14

تفسير الميزان ج14

تفسير الميزان ج14 12271
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تفسير السور التالية: مريم، طه، الأنبياء، الحج

/٤۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۱٤

1
  •  

تفسير الميزان ج۱٤

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء الرابع عشر

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱٤

3
  •  

تفسير الميزان ج۱٤

4
  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

  • واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

تفسير الميزان ج۱٤

5
  • (١٩) سورة مريم مكية و هي ثمان و تسعون آية (٩٨) 

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ١ الی ١٥]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {كهيعص ١ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ٢ إِذْ نَادىَ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ٣ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ٤ وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ٥ يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ٦ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اِسْمُهُ يَحْيىَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ٧ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا ٨ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ٩ قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ١٠فَخَرَجَ عَلى‌ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ فَأَوْحى‌ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ١١ يَا يَحْيى‌ خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا ١٢

تفسير الميزان ج۱٤

6
  • وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً وَ كَانَ تَقِيًّا ١٣ وَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ١٤ وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ١٥} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} إلخ، هو التبشير و الإنذار غير أنه ساق الكلام في ذلك سوقا بديعا فأشار أولا إلى قصة زكريا و يحيى و قصة مريم و عيسى و قصة إبراهيم و إسحاق و يعقوب و قصة موسى و هارون و قصة إسماعيل و قصة إدريس و ما خصهم به من نعمة الولاية كالنبوة و الصدق و الإخلاص ثم ذكر أن هؤلاء الذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع و الخشوع لربهم لكن أخلافهم أعرضوا عن ذلك و أهملوا أمر التوجه إلى ربهم و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا و يضل عنهم الرشد إلا أن يتوب منهم تائب و يرجع إلى ربه فإنه يلحق بأهل النعمة. 

  • ثم ذكر نبذة من هفوات أهل الغي و تحكماتهم كنفي المعاد، و قولهم: {اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً}، و عبادتهم الأصنام، و ما يلحقهم بذلك من النكال و العذاب. 

  • فالبيان في السورة أشبه شي‌ء ببيان المدعى بإيراد أمثلته كأنه قيل: إن فلانا و فلانا و فلانا الذين كانوا أهل الرشد و الموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس و التوجه إلى ربهم و سبيلهم الخضوع و الخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد و النعمة لكن أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل، و الإقبال على مذموم الشهوة و لا يؤديهم ذلك إلا إلى الغي خلاف الرشد، و لا يقرهم إلا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله و إثبات الشركاء لله و سد طريق الدعوة و لا يهديهم إلا إلى النكال و العذاب. 

  • فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثم تعقبها باستخراج المعنى الكلي المطلوب بيانه و ذلك قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآيات، فالسورة تقسم الناس إلى 

تفسير الميزان ج۱٤

7
  • ثلاث طوائف: الذين أنعم الله عليهم من النبيين و أهل الاجتباء و الهدى. و أهل الغي، و الذين تابوا و آمنوا و عملوا صالحا و هم ملحقون بأهل النعمة و الرشد ثم تذكر ثواب التائبين المسترشدين و عذاب الغاوين و هم قرناء الشياطين و أولياؤهم. 

  • و السورة مكية بلا ريب تدل على ذلك مضامين آياتها و قد نقل على ذلك اتفاق المفسرين. 

  • قوله تعالى{كهيعص} قد تقدم في تفسير أول سورة الأعراف أن السور القرآنية المصدرة بالحروف المقطعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها و بين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة. 

  • و يؤيد ذلك ما نجده من المناسبة و المجانسة بين هذه السورة و سورة ص في سرد قصص الأنبياء، و سيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطعات الحروف و مضامين السور التي صدرت بها، و كذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة و سورة يس و قد اشتركتا في الياء، و هذه السورة و سورة الشورى و قد اشتركتا في العين. 

  • قوله تعالى{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ظاهر السياق أن الذكر خبر لمبتدء محذوف و المصدر بمعنى المفعول، و المال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربك المذكور، و المراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريا على التفصيل الذي قصة بدليل قوله تلوا: {إِذْ نَادىَ رَبَّهُ}

  • قوله تعالى{إِذْ نَادىَ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} الظرف متعلق بقوله: {رَحْمَتِ رَبِّكَ} و النداء و المناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة، و لا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، و يشعر بذلك قوله الآتي: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ}

  • و قيل: إن العناية في التعبير بالنداء أنه تصور نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه و أحواله السيئة كما يكون حال من يخاف عذابه. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي} إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله و هو قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}

تفسير الميزان ج۱٤

8
  • و قد قدم قوله: {رَبِّ} للاسترحام في مفتتح الدعاء، و التأكيد بإن للدلالة على تحققه بالحاجة، و الوهن‌ هو الضعف و نقصان القوة و قد نسبه إلى العظم لأنه الدعامة التي يعتمد عليها البدن في حركته و سكونه، و لم يقل: العظام مني و لا عظمي للدلالة على الجنس و ليأتي بالتفصيل بعد الإجمال. 

  • و قوله: {وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً} الاشتعال‌ انتشار شواظ النار و لهيبها في الشي‌ء المحترق قال في المجمع: و قوله: {وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً} من أحسن الاستعارات و المعنى اشتعل الشيب في الرأس و انتشر، كما ينتشر شعاع النار، و كان المراد بالشعاع الشواظ و اللهيب. 

  • و قوله: {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} الشقاوة خلاف السعادة، و كان المراد بها الحرمان من الخير و هو لازم الشقاوة أو هو هي، و قوله: {بِدُعَائِكَ} متعلق بالشقي و الباء فيه للسببية أو بمعنى في و المعنى و كنت سعيدا بسبب دعائي إياك كلما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني و تحرمني، أو لم أكن محروما خائبا في دعائي إياك عودتني الإجابة إذا دعوتك و التقبل إذا سألتك، و الدعاء على أي حال مصدر مضاف إلى المفعول. 

  • و قيل: إن {بِدُعَائِكَ} مصدر مضاف إلى الفاعل، و المعنى لم أكن بدعوتك إياي إلى العبودية و الطاعة شقيا متمردا غير مطيع بل عابدا لك مخلصا في طاعتك و المعنى الأول أظهر. 

  • و في تكرار قوله: {رَبِّ} و وضعه متخللا بين اسم كان و خبره في قوله: {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} من البلاغة ما لا يقدر بقدر، و نظيره قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}

  • قوله تعالى{وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً} تتمة التمهيد الذي قدمه لدعائه، و المراد بالموالي العمومة و بنو العم، و قيل: الكلالة و قيل: العصبة، و قيل: بنو العم فحسب، و قيل: الورثة، و كيف كان فهم غير الأولاد من صلب و المراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي و كان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، و هو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب. 

تفسير الميزان ج۱٤

9
  • و قوله: {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً} العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد و رجل عاقر لا يولد له ولد. و في التعبير بقوله: {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي} دلالة على أن امرأته على كونها عاقرا جازت حين الدعاء سن الولادة. 

  • و ظاهر عدم تكرار أن في قوله: {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي} إلخ أن الجملة حالية و مجموع الكلام أعني قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ} إلى قوله: {عَاقِراً} فصل واحد أريد به أن كون امرأتي عاقرا اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي و بعد وفاتي، فمجموع ما مهده للدعاء يئول إلى فصلين أحدهما أن الله سبحانه عوده الاستجابة مدى عمره حتى شاخ و هرم و الآخر أنه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، و يمكن تصوير الكلام فصولا ثلاثة بأخذ كل من شيخوخته و عقر امرأته فصلا مستقلا. 

  • قوله تعالى{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} هذا هو الدعاء، و قد قيد الموهبة الإلهية التي سألها بقوله: {مِنْ لَدُنْكَ} لكونه آيسا من الأسباب العادية التي كانت عنده و هي نفسه و قد صار شيخا هرما ساقط القوى. و امرأته و قد شاخت و كانت قبل ذلك عاقرا. 

  • و ولي الإنسان من يلي أمره، و ولي الميت هو الذي يقوم بأمره و يخلفه فيما ترك، و آل الرجل خاصته الذين يئول إليه أمرهم كولده و أقاربه و أصحابه و قيل: أصله أهل، و المراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام)، و قيل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم و كانت امرأة زكريا أخت مريم و على هذا يكون معنى قوله: {يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يرثني و يرث امرأتي و هي بعض آل يعقوب، و الأشبه حينئذ أن تكون {مِنْ} في قوله: {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} للتبعيض و إن صح كونها ابتدائية أيضا.

  • و قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} الرضي بمعنى المرضي، و إطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم و العمل جميعا فالمراد به المرضي في اعتقاده و عمله أي اجعله رب محلى بالعلم النافع و العمل الصالح. 

  • و قد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران و هي مدنية متأخرة نزولا عن سورة مريم المكية بقوله في ذيل قصة مريم {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً 

تفسير الميزان ج۱٤

10
  • حَسَناً وَ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعَاءِ}: آل عمران: ٣٨. 

  • و لا يرتاب المتدبر في الآيتين أن الذي دعا زكريا و دفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم و كرامتها على الله سبحانه في عبوديتها و إخلاصها العمل فأحب أن يخلفه خلف له من القرب و الكرامة ما شاهد مثله في مريم ثم ذكر ما هو عليه من الشيب و نفاد القوة و ما عليه امرأته من كبر السن و العقر و له موال لا يرتضيهم فوجد لذلك و هو ذاكر ما عوده ربه من استجابة الدعوة و كفاية كل مهمة ففزع إلى ربه بالدعاء و استيهاب ذرية طيبة. 

  • فقوله في سورة آل عمران: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} بحذاء قوله في سورة مريم: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} و قوله هناك: {طَيِّبَةً} بحذاء قوله هنا: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} و المراد به ما شاهده من القرب و الكرامة عند الله لمريم و عملها الصالح فيبقى قوله هناك: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً}، بحذاء قوله هنا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} و هو يفسره فالمراد بقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} إلخ، ولد صلبي يرثه. 

  • و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنه (عليه السلام) طلب بقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} إلخ، من يقوم مقامه و يرثه ولدا كان أو غيره، و كذا ما قيل: إنه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه و يقوم مقامه من سائر الناس. 

  • و ذلك لصراحة قوله في نفس القصة في سورة آل عمران: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في طلب الولد. 

  • على أن التعبير بمثل {فَهَبْ لِي} المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس من الأجانب و إنما الملائم له التعبير بالجعل و نحوه كما في قوله تعالى: {وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً}: النساء: ٧٥. 

  • و من هنا يظهر أيضا أن المراد بقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} الولد كما عبر عنه في آية آل عمران بالذرية فالمراد بالولي الذرية و هو ولي في الإرث، و المراد بالوراثة وراثة ما 

تفسير الميزان ج۱٤

11
  • تركه الميت من الأموال و أمتعة الحياة، و هو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إما لكونه حقيقة في المال و نحوه مجازا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم و سائر الصفات و الحالات المعنوية و إما لكونه منصرفا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أي حال ظاهر في وراثة المال و يتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، و يزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} على ما سيأتي من البيان إن شاء الله. 

  • و أما قول من قال: إن المراد به وراثة النبوة و أنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه النبوة فيدفعه ما عرفت آنفا أن الذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء و المسألة هو ما شاهده من مريم و لا خبر في ذلك عن النبوة و لا أثر فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة و كرامة فيعجبه ذلك و بين أن يطلب من ربه ولدا يرثه النبوة؟ 

  • على أن النبوة مما لا يورث بالنسب و هو ظاهر و لو أصلح ذلك بأن المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازا ظهر الإشكال من جهة أخرى و هي عدم ملائمة ذلك قوله بعد: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولدا نبيا و اجعله رضيا، و لو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشي‌ء بما هو دونه، و كذا احتمال أن يكون المراد بالرضى المرضي عند الناس لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم مع عدم مناسبته لداعيه كما مر. 

  • و يقرب منه في الفساد قول من قال: إن المراد به وراثة العلم و أنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه علمه، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريا من مريم عبادة و كرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربه ولدا يرثه علمه من دون أي مناسبة بين الداعي و المدعو إليه. 

  • و القول بأن المراد بالوراثة وراثة العلم و بقوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} العمل الصالح و مجموع العلم النافع و العمل الصالح يقرب مما شاهده من مريم من الإخلاص و العبادة و الكرامة. 

  • يدفعه أن قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع و العمل الصالح لمكان الإطلاق، و إنما الإنسان المحسن عملا مع الغض عن العلم مرضي العمل و لا يسمى مرضيا مطلقا البتة، و نظير ذلك القول بأن المراد بالرضى 

تفسير الميزان ج۱٤

12
  • المرضي عند الناس. 

  • و يقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى و الكرامة و أنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرث ما له من القرب و المنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولدا له ما لمريم من القرب و الكرامة أو مطلق القرب و الكرامة لا أن يطلب ولدا ينتقل إليه ما لنفسه من القرب و الكرامة. 

  • على أنه لا يلائمه قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} إذ ظاهر السياق أنه يطلب ولدا يرثه و ينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي و هو يخاف منهم أن يتلبسوا بذلك بعد وفاته، و لا معنى لأن يخاف (عليه السلام) تلبس مواليه بالقرب و المنزلة و اتصافهم بالتقوى و الكرامة لا قبل وفاته و لا بعدها فساحة الأنبياء أنزه و أطهر من هذه الضنة و لا أمنية لهم إلا صلاح الناس و سعادتهم. 

  • و قول بعضهم إن مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته بعده، فيه أن هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنية إلهية فهي مما لا يورث بالنسب قطعا، على أنها لا تخطئ المورد الصالح لها و لا يتلبس بها إلا أهلها و لا وجه للخوف من ذلك، و إن كانت خلافة ظاهرية دنيوية تورث بالنسب و نحوه فهي قنية اجتماعية و من أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة و الملك. 

  • على أن يحيى (عليه السلام) لم يتقلد من هذه الخلافة و الملك شيئا حتى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، و لم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن زكريا و يحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم. 

  • فإن قلت: يؤيد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم و نحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية و الهمم العليا للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المنقطع الفاني و اتصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما زكريا (عليه السلام) فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع و التجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال و المتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف و الحزن و الخوف و يستدعي من ربه ذلك النحو من الاستدعاء و هو يدل على كمال المحبة 

تفسير الميزان ج۱٤

13
  • و تعلق القلب بالدنيا و زخارفها. 

  • و القول بأنه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربه وارثا مرضيا فاسد فإنه إذا مات الرجل و انتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ و لا مؤاخذة في ذلك على الميت و لا عتاب. 

  • مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته و يتصدق به كله في سبيل الله و يترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم و قبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى و ترويج الشريعة و بقاء النبوة في أولاده. 

  • قلت: الإشكال مبني على كون قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} مسوقا لبيان طلب الوراثة المالية لولده و الواقع خلافه فليس المقصود من قوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} بالقصد الأول إلا طلب الولد كما هو الظاهر أيضا من قوله في سورة آل عمران: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً} و قوله في موضع آخر: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً}: الأنبياء: ٨٩. 

  • و إنما قوله: {يَرِثُنِي} قرينة معينة لكون المراد بالولي في الكلام ولاية الإرث التي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عاما ذا مصاديق مختلفة لا يتعين واحد منها إلا بقرينة معينة كما قيدت بالنصرة في قوله: {وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ}: الشورى: ٤٦، و المراد به ولاية النصرة، و قيدت بالأمر و النهي في قوله: {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ}: التوبة: ٧١، و المراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك. 

  • و لو لا أن المراد به الوراثة المالية و أنها قرينة معينة لم يبق في الكلام ما يدل على طلب الولد الذي هو المقصود الأصلي بالدعاء فإن وراثة العلم أو النبوة أو العبادة و الكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شي‌ء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خاليا عن الدلالة على المطلوب الأصلي و كفى به سقوطا للكلام. 

  • و بالجملة، العناية إنما هي متعلقة بإفادة طلب الولد، و أما الوراثة المالية فليست 

تفسير الميزان ج۱٤

14
  • مقصودة بالقصد الأول و إنما هي قرينة معينة لكون المراد بالولي هو الولد نعم هي في نفسها تدل على أنه لو كان له ولد لورثه ماله، و ليس في ذلك و لا في قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} و حاله حال قوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} دلالة على تعلق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية و لا بزخارف حياتها التي هي متاع الغرور. 

  • و أما طلب الولد فهو مما فطر الله عليه النوع الإنساني سواء في ذلك الصالح و الطالح و النبي و من دونه و قد جهز الجميع بجهاز التوالد و التناسل و غرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد و يرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه و استيلاءهم على ما كان مستوليا عليه من أمتعة الحياة و هذا هو الإرث استيلاء نفسه و عيش شخصه هذا. 

  • و الشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري و لا ذمت هذه الداعية الغريزية بل مدحته و ندبت إليه، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ}: الصافات: ١٠٠و قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ}: إبراهيم: ٣٩، و قوله حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَ ذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: الفرقان: ٧٤ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فإن قلت: ما تقدم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيا على أن يستفاد من قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} (الآية)، أن الذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم و كرامتها عند الله سبحانه فأحب أن يرزق ولدا يماثلها في العبادة و الكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أن زكريا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعز عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء لم يعز عليه أن يرزقني ولدا في غير وقته و أنا شيخ فان و امرأتي عاقر فقال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي}

  • فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكن هذا النبي الكريم أجل من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنما طلبه ليرث النبوة أو العلم أو العبادة و الكرامة. 

تفسير الميزان ج۱٤

15
  • قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} هي الثمرة في غير موسمها، و أن الذي دعا زكريا (عليه السلام) إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم: {إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} و لو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق و خاصة صدر الآية {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} أن العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربها يرزقها لا من طريق الأسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا (عليه السلام) إلى طلب ذرية طيبة و ولد رضي. 

  • و لو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الأول إلى طلب الذرية و الولد و إذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} و التقييد بالطيب في قوله: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}

  • و قد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً} و في هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته و عقر امرأته و خوفه الموالي بقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} فالمراد بقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} هو الولد بلا شك، و قد عبر عنه و أشير إليه بعنوان ولاية الإرث. 

  • و ولاية الوراثة التي تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من ولاية وراثة التركة، و أما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة و كذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه و كذا ولاية وراثة المقامات المعنوية و الكرامات الإلهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب و الولادة ربما جامعتها و ربما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرفة و مرآة لها إلا مع قرينة قوية، و ليس في الكلام ما يصلح لذلك، و كل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأول و اشتغل بما وراءه، و كفى به سقوطا للكلام. 

  • قوله تعالى{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اِسْمُهُ يَحْيىَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} في الكلام حذف إيجازا، و التقدير: «فاستجبنا له و ناديناه يا زكريا إنا نبشرك» إلخ، 

تفسير الميزان ج۱٤

16
  • و قد ورد في سورة الأنبياء في القصة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيىَ}: الأنبياء: ٩٠، و في سورة آل عمران: {فَنَادَتْهُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرَابِ أَنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىَ}: آل عمران: ٣٩. 

  • و تشهد آية آل عمران على أن قوله: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} إلخ، كان وحيا بتوسط الملائكة فهو قوله تعالى أدته الملائكة إلى زكريا، و ذلك في قوله ثانيا: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} إلخ، أظهر. 

  • و في الآية دلالة على أن الله سبحانه هو الذي سماه يحيى، و هو قوله: {اِسْمُهُ يَحْيىَ} و أنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد، و هو قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أي شريكا في الاسم. 

  • و ليس من البعيد أن يراد بالسمي المثل على حد ما سيأتي من قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (الآية) - ٦٥ من السورة و يشهد عليه أن الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحدا من أنبيائه و أوليائه قبله كقوله فيما سيأتي: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا} و قوله: {وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً}: آل عمران: ٣٩، و قوله: {وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، و المسيح (عليه السلام) و إن شاركه في هذه النعوت و هما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى (عليه السلام). 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا} قال الراغب: الغلام‌ الطار الشارب‌۱ يقال: غلام بين الغلومة و الغلومية، قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} قال: و اغتلم‌ الغلام: إذا بلغ حد الغلمة. انتهى. 

  • و قال في المجمع: العتي و العسي‌ بمعنى يقال: عتا يعتو عتوا و عتيا و عسا يعسو عسوا و عسيا فهو عات و عاس إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبس و الجفاف. انتهى. و بلوغ العتي كناية عن بطلان شهوة النكاح و انقطاع سبيل الإيلاد. 

  • و استفهامه (عليه السلام) عن كون الغلام مع عقر امرأته و بلوغه العتي مع ذكره 

    1. غلام طر شاربه من باب نصر و ضرب: أي طلع.

تفسير الميزان ج۱٤

17
  • الأمرين في ضمن دعائه إذ قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي} إلخ، مبني على استعجاب البشرى و استفسار خصوصياتها دون الاستبعاد و الإنكار فإن من بشر بما لا يتوقعه لتوفر الموانع و فقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيات ما بشر به ليطمئن قلبه و يسكن اضطراب نفسه و هو مع ذلك على يقين من صدق ما بشر به فإن الخطورات النفسانية ربما لا تنقطع مع وجود العلم و الإيمان و قد تقدم نظيره في تفسير قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىَ قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلىَ وَ لَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: البقرة: ٢٦٠. 

  • قوله تعالى{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً} جواب عما استفهمه و استفسره لتطيب به نفسه، و يسكن جأشه، و ضمير قال راجع إليه تعالى، و قوله: {كَذَلِكَ} مقول القول و هو خبر مبتدإ محذوف و التقدير «هو كذلك» أي الأمر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه. 

  • و قوله: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} مقول ثان لقال الأول، و هو بمنزلة التعليل لقوله: {كَذَلِكَ} يرتفع به أي استعجاب فلا يتخلف عن إرادته مراد و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر و امرأة عاقر هين سهل عليه. 

  • و قد وقع التعبير عن هذا الاستفهام و الجواب في سرد القصة من سورة آل عمران بقوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اَللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: آل عمران: ٤٠، فقوله: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} هاهنا يحاذي قوله هناك: {اَللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} و هو يؤيد ما قدمناه من المعنى، و قوله هاهنا: {وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً} بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب. 

  • و في الآية وجوه أخر تعرضوا لها: منها أن قوله: {كَذَلِكَ} متعلق بقال الثاني و مجموع الجملة هو الجواب و المراد أمر ربك بذلك و قضى كذلك، و قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} مقول آخر للقول أو أنه جي‌ء به على سبيل الحكاية. 

  • و منها أن الخطاب في قوله: {قَالَ رَبُّكَ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا لزكريا (عليه السلام) و تلك وجوه لا يساعد عليها السياق. 

تفسير الميزان ج۱٤

18
  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} قد تقدم في القصة من سورة آل عمران أن إلقاء البشرى إلى زكريا كان بتوسط الملائكة {فَنَادَتْهُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرَابِ أَنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىَ}، و هو (عليه السلام) إنما سأل الآية ليتميز به الحق من الباطل فتدله على أن ما سمعه من النداء وحي ملكي لا إلقاء شيطاني و لذلك أجيب بآية إلهية لا سبيل للشيطان إليها و هو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيام إلا بذكر الله سبحانه فإن الأنبياء معصومون بعصمة إلهية ليس للشيطان أن يتصرف في نفوسهم. 

  • فقوله: {قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً} سؤال لآية مميزة، و قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} إجابة ما سأل، و هو أن يعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير ذكر الله و هو سوي أي صحيح سليم من غير مرض و آفة. 

  • فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و المراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيامها و هو شائع في الاستعمال فكان (عليه السلام) يذكر الله بفنون الذكر و لا يقدر على تكليم الناس إلا رمزا و إشارة، و الدليل على ذلك كله قوله تعالى في القصة من سورة آل عمران: {قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ}: آل عمران: ٤١. 

  • قوله تعالى{فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} قال في المجمع: و سمي المحراب‌ محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته، و الأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. و قال: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، و أصله من قولهم: الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{يَا يَحْيىَ خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} قد تكرر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوة و الأمر به كقوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}: الأعراف: ١٤٥، و قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا مَا فِيهِ}: البقرة - ٦٣، و قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا}: البقرة: ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات، 

تفسير الميزان ج۱٤

19
  • و السابق إلى الذهن من سياقها أن المراد من أخذ الكتاب بقوة التحقق بما فيه من المعارف و العمل بما فيه من الأحكام بالعناية و الاهتمام. 

  • و في الكلام حذف و إيجاز رعاية للاختصار، و التقدير: فلما وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في جانبي العلم و العمل، و بهذا المعنى يتأيد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي و سائر كتب الأنبياء فإن الكتاب الذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة۱

  • قوله تعالى{وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً} فسر الحكم بالفهم و بالعقل و بالحكمة و بمعرفة آداب الخدمة و بالفراسة الصادقة و بالنبوة، لكن المستفاد من مثل قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ}: الجاثية: ١٦، و قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ}: الأنعام: ٨٩، و غيرهما من الآيات أن الحكم غير النبوة، فتفسير الحكم بالنبوة ليس على ما ينبغي، و كذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى على شي‌ء من ذلك. 

  • نعم ربما يستأنس من مثل قوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ}: البقرة: ١٢٩، و قوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ}: الجمعة: ٢ و الحكمة بناء نوع من الحكم - أن المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقة الإلهية و انكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العادية و لعله إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. و على هذا يكون المعنى إنا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقية و هو صبي لم يبلغ الحلم بعد. 

  • و قوله: {وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} معطوف على الحكم أي و أعطيناه حنانا من لدنا و الحنان‌: العطف و الإشفاق، قال الراغب: و لكون الإشفاق لا ينفك من الرحمة عبر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى: {وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} و منه قيل: الحنان المنان و حنانيك إشفاقا بعد إشفاق. 

  •  

    1. و ليس من البعيد أن يكون له عليه السلام كتاب يخصه.

تفسير الميزان ج۱٤

20
  • و فسر الحنان في الآية بالرحمة و لعل المراد بها النبوة أو الولاية كقول نوح (عليه السلام): {وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}: هود: ٢٨، و قول صالح: {وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}: هود: ٦٣. 

  • و فسر بالمحبة و لعل المراد بها محبة الناس له على حد قوله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}: طه: ٣٩، أي كان لا يراه أحد إلا أحبه. 

  • و فسر بتعطفه على الناس و رحمته و رقته عليهم فكان رءوفا بهم ناصحا لهم يهديهم إلى الله و يأمرهم بالتوبة و لذا سمي في العهد الجديد بيوحنا المعمد. 

  • و فسر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربه لباه الله سبحانه على ما في الخبر فيدل على أنه كان لله سبحانه حنان خاص به على ما يفيده تنكير الكلمة. 

  • و الذي يعطيه السياق و خاصة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله: {مِنْ لَدُنَّا} و الكلمة إنما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعية العادية أو لا نظر فيه إليها - أن المراد به نوع عطف و انجذاب خاص إلهي بينه و بين ربه غير مألوف، و بذلك يسقط التفسير الثاني و الثالث ثم تعقبه بقوله: {زَكَاةً} و الأصل في معناه النمو الصالح، و هو لا يلائم المعنى الأول كثير ملائمة فالمراد به إما حنان من الله سبحانه إليه بتولي أمره و العناية بشأنه و هو ينمو عليه، و إما حنان و انجذاب منه إلى ربه فكان ينمو عليه، و النمو نمو الروح. 

  • و من هنا يظهر وهن ما قيل: إن المراد بالزكاة البركة و معناها كونه مباركا نفاعا معلما للخير، و ما قيل: إن المراد به الصدقة، و المعنى و آتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدق به على الناس أو المعنى أنه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أن الحكم المؤتى صدقة من الله عليه و ما قيل: إن المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب. 

  • قوله تعالى{وَ كَانَ تَقِيًّا وَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا} التقي‌ صفة مشبهة من التقوى مثال واوي و هو الورع عن محارم الله و التجنب عن اقتراف المناهي المؤدي إلى عذاب الله، و البر بفتح الباء صفة مشبهة من البر بكسر الباء و هو الإحسان، و الجبار قال في المجمع: الذي لا يرى لأحد عليه حقا و فيه جبرية و جبروت، و الجبار من النخل ما فات اليد. انتهى. فيئول معناه إلى أنه المستكبر المستعلي الذي يحمل الناس ما أراد و لا يتحمل عنهم، و يؤيده تعقيبه بالعصي فإنه صفة مشبهة من العصيان 

تفسير الميزان ج۱٤

21
  • و الأصل في معناه الامتناع. 

  • و من هنا يظهر أن الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق و المخلوق، فقوله: {وَ كَانَ تَقِيًّا} حاله بالنسبة إلى ربه، و قوله: {وَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ} حاله بالنسبة إلى والديه، و قوله: {وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا} حاله بالنسبة إلى سائر الناس، فكان رءوفا رحيما بهم ناصحا متواضعا لهم يعين ضعفاءهم و يهدي المسترشدين منهم، و به يظهر أيضا أن تفسير بعضهم لقوله: {عَصِيًّا} بقوله: أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي. 

  • قوله تعالى{وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} السلام‌ قريب المعنى من الأمن، و الذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أن الأمن خلو المحل مما يكرهه الإنسان و يخاف منه و السلام كون المحل بحيث كل ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه و يخاف منه. 

  • و تنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه مما يكرهه في هذه الأيام الثلاثة التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم التي يدخلها الإنسان و يعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، و سلام عليه يوم يموت، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، و سلام عليه يوم يبعث حيا فيحيا فيها بحقيقة الحياة و لا نصب و لا تعب. 

  • و قيل: إن تقييد البعث بقوله: {حَيًّا} للدلالة على أنه سيقتل شهيدا لقوله تعالى في الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}: آل عمران: ١٦٩. 

  • و اختلاف التعبير في قوله: {وُلِدَ} {يَمُوتُ} {يُبْعَثُ} لتمثيل أن التسليم في حال حياته (عليه السلام). 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص‌.

  • و في المعاني بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد. 

تفسير الميزان ج۱٤

22
  • أقول: و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمد بن عمارة عنه (عليه السلام). و روى في الدر المنثور، عن ابن عباس: في قوله: {كهيعص} قال: كبير هاد أمين عزيز صادق و في لفظ كاف بدل كبير، و روى عنه أيضا بطرق أخر: كريم هاد حكيم عليم صادق و روي عن ابن مسعود و غيره ذلك، و محصل الروايات كما ترى أن الحروف المقطعة مأخوذة من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير أو الكريم و هكذا غير أنه لا يتم في الياء فقد أخذ في الروايات من الولي أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها، و روي فيه، عن أم هانئ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أن معناها كاف هاد عالم صادق‌، و قد أهمل في الحديث حرف الياء، و قد تقدم في بيان الآية بعض الإشارة. 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} يقول: لم يكن دعائي خائبا عندك. 

  • و في المجمع: في قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ} قيل: هم العمومة و بنو العم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قرأ علي بن الحسين و محمد بن علي الباقر (عليه السلام): {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ} بفتح الخاء و تشديد الفاء و كسر التاء. 

  • أقول: و به قرأ جمع من الصحابة و التابعين. 

  • و في الإحتجاج روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليه السلام): أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا بن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا. أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (الحديث). 

  • أقول: مضمون الرواية مروي بطرق من الشيعة و غيرهم، و استدلالها (عليه السلام) مبني على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال، و قد تقدم الكلام في ذلك في بيان الآية، و قد ورد من طرق أهل السنة بعض ما يدل على ذلك‌ففي الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه من ورثة، و يرحم الله أخي لوطا إن كان يأوي إلى ركن شديد

  • و روي فيه أيضا عن الفاريابي عن ابن عباس قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال: 

تفسير الميزان ج۱٤

23
  • «رب هب {لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: يرثني مالي و يرث من آل يعقوب النبوة. 

  • و قال في روح المعاني: مذهب أهل السنة أن الأنبياء (عليه السلام) لا يرثون مالا و لا يورثون لما صح عندهم من الأخبار، و قد جاء أيضا ذلك من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، و ذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا و إنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشي‌ء منها فقد أخذ بحظ وافر، و كلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة. 

  • و الوراثة في الآية محمولة على ما سمعت، و لا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم و المنصب و المال، و إنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية. 

  • و لو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، و من ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، و قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتَابَ} و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، {وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}

  • قولهم: لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة. قلنا: الداعي متحقق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب و دون تأويله خرط القتاد، و الآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد. 

  • و زعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه، و زعم أن كسبية الشي‌ء تمنع من كونه موروثا ليس بشي‌ء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق. 

  • و من ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: إن سليمان ورث داود، و إن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) ورث سليمان (عليه السلام) فإن وراثة النبي سليمان لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم و النبوة و نحوهما انتهى. 

تفسير الميزان ج۱٤

24
  • و للبحث جهة كلامية ترجع إلى أمر فدك و هي من قرى خيبر و قد كانت في يد فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فانتزعها من يدها الخليفة الأول استنادا إلى حديث رواها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الأنبياء لا يورثون مالا و ما تركوه صدقة، و قد طالت المشاجرة فيه بين متكلمي الشيعة و أهل السنة و هو نوع بحث خارج عن غرض هذا الكتاب فلا نتعرض له، و جهة تفسيرية يهمنا التعرض لها لتعلقها بمدلول قوله تعالى: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}

  • أما قوله: و قد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة إلخ، فالرواية في ذلك غير منحصرة فيما نقله عن الصادق (عليه السلام) بل روي ما في مضمونها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أيضا من طريقهم، و معناه على ما يسبق إلى ذهن كل سامع أن الأنبياء ليس من شأنهم أن يهتموا بجمع المال و تركه لمن خلفهم من الورثة و إنما الذي من شأنهم أن يتركوا لمن خلفهم الحكمة، و هذا معنى سائغ و استعمال شائع لا سبيل إلى دفعه. 

  • و أما قوله: و لا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال إلى آخر ما ذكره فليس الكلام في كونه حقيقة لغوية في شي‌ء أو مجازا مشهورا أو غير مشهور و لا إصرار على شي‌ء من ذلك، و إنما الكلام في أن الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال مجازا في مثل العلم و الحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلق بالمال و ما يتعلق بمثل العلم و الحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم و الحكمة إلى قرينة صارفة أو معينة و سياق الآية و سائر آيات القصة في سورتي آل عمران و الأنبياء و القرائن الحافة بها تأبى إرادة وراثة العلم و نحوه من لفظة يرثني فضلا أن يصرف عنها أو يعينها على ما قدمنا توضيحه في بيان الآية. 

