات ٨ الی ٣١ ]

  • {فَإِذَا نُقِرَ فِي اَلنَّاقُورِ ٨ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ٩ عَلَى اَلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ١٠ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ١١ وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً ١٢ وَ بَنِينَ شُهُوداً ١٣ وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ١٤ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ١٥ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً ١٦ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ١٧ إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ ١٨ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ١٩ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ٢٠ثُمَّ نَظَرَ ٢١ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ٢٢ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ ٢٣ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ٢٤ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ ٢٥ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ٢٦ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ٢٧ لاَ تُبْقِي وَ لاَ تَذَرُ ٢٨ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ٢٩ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ٣٠وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ وَ يَزْدَادَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَ لاَ يَرْتَابَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ مَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرى‌ لِلْبَشَرِ ٣١} 

تفسير الميزان ج۲۰

85
  • (بيان‌) 

  • في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنه سحر و المستهزءين لبعض ما فيه من الحقائق. 

  • قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي اَلنَّاقُورِ} النقر القرع و الناقور ما ينقر فيه للتصويت، و النقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى و إحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة و الجملة شرطية جزاؤها قوله «فذلك» إلخ. 

  • قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى اَلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} الإشارة بقوله {فَذَلِكَ} إلى زمان نقر الناقور و لا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب و الجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفا ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفا لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفا للشهر و الشهر يجعل ظرفا لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعددا مختلفا باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثم يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفا لنفسه باعتبار صفة أخرى. 

  • و المعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع بناء على كون قوله: {يَوْمَئِذٍ} قيدا لقوله: {فَذَلِكَ} أو لقوله: {يَوْمٌ}

  • و قال في الكشاف: فإن قلت: بم انتصب إذا و كيف صح أن يقع يومئذ ظرفا ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء لأن المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، و الذي أجاز وقوع يومئذ ظرفا ليوم عسير أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي و يقع حين ينقر في الناقور. انتهى. 

  • و قال: و يجوز أن يكون يومئذ مبنيا مرفوع المحل بدلا من ذلك، و يوم عسير خبر كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. انتهى. 

  • و قوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} وصف آخر ليوم مؤكد لعسره و يفيد أنه عسير من كل وجه من وجه دون وجه. 

  • قوله تعالى: {ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} كلمة تهديد و قد استفاض النقل أن الآية 

تفسير الميزان ج۲۰

86
  • و ما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، و ستأتي قصته في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • و قوله: {وَحِيداً} حال من فاعل {خَلَقْتُ} و محصل المعنى: دعني و من خلقته حال كوني وحيدا لا يشاركني في خلقه أحد ثم دبرت أمره أحسن التدبير، و لا تحل بيني و بينه فأنا أكفيه. 

  • و من المحتمل أن يكون حالا من مفعول {ذَرْنِي}. و قيل: حال من مفعول خلقت المحذوف و هو ضمير عائد إلى الموصول، و محصل المعنى دعني و من خلقته حال كونه وحيدا لا مال له و لا بنون، و احتمل أيضا أن يكون {وَحِيداً} منصوبا بتقدير «أذم» و أحسن الوجوه أولها. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} أي مبسوطا كثيرا أو ممدودا بمدد النماء. 

  • قوله تعالى: {وَ بَنِينَ شُهُوداً} أي حضورا يشاهدهم و يتأيد بهم، و هو عطف على قوله: {مَالاً}

  • قوله تعالى: {وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} التمهيد التهيئة و يتجوز به عن بسطة المال و الجاه و انتظام الأمور. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً} أي ثم يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال و البنين و مهدت له من التمهيد. 

  • و قوله: {كَلاَّ} ردع له، و قوله: {إِنَّهُ كَانَ} إلخ تعليل المردع، و العنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتى هلك. 

  • قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} الإرهاق‌ الغشيان بالعنف، و الصعود عقبة الجبل التي يشق مصعدها شبه ما سيناله من سوء الجزاء و مر العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود. 

  • قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} التفكير معروف، و التقدير عن تفكير نظم معان و أوصاف في الذهن بالتقديم و التأخير و الوضع و الرفع لاستنتاج غرض مطلوب، و قد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئا يبطل به 

تفسير الميزان ج۲۰

87
  • دعوته و يرضي به قومه المعاندين ففكر فيه أ يقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدر أن يقول: سحر من كلام البشر لأنه يفرق بين المرء و أهله و ولده و مواليه. 

  • و قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله: {قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} التوبة ٣٠. 

  • و قوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكرار للدعاء تأكيدا. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ} تمثيل لحاله بعد التكفير و التقدير و هو من ألطف التمثيل و أبلغه. 

  • فقوله: {ثُمَّ نَظَرَ} أي ثم نظر بعد التفكير و التقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه - على ما يعطيه سياق التمثيل -. 

  • و قوله: {ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ} العبوس‌ تقطيب الوجه، قال في المجمع: و عبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدها الطلاقة و البشاشة، و قال: و البسور بدء التكره في الوجه انتهى، فالمعنى ثم قبض وجهه و أبدا التكره في وجهه بعد ما نظر. 

  • و قوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ} الإدبار عن شي‌ء الإعراض عنه، و الاستكبار الامتناع كبرا و عتوا، و الأمران أعني الإدبار و الاستكبار من الأحوال الروحية، و إنما رتبا في التمثيل على النظر و العبوس و البسور و هي أحوال صورية محسوسة لظهورهما بقوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ} إلخ، و لذا عطف قوله: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} بالفاء دون {ثُمَّ}

  • و قوله: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي أظهر إدباره و استكباره بقوله مفرعا عليه: {إِنْ هَذَا } أي القرآن {إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يروي و يتعلم من السحرة. 

  • و قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ} أي ليس بكلام الله كما يدعيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • قيل: إن هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة و إن اختلفتا معنى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا من كلام الله، و باعتبار الاتحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة. 

  • قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَ لاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي سأدخله سقر و سقر من أسماء جهنم في القرآن أو دركة من دركاتها، و جملة 

تفسير الميزان ج۲۰

88
  • {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} بيان أو بدل من قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً}

  • و قوله: {وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} تفخيم لأمرها و تهويل. 

  • و قوله: {لاَ تُبْقِي وَ لاَ تَذَرُ} قضية إطلاق النفي أن يكون المراد أنها لا تبقي شيئا ممن نالته إلا أحرقته، و لا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته بخلاف نار الدنيا التي ربما تركت بعض ما ألقي فيها و لم تحرقه، و إذا نالت إنسانا مثلا نالت جسمه و صفاته الجسمية و لم تنل شيئا من روحه و صفاته الروحية، و أما سقر فلا تدع أحدا ممن ألقي فيها إلا نالته قال تعالى: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى} المعارج ١٧، و إذا نالته لم تبق منه شيئا من روح أو جسم إلا أحرقته قال تعالى: {نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ} الهمزة ٧. 

  • و يمكن أن يراد أنها لا تبقيهم أحياء و لا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى: {اَلَّذِي يَصْلَى اَلنَّارَ اَلْكُبْرىَ ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيىَ} الأعلى: ١٣. 

  • و قيل: المعنى لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فيعذب ثانيا. 

  • و قيل: المراد أنها لا تبقي لهم لحما و لا تذر عظما، و قيل غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} اللواحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد و قيل: إلى الحمرة، و البشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد. 

  • قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} يتولون أمر عذاب المجرمين و قد أبهم و لم يصرح أنهم من الملائكة أو غيرهم غير أن المستفاد من آيات القيامة و تصرح به الآية التالية أنهم من الملائكة. 

  • و قد استظهر بعضهم أن مميز قوله: {تِسْعَةَ عَشَرَ} ملكا ثم قال: أ لا ترى العرب و هم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس :أنها لما نزلت {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أ سمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم أ يعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحي و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى، و أنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدعيه. على أنه سمي الواحد من الخزنة رجلا و لا يطلق الرجل على الملك البتة و لا سيما عند المشركين الذين قال تعالى فيهم: 

تفسير الميزان ج۲۰

89
  • {وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً} الزخرف: ١٩. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً} إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على أنهم تكلموا فيما ذكر في الآية من عدد خزان النار فنزلت هذه الآية، و يتأيد بذلك ما ورد من سبب النزول و سيوافيك في البحث الروائي التالي. 

  • فقوله: {وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً} المراد بأصحاب النار خزنتها الموكلون عليها المتولون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} و يشهد بذلك قوله بعد: {وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} إلخ. 

  • و محصل المعنى: أنا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما أمروا به كما قال: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم ٦. فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم و يطيقوهم. 

  • و قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الفتنة المحنة و الاختبار. ذكروا أن المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى و ما أخبرنا عن عدتهم أنها تسعة عشر إلا ليكون فتنة للذين كفروا، و يؤيده ذيل الكلام: {لِيَسْتَيْقِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} إلخ. 

  • و قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} الاستيقان‌ وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأن القرآن النازل عليك حق حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب. 

  • و قوله: {وَ يَزْدَادَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك. 

  • و قوله: {وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} اللام في {لِيَقُولَ} للعاقبة بخلاف اللام في {لِيَسْتَيْقِنَ} فللتعليل بالغاية، و الفرق أن قولهم: {مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} تحقير و تهكم و هو كفر لا يعد غاية لفعله سبحانه إلا بالعرض بخلاف الاستيقان الذي هو من الإيمان، و لعل اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللام في قوله: {وَ لِيَقُولَ}

  • و قد فسروا {اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} بالشك و الجحود بالمنافقين و فسروا الكافرين 

تفسير الميزان ج۲۰

90
  • بالمتظاهرين بالكفر من المشركين و غيرهم. 

  • و قولهم: {مَا ذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أرادوا به التحقير و التهكم يشيرون بهذا - إلى قوله - تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} و المثل الوصف، و المعنى ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر؟ فهذه العدة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجن و الإنس. 

  • ذنابة لما تقدم من الكلام في النفاق‌ 

  • ذكر بعضهم أن قوله تعالى: {وَ لِيَقُولَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية بناء على أن السورة بتمامها مكية، و أن النفاق إنما حدث بالمدينة إخبار عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة انتهى. 

  • أما كون السورة بتمامها مكية فهو المتعين من طريق النقل و قد ادعي عليه إجماع المفسرين، و ما نقل عن مقاتل أن قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً} الآية مدني لم يثبت من طريق النقل، و على فرض الثبوت هو قول نظري مبني على حدوث النفاق بالمدينة و الآية تخبر عنه. 

  • و أما حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصر عليه بعضهم محتجا عليه بأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتى يتقوهم و يظهروا لهم الإيمان و يلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر و هذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة. 

  • و الحجة غير تامة - كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق - فإن علل النفاق ليست تنحصر في المخافة و الاتقاء أو الاستدرار من خير معجل فمن علله الطمع و لو في نفع مؤجل و منها العصبية و الحمية و منها استقرار العادة و منها غير ذلك. 

  • و لا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة و قد نقل عن بعضهم أنه آمن ثم رجع أو آمن عن ريب ثم صلح. 

  • على أنه تعالى يقول: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنَّاسِ كَعَذَابِ اَللَّهِ وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي 

تفسير الميزان ج۲۰

91
  •  صُدُورِ اَلْعَالَمِينَ وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنَافِقِينَ} العنكبوت: ١١. 

  • و الآيتان في سورة مكية و هي سورة العنكبوت، و هما ناطقتان بوجود النفاق فيها و مع الغض عن كون السورة مكية فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله و الفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله و فتنة، و اشتمال الآية على قوله: {وَ لَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} إلخ لا يدل على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق أخرى غير الفتح المعجل. 

  • و احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكة بعد الهجرة غير ضائر فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل الهجرة و إن أوذوا بعدها. 

  • و على مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلى‌ وَجْهِهِ} الحج: ١١ إن كان المراد بالفتنة العذاب و إن كانت السورة مدنية. 

  • [بيان] 

  • و قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الإشارة بذلك إلى مضمون قوله: {وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} إلخ. 

  • و قوله: {وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} علق تعالى العلم المنفي بالجنود و هي الجموع الغليظة التي خلقهم وسائط لإجراء أوامره لا بخصوص عدتهم فأفاد بإطلاقه أن العلم بحقيقتهم و خصوصيات خلقتهم و عدتهم و ما يعملونه من عمل و دقائق الحكمة في جميع ذلك يختص به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقل عدتهم أو يستكثر أو يطعن في شي‌ء مما يرجع إلى صفاتهم و هو جاهل بها. 

  • و قوله: {وَ مَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرىَ لِلْبَشَرِ} الضمير راجع إلى ما تقدم من قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} و تأنيثه لتأنيث الخبر، و المعنى أن البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربك و إنما أخبرنا عن خزنة النار أن عدتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتعظون بها. 

  • و قيل: الضمير للجنود، و قيل: لسقر، و قيل للسورة، و قيل: لنار الدنيا و هو 

تفسير الميزان ج۲۰

92
  • أسخف الأقوال. 

  • و في الآية دلالة على أن الخطابات القرآنية لعامة البشر. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي اَلنَّاقُورِ } - إلى قوله - {وَحِيداً} فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة و كان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب، و كان من المستهزءين برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقعد في الحجر و يقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد؟ أ شعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد أنشدني من شعرك قال: ما هو شعر و لكنه كلام الله الذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله فقال: اتل علي منه شيئا!

  • فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حم السجدة فلما بلغ قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ} قال: فاقشعر الوليد و قامت كل شعرة في رأسه و لحيته، و مر إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك. 

  • فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبا إلى دين محمد أ ما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال: يا عم نكست رءوسنا و فضحتنا و أشمت بنا عدونا و صبوت إلى دين محمد، فقال: ما صبوت إلى دينه و لكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود فقال له أبو جهل: أ خطب هو؟ قال: لا إن الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضا. قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه. 

  • فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في ذلك: {ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}

  • و إنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش: أنا أتوحد لكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم 

تفسير الميزان ج۲۰

93
  • سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكة، و كان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها - و تلك القنطار في ذلك الزمان، و يقال: إن القنطار جلد ثور مملوء ذهبا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجعلوا لك مالا ليعطوه لك فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. 

  • قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر أو إنك كاره له، قال: و ما ذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه و لا بقصيده و لا بأشعار الجن و الله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، و و الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة و إن عليه لطلاوة، و إنه لمثمر أعلاه، و مغدق أسفله، و إنه ليعلو و لا يعلى، و إنه ليحطم ما تحته. 

  • قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: {ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}

  • و في المجمع، روى العياشي بإسناده عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي عبد الله و أبي جعفر (عليهما السلام) أن الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لأبي جعفر (عليه السلام) عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، و ما هو؟ قال، من لا يعرف له أب.

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و الترمذي و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيان و الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ثم يهوي و هو كذلك فيه أبدا. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى، {ثُمَّ عَبَسَ} قال، عبس وجهه {وَ بَسَرَ} قال، ألقى شدقه‌۱

    1. زاوية الفم. 

تفسير الميزان ج۲۰

94
  • [سورة المدثر (٧٤): الآیات ٣٢ الی ٤٨]

  • {كَلاَّ وَ اَلْقَمَرِ ٣٢ وَ اَللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ٣٣ وَ اَلصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ٣٤ إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ ٣٥ نَذِيراً لِلْبَشَرِ ٣٦ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ٣٧ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ٣٨ إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ ٣٩ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ٤٠عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ ٤١ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ٤٢ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ ٤٣ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ ٤٤ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخَائِضِينَ ٤٥ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ٤٦ حَتَّى أَتَانَا اَلْيَقِينُ ٤٧ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ ٤٨} 

  • (بيان‌) 

  • في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عما رموه به، و تسجيل أنه إحدى الآيات الإلهية الكبرى فيه إنذار البشر كافة و في اتباعه فك نفوسهم عن رهانة أعمالهم التي تسوقهم إلى سقر. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ} ردع و إنكار لما تقدم قال في الكشاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا. انتهى. فعلى الأول إنكار لما تقدم و على الثاني ردع لما سيأتي، و هناك وجه آخر سيوافيك. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلْقَمَرِ وَ اَللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَ اَلصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} قسم بعد قسم، و إدبار الليل مقابل إقباله، و إسفار الصبح انجلاؤه و انكشافه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ} ذكروا أن الضمير لسقر، و الكبر جمع كبري، 

تفسير الميزان ج۲۰

95
  • و المراد بكون سقر إحدى الكبر أنها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، و الجملة جواب للقسم. 

  • و المعنى أقسم بكذا و كذا أن سقر لإحدى الدواهي الكبرأكبرها إنذارا للبشر. 

  • و لا يبعد أن يكون {كَلاَّ} ردعا لقوله في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ اَلْبَشَرِ} و يكون ضمير {إِنَّهَا} للقرآن بما أنه آيات أو من باب مطابقة اسم إن لخبرها. 

  • و المعنى: ليس كما قال أقسم بكذا و كذا أن القرآن آياته لإحدى الآيات الإلهية الكبرى إنذارا للبشر. 

  • و قيل: الجملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ} تعليل للردع، و القسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا. 

  • قوله تعالى: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، و قيل: حال مما يفهم من سياق قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ} أي كبرت و عظمت حالكونها إنذارا أي منذرة. 

  • و قيل فيه وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: أنه صفة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآية متصلة بأول السورة و التقدير قم نذيرا للبشر فأنذر، و قول بعضهم: صفة له تعالى. 

  • قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} تعميم للإنذار و {لِمَنْ شَاءَ} بدل من البشر، و {أَنْ يَتَقَدَّمَ} إلخ مفعول {شَاءَ} و المراد بالتقدم و التأخر: الاتباع للحق و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتباع و مصداقه الكفر و المعصية. 

  • و المعنى: نذيرا لمن اتبع منكم الحق و لمن لم يتبع أي لجميعكم من غير استثناء. 

  • و قيل: {أَنْ يَتَقَدَّمَ} في موضع الرفع على الابتداء و {لِمَنْ شَاءَ} خبره كقولك لمن توضأ أن يصلي، و المعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، و هو كقوله. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} و المراد بالتقدم و التأخر السبق إلى الخير و التخلف عنه انتهى. 

  • قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} الباء بمعنى مع أو للسببية أو للمقابلة و {رَهِينَةٌ} 

تفسير الميزان ج۲۰

96
  • بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشري قال في الكشاف: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: {كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} لتأنيث النفس لأنه لو قصدت لقيل: رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر و المؤنث، و إنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن. انتهى. 

  • و كان العناية في عد كل نفس رهينة أن لله عليها حق العبودية بالإيمان و العمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه و تؤدي حقه تعالى فإن آمنت و صلحت فكت و أطلقت، و إن كفرت و أجرمت و ماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما، و هذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير و شر كما تقدم في قوله تعالى: {كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور ٢١. 

  • و الآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله: {نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} فإن كون النفس الإنسانية رهينة بما كسبت يوجب على كل نفس أن تتقي النار التي ستحبس فيها إن أجرمت و لم تتبع الحق. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ} هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب و هم أصحاب العقائد الحقة و الأعمال الصالحة من متوسطي المؤمنين، و قد تكرر ذكرهم و تسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، و على هذا فالاستثناء متصل. 

  • و المتحصل من مجموع المستثنى منه و المستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت و هي نفوس المجرمين، و نفوس مفكوكة من الرهن مطلقة و هي نفوس أصحاب اليمين، و أما السابقون المقربون و هم الذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه و عدهم ثالثة الطائفتين و غيرهما كما في قوله تعالى: {وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } إلى أن قال {وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ} الواقعة: ١١، فهؤلاء قد استقروا في مستقر العبودية لا يملكون نفسا و لا عمل نفس فنفوسهم لله و كذلك أعمالهم فلا يحضرون و لا يحاسبون قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: ١٢٨، فهم خارجون عن المقسم رأسا. 

