المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الخامس عشر
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل
واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف
(٢٣) سورة المؤمنون مكية و هي مائة و ثماني عشرة آية (۱۱۸)
[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ١ الی ١١]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ }{قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ ١ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ٣ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ٤ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٥ إِلاَّ عَلى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ اِبْتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ ٧ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ ٨ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٩ أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ ١٠اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١}
(بيان)
في السورة دعوة إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر و تمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية و ما لأولئك من رذائل الأخلاق و سفاسف الأعمال، و تعقيب ذلك بالتبشير و الإنذار، و قد تضمن الإنذار ذكر عذاب الآخرة و ما غشي
الأمم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذا من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام).
و السورة مكية، و سياق آياتها يشهد بذلك.
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ} قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون - الشق، و قيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق، و الفلاح الظفر و إدراك بغية و ذلك ضربان: دنيوي و أخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العز، و الأخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل، و لذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة. انتهى ملخصا. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحا بعناية أن فيه شقا للمانع و كشفا عن وجه المطلوب.
و الإيمان هو الإذعان و التصديق بشيء بالالتزام بلوازمه، فالإيمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته و رسله و اليوم الآخر و بما جاءت به رسله مع الاتباع في الجملة، و لذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الإيمان بالعمل الصالح كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} النحل - ٩٧ و قوله {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ} الرعد - ٢٩، إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدا.
و ليس مجرد الاعتقاد بشيء إيمانا به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه و آثاره فإن الإيمان علم بالشيء مع السكون و الاطمئنان إليه و لا ينفك السكون إلى الشيء من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفك من السكون و الالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشنيعة أو المضرة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد و قد قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} النمل - ١٤.
و الإيمان و إن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} الخشوع تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه و الظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقوله (صلی الله عليه و أله وسلم) - على ما روي - فيمن يعبث بلحيته
في الصلاة: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، و قوله تعالى: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} طه: ١٠٨.
و الخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسر بها الخشوع في الآية، كقول بعضهم: هو الخوف و سكون الجوارح، و قول آخرين: غض البصر و خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يمينا و شمالا، أو إعظام المقام و جمع الاهتمام، أو التذلل إلى غير ذلك.
و هذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الإيمان حيا فعالا يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب منه و هو الفلاح فإن الصلاة توجه ممن ليس له إلا الفقر و الذلة إلى ساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزة و البهاء و لازمه أن يتأثر الإنسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلة و الهوان و ينتزع قلبه عن كل ما يلهوه و يشغله عما يهمه و يواجهه، فلو كان إيمانه إيمانا صادقا جعل همه حين التوجه إلى ربه هما واحدا و شغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غني لا يقدر بقدر؟ و الذليل إذا واجه عزة مطلقة لا يشوبها ذلة و هوان؟
و هذا معنى قوله (صلی الله عليه و أله وسلم) في حديث حارثة بن النعمان المروي في الكافي، و غيره: إن لكل حق حقيقة و لكل صواب نورا. (الحديث).
(كلام في معنى تأثير الإيمان)
الدين - كما تقدم مرارا - السنة الاجتماعية التي يسير بها الإنسان في حياته الدنيوية الاجتماعية، و السنن الاجتماعية متعلقة بالعمل مبنيا على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه، و من هنا ما نرى أن السنن الاجتماعية تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر.
فمن يثبت للكون ربا يبتدئ منه و سيعود إليه و للإنسان حياة باقية لا تبطل بموت و لا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية و التنعم في الدار الآخرة الخالدة.
و من يثبت له إلها أو آلهة تدبر الأمر بالرضا و السخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب من الآلهة و إرضائها للفوز بأمتعة الحياة و الظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا.
و من لا يهتم بأمر الربوبية و لا يرى للإنسان حياة خالدة كالماديين و من يحذو حذوهم يبني سنة الحياة و القوانين الموضوعة الجارية في مجتمعة على أساس التمتع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت.
فالدين سنة عملية مبنية على الاعتقاد في أمر الكون و الإنسان بما أنه جزء من أجزائه، و ليس هذا الاعتقاد هو العلم النظري المتعلق بالكون و الإنسان فإن العلم النظري لا يستتبع بنفسه عملا و إن توقف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر و إن شئت فقل: الحكم بوجوب اتباع المعلوم النظري و الالتزام به و هو العلم العملي كقولنا: يجب أن يعبد الإنسان الإله تعالى و يراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا و الآخرة معا.
و معلوم أن الدعوة الدينية متعلقة بالدين الذي هو السنة العملية المبنية على الاعتقاد، فالإيمان الذي يتعلق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحق في الله سبحانه و رسله و اليوم الآخر و ما جاءت به رسله و هو علم عملي.
و العلوم العملية تشتد و تضعف حسب قوة الدواعي و ضعفها فإنا لسنا نعمل عملا قط إلا طمعا في خير أو نفع أو خوفا من شر أو ضرر، و ربما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثم صرفنا عنه داع آخر أقوى منه و آثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنه مضر له مناف لصحته، فبالحقيقة يقيد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الذي مع الداعي الممنوع كأنه يقول مثلا: إن التغذي لرفع الجوع ليس يجب مطلقا بل إنما يجب إذا لم يكن مضرا بالبدن مضادا لصحته.
و من هنا يظهر أن الإيمان بالله إنما يؤثر أثره من الأعمال الصالحة و الصفات الجميلة النفسانية كالخشية و الخشوع و الإخلاص و نحوها إذا لم تغلبه الدواعي الباطلة و التسويلات الشيطانية، و بعبارة أخرى إذا لم يكن إيمانا مقيدا بحال دون حال كما قال تعالى: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى حَرْفٍ} الحج - ٦١.
فالمؤمن إنما يكون مؤمنا على الإطلاق إذا جرت أعماله على حاق ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته و الإعراض عن اللغو و نحوه.
[بيان]
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه و يختلف باختلاف الأمور التي تعود عليها الفائدة فرب فعل هو لغو بالنسبة إلى أمر و هو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر.
فاللغو من الأفعال في نظر الدين الأعمال المباحة التي لا ينتفع بها في الآخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضا إلى الآخرة كالأكل و الشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوي على طاعة الله و عبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة و لا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو و بنظر أدق هو ما عدا الواجبات و المستحبات من الأفعال.
و لم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الإنسان في معرض العثرة و مزلة الخطيئة و قد عفا عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} النساء: ٣١.
بل وصفهم بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه و الإعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الإنسان صارفا وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به و اعتنائه بشأنه، و لازمه ترفع النفس عن الأعمال الخسيسة و اعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف و الكرامة و تعلقها بعظائم الأمور و جلائل المقاصد.
و من حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزة و المجد و البهاء و المتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق و لا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس و جهلتهم{ وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}، {وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}.
و من هنا يظهر أن وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم و كرامة نفوسهم.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الإنفاق المالي دون الزكاة بمعنى تطهير النفس بإزالة رذائل الأخلاق عنها و لعل المراد بالزكاة المعنى المصدري و هو تطهير المال بالإنفاق منه دون المقدار المخرج من المال
فإن السورة مكية و تشريع الزكاة المعهودة في الإسلام إنما كان بالمدينة ثم صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعين المخرج من المال.
و بهذا يستصح تعلق {لِلزَّكَاةِ} بقوله: {فَاعِلُونَ} و المعنى: الذين هم فاعلون للإنفاق المالي و أما لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصح تعلقه به إذ المال المخرج ليس فعلا متعلقا بفاعل، و لذا قدر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده و الذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، و لذا أيضا فسر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الأخلاق الرذيلة فرارا من تعلق {لِلزَّكَاةِ} بقوله: {فَاعِلُونَ}.
و في التعبير بقوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} دون أن يقول للزكاة مؤدون أو ما يؤدي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إني شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إني فاعل.
و من حق الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق المالي فإن الإنسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه و لا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة و أمتعة العيش، و الإنفاق المالي على الفقراء و المساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج و هو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال و النساء، و حفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطا أو بإتيان البهائم و غير ذلك.
و قوله: {إِلاَّ عَلى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} استثناء من حفظ الفروج، و الأزواج الحلائل من النساء، و ما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنهم غير ملومين في مس الأزواج الحلائل و الجواري المملوكة.
و قوله: {فَمَنِ اِبْتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ} تفريع على ما تقدم من الاستثناء و المستثنى منه أي إذا كان مقتضى الإيمان حفظ الفروج مطلقا إلا عن طائفتين من النساء هما الأزواج و ما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مس غير الطائفتين فأولئك هم المتجاوزون عن الحد الذي حده الله تعالى لهم.
و قد تقدم كلام ما فيما يستعقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً} إسراء - ٣٢ في الجزء الثالث عشر من الكتاب.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الأمانة مصدر في الأصل و ربما أريد به ما اؤتمن عليه من مال و نحوه، و هو المراد في الآية، و لعل جمعه للدلالة على أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، و ربما قيل بعموم الأمانات لكل تكليف إلهي اؤتمن عليه الإنسان و ما اؤتمن عليه من أعضائه و جوارحه و قواه أن يستعملها فيما فيه رضا الله و ما ائتمنه عليه الناس من الأموال و غيرها، و لا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ و إن كان صحيحا من جهة تحليل المعنى و تعميمه.
و العهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر و اليمين، و يمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجه إلى المؤمن فإن الله سبحانه سمى إيمان المؤمن به عهدا و ميثاقا منه على ما توجه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: {أَ وَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} البقرة - ١٠٠، و قوله: {وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ} الأحزاب - ١٥، و لعل إرادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لأن جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بإيمان واحد.
و الرعاية الحفظ، و قد قيل: إن أصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا. انتهى. و لعل العكس أقرب إلى الاعتبار.
و بالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان و العهد من أن ينقض، و من حق الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإن في إيمانه معنى السكون و الاستقرار و الاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده و قطع على ذلك استقر عليه و لم يتزلزل بخيانة أو نقض.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} جمع الصلاة و تعليق المحافظة عليه دليل على أن المراد المحافظة على العدد فهم يحافظون على أن لا يفوتهم شيء من الصلوات المفروضة و يراقبونها دائما و من حق إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك.
و لذلك جمعت الصلاة هاهنا و أفردت في قوله: {فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} لأن الخشوع في جنس الصلاة على حد سواء فلا موجب لجمعها.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
الفردوس أعلى الجنان، و قد تقدم معناها و شيء من وصفها في ذيل قوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} الكهف - ١٠٧.
و قوله: {اَلَّذِينَ يَرِثُونَ} إلخ، بيان لقوله: {اَلْوَارِثُونَ} و وراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، و قد ورد في الروايات أن لكل إنسان منزلا في الجنة و منزلا في النار فإذا مات و دخل النار ورث أهل الجنة منزله، و ستوافيك إن شاء الله في بحث روائي.
(بحث روائي)
في تفسير القمي و قوله: {اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال: غضك بصرك في صلاتك و إقبالك عليها.
أقول: و قد تقدم أنه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى،
و نظيره ما رواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن علي (عليه السلام): أن لا تلتفت في صلاتك.
و في الكافي، بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.
أقول: و روي في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) ما في معناه و لفظه: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا و القلب ليس بخاشع.
و في المجمع في الآية روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
و فيه روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.
أقول: و رواهما في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الكتب عنه (صلی الله عليه و أله وسلم). و في معنى الخشوع روايات أخر كثيرة.
و في إرشاد المفيد في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام): كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.
و في المجمع: في قوله: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله و في رواية أخرى أنه الغناء و الملاهي.
أقول: ما في روايتي المجمع، من قبيل ذكر بعض المصاديق و ما في رواية الإرشاد، من التعميم بالتحليل .
و في الخصال، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): تحل الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث و نكاح بلا ميراث و نكاح بملك يمين.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوج إلا عفيفة إن الله عز و جل يقول: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك.
أقول: و فيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة.
و الروايتان كما ترى تعدان المتعة نكاحا و ازدواجا و الأمر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و على ذلك مبني فقههم.
و الأمر على ذلك في عرف القرآن و في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك أنه ليس وراء ملك اليمين إلا نوعان نكاح على الزوجية و زنا و قد حرم الله الزنا و أكد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكية و المدنية كسورتي الفرقان و الإسراء و هما مكيتان و سورتي النور و الممتحنة و هما مدنيتان.
ثم سماه سفاحا و حرَّمه في سورتي النساء و المائدة ثم سماه فحشاء و منع عنه و ذمه في سور الأعراف و العنكبوت و يوسف و هي مكية و في سور النحل و البقرة و النور و هي أو الأخيرتان مدنيتان.
ثم سماه فاحشة و نهى عنها في سور الأعراف و الأنعام و الإسراء و النمل و العنكبوت و الشورى و النجم و هي مكية و في سور النساء و النور و الأحزاب و الطلاق و هي مدنية.
و نهى عنه أيضا بالتكنية في آية المؤمنون: {فَمَنِ اِبْتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ} و نظيره في سورة المعارج و كان من المعروف في أول البعثة من أمر الإسلام
أنه يحرم الخمر و الزنا۱.
فلو لم يكن التمتع ازدواجا و المتمتع بها زوجا مشمولة لقوله: {إِلاَّ عَلى أَزْوَاجِهِمْ} لكان زنا و من المعلوم بالضرورة أن التمتع كان معمولا به في مكة قبل الهجرة في الجملة و كذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة و لازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لضرورة اقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} النساء: ٢٤ و لازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون {إِلاَّ عَلى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} - إلى قوله - {اَلعَادُونَ}، ناسخة لإباحة التمتع السابقة ثم يكون تحليل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخا لجميع الآيات المكية الناهية عن الزنا و بعض المدنيات مما نزلت قبل التحليل، و خاصة على قول من يقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حلله ثم حرمه مرة٢ بعد مرة فإن لازمه نسخ الآيات الناهية عن الزنا ثم إحكامها ثم نسخها ثم إحكامها مرات و لم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلا عن النسخ بعد النسخ و هل هذا إلا لعب بكلام الله تجل عنه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟.
على أن الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها و ما فيه من التعليل آب عن النسخ و كيف يعقل أن يسمي الله سبحانه فعلا من الأفعال فاحشة فحشاء و سبيل سوء و يخبر أن من يفعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا ثم يجيز ارتكابه ثم يمنع ثم يجيز.
على أن أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له٣.
على أن عدة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا من معاريف الصحابة و هم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الأحكام فكيف استجازوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الفحشاء؟ و كيف لم يستخبثوه؟ و كيف رضوا بالعار و الشنار و قد تمتع زبير من
أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير و أخاه عروة بن زبير و ورثاه بعد قتله و هم جميعا من الصحابة.
على أن الروايات الدالة على نهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن المتعة متهافتة، و ما تسلموا عليه من قول عمر بن الخطاب حينما نهى أيام خلافته عن المتعة و ما ورد عنه حول القصة يكذب هذه الروايات و يدفع حديث النسخ. و قد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} النساء - ٢٤.
و من لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح اقتران جملة {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ} إلخ بقوله قبله متصلا به {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}.
فقد تبين بما ذكرنا أن المتعة في الشرع و في عرف القرآن نكاح و زوجية لا زنا و سفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنة كما عليه معظم أهل السنة أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد و الإرث و الإحصان و النفقة و الفراش و العدة و غير ذلك. و نكاح موقت مبني على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم اختصاص المرأة بالرجل و لحقوق الأولاد و العدة.
و بذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أن المتعة ليست بزوجية و لو كانت زوجية لجرت فيها أحكامها من العدد و الميراث و النفقة و الإحصان و غير ذلك و ذلك أن الزوجية تتقسم إلى دائمة لها أحكامها و موقتة مبنية على التسهيل يجري فيها بعض تلك الأحكام كما تقدم.
و الإشكال بأن تشريع الازدواج إنما هو للتناسل بدوام الزوجية و الغرض من المتعة مجرد دفع الشهوة بصب الماء و سفحه فهي سفاح و ليست بنكاح.
فيه أن التوسل إلى النسل حكمة لا علة يدور مدارها التشريع و إلا لم يجز نكاح العاقر و اليائسة و الصبي و الصبية.
على أن المتعة لا تنافي الاستيلاد و من الشاهد على ذلك عبد الله و عروة ابنا زبير أولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.
و كذا الإشكال بأن المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجل كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار و غيره.
فيه أن هذا يرد أول ما يرد على الشارع فإن من الضروري أن المتعة كانت دائرة في صدر الإسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا.
و ثانيا أن جميع ما يقصد بالمتعة من لذة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل و المرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلا أن يكابر مكابر.
و للكلام تتمة ستوافيك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن ابن أبي مليكة قال :سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني و بينكم كتاب الله و قرأت {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا.
أقول: و روي نظيره عن القاسم بن محمد، و قد تبين بما قدمنا أن المتمتع بها زوج و أن الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية.
و في تفسير القمي: {فَمَنِ اِبْتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ} قال: من جاوز ذلك.
و فيه: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال: على أوقاتها و حدودها.
و في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل : {وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال هي الفريضة قلت: {اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} قال: هي النافلة.
و في المجمع، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة و منزل في النار فإن مات و دخل النار ورث أهل الجنة منزله.
أقول: و روى مثله القمي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث مفصل و تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ} مريم: ٣٩ في الجزء السابق من الكتاب.
(بحث حقوقي اجتماعي)
لا ريب أن الذي يدعو الإنسان و يبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري تنبهه لحوائج الحياة و توسله بوضعها و العمل بها إلى رفعها.
و كلما كانت الحاجة أبسط و إلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسل إلى رفعها أوجب و الإهمال في دفعها أدهى و أضر فما الحاجة إلى أصل التغذي و الحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام و أنواع الفواكه و هكذا.
و من الحوائج الأولية الإنسانية حاجة كل من صنفيه: الذكور و الإناث إلى الآخرين بالنكاح و المباشرة، و لا ريب أن المطلوب بالنظر إلى الصنع و الإيجاد بذلك بقاء النسل و قد جهز الإنسان بغريزة شهوة النكاح للتوسل به إلى ذلك.
و لذلك نجد المجتمعات الإنسانية التي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنة بسنة الازدواج و تكوين البيت، و على ذلك كانت منذ أقدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلا الازدواج.
و لا يدفع هذا الذي ذكرنا أن المدنية الحديثة وضعت سنة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإن هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعي لم يبعث حتى الآن شيئا من المجتمعات المستنة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهن و ليس إلا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الإنسانية.
و بالجملة الازدواج سنة طبيعية لم تزل و لا تزال دائرة في المجتمعات البشرية و لا يزاحم هذه السنة الطبيعية في مسيرها إلا عمل الزنا الذي هو أقوى مانع من تكون البيوت و تحمل كلفة الازدواج و حمل أثقاله بانصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت و انقطاع النسل.
و لذا كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعة الساذجة تستشنعها و تعدها فاحشة منكرة و تتوسل إلى المنع عنه بأي وسيلة ممكنة، و المجتمعات المتمدنة الحديثة و إن لم
تسد سبيله بالجملة و لم تمنع عنه ذلك المنع لكنها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادته العميقة لتكون البيوت و ازدياد النفوس و بقاء النسل، و تحتال إلى تقليله بلطائف الحيل و تروج سنة الازدواج و تدعو إلى تكثير الأولاد بجعل الجوائز و ترفيع الدرجات و غير ذلك من المشوقات.
غير أنه على الرغم من كون سنة الازدواج الدائم سنة قانونية متبعة في جميع المجتمعات الإنسانية في العالم و تحريض الدول عليها و احتيالها لتضعيف أمر الزنا و صرف الناس لا سيما الشبان و الفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها و كبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنية أو سرية على اختلاف السنن الجارية فيها.
و هذا أوضح حجة على أن سنة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع، و أن الإنسانية بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، و أن من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسع في أمر الازدواج.
و لذلك شفع شارع الإسلام سنة الازدواج الدائم بسنة الازدواج الموقت تسهيلا للأمر و شرط فيه شروطا ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه و اختلال الأنساب و المواريث و انهدام البيوت و انقطاع النسل و عدم لحوق الأولاد و هي اختصاص المرأة بالرجل و العدة إذا افترقا و لحوق الأولاد ثم لها ما اشترطت على زوجها و ليس فيه على الرجل شيء من كلفة الازدواج الدائم و مشقته.
و لعمر الحق إنها لمن مفاخر الإسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق و تعدد الزوجات و كثير من قوانينه و لكن ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لئن أزني أحب إلي من أن أتمتع أو أمتع.
[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ١٢ الی ٢٢]
{وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً
آخَرَ فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ ١٤ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ١٦ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ ١٧ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ١٨ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ١٩ وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ٢٠وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٢١ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ٢٢}
(بيان)
لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الأوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم و خلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للإنسان و لكل شيء الواجب أن يعبد وحده لا شريك له.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ} قال في المجمع: السلالة اسم لما يسل من الشيء كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. و ظاهر السياق أن المراد بالإنسان هو النوع فيشمل آدم و من دونه و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} الم السجدة: ٨.
و يؤيده قوله بعد: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: {ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً} إلخ.
و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأن المراد به آدم (عليه السلام) غير سديد.
و أصل الخلق - كما قيل - التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى و لقد قدرنا الإنسان أولا من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} النطفة القليل من الماء و ربما يطلق على مطلق الماء و القرار مصدر أريد به المقر مبالغة و المراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، و المكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة و الفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها.
و المعنى ثم جعلنا الإنسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.
قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } - الي قوله - {فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً} تقدم بيان مفردات الآية في الآية ٥ من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب و في قوله: {فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً} استعارة بالكناية لطيفة.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} الإنشاء - كما ذكره الراغب - إيجاد الشيء و تربيته كما أن النشء و النشأة إحداثه و تربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشئ.
و قد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} دون أن يقال: ثم خلقناه إلخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه و لا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا و إن خالفت النطفة في أوصافها و خواصها من لون و طعم و غير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الأوصاف و الخواص ما يجانسه و إن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة و هما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا و هو الإنسان الذي له حياة و علم و قدرة فإن ما له من جوهر الذات و هو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة و العلقة و المضغة و العظام المكسوة لحما شيء،
و لا سبق فيها شيء يناظر ما له من الخواص و الأوصاف كالحياة و القدرة و العلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم.
و الضمير في {أَنْشَأْنَاهُ} - على ما يعطيه السياق - للإنسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشأ و أحدث خلقا آخر أي بدل و هو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة و علم و قدرة، فقد كان مادة لها صفاتها و خواصها ثم برز و هو يغاير سابقته في الذات و الصفات و الخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، و ليس بها إذ لا يشاركها في ذات و لا صفات، و إنما له نوع اتحاد معها و تعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.
و هذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الم السجدة: ١١، فالمتوفى و المأخوذ عند الموت هو الإنسان، و المتلاشي الضال في الأرض هو البدن و ليس به.
و قد اختلف العطف في مفردات الآية بالفاء و ثم، و قد قيل في وجهه إن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} {ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً}، {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}، و ما لم يكن بتلك البينونة و البعد عطف بالفاء كقوله: {فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً}.
قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ} قال الراغب: أصل البرك - بالفتح فالسكون - صدر البعير. قال: و برك البعير ألقى ركبه و اعتبر منه معنى اللزوم. قال: و سمي محبس الماء بركة - بالكسر فالسكون - و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ} و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة و المبارك ما فيه ذلك الخير.
قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك و فيه بركة. انتهى.
فالتبارك منه تعالى اختصاص بالخير الكثير الذي يجود به و يفيضه على خلقه و قد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره و هو إيجاد
الأشياء و تركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها و تناسب ما وراءها و من ذلك ينتشر الخير الكثير.
و وصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به و هو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير و قياس الشيء من الشيء لا يختص به تعالى، و في كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: {وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ} المائدة: ١١٠و قوله: {وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً} العنكبوت: ١٧.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} بيان لتمام التدبير الإلهي و أن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، و أنه حق كما تقدم في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً} الأنبياء: ٣٥.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} و هذا تمام التدبير و هو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الإنسان إذا حل بها لزمها و لا يزال قاطنا بها.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ}، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: {فَوْقَكُمْ} السماوات السبع و قد سماها طرائق - جمع طريقة - و هي السبيل المطروقة لأنها ممر الأمر النازل من عنده تعالى إلى الأرض، قال تعالى: {يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} الطلاق - ١٢، و قال: {يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} الم السجدة - ٥، و السبل التي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر - ١٠، و قال: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} مريم - ٦٤.
و بذلك يتضح اتصال ذيل الآية {وَ مَا كُنَّا عَنِ اَلْخَلْقِ غَافِلِينَ} بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.
و بذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.
على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.
قوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.
و في قوله: {بِقَدَرٍ} دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الإلهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضا إلى قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١.
و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكناه في الأرض و هو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الأرض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.
قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ} إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} معطوف على {جَنَّاتٍ} أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طور سيناء، و قوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله: {وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ - بالكسر فالسكون - الإدام الذي يؤتدم به، و إنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: {وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} إلخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لأمر خلقه حنين بهم رءوف رحيم، و المراد بسقيه تعالى مما في بطونها أنه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.
قوله تعالى: {وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ضمير {عَلَيْهَا} للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البر و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله: {وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ} إسراء: ٧٠، و الفلك جمع فلكة و هي السفينة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يعني نفخ الروح فيه.
و في الكافي، بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله و ما رزقه و كل شيء من حاله؟ و عدد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه.
فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحول الأنثى ذكرا أو الذكر أنثى؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء.
أقول: و الرواية مروية عن أبي جعفر (عليه السلام) بطرق أخرى و ألفاظ متقاربة.
و في تفسير القمي، قوله عز و جل {وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) فالطور الجبل و سيناء الشجرة.
و في المجمع: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادهنوا.
[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٢٣ الی ٥٤]
{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٢٣ فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ ٢٤ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ٢٥ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ٢٦ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ٢٧ فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي نَجَّانَا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢٨ وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ ٢٩ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ٣٠ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ٣١ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٣٢ وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ٣٣ وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ٣٤ أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ٣٥ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ٣٦ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٣٧ إِنْ هُوَ
إِلاَّ رَجُلٌ اِفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ٣٨ قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ٣٩ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ٤٠فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٤١ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ٤٢ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ ٤٣ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ ٤٤ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسى وَ أَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ ٤٥ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً عَالِينَ ٤٦ فَقَالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَ قَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ٤٧ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ ٤٨ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٤٩ وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ ٥٠يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ٥١ وَ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ٥٢ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ٥٣ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ٥٤}
(بيان)
بعد ما عد نعمه العظام على الناس عقبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد
عبادته من طريق الرسالة و قص إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريم (عليه السلام)، و لم يصرح من أسمائهم إلا باسم نوح و هو أول الناهضين لدعوة التوحيد و اسم موسى و عيسى (عليه السلام) و هما في آخرهم، و أبهم أسماء الباقين غير أنه صرح باتصال الدعوة و تواتر الرسل، و أن الناس لم يستجيبوا إلا بالكفر بآيات الله و الكفران لنعمه.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ} قد تقدم في قصص نوح (عليه السلام) من سورة هود أنه أول أولي العزم من الرسل أصحاب الكتب و الشرائع المبعوثين إلى عامة البشر و الناهضين للتوحيد و نفي الشرك، فالمراد بقومه أمته و أهل عصره عامة.
و قوله: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} دعوة إلى عبادة الله و رفض عبادة الآلهة من دونه فإن الوثنيين إنما يعبدون غيره من الملائكة و الجن و القديسين بدعوى ألوهيتهم أي كونهم معبودين من دونه.
قال بعض المفسرين: إن معنى {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود: {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ} و ترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط و أما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا. انتهى.
و فيه غفلة أو ذهول عن أن الوثنيين لا يعبدون الله سبحانه أصلا بناء على أن العبادة توجه من العابد إلى المعبود، و الله سبحانه أجل من أن يحيط به توجه متوجه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرب إلى خاصة خلقه من الملائكة و غيره ليشفعوا عنده و يقربوا منه، و العبادة بإزاء التدبير و أمر التدبير مفوض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون و الأرباب من دونه.
و من هنا يظهر أنه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلا عبادته وحده لأنهم لا يرتابون في أنه تعالى رب الأرباب موجد الكل و لو صحت عبادته لم تجز إلا عبادته وحده و لم تصح عبادة غيره لكنهم لا يرون صحتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدم.
فقوله (عليه السلام) لقومه الوثنيين: {اُعْبُدُوا اَللَّهَ} في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده، كما ورد في سورة هود {أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ}، و قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لأنه لا رب غيره يدبر أمركم حتى تعبدوه ـ
رجاء لرحمته أو خوفا من سخطه، و قوله بالتفريع على ذلك: {أَ فَلاَ تَتَّقُونَ} أي إذا لم يكن لكم رب يدبر أموركم دونه أ فلا تتقون عذابه حيث لا تعبدونه و تكفرون به؟
قوله تعالى: {فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } - الي قوله - {حَتَّى حِينٍ }ملأ القوم أشرافهم، و وصفهم بقوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} وصف توضيحي لا احترازي إذ لم يؤمن به من ملإ قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله: {وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ} هود - ٢٧.
و السياق يدل على أن الملأ كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامة الناس لصرف وجوههم عنه و إغرائهم عليه و تحريضهم على إيذائه و إسكاته، و ما حكاه تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفقوها و احتجوا بها على بطلان دعوته.
الأول قولهم: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} و محصله أنه بشر مثلكم فلو كان صادقا فيما يدعيه من الوحي الإلهي و الاتصال بالغيب كان نظير ما يدعيه متحققا فيكم إذ لا تنقصون منه في شيء من البشرية و لوازمها، و لم يتحقق فهو كاذب و كيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثم لا يناله إلا واحد منهم فقط ثم يدعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ فلم يبق إلا أنه يريد بهذه الدعوة أن يتفضل عليكم و يترأس فيكم و يؤيده أنه يدعوكم إلى اتباعه و طاعته و هذه الحجة تنحل في الحقيقة إلى حجتين مختلقتين.
و الثاني قولهم: {وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً} و محصله أن الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبية لاختار لذلك الملائكة الذين هم المقربون عنده و الشفعاء الروابط بيننا و بينه فأرسلهم إلينا لا بشرا ممن لا نسبة بينه و بينه. على أن في نزولهم و اعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده و عدم جواز اتخاذهم أربابا و آلهة معبودين آية بينة على صحة الدعوة و صدقها.
و التعبير عن إرسال الملائكة بإنزالهم إنما هو لكون إرسالهم يتحقق بالإنزال و التعبير بلفظ الجمع دون الإفراد لعله لكون المراد بهم الآلهة المتخذة منهم و هم كثيرون.
و الثالث قولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ} و محصله أنه لو كانت دعوته حقة لاتفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانية، و آباؤنا كانوا أفضل منا و أعقل و لم
يتفق لهم و في أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلا بدعة و أحدوثة كاذبة.