  • نعم لا يصح تعلق الوراثة بالنبوة على ما يتحصل من تعليم القرآن أنها موهبة إلهية لا تقبل الانتقال و التحول، و لا ريب أن الترك و الانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة كوراثة المال و الملك و المنصب و العلم و نحو ذلك و لذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوة و الرسالة في كتاب و لا سنة. 

  • و أما قوله: «قلنا الداعي متحقق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب» ففيه 

تفسير الميزان ج۱٤

25
  • اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الآيات بل الأمر بالعكس و إنما اضطرهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحته عندهم و فيه أنه لا معنى لتوقف كلامه تعالى في الدلالة الاستعمالية على قرينة منفصلة و خاصة من غير كلامه تعالى و خاصة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة، و هذا غير تخصيص روايات الأحكام و تقييدها لعمومات آيات الأحكام و مطلقاتها، فإن ذلك تصرف في محصل المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال. 

  • على أنه لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية التي ينحصر فيها الجعل التشريعي لا سيما مع مخالفة الكتاب و هذه كلها أمور مبينة في علم الأصول. 

  • و أما قوله: «قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه» يشير إلى أخذ قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} تأكيدا لقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} أي في النبوة أو أخذ قوله: {رَضِيًّا}، بمعنى المرضي عند الناس دفعا للغو الكلام و قد قدمنا في بيان الآية ما يعلم منه ما فيه. 

  • و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ذكرا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله أوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام. قال: لما أمسك لسانه و لم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله (الحديث). 

  • و في تفسير النعماني بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن معنى الوحي فقال: منه وحي النبوة و منه وحي الإلهام و منه وحي الإشارة و ساقه إلى أن قال و أما وحي الإشارة فقوله عز و جل: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} أي أشار إليهم كقوله تعالى: {أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}

  • و في المجمع: عن معمر قال: إن الصبيان قالوا ليحيي: اذهب بنا نلعب قال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله تعالى: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا}: و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام). 

  • أقول: و روي في الدر المنثور هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا، و روي أيضا ما في معناه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

تفسير الميزان ج۱٤

26
  • و في الكافي بإسناده عن علي بن أسباط قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) و قد خرج إلي فأجدت النظر إليه و جعلت أنظر إلى رأسه و رجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد فقال: يا علي إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا} {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقد يجوز أن يؤتى الحكمة و هو صبي، و يجوز أن يؤتى الحكمة و هو ابن أربعين سنة.

  • أقول: و في الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيد ما قدمناه. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: «في قوله: {وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا} قال: كان سعيد بن المسيب يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا. قال قتادة: و قال الحسن: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أذنب يحيى بن زكريا قط و لا هم بامرأة. 

  • و فيه: أخرج أحمد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما من أحد من ولد آدم إلا و قد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة و لم يعملها

  • أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة بألفاظ مختلفة و ينبغي تخصيص الجميع بأهل العصمة من الأنبياء و الأئمة و إن كانت آبية عنه ظاهرا لكن الظاهر أن ذلك ناشئ من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى و توغلهم فيه. و بالجملة الأخبار في زهد يحيى (عليه السلام) كثيرة فوق الإحصاء، و كان (عليه السلام) على ما فيها يأكل العشب و يلبس الليف و بكى من خشية الله حتى اتخذت الدموع مجرى في وجهه. 

  • و فيه: أخرج ابن عساكر عن قرة قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا و الحسين بن علي، و حمرتها بكاؤها.

  • أقول: و روى هذا المعنى في المجمع عن الصادق (عليه السلام): و في آخره: و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين ولد زنا. 

  • و فيه أخرج الحاكم و ابن عساكر عن ابن عباس قال :أوحى الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا و إني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا و سبعين ألفا. 

تفسير الميزان ج۱٤

27
  • و في الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: فما عنى بقوله في يحيى: {وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً}؟ قال تحنن الله. قلت: فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال: كان إذا قال: يا رب قال الله عز و جل: لبيك يا يحيى. (الحديث). 

  • و في عيون الأخبار بإسناده إلى ياسر الخادم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن: يوم يولد و يخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا. 

  • و قد سلم الله عز و جل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن و آمن روعته فقال: {وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، و قد سلم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}

  • (قصة زكريا في القرآن) 

  • وصفه (عليه السلام)

  • وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوة و الوحي، و وصفه في أول سورة مريم بالعبودية، و ذكره في سورة الأنعام في عداد الأنبياء و عدة من الصالحين ثم من المجتبين و هم المخلصون و المهديين. 

  • تاريخ حياته

  • لم يذكر من أخباره في القرآن إلا دعاؤه لطلب الولد و استجابته و إعطاؤه يحيى (عليه السلام)، و ذلك بعد ما رأى من أمر مريم في عبادتها و كرامتها عند الله ما رأى. 

  • فذكر سبحانه أن زكريا تكفل مريم لفقدها أباها عمران ثم لما نشأت اعتزلت عن الناس و اشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد، و كان يدخل عليها زكريا يتفقدها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

  • هنالك دعا زكريا ربه و سأله أن يهب له من امرأته ذرية طيبة و كان هو شيخا فانيا و امرأته عاقرا فاستجيب له و نادته الملائكة و هو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربه آية لتطمئن نفسه أن النداء من جانبه سبحانه 

تفسير الميزان ج۱٤

28
  • فقيل له: إن آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا و كان كذلك و خرج على قومه من المحراب و أشار إليهم أن سبحوا بكرة و عشيا و أصلح الله له زوجه فولدت له يحيى (عليه السلام) (آل عمران: ٣٧-٤١ مريم: ٢-١١ الأنبياء: ٨٩-٩٠). 

  • و لم يذكر في القرآن مآل أمره (عليه السلام) و كيفية ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامة و الخاصة، أن قومه قتلوه و ذلك أن أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم و التجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التأمت فدلهم الشيطان عليه و أمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا و قطعوه نصفين فقتل (عليه السلام) عند ذلك. 

  • و قد ورد في بعض الأخبار أن السبب في قتله أنهم اتهموه في أمر مريم و حبلها بالمسيح و قالوا: هو وحده كان المتردد إليها الداخل عليها، و قيل غير ذلك. 

  • (قصة يحيى (عليه السلام) في القرآن) 

  • ١ - الثناء عليه

  • ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه و أثنى عليه ثناء جميلا فوصفه بأنه كان مصدقا بكلمة من الله و هو تصديقه بنبوة المسيح، و أنه كان سيدا يسود قومه، و أنه كان حصورا لا يأتي النساء، و كان نبيا و من الصالحين (سورة آل عمران: ٣٩) و من المجتبين و هم المخلصون و من المهديين (الأنعام: ٨٥-٨٧)، و أن الله هو سماه بيحيى و لم يجعل له من قبل سميا، و أمره بأخذ الكتاب بقوة و آتاه الحكم صبيا، و سلم عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا (مريم: ٢-١٥) و مدح بيت زكريا بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}: الأنبياء: ٩٠و هم يحيى و أبوه و أمه.

  • ٢ - تاريخ حياته

  • ولد (عليه السلام) لأبويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخا فانيا و أمه عاقرا فرزقهما الله يحيى و هما آيسان من الولد، و أخذ بالرشد و العبادة و الزهد في صغره و آتاه الله الحكم صبيا، و قد تجرد للتنسك و الزهد و الانقطاع فلم يتزوج قط و لا ألهاه شي‌ء من ملاذ الدنيا. 

  • و كان معاصرا لعيسى بن مريم (عليه السلام) و صدق نبوته، و كان سيدا في قومه تحن 

تفسير الميزان ج۱٤

29
  • إليه القلوب و تميل إليه النفوس و يجتمع إليه الناس فيعظهم و يدعوهم إلى التوبة و يأمرهم بالتقوى حتى استشهد (عليه السلام). 

  • و لم يرد في القرآن مقتله (عليه السلام)، و الذي ورد في الأخبار أنه كان السبب في قتله أن امرأة بغيا افتتن بها ملك بني إسرائيل و كان يأتيها فنهاه يحيى و وبخه على ذلك و كان مكرما عند الملك يطيع أمره و يسمع قوله فأضمرت المرأة عداوته و طلبت من الملك رأس يحيى و ألحت عليه فأمر به فذبح و أهدي إليها رأسه. 

  • و في بعض الأخبار أن التي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك و كان يريد أن يتزوج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزينتها أمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك و أرسلتها إليه و لقنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح (عليه السلام) و وضع رأسه في طست من ذهب و أهدي إليها. 

  • و في الروايات نوادر كثيرة من زهده و تنسكه و بكائه من خشية الله و مواعظه و حكمه.

  • ٣ - قصة زكريا و يحيى في الإنجيل

  • قال۱: كان في أيام هيردوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا و امرأته من بنات هارون و اسمها إليصابات و كان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب و أحكامه بلا لوم. و لم يكن لهما ولد إذ كانت إليصابات عاقرا و كانا كلاهما متقدمين في أيامهما. 

  • فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب و يبخر. و كان كل جمهور الشعب يصلون خارجا وقت البخور. فظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب و وقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت و امرأتك إليصابات ستلد ابنا و تسميه يوحنا. و يكون لك فرج و ابتهاج و كثيرون سيفرحون بولادته. لأنه يكون عظيما أمام الرب و خمرا و مسكرا لا يشرب و من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس. و يرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. و يتقدم أمامه بروح 

    1. إنجيل لوقا. الإصحاح الأول ٥.

تفسير الميزان ج۱٤

30
  • إيليا و قوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء و العصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعبا مستعدا. 

  • فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ و امرأتي متقدمة في أيامها فأجاب الملاك و قال أنا جبريل الواقف قدام الله و أرسلت لأكلمك و أبشرك بهذا و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته. 

  • و كان الشعب منتظرين زكريا و متعجبين من إبطائه في الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يومئ إليهم و بقي صامتا و لما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته. و بعد تلك الأيام حبلت إليصابات امرأته و أخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلي لينزع عاري بين الناس. 

  • إلى أن قال: و أما إليصابات فتم زمانها لتلد فولدت ابنا و سمع جيرانها و أقرباؤها أن الرب عظم رحمته لها ففرحوا معها. و في اليوم جاءوا ليختنوا الصبي و سموه باسم أبيه زكريا فأجابت أمه و قالت لا بل يسمى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك يسمى بهذا الاسم. ثم أومئوا إلى أبيه ما ذا يريد أن يسمى. فطلب لوحا و كتب قائلا اسمه يوحنا فتعجب الجميع. و في الحال انفتح فمه و لسانه و تكلم و بارك الله. فوقع خوف على كل جيرانهم و تحدث بهذه الأمور جميعها في كل جبال اليهودية. فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين أ ترى ما ذا يكون هذا الصبي و كانت يد الرب معه. و امتلأ زكريا أبوه من الروح القدس و تنبأ... إلخ. 

  • و فيه۱: و في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر - إذ كان بيلاطس النبطي واليا على اليهودية، و هيرودس رئيس ربع على الجليل، و فيلبس أخوه رئيس ربع على إيطورية و كورة تراخوتينس، و ليسانيوس رئيس ربع على الأبلية - في أيام رئيس الكهنة حنان و قيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية. 

  •  

    1. إنجيل الإصحاح الثالث - ١.

تفسير الميزان ج۱٤

31
  • فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبي القائل «صوت خارج في البرية أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة، كل واد يمتلئ و كل جبل و أكمة ينخفض و تصير المعوجات مستقيمة و الشعاب طرقا سهلة و يبصر كل بشر خلاص الله. 

  • و كان يقول للجموع الذين خرجوا ليعمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة و لا تبتدءوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبا لأني أقول لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم و الآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع و تلقى في النار. 

  • و سأله الجموع قائلين فما ذا نفعل. فأجاب و قال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له و من له طعام فليفعل هكذا. و جاء عشارون أيضا ليعمدوا - فقالوا له يا معلم ما ذا نفعل فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. و سأله جنديون أيضا قائلين و ما ذا نفعل نحن، فقال لهم لا تظلموا أحدا و لا تشوا بأحد و اكتفوا بعلائقكم. 

  • و إذ كان الشعب ينتظر و الجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح أجاب يوحنا الجميع قائلا أنا أعمدكم بماء و لكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه هو سيعمدكم بروح القدس و نار الذي رفشه في يده و سينقي بيدره و يجمع القمح إلى مخزنة و أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ و بأشياء أخر كثيرة كان يعظ الشعب و يبشرهم. 

  • أما هيردوس رئيس الربع فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه و لسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن. و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا۱

  • و فيه: أن هيرودس نفسه كان قد أرسل و أمسك يوحنا و أوثقه في السجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه إذ كان قد تزوج بها. لأن يوحنا كان يقول لهيرودس لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك. فحنقت هيروديا عليه و أرادت أن 

    1. إنجيل مرقس الإصحاح السادس ١٧-٢٩

تفسير الميزان ج۱٤

32
  • تقتله و لم تقدر. لأن هيرودس كان يهاب يوحنا عالما أنه رجل بار و قديس و كان يحفظه. و إذ سمعه فعل كثيرا و سمعه بسرور. 

  • و إذ كان يوم موافق لما صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه و قواد الألوف و وجوه الجليل. دخلت ابنة هيروديا و رقصت، فسرت هيرودس و المتكئين معه. 

  • فقال الملك للصبية مهما أردت اطلبي مني فأعطيك. و أقسم لها أن مهما طلبت مني لأعطينك حتى نصف مملكتي. فخرجت و قالت لأمها ما ذا أطلب. فقالت رأس يوحنا المعمدان. فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك و طلبت قائلة أريد أن تعطيني حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق. فحزن الملك جدا و لأجل الإقسام و المتكئين لم يرد أن يردها. 

  • فللوقت أرسل الملك سيافا و أمر أن يؤتى برأسه فمضى و قطع رأسه في السجن و أتى برأسه على طبق و أعطاه للصبية و الصبية أعطته لأمها. و لما سمع تلاميذه جاءوا و رفعوا جثته و وضعوها في قبر انتهى. 

  • و ليحيي (عليه السلام) أخبار أخر متفرقة في الأناجيل لا تتعدى حدود ما أوردناه و للمتدبر الناقد أن يطبق ما نقلناه من الأناجيل على ما تقدم حتى يحصل على موارد الاختلاف.

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ١٦ الی ٤٠]

  • {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا ١٦ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا ١٧ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ١٨ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا ١٩ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا ٢٠قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كَانَ  

تفسير الميزان ج۱٤

33
  • أَمْراً مَقْضِيًّا ٢١ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا ٢٢ فَأَجَاءَهَا اَلْمَخَاضُ إِلىَ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ٢٣ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ٢٤ وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ٢٥ فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا ٢٦ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ٢٧ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ٢٨ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا ٢٩ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ٣٠وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ٣١ وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ٣٢ وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ٣٣ ذَلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضى‌ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٣٥ وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٣٦ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ

تفسير الميزان ج۱٤

34
  • مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٣٧ أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ اَلظَّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٣٨ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٩ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٤٠} 

  • (بيان) 

  • انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى (عليه السلام) و بين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة، و قد أوتي عيسى الرشد و النبوة و هو صبي كيحيى، و قد أخبر أنه بر بوالدته و ليس بجبار شقي و أن السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه و قد صدق يحيى بعيسى و آمن به. 

  • قوله تعالى{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا} المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب و جزء الكتاب كتاب و الاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني و تعيينه. 

  • و النبذ على ما ذكره الراغب طرح الشي‌ء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، و الانتباذ الاعتزال من الناس و الانفراد. 

  • و مريم هي ابنة عمران أم المسيح (عليه السلام)، و المراد بمريم نبأ مريم و قوله: {إِذِ} ظرف له، و قوله: {اِنْتَبَذَتْ} إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، و المعنى و اذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، و كأنه شرقي المسجد. 

  • قوله تعالى{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} الحجاب‌ ما يحجب الشي‌ء و يستره عن غيره، و كأنها اتخذت الحجاب من دون 

تفسير الميزان ج۱٤

35
  • أهلها لتنقطع عنهم و تعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}: آل عمران: ٣٧ و قد مر الكلام في تفسير الآية. 

  • و قيل: إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها و أقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوي الخلق فاستعاذت بالله منه. 

  • و فيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، و قد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق. 

  • و قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} ظاهر السياق أن فاعل {فَتَمَثَّلَ} ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا و معنى تمثله لها بشرا ترائيه لها، و ظهوره في حاستها في صورة البشر و هو في نفسه روح و ليس ببشر. 

  • و إذ لم يكن بشرا و ليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه و سماه ملكا، و قد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه و سماه جبريل بقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلىَ قَلْبِكَ}: البقرة: ٩٧ و سماه روحا في قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ}: النحل: ١٠٢ و قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ}: الشعراء: ١٩٤ و سماه رسولا في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}: الحاقة: ٤٠، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل. 

  • و أما قوله: {إِذْ قَالَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} - إلى أن قال - {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اَللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: آل عمران: ٤٧. 

  • فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم و محاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور هاهنا، و نسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو عادة، و في القرآن منه شي‌ء كثير كقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ 

تفسير الميزان ج۱٤

36
  • لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ}: المنافقون: ٨، و القائل واحد. و قوله: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ}: الأنفال: ٣٢، و القائل واحد. 

  • و إضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، و قد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ} (الآية) الإسراء: ٨٥. 

  • و من التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) و ضمير تمثل عائد على جبريل. و هو كما ترى. 

  • و من القراءة الردية قراءة بعضهم «روحنا» بتشديد النون على أن روحنا اسم الملك الذي أرسل إلى مريم، و هو غير جبريل الروح الأمين. و هو أيضا كما ترى. 

  • (كلام في معنى التمثل) 

  • كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات، و أما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} (الآية): - ١٧ من السورة، و الآيات التالية التي يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته و لم يصر بذلك بشرا، و إنما ظهر في صورة بشر و ليس ببشر بل ملك و إنما كانت مريم تراها في صورة بشر. 

  • فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر و ليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر و هو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك. 

  • و هذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شي‌ء لشي‌ء في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته و هو هو لا صيرورة الشي‌ء شيئا آخر فتمثل الملك بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنسانا، و لو كان التمثل واقعا في نفسه و في الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشي‌ء شيئا آخر و انقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك. 

  • و استشكل أمر هذا التمثل بأمور مذكورة في التفسير الكبير و غيره. 

  • أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في 

تفسير الميزان ج۱٤

37
  • مقدار جثة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل، و إن لم تتساقط لزم تداخلها و هو محال. 

  • الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق و امتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل. 

  • الثالث: أنه لو جاز التمثل بصورة الإنسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض و الحشرات و غيرها و معلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل. 

  • الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به. 

  • و أجيب عن الأول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة و أجزاء فاضلة و يتمكن بالأجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم و أما على القول بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم و أخرى بالهيكل الصغير. 

  • و أنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الإشكال مبني على كون التمثل تغيرا من المتمثل في نفسه و بطلان صورته الأولى و انتقاله إلى صورة أخرى، و قد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما و هو في نفسه بخلافها. 

  • و الآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا و لا صار بشرا في نفسه و إنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه و في الخارج عن ظرف إدراكها، و نظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق و تمثلهم لإبراهيم و لوط (عليه السلام) في صورة البشر، و نظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، و قد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية ٤٨ و قد كان سراقة يومئذ بمكة. 

  • و في الروايات من ذلك شي‌ء كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، و تمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج، و تمثله ليحيي (عليه السلام) في صورة عجيبة، و نظير تمثل الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتانة، كما في الرواية، و ما ورد من تمثل المال و الولد و العمل للإنسان عند الموت، و ما ورد من تمثل الأعمال للإنسان في القبر و يوم القيامة. و من هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في 

تفسير الميزان ج۱٤

38
  • صورة الكلب أو الحية أو العقرب و تمثل الزوج في صورة النعل و تمثل العلاء في صورة الفرس و الفخر في صورة التاج إلى غير ذلك. 

  • فالمتمثل في أغلب هذه الموارد كما ترى من المعاني التي لا صورة لها في نفسها و لا شكل، و لا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة و لا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال و الجواب. 

  • و أجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا و بذلك يرتفع الوثوق و يمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال، و كذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلا فيعود الإشكال. 

  • و لعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الآن هو زيد الذي شاهدناه أمس. 

  • و أنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس و المحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد و إن كانت نادرة يبطل العلم الحسي و لا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لأن ندرة التخلف و الخطإ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشك فيه و احتمال المغايرة بين الحس و المحسوس. 

  • على أنه إذا جازت المغايرة و هي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟

  • و الحق أن الإشكال و الجواب فاسدان من أصلهما: 

  • أما الإشكال فهو مبني على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه و يتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسية بديهية و الغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر و النظر لا بنفس الحس. 

  • فالذي يناله الحس من العين الخارجي شي‌ء من كيفياته و هيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشي‌ء الخارجي ثم التجربة و النظر يعرفان حاله في نفسه و الدليل على ذلك 

تفسير الميزان ج۱٤

39
  • أقسام المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي و هي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيرا و العالي سافلا و المستقيم مائلا و المتحرك ساكنا و عكس ذلك باختلاف المناظر و كذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الإنسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما يمكن و نحكم بتكرر الحس و بالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، و نشاهد الشمس قدر صحفة و هي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الأرض كذا و كذا مرة و أن الأرض هي التي تدور حول الشمس. 

  • فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الأمر الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه و هو في حسنا قد أحسسناه و هذا معنى بداهة الحس، و أما المحسوس و هو الذي في الخارج عنا و عن حسنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشئ عن فكرنا و نظرنا و هذا ما قلناه إن الذي نعتقده من حال الشي‌ء الخارجي حكم ناشئ عن الفكر و النظر دون الحس هذا. و قد بين في العلوم الباحثة عن الحس و المحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس. 

  • ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، و هذا السبب ربما كان خارجيا كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها و أشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو فكر شيئا من أمرها في نفسها، و ربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارئ على الإنسان فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام و الخواطر المؤلمة. 

  • و في جميع هذه الأحوال ربما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي و هو الأغلب و ربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص. 

  • فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي في نفسه على كونها مما لا بد منه في الجملة لا تستدعي ارتفاع الوثوق و بطلان الاعتماد على الحس فإن الأمر في ذلك يدور مدار ما حصله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك و أصدقها ما صدقته التجربة. 

  • و أما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الإشكال من نيل الحس 

تفسير الميزان ج۱٤

40
  • نفس المحسوس الخارجي بعينه، و أن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادرا. 

  • و أجيب عن الإشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل، و إنما عرف فساده بدلائل السمع. 

  • و فيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الإشكال أن المراد بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة و الامتناع فمن البين أن تمثل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، و إن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته. 

  • و أجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. و فيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع و الجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الذي أوردناه جوابا عن الإشكال الثاني. و الله أعلم. 

  • فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشي‌ء للإنسان بصورة يألفها الإنسان و تناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه و يلقي إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم و التخاطب، و كظهور الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة امرأة حسناء لتغره لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء و اللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للأخذ بمجامع القلب و الغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة. 

  • فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الإدراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا و خيالا باطلا و رجوعه إلى السفسطة. 

  • قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور و تحتمله أدوات إدراكه و بين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شي‌ء، و السفسطة هي الثاني دون الأول و توخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله. و الله الهادي. 

تفسير الميزان ج۱٤

41
  • بيان‌ 

  • قوله تعالى{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها و هي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها و استعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت. 

  • و اشتراطها بقولها: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط و عليه الوصف للحكم، و التقوى وصف جميل يشق على الإنسان أن ينفيه عن نفسه و يعترف بفقده فيئول المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ و أعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا و من الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي و تقصدني بسوء. 

  • فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المائدة: ٥٧، و قوله: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المائدة: ٢٣. 

  • و ربما احتمل في قوله: {إِنْ كُنْتَ} أن تكون إن نافية و المعنى ما كنت تقيا إذ هتكت على ستري و دخلت بغير إذني. و أول الوجهين أوفق بالسياق. و القول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا} جواب الروح لمريم و قد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، و الزكي هو النامي نموا صالحا و النابت نباتا حسنا. 

  • و من لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا و أنه وهب له يحيى، و ذكر مريم و أنه وهب لها عيسى، و ذكر إبراهيم و أنه وهب له إسحاق و يعقوب، و ذكر موسى و أنه وهب له هارون (عليه السلام). 

  • قوله تعالى{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا} مس البشر بقرينة مقابلته للبغي و هو الزنا كناية عن النكاح و هو في نفسه أعم و لذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: {وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} و الاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد و لم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح و لا من طريق الحرام بالزنا. 

  • و السياق يشهد أنها فهمت من قوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً} إلخ، إنه سيهبه حالا 

تفسير الميزان ج۱٤

42
  • و لذا قالت: {وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا} فنفت النكاح و الزنا في الماضي. 

  • قوله تعالى{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، و قد تقدم في قصة زكريا و يحيى (عليه السلام) توضيح ما للجملتين. 

  • و قوله: {وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا} ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، و هو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا و كذا و لنجعله آية للناس بخلقته و رحمة منا برسالته و الآيات الجارية على يده و حذف بعض الغرض و عطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ}: الأنعام: ٧٥، و في هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ. 

  • و قوله: {وَ كَانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أو دعاء. 

  • قوله تعالى{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا} القصي‌ البعيد أي حملت بالولد فانفرد و اعتزلت به مكانا بعيدا من أهله. 

  • قوله تعالى{فَأَجَاءَهَا اَلْمَخَاضُ إِلىَ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ} إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه و جاء به بمعنى و هو في الآية كناية عن الدفع و الإلجاء، و المخاض و الطلق‌ وجع الولادة، و جذع النخلة ساقها، و النسي‌ بفتح النون و كسرها كالوتر و الوتر هو الشي‌ء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، و المعنى أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم دفعها و ألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها و التعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة و قالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا و شيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في. 

  • قوله تعالى{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي} إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في {فَنَادَاهَا} لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، و يؤيده تقييده بقوله: {مِنْ تَحْتِهَا} فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك 

تفسير الميزان ج۱٤

43
  • المنادي مع من يناديه، و يؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام). 

  • و قيل: الضمير للروح و أصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة و كان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، و لا دليل على شي‌ء من ذلك من جهة اللفظ. 

  • و لا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: {فَنَادَاهَا} على قوله: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي} إلخ، أنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ. 

  • و قوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} تسلية لها لما أصابها من الحزن و الغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر و أشق على المرأة الزاهدة المتنسكة و خاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها و خاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة و النزاهة في حاضر حاله و سابق عهده و خاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها و كانت الحجة للخصم عليها، و لذا أشار أن لا تتكلم مع أحد و تكفل هو الدفاع عنها و تلك حجة لا يدفعها دافع. 

  • و قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} السري‌ جدول الماء، و السري‌ هو الشريف الرفيع، و المعنى الأول هو الأنسب للسياق، و من القرينة عليه قوله: بعد: {فَكُلِي وَ اِشْرَبِي} كما لا يخفى. 

  • و قيل: المراد هو المعنى الثاني و مصداقه عيسى (عليه السلام)، و قد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، و على أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليه السلام). 

  • و قوله: {وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} الهز هو التحريك الشديد، و نقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه و هز به، و المساقطة هي الإسقاط، و ضمير {تُسَاقِطْ} للنخلة، و نسبة الهز إلى الجذع و المساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة و إنما اخضرت و أورقت و أثمرت رطبا جنيا لساعتها، و الرطب‌ هو نضيج البسر، و الجني‌ هو المجني و ذكر في القاموس على ما نقل أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته. 

  • قوله تعالى{فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً} قرار العين كناية عن المسرة يقال: 

تفسير الميزان ج۱٤

44
  • أقر الله عليك أي سرك، و المعنى: فكلي من الرطب الجني الذي تسقط و اشربي من السري الذي تحتك و كوني على مسرة من غير أن تحزني، و التمتع بالأكل و الشرب من أمارات السرور و الابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام و مري‌ء الشراب و مصيبته شاغلة، و المعنى: فكلي من الرطب الجني و اشربي من السري و كوني على مسرة مما حباك الله به من غير أن تحزني، و أما ما تخافين من تهمة الناس و مساءلتهم فالزمي السكوت و لا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم. 

  • قوله تعالى{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا} المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا} و كذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت و لذا أرسل عذرا إرسال المسلم، و الإنسي منسوب إلى الإنس مقابل الجن و المراد به الفرد من الإنسان. 

  • و قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} إلخ، ما زائدة و الأصل إن ترى بشرا فقولي إلخ، و المعنى: إن ترى بشرا و كلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي إلخ، و المراد بالقول التفهيم بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، و عن الفراء أن العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. 

  • و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها و تنذره لله على نفسها فلا يكون إخبارا بما لا حقيقة له. 

  • و قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} إلخ، على أي حال متفرع على قوله: {وَ قَرِّي عَيْناً} و المراد لا تكلمي بشرا و لا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم و أدافع خصامهم. 

  • قوله تعالى{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ} أنى لك هذا {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا} الضميران في {بِهِ} و {تَحْمِلُهُ} لعيسى، و الاستفهام إنكاري حملهم عليه ما شاهدوه عن عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد و الاحتجاب و كانت ابنة عمران 

تفسير الميزان ج۱٤

45
  • و من آل هارون القديس، و الفري‌ هو العظيم البديع و قيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر و الآية التالية تؤيد المعنى الأول، و معنى الآية واضح. 

  • قوله تعالى{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} ذكر في المجمع، أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح و على هذا فالمراد بالأخوة الشباهة و معنى {يَا أُخْتَ هَارُونَ} يا شبيهة هارون، و الثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها، و الثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر و الفساد انتهى ملخصا و البغي الزانية، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا} إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم و يكشف لهم عن حقيقة الأمر، و هو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا} على ما تقدم البحث عنه. 

  • و المهد السرير الذي يهيأ للصبي فيوضع فيه و ينوم عليه، و قيل: المراد بالمهد في الآية حجر أمه، و قيل المرباة أي المرجحة، و قيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيئت له مهدا، و الحق أن الآية ظاهرة في ذلك و لا دليل على أنها لم تكن هيئت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها و كلموها بعد ما رجعت إلى بيتها و استقرت فيه و هيئت له مهدا أو مرجحة و تسمى أيضا مهدا. 

  • و قد استشكلت الآية بأن الإتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين و لا استغراب فيه. 

  • و أجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد و منه قريب يلي الحال و إنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، و أما لو كان هو القريب المتصل بالحال و هو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه. و الوجه للزمخشري في الكشاف. 

تفسير الميزان ج۱٤

46
  • و فيه أنه و إن دفع الإشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه و تكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون {كَانَ} زائدا مستدركا. 

  • و أجيب عنه ثانيا: بأن قوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ} لحكاية الحال الماضية و {مَنْ} موصولة و المعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا. و هذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف. 

  • و فيه أنه و إن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!

  • و أجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و {مَنْ كَانَ فِي اَلْمَهْدِ} مبتدأ و خبر، و صبيا حال مؤكدة. 

  • و فيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل إن: {كَانَ} الزائدة تدل على الزمان و إن لم تدل على الحدث. 

  • و أجيب عنه رابعا بأن {مَنْ} في الآية شرطية و {كَانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا} شرطها و قوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ} في محل الجزاء و المعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه و الماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال. 

  • و فيه أنه تكلف ظاهر. 

  • و يمكن أن يقال: إن {كَانَ} منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط و الجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أو إن كان جي‌ء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتا يقضي مضيه عليه و تحققه فيه و لزومه له كقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً}: الإسراء: ٩٣ أي إن البشرية و الرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، و قوله تعالى: {وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}: الإسراء: ٦٣ أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه و يكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث و سيلبث في صباه برهة من الزمان. و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا} شروع منه (عليه السلام) 

تفسير الميزان ج۱٤

47
  • في الجواب و لم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم (عليه السلام) لأن نطقه على صباه و هو آية معجزة و ما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته و أمنة من كل قذارة و خباثة و من نزاهته طهارة مولده. 

  • و قد بدأ بقوله: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ} اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين و تتم الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: {وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}

  • و في قوله: {آتَانِيَ اَلْكِتَابَ} إخبار بإعطاء الكتاب و الظاهر أنه الإنجيل، و في قوله: {وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا} إعلام بنبوته، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة و الرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة، و ظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب و النبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع. 

  • قوله تعالى{وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} كونه (عليه السلام) مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة و البركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع و يدعوهم إلى العمل الصالح و يربيهم تربية زاكية و يبرئ الأكمه و الأبرص و يصلح القوي و يعين الضعيف. 

  • و قوله: {وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ} إلخ، إشارة إلى تشريع الصلاة و الزكاة في شريعته، و الصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه و الزكاة الإنفاق المالي و هذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة و الزكاة و قارن بينهما و ذلك في نيف و عشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس و تطهيرها دون الإنفاق المالي. 

  • قوله تعالى{وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا} أي جعلني حنينا رءوفا بالناس و من ذلك أني بر بوالدتي و لست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، و الجبار هو الذي يحمل الناس و لا يتحمل منهم، و نقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح و الشقي الذي لا ينتصح. 

  • قوله تعالى{وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه و وجوده، و قد تقدم توضيحه 

تفسير الميزان ج۱٤

48
  • في آخر قصة يحيى المتقدمة. 

  • نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، و في هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، و فرق آخر و هو أن المسلم على يحيى هو الله سبحانه و على عيسى هو نفسه. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} الظاهر أن هذه الآية و التي تليها معترضتان، و الآية الثالثة: {وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ} من تمام قول عيسى (عليه السلام). 

  • و قوله: {ذَلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} الإشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره و شرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته و ما وصفه هو للناس من عبوديته و إيتائه الكتاب و جعله نبيا هو عيسى بن مريم. 