  • و عن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، و عن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين و عن بعضهم أنهم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، و عن بعضهم أنهم الذين سبقت 

تفسير الميزان ج۲۰

97
  • لهم من الله الحسنى، و هي وجوه ضعيفة غير خفية الضعف. 

  • قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {فِي جَنَّاتٍ} خبر لمبتدإ محذوف و تنوين جنات للتعظيم، و التقدير هم في جنات لا يدرك وصفها، و يمكن أن يكون حالا من أصحاب اليمين. 

  • و قوله: {يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ} أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين. 

  • و قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ} ضمير الجمع للمجرمين، و المراد بالصلاة التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه فلا يضره اختلاف الصلاة كما و كيفا باختلاف الشرائع السماوية الحقة. 

  • قوله تعالى: {وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ} المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم و يرتفع به حاجتهم، و إطعام المسكين إشارة إلى حق الناس عملا كما أن الصلاة إشارة إلى حق الله كذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخَائِضِينَ} المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا و الغور فيه. 

  • قوله تعالى: {وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ} و هو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلا أو بعضا، و لما كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحت نسبة الجميع إلى الجميع و إن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض. 

  • قوله تعالى: {حَتَّى أَتَانَا اَلْيَقِينُ} قيد للتكذيب، و فسروا اليقين بالموت لكونه مما لا شك فيه فالمعنى و كنا في الدنيا نكذب بيوم الجزاء حتى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنا نكذب به ما دامت الحياة. 

  • و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقية يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخية حين الموت و بعده، و هو معنى حسن. 

  • قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ اَلشَّافِعِينَ} تقدم في بحث الشفاعة أن في الآية دلالة 

تفسير الميزان ج۲۰

98
  • على أن هناك شافعين يشفعون فيشفعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنهم محرومون من نيلها. 

  • و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

  •  

  • [سورة المدثر (٧٤): الآیات ٤٩ الی ٥٦ ]

  • {فَمَا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ٤٩ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ٥٠فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ٥١ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىَ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ٥٢ كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ اَلْآخِرَةَ ٥٣ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ٥٤ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ٥٥ وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‌ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ ٥٦} 

  • (بيان) 

  • في معنى الاستنتاج مما تقدم من الوعيد و الوعد أورد في صورة التعجب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفرهم عن الحق الصريح كأنه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحق و يتذكروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد. 

  • ثم يعرض عليهم التذكرة عرضا فهم على خيرة من القبول و الرد فإن شاءوا قبلوا و إن شاءوا ردوا، لكن عليهم أن يعلموا أنهم غير مستقلين في مشيتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتة. 

  • قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} تفريع على ما تقدم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و {لَهُمْ} متعلق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و {مُعْرِضِينَ} حال من ضمير {لَهُمْ} و {عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ} متعلق بمعرضين. 

تفسير الميزان ج۲۰

99
  • و المعنى: فإذا كان كذلك فأي شي‌ء كان عرض للمشركين الذين يكذبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدقوا و يؤمنوا لكنهم أعرضوا عنها و هو من العجب. 

  • قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشية و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسر بكل من المعنيين. 

  • و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنهم حمر وحشية نفرت من أسد أو من الصائد. 

  • قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىَ صُحُفاً مُنَشَّرَةً} المراد بالصحف المنشرة الكتاب السماوي المشتمل على الدعوة الحقة. 

  • و في الكلام إضراب عما ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرد النفرة بل يريد كل امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن. 

  • و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنهم إنما يقبلون دعوته و لا يردونها لو دعا كل واحد منهم بإنزال كتاب سماوي إليه مستقلا و أما الدعوة من طريق الرسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقة مؤيدة بالآيات البينة. 

  • فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ} الأنعام ١٢٤، و في معنى قول الأمم لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} على ما قررنا من حجتهم على نفي رسالة الرسل. 

  • و قيل: إن الآية في معنى قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي حكاه الله في قوله: {وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ} إسراء ٩٣. 

  • و يدفعه أن مدلول الآية أن ينزل على كل واحد منهم صحف منشرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء. 

  • و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتى 

تفسير الميزان ج۲۰

100
  • يؤمنوا و إلا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك. 

  • و هي جميعا معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدم. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ لاَ يَخَافُونَ اَلْآخِرَةَ} ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماوي على كل واحد منهم فإن دعوة الرسالة مؤيدة بآيات بينة و حجج قاطعة لا تدع ريبا لمرتاب فالحجة تامة قائمة على الرسول و غيره على حد سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كل واحد من الناس المدعوين صحفا منشرة. 

  • على أن الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحية النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ} بقوله: {اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}

  • و قوله: {بَلْ لاَ يَخَافُونَ اَلْآخِرَةَ} إضراب عن قوله: {يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ} إلخ، و المراد أن اقتراحهم نزول كتاب على كل امرئ منهم قول ظاهري منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقي لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجة بظهور الآيات البينات. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماوي لكل امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتابا كذلك أن القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعد للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء. 

  • قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء اتعظ به فإنما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ} دفع لما يمكن أن يتوهموه من قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أن الأمر إليهم و أنهم مستقلون في إرادتهم و ما يترتب عليها من أفعالهم فإن لم يشاءوا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم. 

  • و المحصل من الدفع أن حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكرهم إن تذكروا و إن كان فعلا اختياريا صادرا عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشية الإلهية متعلقة به بما هو اختياري بمعنى أن الله تعالى يريد بإرادة تكوينية أن يفعل الإنسان 

تفسير الميزان ج۲۰

101
  • الفعل الفلاني بإرادته و اختياره فالفعل اختياري ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلق الإرادة الإلهية ضروري التحقق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقق. 

  • و قوله: {هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ} أي أهل لأن يتقى منه لأن له الولاية المطلقة على كل شي‌ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتقاه لأنه غفور رحيم. 

  • و الجملة أعني قوله: {هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ} صالحة لتعليل ما تقدم من الدعوة في قوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} و هو ظاهر، و لتعليل قوله: {وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} فإن كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتم إلا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمردهم و استكبارهم. 

  • بحث روائي‌ 

  • في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‌ صُحُفاً مُنَشَّرَةً} و ذلك أنهم قالوا: يا محمد قد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفارته. 

  • فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: يسألك قومك سنة بني إسرائيل في الذنوب فإن شاءوا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كره ذلك لقومه. 

  • أقول: و القصة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‌ صُحُفاً مُنَشَّرَةً}

  • أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصة. 

  • و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‌ صُحُفاً مُنَشَّرَةً} قال: إلى فلان بن فلان من رب العالمين يصبح عند رأس كل رجل صحيفة موضوعة يقرؤها. 

تفسير الميزان ج۲۰

102
  • أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدمناه من معنى الآية. 

  • و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىَ صُحُفاً مُنَشَّرَةً} قال: قد قال قائلون من الناس لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) إن سرك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصة يأمرنا باتباعك. 

  • أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأن الآية في معنى قوله تعالى: {وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} الآية و قد تقدم ما فيه. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ} قال: هو أهل أن يتقى و أهل أن يغفر. 

  • و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوىَ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ} قال: قال الله عز و جل: أنا أهل أن أتقى و لا يشرك بي عبدي شيئا و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة. 

  • و قال: إن الله تبارك و تعالى أقسم بعزته و جلاله أن لا يعذب أهل توحيده بالنار. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار قال: سمعت أبا هريرة و ابن عمر و ابن عباس يقولون: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله: {هُوَ أَهْلُ اَلتَّقْوى‌ وَ أَهْلُ اَلْمَغْفِرَةِ} قال: يقول الله: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي شريك فإذا اتقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك. 

  • أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).

  •  

  • (٧٥) سورة القيامة مكية و هي أربعون آية (٤٠) 

  • [سورة القيامة (٧٥): الآیات ١ الی ١٥] 

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ ١ وَ لاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اَللَّوَّامَةِ ٢ أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ٣ بَلى‌ قَادِرِينَ عَلى‌ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ٤ بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ٥ يَسْئَلُ 

تفسير الميزان ج۲۰

103
  • أَيَّانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ ٦ فَإِذَا بَرِقَ اَلْبَصَرُ ٧ وَ خَسَفَ اَلْقَمَرُ ٨ وَ جُمِعَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ ٩ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ اَلْمَفَرُّ ١٠كَلاَّ لاَ وَزَرَ ١١ إِلى‌ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ١٣ بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‌ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ١٤ وَ لَوْ أَلْقى‌ مَعَاذِيرَهُ ١٥} 

  • (بيان) 

  • يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أولا ثم تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان أخرى، و ينبئ أن المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء. 

  • و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ} إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون {لاَ أُقْسِمُ} كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اَللَّوَّامَةِ} إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: إنه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد أقسم بيوم القيامة و لا أقسم بالنفس اللوامة. 

  • و المراد بالنفس اللوامة نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة. 

  • و قيل: المراد به النفس الإنسانية أعم من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنها تلوم الإنسان يوم القيامة أما الكافرة فإنها تلومه على كفره و فجوره، و أما المؤمنة فإنها تلومه على قلة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير. 

  • و قيل. المراد نفس الكافر الذي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر و معصية قال تعالى: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ} يونس ٥٤. 

  • و لكل من الأقوال وجه. 

تفسير الميزان ج۲۰

104
  • و جواب القسم محذوف يدل عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثن، و إنما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} الأعراف ١٨٧ و قال: {إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ} طه ١٥ و قال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ} النبأ: ١. 

  • قوله تعالى: {أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الحسبان‌ الظن، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {بَلىَ قَادِرِينَ عَلىَ أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي بلى نجمعها و {قَادِرِينَ} حال من فاعل مدخول بلى المقدر، و البنان‌ أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنا قادرون على أن نصور بنانه على صورها التي هي عليها بحسب خلقنا الأول. 

  • و تخصيص البنان بالذكر - لعله - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيات التركيب و العدد تترتب عليها فوائد جمة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الرد و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة التي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافا إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط التي لا يزال ينكشف للإنسان منها سر بعد سر. 

  • و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئا واحدا من غير تفريق كخف البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئا واحدا فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدم أرجح. 

  • قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال الراغب: الفجر شق الشي‌ء شقا واسعا. قال: و الفجور شق ستر الديانة يقال: فجر فجورا فهو فاجر و جمعه فجار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيا، و ضمير {أَمَامَهُ} للإنسان. 

  • و قوله: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} تعليل ساد مسد معلله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و {بَلْ} إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت. 

تفسير الميزان ج۲۰

105
  • و المعنى: أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء. 

  • هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه أخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها. 

  • و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرات. 

  • قوله تعالى: {يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ} الظاهر أنه بيان لقوله: {بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} فيفيد التعليل و أن السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و أنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البينة و قيام الحجج القاطعة أن يتخذ حذره و يتجهز بالإيمان و التقوى و يتهيأ للقاء اليوم قريبا كان أو بعيدا فكل ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيان يوم القيامة؟ فليس إلا سؤال مكذب مستهزئ. 

  • قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ اَلْبَصَرُ وَ خَسَفَ اَلْقَمَرُ وَ جُمِعَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ} ذكر جملة من أشراط الساعة، و بريق‌ البصر تحيره في إبصاره و دهشته، و خسوف‌ القمر زوال نوره. 

  • قوله تعالى: {يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ اَلْمَفَرُّ} أي أين موضع الفرار، و قوله: {أَيْنَ اَلْمَفَرُّ} مع ظهور السلطنة الإلهية له و علمه بأن لا مفر و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفر إذا وقع في شدة أو هددته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذبا قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} الأنعام: ٢٣، و قال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ }المجادلة: ١٨. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} ردع عن طلبهم المفر، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان. 

  • قوله تعالى: {إِلىَ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و تقديم {إِلىَ رَبِّكَ} و هو متعلق بقوله: {اَلْمُسْتَقَرُّ} يفيد الحصر فلا مستقر إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه. 

تفسير الميزان ج۲۰

106
  • و ذلك أن الإنسان سائر إليه تعالى كما قال: {يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلىَ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} الانشقاق: ٦ و قال: {إِنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلرُّجْعىَ} العلق: ٨ و قال: {وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىَ} النجم: ٤٢، فهو ملاقي ربه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أما الحجاب الذي يشير إليه قوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: ١٥ فسياق الآيتين يعطي أن المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة. 

  • و يمكن أن يكون المراد بكون مستقره إليه رجوع أمر ما يستقر فيه من سعادة أو شقاوة و جنة أو نار إلى مشيته تعالى فمن شاء جعله في الجنة و هم المتقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} المائدة: ٤٠. 

  • و يمكن أن يراد به أن استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} القصص: ٨٨. 

  • قوله تعالى: {يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ} المراد بما قدم و أخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره و آخره أو ما قدمه على موته من حسنة أو سيئة و ما أخر من سنة حسنة سنها أو سنة سيئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيئات. 

  • و قيل: المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الأول و يعاقب على الثاني، و بما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الأول و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدم من المعاصي و ما أخر من الطاعات، و قيل، ما قدم من طاعة الله و أخر من حقه فضيعه، و قيل: ما قدم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم. 

  • قوله تعالى: {بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقىَ مَعَاذِيرَهُ} إضراب عن قوله، {يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسَانُ} إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطني و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه. 

  • و قيل: المراد بالبصيرة الحجة كما في قوله تعالى، {مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصَائِرَ} إسراء، ١٠٢ و الإنسان نفسه حجة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلم يداه و رجلاه، قال تعالى: 

تفسير الميزان ج۲۰

107
  • {إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} إسراء ٣٦، و قال {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ} حم السجدة، ٢٠. و قال، {وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} يس: ٦٥. 

  • و قوله: {وَ لَوْ أَلْقىَ مَعَاذِيرَهُ} المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها. 

  • و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإن نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اَللَّوَّامَةِ} قال: نفس آدم التي عصت فلامها الله عز و جل. 

  • أقول: و في انطباقها على الآية خفاء. 

  • و فيه في قوله: {بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال: يقدم الذنب و يؤخر التوبة و يقول: سوف أتوب. 

  • و فيه في قوله: {فَإِذَا بَرِقَ اَلْبَصَرُ} قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف. 

  • و فيه في قوله تعالى: {بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‌ مَعَاذِيرَهُ} قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر. 

  • و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشى مع أبي عبد الله (عليه السلام) و تلا هذه الآية {بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‌ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‌ مَعَاذِيرَهُ}، ثم قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول: من أسر سريرة ألبسه الله رداها إن خيرا فخير و إن شرا فشر. 

  • و في المجمع، و روى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يستر سيئا؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه 

تفسير الميزان ج۲۰

108
  • ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول: {بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية. 

  • أقول: و رواه في أصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العباس عنه (عليه السلام).

  • و فيه، عن العياشي عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما حد المرض الذي يفطر صاحبه؟ قال، {بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلى‌ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} هو أعلم بما يطيق. 

  • أقول: و رواه في الفقيه، أيضا. 

  •  

  • [سورة القيامة (٧٥): الآیات ١٦ الی ٤٠]

  • {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ١٧ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ١٩ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ ٢٠وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ ٢١ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ٢٢ إِلى‌ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ٢٣ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ٢٤ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ٢٥ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ اَلتَّرَاقِيَ ٢٦ وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ ٢٧ وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ ٢٨ وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ ٢٩ إِلى‌ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ ٣٠فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّى ٣١ وَ لَكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‌ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ٣٣ أَوْلى‌ لَكَ فَأَوْلى‌ ٣٤ ثُمَّ أَوْلى‌ لَكَ فَأَوْلى‌ ٣٥ أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ٣٦ أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‌ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ٣٨ فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى‌ ٣٩ أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى‌ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‌ ٤٠} 

تفسير الميزان ج۲۰

109
  • (بيان‌)

  • تتمة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و أخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أن هذا المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثم الإشارة إلى أن الإنسان لا يترك سدى فالذي خلقه أولا قادر على أن يحييه ثانيا و به تختتم السورة. 

  • قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } - إلى قوله - {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} الذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفها من الآيات المتقدمة و المتأخرة الواصفة ليوم القيامة أنها معترضة متضمن أدبا إلهيا كلف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرك به لسانه و ينصت حتى يتم الوحي. 

  • فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} طه: ١١٤. 

  • فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلم منا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرد للإنصات فيقطع المتكلم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثم يمضي في حديثه. 

  • فقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الخطاب فيه للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الضميران للقرآن الذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلا فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مر في معنى قوله: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‌ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} طه: ١١٤. 

  • و قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ} القرآن هاهنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضم بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‌ء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد. 

تفسير الميزان ج۲۰

110
  • و قيل: المعنى إن علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‌ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد. 

  • و قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحيا فاتبع قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها. 

  • و قيل: المراد باتباع قرآنه اتباعه ذهنا بالإنصات و التوجه التام إليه و هو معنى لا بأس به. 

  • و قيل: المراد فاتبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتباع قراءته بالتكرار حتى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان. 

  • و قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثم للتأخير الرتبي لأن البيان مترتب على الجمع و القراءة رتبة. 

  • و قيل، المعنى ثم إن علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغير و الزوال حتى تقرأه على الناس. 

  • و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يحرك لسانه عند الوحي بما ألقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و أمر بالإنصات حتى يتم الوحي فضمير {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ} للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد. 

  • و فيه أنه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظرا إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ} فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى. 

  • و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الذي اختاره أنه لم يرد القرآن، و إنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‌ء يدل على أنه القرآن و لا شي‌ء من أحكام الدنيا. 

  • و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخا: لا تعجل و تثبت لتعلم الحجة عليك 

تفسير الميزان ج۲۰

111
  • فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره ثم إن علينا بيانه لو أنكرت. انتهى. 

  • و يدفعه أن المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها و ما بعدها عليه على أن مشاكلة قوله: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} في سياقه لهذه الآيات تؤيد مشاكلتها له في المعنى. 

  • و عن بعضهم أن الآيات الأربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، و خطاب {لاَ تُحَرِّكْ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ضمير {بِهِ} ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلا و لو كنت غير مكذب و لا مستهزئ {لِتَعْجَلَ بِهِ} أي بالعلم به {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ} أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخصا و هو كما ترى. 

  • و قد تقدم في تفسير قوله: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} إن هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيد ما ورد في الروايات أن للقرآن نزولا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دفعة غير نزوله تدريجا. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ} خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‌ء لأن خطاب {لاَ تُحَرِّكْ} اعتراضي غير مرتبط بشي‌ء من طرفيه. 

  • و قوله: {كَلاَّ} ردع عن قوله السابق: {يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} و قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ} - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا - {وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ} أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله: {بَلْ يُرِيدُ اَلْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}

  • قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلىَ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها حسنها و بهجتها. 

  • و المعنى: نظرا إلى ما يقابله من قوله: {وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة و البشاشة قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ 

تفسير الميزان ج۲۰

112
  • اَلنَّعِيمِ} المطففين: ٢٤، و قال: {وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً} الدهر: ١١. 

  • و قوله: {إِلىَ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} خبر بعد خبر لوجوه، و {إِلىَ رَبِّهَا} متعلق بناظرة قدم عليها لإفادة الحصر أو الأهمية. 

  • و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة (عليه السلام) و قد أوردنا شطرا منها في ذيل تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الأعراف: ١٤٣، و قوله تعالى: {مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأىَ} النجم: ١١. 

  • فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفا من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلا و الرحمة الإلهية شاملة لهم {وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} النمل: ٨٩ و لا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة و لا يتنعمون بشي‌ء من نعيمها إلا و هم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شي‌ء و لا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له. 