و الرابع قولهم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} الجنة إما مصدر أي به جنون أو مفرد الجن أي حل به من الجن من يتكلم على لسانه لأنه يدعي ما لا يقبله العقل السليم و يقول ما لا يقوله إلا مصاب في عقله فتربصوا و انتظروا به إلى حين ما لعله يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه.
و هذه حجج مختلقة ألقاها ملأ قومه إلى عامتهم أو ذكر كلا منها بعضهم و هي و إن كانت حججا جدلية مدخولة لكنهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه و يغرونهم عليه و يمدون في ضلالهم.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} سؤال منه للنصر و الباء في قوله: {بِمَا كَذَّبُونِ} للبدلية و المعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة و عليه فالمعنى انصرني بالذي كذبوني فيه و هو العذاب فإنهم قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} هود - ٣٢، و يؤيده قول نوح: {رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} نوح ٢٦، و فصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال.
قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا} إلى آخر الآية، متفرع على سؤال النصر، و معنى صنع الفلك بأعينه صنعه بمرأى منه و هو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى و محافظته، و معنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبي حالا بعد حال.
و قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ} المراد بالأمر - كما قيل - حكمه الفصل بينه و بين قومه و قضاؤه فيهم بالغرق، و السياق يشهد على كون فوران التنور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم و هو أعني فوران الماء من التنور و هو محل النار من عجيب الأمر في نفسه.
و قوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ} القراءة الدائرة {مِنْ كُلٍّ} بالتنوين و القطع عن الإضافة، و التقدير من كل نوع من الحيوان، و السلوك فيها الإدخال في الفلك و الظاهر أن {مِنْ} لابتداء الغاية و المعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر و أنثى من كل نوع من الحيوان.
و قوله: {وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ} معطوف على قوله: {زَوْجَيْنِ}
و ما قيل: إن عطف {أَهْلَكَ} على {زَوْجَيْنِ} يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: و اسلك فيها من كل نوع أهلك فالأولى تقدير {فَاسْلُكْ} ثانيا قبل {أَهْلَكَ} و عطفه على {فَاسْلُكْ} يدفعه أن {مِنْ كُلٍّ} في موضع الحال من {زَوْجَيْنِ} فهو متأخر عنه رتبة كما قدمنا تقديره فلا يعود ثانيا على المعطوف.
و المراد بالأهل خاصته، و الظاهر أنهم أهل بيته و المؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الأهل و لم يذكر هاهنا إلا الأهل فقط.
و المراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوح (عليه السلام) و هي و ابنه الذي أبى ركوب السفينة و غرق حينما آوى إلى جبل في الحقيقة، و سبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق.
و قوله: {وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالذين ظلموا و تعليل النهي بقوله: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} فكأنه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلا أن تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولا لا يدفعه دافع.
قوله تعالى: {فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ} إلى آخر الآيتين علمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين و هذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتما، و أن يسأله أن ينجيه من الطوفان و ينزله على الأرض إنزالا مباركا ذا خير كثير ثابت فإنه خير المنزلين.
و في أمره (عليه السلام) أن يحمده و يصفه بالجميل دليل على أنه من عباده المخلصين فإنه تعالى منزه عما يصفه غيرهم كما قال: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: ١٦٠.
و قد اكتفى سبحانه في القصة بإخباره عن حكمه بغرقهم و أنهم مغرقون حتما و لم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنهم آل بهم الأمر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، و إعظاما للقدرة و تهويلا للسخطة و تحقيرا لهم و استهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصة الآتية: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} من وجوه.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} خطاب في آخر القصة للنبي
(صلى الله عليه وآله و سلم) و بيان أن هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاء أي امتحانا و اختبارا إليها.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} إلى آخر الآية الثانية. القرن أهل عصر واحد، و قوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ} تفسير لإرسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا} حم السجدة: ٣٠.
قوله تعالى: {قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} هؤلاء أشرافهم المتوغلون في الدنيا المخلدون إلى الأرض يغرون بقولهم هذا عامتهم على رسولهم.
و قد وصفهم الله بصفات ثلاث و هي: الكفر بالله بعبادة غيره، و التكذيب بلقاء الآخرة أي بلقاء الحياة الآخرة بقرينة مقابلتها لقوله: {فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} ، و لكفرهم بالمبدإ و المعاد انقطعوا عما وراء الدنيا فانكبوا عليها ثم لما أترفوا في الحياة الدنيا و تمكنوا من زخارفها و زيناتها الملذة اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتبعوا الهوى و نسوا كل حق و حقيقة، و لذلك تفوهوا تارة بنفي التوحيد و الرسالة و تارة بإنكار المعاد و تارة رد الدعوة بإضرارها دنياهم و حريتهم في اتباع هواهم.
فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} يريدون به تكذيبه في دعوته و دعواه الرسالة على ما مر من تقرير حجتهم في قصة نوح السابقة.
و في استدلالهم على بشريته و مساواته سائر الناس بأكله و شربه مثل الناس و ذلك من خاصة مطلق الحيوان دليل على أنهم ما كانوا يرون للإنسان إلا كمال الحيوان و لا فضيلة إلا في الأكل و الشرب و لا سعادة إلا في التمكن من التوسع و الاسترسال من اللذائذ الحيوانية كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ} الأعراف: ١٧٩، و قال: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ اَلْأَنْعَامُ} سورة محمد: ١٢.
و تارة قالوا: {وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} و هو في معنى قولهم في القصة السابقة: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} يريدون به أن في اتباعه و إطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشرا مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم و بطلان سعادتكم في
الحياة إذ لا حياة إلا الحياة الدنيا و لا سعادة فيها إلا الحرية في التمتع من لذائذها، و في طاعة من لا فضل له عليكم رقيتكم و زوال حريتكم و هو الخسران.
و تارة قالوا: {أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرَاباً وَ عِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي مبعوثون من قبوركم للحساب و الجزاء {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} و هيهات كلمة استبعاد و في تكراره مبالغة في الاستبعاد {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا} أي يموت قوم منا في الدنيا و يحيا آخرون فيها لا نزال كذلك {وَ مَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} للحياة في دار أخرى وراء الدنيا.
و يمكن أن يحمل قولهم: {نَمُوتُ وَ نَحْيَا} على التناسخ و هو خروج الروح بالموت من بدن و تعلقها ببدن آخر إنساني أو غير إنساني فإن التناسخ مذهب شائع عند الوثنيين و ربما عبروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنه لا يلائم سياق الآيات كثير ملائمة.
و تارة قالوا: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ اِفْتَرى عَلَى اَللَّهِ كَذِباً وَ مَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته و قد أنكروا التوحيد و المعاد قبل ذلك.
و مرادهم بقولهم: {نَحْنُ} أنفسهم و عامتهم أشركوا أنفسهم عامتهم لئلا يتهمهم العامة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، و يمكن أن يكون المراد به أنفسهم خاصة دون العامة و إنما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه.
و قد نشأت هذه الأقاويل من اجتماع الصفات التي وصفهم الله بها في أول الآيات و هي إنكار التوحيد و النبوة و المعاد و الإتراف في الحياة الدنيا.
و اعلم أن في قوله في صدر الآيات: {وَ قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنَاهُمْ} قدم قوله: {مِنْ قَوْمِهِ} على {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} بخلاف ما في القصة السابقة من قوله: {فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} لأنه لو وقع بعد {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} اختل به ترتيب الجمل المتوالية {كَفَرُوا} {وَ كَذَّبُوا} {وَ أَتْرَفْنَاهُمْ} و لو وقع بعد الجميع طال الفصل.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} تقدم تفسيره في القصة السابقة.
قوله تعالى: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} استجابة لدعوة الرسول و صيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، و قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} عن
بمعنى بعد و {عَمَّا} لتأكيد القلة و ضمير الجمع للقوم، و الكلام مؤكد بلام القسم و نون التأكيد، و المعنى: أقسم لتأخذنهم الندامة بعد قليل من الزمان بمشاهدة حلول العذاب.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ}، الباء في {بِالْحَقِّ} للمصاحبة و هو متعلق بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ} أي أخذتهم الصيحة أخذا مصاحبا للحق، أو للسببية، و الحق وصف أقيم مقام موصوفه المحذوف و التقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الأمر الحق أو القضاء الحق كما قال: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} المؤمن: ٧٨.
و الغثاء بضم الغين و ربما شددت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات و الورق و العيدان البالية، و قوله: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} إبعاد و لعن لهم أو دعاء عليهم.
و المعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماوية و هي العذاب فأهلكناهم و جعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعدا.
و لم يصرح باسم هؤلاء القوم الذين أنشأهم بعد قوم نوح ثم أهلكهم و لا باسم رسولهم، و ليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالح (عليه السلام) فقد ذكر الله سبحانه في قصتهم في مواضع من كلامه أنهم كانوا بعد قوم نوح و قد أهلكوا بالصيحة.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ} تقدم توضيح مضمون الآيتين كرارا.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}، إلى آخر الآية يقال: جاءوا تترى أي فرادى يتبع بعضهم بعضا، و منه التواتر و هو تتابع الشيء وترا و فرادى، و عن الأصمعي: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضا و بين الخبرين هنيهة انتهى.
و الكلام من تتمة قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً} و {ثُمَّ} للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، و القصة إجمال منتزع من قصص الرسل و أممهم بين أمة نوح و الأمة الناشئة بعدها و بين أمة موسى.
يقول تعالى: ثم أنشأنا بعد تلك الأمة الهالكة بالصيحة بعد أمة نوح قرونا و أمما آخرين و أرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلما جاء أمة رسولها المبعوث
منها إليها كذبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الأمم بعضا أي بالعذاب و جعلناهم أحاديث أي صيرناهم قصصا و أخبارا بعد ما كانوا أعيانا ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون.
و الآيات تدل على أنه كان من سنة الله إنشاء قرن بعد قرن و هدايتهم إلى الحق بإرسال رسول بعد رسول و هي سنة الابتلاء و الامتحان، و من سنة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثم من سنة الله ثانيا - و هي سنة المجازاة - تعذيب المكذبين و إتباع بعضهم بعضا.
و قوله: {وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أبلغ كلمة تفصح عن القهر الإلهي الذي يغشى أعداء الحق و المكذبين لدعوته حيث يمحو العين و يعفو الأثر و لا يبقى إلا الخبر.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسى وَ أَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ} الآيات هي العصا و اليد البيضاء و سائر الآيات التي أراها موسى فرعون و قومه، و السلطان المبين الحجة الواضحة، و تفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد.
قوله تعالى: {إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كَانُوا قَوْماً عَالِينَ} قيل: إنما ذكر ملأ فرعون و اكتفى بهم عن ذكر قومه لأنهم الأشراف المتبوعون و سائر القوم أتباع يتبعونهم.
و المراد بكونهم عالين أنهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل و استعبدوهم فالعلو في الأرض كناية عن التطاول على أهلها و قهرهم على الطاعة.
قوله تعالى: {فَقَالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَ قَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، و بكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما كما فضلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى: {لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ} ثم ختم تعالى القصة بذكر هلاكهم فقال: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ} ثم قال: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} و المراد بهم بنو إسرائيل لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون و ملئه.
قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنَاهُمَا إِلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ}
تقدم أن الآية هي ولادة عيسى (عليه السلام) الخارقة للعادة و إذ كانت أمرا قائما به و بأمه معا عدا جميعا آية واحدة.
و الإيواء من الأوي و أصله الرجوع ثم استعمل في رجوع الإنسان إلى مسكنه و مقره، و آواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له و الربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، و المعين الماء الجاري.
و المعنى: و جعلنا عيسى بن مريم و أمه مريم آية دالة على ربوبيتنا و أسكناهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار و ماء جار.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} خطاب لعامة الرسل بأكل الطيبات و كان المراد بالأكل منها الارتزاق بها بالتصرف فيها سواء كان بأكل أو غيره و هو استعمال شائع.
و السياق يشهد بأن في قوله: {كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} امتنانا منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه: {وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً} أمر بمقابلة المنة بصالح العمل و هو شكر للنعمة و في تعليله بقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذير لهم من مخالفة أمره و بعث إلى ملازمة التقوى.
قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} تقدم تفسير نظيرة الآية في سورة الأنبياء.
قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} في المجمع، أن التقطع و التقطيع بمعنى واحد، و الزبر بضمتين جمع زبور و هو الكتاب، و الكلام متفرع على ما تقدمه، و المعنى أن الله أرسل إليهم رسله تترى و الجميع أمة واحدة لهم رب واحد دعاهم إلى تقواه لكنهم لم يأتمروا بأمره و قطعوا أمرهم بينهم قطعا و جعلوه كتبا اختص بكل كتاب حزب و كل حزب بما لديهم فرحون.
و في قراءة ابن عامر {زُبُراً} بفتح الباء و هو جمع زبرة و هي الفرقة، و المعنى و تفرقوا في أمرهم جماعات و أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، و هي أرجح.
قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قال في المفردات،: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرها و جعل مثلا للجهالة التي يغمر صاحبها، انتهى. و في الآية تهديد
بالعذاب، و قد تقدمت إشارة إلى أن من سنته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، و في تنكير {حِينٍ} إشارة إلى إتيان العذاب الموعود بغتة.
(بحث روائي)
في نهج البلاغة: يا أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جل من قائل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}.
و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} الغثاء اليابس الهامد من نبات الأرض.
و فيه في قوله تعالى: {إِلىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ} قال: الربوة الحيرة و ذات قرار و معين الكوفة.
و في المجمع: {وَ آوَيْنَاهُمَا إِلىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَ مَعِينٍ} قيل: حيرة الكوفة و سوادها، و القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات: عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام)
أقول: و روي في الدر المنثور عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أن الربوة هي دمشق الشام، و روي أيضا عن ابن عساكر و غيره عن مرة البهزي عنه (صلی الله عليه و أله وسلم): أنها الرملة، و الروايات جميعا لا تخلو من الضعف.
و في المجمع: {يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا و أنه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} و قال: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن أحمد و مسلم و الترمذي و غيرهم عن أبي هريرة عنه (صلی الله عليه و أله وسلم).
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: على مذهب واحد.
و فيه في قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} قال: كل من اختار لنفسه دينا فهو فرح به.
[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٥٥ الی ٧٧]
{أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ ٥٦ إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ٥٧ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ٥٨ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ٥٩ وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ٦٠أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ ٦١ وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ٦٢ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ٦٣ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ٦٤ لاَ تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ ٦٥ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ٦٦ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ٦٧ أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ ٦٨ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٦٩ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ٧٠وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ٧١ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٧٢ وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٧٣ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ٧٤ وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَ كَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ٧٥ وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ ٧٦ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ٧٧}
(بيان)
الآيات متصلة بقوله السابق: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فإنه لما عقب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين و تحزبهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون أوعدهم بعذاب مؤجل لا مناص لهم عنه و لا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاءوا فسيغشاهم العذاب و لا محالة.
فنبههم في هذه الآيات أن توهمهم أن ما مدهم الله به من مال و بنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم و جهل بحقيقة الحال، و لو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفق الله المؤمنين له من الأعمال الصالحة و ما يترتب عليها من جزيل الأجر و عظيم الثواب في الدنيا و الآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها.
فالعذاب مدركهم لا محالة و الحجة تامة عليهم و لا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنونا مختل القول أو سؤاله منهم خرجا بل هم أهل عناد و لجاج لا يؤمنون بالحق حتى يأتيهم عذاب لا مرد له.
قوله تعالى: {أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرَاتِ
بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ} {نُمِدُّهُمْ} - بضم النون - من الإمداد و المد و الإمداد بمعنى واحد و هو تتميم نقص الشيء و حفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: و أكثر ما يستعمل الإمداد في المحبوب و المد في المكروه، فقوله {نُمِدُّهُمْ} من الإمداد المستعمل في المكروه و المسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنهم هي المال و البنون سورع لهم فيها.
و المعنى: أ يظن هؤلاء أن ما نعطيهم في مدة المهلة من مال و بنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبنا لأعمالهم أو كرامتهم علينا؟.
لا، بل لا يشعرون أي إن الأمر على خلاف ما يظنون و هم في جهل بحقيقة الأمر و هو أن ذلك إملاء منا و استدراج و إنما نمدهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} الأعراف: ١٨٣.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إلى آخر الآيات الخمس، يبين تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدم أن الذي يظن هؤلاء الكفار أن المال و البنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شيء بل استدراج و إملاء و إنما الخيرات التي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله و رسله و اليوم الآخر الصالحين في أعمالهم.
فأفصح تعالى عن وصفهم فقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى: {وَ هُمْ مِنَ اَلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} {مُشْفِقُونَ مِنْهَا} انتهى.
و الآية تصفهم بأنهم اتخذوا الله سبحانه ربا يملكهم و يدبر أمرهم، و لازم ذلك أن يكون النجاة و الهلاك دائرين مدار رضاه و سخطه يخشونه في أمر يحبونه و هو نجاتهم و سعادتهم فهم مشفقون من خشيته و هذا هو الذي يبعثهم إلى الإيمان بآياته و عبادته، و قد ظهر بما مر من المعنى أن الجمع في الآية بين الخشية و الإشفاق ليس تكرارا مستدركا.
ثم قال: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} و هي كل ما يدل عليه تعالى بوجه
و من ذلك رسله الحاملون لرسالته و ما أيدوا به من كتاب و غيره و ما جاءوا به من شريعة لأن إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه و يحملهم على إجابته إلى ما يدعوهم إليه و ائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي و الرسالة.
ثم قال: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} و الإيمان بآياته هو الذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإن الإيمان بها إيمان بالشريعة التي شرعت عبادته تعالى و الحجج التي دلت على توحده في ربوبيته و ألوهيته.
على أن جميع الرسل و الأنبياء (عليهم السلام) إنما جاءوا من قبله و إرسال الرسل لهداية الناس إلى الحق الذي فيه سعادتهم من شئون الربوبية، و لو كان له شريك لأرسل رسولا، و من لطيف كلام علي (عليه أفضل السلام) قوله: لو كان لربك شريك لأتتك رسله.
ثم قال: {وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} الوجل الخوف، و قوله: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أي يعطون ما أعطوا من المال بالإنفاق في سبيل الله و قيل: المراد بإيتاء ما آتوا إتيانهم بكل عمل صالح، و قوله: {وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حال من فاعل {يُؤْتُونَ}.
و المعنى: و الذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالأعمال الصالحة و الحال أن قلوبهم خائفة من أنهم سيرجعون إلى ربهم أي إن الباعث لهم على الإنفاق في سبيل الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربهم على وجل منه.
و في الآية دلالة على إيمانهم باليوم الآخر و إتيانهم بصالح العمل و عند ذلك تعينت صفاتهم أنهم الذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له و برسله و باليوم الآخر و يعملون الصالحات.
ثم قال: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ} الظاهر أن اللام في {لَهَا} بمعنى «إلى» و {لَهَا} متعلق بسابقون، و المعنى أولئك الذين وصفناهم هم يسارعون في الخيرات من الأعمال و هم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لأن ذلك لازم كون كل منهم مريدا للسبق إليها.
فقد بيّن في الآيات أن الخيرات هي الأعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحق الذي عند هؤلاء المؤمنين و هم يسارعون فيها و ليست الخيرات ما عند أولئك الكفار
و هم يعدونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات.
قال في التفسير الكبير: و فيه يعني قوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ} وجهان: أحدهما: أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها و لكيلا تفوتهم دون الاحترام.
و الثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع و وجوه الإكرام كما قال: {فَآتَاهُمُ اَللَّهُ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا وَ حُسْنَ ثَوَابِ اَلْآخِرَةِ} {وَ آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ} لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها و تعجلوها و هذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين. انتهى.
أقول: إن الذي نفي عن الكفار في الآية المتقدمة هو مسارعة الله للكفار في الخيرات و الذي أثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة المؤمنين في الخيرات، و الذي وجهه في هذا الوجه أن مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه فيبقى عليه أن يبين الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى و تبديلها منها، و وجهه بعضهم بأن تغيير الأسلوب للإيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، و هو كما ترى.
و الظاهر أن هذا التبديل إنما هو في قوله في الآية المتقدمة: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرَاتِ} و المراد بيان أنهم يحسبون أن ما نمدهم به من مال و بنين خيرات يتسارعون إليها لكرامتهم و هم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثم نفيت بالاستفهام الإنكاري، و أثبت ما يقابله على الأصل للمؤمنين.
فمحصل هذا النفي و الإثبات أن المال و البنين ليست خيرات يتسارعون إليها و لا هم مسارعون إلى الخيرات بل الأعمال الصالحة و آثارها الحسنة هي الخيرات و المؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات.
قوله تعالى: {وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الذي يعطيه السياق أن في الآية ترغيبا و تحضيضا على ما ذكره من صفات المؤمنين و دفعا لما ربما ينصرف الناس بتوهمه عن التلبس بكرامتها من وجهين أحدهما
أن التلبس بها أمر سهل في وسع النفوس و ليس بذاك الصعب الشاق الذي يستوعره المترفون، و الثاني أن الله لا يضيع عملهم الصالح و لا ينسى أجرهم الجزيل.
فقوله: {وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} نفي للتكليف الحرجي الخارج عن وسع النفوس أما في الاعتقاد فإنه تعالى نصب حججا ظاهرة و آيات باهرة تدل على ما يريد الإيمان به من حقائق المعارف و جهز الإنسان بما من شأنه أن يدركها و يصدق بها و هو العقل ثم راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوة الإدراك و ضعفه فأراد من كل ما يناسب مقدار تحمله و طوقه فلم يرد من العامة ما يريده من الخاصة و لم يسأل الأبرار عما سأل عنه المقربين و لا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين.
و أما في العمل فإنما ندب الإنسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفردية و الاجتماعية الدنيوية و سعادته في حياته الأخروية، و من المعلوم أن خير كل نوع من الأنواع و منها الإنسان إنما يكون فيما يتم به حياته و ينتفع به في عيشته و هو مجهز بما يقوى على إتيانه و عمله، و ما هذا شأنه لا يكون حرجيا خارجا عن الوسع و الطاقة.
فلا تكليف حرجيا في دين الله بمعنى الحكم الحرجي في تشريعه مبنيا على مصلحة حرجية، و بذلك امتن الله سبحانه على عباده، و طيب نفوسهم و رغبهم إلى ما وصفه من حال المؤمنين.
و الآية {وَ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} تدل على ذلك و زيادة فإنها تدل على نفي التكليف المبني على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانية و التقرب بذبح الأولاد مثلا، و نفي التكليف الذي هو في نفسه غير حرجي لكن اتفق أن صار بعض مصاديقه حرجيا لخصوصية في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الذي لا يستطيعه فالجميع منفي بالآية و إن كان الامتنان و الترغيب المذكوران يتمان بنفي القسم الأول.
و الدليل عليه في الآية تعلق نفي التكليف بقوله: {نَفْساً} و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و عليه فأي نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلف إلا وسعها و لا يتعلق بها حكم حرجي سواء كان حرجيا من أصله أو صار حرجيا في خصوص المورد.
و قد ظهر أن في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول و رفعا للحرج سواء كان في أصل الحكم أو طارئا عليه.
و قوله: {وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ترغيب لهم بتطييب
نفوسهم بأن عملهم لا يضيع و أجرهم لا يتخلف و المراد بنطق الكتاب إعرابه عما أثبت فيه إعرابا لا لبس فيه و ذلك لأن أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلا بما هو حق فهو مصون عن الزيادة و النقيصة و التحريف، و الحساب مبني على ما أثبت فيه كما يشير إليه قوله: {يَنْطِقُ} و الجزاء مبني على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله: {وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو تغييره كما أنهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغير بوجه من وجوه التغير.
قال الرازي في التفسير الكبير: فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، و إن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب.
قلنا: يفعل الله ما يشاء، و على أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة. انتهى.
أقول: و الذي أجاب به مبني على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى و تجويز الإرادة الجزافية تعالى عن ذلك، و الإشكال مطرد في سائر شئون يوم القيامة التي أخبر الله سبحانه بها كالحشر و الجمع و إشهاد الشهود و نشر الكتب و الدواوين و الصراط و الميزان و الحساب.
و الجواب عن ذلك كله: أنه تعالى مثل لنا ما يجري على الإنسان يوم القيامة في صورة القضاء و الحكم الفصل، و لا غنى للقضاء بما أنه قضاء عن الاستناد إلى الحجج و البينات كالكتب و الشهود و الأمارات و الجمع بين المتخاصمين و لا يتم دون ذلك البتة.
نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الإنسان له في مراحل رجوعه إلى الله سبحانه بإذنه، فافهمه.
قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} المناسب لسياق الآيات أن يكون {هَذَا} إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال المؤمنين و مسارعتهم في الخيرات، و يمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيده
قوله بعد: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ} و الغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد الذي غمرهم، و قوله: {وَ لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} إلخ، أي من غير ما وصفناه من حال المؤمنين و هو كناية عن أن لهم شاغلا يشغلهم عن هذه الخيرات و الأعمال الصالحة و هو الأعمال الرديئة الخبيثة التي هم لها عاملون.
و المعنى: بل الكفار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الذي وصفنا به المؤمنين و لهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم و مانعتهم.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }الجؤار - بضم الجيم - صوت الوحش كالظباء و نحوها عند الفزع كني به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة و التضرع، و قيل: المراد به ضجتهم و جزعهم و الآيات التالية تؤيد المعنى الأول.
و إنما جعل مترفيهم متعلق العذاب لأن الكلام فيمن ذكره قبلا بقوله: {أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ} و هم الرؤساء المتنعمون منهم و غيرهم تابعون لهم.
قوله تعالى: {لاَ تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ} العدول عن سياق الغيبة إلى الخطاب لتشديد التوبيخ و التقريع و لقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة و أي رجاء و أمل لهم فيها فإن أخبار الوسائط أنهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع طمعهم في النصر كما يقطعه أخبار من إليه النصر نفسه.
قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ} - الي قوله - { تَهْجُرُونَ} النكوص: الرجوع القهقرى، و السامر من السمر و هو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على المفرد و الجمع، و قرئ «سمرا» بضم السين و تشديد الميم جمع سامر و هو أرجح، و قرئ أيضا «سمارا» بالضم و التشديد ، و الهجر: الهذيان.
و الفصل في قوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} إلخ، لكونه في مقام التعليل، و المعنى: إنكم منا لا تنصرون لأنه قد كانت آياتي تتلى و تقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها و ترجعون إلى أعقابكم القهقرى مستكبرين بنكوصكم تحدثون في أمره في الليل تهجرون و تهذون، و قيل: ضمير {بِهِ} عائد إلى البيت أو الحرم و هو كما ترى.
قوله تعالى: {أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ} شروع في قطع أعذارهم في الإعراض عن القرآن النازل لهدايتهم و عدم استجابتهم للدعوة الحقة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
فقوله: {أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ} الاستفهام فيه للإنكار و اللام في {اَلْقَوْلَ} للعهد و المراد به القرآن المتلو عليهم، و الكلام متفرع على ما تقدمه من كونهم في غفلة منه و شغل يشغلهم عنه، و المعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبروا هذا القول المتلو عليهم حتى يعلموا أنه حق من عند الله فيؤمنوا به.
و قوله: {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ} {أَمْ} فيه و فيما بعده منقطعة في معنى الإضراب، و المعنى: بل أ جاءهم شيء لم يأت آباءهم الأولين فيكون بدعا ينكر و يحترز منه.
و كون الشيء بدعا محدثا لا يعرفه السابقون و إن لم يستلزم كونه باطلا غير حق على نحو الكلية لكن الرسالة الإلهية لما كانت لغرض الهداية لو صحت وجبت في حق الجميع فلو لم يأت الأولين كان ذلك حجة قاطعة على بطلانها.
قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} المراد بمعرفة الرسول معرفته بنسبه و حسبه و بالجملة بسجاياه الروحية و ملكاته النفسية من اكتسابية و موروثة حتى يتبين به أنه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيد من عند الله و قد عرفوا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سوابق حاله قبل البعثة، و قد كان يتيما فاقدا للأبوين لم يقرأ و لم يكتب و لم يأخذ أدبا من مؤدب و لا تربية من مرب ثم لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي و لا طمعا في ملك أو حرصا على مال أو ولعا بجاه، و هو على ما هو سنين من عمره فإذا هو ينادي للفلاح و السعادة و يندب إلى حقائق و معارف تبهر العقول و يدعو إلى شريعة تحير الألباب و يتلو كتابا.
فهم قد عرفوا رسولهم (صلی الله عليه و أله وسلم) بنعوته الخاصة المعجزة لغيره، و لو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذرا في إعراضهم عن دينه و استنكافهم عن الإيمان به لأن معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه، و من المعلوم أن إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه مما لا يجوزه العقل.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} و هذا عذر آخر لهم تشبثوا به إذ قالوا: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} الحجر: ٦ ذكره و رده بلازم قوله: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}.
فمدلول قوله: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} إضراب عن جملة
محذوفة و التقدير إنهم كاذبون في قولهم. {بِهِ جِنَّةٌ} و اعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنما كرهوا الإيمان به لأنه جاء بالحق و أكثرهم للحق كارهون.
و لازمه رد قولهم بحجة يلوح إليها هذا الإضراب، و هي أن قولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} لو كان حقا كان كلامه مختل النظم غير مستقيم المعنى مدخولا فيه كما هو مدخول في عقله، غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلا إلى حق، و لا يأتي إلا بحق، و أين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد و لا يشعر بما يقول.
و إنما نسب الكراهة إلى أكثرهم لأن فيهم مستضعفين لا يعبأ بهم أرادوا أو كرهوا.
قوله تعالى: {وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} لما ذكر أن أكثرهم للحق كارهون و إنما يكرهون الحق لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحق أي الدعوة الحقة أن يتبع أهواءهم و هذا مما لا يكون البتة.
إذ لو اتبع الحق أهواءهم فتركوا و ما يهوونه من الاعتقاد و العمل فعبدوا الأصنام و اتخذوا الأرباب و نفوا الرسالة و المعاد و اقترفوا ما أرادوه من الفحشاء و المنكر و الفساد جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة و النظام الذي يجري فيها بالحق إذ ليس بين الحق و الحق فرق فأعطي كل منهم ما يشتهيه من جريان النظام و فيه فساد السماوات و الأرض و من فيهن و اختلال النظام و انتقاض القوانين الكلية الجارية في الكون فمن البين أن الهوى لا يقف على حد و لا يستقر على قرار.
و بتقرير آخر أدق و أوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيم أن الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام و له في نوعيته غاية هي سعادته و قد خط له طريق إلى سعادته و كماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نظير غيره من الأنواع الموجودة، و قد جهزه الكون العام و خلقته الخاصة به من القوى و الآلات بما يناسب سعادته و الطريق المنصوب إليها و هي الاعتقاد و العمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.
فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته أعني الاعتقادات و الأعمال الخاصة المتوسطة بينه و بين سعادته و هي التي تسمى الدين و سنة الحياة متعينة حسب
اقتضاء النظام العام الكوني و النظام الخاص الإنساني الذي نسميه الفطرة و تابعة لذلك.