  • و قوله: {قَوْلَ اَلْحَقِّ} منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، و قوله: {اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، و المعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه. 

  • و قيل: المراد بقول الحق كلمة الحق و هو عيسى (عليه السلام) لأن الله سبحانه سماه كلمته في قوله: {وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلىَ مَرْيَمَ}: النساء: ١٧١ و قوله: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}: آل عمران: ٤٥، و قوله: {بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللَّهِ}: آل عمران: ٣٩، و عليه فقول الحق منصوب على المدح، و يؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ}: آل عمران: ٦٠. 

  • قوله تعالى{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} نفي و إبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، و قوله: {إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} حجة أقيمت على ذلك، و قد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة. 

  • و ذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، و الله سبحانه غني عن ذلك لا يتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. 

  • و أيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير 

تفسير الميزان ج۱٤

49
  • فردا مثله، و الله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج و لا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة و تدريج من غير أن يماثله، و قد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} (الآية): البقرة: ١١٦ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • قوله تعالى{وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} معطوف على قوله: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ} و هو من قول عيسى (عليه السلام)، و من الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، و نظيره في سورة الزخرف حيث قال: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}: الزخرف: ٦٥. 

  • فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف و ابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول: إن الله ربي و «ربكم» إلخ على أن سياق الآيات أيضا لا يساعد على شي‌ء من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقه و يتم الحجة عليهم. 

  • قوله تعالى{فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الأحزاب‌ جمع حزب و هو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب هو قول كل منهم فيه (عليه السلام) خلاف ما يقوله الآخرون، و إنما قال: {مِنْ بَيْنِهِمْ} لأن فيهم من ثبت على الحق، و ربما قيل {مِنْ} زائدة و الأصل اختلف الأحزاب بينهم، و هو كما ترى. 

  • و الويل‌ كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، و المشهد مصدر ميمي بمعنى الشهود: هذا. 

  • و قد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح (عليه السلام) و كليات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب. 

  • قوله تعالى{أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ اَلظَّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} 

تفسير الميزان ج۱٤

50
  • أي ما أسمعهم و أبصرهم بالحق يوم يأتوننا و يرجعون إلينا و هو يوم القيامة فيتبين لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}: الم السجدة: ١٢. 

  • و أما الاستدراك الذي في قوله: {لَكِنِ اَلظَّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} فهو لدفع توهم أنهم إذا سمعوا و أبصروا يوم القيامة و انكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة و اليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك و لا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم. 

  • و ذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل و أثره و ما اكتسبوه في أمسهم ليومهم و أما أن يستأنفوا يوم القيامة عملا يتوقعون جزاءه غدا فليس لليوم غد، و بعبارة أخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا و انقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا مضطرين على ما هيئوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق و ظهور الحقيقة. 

  • و ذكر بعضهم أن المراد بالآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسمع القوم و يبصرهم ببيان أنهم يوم يحضرون للحساب و الجزاء سيكونون في ضلال مبين. و هو وجه سخيف لا ينطبق على الآية البتة. 

  • قوله تعالى{وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ظاهر السياق أن قوله: {إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ} بيان لقوله: {يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ} ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر و القضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه و أمنية نفسه و مخ سعادته الذي كان يقدر حصوله لنفسه و لا يرى طيبا للعيش دونه لتعلق قلبه به و تولهه فيه، و معلوم أن الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه و إن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرط في جنبه و لذلك عقب الكلام بقوله: {وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}

  • فالمعنى و الله أعلم و خوفهم يوما يقضى فيه الأمر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم 

تفسير الميزان ج۱٤

51
  • فينقطعون عن سعادتهم الخالدة التي فيها قرة أعينهم فيتحسرون عليها حسرة لا تقدر بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الذي يهديهم و يوصلهم إليها بالاستقامة و هو الإيمان بالله وحده و تنزيهه عن الولد و الشريك. 

  • و فيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية و الله الهادي. 

  • قوله تعالى{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} قال الراغب في المفردات: الوراثة و الإرث‌ انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد و سمي بذلك المنتقل عن الميت إلى أن قال و يقال: ورثت مالا عن زيد و ورثت زيدا. انتهى. 

  • و الآية كأنها تثبيت و نوع تقريب لقوله في الآية السابقة: {قُضِيَ اَلْأَمْرُ} فالمعنى و هذا القضاء سهل يسير علينا فإنا نرث الأرض و إياهم و إلينا يرجعون و وراثة الأرض أنهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى و وراثة من عليها أنهم يموتون فيبقى ما بأيديهم لله سبحانه، و على هذا فالجملتان {نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا} في معنى جملة واحدة «نرث عنهم الأرض». 

  • و يمكن أن نحمل الآية على معنى أدق من ذلك و هو أن يراد أن الله سبحانه هو الباقي بعد فناء كل شي‌ء فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود و آثار الوجود و هو الباقي بعد فناء الإنسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في قوله: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ}: المؤمن: ١٦، و قوله: {وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً}: مريم: ٨٤. 

  • و يرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكل و حشرهم إليه تعالى فيكون قوله: {وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} عطف تفسير و بمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب أولي العقل على غيرهم أو لبروز كل شي‌ء يومئذ أحياء عقلاء. 

  • و هذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأول فإن الكلام عليه نظير أن يقال ورثت مال زيد و زيدا. 

  • و اختتام الكلام على قصة عيسى (عليه السلام) بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإن وراثته تعالى من الحجج على نفي الولد فإن الولد إنما يراد ليكون وارثا لوالده فالذي يرث كل شي‌ء في غنى عن الولد. 

تفسير الميزان ج۱٤

52
  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: و روي عن الباقر (عليه السلام): أنه يعني جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريا، و قيل: كانت مدة حملها تسع ساعات. و هذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • أقول: و في بعض الروايات أن مدة حملها كانت ستة أشهر. 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (الآية) و إنما تمنت الموت إلى أن قال و روي عن الصادق (عليه السلام): لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء. 

  • و فيه: في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قيل: ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب وقيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). 

  • و في الدر المنثور أخرج الطبراني في الصغير و ابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال النهر

  • أقول: و في رواية أخرى فيه‌ عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه نهر أخرجه الله لها لتشرب منه.

  • و في الخصال عن علي (عليه السلام) من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شي‌ء و لا تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم: {وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً}.

  • أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام). 

  • و في الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده. ثم قال: قالت مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} 

تفسير الميزان ج۱٤

53
  • أي صوما صمتا و في نسخة أي صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم و غضوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا (الحديث). 

  • و في كتاب سعد السعود، لابن طاووس من كتاب عبد الرحمن بن محمد الأزدي: و حدثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعثه إلى نجران فقالوا: أ لستم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} و بينهما كذا و كذا؟ فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ لا قلت لهم: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم و الصالحين منهم. 

  • أقول: و أورد الحديث في الدر المنثور، مفصلا و في مجمع البيان، مختصرا عن المغيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و معنى الحديث أن المراد بهارون في قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} رجل مسمى باسم هارون النبي أخي موسى (عليه السلام)، و لا دلالة فيه على كونه من الصالحين كما توهمه بعضهم. 

  • و في الكافي و معاني الأخبار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: نفاعا.

  •  أقول: و رواه في الدر المنثور عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظ الحديث: قال النبي قول عيسى (عليه السلام): {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: جعلني نفاعا للناس أين اتجهت. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن عدي و ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: معلما و مؤدبا. 

  • و في الكافي بإسناده عن بريد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) أ كان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل، أ ما تسمع لقوله حين قال: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}

  • قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال و هو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية لله و رحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها و كان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان و كان زكريا الحجة لله عز و جل بعد صمت عيسى بسنتين. 

تفسير الميزان ج۱٤

54
  • ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبي صغير أ ما تسمع لقوله عز و جل: {يَا يَحْيىَ خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا} فلما بلغ سبع سنين تكلم بالنبوة و الرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى و على الناس أجمعين. 

  • و ليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوما واحدا بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم (عليه السلام) و أسكنه الأرض (الحديث). 

  • و فيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاما فقد وهب الله لك فقر عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) و هو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: و ما يضره من ذلك شي‌ء قد قام عيسى بالحجة و هو ابن ثلاث سنين.

  • أقول: و يقرب منه ما في بعض آخر من الروايات. 

  • و فيه بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة أ لا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: {وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}

  • و في عيون الأخبار بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و منها عقوق الوالدين لأن الله عز و جل جعل العاق جبارا شقيا في قوله حكاية عن عيسى (عليه السلام): {وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا}.

  • أقول: ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) أخذ قوله: {وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا} عطف تفسير لقوله: {وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي}

  • و في المجمع و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنة فيشرفون و ينظرون، و قيل: يا أهل النار فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا و كل قد عرفه. قال: 

تفسير الميزان ج۱٤

55
  • فيقدم فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت: قال: فذلك قوله: {وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ} (الآية). 

  • قال: و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ثم جاء في آخره: فيفرح أهل الجنة فرحا لو كان أحد يومئذ ميتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا لماتوا.

  • أقول: و روى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاري و الترمذي و النسائي و الطبري و غيرهم عن أبي سعيد و أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس. 

  • و في تفسير القمي: و قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا} قال: كل شي‌ء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة. 

  • أقول: و هذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدمة في تفسيرها.

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٤١ الی ٥٠]

  • {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ٤١ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ٤٢ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا ٤٣ يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ٤٤ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ٤٥ قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا ٤٦ قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ٤٧ وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى‌ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي

تفسير الميزان ج۱٤

56
  • شَقِيًّا ٤٨ فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا ٤٩ وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ٥٠} 

  • (بيان) 

  • تشير الآيات إلى نبذة من قصة إبراهيم (عليه السلام) و هي محاجته أباه في أمر الأصنام بما آتاه الله من الهدى الفطري و المعرفة اليقينية و اعتزاله إياه و قومه و آلهتهم فوهب الله له إسحاق و يعقوب و خصه بكلمة باقية في عقبه و جعل له و لأعقابه ذكرا جميلا باقيا مدى الدهر. 

  • قوله تعالى{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} الظاهر أن الصديق‌ اسم مبالغة من الصدق فهو الذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول لا مناقضة بين قوله و فعله، و كذلك كان إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد في عالم وثني و هو وحده فحاج أباه و قومه و قاوم ملك بابل و كسر الآلهة و ثبت على ما قال حتى ألقي في النار ثم اعتزلهم و ما يعبدون كما وعد أباه أول يوم فوهب الله له إسحاق و يعقوب إلى آخر ما عده تعالى من مواهبه. 

  • و قيل: إن الصديق اسم مبالغة للتصديق، و معناه: أنه كان كثير التصديق للحق يصدقه بقوله و فعله، و هذا المعنى و إن وافق المعنى الأول بحسب المال لكن يبعده ندرة مجي‌ء صيغة المبالغة من المزيد فيه. 

  • و النبي‌ على وزن فعيل مأخوذ من النبإ سمي به النبي لأنه عنده نبأ الغيب بوحي من الله، و قيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره. 

  • قوله تعالى{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره و ذكر نبئه و قصته كما تقدم نظيره في قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ} و أما قول من قال بكونه ظرفا لقوله: {صِدِّيقاً} أو قوله: {نَبِيًّا} فهو تكلف يستبشعه الطبع السليم. 

تفسير الميزان ج۱٤

57
  • و قد نبه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أولا أن طريقه الذي يسلكه بعبادة الأصنام لغو باطل، و ثانيا أن له من العلم ما ليس عنده فليتبعه ليهديه إلى طريق الحق لأنه على خطر من ولاية الشيطان. 

  • فقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ} إلخ، إنكار توبيخي لعبادته الأصنام و قد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها {مَا لاَ يَسْمَعُ} إلخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول و يعطي الحجة في طي المدعى و هو أن عبادة الأصنام لغو باطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع و تمثيل التذلل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، و الأصنام‌ جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع و لا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: {لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ}

  • و ثانيهما: أن العبادة و الدعاء و رفع الحاجة إلى شي‌ء إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا أو يدفع عنه ضررا فيتوقف و لا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، و الأصنام لا قدرة لها على شي‌ء فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: {وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}

  • و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: {يَا أَبَتِ} لم يكن والده و إنما كان عمه أو جده لأمه أو زوج أمه بعد وفاة والده فراجع. 

  • و المعروف من مذهب النحاة في لفظ «يا أبت» أن التاء عوض من ياء المتكلم و مثله «يا أمت» و يختص التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت و قالت أمت. 

  • قوله تعالى{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} لما بين له بطلان عبادته للأصنام و لغويتها و كان لازم معناه أنه سألك طريق غير سوي عن جهل نبهه أن له علما بهذا الشأن ليس عنده و عليه أن يتبعه حتى يهديه إلى صراط و هو الطريق الذي لا يضل سالكه لوضوحه سوي هو في غفلة من أمره، و لذا نكره إذ قال: {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} و لم يقل: أهدك الصراط السوي كأنه يقول: إذ كنت تسلك صراطا و لا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير 

تفسير الميزان ج۱٤

58
  • السوي بجهالة بل اتبعني أهدك صراطا سويا فإني لذو علم بهذا الشأن. 

  • و في قوله: {قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ} دليل على أنه أوتي العلم بالحق قبل دعوته و محاجته هذه و فيه تصديق ما قدمناه في قصته (عليه السلام) من سورة الأنعام أنه أوتي العلم بالله و مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قبل أن يلقى أباه و قومه و يحاجهم. 

  • و المراد بالهداية في قوله: {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب فإنه شأن الإمام و لم يجعل إماما، بعد و قد فصلنا القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}: البقرة: ١٣٤. 

  • قوله تعالى{يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} إلى آخر الآيتين الوثنيون يرون وجود الجن و إبليس من الجن و يعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة و القديسين من البشر، غير أنه ليس المراد بالنهي النهي عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ} (الآية): يس: ٦٠، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به و مما يأمر به عبادة غير الله. 

  • لما دعاه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر و لا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك و تدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها في صلاح و فلاح و لا رجاء لسلامة و سعادة. 

  • و ذلك أن عبادتها و المستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه كل رحمة و التقرب إليها إنما هي من الشيطان و تسويله، و الشيطان عصي للرحمن لا يأمر بشي‌ء فيه رضاه و إنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه و سخطه و العكوف على معصيته و خاصة في أخص حقوقه و هي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته و هي الهداية إلى السعادة و ينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه و هو ولي الشيطان و هو الهلاك. 

  • فمعنى الآيتين و الله أعلم يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة 

تفسير الميزان ج۱٤

59
  • الأصنام لأن الشيطان عصي مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة و نعمة فهو لا يأمر إلا بما فيه معصيته و الحرمان عن رحمته، و إنما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شي‌ء من عذاب خذلانه و ينقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولي أمرك إلا الشيطان فتكون وليا للشيطان و الشيطان مولاك. 

  • و قد ظهر مما تقدم: 

  • أولا: أن المراد بالعبادة في قوله: {لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ} عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخل في الحكم. 

  • و ثانيا: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإن لوصف الرحمة المطلقة دخلا في الحكمين فإن كونه تعالى مصدرا لكل رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريته لكل رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة. 

  • و ثالثا: أن المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أن المراد به العذاب الأخروي لا يساعد عليه السياق. 

  • قوله تعالى{قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا} الرغبة عن الشي‌ء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكف عن الفعل بعد النهي، و الرجم‌: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و الملي‌: الدهر الطويل. 

  • و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذله و هو الرجم الذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه. 

  • قوله تعالى{قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} الحفي‌ على ما ذكره الراغب: البر اللطيف و هو الذي يتتبع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحدا بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفي و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه. 

  • قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدده و فيه سلب الأمن عنه من قبله 

تفسير الميزان ج۱٤

60
  • بالسلام الذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربه و أن يعتزلهم و ما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا. 

  • أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم و طرده لكلمة حق قالها، قال تعالى: {وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}: الفرقان: ٧٢، و قال: {وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}: الفرقان: ٦٣، و أما ما قيل: إنه كان سلام توديع و تحية مفارقة و هجرة امتثالا لقوله: {وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا} ففيه أنه اعتزله و قومه بعد مدة غير قصيرة. 

  • و أما استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} إنه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه و لو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله: {إِنِّي أَخَافُ} بل كان يحتمل أن يكون جاهلا مستضعفا لو ظهر له الحق اتبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء قال تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً}: النساء: ٩٩، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} و قوله تعالى‌{ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}: الممتحنة - ٤. 

  • و يؤيد ما ذكر قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبىَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}: التوبة: ١١٤، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، و ليس ذلك إلا الجاهل غير المعاند. 

  • و يؤيد هذا النظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى أن قال {لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ 

تفسير الميزان ج۱٤

61
  • فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ} الخ: الممتحنة: ٨. 

  • و مما قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه و إنما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه. 

  • و فيه: أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه. 

  • و منها: أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته و إيمانه. و هو كما ترى. 

  • و منها: أن معنى {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا. و هو كسابقه تقييد من غير مقيد. 

  • و منها: أنه وعد الدعاء بالمسبب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان. 

  • و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلو عن بعد لأن في الكلام استعطافا و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمل فيه. 

  • و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: إبراهيم: ٣٦. 

  • قوله تعالى{وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسىَ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا و إنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء و التوجه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرد التفضل منه تعالى. على أن الأمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} إلى آخر الآيتين. لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة 

تفسير الميزان ج۱٤

62
  • في الشجرة الإسرائيلية و لذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من الأنبياء، و يؤيد ذلك أيضا قوله: {وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا}

  • و قوله: {وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: الأنبياء: ٧٣، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ} (الآية): الأنبياء: ٧٣ على ما سيجي‌ء من معناه أو مطلق الولاية الإلهية. 

  • و قوله: {وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} اللسان على ما ذكروا هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذم و إذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه، و العلي‌ هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر. 

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٥١ الی ٥٧]

  • {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ٥١ وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ٥٢ وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ٥٣ وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ٥٤ وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ٥٥ وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ٥٦ وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا ٥٧} 

  • (بيان) 

  • ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شي‌ء من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج۱٤

63
  • قوله تعالى{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} قد تقدم معنى المخلص بفتح اللام و أنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبودية. و تقدم أيضا الفرق بين الرسول و النبي. 

  • قوله تعالى{وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} الأيمن‌: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع: النجي‌ بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع. 

  • و ظاهر أن تقريبه (عليه السلام) كان تقريبا معنويا و إن كانت هذه الموهبة الإلهية في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه. 

  • قوله تعالى{وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما أوحى إليه لأول مرة في الطور إذ قال: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}: طه: ٣٢. 

  • قوله تعالى{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ} إلى آخر الآيتين. اختلفوا في {إِسْمَاعِيلَ} هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب. 

  • و يضعف ما وجه به قول الجمهور: أنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه، أنه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليه السلام) لا بعد موسى. 

  • قوله تعالى{وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} المراد بأهله خاصته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله أمته و هو قول بلا دليل. 

  • و المراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به بعضهم فإن إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل. 

  • قوله تعالى{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} إلى آخر 

تفسير الميزان ج۱٤

64
  • الآيتين. قالوا: إن إدريس النبي كان اسمه أخنوخ و هو من أجداد نوح (عليه السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس. 

  • و قوله: {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعد مواهب النبوة و الولاية و هي مقامات إلهية معنوية أن المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادي و الصعود إلى أقاصي الجو البعيدة أينما كان. 

  • و قيل: إن المراد بذلك كما ورد به الحديث أن الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهية بالغة و كفى بها مزية. 

  • (قصة إسماعيل صادق الوعد) 

  • لم ترد قصة إسماعيل بن حزقيل النبي في القرآن إلا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعده صادق الوعد و آمرا بالمعروف و مرضيا عند ربه، و ذكر أنه كان رسولا نبيا. 

  • و أما الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إسماعيل الذي قال الله عز و جل في كتابه: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز و جل إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي أسوة بما يصنع بالأنبياء (عليه السلام). 

  • أقول: و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي أسوة بالحسين (عليه السلام)

  • و في العيون بإسناده إلى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره. 

  • أقول: و روى هذا المعنى في الكافي عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن 

تفسير الميزان ج۱٤

65
  • أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنه (عليه السلام). 

  • و في تفسير القمي: في قوله {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ} قال: وعد وعدا فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل. 

  • أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقا لم يقيده بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبر نفسه في المكان الذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتى يرجع إليه. 

  • و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحب و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أن من الإيمان ما يجتمع مع أي خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتى يخلص من كل شرك خفي فلا يتعلق القلب بشي‌ء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلا إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض حاجة أخرى توجب الانصراف إليها و هو الذي يصدق عليه الوفاء عرفا، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتى يواس من رجوع الصديق إليه عادة بمجي‌ء الليل و نحوه فيقيد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القوية التي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلا ما في وسعها أن تصدقه بالفعل ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أي صارف. 

  • و في الرواية: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وعد بعض أصحابه بمكة أن ينتظره عند الكعبة حتى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثة أيام هناك ينتظره فاطلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصديقين لا يقولون إلا ما يفعلون. 

  • (قصة إدريس النبي (عليه السلام)) 

  • ١ - لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} (الآية): - ٥٦-٥٧ و في قوله: 

تفسير الميزان ج۱٤

66
  • {وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصَّابِرِينَ وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ}: الأنبياء: ٨٥ ٨٦. 

  • و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عده نبيا و صديقا و من الصابرين و من الصالحين، و أخبر أنه رفعه مكانا عليا. 

  • ٢ - و من الروايات الواردة في قصته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام): و الحديث طويل لخصناه أنه كان بدء نبوة إدريس (عليه السلام) أنه كان في زمانه ملك جبار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمر بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحب أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحير في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامة الأمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهودا أنه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض. 

  • فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزتي لأنتقمن له منك في الآجل و لأسلبن ملكك في العاجل، و لأخربن مدينتك و لأذلن عزك و لأطعمن الكلاب لحم امرأتك فقد غرك يا مبتلى حلمي عنك. 

  • فأتاه إدريس برسالة الله و بلغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثم أرسل إليه بإشارة من امرأته قوما يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثم ناجى ربه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنه سينفذ في الملك أمره و يصدق فيه قوله، ثم سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتى يسأل ذلك فأجيب إليه. 

  • فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلا و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو 

تفسير الميزان ج۱٤

67
  • متنحيا إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كل مساء. 

  • و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتى جهدوا و اشتدت حالهم فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أن الذي لقوه من الجهد و المشقة إنما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرع. 

  • فأوحى الله إلى إدريس أن القوم عجوا إلي بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم حتى تسألني فاسألني حتى أغيثهم، قال إدريس: اللهم إني لا أسألك. 

  • فأوحى الله إلى الملك الذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيام حتى بلغ به الجوع: فنادى اللهم حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثم سألتك أن تسألني أن أمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلتك. 

  • فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا و حلفت أنها لا تملك غيره شيئا فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما أمسك به روحي و تقوم به رجلي حتى أطلب، قالت: إنهما قرصتان واحدة لي و الأخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت. 

تفسير الميزان ج۱٤

68
  • فلما رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات، قالت أمه: يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته فقال: لا تجزعي فأنا أحييه لك الساعة بإذن الله و أخذ بعضدي الصبي و قال: أيتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه. 

  • فلما سمعت أمه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيا قالت: أشهد أنك إدريس النبي و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول و قد تبدلت تلا من تراب فاجتمع إليه أناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتى يأتيني جباركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك. 

  • فبلغ ذلك الجبار فبعث إلى إدريس أربعين رجلا و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلما جاءوه و كلفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثم أرسل خمسمائة رجل فلما أتوه كلفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر. 

  • فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتى أهمتهم أنفسهم من الماء. 

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الله بن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ ما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي الذي كان يخيط فيه.

  • أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنه (عليه السلام) أول من خط بالقلم و أول من خاط. 

  • و في تفسير القمي قال: و سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب. 

  • أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام): {وَ رَفَعْنَاهُ 

تفسير الميزان ج۱٤

69
  • مَكَاناً عَلِيًّا} أن الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلما بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يرد إليه جناحه، فدعا له إدريس فرد الله جناحه إليه و رضي عنه. 

  • قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم أحب أن ترفعني إلى السماء حتى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرك رأسه تعجبا، فسلم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرك رأسك؟ قال: إن رب العزة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا رب كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثم قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى: {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا}

  • روى الحديث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و روى ما في معناه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و الروايتان على ما بهما و خاصة في الثانية۱ منهما من ضعف السند لا معول عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة. 

  • و روى الثعلبي في العرائس عن ابن عباس و غيره ما ملخصه: أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها و احمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلة فأذن له. 

  •  

    1. لمكان مفضل بن صالح و كان كذاباً يضع الحديث.

تفسير الميزان ج۱٤

70
  • فكان إدريس يسأله و كان مما سأله: أنك أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي حتى أزداد شكرا و عبادة فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك. 

  • ثم حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إلي و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبدا. فإنه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإني أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شي‌ء فرجع الملك إليه فوجده ميتا. 

  • و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب: إلا أن فيه أن النازل على إدريس الملك الذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه «إلخ» و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عباس هذا الحديث و فيه :أن إدريس مات بين جناحي الملك. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتى عرفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصة نزوله و صحبته. 

  • فلما عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثم يردها إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنة فاستأذن و فعل فدخل الجنة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبي الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلق بشجرة هناك، 

تفسير الميزان ج۱٤

71
  • و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} و قد ذقته، و قال: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} و قد وردت النار، و قال: {وَ مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} و لست أخرج من الجنة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرض له فبقي في الجنة. 

  • و رواه في العرائس عن وهب و في آخره :فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة - و تارة يتنعم في الجنة. 

  • و في مستدرك الحاكم عن سمرة :كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر - قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص - فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم - و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة - فهو حيث يقول: {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا}

  • أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلمية و الأصول المسلمة من الدين. 

  • ٣ - و يسمى (عليه السلام) بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشئه و عمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة: ولد بمصر و سموه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانية إرميس و عرب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، و هو عند العبرانيين خنوخ و عرب أخنوخ، و سماه الله عز و جل في كتابه العربي المبين إدريس. 

  • و قال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: إغثاذيمون المصري، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين و المصريين، و سموه أيضا أورين الثاني و إدريس عندهم أورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجد، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلها ثم عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره. 

  • و قالت فرقة أخرى: إن إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنه أخذ في أول عمره 

تفسير الميزان ج۱٤

72
  • بعلم شيث بن آدم و هو جد جد أبيه لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستاني: إن إغثاذيمون هو شيث. 

  • و لما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلهم و خالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانية النهر و كأنهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره. 

  • فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب و كان معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، و سائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكل ذلك. 

  • و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عز و جل، و تكلم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، و علمه الله عز و جل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية، و قرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علمهم العلوم. 

  • و هو أول من استخرج الحكمة و علم النجوم فإن الله عز و جل أفهمه سر الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لو لا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك. 

  • و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول 

تفسير الميزان ج۱٤

73
  • إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوس‌آمون، و قيل: إيلاوس‌آمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة. 

  • و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة و أهل العلم جيلا بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (عليه السلام). 

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٥٨ الی ٦٣]

  • {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلى‌ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اَلرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا ٥٨ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ٥٩ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ٦٠جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ٦١ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ٦٢ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ٦٣}  

  • (بيان) 

  • قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته تعالى و هو دين التوحيد هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أن 

تفسير الميزان ج۱٤

74
  • التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات اتباع سبيل الغي إلا من تاب و آمن و عمل صالحا. 

  • فالآيات و خاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات، و هذا مما تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها. 

  • قوله تعالى{أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} إلخ، الإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام). 

  • و قد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أن القصص الموردة فيها أمثلة، و أن هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله: {أُولَئِكَ} مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله: {اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} صفة له، و قوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلخ، خبرا له فهذا هو الذي يهدي إليه التدبر في السياق. و لو أخذ قوله: {اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} خبرا لقوله: {أُولَئِكَ} فقوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلخ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة. 

  • و قد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ}: الحمد: ٧، و هم في أمن و اهتداء لقوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ}: الأنعام: ٨٢، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الإنسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها و السبيل التي سلكوها، هي سبيل السعادة. 

  • و قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا 

تفسير الميزان ج۱٤

75
  • وَ اِجْتَبَيْنَا} على ما سيأتي توضيحه. و قد جوز المفسرون كون «من» بيانية و أنت خبير بأن ذلك لا يلائم كون {أُولَئِكَ} مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأن النبيين أعم، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى أولئك المذكورون و أمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون و من هدينا و اجتبينا. 

  • و قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} في معنى الصفة للنبيين و من فيه للتبعيض أي من النبيين الذين هم بعض ذرية آدم، و ليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك. 

  • و قوله: {وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} معطوف على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) و ذريتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرية نوح لقوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ}: الصافات: ٧٧. 

  • و قوله: {وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ} معطوف كسابقه على قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ}

  • و قد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم و من حمله مع نوح و ذرية إبراهيم و ذرية إسرائيل و قد كان ذكر كل سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم و الجميع ممن حمل مع نوح و الجميع من ذرية آدم (عليه السلام). 

  • و لعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوة على نوع الإنسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع: 

  • أحدها لعامة بني آدم حيث قال: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: ٣٩. 

  • و الثاني ما في قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىَ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هود: ٤٨، و الثالث ما في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَ إِبْرَاهِيمَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: الحديد: ٢٦، و الرابع ما في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ}: الجاثية: ١٦. 

تفسير الميزان ج۱٤

76
  • فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوة و موهبة السعادة، و قد أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ}، و قد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري الأربع كإدريس من ذرية آدم، و إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرية إبراهيم، و زكريا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل على ما استظهرنا من ذرية إسرائيل. 

  • و قوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} معطوف على قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} و هؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}: النساء: ٦٩ و قد ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم (عليه السلام) معتنيا بها إذ قال: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ} و ليست من النبيين فالمراد بقوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} غير النبيين من الصديقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصديقين لقوله تعالى: {مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}: المائدة: ٧٥. 

  • و مما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} معطوفا على قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر. و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا و إنما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان. 

  • و نظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} و من للتبعيض و قد اتضح وجه فساده مما قدمناه. 

  • و نظيره قول من قال: إن قوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا} استئناف من غير عطف فقد تم الكلام عند قوله: {إِسْرَائِيلَ} ثم ابتدأ فقال: و ممن هدينا و اجتبينا من الأمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر. 

تفسير الميزان ج۱٤

77
  • و فيه أنه تقدير من غير دليل. على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم و أنهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و هذا لا يتأتى إلا بكون قوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلخ خبرا لقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} و أخذ قوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا} إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله إفساد للغرض المذكور من رأس. 

  • و قوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اَلرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا} السجد جمع ساجد و البكي على فعول جمع باكي و الجملة خبر للذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجدا و بكيا كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأنا من شئونه تعالى. 

  • و أما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفار و المجرمين، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى. 

  • فمعنى الآية و الله أعلم أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم. 

  • و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم «إلخ» لأن العناية في المقام متعلقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحا و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قالوا: الخلف‌ بسكون اللام البدل السيئ و بفتح اللام ضده و ربما يعكس على ندرة، و ضياع الشي‌ء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلط عليه يقال: أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، و الغي‌ خلاف الرشد و هو إصابة الواقع و هو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى 

تفسير الميزان ج۱٤

78
  • و هو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة. 

  • فقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} إلخ أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله عليهم و كانت طريقتهم الخضوع و الخشوع لله تعالى بالتوجه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة و التوجه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه و الإعراض عنه، و اتبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله و التوجه إليه. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها و الاستهانة بها حتى ينتهي إلى أمثال اللعب بها و التغيير فيها و الترك لها بعد الأخذ و القبول فما قيل: إن المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمى ترك الشي‌ء من رأس إضاعة له و العناية في الآية متعلقه بأن الدين الإلهي انتقل من أولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة و أضاعوا ما ورثوه من الصلاة التي هي الركن الوحيد في العبودية و اتبعوا الشهوات الصارفة عن الحق. 

  • و قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي جزاء غيهم على ما قيل فهو كقوله: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}

  • و من الممكن أن يكون المراد به نفس الغي بفرض الغي غاية للطريق التي يسلكونها و هي طريق إضاعة الصلاة و اتباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقا غايتها الغي فسيلقونه إذا قطعوها إما بانكشاف غيهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغي في قلوبهم و صيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢، و كيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة. 

  • قوله تعالى{إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون بأولئك الذين أنعم الله عليهم و هم معهم لا منهم كما قال تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}: النساء: ٦٩. 

  • و قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ} من وضع المسبب موضع السبب و الأصل 

تفسير الميزان ج۱٤

79
  • فأولئك يوفون أجرهم، و الدليل على ذلك قوله بعده: {وَ لاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} فإنه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنة. 

  • قوله تعالى{جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} العدن‌ الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها، و الوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له، و كون الوعد مأتيا عدم تخلفه، قال في المجمع: و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأن ما أتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين سنة و أتت علي خمسون سنة، و قيل: إن الموعود الجنة و الجنة يأتيها المؤمنون انتهى. 

  • قوله تعالى{لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} عدم سمع اللغو من أخص صفات الجنة و قد ذكره الله سبحانه و امتن به في مواضع من كلامه و سنفصل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، و استثناء السلام منه استثناء منفصل، و السلام قريب المعنى من الأمن و قد تقدم الفرق بينهما فقولك: أنت مني في أمن معناه لا تلقى مني ما يسوءك، و قولك: سلام مني عليك معناه كل ما تلقاه مني لا يسوءك. و إنما يسمعون السلام من الملائكة و من رفقائهم في الجنة، قال تعالى حكاية عن الملائكة {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}: الزمر: ٧٣، و قال: {فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ}: الواقعة - ٩١. 

  • و قوله {وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} الظاهر أن إتيان الرزق بكرة و عشيا كناية عن تواليه من غير انقطاع. 