  • و من هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم {إِلىَ رَبِّهَا} على {نَاظِرَةٌ} يفيد الحصر و الاختصاص، إن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة. 

  • و الجواب أ لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه إنما هو بما أنه آية، و الآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم. 

  • و أما ما أجيب به عنه أن تقديم {إِلىَ رَبِّهَا} لرعاية الفواصل و لو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظرا، و لو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها. 

  • فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنة إلى ربهم دائما من غير أن يواجهوا بها غيره. 

  • قوله تعالى: {وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فسر البسور بشدة 

تفسير الميزان ج۲۰

113
  • العبوس و الظن بالعلم و {فَاقِرَةٌ} صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار. 

  • و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم أنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظن خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنه سامع و الظن بمعناه المعروف. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ اَلتَّرَاقِيَ} ردع عن حبهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربكم و فاعل {بَلَغَتِ} محذوف يدل عليه السياق كما في قوله تعالى: {فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ }الواقعة: ٨٣ و التقدير إذا بلغت النفس التراقي. 

  • و التراقي‌ العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ} اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟ قوله تعالى: {وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ} أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه الأحوال أنه مفارقته للعاجلة التي كان يحبها و يؤثرها على الآخرة. 

  • قوله تعالى: {وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ} ظاهره أن المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي. 

  • و قيل: المراد به التفاف شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدة هول المطلع. 

  • و لا دليل من جهة اللفظ على شي‌ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إن المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد أخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كل من المعاني. 

  • قوله تعالى: {إِلىَ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ} المساق‌ مصدر ميمي بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنه الرجوع إليه، و عبر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسير من يوم موته و هو قوله، {إِلىَ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ} حتى يرد على ربه يوم القيامة و هو قوله: {إِلىَ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ} 

تفسير الميزان ج۲۰

114
  • و لو كان تقديم {إِلىَ رَبِّكَ} لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى. 

  • و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم {إِلىَ رَبِّكَ} لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربك و هو الجنة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدم. 

  • قوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّى وَ لَكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلىَ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله: {أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ} إلخ، و المراد بالتصديق المنفي تصديق الدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفية التوجه العبادي إليه تعالى بالصلاة التي هي عمود الدين. 

  • و التمطي - على ما في المجمع - تمدد البدن من الكسل و أصله أن يلوي مطاه أي ظهره، و المراد بتمطيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة. 

  • و المعنى: فلم يصدق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصل لربه أي لم يتبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذب بها و تولى عنها ثم ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبرا. 

  • قوله تعالى: {أَوْلىَ لَكَ فَأَوْلىَ ثُمَّ أَوْلىَ لَكَ فَأَوْلىَ} لا ريب أنه كلمة تهديد كررت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله: {أَوْلىَ لَكَ} خبرا لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنه لم يصدق و لم يصل و لكن كذب و تولى ثم ذهب إلى أهله متبخترا مختالا، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب. 

  • فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتَالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلىَ لَهُمْ} سورة محمد ٢٠. 

  • و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما أعد لك من العذاب. 

  • و قيل: أولى لك اسم فعل مبني و معناه وليك شر بعد شر. 

  • و قيل: أولى فعل ماض دعائي من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك. 

تفسير الميزان ج۲۰

115
  • و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله مما تكرهه. 

  • و قيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف و كثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره. 

  • و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر و هلاك. 

  • و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها و أهل لها فأولى. 

  • و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلف و الوجه الأخير قريب مما قدمنا و ليس به. 

  • قوله تعالى: {أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله: {أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}

  • و الاستفهام للتوبيخ، و السدي‌ المهمل، و المعنى أ يظن الإنسان أن يترك مهملا لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلف و لا يجزى. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنىَ} اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المني صبه في الرحم. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أي ثم كان الإنسان أو المني قطعة من دم منعقد فقدره فصوره بالتعديل و التكميل. 

  • قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىَ} أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الأنثى. 

  • قوله تعالى: {أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىَ} احتجاج على البعث الذي ينكرونه استبعادا له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائي و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدم الكلام في تقريب هذه الحجة في تفسير الآيات المتعرضة لها مرارا. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف و الطبراني و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يعالج 

تفسير الميزان ج۲۰

116
  • من التنزيل شدة، و كان يحرك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ} قال: إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: إذا أنزلناه عليك {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع له و أنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بينه بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق و في لفظ استمع فإذا ذهب قرأ كما وعده الله. 

  • و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أنزل عليه القرآن تعجل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}

  • و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يعلم ختم سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. 

  • أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدم أن في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء. 

  • و في تفسير القمي: قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ} قال: الدنيا الحاضرة {وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ} قال: تدعون {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أي مشرقة {إِلى‌ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته. 

  • و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‌ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها. 

  • أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن علي (عليه السلام)، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأن الانتظار لا يتعدى بإلى بل هو متعد بنفسه، و رد عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر: 

  • و إذا نظرت إليك من ملك***و البحر دونك جدتني نعما 
  • و قول الآخر: 

  • إني إليك لما وعدت لناظر***نظر الفقير إلى الغني الموسر
  • و عد في الكشاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالا كنائيا و هو معنى حسن. 

تفسير الميزان ج۲۰

117
  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجري في الشريعة و الدارقطني في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائي في السنة و البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن أدنى أهل الجنة منزلا لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشية. 

  • ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: البياض و الصفاء {إِلى‌ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: ينظر كل يوم في وجهه. 

  • أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغض عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعلية فإن وجه الشي‌ء ما يستقبل به الشي‌ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم. 

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‌ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية و لا حد محدود و لا صفة معلومة. 

  • أقول: و الرواية تؤيد ما قدمنا في تفسير الآية أن المراد به النظر القلبي و رؤية القلب دون العين الحسية، و هي تفسر ما ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة مما ظاهره التشبيه و أن الرؤية بالعين الحسية التي لا تفارق المحدودية. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ اَلتَّرَاقِيَ} قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة {وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: يقال له: من يرقيك {وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ} علم أنه الفراق 

  • و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل {وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ} قال: فإن ذلك ابن آدم إذا حل به الموت قال: هل من طبيب {وَ ظَنَّ أَنَّهُ اَلْفِرَاقُ} أيقن بمفارقة الأحبة {وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: التفت الدنيا بالآخرة {إِلى‌ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ} قال: المسير إلى رب العالمين. 

  • و في تفسير القمي: {وَ اِلْتَفَّتِ اَلسَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: التفت الدنيا بالآخرة {إِلى‌ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ} قال: يساقون إلى الله. 

تفسير الميزان ج۲۰

118
  • و في العيون، بإسناده عن عبد العظيم الحسني قال: سألت محمد بن علي الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {أَوْلىَ لَكَ فَأَوْلىَ ثُمَّ أَوْلىَ لَكَ فَأَوْلىَ} قال: يقول الله عز و جل بعدا لك من خير الدنيا و بعدا لك من خير الآخرة.

  •  أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه. 

  • و في المجمع، و جاءت الرواية: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل: بأي شي‌ء تهددني لا تستطيع أنت و ربك أن تفعلا بي شيئا، و إني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن عدة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال: لا يحاسب و لا يعذب و لا يسأل عن شي‌ء. 

  • و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام)، يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنما نتحول من دار إلى دار. 

  • و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لما نزلت هذه الآية {أَ لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلى‌ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتى‌} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سبحانك اللهم و بلى. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام). 

  •  أقول: و روي في الدر المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللهم و بلى‌، و كذا في العيون، عن الرضا (عليه السلام): أنه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللهم بلى. 

تفسير الميزان ج۲۰

119
  • (٧٦) سورة الدهر مدنية و هي إحدى و ثلاثون آية (٣١) 

  • [سورة الإنسان (٧٦): الآیات ١ الی ٢٢ ]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ١ إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ٢ إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ٣ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَ أَغْلاَلاً وَ سَعِيراً ٤ إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ٥ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ٦ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ٧ وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلى‌ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ٨ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً ٩ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ١٠فَوَقَاهُمُ اَللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ١١ وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ١٢ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى اَلْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَ لاَ زَمْهَرِيراً ١٣ وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ١٤ وَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ١٥ قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ١٦ وَ يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً ١٧ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ١٨ وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ١٩ وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ٢٠ 

تفسير الميزان ج۲۰

120
  • عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ٢١ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ٢٢} 

  • (بيان‌) 

  • تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئا مذكورا ثم هدايته السبيل إما شاكرا و إما كفورا و أن الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم و قد فصل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنه المقصود بالبيان . 

  • ثم تذكر مخاطبا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربه و لا يتبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربه بكرة و عشيا و ليسجد له من الليل و ليسبحه ليلا طويلا. 

  • و السورة مدنية بتمامها أو صدرها و هي اثنتان - و عشرون آية من أولها - مدني، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكي و قد أطبقت روايات أهل البيت (عليهم السلام) على كونها مدنية، و استفاضت بذلك روايات أهل السنة. 

  • و قيل بكونها مكية بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى. {هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحققه أي قد أتى على الإنسان «إلخ» و لعل هذا مراد من قال من قدماء المفسرين: إن {هَلْ} في الآية بمعنى قد، لا على أن ذلك أحد معاني «هل» كما ذكره بعضهم. 

  • و المراد بالإنسان الجنس. و أما قول بعضهم: إن المراد به آدم (عليه السلام) فلا يلائمه قوله في الآية التالية: {إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ}

  • و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتد من دون تحديد ببداية أو نهاية. 

  • و قوله: {شَيْئاً مَذْكُوراً} أي شيئا يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلا الأرض و السماء و البر و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنه لم يوجد بعد حتى وجد 

تفسير الميزان ج۲۰

121
  • فقيل: الإنسان فكونه مذكورا كناية عن كونه موجودا بالفعل فالنفي في قوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} متوجه إلى كونه شيئا مذكورا لا إلى أصل كونه شيئا فقد كان شيئا و لم يكن شيئا مذكورا و يؤيده قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} إلخ فقد كان موجودا بمادته و لم يتكون بعد إنسانا بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبين بها أن الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربه و جهزه التدبير الربوبي بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحق الذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم. 

  • و المعنى هل أتى قد أتى على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتد غير المحدود و الحال أنه لم يكن موجودا بالفعل مذكورا في عداد المذكورات. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكون منه مثله، و أمشاج‌ جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث. 

  • و الابتلاء نقل الشي‌ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقا آخر. 

  • و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعا بصيرا لا بالعكس، و الجواب عنه بأن في الكلام تقديما و تأخيرا و التقدير إنا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، لا يصغي إليه. 

  • و قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} سياق الآيات و خاصة قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ} إلخ يفيد أن ذكر جعله سميعا بصيرا للتوسل به في التدبير الربوبي إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحق التي تأتيه من جانب ربه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحق و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلا فإلى عذاب مخلد. 

تفسير الميزان ج۲۰

122
  • و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنه تعالى هو خالقه و مدبر أمره. 

  • و المعنى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعا بصيرا ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهية، و يبصر الآيات الإلهية الدالة على وحدانيته تعالى و النبوة و المعاد. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحق. 

  • و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ} آل عمران: ١٤٤ إن حقيقة كون العبد شاكرا لله كونه مخلصا لربه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم. 

  • و قوله: {إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} حالان من ضمير {هَدَيْنَاهُ} لا من {اَلسَّبِيلَ} كما قاله بعضهم، و {إِمَّا} يفيد التقسيم و التنويع أي إنا هديناه السبيل حال كونه منقسما إلى الشاكر و الكفور أي أنه مهدي سواء كان كذا أو كذلك. 

  • و التعبير بقوله: {إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} هو الدليل أولا: على أن المراد بالسبيل السنة و الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربه و محصله الدين الحق و هو عند الله الإسلام. 

  • و به يظهر أن تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد. 

  • و ثانيا: أن السبيل المهدي إليه سبيل اختياري و أن الشكر و الكفر اللذين يترتبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقر الاختيار للإنسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى: {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس: ٢٠، و ما في آخر السورة من قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ سَبِيلاً وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} إنما يفيد تعلق مشيته تعالى بمشية العبد لا بفعل العبد الذي تعلقت به مشية العبد حتى يفيد نفي تأثير مشية العبد المتعلقة بفعله، و قد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مرارا. 

تفسير الميزان ج۲۰

123
  • و الهداية التي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطرية هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حق الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا} الشمس: ٨ و أوسع مدلولا منه قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} الروم: ٣٠. 

  • و هداية قولية من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهية، و لم يزل التدبير الربوبي تدعم الحياة الإنسانية بالدعوة الدينية القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيد بذلك دعوة الفطرة كما قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلىَ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى أن قال {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ} النساء: ١٦٥. 

  • و من الفرق بين الهدايتين أن الهداية الفطرية عامة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانية و هي في الأفراد بالسوية غير أنها ربما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلىَ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلىَ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللَّهِ} الجاثية: ٢٣، و الهداية المنفية في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله: {وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلىَ عِلْمٍ}

  • و أما الهداية القولية و هي التي تتضمنها الدعوة الدينية فإن من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحق على الباطل و أما بلوغها لكل واحد واحد منهم فإن العلل و الأسباب التي يتوسل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كل إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذر ذلك جدا. 

  • و إلى المعنى الأول أشار تعالى بقوله: {وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} فاطر: ٢٤، و إلى الثاني بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} يس: ٦. 

  • فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحق فقد تمت عليه الحجة و من لم تبلغه الدعوة بلوغا ينكشف به له الحق فقد أدركه الفضل الإلهي بعده مستضعفا أمره إلى الله إن يشأ يغفر 

تفسير الميزان ج۲۰

124
  • له و إن يشأ يعذبه قال تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} النساء: ٩٨. 

  • ثم من الدليل على أن الدعوة الإلهية و هي الهداية إلى السبيل حق يجب على الإنسان أن يتبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجا من طريق النبوة و الرسالة فإن سعادة كل موجود و كماله في الآثار و الأعمال التي تناسب ذاته و تلائمها بما جهزت به من القوى و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتباع الدين الإلهي الذي هو سنة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَ أَغْلاَلاً وَ سَعِيراً} الاعتاد التهيئة، و سلاسل‌ جمع سلسلة و هي القيد الذي يقاد به المجرم، و أغلال‌ جمع غل بالضم قيل هي القيد الذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغل مختص بما يقيد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر. 

  • و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله: {إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} و قدم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} الكأس‌ إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج‌ ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنة. 

  • و الأبرار جمع بر بفتح الباء صفة مشبهة من البر و هو الإحسان و يتحصل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعا يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنه خير لا لأن فيه نفعا يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مر مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأن فيه خيرا لغيره كإطعام الطعام للمستحقين من عباد الله. 

  • و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} الأحزاب: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيدا مملوكين لربهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا 

تفسير الميزان ج۲۰

125
  • عليهم أن لا يريدوا إلا ما أراده ربهم و لا يفعلوا إلا ما يرتضيه فقدموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه و تحبه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبودية في مرحلة العمل لله سبحانه. 

  • و هذه الصفات هي التي عرف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ} و قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ} و قوله: {وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} و هي المستفادة من قوله في صفتهم: {لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الخ: البقرة: ١٧٧ و قد مر بعض الكلام في معنى البر في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} المطففين: ١٨. 

  • و الآية أعني قوله: {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ} إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} إلخ المبين لحال الكافرين في الآخرة، تبين حال الأبرار في الآخرة في الجنة، و أنهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور باردا طيب الرائحة. 

  • قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} {عَيْناً} منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخص عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحليهم بحلية العبودية و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح. 

  • و تفجير العين‌ شق الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأن نعم الجنة لا تحتاج في تحققها و التنعم بها إلى أزيد من مشية أهلها قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا} ق: ٣٥. 

  • و الآيتان - كما تقدمت الإشارة إليه - تصفان تنعم الأبرار بشراب الجنة في الآخرة، و بذلك فسرت الآيتان. 

  • و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أن أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجرونها بأعمالهم الصالحة و ستظهر لهم بحقيقتها في جنة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} يس: ٨. 

تفسير الميزان ج۲۰

126
  • و يؤيد ذلك ظاهر قوله {يَشْرَبُونَ} و {يَشْرَبُ بِهَا} و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسل بالأسباب. 

  • و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها. 

  • قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتسعا غايته، و المراد باستطارة شر اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته. 

  • و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إن المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتباع الشارع في جميع ما شرعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه. 

  • قوله تعالى: {وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً} ضمير {عَلىَ حُبِّهِ} للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبه توقان النفس إليه لشدة الحاجة، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا اَلْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} آل عمران: ٩٢. 

  • و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبا لله لا طمعا في الثواب، و يدفعه أن قوله تعالى حكاية منهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ} يغني عنه. 

  • و يليه في الضعف ما قيل: إن الضمير للإطعام المفهوم من قوله: {وَ يُطْعِمُونَ} وجه الضعف أنه إن أريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حب الإطعام في نفسه فضل حتى يمدحوا به، و إن أريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر. 

  • و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب. 

  • و قول بعضهم: إن المراد به أسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب 

تفسير الميزان ج۲۰

127
  • بأيدي الكفار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كل ذلك تكلف من غير دليل يدل عليه. 

  • و الذي يجب أن يتنبه له أن سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوما من المؤمنين تسميهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل. 

  • فما تشير إليه من القصة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثم الوعد الجميل عليها، ثم إن عد الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنية فإن الأسر إنما كان بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها. 

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً} وجه الشي‌ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعلية الكريمة التي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامة التي بها قيام كل شي‌ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عما عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيلوا قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ} بقولهم {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً}

  • و وراء ذلك صفاته الذاتية الكريمة التي هي المبدأ لصفاته الفعلية و لما يترتب عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبا لله لأنه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنه أهل للعبادة. 

  • و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله: {وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف: ٢٨، و قوله: {وَ مَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغَاءَ وَجْهِ اَللَّهِ} البقرة: ٢٧٢، و في هذا المعنى قوله: {وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} البينة: ٥، و قوله: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} المؤمن: ٦٥، و قوله: {أَلاَ لِلَّهِ اَلدِّينُ اَلْخَالِصُ} الزمر: ٣. 

  • و قوله: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً} الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا، و يعم الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملا لا لسانا. 

تفسير الميزان ج۲۰

128
  • و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلبا أو لسانا أو عملا، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لسانا. 

  • و الآية أعني قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ} إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إما بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المن و الأذى، و إما بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} عد اليوم و هو يوم القيامة عبوسا من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل. 

  • و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ} إلخ ينبهون بقولهم هذا أن قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصا للعبودية لمخافتهم ذاك اليوم الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتى نسبوه نحوا من النسبة إلى ربهم فقالوا: {نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً} إلخ لأنهم لما لم يريدوا إلا وجه ربهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنما يخافون و يرجون ربهم فلا يخافون يوم القيامة إلا لأنه من ربهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها. 

  • و أما قوله قبلا: {وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإن الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلا حيث قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ} إلخ. 

  • و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبودية لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} الغاشية: ٢٦. 

  • قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اَللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً} الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقي‌ بكذا يلقيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن. 

  • و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شر ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} القيامة: ٢٢. 

تفسير الميزان ج۲۰

129
  •  قوله تعالى: {وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً} المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنهم ابتغوا في الدنيا وجه ربهم و قدموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفا لأهواء أنفسهم فبدل الله ما لقوه من المشقة و الكلفة نعمة و راحة. 

  • قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى اَلْأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَ لاَ زَمْهَرِيراً} الأرائك‌ جمع أريكة و هو ما يتكأ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم متكئين في الجنة على الأرائك لا يرون فيها شمسا حتى يتأذوا بحرها و لا زمهريرا حتى يتأذوا ببرده. 