و هذا هو الذي يشير تعالى إليه بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} سورة الروم: ٣٠.
فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق و تكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق، و هذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الإنساني و تدبره و تسوقه إلى غاياته و هو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتما مقضيا.
فلو اتبع الحق أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه و تبدل العلل و الأسباب غيرها و تغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، و في ذلك فساد السماوات و الأرض و من فيهن في أنفسها و التدبير الجاري فيها لأن كينونتها و تدبيرها مختلطان غير متمايزين، و الخلق و الأمر متصلان غير منفصلين.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله: {وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ}.
و قوله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} لا ريب أن المراد بالذكر هو القرآن كما قال: {وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} الأنبياء: ٥٠، و قال: {وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ} الزخرف: ٤٤ إلى غير ذلك من الآيات، و لعل التعبير عنه بالذكر بعد قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} نوع مقابلة لقولهم: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} الحجر: ٦.
و كيف كان فقد سمي ذكرا لأنه يذكرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد الحق و العمل الصالح، و الثاني أوفق لصدر الآية بما تقدم من معناه، و إنما أضيف إليهم لأن الدين أعني الدعوة الحقة مختلفة بالنسبة إلى الناس بالإجمال و التفصيل و الذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع.
و المعنى: لم يتبع الحق أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكرهم - أو يذكرون به - دينهم الذي يختص بهم و يتفرع عليه أنهم عن دينهم الخاص بهم معرضون.
و قال كثير منهم إن إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله: {وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ} الزخرف: ٤٤، و المعنى: بل أتيناهم بفخرهم و شرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم و شرفهم أنفسهم معرضون.
و فيه أنه لا ريب في أن القرآن الكريم شرف للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ أنزل عليه و لأهل بيته إذ نزل في بيتهم، و للعرب إذ نزل بلغتهم و للأمة إذ نزل لهدايتهم غير أن الإضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا الدين بهذه الأمة و هو الأوفق لصدر الآية بالمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ}، قال في مجمع البيان: أصل الخراج و الخرج واحد و هو الغلة التي يخرج على سبيل الوظيفة انتهى.
و هذا رابع الأعذار التي ذكرت في هذه الآيات و ردت و وبخوا عليها و قد ذكره الله بقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} أي مالا يدفعونه إليك على سبيل الرسم و الوظيفة ثم ذكر غنى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ} أي إن الله هو رازقك و لا حاجة لك إلى خرجهم، و قد تكرر الأمر بإعلامهم ذلك في الآيات {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} الأنعام: ٩٠الشورى: ٢٣.
و قد تمت بما ذكر في الآية أربعة من الأعذار المردودة إليهم و هي مختلفة فأولها {أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ} راجع إلى القرآن و الثاني {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ} إلى الدين الذي إليه الدعوة، و الثالث {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} إلى نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الرابع {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} إلى سيرته.
قوله تعالى: {وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} النكب و النكوب العدول عن الطريق و الميل عن الشيء.
قد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا يختلف و لا يتخلف في حكمه و هو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، و هذه صفة الحق فإن الحق واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض و التدافع و لا يتخلف في مطلوبه الذي يهدي إليه فالحق صراط مستقيم، و إذ ذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يهدي إلى الحق كان لازمه هذا الذي ذكره أنه يهدي إلى صراط مستقيم.
ثم إن الذين كفروا لما كانوا كارهين للحق كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي الصراط المستقيم مائلون إلى غيره.
و إنما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة و اقتصر عليه لأن دين الحق مبني على أساس أن للإنسان حياة خالدة لا تبطل بالموت و له فيها سعادة يجب أن تقتنى بالاعتقاد الحق و العمل الصالح و شقاوة يجب أن تجتنب و هؤلاء لنفيهم الحياة الآخرة يعدلون عن الحق و الصراط المستقيم.
و بتقرير آخر: دين الحق مجموع تكاليف اعتقادية و عملية و التكليف لا يتم إلا بحساب و جزاء، و قد عين لذلك يوم القيامة، و إذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغا الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلا الحياة الدنيا المادية و لا يبقى من السعادة عندهم إلا نيل اللذائذ المادية و هو التمتع بالبطن فما دونه، و لازم ذلك أن يكون المتبع عندهم الهوى وافق الحق أو خالفه.
فمحصل الآيتين أنهم ليسوا بمؤمنين بك لأنك تدعو إلى صراط مستقيم و هم لا هم لهم إلا العدول و الميل عنه.
قوله تعالى: {وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَ كَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} - الي قوله - {وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ} اللجاج التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، و العمه التردد في الأمر من التحير، ذكرهما الراغب، و في المجمع: الاستكانة الخضوع و هو استفعل من الكون، و المعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. انتهى.
و قوله: {وَ لَوْ رَحِمْنَاهُمْ} بيان و تأييد لنكوبهم عن الصراط بأنا لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصروا على تمردهم عن الحق و تمادوا يترددون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضر كما لا ينفعهم تخويف بعذاب و نقمة فإنا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربهم و ما يتضرعون إليه فهؤلاء لا ينفعهم و لا يركبهم صراط الحق لا رحمة بكشف الضر و لا نقمة و تخويف بالأخذ بالعذاب.
و المراد بالعذاب العذاب الخفيف الذي لا ينقطع به الإنسان عن عامة الأسباب بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أن الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار و الانقطاع
عن الأسباب من غريزيات الإنسان كما تكرر ذكره في القرآن الكريم فكيف يمكن أن يأخذهم العذاب ثم لا يستكينوا و لا يتضرعوا؟.
و قوله في الآية الأولى: {مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} و في الثانية: {وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} يدل على أن الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع و لما يرتفع حين نزول الآيات، و من المحتمل أنه الجدب الذي ابتلي به أهل مكة و قد ورد ذكر منه في الروايات.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي هم على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة و لا عذاب حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد و هو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة على ما يعطيه سياق الآيات و خاصة الآيات الآتية فيفاجئوهم الإبلاس و اليأس من كل خير.
و قد ختم هذا الفصل من الكلام أعني قوله: {أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ} إلخ بنظير ما ختم به الفصل السابق أعني قوله: {أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ} إلى آخر الآيات و هو ذكر عذاب الآخرة، و سيعود إليه ثانيا.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} - الي قوله - {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} قال من العبادة و الطاعة.
و في الدر المنثور أخرج الفاريابي و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و ابن ماجة و ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله: {وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أ هو الرجل يزني و يسرق و يشرب الخمرو هو مع ذلك يخاف الله؟ قال: لا و لكن الرجل يصوم و يتصدق و يصلي و هو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه.
و في المجمع في قوله: {وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه خائفة أن لا يقبل منهم، و في رواية أخرى: أتى و هو خائف راج.
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن قتادة:
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} قال ذكر لنا أنها نزلت في الذين قتل الله يوم بدر.
أقول: و روي مثله عن النسائي عن ابن عباس و لفظه قال: هم أهل بدر، و سياق الآيات لا ينطبق على مضمون الروايتين.
و فيه أخرج النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال :جاء أبو سفيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد أنشدك الله و الرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله: {وَ لَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ}.
أقول: و الروايات في هذا المعنى مختلفة و ما أوردناه أعدلها و هي تشير إلى جدب وقع بمكة و حواليها بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ظاهر أكثرها أنه كان بعد الهجرة، و لا يوافق ذلك الاعتبار.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} قال: الحق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام).
أقول: هو من البطن بالمعنى الذي تقدم في بحث المحكم و المتشابه و نظيره ما أورده :في قوله: {وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال إلى ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و كذا ما أورده :في قوله: {عَنِ اَلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} قال: عن الإمام لحادون.
و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ} يقول: أم تسألهم أجرا فأجر ربك خير.
و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ} فقال: الاستكانة هي الخضوع، و التضرع رفع اليدين و التضرع بهما.
و في المجمع و روي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : رفع الأيدي من الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال: أ ما تقرأ هذه الآية: {فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ}؟ أورده الثعلبي و الواحدي في تفسيريهما.
و فيه قال أبو عبد الله (عليه السلام): الاستكانة الدعاء، و التضرع رفع اليدين في الصلاة.
و في الدر المنثور أخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب: في قوله:
{فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ} أي لم يتواضعوا في الدعاء و لم يخضعوا و لو خضعوا لله لاستجاب لهم.
و في المجمع في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال أبو جعفر (عليه السلام) هو في الرجعة.
[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٧٨ الی ٩٨]
{وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ٧٨ وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٧٩ وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلاَفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٨٠بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ اَلْأَوَّلُونَ ٨١ قَالُوا أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ٨٢ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٨٣ قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٤ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٨٥ قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ ٨٧ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ٨٩ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ٩٠مَا اِتَّخَذَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٩١ عَالِمِ اَلْغَيْبِ
وَ اَلشَّهَادَةِ فَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٩٢ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ٩٣ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٩٤ وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ٩٥ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ٩٦ وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ اَلشَّيَاطِينِ ٩٧ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ٩٨}
(بيان)
لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له و لا مخلص منه، و رد عليهم كل عذر يمكنهم أن يعتذروا به، و بين أن السبب الوحيد لكفرهم بالله و اليوم الآخر هو اتباع الهوى و كراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية و على رجوع الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للإنكار إليها.
و عقب ذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الذي أوعدوا به، و أن يعوذ به من همزات الشيطان و أن يحضروه كما فعلوا بهم.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} افتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع و البصر و هما نعمتان خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء و إبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الأنواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات و الجماد و العناصر.
و بحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا و يتسع مجال فعاليته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره و شره و نافعه و ضاره و يعطي معهما الحركة الإرادية إلى ما يريده و عما يكرهه، و يستقر في عالم حديث طري فيه مجالي الجمال و اللذة و العزة و الغلبة و المحبة مما لا خبر عنه فيما قبله.
و إنما اقتصر من الحواس بالسمع و البصر - قيل - لأن الاستدلال يتوقف عليهما و يتم بهما.
ثم ذكر سبحانه الفؤاد و المراد به المبدأ الذي يعقل من الإنسان و هو نعمة خاصة بالإنسان من بين سائر الحيوان و مرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع درجة و أعلى منزلة و أوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا الإنسان يدرك بهما ما غاب و ما حضر و ما مضى و ما غبر من أخبار الأشياء و آثارها و أوصافها بعلاج و غير علاج.
ثم يرقى بفؤاده أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات و الجزئيات فيتعقل الكليات فيحصل القوانين الكلية، و يغور متفكرا في العلوم النظرية و المعارف الحقيقية، و ينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات و الأرض.
ففي ذلك كله من عجيب التدبير الإلهي بإنشاء السمع و الأبصار و الأفئدة ما لا يسع الإنسان أن يستوفي شكره.
و قوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} فيه بعض العتاب و معناه تشكرون شكرا قليلا فقوله: {قَلِيلاً} وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم. و قال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. انتهى.
فالمعنى: أنه لما جعلكم ذوي حس و عقل أظهر وجودكم في الأرض متعلقين بها ثم يجمعكم و يرجعكم إلى لقائه.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلاَفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} معنى الآية ظاهر، و قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ} مترتب بحسب المعنى على الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم و أظهر وجودكم في الأرض إلى حين حتى تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الإحياء و الإماتة إذ العلم متوقف على الحياة و الحشر متوقف على الموت.
و قوله: {وَ لَهُ اِخْتِلاَفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ} مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت لا تتم إلا بمرور الزمان و ورود الليل بعد النهار و النهار بعد الليل حتى ينقضي العمر و يحل الأجل المكتوب، هذا لو أريد باختلاف الليل و النهار و ورود الواحد منها بعد الواحد، و لو أريد به اختلافهما في الطول و القصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول
السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل و النهار و قصرهما و بذلك يتم أمر إرزاق الحيوان و تدبير معاشها كما قال: {وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} حم السجدة: ١٠.
فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع و البصر و الفؤاد و هو الحس و العقل للإنسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة و سكونا في الأرض إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، و هو يستتبع حياة و موتا، و ذلك يستتبع عمرا متقضيا بانقضاء الزمان و رزقا يرتزق به.
فالآيات الثلاث تتضمن إشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الإنسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربه، و الله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لأن هذا التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق و الإيجاد و لا ينحاز عنه، و هو نظام الفعل و الانفعال الجاري بين الأشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لأمرهم و إليه يحشرون، و قوله: {أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ لهم و حث على التنبه فالإيمان.
قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ اَلْأَوَّلُونَ} إضراب عن نفي سابق يدل عليه الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا و كذا.
و في تشبيه قولهم بقول الأولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق و أوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى و هو نفي المعاد، و الإخلاص إلى الأرض و الانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخراهم و أولاهم.
قوله تعالى: {قَالُوا أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بيان لقوله: {قَالُوا} في الآية السابقة و الكلام مبني على الاستبعاد.
قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ} الأساطير الأباطيل و الأحاديث الخرافية و هي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة و أعاجيب جمع أعجوبة و إطلاق الأساطير و هو جمع على البعث و هو مفرد بعناية أنه مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالإحياء و الجمع و الحشر و الحساب و الجنة و النار و غيرها، و الإشارة بهذا إلى حديث البعث و قوله: {مِنْ قَبْلُ}، متعلق بقوله: {وُعِدْنَا} على ما يعطيه سياق الجملة.
و المعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن و آباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها و نظمها الأناسي الأولون في صورة إحياء الأموات و حساب الأعمال و الجنة و النار و الثواب و العقاب.
و الدليل على كونها أساطير أن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا و يخوفوننا بقيام الساعة و لو كان حقا غير خرافي لوقع.
و من هنا يظهر أولا أن قولهم: {مِنْ قَبْلُ} لتمهيد الحجة على قولهم بعده {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ}.
و ثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: {أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} مبنية على الاستبعاد و هذه الآية متضمنة للإنكار مبنيا على حجة واهية.
قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لما ذكر استبعادهم للبعث ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك و الربوبية و السلطنة، و وجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث و هم معترفون به تعالى بمعنى أنه الموجد للعالم و رب الأرباب و الآلهة المعبودون دونه من خلقه، و لذا أخذ وجوده تعالى مسلما في ضمن الحجة.
فقوله: {قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم عن مالك الأرض و من فيها من أولي العقل من هو؟ و معلوم أن السؤال إنما هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل الشيء المملوك عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع و هو يقبل الصحة و الفساد و يقع موردا للبيع و الشري، و ذلك لأن الكلام مسوق لإثبات صحة جميع التصرفات التكوينية و ملاكها الملك التكويني الحقيقي دون التشريعي الاعتباري.
قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} إخبار عن جوابهم و هو أن الأرض و من فيها مملوكة لله، و لا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، و العلة الموجدة للأرض و من فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتى باعتراف الوثنيين.
و قوله: {قُلْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ} أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم
تذكرهم بالحجة الدالة على إمكان البعث، و المعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الأرض و من فيها لم لا تتذكرون أن له - لمكان مالكيته - أن يتصرف في أهلها بالإحياء بعد الإماتة.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ} أمره ثانيا أن يسألهم عن رب السماوات السبع و رب العرش العظيم من هو؟.
و المراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الأمور و يصدر عنه كل تدبير، و تكرار لفظ الرب في قوله: {وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ} للإشارة إلى أهمية أمره و رفعة محله كما وصفه الله بالعظمة، و قد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب.
ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع و قولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار و من رب الدار فقوله تعالى: {مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ}؟ سؤال عن مالكها، و لذا حكى الجواب عنهم بقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} على المعنى و لو أنه أجيب عنه فقيل: «الله» كما في القراءة الأخرى كان جوابا على اللفظ.
و فيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب الشيء هو مالكه المدبر لأمره بالتصرف فيه فيكون الربوبية أخص من الملك، و لو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين {قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهَا} - إلى قوله - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} إذ كان معنى السؤال: من رب الأرض و من فيها، و من المعلوم أنهم كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الله للأرض و من فيها فكان جوابهم إثبات الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه و هذا بخلاف السؤال عن مالك الأرض و من فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لأنهم كانوا يرون الإيجاد لله و الملك لازم الإيجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.
ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الإشكال إلى ترتب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها {قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ } - إلى قوله - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} فإن جل الوثنيين من الصابئين و غيرهم يرون للسماوات و ما فيها من الشمس و القمر و غيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات
أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به.
و الذي يحسم أصل الإشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا يبنون آراءهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال الصابئين و البرهمائيين و البوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع و أقسام كأمر السماء و الأرض و أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و غير ذلك و يثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله و يعدونه شفيعا مقربا ثم يتخذون له صنما يمثله.
و أما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية و القاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنية على قواعد مضبوطة و ربما كانوا يرون للمعمورة من الأرض و سكانها آلهة دون الله لها أصنام و ربما رأوا نفس الأصنام المصنوعة آلهة، و أما السماوات و السماويات و كذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه و الله ربها كما يلوح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلَهِ مُوسى} المؤمن: ٣٧، فإن ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى و هو الله تعالى إله السماء و بالجملة السماوات و ما فيهن و من فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم الملائكة أرباب لما دون السماوات.
و أما الصابئون و من يحذو حذوهم فإنهم - كما سمعت - يرون للسماوات و ما فيهن من النجوم و الكواكب آلهة و أربابا من دون الله و هم الملائكة و الجن و هم يرون الملائكة و الجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، و حينما يعدونهم ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم و هو العالم السماوي العلوي الذي فيه تتقدر الأمور و منه ينزل القضاء و به تستمد الأسباب الطبيعية، و هو بما فيه من الملائكة و غيرهم مربوب لله سبحانه و إن كان من فيه آلهة للعالم الحسي و أربابا لمن فيه و الله رب الأرباب.
إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما عرفت.
و إن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يرى للسماء إلها دون الله كان المراد بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة و الجن دون السماوات المادية، و يؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الأحكام المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم و آلهتهم، و من المعلوم أن لا رب لمقام هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شيء دونه.
و هذا العالم العلوي هو عندهم عالم الأرباب و الآلهة لا رب له إلا الله سبحانه فالسؤال عن ربه و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه.
فمعنى الآية - و الله أعلم - قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار الأمور و أقضيتها و رب العرش العظيم الذي منه يصدر الأحكام لعامة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم؟ فإنهم و ما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله و هو الذي ملكهم ما ملكوه.
قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلاَ تَتَّقُونَ} حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن السماوات السبع و العرش العظيم لله سبحانه.
و المعنى: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الأمر و العرش العظيم منه يصدر الأمر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه إذ تنكرون البعث و تعدونه من أساطير الأولين و تسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم به؟ فإن له تعالى أن يصدر الأمر ببعث الأموات و إنشاء النشأة الآخرة للإنسان و ينزل الأمر به من السماء.
و من لطيف تعبير الآية التعبير بقوله: {لِلَّهِ} فإن الحجة تتم بالملك و إن لم يعترفوا بالربوبية.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة و الحكم، و يفيد مبالغة في معناه و الفرق بين الملك بالفتح و الكسر و بين المالك أن المالك هو الذي يملك المال و الملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك و له التصرف بالحكم في المال و مالكه.
و قد فسر تعالى ملكوته بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} يس - ٨٣، فملكوت كل شيء هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن و بعبارة أخرى وجوده عن إيجاده تعالى.
فكون ملكوت كل شيء بيده كناية استعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق عليه الشيء به تعالى كما قال: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الزمر: ٦٢، فملكه تعالى محيط بكل شيء و نفوذ أمره و مضي حكمه ثابت على كل شيء.
و لما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك و نفوذ الأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الأسباب و العلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما يريده تمم قوله: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} بقوله: {وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} و هو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشيء شيء من الملك في عرض ملكه و لو بالمنع و الإخلال و الاعتراض فله الملك و له الحكم.
و قوله: {وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} من الجوار، و هو في أصله قرب المسكن ثم جعلوا للجوار حقا و هو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار و اشتق منه الأفعال يقال: استجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء.
و هذا جار في جميع أفعاله تعالى فما من شيء يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا و هو يحفظه على ما يريد و بمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع لو فرض إنما هو بإذن منه و مشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه و تحديدا لفعل منه بفعل آخر، و ما من سبب من الأسباب يفعل فعلا إلا و له تعالى أن يتصرف فيه بما لا يريده لأنه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من بعضه.
فالمراد بقوله: {وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أنه يمنع السوء عمن قصد به و لا يمنعه شيء إذا أراد شيئا بسوء عما أراد.
و معنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شيء بما له من الخواص و الآثار و هو يحمي من استجار به و لا يحمى عنه شيء إذا أراد شيئا بسوء؟ إن كنتم تعلمون.
قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشيء للإنسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.
و المعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإلى متى يخيل لكم الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة و يعيد الأموات للحساب و الجزاء بأمر يأمره و هو قوله: {كُنْ}.
و اعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، و المالك المتصرف هو الرب.
قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إضراب عن النفي المفهوم من الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، و المعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على البعث و هم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسان الرسل بالحق و إنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم و نفيهم للبعث.
قوله تعالى: {مَا اِتَّخَذَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ} إلخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون الملائكة أو بعضهم و بعض الجن و بعض القديسين من البشر أولادا لله سبحانه و تبعهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، و هذا النوع من الولادة و البنوة مبني على اشتمال الابن على شيء من حقيقة اللاهوت و جوهره و انفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله.
و أما البنوة الادعائية بالتبني و هو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شيء من حقيقة الأب كقول اليهود نحن أبناء الله و أحباؤه، و ليس الولد بهذا المعنى مرادا لأن الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، و لا يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية و إن كان التسمي و التسمية بها ممنوعا.
فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شيء بنحو التبعض و الاشتقاق يكون مشتملا بنحو على شيء من حقيقة الموجد لا تسمية شيء موجود ابنا و ولدا لغرض من الأغراض كما ذكره بعضهم.
و الولد - كما عرفت - أخص مصداقا عندهم من الإله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله: {مَا اِتَّخَذَ اَللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ترق من نفي الأخص إلى نفي الأعم و لفظة {مِنْ} في الجملتين زائدة للتأكيد.
و قوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها و ربوبيتها، و معنى ربوبية الإله في شطر من الكون و نوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شيء غير نفسه حتى إلى من فوض إليه الأمر، و من البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمران متباينان.
و لازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير و تنقطع رابطة الاتحاد و الاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و السهل و الجبل و الأرض و السماء و غيرها و كل منها عن كل منها، و فيه فساد السماوات و الأرض و ما فيهن، و وحدة النظام الكوني و التئام أجزائه و اتصال التدبير الجاري فيه يكذبه.
و هذا هو المراد بقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشح منه من التدبير.
و قوله: {وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ} محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة أخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر و البحر و التدبيرين الجاريين في الماء و النار، و منها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم و تدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الأرضي و تدبير النبات الذي فيه، و كتدبير العالم السماوي و تدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، و كتدبير العالم المادي برمته و تدبير نوع من الأنواع المادية.
فبعض التدبير و هو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني و لا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.
و لازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه و أخص منه و أخس و استعلاء الإله على الإله محال.
لا لأن الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته
محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا و المحدودية تفضي إلى التركيب، و كل ذلك من لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف - كما قرره المفسرون - فإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، و هي مربوبة لله سبحانه و أرباب لما دونها و الله سبحانه رب الأرباب و إله الآلهة و هو الواجب الوجود بالذات وحده.
بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره و تأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير و الحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الأسباب التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلها غير إله بل سببا يدبر به الأمر هذا خلف.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية، و للمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها و تنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، و القوم لا يقولون في شيء من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، و قد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوه مؤلفة من مقدمات لا إشارة في الآية إلى جلها و لا إيهام، و فرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية عادية لا عقلية، و الدليل إقناعي لا قطعي.
ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} حيث نسب الخلقة إليها و قد تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الإيجاد و ذلك لأن بعض الخلق من التدبير فإن خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل و التدبير مختلطان و قد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ} الصافات: ٩٦، و قوله: {وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} الزخرف: ١٢.
فالقوم يرون أن كلا من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا أفعاله، و أما إعطاء الوجود للأشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد و لا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل و الإيجاد من المتكلمين.
و قد ختم الآية بالتنزيه بقوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
قوله تعالى: {عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} صفة لاسم الجلالة في قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} و تأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه بالشركة - على ما يعطيه السياق - فيكون في معنى قوله: {قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يونس: ١٨.
و يرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم لنفسه شريكا كما أن قوله: {شَهِدَ اَللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} آل عمران: ١٨ احتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.
و قيل: إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص و ضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة و هو نوع جهل و قصور. انتهى.
و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الإله الواجب الوجود بالذات، و الوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك. على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع.
و قوله: {فَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء.
قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} لما فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله و إنكار البعث و الاستهزاء بالرسل و أقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب.
فقوله: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أمر بالدعاء و الاستغاثة، و تكرار {رَبِّ} لتأكيد التضرع و «ما» في قوله: {إِمَّا تُرِيَنِّي} زائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على الشرط و أصله: إن ترني. و في قوله: {مَا يُوعَدُونَ} دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الإيعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيوي. و ما في قوله: {رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له.
قوله تعالى: {وَ إِنَّا عَلىَ أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، و لعل المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر و قد أراه الله ذلك و أراه المؤمنين و شفى به غليل صدورهم.
قوله تعالى: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي ادفع السيئة التي تتوجه إليك منهم بالحسنة و اختر للدفع من الحسنات أحسنها، و هو دفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساءوا إليك بالإيذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الإحسان ثم ببعض الإحسان في الجملة و لو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.
و قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يسوءونه ما يلقاه و لا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون.
قوله تعالى: {وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ اَلشَّيَاطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}، قال في مجمع البيان: الهمزة شدة الدفع، و منه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد و دفع، و همزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي انتهى.
و في تفسير القمي، عنه (عليه السلام): أنه ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين.
و في الآيتين أمره (صلی الله عليه و أله وسلم) أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين و من أن يحضروه، و فيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك و التكذيب من همزات الشياطين و إحاطتهم بهم بالحضور.
[سورة المؤمنون (٢٣): الآیات ٩٩ الی ١١٨]
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٠٠فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ ١٠١ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ١٠٢ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ١٠٣ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ١٠٤ أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلىَ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ١٠٥ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ١٠٦ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ١٠٧ قَالَ اِخْسَؤُا فِيهَا وَ لاَ تُكَلِّمُونِ ١٠٨ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ ١٠٩ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ١١٠إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ١١١ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ١١٢ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ ١١٣ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١١٤ أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ١١٥ فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ ١١٦ وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ ١١٧ وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ ١١٨}
(بيان)
الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة و هو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الأبد، و تذكر أن الحياة الدنيا التي غرتهم
و صرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون. ثم تختم السورة بأمره (صلی الله عليه و أله وسلم) أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة {رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ} و قد افتتحت السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ} {حَتَّى} متعلق بما تقدم من وصفهم له تعالى بما هو منزه منه و شركهم به، و الآيات المتخللة اعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به و يصفونه بما هو منزه منه و هم مغترون بما نمدهم به من مال و بنين حتى إذا جاء أحدهم الموت.
و قوله: {قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ} الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض روحه و {رَبِّ} استغاثة معترضة بحذف حرف النداء و المعنى قال - و هو يستغيث بربه - ارجعون.
و قيل: إن الخطاب للرب تعالى و الجمع للتعظيم كقول امرأة فرعون له على ما حكاه الله: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ}.
و قيل: هو من جمع الفعل و يفيد تعدد الخطاب، و المعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل | *** | بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
أي قف قف نبك.
و في الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل عليه كلامه تعالى، و أشذ منه جمع الفعل بالمعنى الذي ذكر.
قوله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} «لعل» للترجي و هو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} السجدة: ١٢، و ربما ذكروه بلفظ التمني كقولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَ لاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} الأنعام: ٢٧.
و قوله: {أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه في البر و الإحسان و كل ما فيه رضا الله سبحانه.
و قيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت و العمل الصالح أعم من العبادات المالية و غيرها من صلاة و صوم و حج و نحوها، و هو حسن غير أن الأول هو الأظهر.
و قوله: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكلمة {اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.
قوله تعالى: {وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ} الرحمن: ٢٠، و المراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطا بهم و سمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام الإنسان و يقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الإنسان ليمر عليه و هذا معنى قول بعضهم: إن في وراء «معنى الإحاطة، قال تعالى: {وَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} الكهف: ٧٩.
و المراد بهذا البرزخ عالم القبر و هو عالم المثال الذي يعيش فيه الإنسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق و تدل عليه آيات أخر و تكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و كذا من طرق أهل السنة، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الأول من الكتاب.
و قيل: المراد بالآية أن بينهم و بين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة و معلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم و إياس لهم من الرجوع إليها من أصله.
و فيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا و بين يوم يبعثون لا بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا، و لو كان المراد أن الموت حاجز بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا لغا التقييد بقوله: {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا و لا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل التقييد و إن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة.
على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإياسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقا المفهوم من {كَلاَّ} بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فافهمه.
قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} المراد به
النفخة الثانية التي تحيا فيها الأموات دون النفخة الأولى التي تموت فيها الأحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الأنساب و التساؤل و ثقل الميزان و خفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.
و قوله: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} نفي لآثار الأنساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ الأنساب و اعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الإنسان إلى الحياة الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، و المجتمع المنزلي يستعقب التعارف و التعاطف و أقسام التعاون و التعاضد و سائر الأسباب التي تدوم بها العيشة الدنيوية و يوم القيامة ظرف جزاء الأعمال و سقوط الأسباب التي منها الأعمال فلا موطن فيه للأسباب الدنيوية التي منها الأنساب بلوازمها و خواصها و آثارها.
و قوله: {وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ذكر لأظهر آثار الأنساب، و هو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للإعانة و الاستعانة في الحوائج لجلب المنافع و دفع المضار.
و لا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: {وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الصافات: ٢٧، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها و تساؤل أهل النار بعد دخولها و هذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب و القضاء.
قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} إلى آخر الآيتين. الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون و هو العمل الذي يوزن يومئذ، و قد تقدم الكلام في معنى الميزان و ثقله و خفته في تفسير سورة الأعراف.
قوله تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال في المجمع: اللفح و النفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا و أعظم من النفح، و هو ضرب من السموم للوجه و النفح ضرب الريح الوجه، و الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان. انتهى.
و المعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم و تنكشف عن أسنانهم كالرءوس المشوية.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ} إلخ أي يقال لهم: أ لم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون.
قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} الشقوة و الشقاوة و الشقاء خلاف السعادة و سعادة الشيء ما يختص به من الخير، و شقاوته فقد ذلك و إن شئت فقل: ما يختص به من الشر.
و قوله: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي قهرنا و استولت علينا شقوتنا، و في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل عليه قولهم بعد: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} إذ هو وعد منهم بالحسنات و لو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن للوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.