  • قوله تعالى{تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} الإرث و الوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأول له بموت أو جلاء أو نحوهما، و إذ كانت الجنة في معرض العطاء لكل إنسان بحسب الوعد الإلهي المشروط بالإيمان و العمل الصالح فاختصاص المتقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات وراثة المتقين، و نظير هذه العناية ما في قوله تعالى: {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}: الأنبياء: ١٠٥، و قوله: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ}: الزمر: ٧٤، و الآية كما ترى جمعت بين الإيراث و الأجر. 

تفسير الميزان ج۱٤

80
  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: في قوله تعالى: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} (الآية)، و روي عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: نحن عنينا بها. 

  • أقول: و عن مناقب ابن شهرآشوب، عنه (عليه السلام) مثله، و قد اتضح معنى الحديث بما قدمناه في تفسير الآية فإن المراد بالجملة أهل الهداية و الاجتباء من غير النبيين و هم (عليه السلام) منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم و ليست بنبية. 

  • قال في روح المعاني: و روى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم. و لا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا و حال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. و قد تبين خطؤه مما تقدم و الذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} معطوفا على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} و قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} بيانا لقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ} إلخ، فانحصر {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} في النبيين فاضطر إلى القول بأن الآية لا تشمل غير النبيين و هو يرى أن الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران و ليست بنبية. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} فقال: يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، و يقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن و منافق و فاجر. 

  •  و في المجمع: في قوله تعالى: {أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ} و قيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلا و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • أقول: و روى في الكافي ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام)، و روي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن مسعود و عدة من التابعين. 

  • و عن جوامع الجامع و في روح المعاني: في قوله: {وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ} عن علي (عليه السلام) من بنى الشديد و ركب المنظور و لبس المشهور

تفسير الميزان ج۱٤

81
  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الغي واد في جهنم

  • أقول: و في روايات أخرى أن الغي و أثام نهران في جهنم، و هذا على تقدير صحة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسرين بل بيان لما سيئول إليه الغي بحسب الجزاء، و نظيره ما ورد أن الويل بئر في جهنم و أن طوبى شجرة في الجنة، إلى غير ذلك من الروايات. 

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٦٤ الی ٦٥]

  • {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ٦٤ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ٦٥} 

  • (بيان) 

  • الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب. و بذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة و رواه في مجمع البيان، أيضا عن ابن عباس :أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) استبطأ نزول جبريل - فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآيتين. 

  • و قد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزل إلا بأمر ربك إلخ، و قال آخرون: إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا} (الآية)، و ذكر قوم أن قوله: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية من 

تفسير الميزان ج۱٤

82
  • كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير و قال المتقون و ما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك «إلخ» و قيل غير ذلك. 

  • و هي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال. 

  • قوله تعالى{وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، التنزل‌ هو النزول على مهل و تؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال: نزله فتنزل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال: {لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}: التحريم: ٦. 

  • و قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} يقال: كذا قدامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف و التسلط فظاهر قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله: {وَ مَا خَلْفَنَا} بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا. 

  • و على هذا فلو أريد بقوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم و المكان الذي هم فيه و جميع المكان الذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ}، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض. 

  • فالوجه حمل {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها، و حمل {مَا خَلْفَنَا} على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم، و حمل {مَا بَيْنَ ذَلِكَ} على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلق به وجودنا من قبل و من بعد. 

  • و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو 

تفسير الميزان ج۱٤

83
  • قدامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان. و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدة حياتنا. 

  • و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الذي هم فيه. 

  • و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماءات عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماءات عليها زمانية و هناك قول بكون الآية تعم الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولا و لا دليل على شي‌ء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدمناه. 

  • فقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره و لا إرادة من سواه إلا عن إذن منه و مشية و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه. 

  • و قد تقرر بهذا البيان أن قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} في مقام التعليل لقوله: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} و أن قوله: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} و النسي فعول من النسيان من تمام التعليل أي أنه تعالى لا ينسى شيئا من ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كان هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان. 

  • و قيل المعنى و ما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا 

تفسير الميزان ج۱٤

84
  • لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إياك. 

  • و فيه أنه و إن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} إلخ، ناقصا و ينقطع قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} عما تقدمه كما سيتضح. 

  • قوله تعالى{رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} صدر الآية أعني قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} تعليل لقوله في الآية السابقة {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا} إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيا و هو تعالى رب السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و رب الشي‌ء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيته. 

  • و قوله: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك و قد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به و ربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} أو على قوله: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي لم ينسك ربك فاعبده «إلخ» و الوجهان كما ترى. 

  • و قد بان بهذا التقرير أمور: 

  • أحدها أن قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} من تمام البيان المقصود بقوله: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} و هو في مقام التعليل له. 

  • و الثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شي‌ء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه. 

  • و بذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل: 

تفسير الميزان ج۱٤

85
  • إن المراد بالسمي المماثل مجازا، و قيل: السمي بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب. 

  • و الثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الأولى إذ قال: بأمر ربك و قال: و ما كان ربك و لم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: {رَبِّكَ} إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد. 

  • و الرابع: أن قوله: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمرا بالعبادة و أمرا بالثبات عليها و إدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك. 

  • و يمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة. 

  • فكان ملك الوحي لما تنزل عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه لم يتنزل و ليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو رب النبي و رب كل شي‌ء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تثبيتا له و تأكيدا للآيات السابقة. 

  • و هذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو مليكك و مليك عامة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى 

تفسير الميزان ج۱٤

86
  • تعدل عنه إليه. 

  • فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أن الملك، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول و رسالة أيضا عن قبل الملك و كلامه. 

  • و غير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٦٦ الی ٧٢ ]

  • {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ٦٦ أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ٦٧ فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ٦٨ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا ٦٩ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى‌ بِهَا صِلِيًّا ٧٠وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلى‌ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ٧٢} 

  • (بيان) 

  • عود إلى ما قبل قوله: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآيتين و مضى في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم و قد خص بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوة و آخر في المبدإ. 

تفسير الميزان ج۱٤

87
  • ففي هذه الآيات أعني قوله: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ} إلى قوله {وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال. 

  • قوله تعالى{وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفار من الوثنيين و من يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الذين كفروا «إلخ»، و فيه أنه لا يلائم قوله الآتي: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ} إلى قوله {صِلِيًّا}

  • و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك و قد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي و هو يذكر أن الله خلقه من قبل و لم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً} أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية. 

  • و لعل التعبير بالمضارع في قوله: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ} للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً} الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر: {وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى أن قال {أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}: يس: ٨١. 

  • فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإن مثل الشي‌ء غيره، قيل: إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا و شخصية 

تفسير الميزان ج۱٤

88
  • الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا و تعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا و هذا كما أن شخصية الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن و تبدله بتغير أجزائه و تبدلها حالا بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها. 

  • و إلى هذا يشير قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى أن قال {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}: الم السجدة: ١١ أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون و لا تفتقدون. 

  • قوله تعالى{فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} الجثي‌ في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنهم يحضرون زمرا و جماعات متراكما بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق. 

  • و ضمير الجمع في {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} و {لَنُحْضِرَنَّهُمْ} للكفار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من المؤمن و الكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} كذلك و فيه أن لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك. 

  • و المراد بقوله: {لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ} جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} و الشياطين أولياؤهم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} الحجر: ٤٢، و قال: {إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأعراف: ٢٧، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}...، {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}: الزخرف: ٣٩. 

  • و المعنى: فأقسم بربك لنجمعنهم يوم القيامة و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلة أو 

تفسير الميزان ج۱٤

89
  • و هم جماعات و زمرة زمرة. 

  • و في قوله: {فَوَ رَبِّكَ} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و لعل النكتة فيه ما تقدم في قوله: {بِأَمْرِ رَبِّكَ} و نظيره قوله الآتي: {كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً}

  • قوله تعالى{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا} النزع‌ هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتي‌ على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان و الظاهر أن قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا} جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىَ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}: الإسراء: ٥٧. 

  • و المعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن و هم الرؤساء و أئمة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم. 

  • و في قوله: {عَلَى اَلرَّحْمَنِ} التفات و النكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شي‌ء و هم لم يلقوا منه إلا الرحمة و التمرد على من هذا شأنه عظيم. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلىَ بِهَا صِلِيًّا} الصلي‌ في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} الخطاب للناس عامة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا} و الضمير في {وَارِدُهَا} للنار، و ربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك. 

  • و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ 

تفسير الميزان ج۱٤

90
  • مَدْيَنَ} و الورد الماء المرشح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} {وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ} {إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً} {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} {مَا وَرَدُوهَا} و الوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة. 

  • و إلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلوا عليه بقوله تعالى: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ}: القصص: ٢٣، و قوله: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلىَ دَلْوَهُ}: يوسف: ١٩، و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}: الأنبياء: ١٠٢. 

  • و فيه أن استعماله في مثل قوله: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} و قوله: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى، و أما قوله: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا}، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار: {كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلىَ إِبْرَاهِيمَ}

  • و قال آخرون و لعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}: الأنبياء: ٩٩، و قوله في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ}: هود: ٩٨، و يدل عليه قوله في الآية التالية: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} أي نتركهم باركين على ركبهم و إنما يقال نذر و نترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه و لعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية. 

  • و هؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتقين 

تفسير الميزان ج۱٤

91
  • مدعيا أن قوله: {مِنْكُمْ} بمعنى منهم على حد قوله: {وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}: الدهر: ٢٢، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا} (الآية). 

  • و فيه أن كون الورود في مثل قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} فإن شأن فرعون و هو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أما إدخالهم فيها فليس إليه. 

  • و أما قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا} فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله: {نَذَرُ} لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله {وَارِدُهَا} مستعملا في معنى الدخول و كذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك. 

  • و أما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ {وَارِدُهَا} في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط. 

  • فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار و إنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكىَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً}: النور: ٢١. 

  • قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلا الشر و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله: {كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء. 

  • و الحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللغة فقوله: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} إنما يدل على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها. 

تفسير الميزان ج۱٤

92
  • و قوله: {كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه و إنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله: {وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا} يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه، و أما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد. 

  • و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم. 

  • و معنى الآيتين: ما من أحد منكم متق أو ظالم إلا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم. 

  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً} قال: فقال: لا مقدرا و لا مكتوبا. 

  • و في المحاسن بإسناده عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ} (الآية)، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.

  • أقول: المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثم أثبته الله حين أراد كونه و أما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شي‌ء بنص القرآن. 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} قال: قال: على ركبهم. 

  • و فيه بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل: 

تفسير الميزان ج۱٤

93
  • {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله. 

  • و في المجمع عن السدي قال :سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه. 

  • و فيه و روى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومأ بإصبعيه إلى أذنيه و قال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر حتى يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال: لجهنم ضجيجا من بردها ثم ينجي الله الذين اتقوا و يذر الظالمين فيها جثيا. 

  • أقول: و الرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة. 

  • و فيه و روي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.

  • و فيه و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه سئل عن المعنى فقال: إن الله يجعل النار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.

  • أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور عن عدة من أرباب الكتب و الجوامع، غير أنه لم يذكر في الرواية الثانية فيما عندنا من نسخة الدر المنثور، قوله: الورود الدخول. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال :لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة لكم و لكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية {وَ إِنْ مِنْكُمْ 

تفسير الميزان ج۱٤

94
  • إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} فقد علمت أني وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟ 

  • و اعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنه حمل الآية عليه. 

  • و قال في مجمع البيان: و قيل: إن الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار :أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها، و لا يدخل أحدا النار حتى يطلعه على الجنة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنة و نعيمها. انتهى. 

  • (كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه) (و عدم جوازه على الله سبحانه) 

  • قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦ في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنه يملك كل شي‌ء ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض و أن كل شي‌ء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شي‌ء مما يتعلق به. 

  • فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لأن القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة و أما إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة و لا يوجد في المجتمع الإنساني ملك مطلق و لا حرية مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الإنسان لو تعداه و يقبح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله. 

تفسير الميزان ج۱٤

95
  • و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد و لا محدود على ما يدل عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكل شي‌ء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكل شي‌ء لم يستقم حكمه في كل شي‌ء و لا قضاؤه عند كل واقعة، و الاستدلال على محدودية ملكه تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل ذم عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشي‌ء بحكم ما يباينه. 

  • على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كل شي‌ء و إن شئت فقل: كون كل شي‌ء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شي‌ء من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شي‌ء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي و حق مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الإيجاد كعناوين المعاصي التي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقق شي‌ء من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه. 

  • و يتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم أو يجوز و بالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف و مآله إلى مملوكية ذاته و هو محال. 

  • و ما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ و من الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكما لذاته بل لغيره هف. 

  • و إن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي و لا موجود واقعي و إنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجية عاد 

تفسير الميزان ج۱٤

96
  • الأمر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مر بطلانه. 

  • و إما أمر حقيقي موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلا من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر و أنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة أخرى ينتهي الأمر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلا من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره و هو العدل مثلا واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير. 

  • فقد اتضح بهذا البحث أمور: 

  • الأول: أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: البروج: ١٦، و قال: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}: الرعد: ٤١ غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا. 

  • و معنى كونه تعالى مشرعا آمرا و ناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسماة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال و أعمال هي الملاءمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهزة و الأوضاع و الأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل: تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة. 

  • و هذه القوانين التي تهتف بها الفطرة و يعلمها الوحي السماوي هي الشريعة و إذ هي 

تفسير الميزان ج۱٤

97
  • تنتهي إليه تعالى فالأمر الذي فيها أمره و النهي الذي فيها نهيه و كل حكم فيها حكمه، و فيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و أمور يستقبحها و يستشنعها و يذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا. 

  • فلا ضير في وجوب شي‌ء عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على نفسه، و هذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أن من سنته تعالى التكوينية أن يريد و يفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و إن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك. 

  • الثاني: أن هذا الوجوب تشريعي و هناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع عنها معنى العدل. 

  • و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا و قرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلا لكنه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكنا بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقية كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا. 

  • و المغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات و ليس إلا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمرا عينيا و قد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم تأثير غير الذات الواجبية فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشإ انتزاعها. 

تفسير الميزان ج۱٤

98
  • و المغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن أخذت جزءا من العلة التامة و إنما تتم بانضمام أمر أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا و إن كان بالنسبة إلى علته التامة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريا لا ممكنا. 

  • و الثالث: أن قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقلي، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم قائلين إن من شأنه الإدراك دون الحكم. 

  • و ذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكي بعينه فعلا للعقل قائما به و هو معنى الحكم و القضاء، و أما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء. 

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٧٣ الی ٨٠]

  • {وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ٧٣ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِءْياً ٧٤ قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذَابَ وَ إِمَّا اَلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ٧٥ وَ يَزِيدُ

تفسير الميزان ج۱٤

99
  • اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا ٧٦ أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً ٧٧ أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً ٧٨ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا ٧٩ وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً ٨٠} 

  • (بيان) 

  • هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا و لو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة و جمال و زينة، فالذي هم عليه من الكفر و قد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون و قد غشيهم رثاثة الحال و فقد المال و عسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، و قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ} إلخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} إلى آخر الآية، المقام‌ اسم مكان من القيام فهو المسكن، و الندي‌ هو المجلس و قيل خصوص مجلس المشاورة، و معنى {قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، و قيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم و صرفهم عن الإيمان، و الأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار و المؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر. 

  • و قوله: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا} أي للاستفهام و الفريقان هما 

تفسير الميزان ج۱٤

100
  • الكفار و المؤمنون، و كان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما و أحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد و الفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال و كنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد و ارتياب. 

  • و المعنى: و إذا تتلى على الناس و هم الفريقان الكفار و المؤمنون آياتنا و هي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم و هم الذين كفروا للفريق الآخر و هم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن و أحسن من حيث المجلس و لا محالة هم الكفار يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم و ملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه. 

  • قوله تعالى{وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِءْياً} القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، و الأثاث‌: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير و لا واحد له من لفظه، و الرئي‌ بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر و ليس بالمصدر و إنما المصدر الرأي و الرؤية يدل على ذلك قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ} فالرأي: الفعل، و الرئي: المرئي كالطحن و الطحن و السقي و السقي و الرمي و الرمي. انتهى. 

  • و لما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم و بطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما و أحسن نديا في الدنيا و قد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها و إنما سعادته في سعادتها و الأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له و لا أنها تغني عنه شيئا. 

  • على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة و لا تقيه من غضب الله إن حل به يوما و ما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله و لا طيب في عيش يهدده الهلاك و لا في نعمة كانت في معرض النقمة و الخيبة. 

  • أشار إلى الجواب عنه بقوله: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} و الظاهر أن الجملة حالية و كم خبرية لا استفهامية، و المعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية نحن خير منكم مقاما و أحسن نديا استخفافا للمؤمنين و الحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة و المناظر. 

تفسير الميزان ج۱٤

101
  • و قد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون و عقبه بحديث غرقه و هلاكه، قال: {وَ نَادىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْ لاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} إلى أن قال {فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ}: الزخرف: ٥٦. 

  • قوله تعالى{قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا} إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله: {مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ} تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، و بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد و الاستدراج‌ الذي هو إضلال بعد الضلال. 

  • و قوله: {فَلْيَمْدُدْ} صيغة أمر غائب و يئول معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشي‌ء معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه. 

  • و المد و الأمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أن أكثر ما جاء الأمداد في المحبوب و المد في المكروه و المراد أن من استقرت عليه الضلالة و استمر هو عليها و المراد به الكفار كناية فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة و المباهتة فيظهر له الحق عند ذلك و لن ينتفع به. 

  • فقوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذَابَ وَ إِمَّا اَلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ} إلخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام و المراد به أن ينصرف عن الحق و اتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به و هو وقت نزول البأس أو قيام الساعة. 

  • كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}: المؤمن: ٨٥، و قال: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}: الأنعام: ١٥٨. 

  • و في إرجاع ضمير الجمع في قوله: {رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} إلى {مَنْ} رعاية جانب 

تفسير الميزان ج۱٤

102
  • معناه كما أن في إرجاع ضمير الإفراد في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ} إليه رعاية جانب لفظه. 

  • و قوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً} قوبل به قولهم السابق: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا} أما مكانهم حين يرون العذاب و الظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله و قد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم و أما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، و أما ضعف جندهم فلأنه لا عاصم لهم اليوم من الله و يعود كل ما هيئوه لأنفسهم من عدد و عدة سدى لا أثر له. 

  • قوله تعالى{وَ يَزِيدُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً} إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات‌ الأعمال الصالحة التي تبقى محفوظة عند الله و تستعقب جميل الشكر و عظيم الأجر و قد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه. 

  • و الثواب‌ جزاء العمل قال في المفردات: أصل الثوب‌ رجوع الشي‌ء إلى حالته الأولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة إلى أن قال و الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو إلى أن قال و الثواب يقال في الخير و الشر لكن الأكثر المتعارف في الخير. انتهى و المرد اسم مكان من الرد و المراد به الجنة. 

  • و الآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة و تذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة و تنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به و هؤلاء أحد الفريقين في قولهم: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً} إلخ. 

  • و هذه الآية تبين حال الفريق الآخر و هم المؤمنون و أن الله سبحانه يمد المهتدين منهم و هم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة و هي خير أجرا و خير دارا و هي الجنة و دائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة و هي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية. 

  • و في قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} إشارة إلى أن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب و مرد 

تفسير الميزان ج۱٤

103
  • حكم إلهي لا يخطئ و لا يغلط البتة. 

  • و هاتان الآيتان كما ترى جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا}

  • قوله تعالى{أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} كما أن سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق و استغواء و استخفافا للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع و قد افتتحت بكلمة التعجيب و اشتملت بقول يشبه القول السابق و اختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم و لحق بهم قائلا لأوتين مالا و ولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كان في الإيمان بالله شؤما و في اتخاذ الآلهة ميمنة. فرده الله سبحانه بقوله: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ} إلخ. 

  • و أما ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الأرت حين طالبه دينا كان له عليه، و أن معنى الجملة لأوتين مالا و ولدا في الجنة فأؤدي ديني فشي‌ء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لأوتين مالا و ولدا إذا بعثت و عند ذلك أؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء و التهكم و لا معنى لرد الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} إلخ. 

  • و نظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الآية عامة فيمن له هذه الصفة. 

  • فقوله: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} مسوق للتعجيب، و كلمة {أَ فَرَأَيْتَ} كلمة تعجيب و قد فرعه بفاء التفريع على ما تقدمه من قولهم: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا} لأن كفر هذا القائل و قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} من سنخ كفرهم و مبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء و سعادة الحياة و عزة الدنيا و نعمتها و لا خير إلا ذلك عند الكفار و في ملتهم. 

  • و من هنا يظهر أن لقوله: {وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} نوع ترتب على قوله {كَفَرَ 

تفسير الميزان ج۱٤

104
  • بِآيَاتِنَا} و أنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزة و القدرة و ترزقه الخير و السعادة في الدنيا و قد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم و نون التأكيد في قوله: {لَأُوتَيَنَّ}

  • قوله تعالى{أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} رد سبحانه عليه قوله: «لأوتين مالا و ولدا بكفري» بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله و لا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه في ذلك، و قد جي‌ء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاري. 

  • قوله تعالى{كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا} كلا كلمة ردع و زجر و ذيل الآية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب إيتاء المال و الولد على الكفر بآيات الله و محصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال و الولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره و رجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لأنه هو تبعة قوله لا إيتاء المال و الولد و سنكتب قوله و نرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالآية نظيرة قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ}: العلق: ١٨. 

  • و من هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير، على أن قوله الآتي: {وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ} لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة. 

  • قوله تعالى{وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً} المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت و يفنى و يترك قوله: لأوتين بكفري مالا و ولدا، و قد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة. 

  • و قوله: {وَ يَأْتِينَا فَرْداً} أي وحده و ليس معه شي‌ء مما كان ينتصر به و يركن إليه بحسب وهمه فمحصل الآية أنه سيأتينا وحده و ليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال و نمد له من العذاب مدا. 

  • هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الآيات {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} ناظرا 

تفسير الميزان ج۱٤

105
  • إلى الإيتاء في الدنيا، و أما بناء على كونه ناظرا إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسروها تعجب من الذي كفر بآياتنا و هو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة و قال: أقسم لأوتين إذا بعثت مالا و ولدا في الجنة، أ علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة؟ و قيل: أ نظر في اللوح المحفوظ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا الله حتى يدخل به الجنة و قيل: أ قدم عملا صالحا كلا و ليس الأمر كما قال سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله و نمد له من العذاب مدا و نرثه ما يقول أي ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إياه و إبطالنا ملكه و يأتينا أي يأتي الآخرة فردا ليس عنده شي‌ء من مال و ولد و عدة و عدد. 

  • (بحث روائي) 

  •  في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} إنه العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي و كان أحد المستهزءين، و كان لخباب بن الأرت على العاص بن وائل حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: أ لستم تزعمون أن في الجنة الذهب و الفضة و الحرير؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني و بينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و البخاري و مسلم و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و الترمذي و البيهقي في الدلائل و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و ابن مردويه عن خباب بن الأرت قال :كنت رجلا قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا و الله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا و الله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت -ثم بعثت جئتني و لي ثم مال و ولد فأعطيك فأنزل الله: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} إلى قوله {وَ يَأْتِينَا فَرْداً}

  • أقول: و روى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب. و أيضا عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يسم خبابا و أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة. 

تفسير الميزان ج۱٤

106
  • و قد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإن الروايات صريحة في أن الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء و السخرية على أن النقل القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث و النشور. 

  • ثم الآيات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج و لو كانت كلمة استهزاء من غير جد لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي و إلا كان هزلا فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية. 

  • و لو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} على وجه الإلزام و التبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه و كفاه أن يقول لأوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال و ولد و لم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأن في الجنة توالدا و تناسلا و لا وقعت في شي‌ء من القرآن إشارة إلى ذلك. هذا أولا

  • و لم يكن للقسم و التأكيد البالغ في قوله: {لَأُوتَيَنَّ} وجه إذ الإلزام و التبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد. و هذا ثانيا

  • و لم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله {لَأُوتَيَنَّ} من دون أن يقيده بالجنة أو الآخرة دفعا للبس نكتة ظاهرة. و هذا ثالثا

  • و لم يصلح للرد عليه و إبطاله إلا قوله تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ} إلى آخر الآيتين، و أما قوله: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} فغير وارد عليه البتة إذ الإلزام و التبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى يتوقف عن منشإ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب و إنما على التزام الخصم الذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه. و هذا رابعا

  • و اعلم أنه ورد في ذيل قوله: {وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ} (الآية) أخبار عن النبي و أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و قد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائي في ذيل الآية ٤٦ من سورة الكهف. 

تفسير الميزان ج۱٤

107
  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٨١ الی ٩٦]

  • {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ٨١ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ٨٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ٨٣ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ٨٤ يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً ٨٥ وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً ٨٦ لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً ٨٧ وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً ٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ٨٩ تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبَالُ هَدًّا ٩٠أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ٩١ وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ٩٢ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً ٩٣ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا ٩٤ وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَرْداً ٩٥ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا ٩٦}  

  • (بيان) 

  • هذا هو الفصل الثالث مما نقل عنهم و هو شركهم بالله باتخاذ الآلهة و قولهم: {اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً} سبحانه و الجواب عن ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} هؤلاء الآلهة هم 

تفسير الميزان ج۱٤

108
  • الملائكة و الجن و القديسون من الإنس و جبابرة الملوك فإن أكثرهم كانوا يرون الملك قداسة سماوية. 

  • و معنى كونهم لهم عزا كونهم شفعاء لهم يقربونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك العزة في الدنيا ينجر إليهم الخير و لا يمسهم الشر، و من فسر كونهم لهم عزا بشفاعتهم لهم في الآخرة خفي عليه أن المشركين لا يقولون بالبعث. 

  • قوله تعالى{كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} الضد بحسب اللغة المنافي الذي لا يجتمع مع الشي‌ء، و عن الأخفش أن الضد يطلق على الواحد و الجمع كالرسول و العدو و أنكر ذلك بعضهم و وجه إطلاق الضد في الآية و هو مفرد على الآلهة و هي جمع بأنها لما كانت متفقة في عداوة هؤلاء و الكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد و صح بذلك إطلاق المفرد عليها. 

  • و ظاهر السياق أن ضميري {سَيَكْفُرُونَ} و {يَكُونُونَ} للآلهة و ضميري {بِعِبَادَتِهِمْ} و {عَلَيْهِمْ} للمشركين المتخذين للآلهة و المعنى: سيكفر الآلهة بعبادة هؤلاء المشركين و يكون الآلهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدا لهم يعادونهم و لو كانوا لهم عزا لثبتوا على ذلك دائما و قد وقع ذلك في قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} النحل: ٨٦. و أوضح منه قوله: {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فاطر: ١٤. 

  • و ربما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة و يكونون على الآلهة ضدا كما في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: الأنعام: ٢٣، و يبعده أن ظاهر السياق أن يكون {ضِدًّا} و قد قوبل به {عِزًّا} في الآية السابقة، وصفا للآلهة دون المشركين و لازم ذلك أن يكون الآلهة الذين هم الضد هم الكافرين بعبادة المشركين نظرا إلى خصوص ترتب الضمائر. 

  • على أن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حد ما يقال: كفر بالله، و لا يقال: كفر بعبادة الله. 

تفسير الميزان ج۱٤

109
  • و المراد بكفر الآلهة يوم القيامة بعبادتهم و كونهم عليهم ضدا هو ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لأهل الجمع لا حدوثها و لو لم تكن الآلهة كافرين بعبادتهم في الدنيا و لا عليهم ضدا بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتم حجة الآية فافهم ذلك، و على هذا المعنى يترتب قوله: {أَ لَمْ تَرَ} على قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} إلخ. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} الأز و الهز بمعنى واحد و هو التحريك بشدة و إزعاج و المراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر و الفساد و تحريضهم على اتباع الباطل و إضلالهم بالتزلزل عن الثبات و الاستقامة على الحق. 

  • و لا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنهم كفروا بالحق فجازاهم الله بزيادة الكفر و الضلال و يشهد بذلك قوله: {عَلَى اَلْكَافِرِينَ} و لو كان إضلالا ابتدائيا لقيل: «عليهم» من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر. 

  • و الآية و هي مصدرة بقوله: {أَ لَمْ تَرَ} المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما ذكر في الآية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدا، فإن تهييج الشياطين إياهم للشر و الفساد و اتباع الباطل معاداة و ضدية و الشياطين و هم من الجن من جملة آلهتهم و لو لم يكن هؤلاء الآلهة عليهم ضدا ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم و شقاؤهم. 

  • فالآية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الآلهة الذين يحسبونهم لأنفسهم عزا هم عليهم ضد و تصديق ذلك أن الشياطين و هم من آلهتهم يحركونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم و ليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنما هو بإذن من الله يسمى إرسالا و على هذا فالآية متصلة بسابقتها و هو ظاهر. 

  • و جعل صاحب روح المعاني، هذه الآية مترتبة على مجموع الآيات من قوله: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} إلى قوله: {وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} و متصلة به و أطنب في بيان كيفية الاتصال بما لا يجدي نفعا و أفسد بذلك سياق الآيات و اتصال ما بعد هذه الآية بما قبلها. 

  • قوله تعالى{فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} العد هو الإحصاء و العد يفني 

تفسير الميزان ج۱٤

110
  • المعدود و ينفده و بهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم و الانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأن أنفاسهم الممدة لأعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحدا بعد آخر حتى تنتهي و هو اليوم الموعود عليهم. 

  • و إذ كان مدة بقاء الإنسان هي مدة بلائه و امتحانه كما ينبئ عنه قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: الكهف: ٧ كان العد بالحقيقة عدا للأعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتم بذلك بنية الحياة الأخروية الخالدة و يستقصي للإنسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم به خلقه جسمه كذلك مكث الإنسان في الدنيا لأن يتم به خلقة نفسه و إن يعد الله ما قدر له من العطية و يستقصيه. 

  • و على هذا فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لأن مدة بقائه مدة عد سيئاته ليحاسب عليها و يعذب بها و لا لمؤمن صالح لأن مدة بقائه مدة عد حسناته ليثاب بها و يتنعم و الآية لا تقيد العد و إن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عد الأنفاس أو الأيام. 

  • و كيف كان فقوله: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} تفريع على ما تقدم، و قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ} تعليل له و هو في الحقيقة علة التأخير و محصل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون باتخاذ الآلهة و كانوا هم و آلهتهم منتهين إلينا غير خارجين من سلطاننا و لا مسيرهم في طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء و لا يضيق صدرك عن تأخير ذلك إنما نعد لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدا. 

  • قوله تعالى{يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً} الوفد هم القوم الواردون لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك و لا يسمون وفدا إلا إذا كانوا ركبانا و هو جمع واحده وافد. 

  • و ربما استفيد من مقابلة قوله في هذه الآية {إِلَى اَلرَّحْمَنِ} قوله في الآية التالية: {إِلىَ جَهَنَّمَ} أن المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنة و إنما سمي حشرا إلى الرحمن لأن الجنة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً} فسر الورد بالعطاش و كأنه 

تفسير الميزان ج۱٤

111
  • مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب و لا يكون ذلك إلا عن عطش فجعل بذلك الورد كناية عن العطاش، و في تعليق السوق إلى جهنم بوصف الاجرام إشعار بالعلية و نظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الآية السابقة بوصف التقوى. و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} و هذا جواب ثان عن اتخاذهم الآلهة للشفاعة و هو أن ليس كل من يهوى الإنسان شفاعته فاتخذه إلها ليشفع له يكون شفيعا بل إنما يملك الشفاعة بعهد من الله و لا عهد إلا لآحاد من مقربي حضرته، قال تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: الزخرف: ٨٦. 

  • و قيل: المراد أن المشفع لهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا و العهد هو الإيمان بالله و التصديق بالنبوة، و قيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في الأنبياء و الأئمة و المؤمنين و الملائكة على ما في الأخبار، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلا الله و أن يتبرأ من الحول و القوة و أن لا يرجو إلا الله، و الوجه الأول هو الأوجه و هو بالسياق أنسب. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً} من قول الوثنيين و بعض خاصتهم، و إن قال ببنوة الآلهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفا أو تجليلا لكن عامتهم و بعض خاصتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقا بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت و اشتمال الولد على جوهرة والده، و هذا هو المراد بالآية و الدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، و كذا ما في قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه. 

  • قوله تعالى{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} إلى تمام ثلاث آيات، الإد بكسر الهمزة: الشي‌ء المنكر الفظيع، و التفطر الانشقاق، و الخرور السقوط، و الهد الهدم. 

  • و الآيات في مقام إعظام الذنب و إكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمرا منكرا فظيعا تكاد السماوات يتفطرن و ينشققن منه و تنشق الأرض و تسقط الجبال على السهل سقوط انهدام إن دعوا للرحمن ولدا. 

  • قوله تعالى{وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ 

تفسير الميزان ج۱٤

112
  • إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً} إلى تمام أربع آيات. المراد بإتيان كل منهم عبدا له توجه الكل إليه و مثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و ذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجودا، و لذا لم يقيد الإتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة. 

  • و المراد بإحصائهم و عدهم تثبيت العبودية لهم فإن العبيد إنما تتعين لهم أرزاقهم و تتبين وظائفهم و الأمور التي يستعملون فيها بعد الإحصاء و عدهم و ثبتهم في ديوان العبيد و به تسجل عليهم العبودية. 

  • و المراد بإتيانه له يوم القيامة فردا إتيانه يومئذ صفر الكف لا يملك شيئا مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا و كان يقال: إن له حولا و قوة و مالا و ولدا و أنصارا و وسائل و أسبابا إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطع بهم الأسباب أنه فرد ليس معه شي‌ء يملكه و أنه كان عبدا بحقيقة معنى العبودية لم يملك قط و لن يملك أبدا فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه. 