  • قوله تعالى: {وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} الظلال‌ جمع ظل، و دنو الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكان الدنو مضمن معنى الانبساط و قطوف‌ جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخرة لهم يقطفونها كيف شاءوا من غير مانع أو كلفة. 

  • قوله تعالى: {وَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب‌ جمع كوب و هو إناء الشراب الذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله: {وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} الآية. 

  • قوله تعالى: {قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضة مبني على التشبيه البليغ أي إنها في صفاء الفضة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضة. 

  • و ضمير الفاعل في {قَدَّرُوهَا} للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاءوا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا } ق: ٣٥ و قد قال تعالى قبل: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}. 

  • و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا. 

تفسير الميزان ج۲۰

130
  • قوله تعالى: {وَ يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} قيل: إنهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنة أطيب و ألذ. 

  • قوله تعالى: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} أي من عين أو التقدير أعني أو أخص عينا. قال الراغب: و قوله: {سَلْسَبِيلاً} أي سهلا لذيذا سلسا حديد الجرية. 

  • قوله تعالى: {وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرطون بخلدة و هي ضرب من القرط. 

  • و المراد بحسبانهم لؤلؤا منثورا أنهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً} {ثَمَّ} ظرف مكان ممحض في الظرفية، و لذا قيل: إن معنى {رَأَيْتَ} الأول: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة رأيت نعيما لا يوصف و ملكا كبيرا لا يقدر قدره. 

  • و قيل: {ثَمَّ} صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثم من النعيم و الملك، و هو كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} الأنعام: ٩٤ و الكوفيون من النحاة يجوزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريون منهم. 

  • قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ} إلخ الظاهر أن {عَالِيَهُمْ} حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و {ثِيَابُ} فاعله، و السندس كما قيل ما رق نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق‌ ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرب كالسندس. 

  • و قوله: {وَ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرب دستواره. 

  • و قوله: {وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} أي بالغا في التطهير لا تدع قذارة إلا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجه إليه فهم غير محجوبين عن ربهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربهم كما قال: {وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ }يونس: ١٠و قد تقدم في تفسير سورة الحمد إن الحمد وصف لا يصلح له إلا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: ١٦٠. 

تفسير الميزان ج۲۰

131
  • و قد أسقط تعالى في قوله: {وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} الوسائط كلها و نسب سقيهم إلى نفسه، و هذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة، و لعله من المزيد المذكور في قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق: ٣٥. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول و التقدير و يقال لهم: إن هذا كان لكم جزاء «إلخ». 

  • و قوله: {وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} إنشاء شكر لمساعيهم المرضية و أعمالهم المقبولة، و يا لها من كلمة طيبة تطيب بها نفوسهم. 

  • و اعلم أنه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنة في هذه الآيات نساء الجنة من الحور العين و هي من أهم ما يذكره عند وصف نعم الجنة في سائر كلامه و يمكن أن يستظهر منه أنه كانت بين هؤلاء الأبرار الذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء. 

  • و قال في روح المعاني: و من اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت إنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين و إنما صرح عز و جل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول و قرة عين الرسول، انتهى. 

  • (بحث روائي) 

  • في إتقان السيوطي، عن البيهقي في دلائل النبوة بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك و ن و المزمل إلى أن قالا و ما نزل بالمدينة ويل للمطففين، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و محمد، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان. (الحديث). 

  • و فيه، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس قال: كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء. 

  • و كان أول ما أنزل من القرآن اقرأ باسم ربك، ثم ن، ثم يا أيها المزمل - إلى أن قال - 

تفسير الميزان ج۲۰

132
  • ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان. (الحديث). 

  • و فيه، عن البيهقي في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن أول ما أنزل الله على نبيه من القرآن اقرأ باسم ربك، و ذكر مثل حديث عكرمة و الحسين و فيه ذكر ثلاث من السور المكية التي سقطت من روايتهما و هي الفاتحة و الأعراف و كهيعص. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة. 

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ} (الآية) قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة مما تقدم عليها أو تأخر عنها في سياق واحد متصل فنزولها فيهما (عليهما السلام) لا ينفك نزولها جميعا بالمدينة. 

  • و في الكشاف: و عن ابن عباس أن الحسن و الحسين مرضا فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك (ولديك ظ) فنذر علي و فاطمة و فضة جارية لهما إن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا و ما معهم شي‌ء. 

  • فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا و اختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل و قال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلا الماء و أصبحوا صياما. 

  • فلما أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. 

  • فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها۱ ببطنها و غارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل و قال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة. 

    1. بطنها بظهرها ظ. 

تفسير الميزان ج۲۰

133
  • أقول: الرواية مروية بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عباس و نقلها البحراني في غاية المرام، عن أبي المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل أمير المؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و عنه بإسناد آخر عن الضحاك عن ابن عباس و عن الحمويني في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و عن الثعلبي بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس، و رواه في المجمع، عن الواحدي في تفسيره. 

  • و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أنه قال: سألت النبي عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء. 

  • فأول ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم اقرأ باسم ربك، ثم ن إلى أن قال و أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم سورة محمد ثم الرعد ثم سورة الرحمن ثم هل أتى. (الحديث). 

  • و فيه، عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره قال: حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن :أنها مدنية نزلت في علي و فاطمة السورة كلها. 

  • و في تفسير القمي، عن أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عند فاطمة (عليها السلام) شعير فجعلوه عصيدة ۱فلما أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه ثلثا فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه علي (عليه السلام) الثلث و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز و جل.

  •  أقول: القصة كما ترى ملخصة في الرواية و روى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسندا و عن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عباس، و بإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام)، و عن محمد بن العباس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيري عن عبد الله بن عباس، و في المناقب، أنه مروي عن الأصبغ بن نباتة. 

    1. العصيدة: شعير يلت بالسمن و يطبخ. 

تفسير الميزان ج۲۰

134
  • و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه و في ولده {إِنَّ اَلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا. 

  • و في كتاب الخصال، في احتجاج علي على أبي بكر قال: أنشدك بالله أنا صاحب الآية {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أم أنت؟ قال: بل أنت. 

  • و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سل و استفهم فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان و الصور و النبوة أ فرأيت إن آمنت بما آمنت به و عملت بمثل ما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال: نعم و الذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام. ثم قال: من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله و من قال: سبحان الله و بحمده كتبت له مائة ألف حسنة و أربعة و عشرون ألف حسنة و نزلت عليه السورة {هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ } - إلى قوله - {مُلْكاً كَبِيراً}

  • فقال الحبشي: و إن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: نعم فاشتكى حتى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يدليه في حفرته بيده. 

  • و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة: أن رجلا أسود كان يسأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن التسبيح و التهليل فقال له عمر بن الخطاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر و أنزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {هَلْ أَتى‌ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ} حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مات شوقا إلى الجنة. 

  • و فيه، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه السورة {هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ } و قد أنزلت عليه و عنده رجل أسود فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة. 

  • أقول: و هذه الروايات الثلاث على تقدير صحتها لا تدل على أزيد من كون نزول السورة مقارنا لقصة الرجل و أما كونها سببا للنزول فلا، و هذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر و بالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيت (عليهم السلام). 

تفسير الميزان ج۲۰

135
  • على أن رواية ابن عمر للقصة الظاهرة في حضوره القصة و قد هاجر إلى المدينة و هو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصة بالمدينة. 

  • و في الدر المنثور، أيضا أخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بمكة. 

  • أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحاس في كتاب الناسخ و المنسوخ، و قد نقله في الإتقان و هو معارض لما تقدم نقله مستفيضا عن ابن عباس من نزول السورة بالمدينة و أنها نزلت في أهل البيت (عليهم السلام). 

  • على أن سياق آياتها و خاصة قوله {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} و {يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ} إلخ سياق قصة واقعة و ذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. 

  • قال بعضهم ما ملخصه: أن الروايات مختلفة في مكية هذه السورة و مدنيتها و الأرجح أنها مكية بل الظاهر من سياقها أنها من عتائق السور القرآنية النازلة بمكة في أوائل البعثة يؤيد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ كما يؤيده ما ورد فيها من أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر لحكم ربه و أن لا يطيع منهم آثما أو كفورا و يثبت على ما نزل عليه من الحق و لا يداهن المشركين من الأوامر التي كانت تنزل بمكة عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها بمكة كما في سورة القلم و المزمل و المدثر فلا عبرة باحتمال مدنية السورة. 

  • و هو فاسد أما ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ فليس ذلك مما يختص بالسور المكية حتى يقضى بها على كون السورة مكية فهذه سورة الرحمن و سورة الحج مدنيتان على ما تقدمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنية و قد اشتملتا من صور النعم الحسية المفصلة الطويلة و صور العذاب الغليظ على ما يربو و يزيد على هذه السورة بكثير. 

  • و أما ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و أن لا يطيع منهم آثما أو كفورا و لا يداهنهم و يثبت على ما نزل عليه من الحق ففيه أن هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة و هو قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} إلى آخر السورة و من المحتمل جدا أن يكون هذا الفصل من الآيات - و هو ذو سياق تام مستقل - 

تفسير الميزان ج۲۰

136
  • نازلا بمكة، و يؤيده ما في كثير من الروايات المتقدمة أن الذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأول من الآيات، و على هذا أول السورة مدني و آخرها مكي. 

  • و لو سلم نزولها دفعة واحدة فأمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر لا اختصاص له بالسور المكية فقد ورد في قوله: {وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ وَ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف: ٢٨ و الآية على ما روي مدنية و الآية كما ترى متحدة المعنى مع قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلخ و هي في سياق شبيه جدا بسياق هذه الآيات فراجع و تأمل. 

  • ثم الذي كان يلقاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أذى المنافقين و الذين في قلوبهم مرض و الجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكة يشهد بذلك أخبار سيرته. 

  • و لا دليل أيضا على انحصار الإثم و الكفور في مشركي مكة فهناك غيرهم من الكفار و قد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله: {لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ} النور: ١١، و قوله: {وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً} النساء: ١١٢. 

  • و في المجمع، و روى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} قال: كان شيئا و لم يكن مذكورا. 

  • أقول: و روي فيه، أيضا عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله.

  • و فيه، أيضا عن العياشي بإسناده عن سعيد الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان مذكورا في العلم و لم يكن مذكورا في الخلق.

  • أقول: يعني أنه كان له ثبوت في علم الله ثم خلق بالفعل فصار مذكورا فيمن خلق. 

  • و في الكافي، بإسناده عن مالك الجهني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: كان مقدرا غير مذكور. 

  • أقول: هو في معنى الحديث السابق. 

  • و في تفسير القمي في الآية قال: لم يكن في العلم و لا في الذكر، و في حديث آخر: كان في العلم و لم يكن في الذكر. 

تفسير الميزان ج۲۰

137
  • أقول: معنى الحديث الأول أنه لم يكن في علم الناس و لا فيمن يذكرونه فيما بينهم، و معنى الثاني أنه كان في علم الله و لم يكن مذكورا عند الناس. 

  • و في تفسير القمي، أيضا في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} قال: ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعا.

  • و في الكافي، بإسناده عن حمران بن أعين قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً} قال: إما آخذ فهو شاكر و إما تارك فهو كافر. 

  • أقول: و رواه القمي في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله. و في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يقرب منه و لفظه: عرفناه إما آخذا و إما تاركا.

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا و إما كفورا و الله تعالى أعلم. 

  • و في أمالي الصدوق، بإسناده عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) في حديث: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اَللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} قال: هي عين في دار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يفجر إلى دور الأنبياء و المؤمنين {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} يعني عليا و فاطمة و الحسن و الحسين (عليه السلام) و جاريتهم {وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} يقول عابسا كلوحا {وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ} يقول: على شهوتهم للطعام و إيثارهم له {مِسْكِيناً} من مساكين المسلمين {وَ يَتِيماً} من يتامى المسلمين {وَ أَسِيراً} من أسارى المشركين. 

  • و يقولون إذا أطعموهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُكُوراً} قال: و الله ما قالوا هذا لهم و لكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم يقولون: لا نريد جزاء تكافئوننا به و لا شكورا تثنون علينا به، و لكنا إنما أطعمناكم لوجه الله و طلب ثوابه.

  • و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن مردويه عن الحسن قال: كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية {وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعَامَ عَلىَ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً}

تفسير الميزان ج۲۰

138
  • أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، و نظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، و ما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و ما رواه عن عبد الرزاق و ابن المنذر عن ابن عباس. 

  • و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} قال: يقبض ما بين الأبصار. 

  • و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) في صفة الجنة قال: و الثمار دانية منهم و هو قوله عز و جل: {وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} من قربها منهم يتناول المؤمن - من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكئ و إن الأنواع من الفاكهة ليقلن لولي الله: يا ولي الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي

  • و في تفسير القمي في قوله: {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ } قال: مسورون. 

  • و في المعاني، بإسناده عن عباس بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) و كنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عز و جل: {وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً} ما هذا الملك الذي كبر الله عز و جل حتى سماه كبيرا؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة أرسل رسولا إلى ولي من أوليائه فيجد الحجبة على بابه فتقول له: قف حتى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربه إلا بإذن فهو قوله عز و جل: {وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً}

  • و في المجمع: {وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً} لا يزول و لا يفنى، عن الصادق (عليه السلام). 

  • و فيه: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} و روي عن الصادق (عليه السلام) في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها.

  •  

  • كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن 

  • لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الذي نسميه إنسانا مبدأ للحياة ينتسب إليه الشعور و الإرادة، و قد عبر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان آدم بالروح و في سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ 

تفسير الميزان ج۲۰

139
  •  سَاجِدِينَ} الحجر: ٢٩ ص: ٧٢، و قال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} الم السجدة: ٩. 

  • و الذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أن الروح و البدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركب من الماء و الدقيق و الإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنسانا حيا و إذا فارقت فهو الموت. 

  • لكن يفسرها قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الم السجدة: ١١ حيث يفيد أن الروح التي يتوفاها و يأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة «كم» و هو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنسانا لا ضم واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته و آثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلق روحه ببدنه و بعد مفارقة روحه البدن. 

  • و يفيد هذا المعنى قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} المؤمنون: ١٤ فالذي أنشأه الله خلقا آخر هو النطفة التي تكونت علقة ثم مضغة ثم عظاما بعينها. 

  • و في معناها قوله تعالى: {هَلْ أَتى‌ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فتقييد الشي‌ء المنفي بالمذكور يعطي أنه كان شيئا لكن لم يكن مذكورا فقد كان أرضا أو نطفة مثلا لكن لم يكن مذكورا أنه الإنسان الفلاني ثم صار هو هو. 

  • فمفاد كلامه تعالى أن الإنسان واحد حقيقي هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعية و الآثار الروحية كما أنه مجرد في نفسه عن المادة كما يفيده أمثال قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ} و قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الزمر: ٤٢ و قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} و قد تقدم بيانه.

  •  

  • [سورة الإنسان (٧٦): الآیات ٢٣ الی ٣١ ]

  • {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ٢٣ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ٢٤ وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ٢٥ 

تفسير الميزان ج۲۰

140
  • وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ٢٦ إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ٢٧ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَ شَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ٢٨ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‌ رَبِّهِ سَبِيلاً ٢٩ وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ٣٠يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ٣١} 

  • (بيان‌) 

  • لما وصف جزاء الأبرار و ما قدر لهم من النعيم المقيم و الملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمره بالصبر لحكم ربه و أن لا يطيع هؤلاء الآثمين و الكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين و سائر الكفار و المنافقين و أهل الأهواء، و أن يذكر اسم ربه و يسجد له و يسبحه مستمرا عليه ثم عمم الحكم لأمته بقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ سَبِيلاً}

  • فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها و سياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية و على تقدير مكيتها فصدر السورة مدني و ذيلها مكي. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} تصدير الكلام بأن و تكرار ضمير المتكلم مع الغير و الإتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد، و لتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوما متفرقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني و لا هو نفساني. 

  • قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك. 

تفسير الميزان ج۲۰

141
  • و قوله {وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، و الظاهر أن المراد بالإثم المتلبس بالمعصية و بالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار و الفساق جميعا. 

  • و سبق النهي عن طاعة الإثم و الكفور بالأمر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسرا للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثما إذا دعاك إلى إثمه و لا كفورا إذا دعاك إلى كفره لأن إثم الآثم منهم و كفر الكافر مخالفان لحكم ربك و أما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الإثم و الكفر للنهي عن الطاعة مطلقا لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه و الكافر إلى خصوص كفره. 

  • قوله تعالى: {وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً} أي داوم على ذكر ربك و هو الصلاة في كل بكرة و أصيل و هما الغدو و العشي. 

  • قوله تعالى: {وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} من للتبعيض و المراد بالسجود له الصلاة، و يقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة و أصيلا و السجود له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح و العصر و المغرب و العشاء و هذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىَ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ} إسراء: ٧٨. 

  • فالآيتان كقوله تعالى: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ} هود: ١١٤، و قوله {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} طه: ١٣٠. 

  • نعم قيل: على أن الأصيل‌ يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله {وَ أَصِيلاً} وقتي صلاتي الظهر و العصر جميعا، و لا يخلو من وجه. 

  • و قوله: {وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي في ليل طويل و وصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي، و المراد بالتسبيح صلاة الليل، و احتمل أن يكون طويلا صفة لمفعول مطلق محذوف، و التقدير سبحه في الليل تسبيحا طويلا. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} تعليل لما تقدم من الأمر و النهي و الإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم و الكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في 

تفسير الميزان ج۲۰

142
  • سياق النهي، و المراد بالعاجلة الحياة الدنيا، و عد اليوم ثقيلا من الاستعارة، و المراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله، و اليوم يوم القيامة. 

  • و كون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لأن وراء تفيد معنى الإحاطة، أو جعلهم إياه خلفهم و وراء ظهورهم بناء على إفادة {يَذَرُونَ} معنى الإعراض. 

  • و المعنى: فاصبر لحكم ربك و أقم الصلاة و لا تطع الآثمين و الكفار منهم لأن هؤلاء الآثمين و الكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها و يتركون أمامهم يوما شديدا أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوما شديدا سيلقونه. 

  • قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَ شَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} الشد خلاف الفك، و الأسر في الأصل الشد و الربط و يطلق على ما يشد و يربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات و الأعصاب و العضلات أو الأسر بمعنى المأسور و المعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنسانا واحدا. 

  • و قوله: {وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم و جئنا بأمثالهم مكانهم و هو أماته قرن و إحياء آخرين، و قيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة و هو بعيد من السياق. 

  • و الآية في معنى دفع الدخل كان متوهما يتوهم أنهم بحبهم للدنيا و إعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى و يفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا و يطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم و شد أسرهم و إذا شاء أذهبهم و جاء بآخرين فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم و موتهم بيده.؟ 

  • قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ سَبِيلاً} تقدم تفسيره في سورة المزمل و الإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد، و ليست متعلقة بفعل العبد مستقلا و بلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد و كون الفعل جبريا و لا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد، و أما 

تفسير الميزان ج۲۰

143
  • اختيار العبد فليس مستندا إلى اختيار آخر، و قد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم. 

  • و الآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشية ربهم، و لعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله {وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} كما أن الوجه في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: {يَشَاءَ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ} هو الإشارة إلى علة الحكم فإن مسمى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كل شي‌ء و ينتهي إليه كل شي‌ء فلا تكون مشية إلا بمشيته و لا تؤثر مشية إلا بإذنه. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} توطئة لبيان مضمون الآية التالية. 

  • قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} مفعول {يَشَاءُ} محذوف يدل عليه الكلام، و التقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، و لا يشاء إلا دخول من آمن و اتقى، و أما غيرهم و هم أهل الإثم و الكفر فبين حالهم بقوله: {وَ اَلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}

  • و الآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة و الشقاء، و قد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلا من الطائفتين بما هو أهل له و سينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون. 

  • (بحث روائي) 

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَ لاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} قال: حدثنا أنها نزلت في عدو الله أبي جهل. 

  • أقول: و هو أشبه بالتطبيق. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} روي عن الرضا (عليه السلام): أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية و قال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.

  • و في الخرائج و الجرائح، عن القائم (عليه السلام) في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدني: و جئت تسأل عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشية الله عز و جل فإذا شاء شئنا، و الله يقول {وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ}

تفسير الميزان ج۲۰

144
  • و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول إذا خطب: كل ما هو آت قريب، لا بعد لما يأتي، و لا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمرا و يريد الله أمرا، ما شاء الله كان و لو كره الناس، لا مباعد لما قرب الله، و لا مقرب لما باعد الله، لا يكون شي‌ء إلا بإذن الله. 

  • أقول: و في بعض الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) تطبيق الحكم في قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} و الرحمة في قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} على الولاية و هو من الجري أو البطن و ليس من التفسير في شي‌ء. 

  •  

  • (٧٧) سورة المرسلات مكية و هي خمسون آية (٥٠) 

  • [سورة المرسلات (٧٧): الآیات ١ الی ١٥]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً ١ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ٢ وَ اَلنَّاشِرَاتِ نَشْراً ٣ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً ٤ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ٥ عُذْراً أَوْ نُذْراً ٦ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ٧ فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ ٨ وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ فُرِجَتْ ٩ وَ إِذَا اَلْجِبَالُ نُسِفَتْ ١٠وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ ١١ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ١٢ لِيَوْمِ اَلْفَصْلِ ١٣ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ ١٤ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ١٥} 

  • (بيان‌) 

  • تذكر السورة يوم الفصل و هو يوم القيامة و تؤكد الإخبار بوقوعه و تشفعه بالوعيد الشديد للمكذبين به و الإنذار و التبشير لغيرهم و يربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرر فيها قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} عشر مرات. 

تفسير الميزان ج۲۰

145
  • و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} الآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات إقسام منه تعالى بأمور يعبر عنها بالمرسلات فالعاصفات و الناشرات فالفارقات فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا، و الأوليان أعني المرسلات عرفا و العاصفات عصفا لا تخلوان لو خليتا و نفسهما مع الغض عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكن الأخيرة أعني الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماما للحجة أو إنذارا و بقية الصفات لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى. 

  • و حمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات و العاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية و خاصة في الصفة الأخيرة. 

  • و كذا حمل المرسلات و العاصفات على إرادة الرياح و حمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهرا بين الرياح و بين ملائكة الوحي حتى يقارن بينها في الأقسام و ينظم الجميع في سلك واحد، و ما وجهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق. 

  • فالوجه هو الغض عن هذه الأقاويل و هي كثيرة جدا لا تكاد تنضبط، و حمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافات {وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} و في معناها قوله تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضىَ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} الجن: ٢٨. 

  • فقوله: {وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} إقسام منه تعالى بها و العرف‌ بالضم فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس و يشبه به الأمور إذا تتابعت يقال: جاءوا كعرف الفرس، و يستعار فيقال: جاء القطا عرفا أي متتابعة و جاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين، و العرف أيضا المعروف من الأمر و النهي و {عُرْفاً} حال بالمعنى الأول مفعول له بالمعنى الثاني، و الإرسال خلاف الإمساك، و تأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح التي 

تفسير الميزان ج۲۰

146
  • تنزل بها الملائكة قال تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }النحل: ٢ و قال: {يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} المؤمن: ١٥. 

  • و المعنى أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي. 

  • و قيل: المراد بالمرسلات عرفا الرياح المتتابعة المرسلة و قد تقدمت الإشارة إلى ضعفه، و مثله في الضعف القول بأن المراد بها الأنبياء (عليهم السلام) فلا يلائمه ما يتلوها. 

  • قوله تعالى: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً} عطف على المرسلات و المراد بالعصف‌ سرعة السير استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه، و المعنى أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلنَّاشِرَاتِ نَشْراً} إقسام آخر، و نشر الصحيفة و الكتاب و الثوب و نحوها: بسطه، و المراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } عبس: ١٦ و المعنى و أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبي ليتلقاه. 

  • و قيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته و قيل: الرياح الناشرة للسحاب، و قيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، و قيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول و قيل: غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً} المراد به الفرق بين الحق و الباطل و بين الحلال و الحرام، و الفرق المذكور صفة متفرعة على النشر المذكور. 

  • قوله تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً} المراد بالذكر القرآن يقرءونه على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقرو عليهم. 

  • و الصفات الثلاث أعني النشر و الفرق و إلقاء الذكر مترتبة فإن الفرق بين الحق و الباطل و الحلال و الحرام يتحقق بنشر الصحف و إلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقق و بالتلاوة يتم تحققه فالنشر يترتب عليه مرتبة من وجود الفرق و يترتب عليها تمام وجوده بالإلقاء. 

تفسير الميزان ج۲۰

147
  • و قوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} هما من المفعول له و {أَوْ} للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار و الإنذار، و الإعذار الإتيان بما يصير به معذورا و المعنى أنهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر و تخويفا لغيرهم. 

  • و قيل: ليكون عذرا يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة، و يئول إلى إتمام الحجة، فمحصل المعنى عليه أنهم يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين و تخويفا لغيرهم، و هو معنى حسن. 

  • قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} جواب القسم، و ما موصولة و الخطاب لعامة البشر، و المراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب و الثواب و الواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، و المعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث و العقاب و الثواب سيتحقق لا محالة. 

  • كلام في إقسامه تعالى في القرآن‌ 

  • من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست أنها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب و هو وقوع الجزاء الموعود فإن التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات و نشرها الصحف و فرقها و إلقاءها الذكر للنبي تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الإلهي و التكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معد للجزاء يجازى فيه العاصي و المطيع من المكلفين. 

  • فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على وقوعه كأنه قيل: أقسم بهذه الحجة أن مدلولها واقع. 

  • و إذا تأملت الموارد التي أورد فيها القسم في كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجة دالة على حقية الجواب كقوله تعالى في الرزق: {فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} الذاريات: ٢٣ فإن ربوبية السماء و الأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، و قوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الحجر: ٧٢ فإن حياة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالة على سكرهم و عمههم، و قوله: {وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحَاهَا } - إلى أن قال - {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ 

تفسير الميزان ج۲۰

148
  •  دَسَّاهَا} الشمس: ١٠فإن هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميزة لفجورها و تقواها هو الدليل على فلاح من زكاها و خيبة من دساها. 

  • و على هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى و إن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله: {وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ} التين: ٢ و عليك بالتدبر فيها. 

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ } - إلى قوله - {أُقِّتَتْ} بيان لليوم الموعود الذي أخبر بوقوعه في قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} و جواب إذا محذوف يدل عليه قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } - إلى قوله - -{لِلْمُكَذِّبِينَ}

  • و قد عرف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني و انقطاع النظام الدنيوي كانطماس النجوم و انشقاق الأرض و اندكاك الجبال و تحول النظام إلى نظام آخر يغايره، و قد تكرر ذلك في كثير من السور القرآنية و خاصة السور القصار كسورة النبإ و النازعات و التكوير و الانفطار و الانشقاق و الفجر و الزلزال و القارعة، و غيرها، و قد عدت الأمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة. 

  • و من المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب و السنة أن نظام الحياة في جميع شئونها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبدية فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاءون أو محض الشقاء و ليس لهم فيها إلا ما يكرهون و الدار الدنيا دار فناء و زوال لا يحكم فيها إلا الأسباب و العوامل الخارجية الظاهرية مخلوط فيها الموت بالحياة، و الفقدان بالوجدان، و الشقاء بالسعادة، و التعب بالراحة، و المساءة بالسرور، و الآخرة دار جزاء و لا عمل و الدنيا دار عمل و لا جزاء، و بالجملة النشأة غير النشأة. 

  • فتعريفه تعالى نشأة البعث و الجزاء بأشراطها التي فيها انطواء بساط الدنيا بخراب بنيان أرضها و انتساف جبالها و انشقاق سمائها و انطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى قال تعالى: {وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولىَ فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ} الواقعة: ٦٢. 

تفسير الميزان ج۲۰

149
  • فقوله: {فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ} أي محي أثرها من النور و غيره، و الطمس‌ إزالة الأثر بالمحو قال تعالى: {وَ إِذَا اَلنُّجُومُ اِنْكَدَرَتْ} التكوير: ٢. 

  • و قوله: {وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ فُرِجَتْ} أي انشقت، و الفرج و الفرجة الشق بين الشيئين قال تعالى: {إِذَا اَلسَّمَاءُ اِنْشَقَّتْ} الانشقاق: ١. 

  • و قوله: {وَ إِذَا اَلْجِبَالُ نُسِفَتْ} أي قلعت و أزيلت من قولهم: نسفت‌ الريح الشي‌ء أي اقتلعته و أزالته قال تعالى: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} طه: ١٠٥. 

  • و قوله: {وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها على الأمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ} الأعراف: ٦، و قال: {يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ} المائدة: ١٠٩. 

  • قوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }- إلى قوله - {لِلْمُكَذِّبِينَ} الأجل‌ المدة المضروبة للشي‌ء، و التأجيل‌ جعل الأجل للشي‌ء، و يستعمل في لازمه و هو التأخير كقولهم: دين مؤجل أي له مدة بخلاف الحال و هذا المعنى هو الأنسب للآية، و الضمير في {أُجِّلَتْ} للأمور المذكورة قبلا من طمس النجوم و فرج السماء و نسف الجبال و تأقيت الرسل، و المعنى لأي يوم أخرت يوم أخرت هذه الأمور. 

  • و احتمل أن يكون {أُجِّلَتْ} بمعنى ضرب الأجل للشي‌ء و أن يكون الضمير المقدر فيه راجعا إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الأمور المتعلقة بالرسل مما أخبروا به من أحوال الآخرة و أهوالها و تعذيب الكافرين و تنعيم المؤمنين فيها، و لا يخلو كل ذلك من خفاء. 

  • و قد سيقت الآية و التي بعدها أعني قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ اَلْفَصْلِ} في صورة الاستفهام و جوابه للتعظيم و التهويل و التعجيب و أصل المعنى أخرت هذه الأمور ليوم الفصل. 

  • و هذا النوع من الجمل الاستفهامية في معنى تقدير القول، و المعنى أن من عظمة هذا اليوم و هوله و كونه عجبا أنه يسأل فيقال: لأي يوم أخرت هذه الأمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل. 

  • و قوله: {لِيَوْمِ اَلْفَصْلِ} هو يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} الحج: ١٧. 

تفسير الميزان ج۲۰

150
  • و قوله: {وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ} تعظيم لليوم و تفخيم لأمره. 

  • و قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الويل‌ الهلاك، و المراد بالمكذبين المكذبون بيوم الفصل الذي فيه ما يوعدون فإن الآيات مسوقة لبيان وقوعه و قد أقسم على أنه واقع. 

  • و في الآية دعاء على المكذبين، و قد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله: {فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ} إلخ و التقدير فإذا كان كذا و كذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا و كذا كان يوم الفصل و هلك المكذبون به. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في الخصال، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قال (صلى الله عليه وآله و سلم): شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون.

  • و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و النسائي و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة و المرسلات عرفا فإنه يتلوها و إني لألقاها من فيه و إن فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حية فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وقيت شركم كما وقيتم شرها. 

  • أقول: و رواها أيضا بطريقين آخرين. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} قال: آيات تتبع بعضها بعضا. 

  • و في المجمع: في الآية و قيل: إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه. في رواية الهروي عن ابن مسعود، و عن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه (عليه السلام).

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ} قال: يذهب نورها و تسقط. 

  • و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {فَإِذَا اَلنُّجُومُ طُمِسَتْ} فطمسها ذهاب ضوئها {وَ إِذَا اَلسَّمَاءُ فُرِجَتْ} قال: تفرج و تنشق {وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ} قال: بعثت في أوقات مختلفة

  • و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): {أُقِّتَتْ} أي بعثت في أوقات مختلفة.

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} قال: أخرت. 

تفسير الميزان ج۲۰

151
  • [سورة المرسلات (٧٧): الآیات ١٦ الی ٥٠]

  • {أَ لَمْ نُهْلِكِ اَلْأَوَّلِينَ ١٦ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اَلْآخِرِينَ ١٧ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ١٨ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ١٩ أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ٢٠فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ٢١ إِلى‌ قَدَرٍ مَعْلُومٍ ٢٢ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ ٢٣ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٢٤ أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً ٢٥ أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً ٢٦ وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ٢٧ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٢٨ اِنْطَلِقُوا إِلى‌ مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢٩ اِنْطَلِقُوا إِلى‌ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ٣٠لاَ ظَلِيلٍ وَ لاَ يُغْنِي مِنَ اَللَّهَبِ ٣١ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ٣٢ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ٣٣ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٣٤ هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ ٣٥ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ٣٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٣٧ هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ ٣٨ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ٣٩ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٠إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَ عُيُونٍ ٤١ وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ٤٢ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ٤٤ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٥ كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ٤٦ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٧ 

تفسير الميزان ج۲۰

152
  • وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ ٤٨ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٤٩ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ٥٠} 

  • (بيان) 

  • حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به، و إشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به، و إلى ما فيه من النعمة و الكرامة للمتقين، و تختتم بتوبيخهم و ذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى و الإيمان بكلامه. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ نُهْلِكِ اَلْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اَلْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} الاستفهام للإنكار، و المراد بالأولين أمثال قوم نوح و عاد و ثمود من الأمم القديمة عهدا، و بالآخرين الملحقون بهم من الأمم الغابرة، و الإتباع جعل الشي‌ء أثر الشي‌ء. 

  • و قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ} برفع نتبع على الاستيناف و ليس بمعطوف على {نُهْلِكِ} و إلا لجزم. 

  • و المعنى قد أهلكنا المكذبين من الأمم الأولين ثم إنا نهلك الأمم الآخرين على أثرهم. 

  • و قوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} في موضع التعليل لما تقدمه و لذا أورد بالفصل من غير عطف كان قائلا قال: لما ذا أهلكوا؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. و الآيات - كما ترى - إنذار و إرجاع للبيان إلى الأصل المضروب في السورة أعني قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} و هي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن إهلاك المجرمين من الإنسان تصرف في العالم الإنساني و تدبير، و إذ ليس المهلك إلا الله و قد اعترف به المشركون فهو الرب لا رب سواه و لا إله غيره. 

  • على أنها تدل على وجود يوم الفصل لأن إهلاك قوم لإجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه و لا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب و العاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع و يعاقب فيه العاصي و ليس هو الثواب و العقاب الدنيويين لأنهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل، و هو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس. 

تفسير الميزان ج۲۰

153
  •  قوله تعالى: {أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } - إلى قوله - {فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ} الاستفهام للإنكار و الماء المهين‌ الحقير قليل الغناء و المراد به النطفة، و المراد بالقرار المكين الرحم و بقوله: {قَدَرٍ مَعْلُومٍ} مدة الحمل. 

  • و قوله: {فَقَدَرْنَا} من القدر بمعنى التقدير، و الفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث و ما يستقبلكم من الأوصاف و الأحوال من طول العمر و قصره و هيئة و جمال و صحة و مرض و رزق إلى غير ذلك. 

  • و احتمل أن يكون {فَقَدَرْنَا} من القدرة مقابل العجز و المراد فقدرنا على جميع ذلك، و ما تقدم أوجه. 

  • و المعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مدة الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث و الصفات و الأحوال فنعم المقدرون نحن. 

  • و يجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة، و كذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها و هو الدين المتضمن للتكليف، و لا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة و العصيان، و اليوم الذي يجازى فيه بالأعمال هو يوم الفصل. 

  • قوله تعالى: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً } - إلى قوله - {فُرَاتاً} الكفت و الكفات‌ بمعنى الضم و الجمع أي أ لم نجعل الأرض كفاتا يجمع العباد أحياء و أمواتا، و قيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، و المعنى أ لم نجعل الأرض أوعية تجمع الأحياء و الأموات. 

  • و قوله: {وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} الرواسي‌ الثابتات من الجبال، و الشامخات‌ العاليات، و كان في ذكر الرواسي توطئة لقوله: {وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} لأن الأنهار و العيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، و الفرات الماء العذب. 

  • و يجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة. 

  • قوله تعالى: {اِنْطَلِقُوا إِلىَ مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} حكاية لما يقال لهم يوم الفصل و القائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} و المراد بما كانوا 

تفسير الميزان ج۲۰

154
  • به يكذبون: جهنم، و الانطلاق‌ الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، و المعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار التي كنتم تكذبون به. 

  • قوله تعالى: {اِنْطَلِقُوا إِلى‌ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} ذكروا أن المراد بهذا الظل ظل دخان نار جهنم قال تعالى: {وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} الواقعة: ٤٣. 

  • و ذكروا أن في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فإن الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب. 

  • قوله تعالى: {لاَ ظَلِيلٍ وَ لاَ يُغْنِي مِنَ اَللَّهَبِ} الظل الظليل هو المانع من الحر و الأذى بستره على المستظل فكون الظل غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، و اللهب ما يعلو على النار من أحمر و أصفر و أخضر. 

  • قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} ضمير أنها للنار المعلومة من السياق، و الشرر ما يتطاير من النار، و القصر معروف، و الجمالة جمع جمل و هو البعير. و المعنى ظاهر. 

  • قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} الإشارة إلى يوم الفصل، و المراد بالإذن الإذن في النطق أو في الاعتذار. 

  • و قوله: {فَيَعْتَذِرُونَ} معطوف على {يُؤْذَنُ} منتظم معه في سلك النفي، و المعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس و لا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، و لا ينافي نفي النطق هاهنا إثباته في آيات أخر لأن اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون و يختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون. 

  • و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} هود: ١٠٥ فليراجع. 

  • قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} سمي يوم الفصل لما أن الله تعالى يفصل و يميز فيه بين أهل الحق و أهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} السجدة: ٢٥، و قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يونس: ٩٣. 

  • و الخطاب في قوله: {جَمَعْنَاكُمْ وَ اَلْأَوَّلِينَ} لمكذبي هذه الأمة بما أنهم من الآخرين و لذا قوبلوا بالأولين قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ} هود: ١٠٣ و قال: {وَ حَشَرْنَاهُمْ 

تفسير الميزان ج۲۰

155
  •  فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} الكهف: ٦٧. 

  • و قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، و هذا خطاب تعجيزي منبئ عن انسلاب القوة و القدرة عنهم يومئذ بالكلية بظهور أن لا قوة إلا لله عز اسمه قال تعالى: {وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ} البقرة: ١٦٦. 

  • و الآية أعني قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} أوسع مدلولا من قوله: {يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} الرحمن: ٣٣ لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية التي نحن فيها و في قوله: {فَكِيدُونِ} التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده و النكتة فيه أن متعلق هذا الأمر التعجيزي إنما هو الكيد لمن له القوة و القدرة فحسب و هو الله وحده و لو قيل: فكيدونا فأت الإشعار بالتوحد. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَ عُيُونٍ وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } - إلى قوله - {اَلْمُحْسِنِينَ} الظلال و العيون ظلال الجنة و عيونها التي يتنعمون بالاستظلال بها و شربها، و الفواكه‌ جمع فاكهة و هي الثمرة. 