و قد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة و الشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل و كانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم و سيئات أعمالهم لأنهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة و الشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم و ارتباطها بها إنما هي من جهة سوء اختيارهم و سيئات أعمالهم.
و بالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة و لحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله: {أَ لَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ} إلخ.
ثم عقبوا قولهم: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} بقولهم: {وَ كُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} تأكيدا لاعترافهم، و إنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب و الرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه و ظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب و هم يعلمون أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و التوبة و الاعتراف بالذنب من الأعمال لكن ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ و ينكرون أشياء مع ظهور الحق و معاينته لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم، قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} المجادلة: ١٨ و قال: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} المؤمن: ٧٤.
قوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه،
و مرادهم أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب و عمل صالحا.
قوله تعالى: {قَالَ اِخْسَؤُا فِيهَا وَ لاَ تُكَلِّمُونِ} قال الراغب: خسأت الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر و ذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى. ففي الكلام استعارة بالكناية، و المراد زجرهم بالتباعد و قطع الكلام.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ} هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا و كان إيمانهم توبة و رجوعا إلى الله كما سماه الله في كلامه توبة، و كان سؤالهم شمول الرحمة - و هي الرحمة الخاصة بالمؤمنين البتة - سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا الجنة، و قد توسلوا إليه باسمه خير الراحمين.
فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و ذلك عين ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و إنما الفرق بينهما من حيث الموقف.
قوله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} ضمائر الخطاب للكفار و ضمائر الغيبة للمؤمنين، و السياق يشهد أن المراد من {ذِكْرِي} قول المؤمنين: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا} إلخ، و هو معنى قول الكفار في النار.
و قوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين و الضحك منهم ذكري، ففي نسبة الإنساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشئون إلا أن يتخذوهم سخريا.
قوله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ} المراد باليوم يوم الجزاء، و متعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للإيجاز أي صبروا على ذكري مع سخريتكم منهم لأجله، و قوله: {أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفَائِزُونَ} مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم.
و هذه الآيات الأربع {قَالَ اِخْسَؤُا} - إلى قوله - {هُمُ اَلْفَائِزُونَ} إياس قطعي للكفار من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب و سؤال الرجوع إلى الدنيا و محصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول و هو الاعتراف و السؤال فإنه عمل إنما كان ينفع في دار العمل و هي الدنيا، و قد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة إلى
الفوز و كنتم تسخرون و تضحكون منهم حتى تركتموه و بدلتموه من سخريتهم حتى إذا كان اليوم و هو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل و بقيتم صفر الأكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم و هو يوم الجزاء دون العمل.
قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} مما يسأل الله الناس عنه يوم القيامة مدة لبثهم في الأرض و قد ذكر في مواضع من كلامه و المراد به السؤال عن مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} الروم: ٥٥، و قوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} الأحقاف: ٣٥، و غيرهما من الآيات، فلا محل لقول بعضهم: إن المراد به المكث في الدنيا، و احتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في الدنيا و البرزخ.
قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ} ظاهر السياق أن المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا و قد استقلوا اللبث في الأرض حينما قايسوه بالبقاء الأبدي الذي يلوح لهم يوم القيامة و يعاينونه.
و يؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، و في موضع آخر بعشية أو ضحاها.
و قوله: {فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ} أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه و فسر بالملائكة العادين للأيام و ليس ببعيد.
قوله تعالى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} القائل هو الله سبحانه، و في الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور و فيه توطئة لما يلحق به من قوله: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بما فيه من التمني.
و المعنى: قال الله: الأمر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث و لم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، و التمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب أو المقام.
و جعل بعضهم {لَوْ} في الآية شرطية و الجملة شرطا محذوف الجزاء و تكلف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم و هو بعيد عن السياق كما هو ظاهر و أبعد منه جعل «لو» وصلية مع أن «لو» الوصلية لا تجيء بغير واو العطف.
قوله تعالى: {أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } - إلى قوله - {رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ }
بعد ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من الحساب و الجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث.
فقوله: {أَ فَحَسِبْتُمْ} إلخ، معناه فإذا كان الأمر على ما أخبرناكم من تحسركم عند معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب و الجزاء فهل تظنون أنما خلقناكم عبثا تحيون و تموتون من غير غاية باقية في خلقكم و أنكم إلينا لا ترجعون؟.
و قوله: {فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ} إشارة إلى برهان يثبت البعث و يدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالأوصاف الأربعة: أنه ملك و أنه حق و أنه لا إله إلا هو و أنه رب العرش الكريم.
فله أن يحكم بما شاء من بدء و عود و حياة و موت و رزق نافذا حكمه ماضيا أمره لملكه، و ما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق و لا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله أي لا معبود إلا هو، و الإله معبود لربوبيته فإذا لا إله غيره فهو رب العرش الكريم - عرش العالم - الذي هو مجتمع أزمة الأمور و منه يصدر الأحكام و الأوامر الجارية فيه.
فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم و يوجد منه كل شيء و لا يحكم إلا بحق و لا يفعل إلا حقا فللأشياء رجوع إليه و بقاء به و إلا لكانت عبثا باطلة و لا عبث في الخلق و لا باطل في الصنع.
و الدليل على اتصافه بالأوصاف الأربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ}، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى لا دعاؤه تعالى و دعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله تعالى و إنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، و يمكن أن يكون المراد بالدعاء الإثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.
و قوله: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قيد توضيحي لإله آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الإله الآخر مطلقا.
و قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} كلمة تهديد و فيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - و هو النار كما صرحت به الآيات السابقة - فإنه يصيبه لا محالة، و مرجعه إلى نفي الشفعاء و الإياس من أسباب النجاة و تممه بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ}.
قوله تعالى: {وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرَّاحِمِينَ} خاتمة السورة و قد أمر فيها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا و أن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ} إلخ، الآيتان ١٠٩ و ١١١ من السورة.
و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: {قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ} و قد تقدم الكلام في معنى الآية.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن و لا مسلم، و هو قوله تعالى: {رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ}.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخر غيرها عنه (عليه السلام) و عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.
و في تفسير القمي، قوله عز و جل: {وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قال: البرزخ هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة، و هو قول الصادق (عليه السلام): و الله ما أخاف عليكم إلا البرزخ و أما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم.
أقول: و روي الذيل في الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد عنه (عليه السلام).
و فيه قال علي بن الحسين (عليه السلام): إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
و في الكافي بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش.فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم
و فيه بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يقولون: ربنا أقم الساعة لنا، و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأولنا.
و فيه بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تتعارف و تتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان؟ و ما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى.
أقول: أخبار البرزخ و تفاصيل ما يجري على المؤمنين و غيرهم فيه كثيرة متواترة، و قد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم.
في مجمع البيان، و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : كل حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي و نسبي.
أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، و قد رواها في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظها: أن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري و عن عدة منهم عن عمر بن الخطاب عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) و لفظها: كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي و عن ابن عساكر عن ابن عمر عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) و لفظها: كل نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي و صهري.
و في المناقب في حديث طاووس عن زين العابدين (عليه السلام): خلق الله الجنة لمن أطاع و أحسن و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان ولدا قرشيا أ ما سمعت قول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} و الله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح.
أقول: سياق الآية كالآبي عن التخصيص و لعل من آثار نسبه (صلی الله عليه و أله وسلم) أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة.
و في تفسير القمي و قوله عز و جل: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ} قال: تلهب عليهم فتحرقهم {وَ هُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قال: بأعمالهم شقوا.
و في العلل، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام): يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب. قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء. قال: مه يا ابن أخ خلقنا للبقاء و كيف تفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن إنما نتحول من دار إلى دار.
و في تفسير القمي قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ } - إلى قوله - {فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ} قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الأيام، و يكتبون ساعاتنا و أعمالنا التي اكتسبنا فيها.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قال لأهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي و رضواني و جنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين.
ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري و سخطي امكثوا فيها خالدين.
أقول: و في انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق و بما تشهد به الآيات النظائر خفاء، و قد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.
(٢٤) سورة النور مدنية و هي أربع و ستون آية (٦٤)
[سورة النور (٢٤): الآیات ١ الی ١٠]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ }{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ١ اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٢ اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ٣ وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ ٤ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥ وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ٦ وَ اَلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٧ وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٨ وَ اَلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٩ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ١٠}
(بيان)
غرض السورة ما ينبئ عنه مفتتحها {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فهي تذكرة نبذة من الأحكام المفروضة المشرعة ثم جملة من المعارف الإلهية تناسبها و يتذكر بها المؤمنون.
و هي سورة مدنية بلا خلاف و سياق آياتها يشهد بذلك و من غرر الآيات فيها آية النور.
قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لأجله و لذا اعتبرت تارة نفس الآيات بما لها من المعاني فقيل: {فَرَضْنَاهَا}، و تارة ظرفا لبعض الآيات ظرفية المجموع للبعض فقيل: {أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} و هي مما وضعه القرآن و سمي به طائفة خاصة من آياته و تكرر استعمالها في كلامه تعالى، و كأنه مأخوذ من سور البلد و هو الحائط الذي يحيط به سميت به سورة القرآن لإحاطتها بما فيها من الآيات أو بالغرض الذي سيقت له.
و قال الراغب: الفرض قطع الشيء الصلب و التأثير فيه كفرض الحديد و فرض الزند و القوس. قال: و الفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه و ثباته، و الفرض بقطع الحكم فيه، قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا العمل بها عليك. قال: و كل موضع ورد «فرض الله عليه» ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، و ما ورد «فرض الله له» فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو {مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ}. انتهى.
فقوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا} أي هذه سورة أنزلناها و أوجبنا العمل بما فيها من الأحكام فالعمل بالحكم الإيجابي هو الإتيان به و بالحكم التحريمي الانتهاء عنه.
و قوله: {وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} المراد بها بشهادة السياق آية النور و ما يتلوها من الآيات المبينة لحقيقة الإيمان و الكفر و التوحيد و الشرك المذكرة لهذه المعارف الإلهية.
قوله تعالى: {اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (الآية)، الزنا
المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، و الجلد هو الضرب بالسوط و الرأفة التحنن و التعطف و قيل: هي رحمة في توجع، و الطائفة في الأصل هي الجماعة كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: و ربما تطلق على الاثنين و على الواحد.
و قوله: {اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي} إلخ، أي المرأة و الرجل اللذان تحقق منهما الزنا فاضربوا كل واحد منهما مائة سوط، و هو حد الزنا بنص الآية غير أنها مخصصة بصور: منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصنا فالرجم و منها أن يكونا غير حرين أو أحدهما رقا فنصف الحد.
قيل: و قدمت الزانية في الذكر على الزاني لأن الزنا منهن أشنع و لكون الشهوة فيهن أقوى و أكثر، و الخطاب في الأمر بالجلد متوجه إلى عامة المسلمين فيقوم بمن قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الإمام و من ينوب منابه.
و قوله: {وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ} إلخ، النهي عن الرأفة من قبيل النهي عن المسبب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحق نوعا من العذاب توجب التساهل في إذاقته ما يستحقه من العذاب بالتخفيف فيه و ربما أدى إلى تركه، و لذا قيده بقوله: {فِي دِينِ اَللَّهِ} أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين الله و شريعته.
و قيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ} يوسف: ٧٦ أي في حكمه أي لا تأخذكم بهما رأفة في إنفاذ حكم الله و إقامة حده.
و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ} أي إن كنتم كذا و كذا فلا تأخذكم بهما رأفة و لا تساهلوا في أمرهما و فيه تأكيد للنهي.
و قوله: {وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} أي و ليحضر و لينظر إلى ذلك جماعة منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة.
قوله تعالى: {اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} ظاهر الآية و خاصة بالنظر إلى سياق ذيلها المرتبط بصدرها أن الذي تشمل عليه حكم تشريعي تحريمي و إن كان صدرها واردا في صورة الخبر فإن المراد النهي تأكيدا للطلب و هو شائع.
و المحصل من معناها بتفسير من السنة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن
الزاني إذا اشتهر منه الزنا و أقيم عليه الحد و لم تتبين منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية و المشركة، و الزانية إذا اشتهر منها الزنا و أقيم عليها الحد و لم يتبين منها التوبة يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك.
فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ و لا تأويل، و تقييدها بإقامة الحد و تبين التوبة مما يمكن أن يستفاد من السياق فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الأمر بإقامة الحد يلوح إلى أن المراد به الزاني و الزانية المجلودان، و كذا إطلاق الزاني و الزانية على من ابتلي بذلك ثم تاب توبة نصوحا و تبين منه ذلك، بعيد من دأب القرآن و أدبه.
و للمفسرين في معنى الآية تشاجرات طويلة و أقوال شتى:
منها: أن الكلام مسوق للإخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه و ذلك أن من خبثت فطرته لا يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة و يجانسه في الفساد و الزاني لا يميل إلا إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء و من هو أفسد منها و هي المشركة، و الزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها و هو الزاني و من هو أفسد منه و هو المشرك فالحكم وارد مورد الأعم الأغلب كما قيل في قوله تعالى: {اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} الآية: ٢٦ من السورة.
و منها: أن المراد بالآية التقبيح، و المعنى: أن اللائق بحال الزاني أن لا ينكح إلا زانية أو من هي دونها و هي المشركة و اللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلا زان أو من هو دونه و هو المشرك، و المراد بالنكاح العقد، و قوله: {وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} معطوف على أول الآية، و المراد و حرم الزنا على المؤمنين.
و فيه و في سابقه مخالفتهما لسياق الآية و خاصة اتصال ذيلها بصدرها كما تقدمت الإشارة إليه.
و منها: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ}.
و فيه أن النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص و العام الوارد بعد الخاص لا ينسخه خلافا لمن قال به نعم ربما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى: {وَ لاَ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لاَ تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ اَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} البقرة: ٢٢١، بدعوى أن الآية و إن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن و المؤمنة و المشرك و المشركة، و قد ادعى بعضهم أن نكاح الكافر للمسلمة كان جائزا إلى سنة ست من الهجرة ثم نزل التحريم فلعل الآية التي نحن فيها نزلت قبل ذلك، و نزلت آية التحريم بعدها و في الآية أقوال أخر تركنا إيرادها لظهور فسادها.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إلخ الرمي معروف ثم أستعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الإنسان كالزنا و السرقة و هو القذف، و السياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة العفيفة، و المراد بالإتيان بأربعة شهداء و هم شهود الزنا إقامة الشهادة لإثبات ما قذف به، و قد أمر الله تعالى بإقامة الحد عليهم إن لم يقيموا الشهادة، و حكم بفسقهم و عدم قبول شهادتهم أبدا.
و المعنى: و الذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم و هم فاسقون لا تقبلوا شهادتهم على شيء أبدا.
و الآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر و الأنثى و الحر و العبد، و بذلك تفسرها روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة و هي قوله: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ} لكنها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: {وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} - على ما يعطيه السياق - كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبدا، و لازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معا.
و المعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا أعمالهم فإن الله غفور رحيم يغفر ذنبهم و يرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق و الحكم بعدم قبول شهادتهم أبدا.
و ذكر بعضهم: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة فحسب فلو تاب القاذف
و أصلح بعد إقامة الحد عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبدا خلافا لمن قال برجوع الاستثناء إلى الجملتين معا.
و الظاهر أن خلافهم هذا مبني على المسألة الأصولية المعنونة بأن الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعددة هل يتعلق بالجميع أو بالجملة الأخيرة و الحق في المسألة أن الاستثناء في نفسه صالح للأمرين جميعا و تعين أحدهما منوط بما تقتضيه قرائن الكلام، و الذي يعطيه السياق في الآية التي نحن فيها تعلق الاستثناء بالجملة الأخيرة غير أن إفادتها للتعليل تستلزم تقيد الجملة السابقة أيضا بمعناه كالأخيرة على ما تقدم.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ } - إلى قوله - {مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحملوا الشهادة ثم يؤدوها إلا أنفسهم، و قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} أي شهادة أحدهم يعني القاذف و هو واحد أربع شهادات متعلقة بالله إنه لمن الصادقين فيما يخبر به من القذف.
و معنى الآيتين: و الذين يقذفون أزواجهم و لم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون ما شهدوا - و من طبع الأمر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فات الغرض بتفرقهما - فالشهادة التي يجب على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرة بعد مرة: «أشهد الله على صدقي فيما أقذفه به» أربع مرات و خامستها أن يشهد و يقول: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين.
قوله تعالى: {وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع و المراد بالعذاب حد الزنا، و المعنى أن المرأة إن شهدت خمس شهادات بإزاء شهادات الرجل دفع ذلك عنه حد الزنا، و شهاداتها أن تشهد أربع مرات تقول فيها: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تشهد خامسة فتقول: لعنة الله علي إن كان من الصادقين، و هذا هو اللعان الذي ينفصل به الزوجان.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} جواب لو لا محذوف يدل عليه ما أخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله و رحمته و توبته
و حكمته لحل بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات و الأفعال فالتقدير على ما يعطيه ما في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين و توبته لمذنبيكم و تشريعه الشرائع لنظم أمور حياتكم لزمتكم الشقوة، و أهلكتكم المعصية و الخطيئة، و اختل نظام حياتكم بالجهالة. و الله أعلم.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و سورة النور أنزلت بعد سورة النساء، و تصديق ذلك أن الله عز و جل أنزل عليه في سورة النساء {وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} و السبيل الذي قال الله عز و جل {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ}.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} يقول: ضربهما {طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} يجمع لهما الناس إذا جلدوا.
و في التهذيب، بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {وَ لاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللَّهِ} قال: في إقامة الحدود، و في قوله تعالى: {وَ لْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} قال: الطائفة واحد.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و أنزل بالمدينة {اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} فلم يسم الله الزاني مؤمنا و لا الزانية مؤمنة، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص.
و فيه، بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل:
{اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: هن نساء مشهورات و رجال مشهورون بالزنا شهروا به، و عرفوا به و الناس اليوم بذلك المنزل فمن أقيم عليه حد الزنا أو متهم بالزنا لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة:
أقول: و رواه أيضا بإسناده عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) مثله، و بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مشهورين بالزنا فنهى الله عن أولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرفوا توبته.
و فيه، بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ثم قال: لو أن إنسانا زنى ثم تاب تزوج حيث شاء.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائي و الحاكم و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه و أبو داود في ناسخه عن عبد الله بن عمر قال: كانت امرأة يقال لها: أم مهزول، و كانت تسافح الرجل و تشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يزوجها فأنزل الله: {اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}.
أقول: و روي ما يقرب منه عن عدة من أصحاب الجوامع عن مجاهد.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها و هم بجهد إلا قليل منهم، و المدينة غالية السعر شديدة الجهد، و في السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب، و أما الأنصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي و نسيكة بنت أمية لرجل من الأنصار في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية و كن من أخصب أهل المدينة و أكثره خيرا.
فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض أطعماتهن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد و لا نجد ما نأكل، و في السوق بغايا نساء أهل الكتاب و ولائدهن و ولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن
غنى تركناهن فأنزل الله: {اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ} (الآية) فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن.
أقول: و الروايتان إنما تذكران سبب نزول قوله: {اَلزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} دون قوله: {اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}.
و في المجمع في قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا} اختلف في هذا الاستثناء إلى ما ذا يرجع على قولين: أحدهما أنه يرجع إلى الفسق خاصة دون قوله: {وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} - إلى أن قال - و الآخر أن الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته حد أم لم يحد عن ابن عباس - إلى أن قال - و قول أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام).
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا و نكل زياد فحد عمر الثلاثة، و قال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان و لم يتب أبو بكرة فكان لا تقبل شهادته، و كان أبو بكرة أخا زياد لأمه فلما كان من أمر زياد ما كان حلف أبو بكرة أن لا يكلمه أبدا فلم يكلمه حتى مات.
و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين. و قال: هذا من حقوق الناس.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - إلى قوله - { إِنْ كَانَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} فإنها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوة تبوك جاء إليه «عويمر بن ساعدة العجلاني» و كان من الأنصار و قال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها «شريك بن السمحاء» و هي منه حامل فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات.
فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) منزله فنزلت عليه آية اللعان فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و صلى بالناس العصر، و قال لعويمر: ائتني بأهلك فقد أنزل الله عز و جل فيكما قرآنا فجاء إليها و قال لها: رسول الله يدعوك و كانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلما دخلت المسجد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعويمر: تقدم إلى المنبر و التعنا فقال: كيف
أصنع؟ فقال: تقدم و قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدم و قالها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أعدها فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا.
ثم قال له: تنح فتنحى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، و إلا أقمت عليك حد الله فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية فتقدمت إلى المنبر و قالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أعيديها فأعادتها حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لزوجها: اذهب فلا تحل لك أبدا. قال: يا رسول الله فمالي الذي أعطيتها. قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، و إن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها. (الحديث).
و في المجمع في رواية عكرمة عن ابن عباس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع و قد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته و يذهب، و إن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يا معشر الأنصار ما تسمعون إلى ما قال سيدكم؟ فقالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، و لا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت و أمي و الله إني لأعرف أنها من الله و أنها حق و لكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال: فإن الله يأبى إلا ذلك، فقال: صدق الله و رسوله.
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية من حديقة له قد رأى رجلا مع امرأته فلما أصبح غدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إني جئت أهلي
عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني و سمعته بأذني، فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى رئي الكراهة في وجهه فقال هلال: إني لأرى الكراهة في وجهك و الله يعلم إني لصادق، و إني لأرجو أن يجعل الله فرجا فهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بضربه.
قال: و اجتمعت الأنصار و قالوا: ابتلينا بما قال سعد أ يجلد هلال و يبطل شهادته؟ فنزل الوحي و أمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل فأنزل الله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (الآيات).
فقال (صلی الله عليه و أله وسلم): أبشر يا هلال فإن الله تعالى قد جعل فرجا فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى، فقال (صلی الله عليه و أله وسلم): أرسلوا إليها فجاءت فلاعن بينهما فلما انقضى اللعان فرق بينهما و قضى أن الولد لها و لا يدعى لأب و لا يرمى ولدها.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن جاءت به كذا و كذا فهو لزوجها و إن جاءت به كذا و كذا فهو للذي قيل فيه.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.
[سورة النور (٢٤): الآیات ١١ الی ٢٦]
{إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ وَ اَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١١ لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ١٢ لَوْ لاَ جَاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ ١٣ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٤ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ ١٥ وَ لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ١٦ يَعِظُكُمُ اَللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٧ وَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٨ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفَاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ١٩ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ٢٠يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢١ وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٢ إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ٢٣ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٤ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللَّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ ٢٥ اَلْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٢٦}
(بيان)
الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى أهل السنة أن المقذوفة في قصة الإفك هي أم المؤمنين عائشة، و روت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كل من الحديثين لا يخلو عن شيء على ما سيجيء في البحث الروائي الآتي.
فالأحرى أن نبحث عن متن الآيات في معزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن الإفك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إما زوجه و إما أم ولده و ربما لوح إليه قوله تعالى: {وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ} و كذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم و أفاضوا فيه و سائر ما يومئ إليه من الآيات.
و المستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالفحشاء، و كان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، و كان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات و دافع عن نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلخ، الإفك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقا و الأصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل و الفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، و القول المصروف عن الصدق إلى الكذب، و قد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني.
و ذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، و قيل: إنها عشرة إلى أربعين.
و الخطاب في الآية و ما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الإيمان أعم من المؤمن بحقيقة الإيمان و المنافق و من في قلبه مرض، و أما قول بعضهم: إن المخاطب
بالخطابات الأربعة الأول أو الثاني و الثالث و الرابع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المقذوفة و المقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الأول و هي نيف و عشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب.
و أسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الأربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة.
و المعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب و اللام في الإفك للعهد جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، و في ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يفضحوه بين الناس.
و هذا هو فائدة الخبر في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} لا تسلية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو تسليته و تسلية من ساءه هذا الإفك كما ذكره بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه.
و قوله: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرا لهم و إثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ و الفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم و ينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم، و خاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم و يذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى يحتاطوا لدينهم و يتفطنوا لما يهمهم.
و الدليل على ما ذكرنا قوله بعد: {لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ} فإن الإثم هو الأثر السيئ الذي يبقى للإنسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل الإفك الجائين به يعرفون بإثمه و يتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما أرادوا أن يفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و أما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالإفك كما أن أهل الإفك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة و قد عرفت فساده.
و قوله: {وَ اَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فسروا كبره بمعنى معظمه
و الضمير للإفك، و المعنى: و الذي تولى معظم الإفك و أصر على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم.
قوله تعالى: {لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه و لم يظنوا بمن رمي به خيرا.
و قوله: {ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} من وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل «ظننتم بأنفسكم» و الوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة الإيمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء و المنكر في القول و الفعل فعلى المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، و أن يجتنب القول فيهم بغير علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالإيمان و لوازمه و آثاره.
فالمعنى: و لو لا إذ سمعتم الإفك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون بعضكم من بعض و المرمي به من أنفسكم و على المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا و لا يصفه بما لا علم له به.
و قوله: {قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي قال المؤمنون و المؤمنات و هم السامعون - أي قلتم - هذا إفك مبين لأن الخبر الذي لا علم لمخبره به و الدعوى التي لا بينة لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، و الدليل عليه قوله في الآية التالية: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ}.
قوله تعالى: {لَوْ لاَ جَاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ} أي لو كانوا صادقين فيما يقولون و يرمون لأقاموا عليه الشهادة و هي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا بالكذب لأن الدعوى من غير بينة كذب و إفك.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه.
و قوله: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ} إلخ، عطف على قوله: {لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} إلخ، و فيه كرة ثانية على المؤمنين، و في تقييد الفضل و الرحمة بقوله: {فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا و الآخرة.
و المعنى: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لوصل إليكم بسبب ما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} إلخ، الظرف متعلق بقوله: {أَفَضْتُمْ} و تلقي الإنسان القول أخذه القول الذي ألقاه إليه غيره، و تقييد التلقي بالألسنة للدلالة على أنه كان مجرد انتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت و تدبر فيه.
و على هذا فقوله: {وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} من قبيل عطف التفسير، و تقييده أيضا بقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} للإشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت و تبين قلبي و لم يكن له موطن إلا الأفواه لا يتعداها.
و المعنى: أفضتم و خضتم فيه إذ تأخذونه و تنقلونه لسانا عن لسان و تتلفظون بما لا علم لكم به.
و قوله: {وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ} أي تظنون التلقي بألسنتكم و القول بأفواهكم من غير علم سهلا و هو عند الله عظيم لأنه بهتان و افتراء، على أن الأمر مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم و يفسد أمر الدعوة الدينية.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} عطف بعد عطف على قوله: {لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} إلخ، و فيه كرة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، و قوله: {سُبْحَانَكَ} اعتراض بالتنزيه لله سبحانه و هو من أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه.
و البهتان الافتراء سمي به لأنه يبهت الإنسان المفتري عليه و كونه بهتانا عظيما لأنه افتراء في عرض و خاصة إذ كان متعلقه بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم و دعوى من غير بينة كما تقدم في قوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ} و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اَللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفَاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الإفك و متصلة بما تقدمها و موردها الرمي بالزنا بغير بينة كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الإفك لكونه فاحشة و إشاعته في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة.
فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا و القذف و غير ذلك. و حب شيوعها و منها القذف في المؤمنين يستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا و الآخرة.
و على هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما يوجب الحد، نعم لو كان اللام في {اَلْفَاحِشَةُ} للعهد و المراد بها القذف و كان حب الشيوع كناية عن قصة الشيوع بالإفاضه و التلقي بالألسن و النقل أمكن حمل العذاب على الحد لكن السياق لا يساعد عليه.
على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد و لا موجب لتقييده بقصد الشيوع و لا نكتة تستدعي ذلك.
و قوله: {وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} تأكيد و إعظام لما فيه من سخط الله و غضبه و إن جهله الناس.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ} تكرارا للامتنان و معناه ظاهر.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ اَلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ} تقدم تفسير الآية في الآية ٢٠٨ من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.
قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} إلى آخر الآية. رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل و الرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الإفك متعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ليس إلا لكرامته على الله سبحانه.
و قد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا و هو قوله: {مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} و هذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير و السعادة هو الله سبحانه، و التعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ} آل عمران: ٢٦، و قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللَّهِ} النساء: ٧٩.
و قوله: {وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إضراب عما تقدمه فهو تعالى يزكي من يشاء فالأمر إلى مشيته، و لا يشاء إلا تزكية من استعد لها و سأله بلسان استعداده
ذلك، و إليه يشير قوله: {وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من استعد لها.
قوله تعالى: {وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} إلخ، الايتلاء التقصير و الترك و الحلف، و كل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، و المعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم و السعة يعني الأغنياء في إيتاء أولي القرابة و المساكين و المهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم و ليعفوا عنهم و ليصفحوا ثم حرضهم بقوله: {أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
و في الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات و اتصالها بها - دلالة على أن بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الإفك فنهاه الله عن ذلك و حثه على إدامة الإيتاء كما سيجيء.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أخذ الصفات الثلاث الإحصان و الغفلة و الإيمان للدلالة على عظم المعصية فإن كلا من الإحصان بمعنى العفة و الغفلة و الإيمان سبب تام في كون الرمي ظلما و الرامي ظالما و المرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، و جزاؤه اللعن في الدنيا و الآخرة و العذاب العظيم، و الآية عامة و إن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الإفك خاصا.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: {وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
و المراد بقوله: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كما يقتضيه إطلاقه مطلق الأعمال السيئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات و المعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف و الكذب و الغيبة و نحوها شهدت عليه الألسنة، و ما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة و المشي للنميمة و السعاية و غيرهما شهدت عليه بقية الأعضاء، و إذ كان معظم المعاصي من الأفعال للأيدي و الأرجل اختصتا بالذكر.
و بالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى:
{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} حم السجدة: ٢٠، و قوله: {إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} إسراء - ٣٦، و قوله: {اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يس: ٦٥، و سيأتي الكلام على شهادة الأعضاء يوم القيامة في بحث مستقل في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللَّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ} المراد بالدين الجزاء كما في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ} الحمد: ٤، و توفية الشيء بذله تاما كاملا، و المعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما كاملا و يعلمون أن الله هو الحق المبين.
هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها و وقوعها في سياق ما تقدمها، و أما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة و هو سنة الحياة، و هو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، و يكون أكثر مناسبة لقوله: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}.
و الآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ} ينبئ أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه و لا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، و هذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين.
و إلى مثله يشير قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢.
قوله تعالى: {اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إلخ ذيل الآية {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ} دليل على أن المراد بالخبيثات و الخبيثين و الطيبات و الطيبين نساء و رجال متلبسون بالخباثة و الطيب فالآية من تمام آيات الإفك متصلة بها مشاركة لها في سياقها، و هي عامة لا مخصص لها من جهة اللفظ البتة.
فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرءين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات
السابقة هو المعنى الذي يقتضيه تلبسهم بالإيمان و الإحصان فالمؤمنون و المؤمنات مع الإحصان طيبون و طيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، و هم بحكم الإيمان و الإحصان مصونون مبرءون شرعا من الرمي بغير بينة، محكومون من جهة إيمانهم بأن لهم مغفرة كما قال تعالى: {وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الأحقاف: ٣١ و لهم رزق كريم، و هو الحياة الطيبة في الدنيا و الأجر الحسن في الآخرة كما قال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل: ٩٧.
و المراد بالخبث في الخبيثين و الخبيثات و هم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر و قد خصت خبيثاتهم بخبيثهم و خبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضى المجانسة و المسانخة و ليسوا بمبرءين عن التلبس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكما بالتلبس -.
فظهر بما تقدم:
أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين و المؤمنات بالطيب و لا ينافي ذلك اختصاص سبب نزولها و انطباقها عليه.
و ثانيا: أنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم تقم عليه بينة.
و ثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة و الرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على الله بإيمانهم، و الكفار على خلاف ذلك.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و أحمد و البخاري و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما نزل الحجاب و أنا أحمل في هودجي و أنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوته تلك و قفل.
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار۱
قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، و هم يحسبون أني فيه، و كانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة٢ من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت.
و كان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج٣ فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و الله ما كلمني كلمة واحدة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.
و كان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، و هو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني
و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي أم مسطح قبل المناصع۱ و هي متبرزنا و كنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، و ذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا و أم مسطح فأقبلت أنا و أم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا٢ من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها٣ فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أ تسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه٤ أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: - و أنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجئت لأبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي.
و دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالذي يعلم من براءة أهله و بالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلا خيرا، و أما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ قالت بريرة: لا و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان: الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم على المنبر فلم يزل رسول (صلى الله عليه وآله و سلم) يخفضهم حتى سكتوا و سكت.
فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوما لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.
فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم جلس و لم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها و قد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مقالته قلص۱ دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) . قال: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
فقلت و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني و الله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة و الله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، و الله لا أجد لي و لكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أني بريئة و أن الله مبرئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، و لكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مجلسه و لا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سرى عنه و هو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: و الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، و أنزل الله: {إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه و فقره: و الله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: {وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىَ وَ اَلْمَسَاكِينَ} - إلى قوله - {رَحِيمٌ} قال أبو بكر: و الله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلا خيرا، قالت: و هي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فعصمها الله بالورع، و طفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا و عن عمر و ابن عباس و أبي هريرة و أبي اليسر الأنصاري و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف.
و فيها إن الذين جاءوا بالإفك عبد الله بن أبي بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان بدريا من السابقين الأولين من المهاجرين، و حسان بن ثابت، و حمنة أخت زينب زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين و إنما حده حدين لأنه من قذف زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان عليه حدان.
و في الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه:
أحدها: أن المسلم من سياقها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق الإفك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام اشتكائها و بعدها حتى نزلت الآيات، و يدل عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشرها به: بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنها قالت لأبيها و قد أرسله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي أرسلك، تريد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و في الرواية الأخرى عنها: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شيء و في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، و من المعلوم أن هذا النوع من الخطاب المبني على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر عنها لو لا أنها وجدت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في ريب من أمرها. كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: «فكان في قلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما قالوا».
و بالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في ريب من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، و هذا مما يجل عنه مقامه (صلی الله عليه و أله وسلم) كيف؟ و هو سبحانه يقول: {لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} فيوبخ المؤمنين و المؤمنات على إساءتهم الظن و عدم ردهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظن بالمؤمنين، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أحق من يتصف بذلك و يتحرز من سوء الظن الذي من الإثم و له مقام النبوة و العصمة الإلهية.
على أنه تعالى ينص في كلامه على اتصافه (صلی الله عليه و أله وسلم) بذلك إذ يقول: {وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ
يُؤْذُونَ النبي صلى الله عليه وآله و سلم وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التوبة: ٦١.
على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلا لغت الدعوة و تثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعا لا ظاهرا فحسب، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك.
و ثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الإفك كان جاريا بين الناس منذ بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوما و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حد أصحاب الإفك هذه المدة الطويلة و انتظاره الوحي في أمرها حتى يشيع بين الناس و تتلقاه الألسن و تسير به الركبان و يتسع الخرق على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا.
فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا أمر لا تكفي له آية حد القاذف، و لعل صبره (صلی الله عليه و أله وسلم) هذه المدة الطويلة إنما كان لأجله.
قلت: لا دلالة في شيء من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، و إنما تثبت بالحجة العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء.
أما الآيات العشر الأول التي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى: {لَوْ لاَ جَاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اَللَّهِ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ} و قد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، و من الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة.
و أما الآيات الست الأخيرة فقوله: {اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إلخ عام من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين
من غير قيام بينة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أن البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعية.
و الحق أن لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الإفك و إنما نزلت بعده، و إنما كان سبب توقفه (صلی الله عليه و أله وسلم) خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماوي.
و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة إياه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.
و ثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبد الله بن أبي و مسطحا و حسانا و حمنة ثم تذكر أنه (صلی الله عليه و أله وسلم) حد عبد الله بن أبي حدين و كلا من مسطح و حسان و حمنة حدا واحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فعليه حدان، و هذا تناقض صريح فإنهم جميعا كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.
نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الأمة إن هذا الوصف يوجب حدين. و لا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: {اَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو ثبوت حدين.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} (الآية) فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة.
حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثني عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حزن عليه حزنا شديدا فقالت عائشة: ما الذي
يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (عليه السلام) و أمره بقتله.
فذهب علي (عليه السلام) و معه السيف و كان جريح القبطي في حائط فضرب علي (عليه السلام) باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليا (عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح باب البستان فوثب علي (عليه السلام) على الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه و ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه۱ صعد في نخلة و صعد علي (عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء.
فانصرف علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم أثبت؟ قال: لا بل تثبت. قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.
و فيه في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد الله بن بكير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر بقتل القبطي و قد علم أنها كذبت عليه أو لم يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت علي (عليه السلام) فقال: بل كان و الله علم، و لو كان عزيمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما انصرف علي (عليه السلام) حتى يقتله، و لكن إنما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتد عليها قتل رجل مسلم.
أقول: و هناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا كان خادما خصيا لمارية أهداه معها «مقوقس» عظيم مصر لرسول الله (صلی الله عليه و أله وسلم) و أرسله معها ليخدمها.
و هذه الروايات لا تخلو من نظر:
أما أولا: فلأن ما فيها من القصة لا يقبل الانطباق على الآيات و لا سيما قوله:
{إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ} (الآية) و قوله: {لَوْ لاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} (الآية)، و قوله: {تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (الآية)، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كان الناس يتداولونه لسانا عن لسان حتى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زمانا و هم لا يراعون حرمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.
اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.
و أما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة و ظهور براءتها إجراء الحد و لم يجر، و لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمان.
و الذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات جميعا - كما عرفت - أن آيات الإفك نزلت قبل آية حد القذف، و لم يشرع بنزول آيات الإفك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.
و لو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الإفك لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتدا بها و انتظار الوحي و لا نجا منه قاذف منهم، و لو كان مشروعا مع نزول آيات الإفك لأشير فيها إليه، و لا أقل باتصال الآيات بآية القذف، و العارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أن قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ جَاؤُ بِالْإِفْكِ} الآيات منقطعة عما قبلها.
و لو كان على من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حدان لأشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد و اللعن و التهديد بالعذاب على القاذفين.
و يتأكد الإشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الإفك فإن لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدين فينزل حكم الحد الواحد.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز و جل: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ } - إلى قوله - {وَ اَلْآخِرَةِ}.
أقول: و رواه القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنه (عليه السلام)
و الصدوق في الأمالي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه (عليه السلام)، و المفيد في الاختصاص، عنه (عليه السلام) مرسلا.
و فيه بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من أذاع فاحشة كان كمبتدئها.
و في المجمع: قيل: إن قوله: {وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ} (الآية)، نزلت في أبي بكر و مسطح بن أثاثة و كان ابن خالة أبي بكر، و كان من المهاجرين و من جملة البدريين و كان فقيرا، و كان أبو بكر يجري عليه و يقوم بنفقته فلما خاض في الإفك قطعها و حلف أن لا ينفعه بنفع أبدا فلما نزلت الآية عاد أبو بكر إلى ما كان، و قال: و الله إني لأحب أن يغفر الله لي، و الله لا أنزعها عنه أبدا. عن ابن عباس و عائشة و ابن زيد.
و فيه: و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك و لا يواسوهم. عن ابن عباس و غيره.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ لاَ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىَ} و هم قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ اَلْمَسَاكِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا} يقول يعفو بعضكم عن بعض، و يصفح بعضكم بعضا فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عز و جل: {أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و نزل بالمدينة {وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالإيمان، قال الله عز و جل: {أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ} و جعله من أولياء إبليس قال: {إِلاَّ
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} و جعله ملعونا فقال: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عز و جل: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
و في المجمع: في قوله تعالى: {اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (الآية)، قيل في معناه أقوال إلى أن قال الثالث الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء عن أبي مسلم و الجبائي و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام). قالا: هي مثل قوله: {اَلزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} إلا أن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك و كره ذلك لهم.
و في الخصال، عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا طاب قلب المرء طاب جسده، و إذا خبث القلب خبث الجسد.
و في الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليه السلام) في حديث له مع معاوية و أصحابه و قد نالوا من علي (عليه السلام): {اَلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} هم و الله يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك {وَ اَلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب و أصحابه و شيعته.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٢٧ الی ٣٤]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٢٧ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ
اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكىَ لَكُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ٢٨ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا تَكْتُمُونَ ٢٩ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ٣٠وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ اَلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجَالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْرَاتِ اَلنِّسَاءِ وَ لاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٣١ وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٣٢ وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣٣ وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ٣٤}
(بيان)
أحكام و شرائع متناسبة و مناسبة لما تقدم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا} إلخ، الأنس بالشيء و إليه الألفة و سكون القلب إليه، و الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله و التنحنح و نحو ذلك ليتنبه صاحب البيت أن هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربما كان في حال لا يحب أن يراه عليها أحد أو يطلع عليها مطلع.
و منه يظهر أن مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثم دخل فسلم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.
و يؤدي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الأخوة و الألفة و التعاون العام على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لعلكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكرون ما يجب عليكم رعايته و إحياؤه من سنة الأخوة و تألف القلوب التي تحتها كل سعادة اجتماعية.
و قيل: إن قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تعليل لمحذوف و التقدير قيل لكم كذا لعلكم تتذكرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، و لا بأس به.
و قيل: إن في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا} تقديما و تأخيرا و الأصل حتى تسلموا و تستأنسوا. و هو كما ترى.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}... إلخ، أي إن علمتم بعدم وجود أحد فيها و هو الذي يملك الإذن فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم من قبل من يملك الإذن، و ليس المراد به أن يتطلع على البيت و ينظر فيه فإن لم ير فيه أحدا كف عن الدخول فإن السياق يشهد على أن المنع في الحقيقة عن النظر و الاطلاع على عورات الناس.
و هذه الآية تبين حكم دخول بيت الغير و ليس فيه من يملك الإذن، و الآية السابقة تبين حكم الدخول و فيه من يملك الإذن و لا يمنع، و أما دخوله و فيه من يملك الإذن و يمنع و لا يأذن فيه فيبين حكمه قوله تعالى: {وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} إلخ، ظاهر السياق كون قوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} صفة بعد صفة لقوله: {بُيُوتاً} لا جملة مستأنفة معللة لقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، و الظاهر أن المتاع بمعنى الاستمتاع.
ففيه تجويز الدخول في بيوت معدة لأنواع الاستمتاع و هي غير مسكونة بالطبع كالخانات و الحمامات و الأرحية و نحوها فإن كونها موضوعة للاستمتاع إذن عام في دخولها.
و ربما قيل: إن المراد بالمتاع المعنى الاسمي و هو الأثاث و الأشياء الموضوعة للبيع و الشري كما في بيوت التجارة و الحوانيت فإنها مأذونة في دخولها إذنا عاما و لا يخلو من بعد لقصور اللفظ.
قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} الغض إطباق الجفن، على الجفن و الأبصار جمع بصر و هو العضو الناظر، و من هنا يظهر أن {مِنْ} في {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} لابتداء الغاية لا مزيدة و لا للجنس و لا للتبعيض كما قال بكل قائل، و المعنى يأتوا بالغض آخذا من أبصارهم.
فقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} لما كان {يَغُضُّوا} مترتبا على
قوله: {قُلْ} ترتب جواب الشرط عليه دل ذلك على كون القول بمعنى الأمر و المعنى مرهم يغضوا من أبصارهم و التقدير مرهم بالغض إنك إن تأمرهم به يغضوا، و الآية أمر بغض الأبصار و إن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من الأجنبي و الأجنبية لمكان الإطلاق.
و قوله: {وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي و مرهم يحفظوا فروجهم، و الفرجة و الفرج الشق بين الشيئين، و كنى به عن السوأة، و على ذلك جرى استعمال القرآن المليء أدبا و خلقا ثم كثر استعماله فيها حتى صار كالنص كما ذكره الراغب.
و المقابلة بين قوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} و {يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} يعطي أن المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا و اللواطة كما قيل، و قد ورد في الرواية عن الصادق (عليه السلام): أن كل آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلا هذه الآية فهي من النظر. و على هذا يمكن أن تتقيد أولى الجملتين بثانيتهما و يكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج و الأمر بسترها.
ثم أشار إلى وجه المصلحة في الحكم و حثهم على المراقبة في جنبه بقوله: {ذَلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
قوله تعالى: {وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} إلخ، الكلام في قوله: {وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} نظير ما مر في قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} فلا يجوز لهن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه و يجب عليهن ستر العورة عن الأجنبي و الأجنبية.
و أما قوله: {وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فالإبداء الإظهار، و المراد بزينتهن مواضع الزينة لأن نفس ما يتزين به كالقرط و السوار لا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن.
و قد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، و قد وردت الرواية أن المراد بما ظهر منها الوجه و الكفان و القدمان كما سيجيء إن شاء الله.
و قوله: {وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ} الخمر بضمتين جمع خمار و هو ما تغطي به المرأة رأسها و ينسدل على صدرها، و الجيوب جمع جيب - بالفتح فالسكون - و هو معروف و المراد بالجيوب الصدور، و المعنى و ليلقين بأطراف مقانعهن على صدورهن ليسترنها بها.
و قوله: {وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } - إلى قوله - {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} البعولة هم أزواجهن، و الطوائف السبع الأخر محارمهن من جهة النسب و السبب، و أجداد البعولة حكمهم حكم آبائهم و أبناء أبناء البعولة حكمهم حكم الأبناء.
و قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} في الإضافة إشارة إلى أن المراد بهن المؤمنات من النساء فلا يجوز لهن التجرد لغيرهن من النساء و قد وردت به الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} إطلاقه يشمل العبيد و الإماء، و قد وردت به الرواية كما سيأتي إن شاء الله، و هذا من موارد استعمال {مَا} في أولي العقل.
و قوله: {أَوِ اَلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجَالِ} الإربة هي الحاجة، و المراد به الشهوة التي تحوج إلى الازدواج، و {مِنَ اَلرِّجَالِ} بيان للتابعين، و المراد بهم كما تفسره الروايات البله المولى عليهم من الرجال و لا شهوة لهم.
و قوله: {أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْرَاتِ اَلنِّسَاءِ} أي جماعة الأطفال - و اللام للاستغراق - الذين لم يقووا و لم يظهروا من الظهور بمعنى الغلبة على أمور يسوء التصريح بها من النساء، و هو - كما قيل - كناية عن البلوغ.
و قوله: {وَ لاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ذلك بتصوت أسباب الزينة كالخلخال و العقد و القرط و السوار.
و قوله: {وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المراد بالتوبة - على ما يعطيه السياق - الرجوع إليه تعالى بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه و بالجملة اتباع سبيله.
قوله تعالى: {وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيَامى مِنْكُمْ وَ اَلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَ إِمَائِكُمْ} الإنكاح
التزويج، و الأيامى جمع أيم - بفتح الهمزة و كسر الياء المشددة - و هو الذكر الذي لا أنثى معه و الأنثى التي لا ذكر معها و قد يقال في المرأة أيمة، و المراد بالصالحين الصالحون للتزويج لا الصالحون في الأعمال.
و قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وعد جميل بالغنى و سعة الرزق و قد أكده بقوله: {وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} و الرزق يتبع صلاحية المرزوق بمشية من الله سبحانه، و سيوافيك إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} الذاريات: ٢٣ كلام في معنى سعة الرزق.
قوله تعالى: {وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الاستعفاف و التعفف قريبا المعنى، و المراد بعدم وجدان النكاح عدم القدرة على المهر و النفقة، و معنى الآية الأمر بالتعفف لمن لا يقدر على النكاح و التحرز عن الوقوع في الزنا حتى يغنيه الله من فضله.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إلخ المراد بالكتاب المكاتبة، و ابتغاء المكاتبة أن يسأل العبد مولاه أن يكاتبه على إيتائه المولى مالا على أن يعتقه، و في الآية أمر للموالي بإجابتهم إن علموا فيهم خيرا و هو كناية عن إحراز صلاحيتهم لذلك.
و قوله: {وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ} إشارة إلى إيتائهم مال المكاتبة من الزكاة المفروضة فسهم من سهام الزكاة لهم، كما قال تعالى: {وَ فِي اَلرِّقَابِ} التوبة: ٦٠أو إسقاط شيء من مال المكاتبة.
و في هذه الآية و الآيات السابقة مباحث فقهية جمة ينبغي أن يراجع فيها كتب الفقه.
قوله تعالى: {وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً }الفتيات الإماء و الولائد، و البغاء الزنا و هو مفاعلة من البغي، و التحصن التعفف و الازدواج و ابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال، و المعنى ظاهر.
و إنما اشترط النهي عن الإكراه بإرادة التحصن لأن الإكراه لا يتحقق في من لا يريد التحصن، ثم وعدهن المغفرة على تقدير الإكراه بقوله: {وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} و معناه ظاهر.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} المثل الصفة و من الممكن أن يكون قوله: {وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا} إلخ، حالا من فاعل قوله: {تُوبُوا} في الآية السابقة أو استينافا و المعنى و أقسم لقد أنزلنا إليكم آيات تبين لكم من معارف الدين ما تفلحون به، و صفة من السابقين أخيارهم و أشرارهم يتميز بها لكم ما ينبغي أن تأخذوا به مما ينبغي لكم أن تجتنبوا، و موعظة للمتقين منكم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىَ أَهْلِهَا} قال: الاستيناس وقع النعل و التسليم.
أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن محمد بن الحسن مرفوعا عن عبد الرحمن عنه (عليه السلام).
و في المجمع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا: يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال يتكلم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و يتنحنح على أهل البيت.
و عن سهل بن سعد قال: اطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و معه مدرى۱ يحك رأسه: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما الاستيذان من النظر.
و روي أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أستأذن على أمي؟ فقال: نعم. قال:
إنها ليس لها خادم غيري أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.
و روي: أن رجلا استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتنحنح فقال (صلی الله عليه و أله وسلم) لامرأة يقال لها: روضة: قومي إلى هذا فعلميه و قولي له: قل السلام عليكم أ أدخل؟ فسمعها الرجل فقالها فقال: ادخل.
أقول: و روي في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الجوامع الرواية الأولى عن أبي أيوب، و الثانية عن سهل بن سعد و الرابعة عن عمرو بن سعد الثقفي.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن الاستيذان في البيوت فقال: من دخلت عينه قبل أن يستأذن و يسلم فقد عصى الله و لا إذن له.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} قال: معناه و إن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم.
و فيه في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} قال الصادق (عليه السلام): هي الحمامات و الخانات و الأرحية تدخلها بغير إذن.
و في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث يذكر فيه ما فرض الله على الجوارح. قال: و فرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، و أن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له و هو عمله و هو من الإيمان.
فقال تبارك و تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم و أن ينظر المرء إلى فرج أخيه و يحفظ فرجه أن ينظر إليه، و قال: {وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها و تحفظ فرجها من أن ينظر إليه.
و قال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فهو من النظر.
أقول: و روى القمي في تفسيره، ذيل الحديث عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عنه (عليه السلام)، و روي مثله عن أبي العالية و ابن زيد.
و في الكافي بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة و كان النساء يتقنعن خلف آذانهن فنظر إليها و هي مقبلة فلما جازت نظر إليها و دخل في زقاق قد سماه ببني فلان، و جعل ينظر خلفها، و اعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و الله لآتين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لأخبرنه.
قال: فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل بهذه الآية: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب مثله، و ظاهر الحديث أن المراد بالأمر بالغض في الآية النهي عن مطلق النظر إلى الأجنبية، كما أن ظاهر بعض الروايات السابقة أنه نهي عن النظر إلى فرج الغير خاصة.
و فيه، بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما؟ قال: الوجه و الكفان و القدمان.
أقول: و رواه في الخصال، عن بعض أصحابنا عنه (عليه السلام) و لفظه: الوجه و الكفين و القدمين.
و في قرب الإسناد، للحميري عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه و الكف و موضع السوار.
و في الكافي بإسناده عن عباد بن صهيب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالنظر إلى رءوس أهل تهامة و الأعراب و أهل السواد و العلوج لأنهم إذا نهوا لا ينتهون۱.
قال: و المجنونة و المغلوبة على عقلها، و لا بأس بالنظر إلى شعرها و جسدها ما لم يتعمد ذلك.
أقول: كأنه (عليه السلام) يريد بقوله: ما لم يتعمد ذلك، الريبة.
و في الخصال: و قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا علي أول نظرة لك و الثانية عليك لا لك.
أقول:و روي مثله في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن بريدة عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) و لفظه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي: لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى و ليست لك الآخرة.
و في جوامع الجامع عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم و ذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أ ليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما؟ أ لستما تبصرانه؟
أقول: و رواه في الدر المنثور عن أبي داود و الترمذي و النسائي و البيهقي عنها.
و في الفقيه و روى حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن.
و في المجمع: في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} و قيل: معناه العبيد و الإماء. و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألته عن غير أولي الإربة من الرجال. قال: الأحمق المولى عليه الذي لا يأتي النساء.
و فيه بإسناده عن محمد بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنه بالله عز و جل إن الله يقول {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
أقول: و في المعاني السابقة روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من أرادها فليراجع كتب الحديث.
في الفقيه روى العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز
و جل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و يكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة.
أقول: و في معناه روايات أخر.
و في الكافي بإسناده عن العلاء بن فضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في قوله عز و جل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ} قال: تضع عنه من نجومه التي لم تكن تريد أن تنقصه، و لا تزيد فوق ما في نفسك. فقلت: كم؟ فقال: وضع أبو جعفر (عليه السلام) عن مملوك ألفا من ستة آلاف.
أقول: و روي في مجمع البيان، و كذا في الدر المنثور عن علي (عليه السلام) ربع المال، و المستفاد من ظواهر الأخبار عدم تعين مقدار معين ذي نسبة.
و قد تقدمت في ذيل قوله {وَ فِي اَلرِّقَابِ} التوبة: ٦٠الجزء التاسع من الكتاب رواية العياشي أن المكاتب يؤتى من سهم الرقاب من الزكاة.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}، قال: كانت العرب و قريش يشترون الإماء و يضعون عليهن الضريبة الثقيلة و يقولون: اذهبن و ازنين و اكتسبن فنهاهم الله عن ذلك فقال: {وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ} - إلى قوله - {غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لا يؤاخذهن الله تعالى بذلك إذا أكرهن عليه.
و في المجمع في قوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} قيل: إن عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنا، فلما نزل تحريم الزنا أتين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فشكون إليه فنزلت الآية.
أقول: أما أنه كان له من الجواري من يكرههن على الزنا فقد وردت فيه روايات رواها في الدر المنثور كما روى هذه الرواية، و أما كون ذلك بعد نزول تحريم الزنا فيضعفه أن الزنا لم يحرم في المدينة بل في مكة قبل الهجرة بل كانت حرمته من ضروريات الإسلام منذ ظهرت الدعوة الحقة، و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن حرمة الفواحش و منها الزنا من الأحكام العامة التي لا تختص بشريعة دون شريعة.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٣٥ الی ٤٦]
{اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اَلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ اَلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٣٥ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ ٣٦ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقَامِ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءِ اَلزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصَارُ ٣٧ لِيَجْزِيَهُمُ اَللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٣٨ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٣٩ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ٤٠أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ٤١ وَ لِلَّهِ
مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ ٤٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ٤٣ يُقَلِّبُ اَللَّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصَارِ ٤٤ وَ اَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤٥ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤٦}
(بيان)
تتضمن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفار، تميز المؤمنين منهم بأن المؤمنين مهديون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفار لا تسلك بهم أعمالهم إلا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نورا فما لهم من نور.
و قد بيّن سبحانه هذه الحقيقة بأن له تعالى نورا عاما تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البيّن أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المظهر ظاهرا بنفسه و الظاهر بذاته المظهر لغيره هو النور فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها كما أن الأنوار الحسية تظهر الأجسام
الكثيفة للحس بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهي عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسية غير أصل وجودها.
و نورا خاصا يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنها كوكب دري فتزيد نورا على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربهم و عبادته تجارة و لا بيع.
فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقب للسعادة الخالدة، و حرمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يبصرون، فخص من اشتغل بربه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير يحكم بما أراد ينزل الودق و البرد من سحاب واحد، و يقلب الليل و النهار، و يجعل من الحيوان من يمشي على بطنه و من يمشي على رجلين و من يمشي على أربع و قد خلق الكل من ماء.
و الآيات غير فاقدة للاتصال بما قبلها لما أن بيان الأحكام و الشرائع فيما تقدم انتهى إلى مثل قوله: {وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} و البيان إظهار لحقائق المعارف فهو تنوير إلهي.
على أن الآيات قرآن و قد سمى سبحانه القرآن في مواضع من كلامه نورا كقوله: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} النساء: ١٧٤.
قوله تعالى: {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية. المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كوة غير نافذة و هي ما يتخذ في جدار البيت من الكو لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.
و الدري: من الكواكب العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء، و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتخذ من الزيتون.
و قوله: {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. هذا أول ما وضع عليه لفظ النور ثم عمم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعد كل من الحواس نورا أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع و الشم و الذوق و اللمس.
ثم عمم لغير المحسوس فعد العقل نورا يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره.
و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقا تاما للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتم للنور فهناك وجود و نور يتصف به الأشياء و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله: {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} حيث أضيف النور إلى السماوات و الأرض ثم حمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يحمل قول من قال: إن المعنى الله منور السماوات و الأرض، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يحمل عليها تعالى الله عن ذلك و تقدس.
و من ذلك يستفاد أنه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنما هو عن إظهاره تعالى فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ} إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلون له و يسبحونه فهو نظير قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إسراء: ٤٤، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.
فقد تحصل أن المراد بالنور في قوله: {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العام الذي يستنير به كل شيء و هو مساو لوجود كل شيء و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامة.
و قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى و ظاهره الإضافة اللامية دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العام المستعار الذي يظهر به كل شيء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتصف، به و الدليل عليه قوله بعد تتميم المثل: {يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} إذ لو كان هو النور العام لم يختص به شيء دون شيء بل هو نوره الخاص بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.
و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نورا كما في قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} الصف: ٨، و قوله: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام: ١٢٢ و قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} الحديد: ٢٨، و قوله: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الزمر: ٢٢، و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربهم و هو نور الإيمان و المعرفة.
و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإن الآية تصف حال عامة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده. على أن هذا النور وصف لهم يتصفون به كما يشير إليه قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ} الحديد: ١٩ و قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} التحريم: ٨، و القرآن ليس وصفا لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رجع إلى ما قلناه.
و قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ اَلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} المشبه به مجموع ما ذكر من قوله مشكاة فيها مصباح المصباح إلخ لا مجرد المشكاة و إلا فسد المعنى، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.
و قوله: {اَلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} تشبيه الزجاجة بالكوكب الدري من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكونا من غير اضطراب بتموج الأهوية و ضرب الرياح فهي كالكوكب الدري في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.
و قوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} خبر بعد خبر للمصباح أي المصباح يشتعل آخذا اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة أي إنه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقية و لا غربية أنها ليست نابتة في الجانب الشرقي و لا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفيء الظل عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فإن ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرع على الوصفين: لا شرقية و لا غربية.
و أما قول بعضهم: إن المراد بقوله: {لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ} أنها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إما في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: إن المراد أنها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت فغير مفهوم من السياق.
و قوله: {نُورٌ عَلى نُورٍ} خبر لمبتدإ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك أي في كمال التلمع.
و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدده فليس المراد به أنه نور معين أو غير معين فوق نور آخر مثله، و لا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل أنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه و هذا التعبير شائع في الكلام.
و هذا معنى لا يخلو من جودة و إن كان إرادة التعدد أيضا لا تخلو من لطف و دقة فإن للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدد بتعددهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكف منه فللزجاجة بالنظر إلى تعدد النسب نور غير نور المصباح و هو قائم به و مستمد منه.
و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثل له فإن نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مشرق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به مستمد منه.
فقد تحصل أن الممثل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين و المثل هو المشبه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيد صاف و هو موضوع في مشكاة فإن نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوة و الجودة.
فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جو البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية و لا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء و لو لم تمسسه نار، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون الزجاجة مستمدة من نور المصباح في إنارتها.
و قوله: {يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} استئناف يعلل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم، فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: {مَنْ يَشَاءُ} القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} إلخ، فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم.
و المعنى: أن الله إنما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر - الذين سيذكرهم بعد - لمجرد مشيته، و ليس المعنى أن الله يهدي بعض الأفراد إلى نوره دون بعض بمشيته ذلك حتى يحتاج في تتميمه إلى القول بأنه إنما يشاء الهداية إذا استعد المحل إلى الهداية بحسن السريرة، و السيرة و ذلك مما يختص به أهل الإيمان دون أهل الكفر فافهمه.
و الدليل على ذلك ما سيأتي من قوله: {وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآيات بالبيان الآتي إن شاء الله.
و قوله: {وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى أن المثل المضروب تحته طور من العلم، و إنما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبيين الحقائق و الدقائق و يشترك فيه العالم و العامي فيأخذ منه كل ما قسم له، قال تعالى:
{وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ} العنكبوت: ٤٣.
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ} الإذن في الشيء هو إعلام ارتفاع المانع عن فعله، و المراد بالرفع رفع القدر و المنزلة و هو التعظيم، و إذ كانت العظمة و العلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، و بمقدار ما ينتسب إليه فالإذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه.
و بذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر اسمه فيها، و السياق يدل على الاستمرار أو التهيؤ له فيعود المعنى إلى مثل قولنا: «أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك».
و قوله: {فِي بُيُوتٍ} متعلق بقوله في الآية السابقة: {كَمِشْكَاةٍ} أو قوله: {يَهْدِي اَللَّهُ} إلخ، و المآل واحد، و من المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، و قد قال تعالى: {وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً} الحج: ٤٠.
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ رِجَالٌ} إلى آخر الآية. تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و الغدو جمع غداة و هو الصبح و الآصال جمع أصيل و هو العصر، و الإلهاء صرف الإنسان عما يعنيه و يهمه، و التجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلبا للربح. قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ. و البيع على ما قال: إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و قلب الشيء على ما ذكره صرف الشيء من وجه إلى وجه، و التقليب مبالغة فيه و التقلب قبوله فتقلب القلوب و الأبصار تحول منها من وجه من الإدراك إلى وجه آخر.
و قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ} صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: {وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ}، و كون التسبيح بالغدو و الآصال كناية عن استمرارهم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما.
و الاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لأنه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور و النور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره و إنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه و تنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم
يبق معه غيره و تمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء و الحمد و بالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: ١٦٠، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، و قد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى.
و ببيان آخر حمده تعالى و هو ثناؤه بصفة الكمال مساوي لحصول نور المعرفة و تسبيحه و هو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، و الآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة و هو التسبيح، فافهم ذلك.
و قوله: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ} التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع و الشراء و البيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة و الاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما و لا في وقت من الأوقات، و بعبارة أخرى لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة و لا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم.
و قيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي الهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم الهاء التجارة لا يستلزم عدم الهاء البيع الرابح بالفعل، و لذلك نفى البيع ثانيا بعد نفي الهاء التجارة و لذلك كررت لفظة {لاَ} لتذكير النفي و تأكيده، و هو وجه حسن.
و قوله: {عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقَامِ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءِ اَلزَّكَاةِ} الإقام هو الإقامة بحذف التاء تخفيفا.
و المراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة الإتيان بجميع الأعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، و إقامة الصلاة ممثلة لإتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، و إيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق و ذلك لكون كل منها ركنا في بابه.
و المقابلة بين ذكر الله و بين إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هما - و خاصة الصلاة -
من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان و الغفلة و هو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة و الزكاة ذكر عملي.
فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: {عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ إِقَامِ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءِ اَلزَّكَاةِ} أنهم لا يشتغلون بشيء عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم و ذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة و الزكاة، و عند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة و البيع و بين ذكر الله و إقام الصلاة إلخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر و لا موقت عن الذكر المستمر و الموقت، فافهم ذلك.
و قوله: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصَارُ} هذا هو يوم القيامة، و المراد بالقلوب و الأبصار ما يعم قلوب المؤمنين و الكافرين و أبصارهم لكون القلوب و الأبصار جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.
و أما تقلب القلوب و الأبصار فالآيات الواصفة لشأن يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الأمر و انكشاف الغطاء كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢، و قال: {وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} الزمر: ٤٧، إلى غير ذلك من الآيات.
فتنصرف القلوب و الأبصار يومئذ عن المشاهدة و الرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق و الحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة و الرؤية و هو الرؤية بنور الإيمان و المعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه و هو نور الإيمان و المعرفة فينظر إلى كرامة الله، و يعمى الكافر و لا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: {وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} الزمر: ٦٩ و قال: {يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ} الحديد: ١٢، و قال: {وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى} الإسراء: ٧٢، و قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: ٢٣ و قال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: ١٥.
و قد تبين بما مر:
أولا: وجه اختصاص هذه الصفة أعني تقلب القلوب و الأبصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر و ذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدايته تعالى إلى
نوره و هو نور الإيمان و المعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة و يبصر به.
و ثانيا: أن المراد بالقلوب و الأبصار النفوس و بصائرها.
و ثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصَارُ} لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب و الأبصار، و إنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله و النظر إلى كرامته و هو الشقاء الدائم و العذاب الخالد و في الحقيقة يخافون أنفسهم.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اَللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الظاهر أن لام {لِيَجْزِيَهُمُ} للغاية، و الذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة و الأجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، و مرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكي أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها و انحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن.
و يؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: {وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالإغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالأحسن.
و قوله: {وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} الفضل العطاء، و هذا نص في أنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ} ق: ٣٥، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم.
و قد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاءون قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلْمُحْسِنِينَ} الزمر: ٣٤، و قال: {أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ خَالِدِينَ} الفرقان: ١٦، و قال: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ كَذَلِكَ يَجْزِي اَللَّهُ اَلْمُتَّقِينَ} النحل: ٣١.
فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلق به مشية الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشرهم به فأجد التدبر فيه.
و قوله: {وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: {يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} على ما مر بيانه.
و محصله أنهم عملوا صالحا و كان لهم من الأجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: {وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} النحل: ١١١، و ما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى و أرفع من أن تتعلق به مشيتهم و هذه أيضا موهبة و رزق بغير حساب، و الرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.
غير أنه تعالى وعدهم الرزق و أقسم على إنجازه في قوله: {فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} الذاريات: ٢٣، فملكهم الاستحقاق لأصله و هو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم و أما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً} إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء و لا حقيقة له، و القيع و القاع هو المستوي من الأرض و مفرداهما القيعة و القاعة كالتينة و التمرة، و الظمآن هو العطشان.
لما ذكر سبحانه المؤمنين و وصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة و لا بيع، و أن الله الذي هو نور السماوات و الأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، و تارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها و هي حاجزة عن النور، و هذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.
فقوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} شبه أعمالهم - و هي التي يأتون بها من قرابين و أذكار و غيرهما من
عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء و لا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش و غير ذلك.
و إنما قيل: يحسبه الظمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لأن المطلوب بيان سيره إليه و لا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمإ، و لذلك رتب عليه قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه و يقبل نحوه ليرتوي و يرفع عطشه به، و لا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
و التعبير بقوله: {جَاءَهُ} دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه و نحوها للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه و ينتظره انتظارا و هو الله سبحانه، و لذلك أردفه بقوله: {وَ وَجَدَ اَللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم و جبلتهم و هو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته و جبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، و لا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها و يجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، و توفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال و إيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.
ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، و تشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء و عنده عذب الماء لكنه يعرض عنه و لا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه و يدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه و يقبل نحوه، و تشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال و عند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه و عنده مولاه الذي كان ينصحه و يدعوه إلى شرب الماء.
فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم و الأعمال الصالحة الهادية إلى نوره و فيه سعادتهم و حسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم و الأعمال المقربة إليهم و فيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية و استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم و شارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم و لا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.
و قوله: {وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} إنما هو لإحاطة علمه بالقليل و الكثير و الحقير و الخطير و الدقيق و الجليل و المتقدم و المتأخر على حد سواء.
و اعلم أن الآية و إن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل و خاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة و لا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع و يراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه و الفوز بالسعادة التي يقدرها له، و إن كان ممن ينكره و ينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر و الطبيعة و المادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.
فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى و لا مؤثر غيره و يرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم و ليست إلا سرابا لا حقيقة له و لا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا و عاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، و عند ذلك يوفيهم الله حسابهم و الله سريع الحساب.
قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، و قد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اَلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ} البقرة: ٢٥٧، و قوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام: ١٢٢، و قوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: ١٥.
و قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} معطوف على {كَسَرَابٍ} في الآية السابقة، و البحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر و هي تردد أمواجه، و المعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.
و قوله: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} صفة البحر جيء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه و يحيط به موج كائن من فوقه موج آخر
كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس و القمر و النجوم.
و قوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، و قد أكد ذلك بقوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه و هو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده و لم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.
فهؤلاء و هم سائرون إلى الله و صائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون و لا نور هناك يستضيء به فيهتدي إلى ساحل النجاة.
و قوله: {وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا؟ و جاعل النور هو الله الذي هو نور كل شيء، فإذا لم يجعل لشيء نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ} إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات و الأرض و أنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده و الذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية و الآيات الأربع التالية لها.
فكونه تعالى نور السماوات و الأرض يدل عليه أن ما في السماوات و الأرض موجود بوجود ليس من عنده و لا من عند شيء مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات.
فوجود كل شيء مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشيء و يدل على منوره بما أشرق عليه من النور و أن هناك نورا يستنير به كل شيء فكل شيء مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، و الفاقة التي لزمته، و النقص الذي لا ينفك عنه، و هذا هو تسبيح ما في السماوات و الأرض له سبحانه، و لازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه و سلب أي إله و رب يدبر الأمر دونه تعالى.
و إلى ذلك يشير قوله: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ} و به يحتج تعالى على كونه نور السماوات و الأرض لأن النور هو ما يظهر به الشيء المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، و هو تعالى يظهر و يوجد بإظهاره و إيجاده الأشياء ثم يدل على ظهوره و وجوده.
و تزيد الآية بالإشارة إلى لطائف يكمل بها البيان:
منها: اختصاصها من في السماوات و الأرض و الطير صافات و هم العقلاء و بعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: «{وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
و لعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ {مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور و أبدعه.
و يظهر من بعضهم أن المراد بقوله: {مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ، جميع الأشياء و إنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شئون أولي العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة و وضوح تلك الإشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال.
و فيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ}.
و منها: تصدير الكلام بقوله: {أَ لَمْ تَرَ} و فيه دلالة على ظهور تسبيحهم و وضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيرا ما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} إبراهيم: ١٩، و الخطاب فيه عام لكل ذي عقل و إن كان خاصا بحسب اللفظ.
و من الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد كان أراه الله تسبيح من في السماوات و الأرض و الطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات و الأرض و ليس ببدع منه (صلی الله عليه و أله وسلم) و قد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الأخبار المعتبرة.
و منها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات و الأرض و الطير، و قد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الإسراء: ٤٤، و ستجيء تتمة الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
و قول بعضهم: إن الضمير في قوله: {قَدْ عَلِمَ} راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق و خاصة لقوله بعده: {وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} و نظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه و تنزيهه.
و منها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الأشياء تشير إلى صفات كماله تعالى و هو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان و يؤيده قوله: «{وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} و لعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد و نفي الشركاء و ذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشيء للإله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه.
و أما قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ} فصلاته دعاؤه و الدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء و التحميد.
و منها: أن الآية تنسب التسبيح و العلم به إلى من في السماوات و الأرض فيعم المؤمن و الكافر، و يظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الأشياء و المؤمن و الكافر فيه سواء، و إلى ذلك تشير آيات كآية الذر: {وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف: ١٧٢، و قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢ إلى غير ذلك، و نور خاص و هو الذي تذكره الآيات و يختص بأوليائه من المؤمنين.
فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام و خاص و قد قال تعالى: {وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الأعراف: ١٥٦، و قوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} الجاثية: ٣٠، و قد جمع بينهما في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً} الحديد: ٢٨، و ما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.
و قوله: {وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} و من فعلهم تسبيحهم له سبحانه، و هذا التسبيح و إن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية.
و في ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين و شكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم و سيجزيهم جزاء حسنا، و إيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الأعمال و الكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم.
قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ} سياق الآية و قد وقعت بين قوله: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ} إلخ، و هو احتجاج على شمول نوره العام لكل شيء، و بين قوله: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُزْجِي} إلخ، و ما يتعقبه و هو احتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الأمرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شيء و كونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام و تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
فقوله: {وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} يخص الملك و يقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء و يحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل و هم يسألون، و لازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شيء، و إذ كان لا مليك إلا هو و إليه مرجع كل شيء و مصيره فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
و من هنا يظهر أن المراد - و الله أعلم - بقوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ} مرجعيته تعالى في الأمور دون المعاد نظير قوله: {أَلاَ إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ} الشورى: ٥٣.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} إلى آخر الآية. الإزجاء هو الدفع، و الركام المتراكم بعضه على بعض، و الودق هو المطر، و الخلال جمع الخلل و هو الفرجة بين الشيئين.
و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، و المعنى: أ لم تر أنت و كل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله و فرجه فينزل على الأرض.
و قوله: {وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} السماء جهة العلو، و قوله: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا} بيان للسماء، و الجبال جمع جبل و هو معروف، و قوله: {مِنْ بَرَدٍ} بيان للجبال، و البرد قطعات الجمد النازل من السماء، و كونه جبالا فيها كناية عن كثرته و تراكمه، و السنا بالقصر الضوء.
و الكلام معطوف على قوله: {يُزْجِي}، و المعنى: أ لم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع و البساتين و ربما قتل النفوس و المواشي و يصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار.
و الآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، و المعنى: أن الأمر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم و مواشيهم و مزارعهم و بساتينهم، و إذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء و يصرفه عمن يشاء.
قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اَللَّهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصَارِ} بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى فقط. و تقليب الليل و النهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ} بيان آخر لرجوع الأمر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشي فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات و الديدان، و منهم من يمشي على رجلين كالأناسي و الطيور و منهم من يمشي على أربع كالبهائم و السباع، و اقتصر سبحانه على هذه الأنواع الثلاثة - و فيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار.
و قوله: {يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ} تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الأمر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه
على جميع خلقه كالنور العام، و الرحمة العامة و له أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص و الرحمة الخاصة.
و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل لقوله: {يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ} فإن إطلاق القدرة على كل شيء يستوجب أن لا يتوقف شيء من الأشياء في كينونته على أمر وراء مشيته و إلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الأمر و هذا خلف. و هذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاتضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي.
(بحث فلسفي) [في معنى عليته تعالى للأشياء]
إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و أن كثيرا منها - و خاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانية و مكانية، و إذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا علة تامة وحدها.
نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شيء غيره و كذا الصادر الأول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، و أما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدات.
هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الأجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.
و هاهنا نظر آخر أدق و هو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شيء و بين علله الممكنة و شروطه و معداته يقضي بنوع من الاتحاد و الاتصال بينها فالواحد من الأجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبط به متصل الهوية بغيرها.
فالإنسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب
تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولد في زمان كذا و مكان كذا المتقدم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.
فهذه هو حقيقة زيد مثلا و من الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شيء غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيدة، و هو قوله تعالى: {يَخْلُقُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يريد آية النور و ما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى و الصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب و الضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ} الحمد: ٧، و قد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد.
و تذييل الآية بقوله: {وَ اَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو الموجب لعدم تقييد قوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} بلفظة إليكم بخلاف قوله قبل آيات: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
إذ لو قيل: لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و الله يهدي. تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم و أن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم و فيهم المنافق و الذين في قلوبهم مرض و الله العالم.
(بحث روائي)
في التوحيد بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} فقال: هاد لأهل السماوات و هاد لأهل الأرض.
و في رواية البرقي: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.
أقول: إذا كان المراد بالهداية الهداية الخاصة و هي الهداية إلى السعادة الدينية
كان من التفسير بمرتبة من المعنى، و إن كان المراد بها الهداية العامة و هي إيصال كل شيء إلى كماله انطبق على ما تقدم.
و في الكافي بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني امرأة أن أدخلها على أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت و معها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: {زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ} ما عنى بهذا؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الأمثال للشجر إنما ضرب الأمثال لبني آدم.
و في تفسير القمي بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) في هذه الآية {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} قال: بدأ بنور نفسه {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هداه في قلب المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} و المصباح جوف المؤمن و القنديل قلبه، و المصباح النور الذي جعله الله في قلبه.
{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} قال: الشجرة المؤمن {زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، و لا شرقية أي لا غرب لها - إذا طلعت الشمس طلعت عليها و إذا غربت غربت عليها {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} يكاد النور الذي في قلبه يضيء و إن لم يتكلم.
{نُورٌ عَلىَ نُورٍ} فريضة على فريضة، و سنة على سنة {يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} يهدي الله لفرائضه و سننه من يشاء {وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.
ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و مصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر (عليه السلام): إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ اَلْأَمْثَالَ}.
أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، و قد اكتفى (عليه السلام) في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} و قوله: {نُورٌ عَلىَ نُورٍ}.
و أما قوله: سبحان الله ليس لله مثل فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور
الذي هو اسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات و الأرض، و أما الضمير في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح.
و في التوحيد و قد روي عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله عز و جل: {اَللَّهُ نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة (صلی الله عليه و أله وسلم) من دلالات الله و آياته التي يهتدى بها إلى التوحيد و مصالح الدين و شرائع الإسلام و السنن و الفرائض، و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل المصاديق و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الطاهرون من أهل بيته (عليهم السلام) و إلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء (عليهم السلام) و الأوصياء و الأولياء.
نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لأخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} إلخ.
و قد وردت عدة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أهل بيته (عليهم السلام) و هي من التطبيق دون التفسير، و من الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و فيها: أن المشكاة قلب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و المصباح النور الذي فيه العلم، و الزجاجة علي أو قلبه، و الشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية و لا غربية إبراهيم (عليه السلام) ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} إلخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة و إن لم ينزل عليهم ملك.
و ما رواه في التوحيد، بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الزجاجة صدر علي {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل {نُورٌ عَلى نُورٍ} إمام مؤيد بنور العلم و الحكمة في إثر الإمام من آل محمد.
و ما في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق (عليه السلام) و فيه: أن المشكاة فاطمة (عليه السلام)، و المصباح الحسن (عليه السلام)، و الزجاجة الحسين (عليه السلام)،
و الشجرة المباركة إبراهيم (عليه السلام)، و {لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ} ما كان يهوديا و لا نصرانيا، و {نُورٌ عَلى نُورٍ} إمام بعد إمام، و {يَهْدِي اَللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } يهدي الله للأئمة (عليه السلام) من يشاء
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: قلب إبراهيم لا يهودي و لا نصراني).
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما تقدم.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي و فاطمة؟ قال: نعم من أفاضلها.
أقول: و رواه في المجمع، عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) مرسلا، و روى هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: قال: هي بيوت الأنبياء و بيت علي (عليه السلام) منها. و هو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم.
و في نهج البلاغة،: من كلام له (عليه السلام) عند تلاوته {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} و إن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به و ينهون عن المنكر و ينتهون عنه.
كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون.
و في المجمع في قوله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ} و روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام): أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة و انطلقوا إلى الصلاة و هم أعظم أجرا ممن لم يتجر.
أقول: أي لم يتجر و اشتغل بذكر الله كما في روايات أخر.
و في الدر المنثور عن ابن مردويه و غيره عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله تعالى: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ} قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله.
أقول: كأن الرواية غير تامة و تمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون و يبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم و قاموا إلى المسجد فصلوا.
و في المجمع في قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} و سئل أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.
و في روضة الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الله عز و جل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكي لا يضر شيئا يصيبه، و الذي ترون فيه من البرد و الصواعق نقمة من الله عز و جل يصيب بها من يشاء من عباده.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىَ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ} قال: على رجلين الناس، و على بطنه الحيات، و على أربع البهائم، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): و منهم من يمشي على أكثر من ذلك.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٤٧ الی ٥٧]
{وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ٤٧ وَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ٤٨ وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ٤٩ أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ ٥٠
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٥١ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ٥٢ وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ٥٣ قُلْ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ٥٤ وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ ٥٥ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٥٦ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٥٧}
(بيان)
تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنها لا تفارق طاعة الله تعالى، و وجوب الرجوع إلى حكمه و قضائه و أن الإعراض عنه آية النفاق، و تختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين و إيعاد للكافرين.
قوله تعالى: {وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ }«إلخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الإيمان و الطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالإيمان بالله هو العقد على توحيده و ما شرع من الدين، و الإيمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره و نهيه نهيه و حكمه حكمه من غير أن يكون له من الأمر شيء، و طاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، و طاعة الرسول الايتمار و الانتهاء عند أمره و نهيه و قبول ما حكم به و قضى عليه.
فالإيمان بالله و طاعته موردهما نفس الدين و التشرع به، و الإيمان بالرسول و طاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به و ما حكم به و قضى عليه في المنازعات و الانقياد له في ذلك كله.
فبين الإيمانين و الطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد و ضيقه، و يشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ} فأشير إلى تعدد الإيمان و الطاعة و لم يقل: آمنا بالله و الرسول بحذف الباء، و الإيمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: {وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ} النساء: ١٥٠.
فقوله: {وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا} أي عقدنا القلوب على دين الله و تشرعنا به و على أن الرسول لا يخبر إلا بالحق و لا يحكم إلا بالحق.
و قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنَا} عن مقتضى قولهم من بعد ما قالوا ذلك.
و قوله: {وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، و المشار إليه باسم الإشارة القائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لأن الكلام مسوق لذم الجميع.
قوله تعالى: {وَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في منازعة وقعت بينه و بين غيره فأبى الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في ذلك نزلت الآيات.
و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ} النساء: ١٠٥. فللحكم نسبة إليه بالمباشرة و نسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته و بنصبه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للحكم و القضاء.
و بذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، و بالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضى عليه بالمباشرة، و أن الظاهر أن ضمير {لِيَحْكُمَ} للرسول، و إنما أفرد الفاعل و لم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى.
و الآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم و الإعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق.
قوله تعالى: {وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} الإذعان الانقياد، و ظاهر السياق و خاصة قوله: {يَأْتُوا إِلَيْهِ} أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوى أنه حق لا ينفك عنه، و المعنى و إن يكن الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لهم، و لازم ذلك أنهم يتبعون الهوى و لا يريدون اتباع الحق.
قوله تعالى: {أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ} إلى آخر الآية. الحيف الجور.
و ظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الإيمان كما في قوله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} الأحزاب: ٣٢، و قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الأحزاب: ٦٠، و غير ذلك من الآيات.
و أما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: {وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} فإنه حكم بنفاقهم، و لا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الإضراب عنه بقوله: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ}.
و قوله: {أَمِ اِرْتَابُوا} ظاهر إطلاق الارتياب و هو الشك أن يكون المراد هو
شكهم في دينهم بعد الإيمان دون الشك في صلاحية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للحكم أو عدله و نحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة.
و قوله: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ} أي أم يعرضون عن ذلك لأنهم يخافون أن يجور الله عليهم و رسوله لكون الشريعة الإلهية التي يتبعها حكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مبنية على الجور و إماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يراعي الحق في قضائه.
و قوله: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ} إضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة و ذلك أن سبب إعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو ارتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، و أما الخوف من أن يحيف الله عليهم و رسوله فلا موجب له فالله بريء من الحيف و رسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله و رسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون.
و الظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الإيمان مع الإقرار به قولا كما قال آنفا: {وَ مَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، و لو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الإضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لأنها من مطلق الظلم و يدل عليه أيضا الآية التالية.
و قد بان بما تقدم أن الترديد في أسباب الإعراض على تقدير عدم النفاق بين الأمور الثلاثة حاصر و الأقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم إما لضعف إيمانهم و إما لزواله بالارتياب و إما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه و ميله عن الحق إلى الباطل و لا يحتمل ذلك في حكم الله و رسوله.
و قد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد و الإضراب و لعل فيما ذكرناه كفاية، و من أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات.
قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا} إلى آخر الآية سياق قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ} و قد أخذ فيه {كَانَ} و وصف الإيمان في {اَلْمُؤْمِنِينَ} يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة
الإيمان فإن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و عقد القلب على اتباع ما حكم به الله و رسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله و رسوله دون الرد.
و على هذا فالمراد بقوله: {إِذَا دُعُوا إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله و رسوله ليحكم بينهم، و يدل عليه تصدير الجملة بلفظة {إِذَا} و لو كان المراد به دعوة الله و رسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله و رسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان.
و بذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل {دُعُوا} المحذوف هو الله و رسوله، و المعنى: إذا دعاهم الله و رسوله. نعم مرجع الدعوة بآخره إلى دعوة الله و رسوله.
و كيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله و رسوله في قولهم: سمعنا و أطعنا و هو سمع و طاعة للدعوة الإلهية سواء فرض الداعي هو أحد المتنازعين للآخر أو فرض الداعي هو الله و رسوله أو كان المراد هو السمع و الطاعة لحكم الله و رسوله و إن كان بعيدا.
و انحصار قول المؤمنين عند الدعوة في {سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا} يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الإيمان، كما يفيده قوله: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ} على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.
و قد ختمت الآية بقوله: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ} ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقا في باطنه خشية الله و في
ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.
و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعو جميعا.
قوله تعالى: {وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.
و الظاهر أن المراد بقوله: {لَيَخْرُجُنَّ} الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: {وَ لَوْ أَرَادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لَكِنْ كَرِهَ اَللَّهُ اِنْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} التوبة: ٤٧.
و قوله: {قُلْ لاَ تُقْسِمُوا} نهي عن الإقسام، و قوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جيء بالفصل، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من تمام التعليل.
و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره إغلاظكم في الإيمان.
و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لأن طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.
و فيه أن هذا المعنى و إن كان يؤكد اتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنهم إذ كانوا
تولوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجن و هو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل {لَيَخْرُجُنَّ} على هذا المعنى لا دليل يدل عليه.
قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله: {قُلْ} إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، و قد أكده بقوله: {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ} دون أن يقول: و أطيعوني لأن طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتم الحجة.
و لذلك عقب الكلام:
أولا بقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أي فإن تتولوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من التكليف و لا يمسكم منه شيء و عليكم ما حملتم من التكليف و لا يمسه منه شيء فإن الطاعة جميعا لله سبحانه.
و ثانيا بقوله: {وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} أي و إن كان لكل منكم و منه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأن ما يجيء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.
و ثالثا بقوله {وَ مَا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ} و هو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ و إذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.
قوله تعالى {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى آخر الآية.
ظاهر وقوع الآية موقعها أنها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنية و لم تنزل بمكة قبل الهجرة على ما يؤيد سياقها و خاصة ذيلها.
فالآية - على هذا - وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات أن الله تعالى سيجعل لهم مجتمعا صالحا يخص بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صد كافر يعبدونه لا يشركون به شيئا.
فقوله: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} من فيه تبعيضية لا بيانية و الخطاب لعامة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاص بالذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضا.
و قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم و داود و سليمان (عليهما السلام) قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة - ٣٠و قال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ} ص - ٢٦ و قال: {وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} النمل - ١٦ فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.
و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال: {إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الأعراف - ١٢٨ و قال: {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ} الأنبياء - ١٠٥ فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ} إبراهيم - ١٤ فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا و عاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
و أما قول من قال: إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكنهم فيها كما قال تعالى فيهم:
{وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} القصص - ٦.
ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.
و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم - و هم بنو إسرائيل - كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك أمم أشد قوة و أكثر جمعا منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الأولى و ثمود: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} الأعراف - ٦٩ و قال: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} الأعراف - ٧٤ و قد خاطب بذلك الكفار من هذه الأمة فقال: {وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ اَلْأَرْضِ} الأنعام - ١٦٥ و قال: {هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} فاطر - ٣٩.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدى حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله: {وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} إلى آخر الوعد.
قلت: نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبه به و أن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم.
و قوله: {وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ }تمكين الشيء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشيء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكن الدين هو كونه معمولا به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذا بأصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أن الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله: {وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} البقرة - ٢١٣.
و المراد بدينهم الذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفا لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.
و قوله: {وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} هو كقوله: {وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ} عطف على قوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} و أصل المعنى و ليبدلن خوفهم أمنا فنسبة التبديل إليهم إما على المجاز العقلي أو على حذف مضاف يدل عليه قوله: {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} و التقدير و ليبدلن خوفهم أو كون {أَمْناً} بمعنى آمين.
و المراد بالخوف على أي حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفار و المنافقين.
و قوله: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} الأوفق بالسياق أن يكون حالا من ضمير {وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ} أي و ليبدلن خوفهم أمنا في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئا.
و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلم و تأكيد {يَعْبُدُونَنِي} بقوله: {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} و وقوع النكرة شيئا في سياق النفي الدال على نفي الشرك على الإطلاق كل ذلك يقضي بأن المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جلي أو خفي و بالجملة يبدل الله مجتمعهم مجتمعا آمنا لا يعبد فيه إلا الله و لا يتخذ فيه رب غيره.
و قوله: {وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ} ظاهر السياق كون {ذَلِكَ} إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون {كَفَرَ} من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فأولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زي العبودية.
و قد اشتد الخلاف بين المفسرين في الآية.
فقيل: إنها واردة في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمنا بما أعز الإسلام بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في أيام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو الثلاثة الأول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكل كقولهم قتل بنو فلان و إنما قتل بعضهم.
و قيل: هي عامة لأمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل
خوفهم أمنا إيراثهم الأرض كما أورثها الله الأمم الذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - على اختلاف التقرير - و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخروا الأقطار.
و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحققه و لم يكن مرجوّا ذلك يومئذ.
و قيل إنها في المهدي الموعود (عليه السلام) الذي تواترت الأخبار على أنه سيظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا و أن المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).
و الذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدم من البحث بالتحرز عن المسامحات التي ربما يرتكبها المفسرون في تفسير الآيات هو أن الوعد لبعض الأمة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصة منهم و هم الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نص في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدل على كونهم هم الصحابة أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أن المراد بالذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الأمة و إنما صرف الوعد إلى طائفة خاصة منهم تشريفا لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كله تحكم من غير وجه.
و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الذين من قبلهم من الأمم الماضين أولي القوة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختص به أشخاص منهم كما كان كذلك في الذين من قبلهم و أما إرادة الخلافة الإلهية بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسف (عليه السلام) و هي السلطنة الإلهية فمن المستبعد أن يعبر عن أنبيائه الكرام بلفظ {اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعا من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} أو {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي} أو نحوها بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و المراد بتمكين دينهم الذي ارتضى لهم كما مر ثبات الدين على ساقه بحيث لا
يزلزله اختلافهم في أصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه، و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.
و المراد من تبديل خوفهم أمنا، انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوا في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهرا أو مستخفيا على دينهم أو دنياهم.
و قول بعضهم: إن المراد الخوف من العدو الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة،
تحكّم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معينة للمدعي، على أن الآية في مقام الامتنان و أي امتنان على قوم لا عدو يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمته البلية لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرية فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.
و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئا ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كل كرامة إلا كرامة التقوى.
و المتحصل من ذلك كله أن الله سبحانه يعد الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعا صالحا خالصا من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامة و لا أعمالهم إلا الدين الحق يعيشون آمنين من غير خوف من عدو داخل أو خارج، أحرارا من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكم المتحكمين.
و هذا المجتمع الطيب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقق و لم ينعقد منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهدي (عليه السلام) على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا له (عليه السلام) وحده.
فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهدي (عليه السلام) أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟
قلت: فيه خلط بين الخطابات الفردية و الاجتماعية أعني الخطاب المتوجه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأول لا يتعدى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك
يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدى إلى كل من اتصف بما ذكر فيه من الوصف و يسري إليه ما تضمنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدم.
و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنية المتوجهة إلى المؤمنين و الكفار، و منه الخطابات الذامة لأهل الكتاب و خاصة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.
و من هذا القبيل خاصة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} الإسراء: ٧ فإن الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} الكهف: ٩٨، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال: {ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} الأعراف: ١٨٧، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الذي يدرك إنجاز الوعد مما لا ضير فيه البتة.
فالحق أن الآية إن أعطيت حق معناها لم تنطبق إلا على المجتمع الموعود الذي سينعقد بظهور المهدي (عليه السلام) و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الأمة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالأمة المسلمة و عدهم الإسلام دينا لهم و إن تفرقوا فيه ثلاثا و سبعين فرقة يكفر بعضهم بعضا و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمنا يعبدون الله و لا يشركون به شيئا عزة الأمة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حج و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودعهم الحق و الحقيقة، فالوجه أن الموعود بهذا الوعد الأمة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلامية.
و أما تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الأول أو خصوص علي
(عليه السلام) فلا سبيل إليه البتة.
قوله تعالى: {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنها من تمامها.
فقوله: {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ} أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله: {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ} إنفاذ لولايته (صلی الله عليه و أله وسلم) في القضاء و الحكومة.
و قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى - على ما يعطيه السياق -: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهية فينجز لكم وعده أو يجعل لكم إنجازه فإن ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتفاق على كلمة الحق مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدر عليهم بكل خير.
قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ} من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مر من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمنا.
يخاطب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الوعد بخطاب مؤكد أن لا يظن أن الكفار معجزين لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أكرم به أمته و أن أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصه بالخطاب على طريق الالتفات.
و لكون النهي المذكور في معنى أن الكفار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله: {وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ} إلخ، كأنه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: {وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ} (الآيات) قيل: نزلت الآيات في
رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.
و حكى البلخي أنه كانت بين علي و عثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار و أراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه، فنزلت الآيات، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أو قريب منه.
أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحاك :أن النزاع كان بين علي و المغيرة بن وائل و ذكر قريبا من القصة.
و في المجمع في قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ} (الآية) و روي عن أبي جعفر: أن المعني بالآية أمير المؤمنين (عليه السلام).
و في الدر المنثور في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (الآية)، أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن يزيد الجهني قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا أمراء من بعدك يأخذونا بالحق الذي علينا و يمنعونا الحق الذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : عليهم ما حملوا و عليكم ما حملتم.
أقول: و في معناه بعض روايات أخر مروية فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أن الإسلام بما فيه من روح إحياء الحق و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلا و قد اتضح بالأبحاث الاجتماعية اليوم أن استبداد الولاة برأيهم و اتباعهم لأهوائهم في تحكماتهم أعظم خطرا و أخبث أثرا من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحق و العدل.
و في المجمع في قوله تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} (الآية) و اختلف في الآية و المروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنها في المهدي من آل محمد.
قال: و روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين (عليه السلام): أنه قرأ الآية و قال: هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا و هو مهدي هذه الأمة،
و هو الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا. و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام).
أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد تقدم بيان انطباق الآية على ذلك.
و قال في المجمع بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا و عملوا الصالحات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى. و قد عرفت أن المراد به عام و الرواية لا تدل على أزيد من ذلك حيث قال (عليه السلام): هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منا (الحديث).
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء في قوله: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} (الآية) قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.
أقول: ظاهره أن المراد بالذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أن الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.
و فيه أخرج ابن المنذر و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و الضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال :لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح و لا يصبحون إلا فيه فقالوا: أ ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} (الآية).
أقول: هو لا يدل على أزيد من سبب النزول و أما أن المراد بالذين آمنوا من هم؟ و أن الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرض له به.
و نظيرته روايته الأخرى:لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} (الآية) قال: بشر هذه الأمة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.
فإن تبشير الأمة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالذين آمنوا في الآية جميع الأمة أو خصوص الصحابة أو نفرا معدودا منهم.
و في نهج البلاغة: في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال (عليه السلام): إن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلة، و هو دين الله الذي أظهره، و جنده الذي أعزه و أيده حتى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}.
و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق و رب متفرق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك و طمعهم فيك.
فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنما كنا نقاتل بالنصر و المعونة.
أقول: و قد استدل به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن ذلك بل دليل على خلافه، فإن ظاهر كلامه أن الوعد الإلهي لم يتم أمر إنجازه بعد و أنهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أن الدين لم يمكن بعد و لا الخوف بدل أمنا و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال :كنت جالسا مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و إنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} إلى آخر الآية.
أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدل على أنهم ما كانوا بأقل من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلته (صلی الله عليه و أله وسلم) أم تغيرت آراؤهم في تربصهم الدوائر و تقليبهم الأمور؟.
[سورة النور (٢٤): الآیات ٥٨ الی ٦٤]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ اَلْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٨ وَ إِذَا بَلَغَ اَلْأَطْفَالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٩ وَ اَلْقَوَاعِدُ مِنَ اَلنِّسَاءِ اَللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٦٠لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٦١ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٦٢ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣ أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٦٤}
(بيان)
بقية الأحكام المذكورة في السورة و تختتم السورة بآخر الآيات و فيها إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يشرع ما يشرع بعلمه و سيظهر و سينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها و هو كناية عن كونهم على حال ربما لا يحبون أن يراهم عليها الأجنبي. و الظهيرة وقت الظهر، و العورة السوأة سميت بها لما يلحق الإنسان من انكشافها من العار و كان المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.
فقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلخ، تعقيب لقوله سابقا: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا} إلخ، القاضي بتوقف دخول البيت على الإذن و هو كالاستثناء من عمومه في العبيد و الأطفال بأنه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرات في اليوم.
و قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، و ظاهر الذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإماء و إن كان اللفظ لا يأبى عن العموم بعناية التغليب، و به وردت الرواية كما سيجيء.
و قوله: {وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ} يعني المميزين من الأطفال قبل البلوغ، و الدليل على تقيدهم بالتمييز قوله بعد: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}.
و قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} أي كل يوم بدليل تفصيله بقوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ } أي وقت الظهر {وَ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ اَلْعِشَاءِ}، و قد أشار إلى وجه الحكم بقوله: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطلع عليكم فيها غيركم.
و قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان و لا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، و قد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ} أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.
ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ} أي أحكام دينه التي هي آيات دالة عليه {وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ} يعلم أحوالكم و ما تستدعيه من الحكم {حَكِيمٌ} يراعي مصالحكم في أحكامه.
قوله تعالى: {وَ إِذَا بَلَغَ اَلْأَطْفَالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} إلخ، بيان أن حكم
الاستيذان ثلاث مرات في الأطفال مغيى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم و هم البالغون من الرجال و النساء الأحرار {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قوله تعالى: {وَ اَلْقَوَاعِدُ مِنَ اَلنِّسَاءِ اَللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة و هي المرأة التي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله: {اَللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} وصف توضيحي، و قيل: هي التي يئست من الحيض، و الوصف احترازي.
و في المجمع: التبرج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، و أصله الظهور و منه البرج البناء العالي لظهوره.
و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، و المعنى: و الكبائر المسنة من النساء فلا بأس عليهن أن لا يحتجبن حال كونهن غير متبرجات بزينة.
و قوله: {وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهن من وضع الثياب، و قوله: {وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهن عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لاَ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } - إلى قوله - {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ظاهر الآية أن فيها جعل حق للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو التي اؤتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف و إفساد.
فقوله: {لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ } - إلى قوله - {وَ لاَ عَلى أَنْفُسِكُمْ} في عطف {عَلى أَنْفُسِكُمْ} على ما تقدمه دلالة على أن عد المذكورين ليس لاختصاص الحق بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحيانا و إلا فلا فرق بين الأعمى و الأعرج و المريض و غيرهم في ذلك.
و قوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إلخ، في عد {بُيُوتِكُمْ} مع بيوت الأقرباء و غيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبني على كون المؤمنين بعضهم
أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم و بيوت أقربائهم و ما ملكوا مفاتحه و بيوت أصدقائهم.
على أن {بُيُوتِكُمْ} يشمل بيت الابن و الزوج كما وردت به الرواية، و قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} المفاتح جمع مفتح و هو المخزن، و المعنى: أو البيت الذي ملكتم أي تسلطتم على مخازنه التي فيها الرزق كما يكون الرجل قيما على بيت أو وكيلا أو سلم إليه مفتاحه.
و قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} معطوف على ما تقدمه بتقدير بيت على ما يعلم من سياقه، و التقدير أو بيت صديقكم.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} الأشتات جمع شت و هو مصدر بمعنى التفرق استعمل بمعنى المتفرق مبالغة ثم جمع أو صفة بمعنى المتفرق كالحق، و المعنى لا إثم عليكم أن تأكلوا مجتمعين و بعضكم مع بعض أو متفرقين، و الآية عامة و إن كان نزولها لسبب خاص كما روي.
و للمفسرين في هذا الفصل من الآية و في الفصل الذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها و الغور في البحث عنها أولى، و ما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الذي يعطيه سياقهما.
قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} إلخ، لما تقدم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً}.
فقوله: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} المراد فسلموا على من كان فيها من أهلها و قد بدل من قوله: {عَلى أَنْفُسِكُمْ} للدلالة على أن بعضهم من بعض فإن الجميع إنسان و قد خلقهم الله من ذكر و أنثى على أنهم مؤمنون و الإيمان يجمعهم و يوحدهم أقوى من الرحم و أي شيء آخر.
و ليس ببعيد أن يكون المراد بقوله: {فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} أن يسلم الداخل على أهل البيت و يرد السلام عليه.
و قوله: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي حال كون السلام تحية من عند الله شرعها الله و أنزل حكمها ليحيي بها المسلمون و هو مبارك ذو خير كثير باق و طيب
يلائم النفس فإن حقيقة هذه التحية بسط الأمن و السلامة على المسلم عليه و هو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمُ اَلْآيَاتِ} و قد مر تفسيره {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل.
قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ذكر قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ} بيانا للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتصافهم بحقيقة المعنى أي إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله بحقيقة الإيمان و أيقنوا بتوحده تعالى و اطمأنت نفوسهم و تعلقت قلوبهم برسوله.
و لذلك عقبه بقوله: {وَ إِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} و الأمر الجامع هو الذي يجمع الناس للتدبر في أطرافه و التشاور و العزم عليه كالحرب و نحوها.
و المعنى: و إذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الأمور العامة لم يذهبوا و لم ينصرفوا من عند الرسول حتى يستأذنوه للذهاب.
و لذلك أيضا عقبه بقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ} و هو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة و عدم الانفكاك.
و قوله: {فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء و لا يأذن لمن لم يشأ.
و قوله: {وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أمر له بالاستغفار لهم تطييبا لنفوسهم و رحمة بهم.
قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} إلى آخر الآية، دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الأمور كدعوتهم إلى الإيمان و العمل الصالح، و دعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، و دعوتهم إلى الصلاة جامعة، و أمرهم بشيء في أمر دنياهم أو أخراهم فكل ذلك دعاء و دعوة منه (صلی الله عليه و أله وسلم).
و يشهد بهذا المعنى قوله ذيلا: {قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} و ما
يتلوه من تهديد مخالفي أمره (صلی الله عليه و أله وسلم) كما لا يخفى. و هو أنسب لسياق الآية السابقة فإنها تمدح الذين يلبون دعوته و يحضرون عنده و لا يفارقونه حتى يستأذنوه و هذه تذم و تهدد الذين يدعوهم فيتسللون عنه لواذا غير مهتمين بدعائه و لا معتنين.
و من هنا يعلم عدم استقامة ما قيل إن المراد بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خطابه فيجب أن يفخم و لا يساوى بينه و بين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمد و يا ابن عبد الله، بل: يا رسول الله.
و كذا ما قيل: إن المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرض لدعائه عليهم بإسخاطه فإن الله تعالى لا يرد دعاءه هذا، و ذلك لأن ذيل الآية لا يساعد على شيء من الوجهين.
و قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} التسلل: الخروج من البين برفق و احتيال من سل السيف من غمده، و اللواذ: الملاوذة و هو أن يلوذ الإنسان و يلتجئ إلى غيره فيستتر به، و المعنى: أن الله يعلم منكم الذين يخرجون من بين الناس و الحال أنهم يلوذون بغيرهم و يستترون به فينصرفون فلا يهتمون بدعاء الرسول و لا يعتنون به.
و قوله: {فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ظاهر سياق الآية بما تقدم من المعنى أن ضمير {عَنْ أَمْرِهِ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و دعوته من أن تصيبهم فتنة و هي البلية أو يصيبهم عذاب أليم.
و قيل: ضمير {عَنْ أَمْرِهِ} راجع إلى الله سبحانه، و الآية و إن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ اَلرَّسُولِ} إلخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، و هو أمر، و أول الوجهين أوجه.
قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} اختتام للسورة ناظر - إلى قوله - في مفتتحها: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَ فَرَضْنَاهَا وَ أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها.
فقوله: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} بيان لعموم الملك و أن كل شيء
مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، و الناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله و ما يحتاج إليه فالذي يشرعه لهم من الدين مما يحتاجون إليه في حياتهم كما أن ما يرزقهم من المعيشة مما يحتاجون إليه في بقائهم.
فقوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة بمنزلة النتيجة المترتبة على الحجة أي ملكه لكم و لكل شيء يستلزم علمه بحالكم و بما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرعه لكم و يفرضه عليكم.
و قوله: {وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} معطوف على قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي و يعلم يوما يرجعون إليه و هو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا و الله بكل شيء عليم.
و في هذا الذيل حث على الطاعة و الانقياد لما شرعه و فرضه من الأحكام و العمل به من جهة أنه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أن في الصدر حثا على القبول من جهة أن الله إنما شرعها لعلمه بحاجتهم إليها و أنها التي ترفع بها حاجتهم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} (الآية)،أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و أبو داود و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال :آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن، و إني لآمر جاريتي هذه لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي.
و في تفسير القمي في الآية قال: إن الله تبارك و تعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الأوقات على أحد لا أب و لا أخت و لا أم و لا خادم إلا بإذن، و الأوقات بعد طلوع الفجر و نصف النهار و بعد العشاء الآخرة. ثم أطلق بعد هذه الثلاثة الأوقات فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} يعني بعد هذه الثلاثة الأوقات {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ}.
و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل:
{مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: هي خاصة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذن في هذه الثلاث ساعات؟ قال: لا و لكن يدخلن و يخرجن {وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ} قال: من أنفسكم، قال عليكم۱ استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات.
أقول: و روي فيه روايات أخرى غيرها في كون المراد بالذين ملكت أيمانكم الذكور دون الإناث عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام).
و في المجمع في الآية: معناه مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم. عن ابن عباس و قيل:أراد العبيد خاصة. عن ابن عمر. و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام).
أقول: و بهذه الأخبار و بظهور الآية يضعف ما رواه الحاكم عن علي (عليه السلام) في الآية قال: النساء فإن الرجال يستأذنون.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنما هي في كتاب الله العشاء و إنما يعتم بحلاب الإبل.
أقول: و روي مثله عن عبد الرحمن بن عوف و لفظه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم قال الله: {وَ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ اَلْعِشَاءِ} و إنما العتمة عتمة الإبل.
و في الكافي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قرأ «أن يضعن من ثيابهن» قال: الجلباب و الخمار إذا كانت المرأة مسنة.
أقول: و في معناه أخبار أخر.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحاك قال :كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يخالطهم في طعامهم أعمى و لا مريض و لا أعرج لأن الأعمى لا يبصر طيب الطعام، و المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، و الأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلتهم.
و فيه أخرج الثعلبي عن ابن عباس قال :خرج الحارث غازيا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و خلف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه و كان مجهودا فنزلت.
و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل و هو جائع حتى يجد من يؤاكله و يشاربه فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}.
أقول: و في معنى هذه الروايات روايات أخر.
و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: هؤلاء الذين سمى الله عز و جل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم و كذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا.
و فيه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): و ما أحب له أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بد له منه إن الله لا يحب الفساد.
و فيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الأب قال: يأكل منه فأما الأم فلا تأكل منه إلا قرضا على نفسها.
و فيه بإسناده عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للمرأة أن تأكل و أن تصدق و للصديق أن يأكل من منزل أخيه و يتصدق.
و فيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قال: الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه.
و في المجمع في قوله تعالى: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ}، و قيل معناه من بيوت أولادكم و يدل عليه قوله (عليه السلام): أنت و مالك لأبيك و قوله (عليه السلام): إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه و إن ولده من كسبه.
أقول: و في هذه المعاني روايات كثيرة أخرى.
و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} (الآية) فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم.
أقول: و قد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ } - إلى قوله - { حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فإنها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنهاهم الله عز و جل عن ذلك.
و فيه في قوله تعالى: {فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} قال: نزلت في حنظلة بن أبي عياش و ذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقيم عند أهله فأنزل الله عز و جل هذه الآية {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} فأقام عند أهله ثم أصبح و هو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الأرض فكان يسمى غسيل الملائكة.
و فيه في قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} قال: لا تدعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يدعو بعضكم بعضا، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز و جل: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، يقول: لا تقولوا: يا محمد و لا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبي الله و يا رسول الله.
أقول: و روي مثله عن ابن عباس، و قد تقدم أن ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملائمة.
(٢٥) سورة الفرقان مكية و هي سبع و سبعون آية (٧٧)
[سورة الفرقان (٢٥): الآیات ١ الی ٣]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ }{تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ١ اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ٢ وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً ٣}
(بيان)
غرض السورة بيان أن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعوة حقة عن رسالة من جانب الله تعالى و كتاب نازل من عنده و فيها عناية بالغة بدفع ما أورده الكفار على كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رسولا من جانب الله و كون كتابه نازلا من عنده و رجوع إليه كرة بعد كرة.
و قد استتبع ذلك شيئا من الاحتجاج على التوحيد و نفي الشريك و ذكر بعض أوصاف يوم القيامة و ذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، و الكلام فيها جار على سياق الإنذار و التخويف دون التبشير.
و السورة مكية على ما يشهد به سياق عامة آياتها نعم ربما استثني منها ثلاث آيات و هي قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } - إلى قوله - {غَفُوراً رَحِيماً}.
و لعل الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أن الزنا و الخمر كانا معروفين بالتحريم في الإسلام من أول ظهور الدعوة الإسلامية.
و من العجيب قول بعضهم: إن السورة مدنية كلها إلا ثلاث آيات من أولها {تَبَارَكَ اَلَّذِي} - إلى قوله - {نُشُوراً}.
قوله تعالى: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} البركة - بفتحتين - ثبوت الخير في الشيء كثبوت الماء في البركة - بالكسر فالسكون - مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض و استقر عليها، و منه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير و في صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، و هو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلا على سبيل الندرة.
و الفرقان هو الفرق سمي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل، و يؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضا مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات: و الفرقان أبلغ من الفرق لأنه يستعمل في الفرق بين الحق و الباطل، و تقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، و هو اسم لا مصدر فيما قيل، و الفرق يستعمل فيه و في غيره. انتهى.
و العالمون جمع عالم و معناه الخلق قال في الصحاح: العالم الخلق و الجمع العوالم، و العالمون أصناف الخلق انتهى. و اللفظة و إن كانت شاملة لجميع الخلق من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و الجن و الملك لكن سياق الآية - و قد جعل فيها الإنذار غاية لتنزيل القرآن - يدل على كون المراد بها المكلفين من الخلق و هم الثقلان: الإنس و الجن فيما نعلم.
و بذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أن الآية تدل على عموم رسالته (صلی الله عليه و أله وسلم) لجميع ما سوى الله فإن فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالإنذار و نظير الآية قوله تعالى: {وَ اِصْطَفَاكِ عَلى نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ} آل عمران: ٤٢ و قوله: {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} الجاثية: ١٦.
و النذير بمعنى المنذر على ما قيل، و الإنذار قريب المعنى من التخويف.
فقوله تعالى: {تَبَارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ} أي ثبت و تحقق خير كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزل على عبده كتابا فارقا بين الحق و الباطل منقذا للعالمين من الضلال سائقا لهم إلى الهدى.
و الجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى و كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رسولا منه نذيرا للعالمين مع تسمية القرآن فرقانا بين الحق و الباطل و توصيف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بكونه عبدا له نذيرا للعالمين المشعر بكونه مملوكا مأمورا لا يملك من نفسه شيئا كل ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنه افتراء على الله اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أعانه على ذلك قوم آخرون، و من طعنهم في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و سائر ما تفوهوا به - و ما يدفع به مطاعنهم.
فالمحصل أنه كتاب يفرق بحجته الباهرة بين الحق و الباطل فلا يكون إلا حقا إذ الباطل لا يفرق بين الحق و الباطل و إنما يشبه الباطل بالحق ليلبس على الناس، و أن الذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين و يدعوهم إلى الحق فلا يكون إلا على الحق و لو كان مبطلا لم يدع إلى الحق بل حاد عنه و انحرف على أن الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته و أن الذي جاء به من الكتاب منزل من عنده.
و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالفرقان مطلق الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء و بعبده عامة الأنبياء (عليه السلام)، و لا يخفى بعده من ظاهر اللفظ.
و قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} اللام للتعليل و تدل على أن غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذرا لجميع العالمين من الإنس و الجن، و الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، و لا يخلو الإتيان بصيغة الجمع المحلى باللام من إشارة إلى أن للجميع إلها واحدا لا كما يذهب إليه الوثنيون حيث يتخذ كل قوم إلها غير ما يتخذه الآخرون.
و الاكتفاء بذكر الإنذار دون التبشير لأن الكلام في السورة مسوق سوق الإنذار و التخويف.
قوله تعالى: {اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآية. الملك بكسر
الميم و فتحها قيام شيء بشيء بحيث يتصرف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرف بالأمر و النهي و أنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيته و ما في أيديهم، و يطلق على القسم الثاني الملك بضم الميم.
فالملك بكسر الميم أعم من الملك بضمها كما قال الراغب: الملك -بفتح الميم و كسر اللام - هو المتصرف بالأمر و النهي في الجمهور، و ذلك يختص بسياسة الناطقين، و لهذا يقال: ملك الناس و لا يقال: ملك الأشياء - إلى أن قال - فالملك -بالضم- ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، و الملك –بالكسر- كالجنس للملك فكل ملك -بالضم- ملك -بالكسر- و ليس كل ملك –بالكسر– ملكا –بالضم- انتهى.
و ربما يخص الملك بالكسر بما يتعلق بالرقبة، و الملك بالضم بغيره.
فقوله تعالى: {اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} و اللام للاختصاص يفيد أن السماوات و الأرض مملوكة له غير مستقلة بنفسها في جهة من جهاتها و لا مستغنية عن التصرف فيها بالحكم و أن الحكم فيها و إدارة رحاها يختص به تعالى فهو المليك المتصرف بالحكم فيها على الإطلاق.
و بذلك يظهر ترتب قوله: {وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} على ما تقدمه فإن الملك على الإطلاق لا يدع حاجة إلى اتخاذ الولد إذ اتخاذ الولد لأحد أمرين إما لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع أموره و لا يملك تدبيرها جميعا فيتخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه و الله سبحانه يملك كل شيء و يقوى على ما أراد، و إما لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلا في أمد محدود فيتخذ الولد ليخلفه فيقوم على أموره بعده و الله سبحانه يملك كل شيء سرمدا و لا يعتريه فناء و زوال فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد البتة و فيه رد على المشركين و النصارى.
و كذا قوله تعالى بعده: {وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ} فإن الحاجة إلى الشريك إنما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الأمور كلها و ملكه تعالى عام لجميع الأشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذ منه شاذ، و فيه رد على المشركين.
و قوله تعالى: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} بيان لرجوع تدبير عامة الأمور إليه تعالى وحده بالخلق و التقدير فهو رب العالمين لا رب سواه.
بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الأسباب المتقدمة على الشيء و المقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الأشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شيء و آثار وجوده حسب ما تقدره العلل و العوامل المتقدمة عليه و المقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل و العوامل المتقدمة و المقارنة و إذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للأمر غيره فلا رب يملك الأشياء و يدبر أمرها غيره.
فكونه تعالى له ملك السماوات و الأرض حاكما متصرفا فيها على الإطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، و قيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، و قيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك و التدبير فهو الرب عز شأنه.
و ملكه تعالى للسماوات و الأرض و إن استلزم استناد الخلق و التقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع و ربوبيته للكل لا ينافي ملك آلهتهم و ربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع ألوهيته رب لمربوبيته و الله سبحانه ملك الملوك و رب الأرباب و إله الآلهة.
فلذلك لم يكف قوله: {اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} لإثبات اختصاص الربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الإتيان بقوله: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}.
فكأن قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات و الأرض يغنيه عن اتخاذ الولد و الشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الأشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له و لما فوضه إليه و هذا هو الذي كانت يراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.
فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه و التقدير يلازمه و إذا اجتمعا لزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شيء فليس مع ملكه ملك و لا مع ربوبيته ربوبية.
فقد تحصل أن قوله: {اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ
لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ} مسوق لتوحيد الربوبية و نفي الولد و الشريك من طريق إثبات الملك المطلق، و أن قوله: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} تقرير و بيان لمعنى عموم الملك و أنه ملك متقوم بالخلق و التقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم و تدبير من غير أن يفوض شيئا من الأمر إلى أحد من الخلق.
و في الآية و التي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى.
قوله تعالى: {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ} إلخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شيء و مقدره و أن له ملك السماوات و الأرض و هكذا كان يجب أن يكون الإله المعبود، أشار إلى ضلالة المشركين حيث عبدوا أصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم و لا مالكة شيئا لأنفسهم و لا لغيرهم.
و ضمير {وَ اِتَّخَذُوا} للمشركين على ما يفيده السياق و إن لم يسبق لهم ذكر و مثل هذا التعبير يفيد التحقير و الاستهانة.
و قوله: {مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ} يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، و توصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ} إشارة إلى أن ليس لها من الألوهية إلا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشيء كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ} النجم: ٢٣.
و وضع النكرة في قوله: {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه و هو خالق كل شيء و تعلقوا بأصنام لا يخلقون و لا شيئا من الأشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لأوهامهم، و نظير الكلام جار في قوله: {ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} و قوله: {مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً}.
و قوله: {وَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} نفي للملك عنهم و هو ضروري في الإله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر و يجلبوا إليهم النفع و إذ كانوا لا يملكون ضرا و لا نفعا حتى لأنفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا و ضلالا.
و بذلك يظهر أن في وقوع {لِأَنْفُسِهِمْ} في السياق زيادة تقريع و الكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لأنفسهم ضرا حتى يدفعوه و لا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم؟ و قد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع.
و قوله: {وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً} أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاءوا و لا حياة حتى يسلبوها عمن شاءوا أو يفيضوها على من شاءوا و لا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، و ملك هذه الأمور من لوازم الألوهية.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القرآن و الفرقان هما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به.
و في الاختصاص للمفيد، في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم، قال: و أي كتاب هو، قال: الفرقان قال: و لم سماه ربك فرقانا؟ قال: لأنه متفرق الآيات و السور أنزل في غير الألواح و غيره من الصحف و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلها جملة في الألواح و الأوراق. قال: صدقت يا محمد.
أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين.
[سورة الفرقان (٢٥): الآیات ٤ الی ٢٠]
{وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ اِفْتَرَاهُ وَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً ٤ وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ٥ قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ
اَلسِّرَّ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ٦ وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ٧ أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَ قَالَ اَلظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ٨ اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ٩ تَبَارَكَ اَلَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ١٠بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ١١ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً ١٢ وَ إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً ١٣ لاَ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ١٤ قُلْ أَ ذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً ١٥ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ خَالِدِينَ كَانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً ١٦ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ ١٧ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَ لَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً ١٨ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لاَ نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ١٩ وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوَاقِ وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ٢٠}
(بيان)
تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تجيب عنه.
قوله تعالى: {قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ اِفْتَرَاهُ وَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} إلخ في التعبير بمثل قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} من غير أن يقال: و قالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين.
و المشار إليه بقولهم: {إِنْ هَذَا} القرآن الكريم، و إنما اكتفوا بالإشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشيء من أوصافه إزراء به و حطا لقدره.
و الإفك هو الكلام المصروف عن وجهه، و مرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نسبه إلى الله سبحانه.
و السياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب و قد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حويطب بن عبد العزى و يسار مولى العلاء بن الحضرمي و جبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة أسلموا و كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يتعهدهم فقيل ما قيل.
و قوله: {فَقَدْ جَاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً} قال في مجمع البيان: إن جاء و أتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما و كذبا، و قيل إن ظلما منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد جاءوا بظلم، و قيل: حال و التقدير فقد جاءوا ظالمين و هو سخيف.
و فيه أيضا: و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: لما تقدم التحدي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى هاهنا بالتنبيه على ذلك انتهى و الظاهر أن الجواب عن قولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ اِفْتَرَاهُ} إلخ، و قولهم: {أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا} إلخ، جميعا هو قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ} إلخ، على ما سنبين و الجملة أعني قوله: {فَقَدْ جَاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً} رد مطلق لقولهم و هو في معنى المنع مع السند و سنده الآيات المشتملة على التحدي.
و بالجملة معنى الآية: و قال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد(صلى الله عليه وآله و سلم)و قد نسبه إلى الله - افترى به على الله و أعانه على هذا الكلام قوم آخرون و هم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما و كذبا.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً} الأساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب و يغلب استعماله في الأخبار الخرافية و الاكتتاب هو الكتابة و نسبته إليه (صلی الله عليه و أله وسلم) مع كونه أميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الأمير كتبت إلى فلان كذا و كذا و إنما كتبه كاتبه بأمره، و الدليل على ذلك قوله بعد: {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً} إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للإملاء، و قيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.
و الإملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه و يعيه أو إلى الكاتب ليكتبه و المراد به في الآية هو المعنى الأول على ما يعطيه سياق {اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ} إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعة و الإملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرأ عليه وقتا بعد وقت و هو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه و حفظه.
و البكرة و الأصيل الغداة و العشي، و هو كناية عن الوقت بعد الوقت، و قيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم و آخر النهار بعد دخولهم في منازلهم و هو كناية عن أنها تملى عليه خفية.
و الآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الأولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت
بقراءة شيء بعد شيء عليه، و هو يقرؤها على الناس و ينسبها إلى الله سبحانه.
فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا و ربما قيل: إن قوله: {اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ} إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، و هو استفهام إنكاري لقولهم: {أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ} و السياق لا يساعد عليه.
قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) برد قولهم و تكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى و أنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت.
و توصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الأمور و بواطنها في السماوات و الأرض للإيذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، و فيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى و أنه من الأساطير و هو مما يعلمه تعالى.
و قوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم و تأخير عقوبتهم على جناياتهم و تكذيبهم للحق و جرأتهم على الله سبحانه.
و المعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى و لا من الأساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرارا خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم و لا تحيط بها أحلامكم، و رميكم إياه بالإفك و الأساطير و تكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم و أخر عقوبة جنايتكم لأنه متصف بالمغفرة و الرحمة و ذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية.
و فيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى و من الأساطير بدعوى أنه منزل من عند الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها.
على أن التعليل بقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الإمهال و التأخير و إنما المناسب للإمهال و التأخير من الأسماء هو مثل الحليم و العليم و الحكيم دون الغفور الرحيم.
و الأوفق لمقام المخاصمة و الدفاع بإبانة الحق و التعليل بالمغفرة و الرحمة أن يكون قوله : {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} تعليلا لإنزال الكتاب و قد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا و هذه هي النبوة، و يكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات و الأرض للإيماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة و الرحمة الإلهيتين لحالهم و هو طلبهم بفطرتهم و جبلتهم للسعادة و العاقبة الحسنى التي ليست حقيقتها إلا السعادة الإنسانية بشمول المغفرة و الرحمة و إن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا و زينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، و بطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأولين.
و تقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات و الأرض و هو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة و طلبا و انتزاعا للعاقبة الحسنى و حقيقتها فوز الدنيا و الآخرة، و كان سبحانه غفورا رحيما و مقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم و بلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة.
و هذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله و لا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم و تستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة و الرحمة و إن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله و لو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة و لم يدع إلى محض الحق و لاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم و نفعكم و هو الذي يجلب إليكم المغفرة و الرحمة، و تارة إلى ما هو شر لكم و ضار و هو الذي يثير عليكم السخط الإلهي و يستوجب لكم العقوبة.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ اِفْتَرَاهُ} إلخ.
و تعبيرهم عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) بقولهم: {لِهَذَا اَلرَّسُولِ} مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم و الاستهزاء.
و قولهم: {مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ} استفهام للتعجيب و الوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب و هو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، و متلوث بقذاراتها، و لذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله و يقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، و ليس للبشر شيء من ذلك.
و من هنا يظهر معنى قولهم: {مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ} و أن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام و المشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، و ليست إلا من شئون الملائكة و لذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: {لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً} المؤمنون: ٢٤ أو ما في معناه.
و من هنا يظهر أيضا أن قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا و هو يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و الرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية فإن، تنزلنا و سلمنا رسالته و هو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الإنذار و تبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك.
و كذا قولهم: {أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك و استقل بالرسالة و هو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية و لا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، و نزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.
و كذا قولهم: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} تنزل عما قبله في الاقتراح، و المعنى: و إن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها و لا يحتج إلى كسب المعاش و هذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً} المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر و وصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم و الاجتراء على الله و رسوله.
و قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ} إلخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم و إغواء عن طريق الحق، و مرادهم بالرجل المسحور النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة و الكتاب.
قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} الأمثال الأشباه و ربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: {مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} سورة محمد: ١٥، و المحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة لأن الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة و لا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش، و كقولهم: إنه رجل مسحور.
و قوله: {فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي تفرع على هذه الأمثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق و لا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، و ربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، و من سمى كتاب الله بالأساطير و وصف رسوله بالمسحور و لم يزل يزيد تعنتا و لجاجا و استهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه و حاله هذه؟.
قوله تعالى: {تَبَارَكَ اَلَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} الإشارة في قوله: {مِنْ ذَلِكَ} إلى ما اقترحوه من قولهم: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز و الجنة.
و القصور جمع قصر و هو البيت المشيد العالي، و تنكير {قُصُوراً} للدلالة على التعظيم و التفخيم.
و الآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا و كذا بل عدل إلى قوله: {تَبَارَكَ اَلَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ} إلخ.
و فيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا و لا يصلحون لأن يخاطبوا لأنهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، و لم يدع أن له قدرة غيبية و سلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الإسراء{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} إسراء: ٩٣.
فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم و عن الجواب عما اقترحوه، و إنما ذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ربه الذي اتخذه رسولا و أنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار، و يجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف و ذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.
و بهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز و الجنة، و أما نزول الملك إليه ليشاركه في الإنذار و يعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، و قد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} الأنعام: ٩، و قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} إسراء: ٩٥، و قوله: {مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} الحجر: ٨، و قد تقدم تقرير حجة كل من الآيات في ضمن تفسيرها.
و من هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات و القصور له (صلی الله عليه و أله وسلم) جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة و رد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت و كيت و هم يريدون تعجيزك و تبكيتك و إن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار إلخ و هي لا محالة في الدنيا و إلا لم ينقطع به الخصام.
و بذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة و قصورها و أفسد منه قول آخرين إن المراد جعل جنات تجري من تحتها الأنهار في الدنيا و جعل القصور في الآخرة، و ربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ} و هو
صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا و في القصور بقوله: {يَجْعَلْ} و هو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، و الاختلاف في التعبير تفنن فيه و تجديد لصورة الكلام و الله العالم.
قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً}، إضراب عن طعنهم فيه (صلی الله عليه و أله وسلم) و اعتراضهم عليه بأكل الطعام و المشي في الأسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك و ردوا نبوتك لأنك تأكل الطعام و تمشي في الأسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الأصلي في إنكارهم نبوتك و طعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة و أنكروا المعاد، و من المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة و لا معنى للدين و الشريعة لو لا المحاسبة و المجازاة.
فالإشارة إلى السبب الأصلي بعد ذكر الاعتراض و الاقتراح و الجواب هاهنا نظير ما وقع في سورة الإسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الأصلي في قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً وَ مَا مَنَعَ اَلنَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَ بَعَثَ اَللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}.
و ذكر جمع من المفسرين أن قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد و الكتاب و الرسالة في قوله: {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} و قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ} إلخ، و قوله: {وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ} إلخ.
ثم تشعبوا في نكتة الإضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، و قال بعضهم: إن إنكاره أعظم، و قال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك.
و الحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و الجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوَاقِ} إلخ، و ما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول و المجيبة عنه، و هو ظاهر.
و قوله تعالى: {وَ أَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} وضع الموصول و الصلة مكان
الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم و غيرهم فيه سواء، و على أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة.
و وضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص و أصرح فهو المناسب لمقام التهديد، و السعير النار المشتعلة الملتهبة.
قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً} في المفردات: الغيظ أشد غضب - إلى أن قال - و التغيظ هو إظهار الغيظ، و قد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً} انتهى، و فيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، انتهى.
و الآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته.
قوله تعالى: {وَ إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} {مَكَاناً} منصوب بتقدير في، و الثبور الويل و الهلاك.
و التقرين التصفيد بالأغلال و السلاسل و قيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين و هو بعيد من اللفظ. و المعنى و إذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار و هم مصفدون بالأغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف و هو قولهم: وا ثبوراه.
قوله تعالى: {لاَ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} الاستغاثة بالويل و الثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة و إذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل و لا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا و لذا قال تعالى: {لاَ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ} إلخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم. فهو في معنى قوله تعالى: {اِصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} الطور: ١٦، و قوله حكاية عنهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} إبراهيم: ٢١.
و قيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة. و هو بعيد.
قوله تعالى: {قُلْ أَ ذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ } - إلى قوله -
{مَسْؤُلاً} الإشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم أيهما أرجح السعير أم جنة الخلد؟ و السؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل و هو دائر في المناظرة و المخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة و الآخر بديهي البطلان فيكلف أن يختار أحدهما: فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، و إن اختار الباطل افتضح.
و قوله: {أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ} إضافة الجنة إلى الخلد و هو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: {خَالِدِينَ} للدلالة على أن أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم.
و قوله: {وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ} تقديره وعدها المتقون لأن وعد يتعدى لمفعولين و المتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل.
و قوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً} أي جزاء لتقواهم و منقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: {إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ} - إلى أن قال - {وَ مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} الحجر: ٤٨ و هو من الأقضية التي قضاها يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له، و يتعين به جزاء المتقين و مصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر.
و قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ خَالِدِينَ} أي إنهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، و لا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه و يشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: {وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} سبأ: ٥٤، و لا يحبون و لا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا و هو الذي يحبه الله لهم و هو ما يستحقونه من الخير و السعادة مما يستكملون به و لا يستضرون به لا هم و لا غيرهم فافهم ذلك.
و بهذا البيان يظهر أن لهم إطلاق المشية يعطون ما شاءوا و أرادوا غير أنهم لا يشاءون إلا ما فيه رضا ربهم، و يندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم إطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي و القبائح و الشنائع و اللغو، و أن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، و أن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، و أن يريدوا مقامات الأنبياء و المخلصين من الأولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.
كيف؟ و قد قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي} الفجر: ٢٧ - ٣٠فهم راضون بما رضي به الله و مرضيون لا يريدون إلا ما يرتضيه فلا يريدون معصية و لا قبيحا و لا شنيعا و لا لغوا و لا كذابا، و لا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، و لا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، و لا يشاءون و لا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لأن الذي خصهم بها هو ربهم و قد رضوا بما فعل و أحبوا ما أحبه.
و قوله تعالى: {كَانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً} أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، و إنما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، و أخبر عن ذلك بمثل قوله: {وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ } - إلى أن قال - {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسَابِ} ص: ٥٣.
و وجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسئولا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم و استعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: {رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} الخ: المؤمن: ٨ أو جميع هذه الأسئلة.
و ذكر الطبرسي (ره) في الآية أن قوله: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَ مَصِيراً} حال من ضمير الجنة المقدر في {وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ} و أن قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ} حال من {اَلْمُتَّقُونَ} و هو أقرب إلى الذهن من قول غيره إن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية ضمائر الجمع الأربعة عائدة إلى الكفار، و المراد بما يعبدون الملائكة و المعبودون من البشر و الأصنام إن كان {مَا} أعم من غير أولي العقل، و إلا فالأصنام فقط.
و المشار إليهم المعنيون بقوله: {عِبَادِي هَؤُلاَءِ} الكفار و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} إلخ، جواب المعبودين عن قوله: {أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} إلخ و قد بدءوا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.
و قوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} أي ما صح و ما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء و هم الذين عبدونا و اتخذونا أولياء من دونك، و قوله: {وَ لَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً} البور جمع بائر و هو الهالك و قيل: الفاسد.
لما نفى المعبودون المسئولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الإضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم و هو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين و قد متعتهم و آباءهم من أمتعة الحياة الدنيا و نعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا و ابتلاء فتمتعوا منها و اشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.
فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا و انهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع و انصراف هممهم إلى الاشتغال بالأسباب و هو السبب لنسيانهم الذكر و العدول عن التوحيد إلى الشرك.
فتبين بذلك أن قوله: {وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً} من تمام الجواب و أما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله و استفاد منه أن السبب الأصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، و ليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، و إنما نسب إلى أنفسهم أدبا.
ففيه أولا: أنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لإيراد الاستدراك بقوله: {وَ لَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا اَلذِّكْرَ} لكونه فضلا لا حاجة إليه.
و ثانيا: أن نسبة البوار و الشقاء إلى ذوات الأشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم و التربية، و الحس و التجربة يؤيدان ذلك و هو يناقض القول بالاختيار و الجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أما مناقضة القول بالجبر فلأن الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى و ينفيه عن غيره و يناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الأشياء و ماهياتها.
و ثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الإجبار فإن القضاء إنما تعلق
بالفعل بحدوده و هو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار.
و رابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله و إنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا و بمثله صرحوا في نسبة المعاصي و الأعمال القبيحة الشنيعة و الفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الأدب كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، و بعبارة أخرى ظرافة الفعل، و إذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه و لا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق و كذبا و فرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح و إحياء باطل؟ و أي ظرافة و لطف في الكذب و الفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله؟
و الله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب و الفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، و إذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه؟.
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لاَ نَصْراً} إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، و أما كلام المعبودين فقد تم في قوله: {وَ كَانُوا قَوْماً بُوراً}.
و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء و ينصرونهم، و إذ كذبوكم و نفوا عن أنفسهم الألوهية و الولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، و لا تستطيعون نصرا لأنفسكم بسببهم.
و الترديد بين الصرف و النصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم و هو الصرف. و عدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب و هو النصر.
و قرأ غير عاصم من طريق حفص «يستطيعون» بالياء المثناة من تحت و هي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم
آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم و يتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا و لا نصرا.
و قوله: {وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} المراد بالظلم مطلق الظلم و المعصية و إن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: {وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} إلخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، و لو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: و نذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا لأنهم كلهم ظالمون ظلم الشرك.
و النكتة فيه الإشارة إلى أن الحكم الإلهي نافذ جار لا مانع منه و لا معقب له كأنه قيل: و إن كذبكم المعبودون و ما استطاعوا صرفا و لا نصرا فالحكم العام الإلهي من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا على نفوذه و جريانه لا مانع منه و لا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة.
قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوَاقِ} إلى آخر الآية. أجاب تعالى عن قولهم: {مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ} إلخ، أولا بقوله: {تَبَارَكَ اَلَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} إلخ، مع ما يلحقه من قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} إلخ، و هذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين و قد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق و لم يخلق لهم جنة يأكلون منها و لا ألقي إليهم كنز و لا أنزل معهم ملك، و هذا الرسول إنما هو كأحدهم و لم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره.
فالآية في معنى قوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} الأحقاف: ٩، و قريبة المعنى من قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} الكهف: ١١٠.
فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه (صلی الله عليه و أله وسلم) خاصة و توجيهه إلى عامة
الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم و قد حكى الله عنهم ذلك قال: {فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا} التغابن: ٦، و قال: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} إبراهيم: ١٠، و قال: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} المؤمنون: ٣٣.
قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: {مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ} إلخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال و أما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} إلخ، و قوله قبل ذلك: {قُلْ أَنْزَلَهُ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ} إلخ، على ما تقدم من التقرير.
و من عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التي أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، و أما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: {اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ} هذا و هو خطأ.
و قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ} متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية تورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الإلهية كإنزال ملك عليهم أو إلقاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: و السبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان و المتبعون للأهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله و سلوك سبيله.
و بما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه و هي الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند المصائب.
و ثانيا: أن قوله: {وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} من وضع الحكم العام موضع الخاص، و المطلوب الإشارة إلى جعل الرسل و حالهم هذه الحال فتنة لسائر الناس.
و قوله تعالى: {وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي عالما بالصواب في الأمور فيضع كل أمر
في الموضع المناسب له و يجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الإنساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له و يستحقه و لازمه بسط نظام الامتحان بينهم و لازمه ارتفاع التمايز بين الرسل و غيرهم.
و في الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، و النكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: {تَبَارَكَ اَلَّذِي إِنْ شَاءَ} إلخ.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و النضر بن الحارث و أبا البختري و الأسود بن المطلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية و أمية بن خلف و العاصي بن وائل و نبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه و خاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.
قال: فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، و إن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، و إن كنت تطلب ملكا ملكناك.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، و لا الشرف فيكم، و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم.
قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك و سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك و سله أن يجعل لك جنانا و قصورا من ذهب و فضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك و منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا.
فأنزل الله في قولهم ذلك {وَ قَالُوا مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ} - إلى قوله - {وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً. أَ تَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، و لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت.
و فيه أخرج الطبراني و ابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله و هل لجهنم من عين؟ قال: أ ما سمعتم الله يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} فهل تراهم إلا بعينين؟
أقول: و رواه أيضا عن رجل من الصحابة، و في حجة الخبر خفاء.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي أسيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قول الله: {وَ إِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} قال: و الذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.
[سورة الفرقان (٢٥): الآیات ٢١ الی ٣١]
{وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرىَ رَبَّنَا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ٢١ يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ٢٢ وَ قَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ٢٣ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً ٢٤ وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ٢٥ اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَ كَانَ يَوْماً عَلَى اَلْكَافِرِينَ عَسِيراً ٢٦ وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظَّالِمُ عَلى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً ٢٧ يَا وَيْلَتىَ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ٢٨ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً ٢٩ وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً ٣٠وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً ٣١}
(بيان)
تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول و سائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته و يجد من نفسه ما يجده.
و هذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الأنبياء الماضين كما حكاه الله: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} إبراهيم: ١٠، و قد مر تقريبه مرارا.
و هذا مع ما تقدم من اعتراضهم بقولهم: {مَا لِهَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ} إلخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين و محصل تقريره أن الرسالة التي يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية و اتصالا غيبيا لا حظ فيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، و إن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بشر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا؟ فلو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.
و قد أجاب الله سبحانه عن الشق الأول بما تقدم تقريره، و عن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، و الجواب في معنى قوله: {مَا
نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} الحجر: ٨ و سيجيء تقريره، و في الآيات إشارة إلى ما بعد الموت و يوم القيامة.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} قال في مجمع البيان: الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه و مثله الطمع و الأمل، و اللقاء المصير إلى الشيء من غير حائل، و العتو الخروج إلى أفحش الظلم. انتهى.
و المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقى في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الإلهية كما قال تعالى: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ}.
فالمراد بعدم رجائهم اللقاء إنكارهم للمعاد و تكذيبهم بالساعة و لم يعبر عنه بتكذيب الساعة و نحوه كما عبر في الآيات السابقة لمكان ذكرهم مشاهدة الملائكة و رؤية الرب تعالى و تقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا و طلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء و زعمهم استحالة ذلك فقد ألزموا بما هو مستحيل على زعمهم.
فقولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا} اعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} الحجر: ٧، و تقرير الحجة كما تقدمت الإشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - و هي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله و نحن بشر أمثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة و لا نرى ربنا؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.
و يؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة و رؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك. على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا و فيه تصديقه.
و في التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم و الله سبحانه رب الأرباب
فكأنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : إنك ترى أن الله ربك و قد حن إليك فخصك بالمشافهة و التكليم، و أنه ربنا، فليحن إلينا و ليشافهنا بالرؤية كما فعل بك.
على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الأصنام و هم الملائكة و روحانيات الكواكب و نحوهم إلى عبادة الأصنام و التماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة و التقرب بالقرابين.
و قوله تعالى: {لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} أي أقسم لقد طلبوا الكبر لأنفسهم بغير حق و طغوا طغيانا عظيما.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} في المفردات: الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: {وَ قَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ} {وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا إن ذلك ينفعهم. انتهى.
و عن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر و عن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه و بينهما ترة.
فقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} {يَوْمَ} على ما قيل ظرف لقوله: {لاَ بُشْرى} و قوله: {يَوْمَئِذٍ} تأكيد له، و المراد بقوله: {لاَ بُشْرى} نفي للجنس، و المراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك و المجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، و قد تقدم ذكرهم و المعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين و هم منهم.
و قوله: {وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة و هم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، و قيل: ضمير الجمع للملائكة، و المعنى: و يقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجنة أو حراما محرما
عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شيء فلا معاذ لكم هذا، و المعنى: الأول أقرب إلى السياق.
و الآية في موضع الجواب عن قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ} و قد أعرضت عن جواب قولهم: {أَوْ نَرى رَبَّنَا} فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم و المادية تعالى عن ذلك، و أما الرؤية بعين اليقين و هي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك و على تقديره ما كانوا يقصدونه.
و أما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة و رؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الإخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الإخبار عن أصل رؤيتهم للإشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجري على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار و ذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الأخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: {مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} الحجر: ٨، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب و هم يحسبون أنهم يعجزون الله و رسوله بالحجة.
و أما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ} فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت و ما بعده كقوله: {وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ} الآية: الأنعام: ٩٣، و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} النساء: ٩٧ إلى غير ذلك من الآيات.
أن المراد به الموت و هو المسمى في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة و يشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، و المتعين على ما يقتضيه طبع المخاصمة في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه و هو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة و قوله لهم:
حجرا محجورا، و قد رآهم قبل ذلك و عذب بأيديهم أمدا بعيدا و هو ظاهر.
فالظاهر أن الآية و الآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، و إحباط أعمالهم فيه، و حال أهل الجنة التي فيه.
قوله تعالى: {وَ قَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} قال الراغب في المفردات: العمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد و قد ينسب إلى الجمادات، و العمل قلما ينسب إلى ذلك، و لم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم: البقر العوامل. انتهى.
و قال: الهباء دقاق التراب و ما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة. انتهى. و النثر التفريق.
و المعنى: و أقبلنا إلى كل عمل عملوه - و العمل هو الذي يعيش به الإنسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، و الكلام مبني على التمثيل مثل به استيلاء القهر الإلهي على جميع أعمالهم التي عملوها لسعادة الحياة و إبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخرب الدار و هدم الآثار و أحرق المتاع و الأثاث فأفنى منه كل عين و أثر.
و لا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ و بين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم و إجرامهم فإن معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم و قد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع.
قوله تعالى: {أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً} المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: {قُلْ أَ ذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ}، و المستقر و المقيل اسما مكان من الاستقرار و معناه ظاهر و من القيلولة و هي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا على ما قيل و الجنة لا نوم فيه.
و كلمتا {خَيْرٌ} و {أَحْسَنُ} منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: {وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الروم: ٢٧، و قوله: {مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ} الجمعة: ١١ كذا قيل، و ليس يبعد أن يقال: إن «أفعل» أو ما هو في معناه كخير بناء على ما
رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل و العناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك و الاجرام و استحسنوا ذلك و لازمه النار في الآخرة فقد أثبتوا لها خيرية و حسنا فقوبلوا بأن الجنة و ما فيها خير و أحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار و أن يختاروا الإيمان على الكفر على أي حال، و قيل: إن التفضيل مبني على التهكم.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً} الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، و المعنى و اذكر يوم كذا و كذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا و هذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: {اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ}، و قيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها.
و {تَشَقَّقُ} أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم و التشقق التفتح، و الغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر.
و الباء في قوله: {تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} إما للملابسة و المعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، و إما بمعنى عن و المعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه.
و كيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها و نزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: {وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَ اَلْمَلَكُ عَلى أَرْجَائِهَا} الحاقة: ١٧.
و ليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل و بروز عالم السماء و هو من الغيب و بروز سكانها و هم الملائكة و نزولهم إلى العالم الأرضي موطن الإنسان.
و قيل: المراد أن السماء يشقها الغمام و هو الذي يذكره في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمَامِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ} البقرة: ٢١٠، و قد مر كلام في تفسير الآية.
و التعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح و ما يماثله للتهويل، و كذا التنوين في قوله: {تَنْزِيلاً} للدلالة على التفخيم.
قوله تعالى: {اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَ كَانَ يَوْماً عَلَى اَلْكَافِرِينَ عَسِيراً} أي
الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمن و ذلك لبطلان الأسباب و زوال ما بينها و بين مسبباتها من الروابط المتنوعة، و قد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك و الحكم لله و الأمر إليه وحده، و أن لا استقلال في شيء من الأسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة و رجوع كل شيء إليه تعالى.
و قوله: {وَ كَانَ يَوْماً عَلَى اَلْكَافِرِينَ عَسِيراً} الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الأسباب و إخلادهم إلى الحياة الأرضية البائدة الداثرة و انقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة و عن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم و لا ملاذ لهم و لا معاذ.
فعلى هذا يكون الملك مبتدأ و الحق خبره عرف لإفادة الحصر، و يومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدإ، و فائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، و إنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الأشياء فيه و ثبوته لها في غيره.
و قال بعضهم: الملك بمعنى المالكية و يومئذ متعلق به و الحق خبر الملك، و قيل: يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، و قيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، و قيل: يومئذ هو الخبر للملك و الحق صفة للمبتدإ، و هذه أقوال ردية لا جدوى لها.
قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً} قال الراغب في المفردات: العض أزم بالأسنان، قال تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنَامِلَ} و {وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظَّالِمُ} و ذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك. انتهى. و لذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: {يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً}.
و الظاهر أن المراد بالظالم جنسه و هو كل من لم يهتد بهدى الرسول، و كذا المراد بالرسول جنسه و إن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الأمة و الرسول على محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).
و المعنى: و اذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.
قوله تعالى: {يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، و فلان كناية عن العلم المذكر و فلانة عن العلم المؤنث قال الراغب: فلان و فلانة كنايتان عن الإنسان و الفلان و الفلانة باللام كنايتان عن الحيوانات. انتهى.
و المعنى: يا ويلتي -يا هلاكي- ليتني لم أتخذ فلانا - و هو من اتخذه صديقا يشاوره و يسمع منه و يقلده - خليلا.
و ذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، و كأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للإنسان غير أن السياق لا يساعد عليه.
و من لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: {يَا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ} إلخ و في هذه الآية: {يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ} إلخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء و الاستغاثة فحذف المنادي في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء و ذكر الويل بعد ذلك في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شيء قط إلا الهلاك و الفناء، و لذلك نادى الويل.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} تعليل للتمني السابق و المراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية و ينطبق بحسب المورد على القرآن.
و قوله: {وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} من كلامه تعالى و يمكن أن يكون تتمة لكلام الظالم ذكره تأسفا و تحسرا.
و الخذلان - بضم الخاء - ترك من يظن به أن ينصر نصرته، و خذلانه أنه يعد الإنسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالأسباب و نسي ربه فلما تقطعت الأسباب بظهور القهر الإلهي يوم الموت جزئيا و يوم القيامة كليا خذله و سلمه إلى الشقاء، قال تعالى: {كَمَثَلِ اَلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} الحشر: ١٦ و قال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} إبراهيم: ٢٢.
و في هذه الآيات الثلاث إشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الأهواء و أولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيد ذلك.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً} المراد بالرسول محمد(صلى الله عليه وآله و سلم)بقرينة ذكر القرآن، و عبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته و إرغاما لأولئك القادحين في رسالته و كتابه و الهجر بالفتح فالسكون الترك.
و ظاهر السياق أن قوله: {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ} إلخ معطوف على {يَعَضُّ اَلظَّالِمُ} و القول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث و الشكوى و على هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع و المراد بالقوم عامة العرب بل عامة الأمة باعتبار كفرتهم و عصاتهم.
و أما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} و كون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق و عليه فلفظة قال على ظاهر معناها و المراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه.
و نظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان. و هو ظاهر.
قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً} أي كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الأنبياء و أممهم فلا يسوأنك ما تلقى من عداوتهم و لا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و معنى: جعل العدو من المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق و أبغضوا الداعي إليه و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة.
و قوله: {وَ كَفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَ نَصِيراً} معناه على ما يعطيه السياق لا يهولنك أمر عنادهم و عداوتهم و لا تخافنهم على اهتداء الناس و نفوذ دينك فيهم و بينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية و استعد له و إن كفر هؤلاء و عتوا فليس اهتداء الناس منوطا باهتدائهم و كفى به نصيرا ينصرك و ينصر دينك الذي بعثك به و إن هجره هؤلاء و لم ينصروك و لا دينك فالجملة مسوقة لإظهار الاستغناء عنهم.
فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذيله للاستغناء عن المجرمين من
قومه، و في قوله: {وَ كَفى بِرَبِّكَ} حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير الخطاب و لم يقل: و كفى بالله تأييد له.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان، عن كتاب الجنة و النار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه و دبره و قيل: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللَّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} و ذلك قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرىَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} فيقولون حراما عليكم الجنة محرما.۱
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء فجعل الله أعمالهم كذلك.
و فيه أخرج سمويه في فوائده عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار.
قال سالم: بأبي و أمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون و يصومون و يأخذون سنة من الليل و لكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم.
و في الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ قَدِمْنَا إِلىَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} قال: أما و الله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي و لكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.
أقول: و هذا المعنى مروي فيه و في غيره عنه و عن أبيه (عليه السلام) بغير واحد من الطرق.
و في الكافي أيضا بإسناده عن عبد الأعلى و بإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث وضع المؤمن في قبره: ثم يفسحان يعني الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة و يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: {أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً}.
أقول: و الرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، و تشير بقوله: «و يقال له: نم إلخ »إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه.
و في الدر المنثور أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم و كان يكثر مجالسة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يعجبه حديثه و غلب عليه الشقاء.
فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله (عليه السلام) إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فقال: أطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك و طعم من طعامه.
فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال أ صبوت يا عقبة؟ - و كان خليله - فقال: لا و الله ما صبوت و لكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا و لم يقتل من الأسارى يومئذ غيره.
أقول: و قد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً}، أن السبيل هو علي (عليه السلام) و هو من بطن القرآن أو من قبيل الجري و ليس من التفسير في شيء.
[سورة الفرقان (٢٥): الآیات ٣٢ الی ٤٠]
{وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ٣٢ وَ لاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً ٣٣ اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً ٣٤ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ جَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ٣٥ فَقُلْنَا اِذْهَبَا إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ٣٦ وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَ جَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً ٣٧ وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحَابَ اَلرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً ٣٨ وَ كُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ اَلْأَمْثَالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ٣٩ وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ اَلسَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ٤٠}
بيان
نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن و هو أنه لم ينزل جملة واحدة و الجواب عنه.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} المراد بهم مشركو العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ اِفْتَرَاهُ} إلخ.
و قوله: {لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} قد تقدم أن الإنزال و التنزيل إنما يفترقان في أن الإنزال يفيد الدفعة و التنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لأدائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة و التفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعة غير مفرق كما أنزل التوراة و الإنجيل و الزبور.
لكن ينبغي أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح و القرآن إنما كان ينزل عليه (صلی الله عليه و أله وسلم) بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الأمين كما يتلقى السامع الكلام من المتكلم، و الدفعة في إيتاء كتاب مكتوب و تلقيه تستلزم المعية بين أوله و آخره لكنه إذا كان بقراءة و سماع لم يناف التدريج بين أجزائه و أبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارئ و يتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا.
و هؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو تلقي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سورة بعد سورة و آية بعد آية و يتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحدة و ليتلقه هو مرة واحدة و لو دامت القراءة و التلقي مدة من الزمان، و هذا المعنى أوفق بالتنزيل الدال على التدريج.
و أما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة و كذا الإنجيل و الزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك. على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة.
و كيف كان فقولهم: {لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس و قد بعث رسولا
يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله و فروعه مجموعة فرائضه و سننه و كان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض.
و ليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة و حوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشيء من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله و يدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه و ليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، و ليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل. هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض و الجواب.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَ لاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً} الثبات ضد الزوال، و الإثبات و التثبيت بمعنى واحد و الفرق بينهما بالدفعة و التدريج، و الفؤاد القلب و المراد به كما مر غير مرة الأمر