  • و يظهر بما تقدم أن الذي تتضمنه الآيات من الحجة على نفي الولد حجة واحدة و محصلها أن كل من في السماوات و الأرض عبد لله مطيع له في عبوديته ليس له من الوجود و آثار الوجود إلا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلا لأمره تابعا لإرادته من غير أن يملك من ذلك شيئا، و ليس من عبوديتها هذا فحسب بل الله أحصاهم و عدهم فسجل عليهم العبودية و أثبت كلا في موضعه و سخره مستعملا له فيما يريده منه فكان شاهدا لعبوديته، و ليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كل منهم فردا لا يملك شيئا و لا يصاحبه شي‌ء و يظهر بذلك حقيقة عبوديتهم للكل فيشهدون ذلك و إذا كان هذا حال كل من في السموات و الأرض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولدا لله واجدا لحقيقة اللاهوت مشتقا من جوهرتها، و كيف تجتمع الألوهية و الفقر؟

  • و أما انتهاء وجود الأشياء إليه تعالى وحده كما تضمنته الآية الأولى فمما لا يرتاب فيه مثبتو الصانع سواء في ذلك الموحدون و المشركون و إنما الاختلاف في كثرة المعبود و وحدته و كثرة الرب بمعنى المدبر و لو بالتفويض و عدمها. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} 

تفسير الميزان ج۱٤

113
  • الود و المودة المحبة و في الآية وعد جميل منه تعالى أنه سيجعل للذين آمنوا و عملوا الصالحات مودة في القلوب و لم يقيده بما بينهم أنفسهم و لا بغيرهم و لا بدنيا و لا بآخره أو جنة فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنة و آخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك. 

  • و قد ورد في أسباب النزول، من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآية نزلت في علي (عليه السلام)، و في بعضها ما ورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في مهاجري الحبشة و في بعضها غير ذلك و سيجي‌ء في البحث الروائي الآتي. 

  • و على أي حال فعموم لفظ الآية في محله، و الظاهر أن الآية متصلة بقوله السابق: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة و يتبرءون منهم و من عبادتهم إلى يوم القيامة.

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله عز و جل: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال: ما هو عندك؟ قلت: عد الأيام قال الآباء و الأمهات يحصون ذلك و لكنه عدد الأنفاس. 

  • و في نهج البلاغة من كلامه (عليه السلام): نفس المرء خطاه إلى أجله.

  • و فيه قال (عليه السلام): كل معدود متنقص و كل متوقع آت.

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر محمد بن علي: في قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال: كل شي‌ء حتى النفس. 

  • أقول: و هي أشمل الروايات و لا يبعد أن يستفاد منها أن ذكر النفس في الروايات من قبيل ذكر المثال. 

تفسير الميزان ج۱٤

114
  • و في محاسن البرقي بإسناده عن حماد بن عثمان و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً} قال يحشرون على النجائب.

  • و في تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأل علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن تفسير قوله عز و جل: {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً} قال: يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا أولئك رجال اتقوا الله عز و جل فأحبهم و اختصهم و رضي أعمالهم فسماهم الله متقين. الحديث. 

  • أقول: ثم روى القمي حديثا آخر طويلا يذكر (صلى الله عليه وآله و سلم) فيه تفصيل خروجهم من قبورهم و ركوبهم من نوق الجنة و وفودهم إلى الجنة و دخولهم فيها و تنعمهم بما رزقوا من نعمها. 

  • و في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية قال: أما و الله ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. 

  • أقول: و روى أيضا هذا المعنى عن ابن أبي الدنيا و ابن أبي حاتم و ابن مردويه من طرق عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث طويل يصف فيه ركوبهم و وفودهم و دخولهم الجنة. و استقرارهم فيها و تنعمهم من نعمها. و رواه فيه عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام). 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} قال: إلا من دان بولاية أمير المؤمنين و الأئمة من بعده - فهو العهد عند الله.

  • أقول: و روى في الدر المنثور عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرني و من سرني فقد اتخذ عند الله عهدا )الحديث(. و روى عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): أن المحافظة على العهد هو المحافظة على الصلوات الخمس‌، و هنا روايات أخر من طرق الخاصة و العامة قريبة مما أوردناه و يستفاد من مجموعها أن العهد المأخوذ عند الله اعتقاد حق أو عمل صالح ينجي المؤمن يوم القيامة و أن ما ورد في الروايات من قبيل المصاديق المتفرقة. 

تفسير الميزان ج۱٤

115
  • و اعلم أيضا أن الروايات السابقة مبنية على كون المراد ممن يملك الشفاعة في الآية هو الذي ينال الشفاعة أو الأعم من الشفعاء و المشفوع لهم، و أما لو كان المراد هم الشفعاء فالأخبار أجنبية منها. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً} قال هذا حيث قالت قريش: إن لله عز و جل ولدا و أن الملائكة إناث فقال الله تبارك و تعالى ردا عليهم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} أي عظيما {تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يعني مما قالوه و مما رموه به و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا مما قالوه و مما رموه به {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} فقال الله تبارك و تعالى: {وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَرْداً} واحدا واحدا.

  • في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: ولاية أمير المؤمنين هي الود الذي ذكره الله. 

  • أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام). 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و الديلمي عن البراء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي عندك ودا و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة فأنزل الله {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: فنزلت في علي. 

  • و فيه أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: محبة في قلوب المؤمنين.

  • و في المجمع: في الآية: قيل فيه أقوال: أحدها أنها خاصة في علي فما من مؤمن إلا و في قلبه محبة لعلي (عليه السلام) عن ابن عباس‌ و في تفسير أبي حمزة الثمالي: حدثني أبو جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي: قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا، فقالهما فنزلت هذه الآية: و روى نحوه عن جابر بن عبد الله.

تفسير الميزان ج۱٤

116
  • أقول: قال في روح المعاني: الظاهر أن الآية على هذا مدنية، و أنت خبير بأن لا دلالة في شي‌ء من الأحاديث على وقوع القصة في المدينة أصلا. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف: أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و أمية بن خلف فأنزل الله {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا}

  • أقول: صريح الحديث كون الآية مدنية و يدفعه اتفاق الكل على كون السورة بجميع آياتها مكية و قد تقدم في أول السورة. 

  • و فيه أخرج الحكيم الترمذي و ابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} ما هو؟ قال: المحبة في قلوب المؤمنين و الملائكة المقربين، يا علي إن الله أعطى المؤمن ثلاثا: المقة و المحبة و الحلاوة و المهابة في صدور الصالحين.

  • أقول: المقة المحبة و في معناه بعض روايات أخر من طرق أهل السنة مبنية على عموم لفظ الآية و هو لا ينافي خصوص مورد النزول. 

  •  

  • [سورة مريم (١٩): الآیات ٩٧ الی ٩٨]

  • {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ٩٧ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ٩٨} 

  • (بيان) 

  • الآيتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن و هي أعلى من أن تنالها أيدي الأفهام العادية أو يمسه غير المطهرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۱٤

117
  • و يذكر أن الغاية من هذا التيسير أن يبشر به المتقين من عباده و ينذر به قوما لدا خصماء، ثم لخص إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم. 

  • قوله تعالى{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} التيسير و هو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته و لا فهمه و قد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}: الزخرف: ٤، فأخبر أنه لو أبقاه على ما كان عليه عنده - و هو الآن كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا لم يرج أن يعقله الناس و كان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم و ينفذ فيه عقولهم. 

  • و من هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو لسانه (صلى الله عليه وآله و سلم) فتنبئ الآية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير و الإنذار. 

  • و ربما قيل: إن معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي و اختصاصه بوحي الكلام الإلهي ليبشر به و ينذر. و هذا و إن كان في نفسه وجها عميقا لكن الوجه الأول مضافا إلى تأيده بالآيات السابقة و أمثالها أنسب و أوفق بسياق آيات السورة. 

  • و قوله: {وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} المراد قومه، (صلى الله عليه وآله و سلم) و اللد جمع ألد من اللدد و هو الخصومة. 

  • قوله تعالى{وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} الإحساس‌ هو الإدراك بالحس، و الركز هو الصوت، قيل: و الأصل في معناه الحس، و محصل المعنى أنهم و إن كانوا خصماء مجادلين لكنهم غير معجزي الله بخصامهم فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحس منهم أحد و لا يسمع لهم صوت. 

تفسير الميزان ج۱٤

118
  • (٢٠) (سورة طه مكية و هي مائة و خمس و ثلاثون آية) (١٣٥) 

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ١ الی ٨]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {طه ١ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ ٢ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ ٣ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلى‌ ٤ اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‌ ٥ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ اَلثَّرى‌ ٦ وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى‌ ٧ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‌ ٨} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة التذكرة من طريق الإنذار تغلب فيها آيات الإنذار و التخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد اشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين و المكذبين لآيات الله و تضمنت حججا بينة تلزم العقول على توحيده تعالى و الإجابة لدعوة الحق و تنتهي إلى بيان ما سيستقبل الإنسان من أهوال الساعة و مواقف القيامة و سوء حال المجرمين و خسران الظالمين. 

  • و قد افتتحت الآيات على ما يلوح من السياق بما فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۱٤

119
  • أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف به بل هو تنزيل إلهي يذكر الناس بالله و آياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكروا فيؤمنوا به و يتقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا و تذكروا و إلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم و فسقهم و وفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم و تكذيبهم. 

  • و سياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية و في بعض الآثار أن قوله: {فَاصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ} (الآية): - ١٣٠مدنية و في بعضها الآخر أن قوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} (الآية): - ١٣١، مدنية و لا دليل على شي‌ء من ذلك من ناحية اللفظ. 

  • و من غرر الآيات في السورة قوله تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}.

  • قوله تعالى{طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} {طه} حرفان من الحروف المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو {الم} {الر} و نظائرهما و قد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجل البحث التفسيري عن إيرادها و الغور في أمثالها، و سنلوح إليها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • و الشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: و الشقاوة كالسعادة من حيث الإضافة فكما أن السعادة في الأصل ضربان: سعادة أخروية و سعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب: سعادة نفسية و بدنية و خارجية كذلك الشقاوة على هذه الأضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، و كل شقاوة تعب، و ليس كل تعب شقاوة فالتعب أعم من الشقاوة. انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه. 

  • قوله تعالى{إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلىَ} التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشي‌ء و إذ كان الإنسان ينال حقائق الدين الكلية بفطرته كوجوده تعالى و توحده في وجوب وجوده و ألوهيته و ربوبيته و النبوة و المعاد و غير ذلك كانت أمورا مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الإنسان إلى الأرض و إقباله إلى الدنيا و اشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالا لا يدع في قلبه فراغا أنساه ما أودع 

تفسير الميزان ج۱٤

120
  • في فطرته و كان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها و تذكرة له بها بعد نسيانها. 

  • و من المعلوم أن ذلك إعراض و إنما سمي نسيانا بنوع من العناية و هو اشتراكهما في الأثر و هو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتباع الهوى و الانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعا و يدفعها إلى الإقبال إلى الحق دفعا و هو الخشية و الخوف من عاقبة الغفلة و وبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها و تنفع في اتباع الحق صاحبها. 

  • و بما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: {لِمَنْ يَخْشىَ} و أن المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك بأن كان مستعدا لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنه الخشية فآمن و اتقى. 

  • و الاستثناء في قوله: {إِلاَّ تَذْكِرَةً} استثناء منقطع على ما قالوا و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن ليكون مذكرا يتذكر به من من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله و يتقي. 

  • فالسياق على رسله يستدعي كون {تَذْكِرَةً} مصدرا بمعنى الفاعل و مفعولا له لقوله: {مَا أَنْزَلْنَا} كما يستدعي كون قوله: {تَنْزِيلاً} بمعنى اسم المفعول حالا من ضمير {تَذْكِرَةً} الراجع إلى القرآن، و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن لتذكر الخاشعين بكلام إلهي منزل من عنده. 

  • و قوله: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلىَ} العلى جمع عليا مؤنث أعلى كفضلى و فضل، و اختيار خلق الأرض و السماوات صلة للموصول و بيانا لإبهام المنزل لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو و سفل يكونان مبدأ و منتهى لهذا التسيير، و قد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما و إنما الغرض بيان مبدإ التنزيل و منتهاه بخلاف قوله: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع. 

  • قوله تعالى{اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} استئناف يذكر فيه مسألة توحيد الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة و التذكرة و ذلك في أربع آيات {اَلرَّحْمَنُ} إلى قوله {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}

تفسير الميزان ج۱٤

121
  • و قد تقدم في قوله تعالى {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ}: الأعراف: ٥٤، أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك و الأخذ بزمام تدبير الأمور و هو فيه تعالى على ما يناسب ساحة كبريائه و قدسه ظهور سلطنته على الكون و استقرار ملكه على الأشياء بتدبير أمورها و إصلاح شئونها. 

  • فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شي‌ء و انبساط تدبيره على الأشياء سماويها و أرضيها جليلها و دقيقها خطيرها و يسيرها، فهو تعالى رب كل شي‌ء المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشي‌ء المدبر لأمره، و لذلك عقب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شي‌ء و علمه بكل شي‌ء و ذلك في معنى التعليل و الاحتجاج على الاستواء المذكور. 

  • و معلوم أن {اَلرَّحْمَنُ} و هو مبالغة من الرحمة التي هي الإفاضة بالإيجاد و التدبير و هو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء و الصفات و لذلك اختص من بينها بالذكر. 

  • و قد ظهر بما تقدم أن {اَلرَّحْمَنُ} مبتدأ خبره {اِسْتَوىَ} و {عَلَى اَلْعَرْشِ} متعلق بقوله {اِسْتَوىَ} و المراد بيان الاستواء على العرش و هذا هو المستفاد أيضا من سائر الآيات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ} الأعراف: ٥٤، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} يونس: ٣، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} الم السجدة: ٤، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ}: الحديد: ٤، إلى غير ذلك. 

  • و بذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ} مبتدأ و خبر ثم قوله {اِسْتَوىَ} فعل فاعله {مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ} و قوله {لَهُ} متعلق بقوله: {اِسْتَوىَ} و المراد باستواء كل شي‌ء له تعالى جريها على ما يوافق إرادته و انقيادها لأمره. 

  • و قد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و سيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ اَلثَّرىَ} 

تفسير الميزان ج۱٤

122
  • الثرى‌ على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الأرض دون التراب و يبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها و ما يعيش فيها مما نعلمه و نحس به كالإنسان و أصناف الحيوان و النبات و ما لا نعلمه و لا نحس به. 

  • و إذا عم الملك ما في السماوات و الأرض و من ذلك أجزاؤهما عم نفس السماوات و الأرض فليس الشي‌ء إلا نفس أجزائه. 

  • و قد بين في هذه الآية أحد ركني الربوبية و هو الملك، فإن معنى الربوبية كما تقدم آنفا هو الملك و التدبير. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىَ} الجهر بالقول: رفع الصوت به، و الإسرار خلافه، قال تعالى: {وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ} الملك: ١٣، و السر هو الحديث المكتوم في النفس، و قوله: {وَ أَخْفىَ} أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقي في الآية و لا يصغي إلى قول من قال: إن {أَخْفىَ} فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، و المعنى: أنه يعلم السر و أخفى علمه. هذا و في تنكير {أَخْفىَ} تأكيد للخفاء. 

  • و ذكر الجهر بالقول في الآية أولا ثم إثبات العلم بما هو أدق منه و هو السر و الترقي إلى أخفى يدل على أن المراد إثبات العلم بالجميع، و المعنى: و إن تجهر بقولك و أعلنت ما تريده و كأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالبا أو أسررته في نفسك و كتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيا حتى عليك نفسك فإن الله يعلمه. 

  • فالأصل ترديد القول بين المجهور به و السر و أخفى و إثبات العلم بالجميع ثم وضع إثبات العلم بالسر و أخفى موضع الترديد الثاني و الجواب إيجازا. فدل على الجواب في شقي الترديد معا و على معنى الأولوية بأوجز بيان كأنه قيل: و إن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه و كيف لا يعلمه؟ و هو يعلم السر و أخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة. 

  • و ذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك و لم ترفع صوتك 

تفسير الميزان ج۱٤

123
  • به، و المراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا و الذي ذكره حق في الإسرار لكن القول لا يسمى سرا إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعول على ما قدمناه من المعنى. 

  • و كيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكل شي‌ء ظاهر أو خفي فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا} (الآية): الحديد: ٤، و معلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه و يحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك و إذنه و بنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري و هذا هو التدبير. 

  • فالآية تثبت عموم التدبير كما أن الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك و مجموع مدلوليهما هو الملك و التدبير و ذلك معنى الربوبية المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيته تعالى المطلقة. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} بمنزلة النتيجة لما تقدم من الآيات و لذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبرا لمبتدإ محذوف و التقدير هذا المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلا هو... إلخ، و إن كان الأقرب بالنظر إلى استقلال الآية و جامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدأ و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} خبره، و قوله: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} خبرا بعد خبر. 

  • و كيف كان فقوله: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} يمكن أن يعلل بما ثبت في الآيات السابقة من توحده تعالى بالربوبية المطلقة و يمكن أن يعلل بقوله بعده: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}

  • أما الأول فلأن معنى الإله في كلمة التهليل إما المعبود و إما المعبود بالحق فمعنى الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره و المعبودية من شئون الربوبية و لواحقها فإن العبادة نوع تمثيل و ترسيم للعبودية و المملوكية و إظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكا لعابده مدبرا أمره أي ربا له و إذ كان تعالى رب كل شي‌ء لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه. 

  • و أما الثاني فلأن العبادة لأحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعا في الخير الذي عنده لينال بذلك، و إما خوفا مما في الإعراض عنه و عدم الاعتناء بأمره من الشر و إما لأنه أهل للعبادة و الخضوع. 

تفسير الميزان ج۱٤

124
  • و الله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شي‌ء شيئا من الخير إلا ما ملكه هو إياه و هو المالك مع ذلك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره و هو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز و له كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره. 

  • و الله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شي‌ء و هو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شر لأحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لأن يعبد خوفا من غضبه لو لم يخضع لعظمته و كبريائه. 

  • و الله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده لأن أهلية الشي‌ء لأن يخضع له لنفسه ليس إلا لكمال فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع و هو إما جمال تنجذب إليه النفس انجذابا أو جلال يخر عنده اللب و يذهب دونه القلب و له سبحانه كل الجمال و ما من جمال إلا و هو آية لجماله، و له سبحانه كل الجلال و كل ما دونه آيته. فالله سبحانه لا إله إلا هو و لا معبود سواه لأنه له الأسماء الحسنى. 

  • و معنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الأسماء التي هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أن توصيف الاسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في اصطلاح الصرف صفة كاسم الفاعل و الصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لأن الأعلم إنما شأنها الإشارة إلى الذوات و الاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل و الظالم و العالم و الجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي و العليم و القدير، و كثيرا ما يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي صفوهم. 

  • و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: الأعراف: ١٨٠، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه. 

  • فالمراد بالأسماء الحسنى ما دل على معان وصفية كالإله و الحي و العليم و القدير دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم و الجائر و الجاهل، و إلى حسنة كالعادل و العالم، و الأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما و إن 

تفسير الميزان ج۱٤

125
  • كان غير خال عن شوب النقص و الإمكان نحو صبيح المنظر و معتدل القامة و جعد الشعر و ما فيه الكمال من غير شوب كالحي و العليم و القدير بتجريد معانيها عن شوب المادة و التركيب و هي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص و العيب و هي التي تليق أن تجري عليه تعالى و يتصف بها. 

  • و لا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} و تقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده. 

  • و معنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته و الذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدل عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر كقوله: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: المؤمن: ٦٥، و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ}: الروم: ٥٤ و قوله‌{ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ}: المؤمن: ٥٦، و قوله: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: البقرة: ١٦٥، و قوله: {فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: النساء: ١٣٩، و قوله: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْ‌ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}: البقرة: ٢٥٥، إلى غير ذلك. 

  • و لا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه و صفاته حتى ما كان منها عين ذاته كالحي و العليم و القدير و كالحياة و العلم و القدرة فإن الشي‌ء ربما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي}: المائدة: ٢٥. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: في قوله {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر عن الربيع بن أنس و أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) 

تفسير الميزان ج۱٤

126
  • قالا: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورم فأنزل الله تبارك و تعالى: {طه} بلغة طي يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ}

  • أقول: و روى ما في معناه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا و يضع رجلا فهبط عليه جبريل فقال: {طه} يعني الأرض بقدميك يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و أنزل {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ}

  • أقول: و المظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصة بأن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قام على قدميه في الصلاة حتى تورمت قدماه ثم جعل يرفع قدما و يضع أخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من الروايات بعض القصة سببا للنزول و إن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كل المساعدة. 

  • نعم يبقى على الرواية أمران: 

  • أحدهما: أن في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصة خفاء. 

  • و ثانيهما: ما في الرواية من قوله: «فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمد» و نظيره ما مر في رواية القمي فأنزل الله: {طه} بلغة طي يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و معناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ و مفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإ الأرض و ضع قدميك عليها و لا ترفع إحداهما و تضع الأخرى. 

  • فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع رجلا و يضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة و يشتغل بربه من غير شاغل يشغله و على 

تفسير الميزان ج۱٤

127
  • هذا فرفع الكلفة و التعب عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتى يزيد ذلك في تعبه و يشدد وجعه فلا يلائم قوله {طه} قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و لعل قوله: «يعني الأرض بقدميك» من كلام الراوي و النقل بالمعنى. 

  • على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون {طه} حرفين مقطعتين لا معنى وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية. 

  • و ذكر قوم منهم أن معنى {طه} يا رجل ثم قال بعضهم: إنه لغة نبطية و قيل: حبشية، و قيل: عبرانية، و قيل: سريانية، و قيل: لغة عكل، و قيل: لغة عك، و قيل: هو لغة قريش، و احتمل الزمخشري أن يكون لغة عك و أصله يا هذا قلبت الياء طاء و حذفت ذا تخفيفا فصارت طاها، و قيل: معناه يا فلان، و قرأ قوم طه بفتح الطاء و سكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ و الهاء للسكت و قيل: إنه من أسماء الله و لا عبرة بشي‌ء من هذه الأقوال و لا جدوى في إمعان البحث عنها. 

  • نعم‌ ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في روح المعاني و عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما عن معاني الأخبار بإسناده عن الثوري: أن طه اسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - كما ورد في روايات أخرى :أن يس من أسمائه‌ و روى الاسمين معا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر. 

  • و إذ كانت تسمية سماوية ما كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يدعى و لا يعرف به قبل نزول القرآن و لا أن لطه معنى وصفيا في اللغة و لا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات مع وجود اسمه و اشتهاره به و كان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، و كانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ} إلخ كما أن سورة يس كذلك {يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة و ظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمرا راجعا إلى شخصه (صلى الله عليه وآله و سلم) متحققا به بعينه فكان وصفا لشخصيته الباطنة مختصا به فكان اسما من أسمائه (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا أطلق عليه و قيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطة أو يس ثم صار علما بكثرة الاستعمال. 

تفسير الميزان ج۱٤

128
  • هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شرا و من قبيل قوله: 

  • أنا ابن جلا و طلاع الثنايا***إذا أضع العمامة تعرفوني‌ 
  • يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا. 

  • و في احتجاج الطبرسي عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى (عليه السلام) عن قول الله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} فقال: استولى على ما دق و جل.

  • و في التوحيد بإسناده إلى محمد بن مازن: أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عز و جل: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} فقال: استوى من كل شي‌ء فليس شي‌ء أقرب إليه من شي‌ء. 

  • أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في التوحيد بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في الكافي و التوحيد بالإسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عنه (عليه السلام): و زادا «لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب استوى من كل شي‌ء».

  • و في الاحتجاج عن علي (عليه السلام): في حديث {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} يعني استوى تدبيره و علا أمره. 

  • أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله {اِسْتَوىَ} و إلا عاد قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ} جملة تامة مركبة من مبتدإ و خبر و لا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • و يؤيد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله: «و علا أمره» بعد قوله: «استوى تدبيره» فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على كون الآية كناية عن الاستيلاء و انبساط السلطان. 

  • و في التوحيد بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شي‌ء أو في شي‌ء أو على شي‌ء فقد أشرك. ثم قال: من زعم أن الله من شي‌ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شي‌ء فقد زعم أنه محصور، و من زعم أنه على شي‌ء فقد جعله محمولا. 

تفسير الميزان ج۱٤

129
  • و فيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل و فيه: قال السائل: فقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ}؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، و كذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، و لا أن يكون العرش حاويا له و لا أن يكون العرش ممتازا له و لكنا نقول هو حامل العرش و ممسك العرش، و نقول من ذلك ما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ}

  • فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته و نفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا و أن يكون عز و جل محتاجا إلى مكان أو إلى شي‌ء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه. 

  • أقول: و قوله (عليه السلام): فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته إلخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و آياته الخارجة عن الحس و ذلك بإرجاعها إلى المحكمات و نفي ما تنفيه المحكمات عن ساحته تعالى و إثبات ما ثبت بالآية و هو أصل المعنى المجرد عن شائبة النقص و الإمكان التي نفاها المحكمات. 

  • فالعرش هو المقام الذي يبتدئ منه و ينتهي إليه أزمة الأوامر و الأحكام الصادرة من الملك و هو سرير مقبب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلز يجلس عليه الملك ثم إن المحكمات من الآيات كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ}: الشورى: ١١، و قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}: الصافات - ١٥٩، تدل على انتفاء الجسم و خواصه عنه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ}: طه: ٥ و قوله: {وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ}: المؤمنون: ٨٦، كونه سريرا من مادة كذا على هيئة خاصة و يبقى أصل المعنى و هو أنه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في النظام الكوني و هو من مراتب العلم الخارج من الذات. 

  • و المقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم و بعبارة أخرى يدور مداره صدق الاسم و إن تغيرت المصاديق و اختلفت الخصوصيات. 

  • مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم و هو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل و مصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة و يشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة 

تفسير الميزان ج۱٤

130
  • و تضي‌ء ما حولها مثلا، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع و المصابيح النفطية و لم يزل ينتقل من مصداق إلى مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه من مادة المصداق الأولي و لا هيئته شي‌ء أصلا غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة و بذلك يسمى سراجا حقيقة. 

  • و نظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجن مثلا و هو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع و القنبلة الذرية و قد سرى هذا النوع من التحول و التطور إلى كثير من وسائل الحياة و الأعمال التي يعتورها الإنسان في عيشته. 

  • و بالجملة كانت الصحابة لا يتكلمون في غير الأحكام من معارف الدين مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و غيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه و يسكتون عن المعنى الإثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلا في مثل قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} إن الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفي عنه تعالى و أما أن المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، و الأمر مفوض إليه و قد ادعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الأول من الهجرة مجمعون على التفويض، و هو نفي لوازم التشبيه و السكوت عن البحث في أصل المراد. 

  • لكنه مدفوع بأن طريقة أئمة أهل البيت (عليه السلام) المأثورة منهم هي الإثبات و النفي معا و الإمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الإثبات و الدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمة التي لا يسع إنكارها إلا لمكابر. 

  • بل الذي روي‌۱ عن أم سلمة رضي الله عنها :في معنى الاستواء أنها قالت: «الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الإقرار به إيمان و الجحود به كفر» يدل على أنها كانت ترى هذا الرأي و لو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء مجهول و الكيف غير معقول، إلخ. 

  • نعم الأكثرون من الصحابة و التابعين و تابعيهم من السلف على هذه الطريقة و قد 

    1. روح المعاني عن اللالكاني في كتاب السنة عن الحسن عن أمه عنها رض. 

تفسير الميزان ج۱٤

131
  • نسبه الغزالي إلى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد، و إلى البخاري و الترمذي و أبي داود السجستاني من أرباب الصحاح و إلى عدة من أعيان السلف. 

  • و كان الذي دعاهم إلى السكوت عن الإثبات كما ذكره جمع هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرم الله ابتغاءه في قوله: {وَ اِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ}: آل عمران: ٧، بناء على الوقف على {إِلاَّ اَللَّهُ} بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا كما نقله الآلوسي أن كل من فسر فقد أول و من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير. 

  • و قد تقدم في ذيل آية المحكم و المتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل الذي يذكره و يذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ و أن رد المتشابه إلى المحكم و بيانه به ليس من التأويل في شي‌ء و كذا أن التأويل غير التفسير. 

  • ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه و صفاته تعالى و اقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب و السنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش و الكرسي و الحجب و القلم و اللوح و كتب الأعمال و أبواب السماء و غيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش و الكرسي و القلم و اللوح و غير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد و هو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة و الإمكان. 

  • و ذلك أن الذي أوجد أمثال العرش و الكرسي و اللوح و القلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزز به و اتخذنا العرش لنستريح عليه و نتعزز به و نظهر التفرد بالعزة و العظمة و نمثل به التعيين بالملك و السلطان و اتخذنا اللوح و القلم و الكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس و التحرز عن النسيان و نحو ذلك و على هذا النمط. 

  • فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع و البصر و اليد و الساق و الرضا و الأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة و الإمكان و بين الآيات التي تثبت له عرشا و كرسيا و ملأ و حملة لعرشه و لوحا و قلما و هي توهم الحاجة و الإمكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأولى و هو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ} 

تفسير الميزان ج۱٤

132
  • و بين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية و هو قوله: {وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ} مثلا. 

  • نعم ذكر الإمام الرازي اعتذارا عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الأمور أدى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين و أحكام الشرع و هو قول الباطنية. و أنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الأحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية و أجراها بين الناس تعليم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تربيته دفع للضرورة و مكابرة مع البداهة و ليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه و كانت هناك آية محكمة يمكن أن يرد إليها و يرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدا لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حق لإماتة باطل و إن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شي‌ء. 

  • و ألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي يدهش العقول بعظمته على هيئة سرير ذي قوائم و حمله و وضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه و حفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا و يثابوا في الآخرة، و نظيره اللوح و القلم و سائر الآيات العظام الغائبة عن الحس. و سقوط هذا القول غني عن البيان. 

  • و بعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤولة و هم الذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الأسماء و الصفات بين الإثبات و النفي فينزهونه عن لوازم الحاجة و الإمكان بتأويلها بمعنى الحمل على خلاف الظاهر إلى معان توافق الأصول المسلمة من الدين أو المذهب، و هؤلاء منشعبون على شعب: 

  • منهم من اكتفى في الإثبات بعين ما نفاه بالدليل و هم الذين يفسرون الأسماء و الصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل و معنى العالم من ليس بجاهل و على هذا السبيل. 

  • و لازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال و البراهين العقلية و ظواهر الكتاب و السنة و نصوصهما تدفعه، و هو من أقوال الصابئة المتسربة في الإسلام. 

  • و منهم من فسرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الأصول المسلمة و هو المسمى عندهم بالتأويل. 

تفسير الميزان ج۱٤

133
  • و منهم من اكتفى بالمحتملات النقلية و لم يعتبر العقل. 

  • و قد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم و المتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب و السنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب و السنة. 

  • و جل هؤلاء الطوائف الثلاث المسمين بالمؤولة يسلكون في أفعاله تعالى مما لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، و أما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيئولونه، ففي قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‌} يؤولون الاستواء إلى مثل الاستيلاء و الاستعلاء و يبقون العرش، و هو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود و هو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبب ذي قوائم، و فيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤولون نزوله بنزول رحمته و يفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، و هكذا. 

  • و قد عرفت فيما مر أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوغ له و لا دليل يدل عليه فلم ينزل الكتاب إلغازا و تعمية ثم الحديث فيه المحكم و المتشابه كالقرآن و إبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث و قد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه. 

  • ثم إن في عملهم بهذه الروايات و تحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر و ذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة و لا قطعية الصدور، و ما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الإمضاء، و قد اتضح في علم الأصول اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقادية و الموضوعات الخارجية. 

  • نعم الخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة و إن كان في غير الأحكام لأن الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه و هذه كلها مسائل مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع. 

  • و في سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس و نهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى و نستشفع بالله تعالى عليك. فقال 

تفسير الميزان ج۱٤

134
  • رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ويحك أ تدري ما تقول؟ و سبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. 

  • ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أ تدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه و عرشه فوق سماواته لهكذا و قال بأصابعه مثل القبة، و إنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب. 

  • أقول: و متنه لا يخلو من اختلال، و إنما أوردناه لكونه من أصرح الأخبار في جسمية العرش، و هنا روايات تدل على أن له قوائم، و أخرى تدل على أن له حملة أربع، و أخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة، و أخرى تدل على أن الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهري فلاة السماوات و الأرض بالنسبة إلى الكرسي كذلك، و قد تقدم طريقة أئمة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير أمثال هذه الأخبار و قد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل نظرهم (عليه السلام). 

  • و في معاني الأخبار بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى‌} قال: {اَلسِّرَّ} ما أكننته في نفسك و {أَخْفىَ} ما خطر ببالك ثم أنسيته. 

  • و في المجمع روي عن السيدين الباقر و الصادق (عليه السلام): {اَلسِّرَّ} ما أخفيته في نفسك و {أَخْفىَ} ما خطر ببالك ثم أنسيته. 