  • و قوله: {كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مفاده الإذن و الإباحة، و كان الأكل و الشرب كناية عن مطلق التنعم بنعم الجنة و التصرف فيها و إن لم يكن بالأكل و الشرب، و هو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرف فيه. 

  • و قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} تسجيل لسعادتهم. 

  • قوله تعالى: {كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} الخطاب من قبيل قولهم: افعل ما شئت فإنه لا ينفعك، و هذا النوع من الأمر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، و منه قوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا }طه: ٧٢، و قوله: {اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} حم السجدة: ٤٠. 

  • فقوله: {كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً} أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الأكل و التمتع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا و ليتمتعوا قليلا فليس يدفع عنهم شيئا. 

تفسير الميزان ج۲۰

156
  • و إنما ذكر الأكل و التمتع لأن منكري المعاد لا يرون من السعادة إلا سعادة الحياة الدنيا و لا يرون لها من السعادة إلا الفوز بالأكل و التمتع كالحيوان العجم قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ اَلْأَنْعَامُ وَ اَلنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} سورة محمد: ١٢. 

  • و قوله: {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الأمر أي لا ينفعكم الأكل و التمتع قليلا لأنكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل و جزاء المكذبين به النار لا محالة. 

  • قوله تعالى: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ} المراد بالركوع الصلاة كما قيل و لعل ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع. 

  • و قيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع و الخضوع و التواضع له تعالى باستجابة دعوته و قبول كلامه و اتباع دينه، و عبادته. 

  • و قيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى {وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} القلم: ٤٢ و الوجهان لا يخلوان من بعد. 

  • و وجه اتصال الآية بما قبلها أن الكلام كان مسوقا لتهديد المكذبين بيوم الفصل و بيان تبعة تكذيبهم به و تمم ذلك في هذه الآية بأنهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، و ليكون كالتوطئة لقوله الآتي: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}

  • و نسب إلى الزمخشري أن الآية متصلة بقوله في الآية السابقة: {لِلْمُكَذِّبِينَ} كأنه قيل: ويل يومئذ للذين كذبوا و الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. 

  • و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ} إلخ وجهه الإعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم و أنفسهم يفعلون ما يشاءون بقوله: {كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا}

  • قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن و هو آية معجزة إلهية، و قد بين لهم أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له و أن أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان و ساطع البرهان فبأي كلام بعد القرآن يؤمنون. 

  • و هذا إيئاس من إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر و كالتنبيه على أن رفع اليد عن دعوتهم إلى الإيمان بإلقاء قوله: {كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا} إليهم في محله فليسوا بمؤمنين و لا فائدة في دعوتهم غير أن فيها إتماما للحجة. 

تفسير الميزان ج۲۰

157
  • (بحث روائي)

  • في تفسير القمي، و قوله: {أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} قال: منتن {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} قال: في الرحم، و أما قوله: {إِلى‌ قَدَرٍ مَعْلُومٍ} يقول: منتهى الأجل. 

  • أقول: و في أصول الكافي، في رواية عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام): تطبيق قوله: {أَ لَمْ نُهْلِكِ اَلْأَوَّلِينَ} على مكذبي الرسل في طاعة الأوصياء، و قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ اَلْآخِرِينَ} على من أجرم إلى آل محمد (عليهم السلام). على اضطراب في متن الخبر، و هو من الجري دون التفسير. 

  • و فيه: و قوله: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً} قال الكفات‌ المساكن 

  • و قال: نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال: هذه كفات الأموات أي مساكنهم ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الأحياء. ثم تلا قوله: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً}.

  •  أقول: و روي في المعاني، بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه نظر إلى المقابر. و ذكر مثل الحديث السابق. 

  • و فيه: و قوله: {وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} قال: جبال مرتفعة. 

  • و فيه: و قوله: {اِنْطَلِقُوا إِلى‌ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} قال فيه ثلاث شعب من النار و قوله: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: شر النار مثل القصور و الجبال. 

  • و فيه: و قوله {إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَ عُيُونٍ} قال: في ظلال من نور أنور من الشمس. 

  • و في المجمع في قوله: {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ} قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني. و الرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا. فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود. 

  • أقول: و في انطباق القصة - و قد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء. 

  • و في تفسير القمي في الآية السابقة قال: و إذا قيل لهم «تولوا الإمام لم يتولوه». 

  • أقول: و هو من الجري دون التفسير. 

تفسير الميزان ج۲۰

158
  • (٧٨) سورة النبإ مكية و هي أربعون آية (٤٠) 

  • [سورة النبإ (٧٨): الآیات ١ الی ١٦] 

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ١ عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ ٢ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ٣ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ٤ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ٥ أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً ٦ وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً ٧ وَ خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ٨ وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ٩ وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً ١٠وَ جَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشاً ١١ وَ بَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ١٢ وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً ١٣ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً ١٤ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبَاتاً ١٥ وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً ١٦} 

  • (بيان) 

  • تتضمن السورة الإخبار بمجي‌ء يوم الفصل و صفته و الاحتجاج على أنه حق لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبئه ثم ذكر في سياق الجواب و لحن التهديد أنهم سيعلمون ثم احتج على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدال بأوضح الدلالة على أن وراء هذه النشأة المتغيرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، و أن عقيب هذه الدار التي فيها عمل و لا جزاء دارا فيها جزاء و لا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام. 

  • ثم تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس و حضورهم و انقلاب الطاغين إلى عذاب أليم و المتقين إلى نعيم مقيم و يختم الكلام بكلمة في الإنذار، و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {عَمَّ} أصله عما و ما استفهامية تحذف الألف منها 

تفسير الميزان ج۲۰

159
  • اطرادا إذا دخل عليها حرف الجر نحو لم و مم و على م و إلى م، و التساؤل‌ سؤال القوم بعضهم بعضا عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر و إن كان المسئول غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضا عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أمر و حيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار و الوعيد تأيد به أن المتسائلين هم كفار مكة من المشركين النافين للنبوة و المعاد دون المؤمنين و دون الكفار و المؤمنين جميعا. 

  • فالتساؤل من المشركين و الإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه و حقارته لظهور الجواب عنه ظهورا ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه. 

  • قوله تعالى: {عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم، و لا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه و تفخيم أمره. 

  • و المراد بالنبإ العظيم نبأ البعث و القيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سورة المكية و لا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام. 

  • و يؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل و ما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع. 

  • و قيل: المراد به نبأ القرآن العظيم، و يدفعه كون السياق بحسب مصبه أجنبيا عنه و إن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما. 

  • و قيل: النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنة و النار و غيرها، و كان القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقية جميع ذلك مما تتضمنه الدعوة الحقة الإسلامية. 

  • و يدفعه أن الإشارة إلى ذلك كله من لوازم صفة البعث المتضمنة لجزاء الاعتقاد الحق و العمل الصالح و الكفر و الاجرام، و قد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعا و بالقصد الثاني. 

  • على أن المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدم - المشركون و هم يثبتون الصانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك مما ذكر. 

  • و قوله: {اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} إنما اختلفوا في نحو إنكاره و هم متفقون في نفيه 

تفسير الميزان ج۲۰

160
  • فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىَ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} سبأ: ٧، و منهم من كان يستبعده فينكره و هو قولهم: {أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} المؤمنون: ٣٦، و منهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى: {بَلِ اِدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} النمل ٦٦، و منهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عنادا فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد و النبوة و سائر فروع الدين بعد تمام الحجة عنادا قال تعالى: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ} الملك: ٢١. 

  • و المحصل من سياق الآيات الثلاث و ما يتلوها أنهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث و الجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا النبإ العجيب الذي لم يكن مما قرع أسماعهم حتى اليوم، و ربما راجعوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين و سألوهم عن صفة اليوم و أنه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و ربما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن و احتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب و خاصة اليهود و يستمدونهم في فهمه. 

  • و قد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصة تساؤلهم في صورة السؤال و الجواب فقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} و هو سؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: {عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} و هو جواب السؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} إلخ، و هو جواب عن تساؤلهم. 

  • و للمفسرين في مفردات الآيات الثلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق و الذي أوردناه هو الذي يعطيه السياق. 

  • قوله تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ردع عن تساؤلهم عنه بانين ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه، و في هذا التعبير تهديد كما في قوله: {وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } الشعراء: ٢٢٧. 

  • و قوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} تأكيد للردع و التهديد السابقين و لحن التهديد هو القرينة على أن المتسائلين هم المشركون النافون للبعث و الجزاء دون المؤمنين و دون المشركين و المؤمنين جميعا. 

تفسير الميزان ج۲۰

161
  •  قوله تعالى: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً} الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث و الجزاء و تحقق هذا النبإ العظيم و لازم ثبوته صحة ما في قوله: {سَيَعْلَمُونَ} من الإخبار بأنهم سيشاهدونه فيعلمون. 

  • تقرير الحجة: أن العالم المشهود بأرضه و سمائه و ليله و نهاره و البشر المتناسلين و النظام الجاري فيها و التدبير المتقن الدقيق لأمورها من المحال أن يكون لعبا باطلا لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروري أن يستعقب هذا النظام المتحول المتغير الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، و أن يظهر فيه أثر الصلاح الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية و الفساد الذي ترتدع عنه، و لم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتقين و شقاء المفسدين، و من المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزية أو ردعا غريزيا بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج و لا حظ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان و يجزي فيه على عمله إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا. 

  • فالآيات في معنى قوله تعالى {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ص: ٢٨. 

  • و بهذا البيان يثبت أن هناك يوما يلقاه الإنسان و يجزي فيه بما عمل إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشك فيه بعضهم و يستبعده طائفة، و يحيله قوم، و لا يؤمن به مع العلم به عنادا آخرون، فاليوم ضروري الوقوع و الجزاء لا ريب فيه. 

  • و يظهر من بعضهم أن الآيات مسوقة لإثبات القدرة و أن العود يماثل البدء و القادر على الإبداء قادر على الإعادة، و هذه الحجة و إن كانت تامة و قد وقعت في كلامه تعالى لكنها حجة على الإمكان دون الوقوع و السياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدم. 

  • و كيف كان فقوله: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً} الاستفهام للإنكار، و المهاد الوطاء و القرار الذي يتصرف فيه، و يطلق على البساط الذي يجلس عليه و المعنى قد جعلنا الأرض قرارا لكم تستقرون عليها و تتصرفون فيها. 

تفسير الميزان ج۲۰

162
  •  قوله تعالى: {وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً} الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع، و لعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشق الأرض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان. 

  • و عن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم. و فيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة. 

  • قوله تعالى: {وَ خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي زوجا زوجا من ذكر و أنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله. 

  • و قيل: المراد به الإشكال أي كل منكم شكل للآخر. و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافا مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل و مني المرأة و هذه وجوه ضعيفة. 

  • قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} السبات‌ الراحة و الدعة فإن في المنام سكوتا و راحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرفات النفس فيها. 

  • و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن، و هو قريب من سابقه. 

  • و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} الأنعام: ٦٠و هو بعيد، و أما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا و لم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} الزمر: ٤٢. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً} أي ساترا يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل. 

تفسير الميزان ج۲۰

163
  • و عن بعضهم أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا اَلنَّهَارَ مَعَاشاً} العيش‌ هو الحياة على ما ذكره الراغب غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش‌ مصدر ميمي و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم، و قيل: المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش. 

  • قوله تعالى: {وَ بَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي سبع سماوات شديدة في بنائها. 

  • قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} الوهاج‌ شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهاج: الشمس. 

  • قوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} المعصرات‌ السحب الماطرة و قيل: الرياح التي تعصر السحب لتمطر و الثجاج‌ الكثير الصب للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون {مِنَ} بمعنى الباء. 

  • قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَبَاتاً} أي حبا و نباتا يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان. 

  • قوله تعالى: {وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً} معطوف على قوله: {حَبًّا} و جنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض. 

  • قيل: إن الألفاف جمع لا واحد له من لفظه. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في بعض الأخبار: أن النبأ العظيم علي (عليه السلام) و هو من البطن. 

  • عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون. 

تفسير الميزان ج۲۰

164
  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً} قال: يمهد فيها الإنسان {وَ اَلْجِبَالَ أَوْتَاداً} أي أوتاد الأرض. 

  • و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و وتد بالصخور ميدان أرضه.

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِبَاساً} قال: يلبس على النهار. 

  • أقول: و لعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه. 

  • و فيه في قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} قال: الشمس المضيئة {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ} قال: من السحاب {مَاءً ثَجَّاجاً} قال: صبا على صب. 

  • و عن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} بالياء يمطرون. 

  • ثم قال: أ ما سمعت قوله: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً}.

  • أقول: المراد أن {يَعْصِرُونَ} بضم الياء بصيغة المجهول و المراد به أنهم يمطرون و استشهاده (عليه السلام) بقوله: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ} دليل على أنه (عليه السلام) أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت. 

  • و روى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) و روى القمي في تفسيره: مثله عن أمير المؤمنين. 

  •  

  • [سورة النبإ (٧٨): الآیات ١٧ الی ٤٠]

  • {إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ١٧ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً ١٨ وَ فُتِحَتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً ١٩ وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ٢٠إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً ٢١ لِلطَّاغِينَ مَآباً ٢٢ لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ٢٣ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَ لاَ شَرَاباً ٢٤ إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً ٢٥ جَزَاءً وِفَاقاً ٢٦ إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ٢٧ وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ٢٨ وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ٢٩ 

تفسير الميزان ج۲۰

165
  • فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ٣٠إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ٣١ حَدَائِقَ وَ أَعْنَاباً ٣٢ وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً ٣٣ وَ كَأْساً دِهَاقاً ٣٤ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ كِذَّاباً ٣٥ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ٣٦ رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً ٣٧ يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً ٣٨ ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‌ رَبِّهِ مَآباً ٣٩ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ اَلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَ يَقُولُ اَلْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ٤٠} 

  • (بيان) 

  • تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين و المتقين، و تختتم بكلمة في الإنذار و هي كالنتيجة. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} قال في المجمع: الميقات‌ منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور و هو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد و المقدار من القدر، انتهى. 

  • شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه و هددهم به في قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ثم أقام الحجة عليه بقوله: {أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهَاداً} إلخ، و قد سماه يوم الفصل و نبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات و حد مضروب لفصل القضاء بينهم و التعبير بلفظ {كَانَ} للدلالة على ثبوته و تعينه في العلم الإلهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر، و لذا أكد الجملة بإن. 

تفسير الميزان ج۲۰

166
  • و المعنى: أن يوم فصل القضاء الذي نبأه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات و الأرض و حكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا، و الأفواج‌ جمع فوج و هي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب. 

  • و في قوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} و كان الآية ناظرة إلى قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} إسراء: ٧١. 

  • قوله تعالى: {وَ فُتِحَتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة. 

  • و قيل: التقدير فكانت ذات أبواب، و قيل: صار فيها طرق و لم يكن كذلك من قبل، و لا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر. 

  • قوله تعالى: {وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} السراب‌ هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز و يطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة و لا حقيقة له على طريق الاستعارة. 

  • و لعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني. 

  • بيان ذلك: أن تسيير الجبال و دكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها و زوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة و آثارها إذ قال: {وَ تَسِيرُ اَلْجِبَالُ سَيْراً} الطور: ١٠و قال: {وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} الحاقة: ١٤، و قال: {وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} المزمل ١٤، و قال: {وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ} القارعة: ٥، و قال: {وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا} الواقعة: ٥، و قال: {وَ إِذَا اَلْجِبَالُ نُسِفَتْ} المرسلات: ١٠. 

  • فتسيير الجبال و دكها ينتهي بها إلى بسها و نسفها و صيرورتها كثيبا مهيلا و كالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى و أما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير و بين السراب بهذا المعنى. 

  • نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها و بطلان كينونتها و حقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير 

تفسير الميزان ج۲۰

167
  • سرابا باطلا لا حقيقة له، و نظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم و قطع دابرهم، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} سبأ: ١٩ و قوله: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ }المؤمنون: ٤٤، و قوله في الأصنام {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ} النجم: ٢٣. 

  • فالآية بوجه كقوله تعالى {وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ }النمل: ٨٨ - بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة . 

  • قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} قال في المفردات: الرصد الاستعداد للترقب - إلى أن قال - و المرصد موضع الرصد قال تعالى: {وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} و المرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} تنبيها على أن عليها مجاز الناس، و على هذا قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} انتهى. 

  • قوله تعالى: {لِلطَّاغِينَ مَآباً} الطاغون‌ الملتبسون بالطغيان و هو الخروج عن الحد، و المآب‌ اسم مكان من الأوب بمعنى الرجوع، و العناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لأنفسهم و هم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا و رجعوا إليها. 

  • قوله تعالى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} الأحقاب‌ الأزمنة الكثيرة و الدهور الطويلة من غير تحديد. 

  • و هو جمع اختلفوا في واحده فقيل: واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين، و قد وقع في قوله تعالى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} الكهف: ٦٠، و قيل: حقب‌ بالفتح فالسكون و واحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: و الحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة. انتهى. 

  • و حد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع و ثمانين سنة و زاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة و ستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة، و عن بعضهم أن الحقب أربعون سنة و عن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك و لا دليل من الكتاب يدل على شي‌ء من هذه التحديدات و لم يثبت من اللغة شي‌ء منها. 

  • و ظاهر الآية أن المراد بالطاغين المعاندون من الكفار و يؤيده قوله ذيلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}

تفسير الميزان ج۲۰

168
  • و قد فسروا {أَحْقَاباً} في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حال كون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد و لا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار. 

  • و قيل: إن قوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا} إلخ صفة {أَحْقَاباً} و المعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة و هي أنهم لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا إلا حميما و غساقا، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية. 

  • و هو حسن لو ساعد السياق. 

  • قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَ لاَ شَرَاباً} ظاهر المقابلة بين البرد و الشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل و المس. 

  • قوله تعالى: {إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً} الحميم‌ الماء الحار شديد الحر، و الغساق‌ صديد أهل النار. 

  • قوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقاً } - إلى قوله - {كِتَاباً} المصدر بمعنى اسم الفاعل و المعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو إطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل. 

  • و قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي تكذيبا عجيبا يصرون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، و ذلك أنهم لم يرجوا الحساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة و كذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد و النبوة و تعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم و حرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء و لا يجدون فيها إلا ما يكرهون، و لا يواجهون إلا ما يتعذبون به و هو قوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}

  • و في الآية أعني قوله: {جَزَاءً وِفَاقاً} دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء و العمل فالإنسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه و التلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التحريم: ٧. 

  • و قوله: {وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي كل شي‌ء و منه الأعمال ضبطناه و بيناه في 

تفسير الميزان ج۲۰

169
  • كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى: {وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } يس: ١٣. 

  • أو المراد و كل شي‌ء حفظناه حال كونه مكتوبا أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال، و جوز أن يكون الإحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الإحصاء فإن الإحصاء و الكتابة يتشاركان في معنى الضبط و المعنى كل شي‌ء أحصيناه إحصاء أو كل شي‌ء كتبناه كتابا. 

  • و الآية على أي حال متمم للتعليل السابق، و المعنى الجزاء موافق لأعمالهم لأنهم كانوا على حال كذا و كذا و قد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاء وفاقا. 

  • قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} تفريع على ما تقدم من تفصيل عذابهم مسوق لإيئاسهم من أن يرجو نجاة من الشقوة و راحة ينالونها. 

  • و الالتفات إلى خطابهم بقوله: {فَذُوقُوا} تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ و التقريع بلا واسطة. 

  • و المراد بقوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب و عذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئا مما تطلبون و تحبون. 

  • و الآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} الخلود دون الانقطاع. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } - إلى قوله - {كِذَّاباً} الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة و التخلص من الشر و الحصول على الخير، و المفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز و الآية تحتمل الوجهين جميعا. 

  • و قوله: {حَدَائِقَ وَ أَعْنَاباً} الحدائق‌ جمع حديقة و هي البستان المحوط، و الأعناب‌ جمع عنب و هو ثمر شجرة الكرم و ربما يطلق على نفس الشجرة. 

  • و قوله: {وَ كَوَاعِبَ} جمع كاعب‌ و هي الفتاة التي تكعب ثدياها و استدار مع ارتفاع يسير، و الترائب‌ جمع ترب و هي المماثلة لغيرها من اللذات. 

  • و قوله: {وَ كَأْساً دِهَاقاً} أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل. 

تفسير الميزان ج۲۰

170
  • و قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ كِذَّاباً} أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب و لا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب و صدق مطابق للواقع. 

  • قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} أي فعل بالمتقين ما فعل حال كونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله: {جَزَاءً} حال و كذا {عَطَاءً} و {حِسَاباً} بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، و يحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا. 

  • قيل: إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره (صلى الله عليه وآله و سلم) تشريف له، و لم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} الأنفال: ٥١. 

  • و وقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين و المتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام. 

  • قوله تعالى: {رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلرَّحْمَنِ} بيان لقوله: {رَبِّكَ} أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شي‌ء و أن الرب الذي يتخذه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ربا و يدعو إليه رب كل شي‌ء لا كما كان يقول المشركون: إن لكل طائفة من الموجودات ربا و الله سبحانه رب الأرباب أو كما كان يقول بعضهم: أنه رب السماء. 

  • و في توصيف الرب بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته و أنها سمة ربوبية لا يحرم منها شي‌ء إلا أن يمتنع منها شي‌ء بنفسه لقصوره و سوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية. 

  • قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً} وقوع صدر الآية في سياق قوله: {رَبِّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا اَلرَّحْمَنِ} - و شأن الربوبية هو التدبير و شأن الرحمانية بسط الرحمة - دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كان يقال: لم فعلت هذا؟ و لم لم تفعل كذا؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} في معنى قوله تعالى: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} الأنبياء: ٢٣ و قد تقدم الكلام في معنى الآية. 

تفسير الميزان ج۲۰

171
  • لكن وقوع قوله: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} بعد قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين و المتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي و يفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة و هم ممن لا يملكون منه خطابا منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى و قد قال فيهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء: ٢٧ و كذلك الروح الذي هو۱ كلمته و قوله، و قوله٢ حق، و هو تعالى‌٣ الحق المبين و الحق لا يعارض الحق و لا يناقضه. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة و ما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل و البيع و الخلة و الدعاء و السؤال قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ} البقرة: ٢٥٤، و قال: {وَ لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَ لاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} البقرة: ١٢٣، و قال: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} هود: ١٠٥. 

  • و بالجملة قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} ضمير الفاعل في {لاَ يَمْلِكُونَ} لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة و الروح و الإنس و الجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة و الكبرياء دون خصوص الملائكة و الروح لعدم سبق الذكر و دون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، و المراد بالخطاب الشفاعة و ما يجري مجراها كما تقدم. 

  • و قوله: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} ظرف لقوله: {لاَ يَمْلِكُونَ} و قيل: لقوله: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} و هو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه. 

  • و المراد بالروح المخلوق الأمري الذي يشير إليه قوله تعالى: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إسراء: ٨٥. 

  • و قيل: المراد به أشراف الملائكة، و قيل حفظة الملائكة و قيل: ملك موكل على الأرواح. و لا دليل على شي‌ء من هذه الأقوال. 

    1. النحل: ٤٠.
    2. الأنعام: ٧٣.
    3. النور: ٢٥.

تفسير الميزان ج۲۰

172
  • و قيل: المراد به جبريل، و قيل: أرواح الناس و قيامها مع الملائكة صفا إنما هو بين النفختين قبل أن تلج الأجساد، و قيل: القرآن و المراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به و شقاوة الكافرين. 

  • و يدفعها أن هذه الثلاثة و إن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الحجر: ٢٩، و قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ} الشعراء: ١٩٣، و قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ} النحل: ١٠٢، و قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} مريم: ١٧، و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا }الشورى: ٥٢ و الروح في الآية التي نحن فيها مطلق، على أن في القولين الأخيرين تحكما ظاهرا. 

  • و {صَفًّا} حال من الروح و الملائكة و هو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حال كونهم صافين، و ربما استفيد من مقابلة الروح للملائكة أن الروح وحده صف و الملائكة جميعا صف. 

  • و قوله: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} بيان لقوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} و ضمير الفاعل لأهل الجمع من الروح و الملائكة و الإنس و الجن على ما يفيده السياق. 

  • و قيل: الضمير للروح و الملائكة، و قيل: للناس و وقوع {لاَ يَمْلِكُونَ} بما مر من معناه و {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين. 

  • و قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ} بدل من ضمير الفاعل في {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ بإذن الله فالجملة في معنى قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} هود: ١٠٥ على ظاهر إطلاقه. 

  • و قوله: {وَ قَالَ صَوَاباً} أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ و هو الحق الذي لا يداخله باطل، و الجملة في الحقيقة قيد للإذن كأنه قيل: إلا من أذن له الرحمن و لا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف: ٨٦. 

  • و قيل: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ} إلخ استثناء ممن يتكلم فيه و المراد بالصواب التوحيد و قول لا إله إلا الله و المعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمن و قال 

تفسير الميزان ج۲۰

173
  • ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية و شهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ} الأنبياء: ٢٨. 

  • و يدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب و التكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه. 

  • كلام فيما هو الروح في القرآن 

  • تكررت كلمة الروح و المتبادر منه ما هو مبدأ الحياة في كلامه تعالى و لم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان و الحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} مريم: ١٧، و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان و مصداق في غيره. 

  • و الذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إسراء: ٨٥ حيث أطلقها إطلاقا و ذكر معرفا لها أنها من أمره و قد عرف أمره بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يس: ٨٣ فبين أنه كلمة الإيجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى و قيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل و الأسباب الظاهرية. 

  • و بهذه العناية عد المسيح (عليه السلام) كلمة له و روحا منه إذ قال: {وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلىَ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ} النساء: ١٧١ لما وهبه لمريم (عليه السلام) من غير الطرق العادية و يقرب منه في العناية قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى‌ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران: ٥٩. 

  • و هو تعالى و إن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة و التقيد كقوله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الحجر ٢٩، و قوله: {وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} السجدة: ٩، و قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} مريم: ١٧، و قوله: {وَ رُوحٌ مِنْهُ} النساء: ١٧١ و قوله: {وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ} البقرة ٨٧ إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: {تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} القدر: ٤

تفسير الميزان ج۲۰

174
  • و ظاهر الآية أنها موجود مستقل و خلق سماوي غير الملائكة، و نظير الآية بوجه قوله تعالى: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} المعارج: ٤. 

  • و أما الروح المتعلقة بالإنسان فقد عبر عنها بمثل قوله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} {وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} و أتي بكلمة {مِنْ} الدالة على المبدئية و سماه نفخا و عبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله: {وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ فأتى بالباء الدالة على السببية و سماه تأييدا و تقوية، و عبر عن الروح التي خصها بالأنبياء بمثل قوله: {وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ} البقرة: ٨٧ فأضاف الروح إلى القدس و هو النزاهة و الطهارة و سماه أيضا تأييدا. 

  • و بانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض و الظل إلى ذي الظل بإذن الله. 

  • و كذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، و إنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ و التأييد كالإنسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}، و قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ} النحل: ١٠٢، و قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ} الشعراء: ١٩٣ لأن الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب و البعد من ربهم، و ما يتراءى من الأجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} مريم: ١٧ و قد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الإنسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت و روح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الحجر: ٢٩. 

  • و كما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك و الإنسان اختلاف التعبير بالنفخ و عدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها و هو الحياة شرفا و خسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ و التأييد و عد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة. 

  • فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}

  • و من الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ و هي أشرف وجودا و أعلى مرتبة و أقوى أثرا من الروح 

تفسير الميزان ج۲۰

175
  • الإنسانية العامة كما يفيده قوله تعالى و هو في معنى هذه الآية: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام: ١٢٢ فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به و هو أثر الروح و الكافر ميتا و هو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه. 

  • و من ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لإحياء الأرض بعد موتها. 

  • و من الروح الروح المؤيد بها الأنبياء قال: {وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ} البقرة ٨٧ و سياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف و أعلى مرتبة من غيرها مما في الإنسان. 

  • و أما قوله: {يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاَقِ} المؤمن: ١٥، و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} الشورى ٥٢ فيقبل الانطباق على روح الإيمان و على روح القدس و الله أعلم. 

  • و قد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة. 

  • [بيان]

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ} إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الأوصاف و هو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة و ما بعده أعني قوله: {فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‌ رَبِّهِ مَآباً} إلخ فضل تفريع على البيان السابق. 

  • و الإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره و المراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع. 

  • قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلىَ رَبِّهِ مَآباً} أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين و ينجو به من عذاب الطاغين، و الجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الإخبار بيوم الفصل و الاحتجاج عليه و وصفه، و المعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} إلخ المراد به عذاب الآخرة، و كونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه و كل ما هو آت قريب. 

  • على أن الأعمال التي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه. 

  • و قوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ اَلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب، و قيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال 

تفسير الميزان ج۲۰

176
  • تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} آل عمران: ٣٠. 

  • و قوله: {وَ يَقُولُ اَلْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} أي يتمنى من شدة اليوم أن لو كان ترابا فاقدا للشعور و الإرادة فلم يعمل و لم يجز. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي و قوله: {وَ فُتِحَتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} قال: تفتح أبواب الجنان، و قوله: {وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} قال: تصير الجبال مثل السراب الذي يلمع في المفازة. 

  • و فيه و قوله: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} قال: الأحقاب السنين و الحقب سنة و السنة عددها ثلاثمائة و ستون يوما و اليوم كألف سنة مما تعدون. 

  • و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا و الحقب بضع و ستون سنة و السنة ثلاثمائة و ستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون فلا يتكلن أحد على أن يخرج من النار.

  • أقول: و أورد الرواية في الدر المنثور، و فيها ثمانون مكان ستون و لفظ آخرها، قال ابن عمر: فلا يتكلن أحد إلخ، و أورد أيضا رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الحقب أربعون سنة. 

  • و فيه، و روى العياشي بإسناده عن حمران قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: هذه في الذين يخرجون من النار:، و روي عن الأحول مثله. 

  • و في تفسير القمي و قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} قال: يفوزون، قوله: {وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً} قال: جوار و أتراب لأهل الجنة. 

  • و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} قال: هي الكرامات {وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً} أي الفتيات النواهد.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رءوس و أيد و أرجل ثم قرأ: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} قال: هؤلاء جند و هؤلاء جند. 

  • أقول: و قد تقدمت الرواية في ذيل الآيات المشتملة على الروح عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الروح خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل، و تقدمت الرواية أيضا عن علي (عليه السلام): أن الروح غير الملائكة و استدل (عليه السلام) عليه بقوله تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الآية). 

تفسير الميزان ج۲۰

177
  • نعم في رواية القمي عن حمران أنه ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل و كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مع الأئمة (عليهم السلام)، و لعل المراد بالملك مطلق الموجود السماوي أو هو من وهم بعض الرواة في النقل بالمعنى و لا دليل على انحصار الموجودات الأمرية السماوية في الملائكة بل الدليل على خلافه كما يستفاد من قوله تعالى لإبليس حين أبى عن السجود لآدم و قد سجد له الملائكة كلهم أجمعون: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعَالِينَ} ص: ٧٥ و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآية. 

  • و في أصول الكافي، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: قلت: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ} (الآية) قال: نحن و الله المأذون لهم يوم القيامة و القائلون صوابا. قلت: ما تقولون إذا تكلمتم؟ قال: نمجد ربنا و نصلي على نبينا و نشفع لشيعتنا و لا يردنا ربنا (الحديث). 

  • أقول: و رواه في المجمع، عن العياشي مرفوعا عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و الرواية من قبيل ذكر بعض المصاديق فهناك شفعاء أخر من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين مأذون لهم في التكلم، و هناك شهداء من الأمم مأذون لهم في التكلم على ما ينص عليه القرآن و الحديث.

  •  

  • (٩) سورة النازعات مكية و هي ست و أربعون آية (٤٦) 

  • [سورة النازعات (٧٩): الآیات ١ الی ٤١] 

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً ١ وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ٢ وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً ٣ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً ٤ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ٥ يَوْمَ تَرْجُفُ اَلرَّاجِفَةُ ٦ تَتْبَعُهَا اَلرَّادِفَةُ ٧ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ٨ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ٩ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ ١٠أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً ١١ قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ١٢ فَإِنَّمَا 

تفسير الميزان ج۲۰

178
  • هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ١٣ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ١٤ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسى‌ ١٥ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً ١٦ اِذْهَبْ إِلى‌ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‌ ١٧ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى‌ أَنْ تَزَكَّى ١٨ وَ أَهْدِيَكَ إِلىَ رَبِّكَ فَتَخْشى‌ ١٩ فَأَرَاهُ اَلْآيَةَ اَلْكُبْرىَ ٢٠فَكَذَّبَ وَ عَصى‌ ٢١ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى‌ ٢٢ فَحَشَرَ فَنَادى‌ ٢٣ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلى‌ ٢٤ فَأَخَذَهُ اَللَّهُ نَكَالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولى‌ ٢٥ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‌ ٢٦ أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا ٢٧ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ٢٨ وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَ أَخْرَجَ ضُحَاهَا ٢٩ وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ٣٠أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا ٣١ وَ اَلْجِبَالَ أَرْسَاهَا ٣٢ مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ ٣٣ فَإِذَا جَاءَتِ اَلطَّامَّةُ اَلْكُبْرىَ ٣٤ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ اَلْإِنْسَانُ مَا سَعىَ ٣٥ وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‌ ٣٦ فَأَمَّا مَنْ طَغى‌ ٣٧ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ٣٨ فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوىَ ٣٩ وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى‌ ٤٠فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى‌ ٤١} 

  • (بيان‌) 

  • في السورة أخبار مؤكد بوقوع البعث و القيامة، و احتجاج عليه من طريق التدبير 

تفسير الميزان ج۲۰

179
  • الربوبي المنتج أن الناس سينقسمون يومئذ طائفتين أصحاب الجنة و أصحاب الجحيم و تختتم السورة بالإشارة إلى سؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن وقت قيام الساعة و الجواب عنه. 

  • و السورة مكية بشهادة سياق آياتها. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} اختلف المفسرون في تفسير هذه الآيات الخمس اختلافا عجيبا مع اتفاقهم على أنها إقسام، و قول أكثرهم بأن جواب القسم محذوف، و التقدير أقسم بكذا و كذا لتبعثن. 

  • فقوله: {وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً} قيل: المراد بها ملائكة الموت تنزع الأرواح من الأجساد، و {غَرْقاً} مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا و تشديدا في النزع. 

  • و قيل: المراد بها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم بشدة، و قيل: هو الموت ينزع الأرواح من الأبدان نزعا بالغا. 

  • و قيل: المراد بها النجوم تنزع من أفق لتغيب في أفق أي تطلع من مطالعها لتغرب في مغاربها، و قيل: المراد بها القسي تنزع بالسهم أي تمد بجذب وترها إغراقا في المد فالإقسام بقسي المجاهدين في سبيل الله أو بالمجاهدين أنفسهم، و قيل: المراد بها الوحش تنزع إلى الكلإ. 

  • و قوله: {وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} النشط الجذب و الخروج و الإخراج برفق و سهولة و حل العقدة، قيل: المراد بها الملائكة الذين يخرجون الأرواح من الأجساد، و قيل المراد بها خصوص الملائكة يخرجون أرواح المؤمنين من أجسادهم برفق و سهولة، كما أن المراد بالنازعات غرقا الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار من أجسادهم. 

  • و قيل: هم الملائكة الذين ينشطون أرواح الكفار من أجسادهم، و قيل: المراد بها أرواح المؤمنين أنفسهم، و قيل: هي النجوم تنشط و تذهب من أفق إلى أفق، و قيل: 

  • هي السهام تنشط من قسيها في الغزوات، و قيل: هو الموت ينشط و يخرج الأرواح من الأجساد، و قيل: هي الوحش تنشط من قطر إلى قطر. 

  • و قوله: {وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً} قيل: المراد بها الملائكة تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة و بروح الكافر إلى النار، و السبح‌ الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح 

تفسير الميزان ج۲۰

180
  • إذا أسرع في جريه، و قيل: المراد بها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها من الأبدان سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح كالسابح بالشي‌ء في الماء يرمي، و قيل: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، و قيل: هي النجوم تسبح في فلكها كما قال تعالى: {وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}

  • و قيل: هي خيل الغزاة تسبح في عدوها و تسرع، و قيل: هي المنايا تسبح في نفوس الحيوان، و قيل: هي السفن تسبح في المياه، و قيل: السحاب، و قيل: دواب البحر. 

  • و قوله: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} قيل المراد بها مطلق الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح، و قيل ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة و بروح الكافر إلى النار، و قيل الملائكة القابضون لروح المؤمن تسبق بها إلى الجنة، و قيل، ملائكة الوحي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، و قيل أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة التي يقبضونها شوقا إلى لقاء الله سبحانه، و قيل هي النجوم تسبق بعضها بعضا في السير، و قيل هي خيل الغزاة تسبق بعضها بعضا في الحرب، و قيل هي المنايا تسبق الآمال. 

  • و قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} قيل: المراد بها مطلق الملائكة المدبرين للأمور، كذا فسر الأكثرون حتى ادعى بعضهم اتفاق المفسرين عليه، و قيل المراد بها الملائكة الأربعة المدبرون لأمور الدنيا: جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل، فجبرائيل يدبر أمر الرياح و الجنود و الوحي، و ميكائيل يدبر أمر القطر و النبات، و عزرائيل موكل بقبض الأرواح، و إسرافيل يتنزل بالأمر عليهم و هو صاحب الصور، و قيل: إنها الأفلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا. 

  • و هناك قول بأن الإقسام في الآيات بمضاف محذوف و التقدير و رب النازعات نزعا إلخ. 

  • و أنت خبير بأن سياق الآيات الخمس سياق واحد متصل متشابه الأجزاء لا يلائم كثيرا من هذه الأقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفار، و بالناشطات الوحش، و بالسابحات السفن، و بالسابقات المنايا تسبق الآمال و بالمدبرات الأفلاك. 

  • مضافا إلى أن كثيرا منها لا دليل عليها من جهة السياق إلا مجرد صلاحية اللفظ 

تفسير الميزان ج۲۰

181
  • بحسب اللغة للاستعمال فيه أعم من الحقيقة و المجاز. 

  • على أن كثيرا منها لا تناسب سياق آيات السورة التي تذكر يوم البعث و تحتج على وقوعه على ما تقدم في سورة المرسلات من حديث المناسبة بين ما في كلامه تعالى من الإقسام و جوابه. 