  •  

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ٩ الی ٤٨]

  • {وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ ٩ إِذْ رَأىَ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً ١٠فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسى‌ ١١ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً ١٢ وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ

تفسير الميزان ج۱٤

135
  • فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ ١٣ إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي ١٤ إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعى‌ ١٥ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدى‌ ١٦ وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى‌ ١٧ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلى‌ غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى‌ ١٨ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسى‌ ١٩ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى‌ ٢٠قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا اَلْأُولى‌ ٢١ وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى‌ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى‌ ٢٢ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا اَلْكُبْرى‌ ٢٣ اِذْهَبْ إِلى‌ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‌ ٢٤ قَالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي ٢٥ وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ٢٦ وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ٢٧ يَفْقَهُوا قَوْلِي ٢٨ وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ٢٩ هَارُونَ أَخِي ٣٠اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣١ وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ٣٢ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ٣٣ وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ٣٤ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً ٣٥ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى‌ ٣٦ وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى‌ ٣٧ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى‌ أُمِّكَ مَا يُوحى‌ ٣٨ أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ

تفسير الميزان ج۱٤

136
  • عَلىَ عَيْنِي ٣٩ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلىَ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى‌ قَدَرٍ يَا مُوسى‌ ٤٠وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ٤١ اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ٤٢ اِذْهَبَا إِلى‌ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‌ ٤٣ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‌ ٤٤ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغى‌ ٤٥ قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرى‌ ٤٦ فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ اَلسَّلاَمُ عَلى‌ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدى‌ ٤٧ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلى‌ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ٤٨} 

  • (بيان) 

  • شروع في قصة موسى (عليه السلام) و قد ذكرت في السورة فصول أربعة منها و هي: اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى و أمره بدعوة فرعون. ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد و إرسال بني إسرائيل معه و إقامته الحجة و إيتاؤه المعجزة. ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر و تعقيب فرعون و غرقه و نجاة بني إسرائيل. ثم عبادة بني إسرائيل العجل و ما انتهى إليه أمرهم و أمر السامري و عجله، و قد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها. 

تفسير الميزان ج۱٤

137
  • و وجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكرة بالتوحيد و وعيد بالعذاب فالقصة تبتدئ بوحي التوحيد و تنتهي بقول موسى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (الآية) و تذكر هلاك فرعون و طرد السامري و قد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى و انتهت إلى مثل قوله: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}

  • قوله تعالى{وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ} الاستفهام للتقرير و الحديث، القصة. 

  • قوله تعالى{إِذْ رَأىَ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} إلى آخر الآية المكث‌ اللبث، و الإيناس‌ إبصار الشي‌ء أو وجدانه و هو من الأنس خلاف النفور و لذا قيل: إنه إبصار شي‌ء يؤنس به فيكون إبصارا قويا، و القبس‌ بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود و نحوه و الهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، و المراد على أي حال من قام به الهداية. 

  • و سياق الآية و ما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر و معه أهله و هم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة و قد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق و إلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها. 

  • و في قوله: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا} إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} مع ما يشتمل عليه من التأكيد و التعبير بالإيناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله و يؤيد ذلك قوله أيضا أولا{إِذْ رَأىَ نَاراً}، و كذا قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ} إلخ يدل على أن في الكلام حذفا و التقدير امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه. 

  • قوله تعالى{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} إلى قوله {طُوىً} طوى‌ اسم لواد بطور و هو الذي سماه الله سبحانه بالواد المقدس، و هذه التسمية و التوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب و موطن الحضور و المناجاة فيئول معنى الآية إلى مثل 

تفسير الميزان ج۱٤

138
  • قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك و أنت بمحضر مني و قد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب و اخلع نعليك. 

  • و على هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة و الأزمنة كالكعبة المشرفة و المسجد الحرام و سائر المساجد و المشاهد المحترمة في الإسلام و الأعياد و الأيام المتبركة فإنما ذلك قدس و شرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك و عبادة مقدسة شرعت فيها و إلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان و لا بين أجزاء الزمان. 

  • و لما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: {يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه و الكلام كلامه و ذلك أنه كان وحيا منه تعالى و قد صرح تعالى بقوله: {وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}: الشورى: ٥١، أن لا واسطة بينه تعالى و بين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي و إذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه و لا توهمه إلا الله و لم يجد الكلام إلا كلامه و لو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الإنسان و بين ربه غيره. 

  • و هذا حال النبي و الرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة و الرسالة لم يختلجه شك و لا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة و لو افتقر إلى شي‌ء من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة. 

  • فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: {وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}

  • و قوله في موضع آخر: {مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ} يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام). 

  • قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة و إنما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام 

تفسير الميزان ج۱٤

139
  • و احتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا و وحيا من الملك، و إن التفت إليه تعالى كان وحيا منه و إن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، و من الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} فسماه وحيا، و قد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب. 

  • و بالجملة قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} إلخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور و مقام المشافهة و قد خلى به و خصه من نفسه بمزيد العناية، و لذا قيل: إني أنا ربك، و لم يقل: أنا الله أو أنا رب العالمين، و لذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا{إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ} تكرار، لأن الأول تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، و الثاني من الوحي. 

  • و في قوله: {نُودِيَ} حيث طوي ذكر الفاعل و لم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، و فيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجاة. 

  • قوله تعالى{وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} الاختيار مأخوذ من الخير، و حقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله. 

  • فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية إلهية و هي إعطاء النبوة و الرسالة و يشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} فقد تعلقت المشية الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة و الرسالة و كان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره و أصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام). 

  • و قوله: {وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ} على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوته و رسالته فهو إنشاء لا إخبار، و لو كان إخبارا لقيل: و قد اخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة و الرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته و رسالته فقال: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} و الاستماع لما يوحى الإصغاء إليه. 

تفسير الميزان ج۱٤

140
  • قوله تعالى{إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة و الرسالة معا أما النبوة ففي هذه الآية و الآيتين بعدها، و أما الرسالة فتؤخذ من قوله {وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى‌} و تنتهي في قوله: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} و قد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى‌ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}: مريم: ٥١. 

  • و قد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا و هما ركن الاعتقاد و ركن العمل، و أصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد و النبوة و المعاد و قد ذكر منها التوحيد و المعاد و طوي عن النبوة لأن الكلام مع النبي نفسه و أما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: {فَاعْبُدْنِي} فتمت بذلك أصول الدين و فروعه في ثلاث آيات. 

  • فقوله: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال: إنني أنا الله و لم يقل: إن الله هو أنا لأن مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشي‌ء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: {إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي} و اسم الجلالة و إن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى «الله» فالمتكلم حاضر مشهود و المسمى باسم «الله» كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي. 

  • و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} كلمة التوحيد مرتبة على قوله: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ} لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شي‌ء و به يقوم و إليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الإله المعبود بالحق لا إله غيره و لذا فرع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال: {فَاعْبُدْنِي}

  • و قوله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} خص الصلاة بالذكر و هو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه لأن الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي و يتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه. 

تفسير الميزان ج۱٤

141
  • و على هذا المعنى فقوله: {لِذِكْرِي} من إضافة المصدر إلى مفعوله و اللام للتعليل و هو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع و اشرب لتروي و هذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق. 

  • و قد تكاثرت الأقوال في قوله: {لِذِكْرِي} فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم و قيل: بالصلاة، و قيل: بقوله: {فَاعْبُدْنِي} ثم اللام قيل: للتعليل، و قيل للتوقيت و المعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ}: الإسراء: ٧٨. 

  • ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة، و قيل الذكر القلبي الذي يقارنها و يتحقق بها أو يترتب عليها و يحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، و قيل: المراد الأعم من القلبي و القالبي. 

  • ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، و قيل: من إضافة المصدر إلى فاعله و المراد صل لأن أذكرك بالثناء و الإثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية و أمري بها. 

  • و قيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، و المعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، و قيل: لا قصر. 

  • و قيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، و المراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، و قيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ و إن كان حقا في نفسه. 

  • و قيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها و الكلام على تقدير مضاف و الأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فأطلق المسبب و أريد به السبب إلى غير ذلك و الوجوه الحاصلة بين غث و سمين. و الذي يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ} تعليل لقوله في الآية السابقة: {فَاعْبُدْنِي} و لا يناقض ذلك كون {فَاعْبُدْنِي} متفرعا على 

تفسير الميزان ج۱٤

142
  • كلمة التوحيد المذكورة قبله لأن وجوب عبادته تعالى و إن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله و يتميز فيه المحسن من المسي‌ء و المطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا و الأمر و النهي سدى لا أثر لهما، و لذلك كانت مقضية قضاء حتما و تكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها. 

  • و قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} ظاهر إطلاق الإخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها و أكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة و أشد في المفاجاة و لا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}: الأعراف: ١٨٧، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة و المعصية، و أصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار و لو أخفي و كتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره. 

  • و قيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي و هو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شي‌ء، قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ و عزي إلى الرواية. 

  • و قوله: {لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ} متعلق بقوله: {آتِيَةٌ} و المعنى واضح. 

  • قوله تعالى{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدىَ} الصد الصرف، و الردى‌ الهلاك، و الضميران في {عَنْهَا} و {بِهَا} للساعة، و معنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن و هو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، و كذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن. 

  • و قوله: {وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} أي إن عدم الإيمان بها مصداق اتباع الهوى و إذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام علية الهوى لعدم الإيمان بها، و استفيد من ذلك بالالتزام أن الإيمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى و المنجي من الردى. 

  • فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية و الجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الإيمان بها و ذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها 

تفسير الميزان ج۱٤

143
  • و يعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك. 

  • و لعل الإتيان في قوله: {وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الإيمان. 

  • قوله تعالى{وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسىَ} شروع في وحي الرسالة و قد تم وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية و الاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى و كانت عصاه، ليسميها و يذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام). 

  • و الظاهر أن المشار إليه بقوله: {تِلْكَ} العودة أو الخشبة، و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و ما ذلك بجعل المشار إليه هو الشي‌ء لمكان التجاهل بكونها عصا و إلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: {فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} الأنعام: ٧٨. 

  • و يمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها و حقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف و الخواص و يؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا و خواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه و هي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها و خواصها، و هذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: {اَلْقَارِعَةُ مَا اَلْقَارِعَةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ}: القارعة: ٤، و قوله: {اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ} الحاقة: ٣. 

  • قوله تعالى{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلىَ غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىَ} العصا معروفة و هي من المؤنثات السماعية، و التوكي و الاتكاء على العصا الاعتماد عليها، و الهش‌ هو خبط ورق الشجرة و ضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، و المآرب‌ جمع مأربة مثلثة الراء و هي الحاجة، و المراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها. و معنى الآية ظاهر. 

  • و إطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا و خواصها قيل: لأن المقام و هو 

تفسير الميزان ج۱٤

144
  • مقام المناجاة و المسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة و لذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة و هذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه. 

  • و قد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام و جوابه و ليس الكلام عليه من باب الإطناب و خاصة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: {وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىَ}

  • قوله تعالى{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسى} إلى قوله {سِيرَتَهَا اَلْأُولى‌} السيرة الحالة و الطريقة و هي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس. 

  • أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه و هو قوله: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسىَ} فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد و جلادة و ذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له و هو قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىَ} و قد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله: {رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} : القصص: ٣١، و عبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: {فَأَلْقىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}: الأعراف: ١٠٧، الشعراء: ٣٢ و الثعبان‌: الحية العظيمة. 

  • و قوله: {قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} أي حالتها {اَلْأُولىَ} و هي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية و قد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسىَ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ}: القصص: ٣١، و الخوف‌ و هو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب و اضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف و الأنبياء (عليه السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: {اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ}: الأحزاب: ٣٩. 

  • قوله تعالى{وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى‌ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرىَ} الضم‌ الجمع، و الجناح‌ جناح الطائر و اليد و العضد و الإبط و لعل المراد به المعنى الأخير ليئول إلى قوله في موضع آخر: {أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} و السوء كل رداءة و قبح قيل: كني به في الآية عن البرص و المعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى. 

تفسير الميزان ج۱٤

145
  • و قوله: {آيَةً أُخْرىَ} حال من ضمير تخرج و فيه إشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى و اليد البيضاء آية أخرى و قال تعالى في ذلك: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلىَ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ}: القصص: ٣٢. 

  • قوله تعالى{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا اَلْكُبْرىَ} اللام للتعليل و الجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى. 

  • قوله تعالى{اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} هذا هو أمر الرسالة و كانت الآيات السابقة: {وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} إلخ مقدمة له. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلى قوله {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} الآيات و هي إحدى عشرة آية متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة و هي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و إدارة أمورهم لا في أمر النبوة. 

  • و يؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقي إليه قوله: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‌} و هو أمر الرسالة. 

  • نعم الآيات الأربع الأول: {رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة و هي تلقي عقائد الدين و أحكامه العملية عن ساحة الربوبية. 

  • فقوله: {رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي} و الشرح‌ البسط و الجملة من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية كأن صدر الإنسان و قد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة و الإدراك ثم يختزن فيه السر و إذا كان أمرا عظيما يشق على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه و احتاج إلى انشراح حتى يسعه. 

  • و قد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة و قد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة و القوة و على رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته و ينادي أنا ربكم الأعلى، و كان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف و الإسارة بين آل فرعون ثم الجهل و انحطاط الفكر، و كان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد و المصائب و يشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة 

تفسير الميزان ج۱٤

146
  • من الفظائع و الفجائع و هو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم و يأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي و استقائه في ماء مدين و في لسانه و هو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة و التبليغ عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه. 

  • فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة و لما ستستقبله من العظائم و الشدائد في مسيره في الدعوة فقال: {رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي}

  • ثم قال: {وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي} و هو الأمر الذي قلده من الرسالة و لم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته و يتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة و إنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر و الخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده و الدليل على ذلك قوله: {وَ يَسِّرْ لِي}

  • و وجه الدلالة أن قوله: {لِي} و المقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: و يسر لي، و أنا الذي أوقفتني هذا الموقف و قلدتني ما قلدتني أمري الذي قلدتنيه و من المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، و نظير الكلام يجري في قوله: {اِشْرَحْ لِي} فمعناه اشرح لي و أنا الذي أمرتني بالرسالة و قبالها شدائد و مكاره {صَدْرِي} حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي و دهمتني، و لو قيل: رب اشرح صدري و يسر أمري فاتت هذه النكتة. 

  • و قوله: {وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه و التنكير في {عُقْدَةً} للدلالة على النوعية فله وصف مقدر و هو الذي يلوح من قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي عقدة تمنع من فقه قولي. 

  • و قوله: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} سؤال له آخر و هو رابع الأسئلة و آخرها، و الوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، و قيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لأن الملك يلتجئ إليه في آرائه و أحكامه. 

  • و بالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله و يبينه أنه هارون أخي و إنما يسأل ذلك لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده 

تفسير الميزان ج۱٤

147
  • بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير و يكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى و هذا معنى قوله و هو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا {اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}

  • فمعنى قوله: {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} سؤال إشراك في أمر كان يخصه و هو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه و لا يشاركه فيه أحد سواه و لا له أن يستنيب فيه غيره و أما تبليغ الدين أو شي‌ء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين و على العالم أن يبلغ الجاهل و على الشاهد أن يبلغ الغائب و لا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه و أخاه و كل من آمن به من الإرشاد و التعليم و البيان و التبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه و سائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة و حجية الكلمة. 

  • و أما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك و إنما كان يخاف التفرد في التبليغ و إدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك، و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} القصص: ٣٤. 

  • على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) و لم يكن نبيا. 

  • و قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً} ظاهر السياق و قد ذكر في الغاية تسبيحهما معا و ذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا و ذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة و هي شرح صدره و تيسير أمره و حل عقدة من لسانه و يترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح و الذكر تنزيههما معا لله سبحانه و ذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه و يذكراه معا بين الناس في مجامعهم و نواديهم و أي مجلس منهم حلا فيه و حضرا فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله و رفض الشركاء. 

تفسير الميزان ج۱٤

148
  • و بذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الأمر خطير و قد غر هذا الطاغية و ملأه و أمته عزهم و سلطانهم و نشب الشرك و الوثنية بأعراقه في قلوبهم و أنساهم ذكر الله من أصله و قد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزة فرعون و شوكة ملئه و اندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون و ارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله و لا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة و الدعوة في نجاحه و مضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا و إلى ذكرك بالربوبية و الألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا و هذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي و أيدني به و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا لعل السعي ينجع و الدعوة تنفع. 

  • و بهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ} إلخ، بما تقدمه. 

  • و ثانيا: وجه ورود قوله: {كَثِيراً} مرتين و أنه ليس من التكرار في شي‌ء إذ كل من التسبيح و الذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، و لو قيل كي نسبحك و نذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين و هو غير مراد. 

  • و ثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الآلهة من دون الله و إبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، و هو المراد بالذكر، موقعها. فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، و قد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها و لا في نقلها. 

  • و قوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} إلخ، أي أنك كنت بصيرا بي و بأخي منذ خلقتنا و عرفتنا نفسك و تعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح و الذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي و أيدتني به و أشركته في أمري تم أمر الدعوة و سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و المراد بقوله {بِنَا} على هذا هو و أخوه. و يمكن أن يكون المراد بالضمير في {بِنَا} أهله، و المعنى: أنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح و ذكر فإن جعلت هارون 

تفسير الميزان ج۱٤

149
  • أخي، و هو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و هذا الوجه أحسن من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أيضا فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسىَ} إجابة لأدعيته جميعا و هو إنشاء نظير ما مر من قوله: {وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى‌}. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىَ} إلى قوله {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ} يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثم إن الله سيرده إليها. 

  • ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منه على موسى. 

  • فقوله: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىَ} امتنان بما صنعه به أول عمره و قد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبئ عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و رد مكره إليه و تربية عدوه في حجره، و أما موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال: {يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له. 

  • و قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى‌ أُمِّكَ مَا يُوحىَ} المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: {وَ أَوْحىَ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ}: النحل: ٦٨، و أما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن 

تفسير الميزان ج۱٤

150
  • و لا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىَ}: يوسف: ١٠٩ و قوله: {أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ} إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و {أَنِ} للتفسير، و قيل: مصدرية متعلق بأوحي و التقدير أوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدرية و الجملة بدل من: {مَا يُوحىَ}

  • و التابوت‌ الصندوق و ما يشبهه و القذف‌ الوضع و الإلقاء و كأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليم إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليم البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل‌ شاطئ البحر و جانبه من البر، و الصنع و الصنيعة الإحسان. 

  • و قوله: {فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ} أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه و مفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، و كذا قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي} إلخ و هو جزاء مترتب على هذا الأمر. 

  • و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا أمك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه أو ألقيه في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليم و البحر و هو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطئ يأخذه عدو لي و عدو له و هو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك. 

  • و قوله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‌ عَيْنِي} ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: {وَ لاَ تَحْزَنَ} فصل ثان تال للفصل السابق متمم له و المجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى‌}

  • فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدو الله و عدوه و الفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه و استقراره في حجرها لتقر عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: {فَرَدَدْنَاهُ إِلى‌ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ}: القصص: ١٣، و لازم هذا المعنى 

تفسير الميزان ج۱٤

151
  • كون الجملة أعني قوله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ} إلخ، معطوفا على قوله: {أَوْحَيْنَا إِلى‌ أُمِّكَ}

  • و معنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية و في تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها. 

  • و اللام في قوله: {وَ لِتُصْنَعَ عَلى‌ عَيْنِي} للغرض، و الجملة معطوفة على مقدر و التقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك. و ربما قيل: إن المراد بقوله: {وَ لِتُصْنَعَ عَلىَ عَيْنِي} الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه و جعل تربيته في حجرها. 

  • و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير. 

  • و قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلىَ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ} الظرف على ما يعطيه السياق متعلق بقوله: {وَ لِتُصْنَعَ} و المعنى: و ألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرأى مني و تحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر و لا تحزن. 

  • و قوله: {فَرَجَعْنَاكَ} بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلم بالغير و ليس بالتفات. 

  • قوله تعالى{وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ} إلى آخر الآية، إشارة إلى من أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين و هو قصة قتله (عليه السلام) القبطي و ائتمار الملإ أن يقتلوه و فراره من مصر و تزوجه هناك ببنت شعيب النبي و بقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، و القصة مفصلة مذكورة في سورة القصص. 

تفسير الميزان ج۱٤

152
  • فقوله: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً} هو قتله القبطي بمصر، و قوله: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ} و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب و ورد عليه و قص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين. 

  • و قوله: {وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختبارا، قال الراغب من المفردات: أصل الفتن‌ إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنَّارِ يُفْتَنُونَ} {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي عذابكم، قال: و تارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: {أَلاَ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا} و تارة في الاختبار، نحو: {وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً} و جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة و رخاء و هما في الشدة أظهر معنى و أكثر استعمالا و قد قال فيهما: {وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً} انتهى موضع الحاجة من كلامه. 

  • و قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} متفرع على الفتنة. و قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلىَ قَدَرٍ يَا مُوسىَ} لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر و هو ما حصله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين. 

  • و على هذا فمجموع قوله: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ} - إلى قوله - {يَا مُوسىَ} من واحد و هو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعلية الكمال. 

  • و ربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، و الوجهان مبنيان على فصل قوله: {فَلَبِثْتَ} إلى آخر الآية عما قبله و لذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، و فيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما. 

  • و قال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير و المراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما 

تفسير الميزان ج۱٤

153
  • قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أن القدر و القدر بسكون الدال و فتحها كما صرحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد. على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين. و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر و هي سخيفة لا جدوى فيها. 

  • و ختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له. 

  • قوله تعالى{وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الاصطناع‌ افتعال من الصنع بمعنى الإحسان على ما ذكروا يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقق إحسانه إليه و ثبته فيه، و نقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه. انتهى. 

  • و على هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه و يظهر موقع قوله: {لِنَفْسِي} أتم ظهور و أما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، و المعنى على أي حال و جعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا و ينطبق ذلك على قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى‌ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً}: مريم: ٥١. 

  • و من هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إن المراد بقوله: {لِنَفْسِي} لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد. 

  • و يظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم و من الممكن أن يكون معطوفا على قوله: {جِئْتَ عَلىَ قَدَرٍ} عطف تفسير. 

  • و الاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره. 

  • و فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد 

تفسير الميزان ج۱٤

154
  • اللطف و تقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: {وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}

  • قوله تعالى{اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} تجديد للأمر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا. 

  • و أمرهما أن يذهبا بآياته و لم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أما القول بأن المراد هما الآيتان و الجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيرة مما لا ينبغي الركون إليه. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} نهي عن الوني‌ و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل. 

  • قوله تعالى{اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} جمعهما في الأمر ثانيا فخاطب موسى و هارون معا و كذلك في النهي الذي قبله في قوله: {وَ لاَ تَنِيَا} و قد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ} و ليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف و يؤيده سياق قوله بعد: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} إلخ. 

  • و المراد بقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} المنع من أن يكلماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة. 

  • و قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} رجاء لتذكره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا و التزاما لما تقتضيه حجة المذكر و إيمانه به و الخشية من مقدمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه. 

  • و استدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا 

تفسير الميزان ج۱٤

155
  • إلى أن «لعل» من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس و قدماء المفسرين فالآية تدل على تحتم وقوع أحد الأمرين التذكر أو الخشية و هو مدار النجاة. 

  • و فيه أنه ممنوع و لا تدل عسى و لعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره و هو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدس و إنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف و اطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا و كذا و أما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم و ربما قام بمقام التخاطب. 

  • و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض. 

  • و هو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الإرسال وجه صحة الأمر بالشي‌ء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشي‌ء أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و إنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة و الائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أما المجبرة و هو منهم فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة و قطع المعذرة. 

  • و إن كان المراد بسر الإرسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} الإسراء: ٨٢، و لو ألغي التكميل في جانب الشقاء لغا الامتحان فيه فلم تتم الحجة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتم 

تفسير الميزان ج۱٤

156
  • الحجة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر. 

  • قوله تعالى{قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغىَ} الفرط التقدم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ}

  • و استشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا}: القصص: ٣٥، يدل على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك. 

  • و أجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك. {وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: الشعراء - ١٤، و الذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدم. 

  • على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معا في هذا المورد، و قد تقدم احتمال أن يكون قوله: {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ} إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد. 

  • قوله تعالى{قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: {لاَ تَخَافَا} تأمين، و قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلا فنفس الحضور و العلم يعم جميع الأشياء و الأحوال. 

  • و قد استدل بعضهم بالآية على أن السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} دال على العلم و لو دل {أَسْمَعُ وَ أَرىَ} عليه أيضا لزم 

تفسير الميزان ج۱٤

157
  • التكرار و هو خلاف الأصل. 

  • و هو من أوهن الاستدلال، أما أولا: فلما عرفت أن مفاد {إِنَّنِي مَعَكُمَا} هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم. 

  • و أما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة. 

  • و أما ثالثا: فلأن المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى. 

  • قوله تعالى{فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بين تمام ما يكلفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أولا لموسى: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ}، ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته و أجيب إليها: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ} {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ}، ثم قوله لما ذكرا خوفهما و أجيبا بالأمن: {فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ} إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له. 

  • فقوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} تبليغ أنهما رسولا الله، و في قوله بعد: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ} إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان. 

  • و قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ} تكليف فرعي متوجه إلى فرعون. 

  • و قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} استناد إلى حجة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها. 

  • و قوله: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ} كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية و هو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى. 

  • و قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى} في مقام التعليل 

تفسير الميزان ج۱٤

158
  • لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لأن الله سبحانه أوحي إلينا أن العذاب و هو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - و تولى و أعرض عنها. 

  • و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزين به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: {فَأْتِيَاهُ} و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشي‌ء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل: {فَقُولاَ} و لم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، و قيل: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} و {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} فقرع سمعه مرتين بأن له ربا و هو الذي كان ينادي بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ}، و قيل: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ} و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله: {أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى} من غير خطاب. 

  • و هذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} من كمال الإحاطة و العزة و القدرة التي لا يقوم لها شي‌ء. 

  • و ليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق و لا احتشام و تأثر من ظاهر سلطانه الباطل و عزته الكاذبة. 

  • (بحث روائي) 

  •  في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد {أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً} كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.

  • و في الفقيه: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً} قال: كانتا من جلد حمار ميت. 

تفسير الميزان ج۱٤

159
  • أقول: و رواه أيضا في تفسير القمي مرسلا و مضمرا، و روى هذا المعنى في الدر المنثور عن عبد الرزاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن علي. و قد ورد ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف. 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): و يعضده‌ ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح.

  • أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى مسندة و غير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق أهل السنة و عن الصادقين (عليه السلام) من طرق الشيعة. 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} روي عن ابن عباس {أَكَادُ أُخْفِيهَا} عن نفسي و هي كذلك في قراءة أبي، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام). 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسر لي أمري و أن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزرى - و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا. 

  • أقول: و روي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضا في المجمع، عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قريبا منه. 

  • و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحق و لا يجوز حمله على النبوة و لا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلا فصل. 

  • و مثله: فيما ذكر ما صح من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته «أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» انتهى. 

  • قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل 

تفسير الميزان ج۱٤

160
  • فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنما نبحث عن المراد بقوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعائه لعلي (عليه السلام): {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (صلى الله عليه وآله و سلم) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر۱

  • فمراده (صلى الله عليه وآله و سلم) بالأمر في قوله: {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، و هو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالأمر في قوله: {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} ليس هو النبوة و إلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {أَمْرِي} بلا معنى يفيده. 

  • و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحق كما ذكره قطعا لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة و يشاركه فيه غيره و حجة الكتاب و السنة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي}: يوسف: ١٠٨، و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد رواه العامة و الخاصة : فليبلغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه. 

  • على أن الإضافة في قوله: {أَمْرِي} تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية. 

  • نعم التبليغ الابتدائي و هو تبليغ الوحي لأول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره و في قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما أبهم من كلامه و يفصل ما أجمل و يبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه. 

  • فهذا النوع من التبليغ و ما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي و الإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو المراد 

    1. نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة من طرق أهل السنة و سبعين طريقاً من طرق الشيعة.

تفسير الميزان ج۱٤

161
  • أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى. 

  • و قد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب. 

  • و في تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس. 

  • فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت: يذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فأحبته القبطية الموكلة بها. 

  • و في العلل بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز و جل لموسى {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً - لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‌} فقال: أما قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} أي كنياه و قولا له: يا أبا مصعب و كان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب و قد علم الله عز و جل أن فرعون لا يتذكر و لا يخشى إلا عند رؤية البأس، أ لا تسمع الله عز و جل يقول: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ}؟ فلم يقبل الله إيمانه و قال: {آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ}

  • أقول: و روى صدر الحديث في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن علي:. و تفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه. 

تفسير الميزان ج۱٤

162
  • و روى ذيل الحديث أيضا في الكافي، بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي (عليه السلام) و فيه تأييد ما قدمنا أن لعل مستعملة في الآية للترجي. 

  •  

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ٤٩ الی ٧٩]

  • {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ ٤٩ قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ ٥٠قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ ٥١ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسى‌ ٥٢ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ٥٣ كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهى‌ ٥٤ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى‌ ٥٥ وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبى‌ ٥٦ قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى‌ ٥٧ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً ٥٨ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى ٥٩ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى‌ ٦٠قَالَ لَهُمْ مُوسى‌ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرى‌ ٦١ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى‌ ٦٢ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ

تفسير الميزان ج۱٤

163
  • مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى‌ ٦٣ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلى‌ ٦٤ قَالُوا يَا مُوسى‌ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى‌ ٦٥ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعى‌ ٦٦ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‌ ٦٧ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى‌ ٦٨ وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتى‌ ٦٩ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسى‌ ٧٠قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقى‌ ٧١ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ٧٢ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‌ ٧٣ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيى‌ ٧٤ وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلى‌ ٧٥ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ٧٦ وَ لَقَدْ

تفسير الميزان ج۱٤

164
  • أَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَ لاَ تَخْشىَ ٧٧ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ٧٨ وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدى‌ ٧٩} 

  • (بيان) 

  • فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى و هارون (عليه السلام) إلى فرعون و تبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل، و قد فصل في الآيات خبر ذهابهما إليه و إظهارهما آيات الله و مقابلة السحرة و ظهور الحق و إيمان السحرة و أشير إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل و شق البحر و اتباع فرعون لهم بجنوده و غرقهم. 

  • قوله تعالى{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ} حكاية لمحاورة موسى و فرعون و قد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون و يدعواه إلى التوحيد و يكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف و ما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه. 

  • و يظهر مما نقل من كلام فرعون إنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها و هارون وزيره و لذا خاطب موسى وحده و سأل عن ربهما معا. و قد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} إلخ، لفظ {رَبِّكَ} خطابا لفرعون مرتين و هو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما و لغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: {أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ} النازعات: ٢٤، و قال: {لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ}: الشعراء: ٢٩، فقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} و كان الحري بالمقام أن يقول فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما {رَبِّكَ} و يسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده. 

تفسير الميزان ج۱٤

165
  • و كان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر و أعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها و ربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه بالعبادة و القربان ليقرب الإنسان من الله زلفى و يشفع له عنده فهؤلاء هم الآلهة و الأرباب و ليس الله سبحانه بإله و لا رب و إنما هو إله الآلهة و رب الأرباب فقول القائل: إن لي ربا إنما يعني به أحد الآلهة من دون الله و ليس يعني به الله سبحانه و لا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم. 

  • فقول فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} ليس إنكارا لوجود خالق الكل و لا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله: {وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ}: الأعراف: ١٢٧، و إنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها و ربا من هو غيره؟ و هذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه و هما في أول الدعوة فهو يقدر و لو كتقدير المتجاهل أن موسى و أخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة التي يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، و قد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الآلهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها و ربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم و سيأتي قول الملإ: {وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلىَ} نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق و التدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها. 

  • فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة و التقرب و إنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة و الجن و القديسين من البشر، و كان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة و الأرباب و كان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الآلهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم و كان أكثرهم من الوثنية الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكا متألها و هو يعبد الأصنام و هو الظاهر من خلال الآيات الكريمة. 

  • و من هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني: ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا و استدلوا عليه بعدة من الآيات. و بأن ملكه لم يتجاوز القبط و لم يبلغ الشام أ لا ترى أن موسى (عليه السلام) 

تفسير الميزان ج۱٤

166
  • لما هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم؟ و بأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا و كل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم و من كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر. 

  • و من الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و اختلفوا في كيفية جهله. فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، و لعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر و أن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي‌مقراطيس و أتباعه. 

  • و يحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة و يحتمل أنه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، و يحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، و أما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته و الانقياد له و عدم الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص. 

  • و أنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الأقوال و المحتملات و لا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الأمر. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} سياق الآية و هي واقعة في جواب سؤال فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ} يعطي أن {خَلْقَهُ} بمعنى اسم المصدر و الضمير للشي‌ء فالمراد الوجود الخاص بالشي‌ء. 

  • و الهداية إراءة الشي‌ء الطريق الموصل إلى مطلوبه أو إيصاله إلى مطلوبه و يعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد و هو نوع من إيصال الشي‌ء إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه. و قد أطلق الهداية من حيث المهدي و المهدي إليه، و لم يسبق في الكلام إلا الشي‌ء الذي أعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شي‌ء المذكور قبلا إلى مطلوبه و مطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده و ينتهي إليها و المطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه و معنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض. 

  • فيئول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شي‌ء بما جهز به في وجوده من القوى و الآلات و بين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلا و هو 

تفسير الميزان ج۱٤

167
  • نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى و أعضاء تناسب من الأفعال و الآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه و بدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصها و هو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت و سيرت بما جهزت به من القوى و الأعضاء نحو مطلوبها و هو غاية الوجود الإنساني و الكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع. 

  • و من هنا يظهر معنى عطف قوله: {هَدىَ} على قوله: {أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ} بثم و أن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشي‌ء و حركته بعد وجوده رتبة و هذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو. 

  • و ظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شي‌ء دون الهداية الخاصة بالإنسان، و ذلك بتحليل الهداية الخاصة و تعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب و الطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شي‌ء جهز بما يربطه بشي‌ء و يحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشي‌ء فكل شي‌ء مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز و الله سبحانه هو الهادي. 

  • فنظام الفعل و الانفعال في الأشياء و إن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شي‌ء و النظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها و انتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى و ذلك بعناية أخرى مصداق لتدبيره، و معلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذي ينتهي و ينتسب إليه تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهي إليه و يقوم به. 