  • و الذي يمكن أن يقال - و الله أعلم - أن ما في هذه الآيات من الأوصاف المقسم بها يقبل الانطباق على صفات الملائكة في امتثالها للأوامر الصادرة عليهم من ساحة العزة المتعلقة بتدبير أمور هذا العالم المشهود ثم قيامهم بالتدبير بإذن الله. 

  • و الآيات شديدة الشبه سياقا بآيات مفتتح سورة الصافات: {وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} و آيات مفتتح سورة المرسلات: {وَ اَلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَ اَلنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} و هي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله غير أنها تصف ملائكة الوحي، و الآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله. 

  • ثم إن أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} و قد أطلق التدبير و لم يقيد بشي‌ء دون شي‌ء فالمراد به التدبير العالمي بإطلاقه، و قوله {أَمْراً} تمييز أو مفعول به للمدبرات و مطلق التدبير شأن مطلق الملائكة فالمراد بالمدبرات مطلق الملائكة. 

  • و إذ كان قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} مفتتحا بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق، و كذا قوله: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} مقرونا بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح دل ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: {وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} فمدلولها أنهم يدبرون الأمر بعد ما سبقوا إليه و يسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول فالمراد بالسابحات و السابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره. 

  • فالآيات الثلاث في معنى قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} الرعد: ١١ على ما تقدم من توضيح معناه فالملائكة ينزلون على الأشياء و قد تجمعت عليها الأسباب و تنازعت فيها وجودا و عدما و بقاء و زوالا و في مختلف أحوالها 

تفسير الميزان ج۲۰

182
  • فما قضاه الله فيها من الأمر و أبرم قضاءه أسرع إليه الملك المأمور به - بما عين له من المقام - و سبق غيره و تمم السبب الذي يقتضيه فكان ما أراده الله فافهم ذلك. 

  • و إذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما أمروا به من أمر و سبقهم إليه و تدبيره تعين حمل قوله: {وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} على انتزاعهم و خروجهم من موقف الخطاب إلى ما أمروا به فنزعهم غرقا شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدة و جد، و نشطهم خروجهم من موقفهم نحوه كما أن سبحهم إسراعهم إليه بعد الخروج و يتعقب ذلك سبقهم إليه و تدبير الأمر بإذن الله. 

  • فالآيات الخمس أقسام بما يتلبس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من أمور هذا العالم المشهود من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير. 

  • و فيها إشارة إلى نظام التدبير الملكوتي عند حدوث الحوادث كما أن الآيات التالية أعني قوله: {هَلْ أَتَاكَ} إلخ إشارة إلى التدبير الربوبي الظاهر في هذا العالم. 

  • و في التدبير الملكوتي حجة على البعث و الجزاء كما أن في التدبير الدنيوي المشهود حجة عليه على ما سيوافيك إن شاء الله بيانه. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الكريمة و يؤيده بعض التأييد ما سيأتي من الأخبار في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. 

  • كلام في أن الملائكة وسائط في التدبير 

  • الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءا و عودا على ما يعطيه القرآن الكريم بمعنى أنهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة و بعده. 

  • أما في العود أعني حال ظهور آيات الموت و قبض الروح و إجراء السؤال و ثواب القبر و عذابه و إماتة الكل بنفخ الصور و إحيائهم بذلك و الحشر و إعطاء الكتاب و وضع الموازين و الحساب و السوق إلى الجنة و النار فوساطتهم فيها غني عن البيان، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الأخبار المأثورة فيها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۲۰

183
  • و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حد الإحصاء. 

  • و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و تسديد النبي و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار. 

  • و أما وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: {وَ اَلنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَ اَلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَ اَلسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} بما تقدم من البيان. 

  • و كذا قوله تعالى: {جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ } فاطر: ١ الظاهر بإطلاقه - على ما تقدم من تفسيره في أنهم خلقوا و شأنهم أن يتوسطوا بينه تعالى و بين خلقه و يرسلوا لإنفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء: ٢٧، و قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} النحل: ٥٠و في جعل الجناح لهم إشارة ذلك. 

  • فلا شغل للملائكة إلا التوسط بينه تعالى و بين خلقه بإنفاذ أمره فيهم و ليس ذلك على سبيل الاتفاق بأن يجري الله سبحانه أمرا بأيديهم ثم يجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف و لا تخلف في سنته تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هود: ٥٦، و قال {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً} فاطر: ٤٣. 

  • و من الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاما و أمر العالي منهم السافل بشي‌ء من التدبير فإنه في الحقيقة توسط من المتبوع بينه تعالى و بين تابعه في إيصال أمر الله تعالى كتوسط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: {وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الصافات: ١٦٤، و قال: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} التكوير: ٢١، و قال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ} سبأ: ٢٣. 

  • و لا ينافي هذا الذي ذكر من توسطهم بينه تعالى و بين الحوادث أعني كونهم أسبابا تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإن السببية طولية لا عرضية أي إن السبب القريب سبب للحادث و السبب البعيد سبب للسبب. 

تفسير الميزان ج۲۰

184
  • كما لا ينافي توسطهم و استناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى و كونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإن السببية طولية كما سمعت لا عرضية و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة و قد صدق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدق استنادها إلى الملائكة. 

  • و ليس لشي‌ء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شي‌ء من كل جهة: لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا. 

  • فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتبة القريبة و البعيدة و انتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده و بالقلم فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الذي توسل إليها باليد و بالقلم، و السبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد و إلى القلم. 

  • و لا منافاة أيضا بين ما تقدم أن شأن الملائكة هو التوسط في التدبير و بين ما يظهر من كلامه تعالى أن بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى و تسبيحه و السجود له كقوله: {وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} الأنبياء: ٢٠، و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف: ٢٠٦. 

  • و ذلك لجواز أن تكون عبادتهم و سجودهم و تسبيحهم عين عملهم في التدبير و امتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزة بالتوسط كما ربما يومئ إليه قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} النحل: ٤٩. 

  • [بيان]

  • قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ اَلرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا اَلرَّادِفَةُ} فسرت الراجفة بالصيحة العظيمة التي فيها تردد و اضطراب و الرادفة بالمتأخرة التابعة، و عليه تنطبق الآيتان على نفختي الصور التي يدل عليهما قوله تعالى: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} الزمر: ٦٨. 

تفسير الميزان ج۲۰

185
  • و قيل: الراجفة بمعنى المحركة تحريكا شديدا فإن الرجف يستعمل لازما بمعنى التحرك الشديد، و متعديا بمعنى التحريك الشديد و المراد بها أيضا النفخة الأولى المحركة للأرض و الجبال، و بالرادفة النفخة الثانية المتأخرة عن الأولى. 

  • و قيل: المراد بالراجفة الأرض و بالرادفة السماوات و الكواكب التي ترجف و تضطرب و تنشق، و تتلاشى و الوجهان لا يخلوان من بعد و لا سيما الأخير. 

  • و الأنسب بالسياق على أي حال كون قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ} إلخ ظرفا لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته و بلوغه الغاية في الشدة و هو لتبعثن، و قيل: إن {يَوْمَ} منصوب على معنى قلوب يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، و لا يخلو من بعد. 

  • قوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} تنكير {قُلُوبٌ} للتنويع و هو مبتدأ خبره {وَاجِفَةٌ} و الوجيف‌ الاضطراب، و {يَوْمَئِذٍ} ظرف متعلق بواجفة و الجملة استئناف مبين لصفة اليوم. 

  • و قوله: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ضمير {أَبْصَارُهَا} للقلوب و نسبة الأبصار و إضافتها إلى القلوب لمكان أن المراد بالقلوب في أمثال هذه المواضع التي تضاف إليها الصفات الإدراكية كالعلم و الخوف و الرجاء و ما يشبهها هي النفوس، و قد تقدمت الإشارة إليها. 

  • و نسبة الخشوع إلى الأبصار و هو من أحوال القلب إنما هي لظهور أثره الدال عليه في الأبصار أقوى من سائر الأعضاء. 

  • قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ} إخبار و حكاية لقولهم في الدنيا استبعادا منهم لوقوع البعث و الجزاء و إشارة إلى أن هؤلاء الذين لقلوبهم وجيف و لأبصارهم خشوع يوم القيامة هم الذين ينكرون البعث و هم في الدنيا و يقولون كذا و كذا. 

  • و الحافرة - على ما قيل - أول الشي‌ء و مبتداه، و الاستفهام للإنكار استبعادا، و المعنى يقول: هؤلاء أ إنا لمردودون بعد الموت إلى حالتنا الأولى و هي الحياة. 

  • و قيل: الحافرة بمعنى المحفورة و هي أرض القبر، و المعنى أ نرد من قبورنا بعد موتنا أحياء، و هو كما ترى. 

  • و قيل: الآية تخبر عن اعترافهم بالبعث يوم القيامة، و الكلام كلامهم بعد الإحياء و الاستفهام للاستغراب كأنهم لما بعثوا و شاهدوا ما شاهدوا يستغربون ما شاهدوا 

تفسير الميزان ج۲۰

186
  • فيستفهمون عن الرد إلى الحياة بعد الموت. 

  • و هو معنى حسن لو لم يخالف ظاهر السياق. 

  • قوله تعالى: {أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} تكرار للاستفهام لتأكيد الاستبعاد فلو كانت الحياة بعد الموت مستبعدة فهي مع فرض نخر العظام و تفتت الأجزاء أشد استبعادا، و النخر بفتحتين البلى و التفتت يقال: نخر العظم ينخر نخرا فهو ناخر و نخر. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} الإشارة بتلك إلى معنى الرجعة المفهوم من قوله {أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ} و الكرة الرجعة و العطفة، و عد الكرة خاسرة إما مجاز و الخاسر بالحقيقة صاحبها، أو الخاسرة بمعنى ذات خسران، و المعنى قالوا: تلك الرجعة - و هي الرجعة إلى الحياة بعد الموت - رجعة متلبسة بالخسران. 

  • و هذا قول منهم أوردوه استهزاء على أن يكون قولهم: {أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ} إلخ مما قالوه في الدنيا و لذا غير السياق و قال {قَالُوا تِلْكَ إِذاً} إلخ بعد قوله {يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ} إلخ و أما على تقدير أن يكون مما سيقولونه عند البعث فهو قول منهم على سبيل التشؤم و التحسر. 

  • قوله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} ضمير {هِيَ} للكرة و قيل: للرادفة و المراد بها النفخة الثانية، و الزجر طرد بصوت و صياح عبر عن النفخة الثانية بالزجرة لما فيها من نقلهم من نشأة الموت إلى نشاة الحياة و من بطن الأرض إلى ظهرها، و {فَإِذَا} فجائية، و الساهرة الأرض المستوية أو الأرض الخالية من النبات. 

  • و الآيتان في محل الجواب عما يدل عليه قولهم {أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ} «إلخ» من استبعاد البعث و استصعابه و المعنى لا يصعب علينا أحياؤهم بعد الموت و كرتهم فإنما كرتهم - أو الرادفة التي هي النفخة الثانية - زجرة واحدة فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. 

  • فالآيتان في معنى قوله تعالى: {وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} النحل: ٧٧. 

  • قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ} الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصة موسى و رسالته إلى فرعون و رده دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة و الأولى. 

  • و فيها عظة و إنذار للمشركين المنكرين للبعث و قد توسلوا به إلى رد الدعوة الدينية إذ لا معنى لتشريع الدين لو لا المعاد، و فيها مع ذلك تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من تكذيب 

تفسير الميزان ج۲۰

187
  • قومه، و تهديد لهم كما يؤيده توجيه الخطاب في قوله: {هَلْ أَتَاكَ}

  • و في القصة مع ذلك كله حجة على وقوع البعث و الجزاء فإن هلاك فرعون و جنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقية رسالة موسى من جانب الله إلى الناس و لا تتم رسالته من جانبه تعالى إلا بربوبية منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبية له تعالى بالنسبة إلى الناس و أن هناك أربابا دونه و أنه سبحانه رب الأرباب لا غير. 

  • ففي قوله {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ} استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلى به هو و يكون للمنكرين إنذارا بما فيه من ذكر العذاب و إتماما للحجة كما تقدم. 

  • و لا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدم علم السامع بالحديث لأن الغرض توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال و الاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أول ما يقصه الله من قصة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصته كما في سورة المزمل إجمالا - و هي أقدم نزولا من سورة النازعات - و في سورة الأعراف و طه و غيرهما تفصيلا. 

  • قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً} ظرف للحديث و هو أول ما أوحى الله إليه فقلده الرسالة، و طوى‌ اسم للوادي المقدس. 

  • قوله تعالى: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} تفسير للنداء، و قيل: الكلام على تقدير القول أي قائلا اذهب «إلخ» أو بتقدير أن المفسرة أي أن اذهب «إلخ» و في الوجهين أن التقدير مستغنى عنه، و قوله: {إِنَّهُ طَغىَ} تعليل للأمر. 

  • قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلىَ أَنْ تَزَكَّى} متعلق {إِلىَ} محذوف و التقدير هل لك ميل إلى أن تتزكى أو ما في معناه، و المراد بالتزكي التطهر من قذارة الطغيان. 

  • قوله تعالى: {وَ أَهْدِيَكَ إِلىَ رَبِّكَ فَتَخْشىَ} عطف على قوله: {تَزَكَّى} و المراد بهدايته إياه إلى ربه كما قيل تعريفه له و إرشاده إلى معرفته تعالى و تترتب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان و تعدي طور العبودية قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ} فاطر: ٢٨. 

  • و المراد بالتزكي إن كان هو التطهر عن الطغيان بالتوبة و الرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتبة عليه و المراد بها الخشية الملازمة للإيمان الداعية إلى الطاعة و الرادعة عن المعصية، و إن كان هو التطهر بالطاعة و تجنب المعصية كان قوله: {وَ أَهْدِيَكَ إِلىَ رَبِّكَ فَتَخْشىَ} مفسرا لما قبله و العطف عطف تفسير. 

تفسير الميزان ج۲۰

188
  •  قوله تعالى: {فَأَرَاهُ اَلْآيَةَ اَلْكُبْرىَ} الفاء فصيحة و في الكلام حذف و تقدير و الأصل فأتاه و دعاه فأراه «إلخ». 

  • و المراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصة آية العصا، و قيل: المراد بها مجموع معجزاته التي أراها فرعون و ملأه و هو بعيد. 

  • قوله تعالى: {فَكَذَّبَ وَ عَصىَ} أي كذب موسى فجحد رسالته و سماه ساحرا و عصاه فيما أمره به أو عصى الله. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعىَ} الإدبار التولي و السعي‌ هو الجد و الاجتهاد أي ثم تولى فرعون يجد و يجتهد في إبطال أمر موسى و معارضته. 

  • قوله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادىَ} الحشر جمع الناس بإزعاج و المراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدل عليه تفريع قوله: {فَنَادىَ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ} عليه فإن كان يدعي الربوبية لأهل مملكته جميعا لا لطائفة خاصة منهم. 

  • و قيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} الشعراء: ٥٣، و قوله: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتىَ} طه: ٦٠و فيه أنه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر و الجمع في تينك الآيتين. 

  • قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ} دعوى الربوبية و ظاهره أنه يدعي أنه أعلى في الربوبية من سائر الأرباب التي كان يقول بها قومه الوثنيون فيفضل نفسه على سائر آلهتهم. 

  • و لعل مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيا يعبد الآلهة كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن ملئه يخاطبونه: {أَ تَذَرُ مُوسىَ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ } الأعراف: ١٢٧ إنه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم و تصلح بأمره شئون حياتهم و يحفظ بمشيته شرفهم و سؤددهم، و سائر الآلهة ليسوا على هذه الصفة. 

  • و قيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم و محصله دعوى الملك و أنه فوق سائر أولياء أمور المملكة من حكام و عمال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال: {وَ نَادىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} (الآية) الزخرف: ٥١. 

تفسير الميزان ج۲۰

189
  • و هو خلاف ظاهر الكلام و فيما قال قوله لملئه: {يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} القصص: ٣٨، و قوله لموسى: {لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ} الشعراء: ٢٩. 

  • قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اَللَّهُ نَكَالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولىَ} الأخذ كناية عن التعذيب، و النكال‌ التعذيب الذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، و عذاب الآخرة نكال حيث إن من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدي إليه من المعصية كما أن عذاب الاستئصال في الدنيا نكال. 

  • و المعنى: فأخذ الله فرعون أي عذبه و نكله نكال الآخرة و الأولى و أما عذاب الدنيا فإغراقه و إغراق جنوده، و أما عذاب الآخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالأولى و الآخرة الدنيا و الآخرة. 

  • و قيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة: {أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ} و بالأولى كلمته الأولى قالها قبل ذلك {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فأخذه الله بهاتين الكلمتين و نكله نكالهما، و لا يخلو هذا المعنى من خفاء. 

  • و قيل: المراد بالأولى تكذيبه و معصيته المذكوران في أول القصة و بالأخرى كلمة أنا ربكم الأعلى المذكورة في آخرها، و هو كسابقه. 

  • و قيل: الأولى أول معاصيه و الأخرى آخرها و المعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه و لا يخلو أيضا من خفاء. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىَ} الإشارة إلى حديث موسى، و الظاهر أن مفعول {يَخْشىَ} منسي معرض عنه، و المعنى أن في هذا الحديث حديث موسى لعبرة لمن كان له خشية و كان من غريزته أن يخشى الشقاء و العذاب و الإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيم الفطرة. 

  • و قيل: المفعول محذوف و التقدير لمن يخشى الله و الوجه السابق أبلغ. 

  • قوله تعالى: {أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمَاءُ بَنَاهَا} - إلى قوله - {وَ لِأَنْعَامِكُمْ} خطاب توبيخي للمشركين المنكرين للبعث المستهزءين به على سبيل العتاب و يتضمن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم: {أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي اَلْحَافِرَةِ أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} بأن 

تفسير الميزان ج۲۰

190
  • الله خلق ما هو أشد منكم خلقا فهو على خلقكم و إنشائكم النشأة الأخرى لقدير. 

  • و يتضمن أيضا الإشارة إلى الحجة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العام العالمي و ارتباطه بالعالم الإنساني و لازمه ربوبيته تعالى، و لازم الربوبية صحة النبوة و جعل التكاليف، و لازم ذلك الجزاء الذي موطنه البعث و الحشر، و لذا فرع عليه حديث البعث بقوله: «فإذا جاءت الطامة الكبرى» إلخ. 

  • فقوله: {أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمَاءُ} استفهام توبيخي بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، و الإشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله: {بَنَاهَا} إلخ دليل أن المراد به تقرير كون السماء أشد خلقا. 

  • و قوله: {بَنَاهَا} استئناف و بيان تفصيلي لخلق السماء. 

  • و قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أي رفع سقفها و ما ارتفع منها، و تسويتها ترتيب أجزائها و تركيبها بوضع كل جزء في موضعه الذي تقتضيه الحكمة كما في قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} الحجر: ٢٩. 

  • و قوله: {وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَ أَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي أظلم ليلها و أبرز نهارها، و الأصل في معنى الضحى‌ انبساط الشمس و امتداد النهار أريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة و نسبة الليل و الضحى إلى السماء لأن السبب الأصلي لها سماوي و هو ظهور الأجرام المظلمة بشروق الأنوار السماوية كنور الشمس و غيره و خفاؤها بالاستتار و لا يختص الليل و النهار بالأرض التي نحن عليها بل يعمان سائر الأجرام المظلمة المستنيرة. 

  • و قوله: {وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها و مدها بعد ما بنى السماء و رفع سمكها و سواها و أغطش ليلها و أخرج ضحاها. 

  • و قيل: المعنى و الأرض مع ذلك دحاها كما في قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} و قد تقدم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء و الأرض في تفسير سورة الم السجدة و ذكر بعضهم أن الدحو بمعنى الدحرجة.