  • فقد تبين أن الكلام أعني قوله: {اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شي‌ء لا رب غيره فإن خلقه الأشياء و إيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها لقيامها به و ملك تدبير أمرها. 

  • و عند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي و السياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد و طاعة الرسول و قد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، و حمل كلامهما على دعوتهما له إلى 

تفسير الميزان ج۱٤

168
  • ربهما فسأل: من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما و إياه و غيرهم جميعا فأجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} فأجيب بأنه رب كل شي‌ء و أفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، و لو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك. 

  • و إنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الإشارة إليه لأن المقام مقام الدعوة و الهداية و الهداية، العامة أشد مناسبة له. 

  • هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الآية الكريمة، و بذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للآية: 

  • كقول بعضهم: إن المراد بقوله: {خَلْقَهُ} مثل خلقه و هو الزوج الذي يماثل الشي‌ء، و المعنى: الذي خلق لكل شي‌ء زوجا، فيكون في معنى قوله: {وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}

  • و قول بعضهم: إن المراد بكل شي‌ء أنواع النعم و هو مفعول ثان لأعطى و بالخلق المخلوق و هو مفعول أول لأعطى، و المعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شي‌ء من النعم. 

  • و قول بعضهم: إن المراد بالهداية الإرشاد و الدلالة على وجوده تعالى و وحدته بلا شريك، و المعنى: الذي أعطى كل شي‌ء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد و دل بذلك على وجود نفسه و وحدته. 

  • و التأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق و تقييدات للفظ الآية من غير مقيد. 

  • قوله تعالى{قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} قيل: البال‌ في الأصل بمعنى الفكر و منه قولهم: خطر ببالي كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، و لا يثنى و لا يجمع، و قولهم: بآلات، شاذ. 

  • لما كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الإنسان إلا بنبوة و معاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب و جزاء يتميز به المحسن من المسي‌ء و لا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه و ما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففي آخرها: 

تفسير الميزان ج۱٤

169
  • {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى} و الوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية و قد انقطع بما أجاب به موسى إلى أمر المعاد و السؤال عنه بانيا على الاستبعاد. 

  • فقوله: {فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} أي ما حال الأمم و الأجيال الإنسانية الماضية الذين ماتوا و فنوا لا خبر عنهم و لا أثر كيف يجزون بأعمالهم و لا عامل في الوجود و لا عمل و ليسوا اليوم إلا أحاديث و أساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الم السجدة: ١٠، و ظاهر الكلام أنه مبني على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم و بأعمالهم للموت و الفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام). 

  • قوله تعالى{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} فأطلق العلم بها فلا يفوته شي‌ء من أشخاصهم و أعمالهم و جعلها عند الله فلا تغيب عنه و لا تفوته، و قد قال تعالى: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} ثم قيد ذلك بقوله: {فِي كِتَابٍ} - و كأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله و قد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته و دقتها فلا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها. 

  • فيئول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل و لم يعلم بها لكنها معلومة لربي محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ و لا تغيير و لا غيبة و زوال. 

  • و قوله: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} نفي للجهل الابتدائي و الجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم و لكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشي‌ء مكان غيره و إنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كانت عليه في العلم أولا، و النسيان خروج الشي‌ء من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، و نفيه هو المناسب لإثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون الأولى و لا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم. 

تفسير الميزان ج۱٤

170
  • و من هنا يظهر أن قوله: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} من تمام بيان الآية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها و إن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار لا يتميز شي‌ء منها من شي‌ء فأجيب بأن شيئا منها و من آثارها و أعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال و لا يغيب عنه بنسيان، و لذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة. 

  • و قد أثبت العلم و نفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى و ذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شي‌ء و الرب هو المالك للشي‌ء المدبر لأمره يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة و كونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له، و لو فرض شي‌ء منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشي‌ء أيا ما كان و أينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما و لا فاصل و هو الحضور الذي نسميه علما و قد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف. 

  • و قد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل و لم يقل: {رَبُّنَا} كما في الآية السابقة لأن السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا و أخي إليه هو كذا و كذا، و أما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى و الذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، و الذي يفيد هذا المعنى هو {رَبِّي} لا غير فتأمل فيه فهو لطيف. 

  • و النكتة في {رَبِّي} الثاني هي نظيرة ما في {رَبِّي} الأول و في كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة. 

  • و قد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه و الاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها و من أعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول المعارف الإلهية و إقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ و المعاد مما ينكره الوثنية و يشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين و أخبار الماضين، و جواب موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} إلخ، 

تفسير الميزان ج۱٤

171
  • محصله إرجاع العلم بها إلى الله و أنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً} إلى قوله {لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىَ} قد عرفت أن لسؤاله {فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الإنسان إلى سعادته في الحياة و هي الحياة الخالدة الأخروية و كذا الجواب عنه بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} إلخ مرتبط فقوله: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً} مضى في الحديث عن الهداية العامة و ذكر شواهد بارزة من ذلك. 

  • فالله سبحانه أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد و يربى لحياة هي أشرف منه و أرقى، و جعل للإنسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه و بين غايته و هو التقرب منه تعالى و الدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية و أنزل من السماء ماء و هو ماء الأمطار و منه مياه عيون الأرض و أنهارها و بحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا و أصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته و ربوبيته تعالى. 

  • فقوله: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً} إشارة إلى قرار الإنسان في الأرض لإدامة الحياة و هو من الهداية، و قوله: {وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} إشارة إلى مسالك الإنسان التي يسلكها في الأرض لإدراك مآربه و هو أيضا من الهداية، و قوله: {وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} إشارة إلى هداية الإنسان و الإنعام إلى أكل النبات لإبقاء الحياة، و فيه هداية السماء إلى الإمطار و ماء الأمطار إلى النزول و النبات إلى الخروج. 

  • و الباء في {بِهِ} للسببية و فيه تصديق السببية و المسببية بين الأمور الكونية، و المراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا و أصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة الازدواج بين الذكور و الإناث من النبات و هي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز. 

  • و قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: و الوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب و إبداع الصور المتشتتة و الأزواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة و الصنع العظيم لا يصدر 

تفسير الميزان ج۱٤

172
  • إلا من العظيم و العظماء يتكلمون عنهم و عن غيرهم من أعوانهم و قد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}: فاطر: ٢٧، و قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}: النمل: ٦٠، و قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الأنعام: ٩٩. 

  • و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىَ} النهى‌ جمع نهية بالضم فالسكون: و هو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى. 

  • قوله تعالى{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرىَ} الضمير للأرض و الآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض ثم إعادته فيها و صيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الإنسان. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبىَ} الظاهر أن المراد بالآيات العصا و اليد و سائر الآيات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي} فالمراد جميع الآيات التي أريها و إن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: {فَكَذَّبَ وَ أَبىَ} مطلق تكذيبه و إبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة. 

  • قوله تعالى{قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسىَ} الضمير لفرعون و قد اتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة و حقية دعوته، و ثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم و هي أرض مصر، و هي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه و إثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم من بيئتهم و وطنهم بمكيدته و لا حياة لمن لا بيئة له. 

  • قوله تعالى{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً} الظاهر كما يشهد به الآية التالية أن الموعد اسم زمان و إخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، و مكان سوى‌ بضم السين أي واقع المنتصف من المسافة أو مستوي الأطراف من غير ارتفاع و انخفاض قال في المفردات: و مكان سوى و سواء وسط، و يقال: سواء و سوى و سوى - بضم السين و كسرها - أي يستوي طرفاه، 

تفسير الميزان ج۱٤

173
  • و يستعمل ذلك وصفا و ظرفا، و أصل ذلك مصدر. انتهى. 

  • و المعنى: فأقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك و إبطال إرادتك فاجعل بيننا و بينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوي الأطراف أو اجعل بيننا و بينك مكانا كذلك. 

  • قوله تعالى{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى} الضمير لموسى و قد جعل الموعد يوم الزينة، و يظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجري بينهم مجرى العيد، و يظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه و يزينون الأسواق، و حشر الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها، و الضحى وقت انبساط الشمس من النهار. 

  • و قوله: {وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى} معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت و نحوه و المعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة و يوم حشر الناس في الضحى، و ليس من البعيد أن يكون مفعولا معه و المعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى و يرجع إلى الاشتراط. و إنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به و يأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة. 

  • قوله تعالى{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتىَ} ظاهر السياق أن المراد بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، و المراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة و سائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس و التلبيس عليهم و يمكن أن يكون المراد بجمع كيده جمع ذوي كيده بحذف المضاف و المراد بهم السحرة و سائر عماله و أعوانه و قوله: {ثُمَّ أَتىَ} أي ثم أتى الموعد و حضره. 

  • قوله تعالى{قَالَ لَهُمْ مُوسىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرىَ} الويل‌ كلمة عذاب و تهديد، و الأصل فيه معنى العذاب و معنى ويلكم عذبكم الله عذابا، و السحت‌ بفتح السين استيصال الشعر بالحلق و الإسحات‌ الاستئصال و الإهلاك. 

  • و قوله: {قَالَ لَهُمْ مُوسىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} ضمائر الجمع غيبة و خطابا لفرعون و كيده و هم السحرة و سائر أعوانه على موسى (عليه السلام) و قد مر ذكرهم 

تفسير الميزان ج۱٤

174
  • في الآية السابقة، و أما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر و لا دل عليهم دليل من جهة اللفظ. 

  • و هذا القول من موسى (عليه السلام) موعظة لهم و إنذار أن يفتروا على الله الكذب، و قد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الآيات الإلهية سحرا، و رمي الدعوة الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم و من الافتراء أيضا السحر لكن افتراء الكذب على الله و هو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، و عد الآية المعجزة سحرا و الدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله و كذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شي‌ء منها افتراء على الله. 

  • فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد بأصول الوثنية كألوهية الآلهة و شفاعتها و رجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الآية بذلك، و قد عد ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله: {قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} الأعراف: ٨٩. 

  • و قوله: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى يستأصلكم و يهلككم بعذاب بسبب شرككم، و تنكير العذاب للدلالة على شدته و عظمته. 

  • قوله: {وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرىَ} الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة و قد وضعت الجملة في الكلام وضع الأصل الكلي الذي يتمسك به و هو كذلك فإن الافتراء من الكذب و سببيته سببية كاذبة و الأسباب الكاذبة لا تهتدي إلى مسببات حقة و آثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء و لا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم و الخسران فالآية أشمل معنى من قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} يونس: ٦٩. لإثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الآية الثانية و قد تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله: {وَ جَاؤُ عَلىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} يوسف: ١٨ في الجزء الحادي عشر من الكتاب. 

  • قوله تعالى{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوىَ} إلى قوله {مَنِ اِسْتَعْلىَ} التنازع‌ قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشي‌ء من مقره لينقلع 

تفسير الميزان ج۱٤

175
  • منه و التنازع يتعدى بنفسه كما في الآية و بفي كقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ} النساء: ٥٩. 

  • و النجوى‌ الكلام الذي يسار به، و أصله مصدر بمعنى المناجاة و هي المسارة في الكلام، و المثلى‌ مؤنث أمثل كفضلى و أفضل و هو الأقرب الأشبه و الطريقة المثلى السنة التي هي أقرب من الحق أو من أمنيتهم و هي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم تدار بها و هي عبادة الآلهة و في مقدمتها فرعون إله القبط، و الإجماع على ما ذكره الراغب جمع الشي‌ء عن فكر و ترو، و الصف‌ جعل الأشياء على خط مستو كالإنسان و الأشجار و نحو ذلك و يستعمل مصدرا و اسم مصدر و قوله: {ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا} يحتمل أن يكون مصدرا، و أن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد و اتفاق من دون أن تختلفوا و تتفرقوا فتضعفوا و كونوا كيد واحدة عليه. 

  • و يظهر من تفريع قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ} على ما في الآية السابقة من قوله: {قَالَ لَهُمْ مُوسىَ} إلخ إن التنازع و الاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثرت فيهم بعض أثرها و من شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض و كان محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من ألوهية الآلهة و شفاعتها فنسبتكم الشركاء و الشفعاء إلى الله افتراء عليه و قد خاب من افترى و هذا برهان واضح لا ستر عليه و لا غبار. 

  • و يظهر من قوله الآتي الحاكي لقول السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ} أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة و منهم و ربما أشعر قوله الآتي: {ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا} أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم و لعل السياق يساعد على ذلك. 

  • و كيف كان لما رأى فرعون و أياديه تنازع القوم و فيه خزيهم و خذلانهم أسروهم النجوى و لم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة و الموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر و طرح خطة سياسية لإخراج أمة القبط من أرضهم و لا ترضى الأمة بذلك ففيه خروج من ديارهم و أموالهم و سقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء و هم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم. 

تفسير الميزان ج۱٤

176
  • و أضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء و الخروج من الديار و الأموال و هو ذهاب طريقتهم المثلى و سنتهم القومية التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن و جيلا بعد جيل و قد اشتد بها عظمهم و نبت عليها لحمهم و العامة تقدس السنن القومية و خاصة ما اعتادت عليها و أذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية. و هذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبت و الاستقامة على ملة الوثنية لكن لا لأنها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة موسى أوضحت فسادها و كشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها مليتهم و تستند إليها شوكتهم و عظمتهم و تعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا و تركوا مقابلة موسى و استعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة. 

  • فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف و يأتوا صفا حتى يستعلوا و قد أفلح اليوم من استعلى. 

  • فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا و يتفقوا و لا يهنوا في حفظ ملتهم و مدنيتهم و يكروا على عدوهم كرة رجل واحد، و شفع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ} الشعراء: ٤٢. و بأي وجه كان من ترغيب و ترهيب حملوهم على أن يثبتوا و يواجهوا موسى بمغالبته. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيات بالاستمداد من السياق و القرائن المتصلة و الشواهد المنفصلة، و على ذلك فقوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إشارة إلى اختلافهم إثر موعظة موسى و ما أومأ إليه من الحجة. 

  • و قوله: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوىَ} إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى و اجتهادهم في رفع الاختلاف الناشئ من استماعهم وعظ موسى (عليه السلام)، و قوله: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ} إلخ، بيان النجوى الذي أسروه فيما بينهم و قد مر توضيح معناه. 

  • و قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} القراءة المعروفة «إن» بكسر الهمزة و سكون النون و هي «إن» المشبهة بالفعل خففت فألغيت عن العمل بنصب الاسم و رفع الخبر. 

  • قوله تعالى{قَالُوا يَا مُوسىَ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقىَ} 

تفسير الميزان ج۱٤

177
  • إلى آخر الآية التالية، الحبال‌ جمع حبل و العصي‌ جمع عصا، و قد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات و ثعابين أمثال ما كان يظهر من عصا موسى (عليه السلام). 

  • و هنا حذف و إيجاز كأنه قيل فأتوا الموعد و قد حضره موسى فقيل فما فعلوا؟ فقيل: {قَالُوا يَا مُوسىَ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} أي عصاك {وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقىَ} و هذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، {قَالَ} موسى: {بَلْ أَلْقُوا} فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به و هو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق و اضطراب و قد قال له ربه فيما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ}

  • و قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعىَ} فيه حذف، و التقدير: فألقوا و إذا حبالهم و عصيهم إلخ، و إنما حذف لتأكيد المفاجاة كأنه (عليه السلام) لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال و العصي. 

  • و الذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر: {سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ} الأعراف: ١١٦، غير أنه ذكر هاهنا موسى من بينهم و كان ذلك ليكون تمهيدا لما في الآية التالية. 

  • قوله تعالى{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسىَ} قال الراغب في المفردات: الوجس‌ الصوت الخفي، و التوجس‌ التسمع، و الإيجاس‌ وجود ذلك في النفس، قال: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس‌ مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى. 

  • فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها و لا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة و يتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر و تحرز و إلا لظهر أثره في ظاهر البشرة و عمل الإنسان قطعا، و إلى ذلك يومئ تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به، و من العجيب قول بعضهم: إن التنكير للتفخيم و كان الخوف عظيما و هو خطأ و لو كان 

تفسير الميزان ج۱٤

178
  • كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته و لم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه. 

  • فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم و أنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور و هو كنفس الخطور لا أثر له. 

  • و قيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته و سحرهم للتشابه فيشكوا و لا يؤمنوا و لا يتبعوه و لم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون. 

  • و فيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله و وثوقه بأمره و قد قال له ربه قبل ذلك: {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ} القصص: ٣٥. 

  • و قيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم و لا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعي التساوي و يخيب السعي. 

  • و فيه: أنه خلاف ظاهر الآية فإن ظاهر تفريع قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} إلخ، على قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} إلخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الأمر بإلقاء العصا، و لو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم و عصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام): {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىَ} و لقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا. 

  • و كيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه و إن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له و ما أتى به آية معجزة ذات حقيقة و قد استعظم الله سحرهم إذ قال: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جَاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}: الأعراف: ١١٦. و لذا أيده الله هاهنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة و هو تلقف العصا جميع ما سحروا به. 

  • قوله تعالى{قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىَ} إلى قوله {حَيْثُ أَتىَ} نهي بداعي التقوية و التأييد و قد علله بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىَ} فالمعنى: أنك فوقهم من كل جهة و إذا كان كذلك لم يضرك شي‌ء من كيدهم و سحرهم فلا موجب لأن تخاف. 

  • و قوله: {وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} إلخ أمر بإلقاء العصا لتكون 

تفسير الميزان ج۱٤

179
  • حية و تلقف ما صنعوا بالسحر و التعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير و أعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشي‌ء من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا و إن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شي‌ء ثم التعبير عن حياتهم و ثعابينهم بقوله: {مَا صَنَعُوا} يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الأشياء في أساميها و حقائقها و بين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو أن يكون كيدا باطلا و كلمة الله هي العليا و الله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف. 

  • و في هذه الجملة أعني قوله: {وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه. 

  • و قوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} تعليل بحسب اللفظ لقوله: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} و {مَا} مصدرية أو موصولة و بيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لأن ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له و ما معه آية معجزة ذات حقيقة و الحق يعلو و لا يعلى عليه. 

  • و قوله: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} بمنزلة الكبرى لقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له و لا فلاح و لا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له. 

  • فقوله: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} نظير قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} الأنعام: ١٤٤، {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ}: المائدة: ١٠٨، و غيرهما و الجميع من فروع {إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} الإسراء: ٨١، {وَ يَمْحُ اَللَّهُ اَلْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الشورى: ٢٤، فلا يزال الباطل يزين أمورا و يشبهها بالحق و لا يزال الحق يمحوه و يلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى و سحر السحرة يجري في كل باطل يبدو و حق يلقفه و يزهقه، و قد تقدم في تفسير قوله: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الرعد: ١٧، كلام نافع في المقام. 

  • قوله تعالى{فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسىَ} في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فألقي السحرة و في التعبير 

تفسير الميزان ج۱٤

180
  • بقوله: {فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ} بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى إذلال القدرة الإلهية لهم و غشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الأرض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك و إنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟

  • و قولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسىَ} شهادة منهم بالإيمان و إنما أضافوه تعالى إلى موسى و هارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى و رسالة موسى و هارون معا و فصل قوله: {قَالُوا} إلخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا إلخ. 

  • قوله تعالى{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إلى آخر الآية، الكبير الرئيس و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى و التصليب‌ تكثير الصلب و تشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع و تشديده و الجذوع‌ جمع جذع و هو ساقة النخل. 

  • و قوله: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا و الجملة استفهامية محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، و قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ} رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطئوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله و يأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه و اجتمعوا على مغالبته تخاذلوا و انهزموا عنه و آمنوا و اتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم و أخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} الأعراف: ١٢٣، و إنما رماهم بهذا القول تهييجا للعامة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أول يوم. 

  • و قوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ} إلى آخر الآية، إيعاد لهم و تهديد بالعذاب الشديد و لم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟

  • قوله تعالى{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في 

تفسير الميزان ج۱٤

181
  • معناه رفيع في منزلته يغلي و يفور علما و حكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة و قد ملأت هيبة فرعون و أبهته قلوبهم و أذلت زينات الدنيا و زخارفها التي عنده و ليست إلا أكاذيب خيال و أباطيل وهم نفوسهم يسمونه ربا أعلى و يقولون حينما ألقوا حبالهم و عصيهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْغَالِبُونَ} فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة و سلطان و لما عنده من زينة الدنيا و زخرفها من قدر و منزلة و غشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن و الملق و اتباع الهوى و التوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا و مكنت فيها التعلق بالحق و الدخول تحت ولاية الله و الاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله و لا يرجون إلا الله و لا يخافون إلا الله عز اسمه. 

  • يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون و بينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يرى إلا نفسه و يضيف إليه أنه رب القبط و له ملك مصر و له جنود مجندة، و له ما يريد و له ما يقضي و ليست في نظر الحق و الحقيقة إلا دعاوي و قد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله و الحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس و في جبلتها الفهم و القضاء بشعورها و إدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، و لا يذعن قلوبهم و لا توقن بحق إلا عن إجازته و هو قوله للسحرة: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}

  • و يرى أن لا حقيقة للإنسان إلا هذه البنية الجسمانية التي تعيش ثم تفسد و تفنى و أن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، و ذلك قوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقىَ} و ليتدبر في آخر كلامه. 

  • و أما هؤلاء المؤمنون و قد أدركهم الحق و غشيهم فأصفاهم و أخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها و منزلتها سرابا خياليا و زينة غارة باطلة، و أنهم إذا خيروا بينه و بين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق و الباطل و الحقيقة و السراب، و حاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا الباطل على الحق و السراب على الحقيقة و هم يشهدون ذلك شهادة عيان و ذلك قولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} أي لن نختارك {عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا} فليس مرادهم 

تفسير الميزان ج۱٤

182
  • به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها و منالها. 

  • و ما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع و العذاب الشديد و قطع دابر الحياة الدنيا و هو يرى أن ليس للإنسان إلا الحياة التي فيها و فيها سعادته و شقاؤه فإنهم يرون الأمر بالعكس من ذلك و أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا و إن شقي فيها فلا ينفعه شي‌ء. 

  • و على ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، و ذلك قولهم لفرعون و هو جواب تهديده إياهم بالقتل {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل و توضيح لقولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا}

  • و في قولهم: {مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ} تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا و تلقفها الحبال و العصي و رجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، و يمكن أن يكون {مِنَ} للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحدة و آمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة و لا يخلو من بعد. 

  • قوله تعالى{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ} الخطايا جمع خطيئة و هي قريبة معنى من السيئة و قوله: {وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ} معطوف على {خَطَايَانَا} و {مِنَ اَلسِّحْرِ} بيان له و المعنى و ليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه و فيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم و إما حين تنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى فحملوا على المقابلة و المغالبة. 

  • و أول الآية تعليل لقولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} إلخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك و آمنا به ليغفر لنا خطايانا و السحر الذي أكرهتنا عليه، و ذيل الآية: {وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ} من تمام البيان و بمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: و إنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير و أبقى، أي خير من كل خير و أبقى من كل باق لمكان الإطلاق فلا يؤثر عليه شي‌ء و في هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: {وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقىَ}

تفسير الميزان ج۱٤

183
  • و قد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، و ثانيا بربنا، و ثالثا بالله، أما الأول فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود و يتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه و أن ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان منشأ كل ترجيح و المقام مقام الترجيح بينه تعالى و بين فرعون. 

  • و أما الثاني فلأن فيه إخبارا عن الإيمان به و أمس صفاته تعالى بالإيمان و العبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك و التدبير. 

  • و أما الثالث فلأن ملاك خيرية الشي‌ء الكمال و عنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، و على هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى و المعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا، لأنه فطرنا و إنا آمنا بربنا لأنه ربنا و الله خير لأنه الله عز اسمه. 

  • قوله تعالى{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيىَ} تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأن من لم يغفر خطاياه كان مجرما و من يأت ربه مجرما «إلخ». 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلىَ} إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم و تقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا و لذا يقال درجات الجنة و دركات النار، و التزكي‌ هو التنمي بالنماء الصالح و المراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حق و عمل صالح. 

  • و الآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان و العمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية و الآيات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام و الإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون و وعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع و الصلب و ادعى أنه أشد العذاب و أبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها و لا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت و فيه نجاة المجرم المعذب، و لا يحيى فيها إذ ليس فيها شي‌ء مما تطيب به الحياة و لا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره. 

تفسير الميزان ج۱٤

184
  • و وعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه و الأجر كما حكى الله تعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ}: الأعراف: ١١٤ فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك و في الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم لهم الدرجات العلى و هذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى بالإيمان و العمل الصالح و هذا يقابل وعده لهم بالأجر. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً} إلى قوله {وَ مَا هَدىَ}. الإسراء السير بالليل و المراد بعبادي بنو إسرائيل و قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً} قيل المراد الضرب بالعصا كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع و أن {طَرِيقاً} مفعول به لأضرب على الاتساع و هو مجاز عقلي و الأصل اضرب البحر ليكون لهم طريقا. انتهى. و يمكن أن يكون المراد بالضرب البناء و الإقامة من باب ضربت الخيمة و ضربت القاعدة. 

  • و اليبس على ما ذكره الراغب المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، و الدرك‌ بفتحتين تبعة الشي‌ء، و في نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة و جعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: و في قوله: {وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدىَ} تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: {وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} المؤمن: ٢٩، و على هذا فقوله: {وَ مَا هَدىَ} ليس تأكيدا و تكرارا لمعنى قوله: {وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}

  • (بحث روائي) 

  • في نهج البلاغة قال (عليه السلام): لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال. 

  • أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي 

تفسير الميزان ج۱٤

185
  • قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثم قرأ: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} قال لا يأمن حيث وجد. 

  • أقول: و في انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء. 

  •  

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ٨٠الی ٩٨]

  • {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىَ ٨٠كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ لاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‌ ٨١ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى‌ ٨٢ وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسىَ ٨٣ قَالَ هُمْ أُولاَءِ عَلى‌ أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى‌ ٨٤ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ ٨٥ فَرَجَعَ مُوسى‌ إِلى‌ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ٨٦ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَ لَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى اَلسَّامِرِيُّ ٨٧ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسى‌ فَنَسِيَ ٨٨ أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا

تفسير الميزان ج۱٤

186
  • وَ لاَ نَفْعاً ٨٩ وَ لَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي ٩٠قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسى‌ ٩١ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ٩٢ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ٩٣ قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ٩٤ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ٩٥ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ٩٦ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً ٩٧ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً ٩٨}  

  • (بيان) 

  • الفصل الأخير من قصة موسى (عليه السلام) الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم و مواعدتهم جانب الطور الأيمن و إنزال المن و السلوى عليهم، و يختمه بذكر قصة السامري و إضلاله القوم بعبادة العجل و للقصة اتصال بمواعدة الطور. 

  • و هذا الجزء من الفصل و فيه بيان تعرض بني إسرائيل لغضبه تعالى هو 

تفسير الميزان ج۱٤

187
  • المقصود بالأصالة من هذا الفصل و لذا فصل فيه القول و لم يبين غيره إلا بإشارة و إجمال. 

  • قوله تعالى{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} إلى آخر الآية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل و قوله: {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} المراد به فرعون أغرقه الله و أنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة. 

  • و قوله: {وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ} بنصب أيمن على أنه صفة جانب و لعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة و قد مرت القصة في سورة البقرة و غيرها و كذا قصة إنزال المن و السلوى. 

  • و قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إباحة في صورة الأمر و إضافة الطيبات إلى {مَا رَزَقْنَاكُمْ} من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ لا معنى لأن ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسمه إلى طيب و غيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: {وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} الجاثية: ١٦. 

  • قوله: {وَ لاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} ضمير فيه راجع إلى الأكل المتعلق بالطيبات و ذلك بكفران النعمة و عدم أداء شكره كما قالوا: {يَا مُوسىَ لَنْ نَصْبِرَ عَلىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا وَ عَدَسِهَا وَ بَصَلِهَا} البقرة: ٦١. 

  • و قوله: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي يجب غضبي و يلزم من حل‌ الدين يحل من باب ضرب إذا وجب أداؤه، و الغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىَ} أي سقط من الهوي بمعنى السقوط و فسر بالهلاك. 

  • قوله تعالى{وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىَ} وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد و لذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ} و لم يقل: و أنا غافر أو سأغفر. 

  • و التوبة و هي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، و الإيمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من 

تفسير الميزان ج۱٤

188
  • أنبيائه و رسله و كل حكم جاءوا به من عند الله تعالى، و قد كثر استعمال الإيمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين و بنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل و على هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك و المعصية جميعا و الإيمان بالله و آياته و كذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين و المؤمنين من بني إسرائيل و غيرهم و إن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الإلهية كالمغفرة لا تختص بقوم دون قوم. 

  • فمعنى الآية و الله أعلم و إني لكثير المغفرة لكل إنسان تاب و آمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية و سواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاءوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل و يعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة و التمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه و هو المحقق لأصل معنى الرجوع من شي‌ء و قد مر تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ} النساء: ١٧، في الجزء الرابع من الكتاب. 

  • و أما قوله: {ثُمَّ اِهْتَدىَ} فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى: {مَنِ اِهْتَدىَ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}: الإسراء: ١٥، و قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ}: المائدة: ١٠٥، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبة عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة و لا تكفي عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى المعصية التي تاب عنها و بعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا تاما إذا لم يضل في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعم المعنيين؟ 

  • ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الأول فيفيد معنى الثبات و الاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الإصلاح الذي هو مذكور في عدة من الآيات كقوله: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: آل عمران: ٨٩ النور - ٥. 

  • لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب؟ و ثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكما من أحكامه كافرا به و إن اعترف بأنه 

تفسير الميزان ج۱٤

189
  • من عند الله و إنما يعصيه اتباعا للهوى لا ردا للحكم اللهم إلا أن يقال إن الآية لاشتمالها على قوله {تَابَ وَ آمَنَ} إنما تشمل المشرك أو الراد لحكم من أحكام الله و هو كما ترى. 

  • فيمكن أن يقال: إن المراد بالتوبة و الإيمان التوبة من الشرك و الإيمان بالله كما أن المعنيين هما المرادان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة و الإيمان فيها معا، و على هذا كان المراد من قوله: {وَ عَمِلَ صَالِحاً} الطاعة لأحكامه تعالى بالائتمار لأوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يكون معنى الآية أن من تاب من الشرك و آمن بالله و أتى بما كلف به من أحكامه فإني كثير المغفرة لسيئاته أغفر له زلة بعد زلة فتكثر المغفرة لكثرة مواردها. 

  • و قد ذكر تعالى نظير المعنى و هو مغفرة السيئات في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء: ٣١. 

  • فقوله: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} ينطبق على آية النساء و يبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة و هو مدلول قوله: {ثُمَّ اِهْتَدىَ} و هو الاهتداء إلى الطريق و يظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه و دخل عليه من بابه. 

  • و لا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الإيمان بالله و العمل الصالح في تأثيره و قبوله عند الله إلا الإيمان بالرسول بمعنى التسليم له و طاعته في خطير الأمور و يسيرها و أخذ الدين عنه و سلوك الطريق التي يخطها و اتباعه من غير استبداد و ابتداع يئول إلى اتباع خطوات الشيطان و بالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم و دنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته و فرض طاعته و أوجب الأخذ عنه و التأسي به في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها و لا مجال لاستقصائها فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. 

  • و كان جل بني إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه و تصديقهم رسالة موسى و هارون متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله و لعل هذا هو الوجه في وقوع الآية {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىَ} بعد نهيهم عن الطغيان و تخويفهم من غضب الله. 

  • فقد تبين أن المراد بالاهتداء في الآية على ما يهدي إليه سائر الآيات هو الإيمان 

تفسير الميزان ج۱٤

190
  • بالرسول باتباعه في أمر الدين و الدنيا و بعبارة أخرى هو الاهتداء إلى ولايته. 

  • و بذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: {ثُمَّ اِهْتَدىَ} فقد قيل: الاهتداء لزوم الإيمان و الاستمرار عليه ما دامت الحياة، و قيل: أن لا يشك ثانيا في إيمانه، و قيل: الأخذ بسنة النبي و عدم سلوك سبيل البدعة، و قيل: الاهتداء هو أن يعلم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، و قيل: هو تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، و قيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شي‌ء فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الإيمان و غير العمل، و المطلوب على جميع هذه الأقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الإيمان و العمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شي‌ء من ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسىَ} إلى قوله {لِتَرْضىَ} حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى و بين موسى (عليه السلام) في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة كما قص في سورة الأعراف تفصيلا. 

  • و ظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعا فتقدم عليهم موسى في الحضور و خلفهم فقيل له: {وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسىَ} فقال: {هُمْ أُولاَءِ عَلىَ أَثَرِي} أي إنهم لسائرون على أثري و سيلحقون بي عن قريب {وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىَ} أي و السبب في عجلي هو أن أحصل رضاك يا رب. 

  • و الظاهر أن المراد بالقوم و قد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلا الذين اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده و سائر جهات القصة و قوله بعد: {أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ} أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل كلهم الطور. 

  • و هذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى (عليه السلام) في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي يقارن المسير و اللقاء و إذا لم يكن السؤال في بدء الورود و الحضور استقام قوله بعد: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} إلخ، بناء على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الآثار و لا حاجة إلى تمحلاتهم في توجيه الآيات. 

تفسير الميزان ج۱٤

191
  • قوله تعالى{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ} الفتنة الامتحان و الاختبار و نسبة الإضلال إلى السامري و هو الذي سبك العجل و أخرجه لهم فعبدوه و ضلوا لأنه أحد أسبابه العاملة فيه. 

  • و الفاء في قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق الكلام فإن المفهوم من قول موسى: {هُمْ أُولاَءِ عَلىَ أَثَرِي} أن قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنه قيل: لا تكن واثقا على ما خلفتهم فيه فإنا قد فتناهم فضلوا. 

  • و قوله: {قَوْمِكَ} من وضع الظاهر موضع المضمر و لعل المراد غير المراد به في الآية السابقة بأن يكون ما هاهنا عامة القوم و ما هناك السبعون رجلا الذين اختارهم موسى للميقات. 

  • قوله تعالى{فَرَجَعَ مُوسىَ إِلىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} إلى قوله {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} الغضبان‌ صفة مشبهة من الغضب، و كذا الأسف‌ من الأسف بفتحتين و هو الحزن و شدة الغضب، و الموعد الوعد، و إخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، و يؤيده قوله في موضع آخر: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}

  • و المعنى: فرجع موسى إلى قومه و الحال أنه غضبان شديد الغضب أو حزين و أخذ يلومهم على ما فعلوا، قال يا قوم أ لم يعدكم ربك وعدا حسنا و هو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله و في الأخذ بها سعادة دنياهم و أخراهم أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوهم و يمكنهم في الأرض و يخصهم بنعمه العظام {أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ} و هو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فطغوتم بالكفر به بعد الإيمان و عبدتم العجل {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} و تركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي. 

  • و ربما قيل في معنى قوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} بعض معان أخر: 

  • كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، و قول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه 

تفسير الميزان ج۱٤

192
  • إلى غير ذلك. 

  • قوله تعالى{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} إلى آخر الآية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك و كأن المراد بقولهم: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} ما خالفناك و نحن نملك من أمرنا شيئا كما قيل و من الممكن أن يكون المراد أنا لم نصرف في صوغ العجل شيئا من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الأمر متعمدين فيه و لكن كنا حاملين لأثقال من حلي القوم فطرحناها فأخذها السامري و ألقاها في النار فأخرج العجل. 

  • و الأوزار جمع وزر و هو الثقل، و الزينة الحلي كالعقد و القرط و السوار و القذف و الإلقاء و النبذ متقاربة معناها الطرح و الرمي. 

  • و معنى قوله: {وَ لَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً} إلخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم و لعل المراد به قوم فرعون فطرحناها فكذلك ألقى السامري ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما ألقينا ما عندنا مما حملنا فأخرج العجل. 

  • قوله تعالى{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسىَ فَنَسِيَ} في لفظ الإخراج دلالة على أن كيفية صنع العجل كانت خفية على الناس في غير مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره و إراءته، و الجسد هو الجثة التي لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتة، و فيه دليل على أن العجل لم يكن له روح و لا فيه شي‌ء من الحياة، و الخوار بضم الخاء صوت العجل. 

  • و ربما أخذ قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى اَلسَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ} إلخ كلاما مستقلا إما من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: {فَقَذَفْنَاهَا} و إما من كلام القوم و على هذا فضمير {قَالُوا} لبعض القوم و ضمير {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} لبعض آخر كما هو ظاهر. 

  • و ضمير {فَنَسِيَ} قيل: لموسى و المعنى قالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي موسى إلهه هذا و هو هنا و ذهب يطلبه في الطور و قيل: الضمير للسامري و المراد به نسيانه تعالى بعد ذكره و الإيمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى و أضل القوم. 

  • و ظاهر قوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسىَ} حيث نسب القول إلى الجمع أنه كان مع السامري في هذا الأمر من يساعده. 

تفسير الميزان ج۱٤

193
  • قوله تعالى{أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} توبيخ لهم حيث عبدوه و هم يرون أنه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه، و لا يملك لهم ضرا فيدفعه عنهم و لا نفعا بأن يجلبه و يوصله إليهم، و من ضروريات عقولهم أن الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضر أو لجلب نفع و أن يملك الضر و النفع لمربوبه. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي} تأكيد لتوبيخهم و زيادة تقرير لجرمهم، و المعنى: أنهم مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم و عدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر و العقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم هارون إنه فتنة فتنوا به و إن ربهم الرحمن عز اسمه و إن من الواجب عليهم أن يتبعوه و يطيعوا أمره. 

  • فردوا على هارون قائلين: لن نبرح و لن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتى يرجع إلينا موسى فنرى ما ذا يقول فيه و ما ذا يأمرنا به. 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي} رجع (عليه السلام) بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسئولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم و أوصاه حين كان يوادعه قائلا: {اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ}

  • و كأن قوله: {مَنَعَكَ} مضمن معنى دعاك أي ما دعاك، إلى أن لا تتبعن مانعا لك عن الاتباع أو ما منعك داعيا لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}: الأعراف: ١٢. 

  • و المعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي و هو منعهم عن الضلال و الشدة في جنب الله أ فعصيت أمري أن تتبعني و لا تتبع سبيل المفسدين؟ 

  • قوله تعالى{قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي} إلخ، {يَا بْنَ أُمَّ} أصله يا بن أمي و هي كلمة استرحام و استرآف قالها لإسكات غضب موسى، و يظهر من قوله: 

تفسير الميزان ج۱٤

194
  • {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي} إنه أخذ بلحيته و رأسه غضبا ليضربه كما أخبر به في موضع آخر: {وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} الأعراف: ١٥٠. 

  • و قوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} تعليل لمحذوف يدل عليه اللفظ و محصله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل و قاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلا بعض القوم و أدى ذلك إلى تفرقهم فرقتين: مؤمن مطيع، و مشرك عاص، و كان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم و اتفاقهم الظاهر تفرقا و اختلافا و ربما انجر إلى قتال و قد كنت أمرتني بالإصلاح إذ قلت لي: {أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ} فخشيت أن تقول حين رجعت و شاهدت ما فيه القوم من التفرق و التحزب: فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي. هذا ما اعتذر به هارون و قد عذره موسى و دعا له و لنفسه كما في سورة الأعراف بقوله: {رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} الأعراف: ١٥١. 

  • قوله تعالى{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} رجوع منه (عليه السلام) بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامري و هو أحد المسئولين الثلاثة و هو الذي أضل القوم. 

  • و الخطب‌: الأمر الخطير الذي يهمك، يقول: ما هذا الأمر العظيم الذي جئت به؟ 

  • قوله تعالى{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: {كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ} {وَ إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ} و للقوة التي فيها، و يقال لقوة القلب المدركة بصيرة و بصر نحو قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} و قال: {مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغىَ} و جمع البصر أبصار و جمع البصيرة بصائر، قال تعالى: {فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لاَ أَبْصَارُهُمْ} و لا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، و يقال من الأول: أبصرت، و من الثاني: أبصرته و بصرت به، و قلما يقال في الحاسة بصرت إذا لم تضامه رؤية القلب. انتهى. 

  • و قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول و أورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن، 

تفسير الميزان ج۱٤

195
  • و لا يقال: نسجه اليمن، فالمتعين حمله في الآية على أنه مفعول مطلق. و رد بأن الممنوع لحوق التاء الدالة على التحديد و المرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، و فيه أن كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة. 

  • و قوله: {مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ} الأثر شكل قدم المارة على الطريق بعد المرور، و الأصل في معناه ما بقي من الشي‌ء بعده بوجه بحيث يدل عليه كالبناء أثر الباني و المصنوع أثر الصانع و العلم أثر العالم و هكذا، و من هذا القبيل أثر الأقدام على الأرض من المارة. 

  • و الرسول هو الذي يحمل رسالة و قد أطلق في القرآن على الرسول البشري الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس و أطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} التكوير: ١٩، و كذا أطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله: {بَلىَ وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف: ٨٠، و قال أيضا في الملائكة: {جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}: فاطر: ١. 

  • و الآية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى (عليه السلام) بقوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} و هو سؤال عن حقيقة ذاك الأمر العظيم الذي أتى به و ما حمله على ذلك، و السياق يشهد على أن قوله: {وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} جوابه عن السبب الذي دعاه إليه و حمله عليه و أن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل و أما بيان حقيقة ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ} و لا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة و لا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه و لذا اختلفوا في تفسيره. 

  • ففسره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل و قد نزل على موسى للوحي أو رآه و قد نزل راكبا على فرس من الجنة قدام فرعون و جنوده حين دخلوا البحر فأغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه و من خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شي‌ء إلا حلت فيه الحياة و دخلت فيه الروح فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحيي و تحرك و خار. 

  • فالمراد بقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} إبصاره جبريل حين نزل راجلا أو 

تفسير الميزان ج۱٤

196
  • راكبا رآه و عرفه و لم يره غيره من بني إسرائيل، و بقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل و المراد بالرسول جبريل فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحيي العجل فكان له خوار!

  • و أعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات و ستوافيك في البحث الروائي التالي للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسدا له خوار و الجسد هو الجثة التي لا روح لها و لا حياة فيها، و لا يطلق على الجسم ذي الروح و الحياة البتة. 

  • مضافا إلى ما أوردوه من وجوه الإشكال على الروايات مما سيجي‌ء نقله في البحث الروائي الآتي. 

  • و نقل عن أبي مسلم في تفسير الآية أنه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه، و هنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالرسول موسى (عليه السلام) و أثره سنته و رسمه الذي أمر به و درج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان و يقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه. 

  • و تقرير الآية على ذلك أن موسى (عليه السلام) لما أقبل على السامري باللوم و المسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق و قد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها و لم أتمسك بها و تعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير: ما قول الأمير في كذا؟ و يكون إطلاق الرسول منه عليه نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} انتهى و من المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعي بخلاف الوجه السابق. 

  • و فيه أن سياق الآية يشهد على تفرع النبذ على القبض و القبض على البصر و لازم ما ذكره تفرع النبذ على البصر و البصر على القبض فلو كان ما ذكره حقا كان من الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها. 

تفسير الميزان ج۱٤

197
  • و ثانيا: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} إشارة إلى سبب عمل العجل و جوابا عن مسألة موسى {فَمَا خَطْبُكَ}؟ و محصله أنه إنما سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الآية أنه لم يكن موحدا و مدلول ذيلها أنه لم يكن وثنيا فلا موحد و لا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد: {وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ} إلخ إنه كان وثنيا. 

  • و ثالثا أن التعبير عن موسى و هو مخاطب بلفظ الغائب بعيد. 

  • و يمكن أن يتصور للآية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة التي حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها و كانت لموسى أو منسوبة إليه و هو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في أمر الصباغة و التقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ و قبض قبضة من أثر الرسول و هو الحلي من الذهب فنبذها و طرحها في النار و أخرج لهم عجلا جسدا له خوار، و كان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه و خروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية. هذا. 

  • و يبقى الكلام على التعبير عن موسى و هو يخاطبه بالرسول، و على تسمية حلي القوم أثر الرسول، و على تسمية عمل العجل و كان يعبده تسويلا نفسانيا. 

  • قوله تعالى{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} هذه مجازاة له من موسى (عليه السلام) بعد ثبوت الجرم. 

  • فقوله: {قَالَ فَاذْهَبْ} قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم و لا يمس أحدا و لا يمسه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم و غير ذلك من مظاهر الاجتماع الإنساني و هو من أشق أنواع العذاب، و قوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} و محصله أنه تقرر و حق عليك أن تعيش فردا ما دمت حيا كناية عن تحسره المداوم من الوحدة و الوحشة. 

  • و قيل: إنه دعاء من موسى عليه و أنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلا حمي حمى شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس لا مساس، و قيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحش و يفر من كل من يلقاه و ينادي لا مساس و هو وجه حسن لو صح الخبر. 

تفسير الميزان ج۱٤

198
  • و قوله: {وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت عينه الله و قضاه قضاء محتوما و يحتمل الدعاء عليه، و قيل: المراد به عذاب الآخرة. 

  • قوله تعالى{وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً} قال في المجمع: يقال: نسف‌ فلان الطعام إذا ذرأه بالمنسف ليطير عنه قشوره. انتهى. 

  • و قوله: {وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي ظللت و دمت عليه عاكفا لازما، و فيه دلالة على أنه كان اتخذه إلها له يعبده. 

  • و قوله: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً} أي أقسم لنحرقنه بالنار ثم لنذرينه في البحر ذروا، و قد استدل بحديث إحراقه على أنه كان حيوانا ذا لحم و دم و لو كان ذهبا لم يكن لإحراقه معنى، و هذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيوانا ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل عليه. لكن الحق أنه إنما يدل على أنه لم يكن ذهبا خالصا لا غير. 

  • و قد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، و المعنى: لنبردنه بالمبرد ثم لنذرين برادته في البحر و هذا أنسب. 

  • قوله تعالى{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً} الظاهر أنه من تمام كلام موسى (عليه السلام) يخاطب به السامري و بني إسرائيل و قد قرر بكلامه هذا توحده تعالى في ألوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، و هو بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدل فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو و بذلك على أنه لا غير إلههم. 

  • قيل: و في قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً} دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما و فيه مغالطة فإن مدلول الآية أن كل ما يسمى شيئا فقد وسعه علمه لا أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئا و الذي ينفع المستدل هو الثاني دون الأول. 

  • (بحث روائي) 

  • في التوحيد بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك و تعالى: 

تفسير الميزان ج۱٤

199
  • {وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‌} ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عز و جل زال من شي‌ء إلى شي‌ء فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عز و جل لا يستفزه شي‌ء و لا يغيره.

  • أقول: و روى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا. 

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن الله تبارك و تعالى لا يقبل إلا العمل الصالح و لا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط و العهود فمن وفى لله بشرطه و استعمل ما وصف في عهده نال ما عنده و استكمل وعده إن الله تبارك و تعالى أخبر العباد بطرق الهدى، و شرع لهم فيها المنار، و أخبرهم كيف يسلكون؟ فقال: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى‌} و قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اَللَّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ} فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) . 

  • و في المجمع: قال أبو جعفر (عليه السلام): {ثُمَّ اِهْتَدى‌} إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن و المقام ثم مات و لم يجي‌ء بولايتنا لأكبه الله في النار على وجهه:، رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده و أورده العياشي في تفسيره، بعدة طرق. 

  • أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن سدير عنه (عليه السلام) و في تفسير القمي بإسناده عن الحارث بن عمر عنه (عليه السلام) و في مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي الجارود و أبي الصباح الكناسي عن الصادق (عليه السلام) و عن أبي حمزة عن السجاد (عليه السلام): مثله و لفظه: إلينا أهل البيت

  • و المراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم و دنياهم و هي المرجعية في أخذ معارف الدين و شرائعه و في إدارة أمور المجتمع، و قد كانت للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: {اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ثم جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية و بما تواتر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) من حديث الثقلين و حديث المنزلة و نظائرهما. 

  • و الآية و إن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل و ظاهرها ذلك لكنها غير مقيدة بشي‌ء يخصها بهم و يمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم 

تفسير الميزان ج۱٤

200
  • أما جريانها فيهم فلأن لموسى بما كان إماما في أمته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الأنبياء فعلى أمته أن يهتدوا به و يدخلوا تحت ولايته، و أما جريانها في غيرهم فلأن الآية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهي تهدي الناس في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى ولايته و بعده إلى ولاية الأئمة من أهل بيته (عليه السلام) فالولاية سنخ واحد لها معناها إلى أي من نسبت. 

  • إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني، فإنه بعد ما نقل رواية مجمع البيان، السابقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و أنت تعلم أن ولايتهم و حبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى (عليه السلام) مما يستدعي القول بأنه عز و جل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت و أوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك و لم يثبت ذلك في صحيح الأخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه. 

  • و الذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الآية خاصة ببني إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره و ليست الولاية في آياتها و أخبارها بمعنى المحبة و إنما هي ملك التدبير و التصرف في الأمور الذي من شئونه لزوم الاتباع و افتراض الطاعة و هو الذي يدعيه أئمة أهل البيت لأنفسهم و أما المحبة فهي معنى توسعي للولاية بمعناها الحقيقي و من لوازمها العادية و هي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى من آية أو رواية. 

  • و لولاية أهل البيت (عليه السلام) معنى آخر ثالث و هو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبر لأموره و المتصرف في شئونه لإخلاصه في العبودية و هذه الولاية هي لله بالأصالة فهو الولي لا ولي غيره و إنما تنسب إلى أهل البيت (عليه السلام) لأنهم السابقون الأولون من الأمة في فتح هذا الباب و هي أيضا من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالأصالة و إلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين بنوع من التوسع. 

  • فتلخص أن الولاية في حديث المجمع، بمعنى ملك التدبير و أن الآية الكريمة عامة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم و أنه (عليه السلام) إنما فسر الاهتداء إلى الولاية من جهة ـ

تفسير الميزان ج۱٤

201
  • الآية في هذه الأمة و هو المعنى المتعين. 

  • و في تفسير القمي، و قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} قال اختبرناهم بعدك {وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ} قال: بالعجل الذي عبدوه. 

  • و كان سبب ذلك أن موسى لما وعده الله أن ينزل عليه التوراة و الألواح إلى ثلاثين يوما أخبر بني إسرائيل بذلك و ذهب إلى الميقات و خلف أخاه على قومه، فلما جاء الثلاثون يوما و لم يرجع موسى إليهم عصوا و أرادوا أن يقتلوا هارون و قالوا: إن موسى كذب و هرب منا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إن موسى قد هرب منكم و لا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه. 

  • و كان السامري على مقدمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون و أصحابه فنظر إلى جبرئيل و كان على حيوان في صورة رمكة۱ و كانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع فنظر إليه السامري و كان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من حافر رمكة جبرئيل و كان يتحرك فصره في صرة فكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل فلما جاءهم إبليس و اتخذوا العجل قال للسامري: هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه في جوف العجل فلما وقع التراب في جوفه تحرك و خار و نبت عليه الوبر و الشعر فسجد له بنو إسرائيل و كان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفا من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسىَ} فهموا بهارون فهرب منهم و بقوا في ذلك حتى تم ميقات موسى أربعين ليلة. 

  • فلما كان يوم عشرة من ذي الحجة أنزل الله علم الألواح فيها التوراة و ما يحتاج إليه من أحكام السير و القصص فأوحى الله إلى موسى أنا فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري و عبدوا العجل و له خوار، فقال: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن؟ فقال: مني يا موسى، إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة. 

  • {فَرَجَعَ مُوسىَ - كما حكى الله - إِلىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ 

    1. الكرمة: الفرس تتخذ للنسل. 

تفسير الميزان ج۱٤

202
  • رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}، ثم رمى بالألواح و أخذ بلحية أخيه و رأسه يجره إليه فقال: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي} فقال هارون كما حكى الله: {يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}

  • فقال له بنو إسرائيل: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قال: ما خالفناك {وَ لَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ} يعني من حليهم {فَقَذَفْنَاهَا} قال: التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه. ثم أخرج السامري العجل و له خوار فقال له موسى: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قال السامري: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ} يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر {فَنَبَذْتُهَا} أي أمسكتها {وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي زينت. 

  • فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار و ألقاه في البحر، ثم قال موسى للسامري: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} يعني ما دمت حيا و عقبك هذه العلامة فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتى يعرفوا أنكم سامرية فلا يغتر بكم الناس فهم إلى الساعة بمصر و الشام معروفين لا مساس، ثم هم موسى بقتل السامري فأوحى الله إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي، فقال له موسى: {اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ عِلْماً}

  • أقول: ظاهر هذا الذي نقلناه أن قوله: «و السبب في ذلك» إلخ، ليس ذيلا للرواية التي في أول الكلام «قال بالعجل الذي عبدوه» بل هو من كلام القمي اقتبسه من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الآيات و على ذلك شواهد في خلال القصة التي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصة: «قال ما خالفناك» رواية، و كذا قوله: «قال التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه» رواية، و كذا قوله: «ثم هم موسى» إلخ، مضمون رواية مروية عن الصادق (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج۱٤

203
  • ثم على تقدير كونه رواية و تتمة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمرة. 

  • و في الدر المنثور أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن علي (عليه السلام) قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلا - ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار فقال لهم السامري: هذا إلهكم و إله موسى فقال لهم هارون: يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا (الحديث). 

  • أقول: و ما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى (عليه السلام). 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن أبي عباس قال :لما هجم فرعون على البحر هو و أصحابه و كان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى فلما رآها الحصان هجم خلفها و عرف السامري جبريل لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار و أطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنا و في الأخرى عسلا و في الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة و ألقي في روع السامري أنك لا تلقيها على شي‌ء فتقول: كن كذا إلا كان. 

  • فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى و بنو إسرائيل البحر أغرق الله آل فرعون - قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و مضى موسى لموعد ربه، و كان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلا جسدا له خوار - فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره و يخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم و إله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به و إن ربكم الرحمن فاتبعوني و أطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى. 

  • أقول: و الخبر كما ترى لا يتضمن كون تراب الحافر ذا خاصية الإحياء لكنه مشتمل على أعظم منه و هو كونه ذا خاصية كلمة التكوين فالسامري على هذا إنما استعمله ليخرج الحلي من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير 

تفسير الميزان ج۱٤

204
  • سبب طبيعي عادي و أما الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه و خروجه بصوت عدم اتصافه بالحياة. 

  • على أن ما فيه من إخفاء أم السامري إياه لما ولدته في غار خوفا من أن يذبحه فرعون و أن جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتى نشأ مما لا يعتمد عليه و كون السامري من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عباس نفسه في خبر سعيد بن جبير المفصل في القصة و روى عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان من أهل كرمان. 

  • و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري و عجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري فلما خبره خبرهم قال: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال يا رب فأنت إذا أضللتهم. 

  • ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال: حزينا {قَالَ: يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} إلى قوله {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} يقول: بطاقتنا و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم يقول: من حلي القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فعكفوا عليه يعبدونه و كان يخور و يمشي فقال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامري ما بالك إلى قوله و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه. 

  • قال: فأخذه و ذبحه ثم حرقة بالمبرد يعني سحكه ثم ذرأه في اليم فلم يبق نهر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه شي‌ء ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم (الحديث). 

  • أقول: و من عجيب ما اشتمل عليه قصة إنبات الذهب على شوارب محبي العجل عن شرب الماء، و حمله قوله تعالى: {وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} عليه و لفظة {فِي قُلُوبِهِمُ} نعم الدليل على أن المراد بالإشراب حلول حبه و نفوذه في قلوبهم دون شرب الماء الذي نسف فيه بعد السحك. 

تفسير الميزان ج۱٤

205
  • و أعجب منه جمعه بين ذبحه و سحكه و لا يكون ذبح إلا في حيوان ذي لحم و دم و لا يتيسر السحك و البرد إلا في جسد مسبوك من ذهب أو فلز آخر. 

  • و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن علي قال: إن جبريل لما نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس و حمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد و كتب الله الألواح و هو يسمع صرير الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه. 

  • أقول: و هو يتضمن ما هو أعجب من سوابقه و هو عروج جبريل بموسى إلى السماء و سياق آيات القصة في هذه السورة و غيرها لا يساعده، و أعجب منه أخذ التراب من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى و هو في الطور و السامري مع بني إسرائيل، و لو صح هذا النزول و الصعود فقد كان في آخر الميقات و إضلال السامري بني إسرائيل قبل ذلك بأيام. 

  • و نظير هذا الإشكال وارد على سائر الأخبار التي تتضمن أخذه التربة من تحت حافر فرس جبريل حين تمثل لفرعون حتى دخل فرسه البحر فإن فرعون و أصحابه إنما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل و معهم السامري لو كان هناك من البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامري من فرعون؟ 

  • و أعظم ما يرد على هذه الأخبار - كما تقدمت الإشارة إليه أولا كونها مخالفة للكتاب حيث إن الكتاب ينص على كون العجل جسدا غير ذي روح و هي تثبت له جسما ذا حياة و روح و لا حجية لخبر و إن كان صحيحا اصطلاحا مع مخالفة الكتاب و لو لا ذلك لسقط الكتاب عن الحجية مع مخالفة الخبر فيتوقف حجية الكتاب على موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقف حجية الخبر بل نفس قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي يحكيه الخبر بل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على حجية ظاهر الكتاب و هو دور ظاهر، و تمام البحث في علم الأصول. 

  • و ثانيا: كونها أخبار آحاد و لا معنى لجعل حجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية فإن حقيقة الجعل التشريعي إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية و هو 

تفسير الميزان ج۱٤

206
  • متوقف على وجود أثر عملي للحجة كما في الأحكام، و أما غيرها فلا أثر فيه حتى يترتب على جعل الحجية مثلا إذا وردت الرواية بكون البسملة جزءا من السورة كان معنى جعل حجيتها وجوب الإتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة و أما إذا ورد مثلا أن السامري كان رجلا من كرمان و هو خبر واحد ظني كان معنى جعل حجيته أن يجعل الظن بمضمونه قطعا و هو حكم تكويني ممتنع و ليس من التشريع في شي‌ء و تمام الكلام في علم الأصول. 

  • و قد أورد بعض من لا يرتضي تفسير الجمهور للآية بمضمون هذه الأخبار عليها إيرادات أخر ردية و أجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردأ منها. 

  • و قد أيد بعضهم التفسير المذكور بأنه تفسير بالمأثور من خير القرون القرن الأول قرن الصحابة و التابعين و ليس مما يقال فيه بالرأي فهو في حكم الخبر المرفوع و العدول عنه ضلال. 

  • و فيه أولا: أن كون قرن ما خير القرون لا يوجب حجية كل قول انتهى إليه و لا ملازمة بين خيرية القرن و بين كون كل قول فيه حقا صدقا و كل رأي فيه صوابا و كل عمل فيه صالحا، و يوجد في الأخبار المأثورة عنهم كمية وافرة من الأقوال المتناقضة و الروايات المتدافعة و صريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين و كذب أحد المتدافعين، و يوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجة على قولهم كما يطالب غيرهم و لهم فضلهم فيما فضلوا. 

  • و ثانيا: أن كون المورد الذي ورد عنهم الأثر فيه مما لا يقال فيه بالرأي كجزئيات القصص مثلا مقتضيا لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنما ينفع إذا كانوا منتهين في رواياتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكنا نجدهم حتى الصحابة كثيرا ما يروون من الروايات ما ينتهي إلى اليهود و غيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الأخبار المأثورة في قصص ذي القرنين و جنة إرم و قصة موسى و الخضر و العمالقة و معجزات موسى و ما ورد في عثرات الأنبياء و غير ذلك مما لا يعد و لا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا يستلزم رفعها إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و ثالثا: سلمنا كونها في حكم المرفوعة لكن المرفوعة منها و حتى الصحيحة 

تفسير الميزان ج۱٤

207
  • في غير الأحكام لا حجية فيها و خاصة ما كان مخالفا للكتاب منها كما تقدم. 

  • و في المحاسن بإسناده عن الوصافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن فيما ناجى الله به موسى أن قال: يا رب هذا السامري صنع العجل، الخوار من صنعه؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليه: أن تلك فتنتي فلا تفحص عنها.

  • أقول: و هذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة، و عمدة الوجه في ذلك شيوع النقل بالمعنى و خاصة في النبويات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن الأول الهجري حتى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر و ليس به فإنه إضلال مجازاة و ليس بإضلال ابتدائي. و قد نسب هذا النوع من الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كما قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦. 

  • و أحسن تعبير عن معنى هذا الإضلال في الروايات‌ ما تقدم في رواية القمي: «فقال يعني موسى: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن؟ فقال: مني يا موسى إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة. و ما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدر المنثور: و فيه «قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم قال! يا موسى: يا رأس النبيين و يا أبا الحكام، إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم». الحديث. 

  • و في المجمع قال الصادق (عليه السلام): إن موسى هم بقتل السامري فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي.

  •  

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ٩٩ الی ١١٤]

  • {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ٩٩ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِزْراً ١٠٠خَالِدِينَ فِيهِ وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِمْلاً ١٠١ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ١٠٢ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ

تفسير الميزان ج۱٤

208
  • لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ١٠٣ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ١٠٤ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ١٠٥ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ١٠٦ لاَ تَرى‌ فِيهَا عِوَجاً وَ لاَ أَمْتاً ١٠٧ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ١٠٨ يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً ١٠٩ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ١١٠وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ١١١ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَ لاَ هَضْماً ١١٢ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ١١٣ فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‌ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ١١٤}  

  • (بيان) 

  • تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الإنذار. 

  • قوله تعالى{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} الظاهر أن الإشارة إلى خصوصية قصة موسى و المراد بما قد سبق الأمور و الحوادث الماضية و الأمم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصة موسى و على شاكلته 

تفسير الميزان ج۱٤

209
  • نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث و الأمم. 

  • و قوله: {وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق و قصص و عبر و أخلاق و شرائع و غير ذلك. 

  • قوله تعالى{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِزْراً} ضمير {عَنْهُ} للذكر و الوزر الثقل و الإثم و الظاهر بقرينة الحمل إرادة المعنى الأول و تنكيره للدلالة على عظم خطره، و المعنى: من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر و مر الأثر، شبه الإثم من حيث قيامه بالإنسان بالثقل الذي يحمله الإنسان و هو شاق عليه فاستعير له اسمه. 

  • قوله تعالى{خَالِدِينَ فِيهِ وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِمْلاً} المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه و هو العذاب بنحو الكناية و التعبير في {خَالِدِينَ} بالجمع باعتبار معنى قوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} كما أن التعبير في {أَعْرَضَ} و {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ} باعتبار لفظه، فالآية كقوله: {وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}: الجن: ٢٣. 

  • و مع الغض عن الجهات اللفظية فقوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} من أوضح الآيات دلالة على أن الإنسان إنما يعذب بعمله و يخلد فيه و هو تجسم الأعمال. 

  • و قوله: {وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِمْلاً} ساء من أفعال الذم كبئس، و المعنى: و بئس الحمل حملهم يوم القيامة، و الحمل‌ بكسر الحاء و فتحها واحد، غير أن ما بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر و ما بالفتح هو المحمول في الباطن كالولد في البطن. 

  • قوله تعالى{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} {يَوْمَ يُنْفَخُ} إلخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، و نفخ في الصور كناية عن الإحضار و الدعوة و لذا أتبعه فيما سيأتي بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} (الآية) - ١٠٨ من السورة. 

  • و الزرق‌ جمع أزرق من الزرقة و هي اللون الخاص، و عن الفراء أن المراد بكونهم 

تفسير الميزان ج۱٤

210
  • زرقا كونهم عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها و هو معنى حسن و يؤيده قوله تعالى: {وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى‌ وُجُوهِهِمْ عُمْياً}: الإسراء: ٩٧. 

  • و قيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب و العطش، و قيل: زرقة عيونهم لأن أسوأ ألوان العين و أبغضها عند العرب زرقتها، و قيل: المراد به كونهم عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين و يريها كالأزرق و هي وجوه غير مرضية. 

  • قوله تعالى{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} إلى قوله {إِلاَّ يَوْماً} التخافت‌ تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت و ذلك من أهل المحشر لهول المطلع، و قوله: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، و معنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود و الأبدية. 

  • و قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي لنا إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلا يوما و إنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقة و أقربها إلى الصدق لأن اللبث المحدود الأرضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبدي الخالد، و عده يوما و هو أقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة، و القول مع ذلك نسبي غير حقيقي و حقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‌ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الروم: ٥٦، و سيجي‌ء استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ} - إلى قوله - {وَ لاَ أَمْتاً} تدل الآية على أنهم سألوه (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حال الجبال يوم القيامة فأجيب عنه بالآيات. 

  • و قوله: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أي يذرؤها و يثيرها فلا يبقى منها في مستقرها شي‌ء، و قوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} القاع‌ الأرض المستوية و الصفصف‌ الأرض المستوية الملساء، و المعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شي‌ء عليها، و كأن الضمير للأرض باعتبار أنها كانت جبالا، و قوله: {لاَ تَرىَ فِيهَا عِوَجاً وَ لاَ أَمْتاً} قيل: العوج‌ 

تفسير الميزان ج۱٤

211
  • ما انخفض من الأرض و الأمت‌ ما ارتفع منها، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد كل من له أن يرى و المعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية و لا مرتفعا كالروابي و التلال. 

  • قوله تعالى{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع بأن يكون {لاَ عِوَجَ لَهُ} حالا عن ضمير الجمع و عامله يتبعون فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير أي توقف أو استنكاف أو تثبط أو مساهلة فيه لأن ذلك كله فرع القدرة و الاستطاعة أو توهم الإنسان ذلك لنفسه و هم يعاينون اليوم أن الملك و القدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن: ١٦، و قال: {وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة: ١٦٥. 

  • و إن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير أن يهمل أحدا بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة. 

  • لكن تعقيب الجملة بقوله: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} إلخ يناسب المعنى الأول فإن ارتفاع الأصوات عند الدعوة و الإحضار إنما يكون للتمرد و الاستكبار عن الطاعة و الاتباع. 

  • و قوله: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} قال الراغب: الهمس‌ الصوت الخفي و همس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى: {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً}. انتهى. و الخطاب في قوله: {فَلاَ تَسْمَعُ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد كل سامع يسمع و المعنى و انخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلة و المسكنة لله فلا يسمع السامع إلا صوتا خفيا. 

  • قوله تعالى{يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل و الحكم الفصل على حسب الوعد و الوعيد الإلهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها. 

  • و قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم و المراد الإذن في 

تفسير الميزان ج۱٤

212
  • الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده: {وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}: هود: ١٠٥ و قال: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً}: النبأ: ٣٨. و قد مر القول في معنى الإذن في التكلم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب. 

  • و أما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطإ أو خطيئة قضاء لحق الإطلاق و لا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطإ في الاعتقاد و الخطيئة في العمل و طهر نفسه من رجس الشرك و الجهل في الدنيا أو من ألحقه بهم فإن البلاء و الابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ} و للبحث ذيل طويل سيمر بك بعضه إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} إن كان ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى {مَنْ أَذِنَ لَهُ} باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم و هم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه بقول مزوق غير مرضي. 

  • و إن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء و هو ما بين أيديهم و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أو ميتا و هو ما خلفهم فهم محاطون لعلمه و لا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا و قد عنت وجوههم للحي القيوم فلا يستطيعون ردا لحكمه و عند ذلك خيبتهم. و هذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات. 

  • قوله تعالى{وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر و هي شأن كل شي‌ء دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهية كما قال: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن: ١٦، فلا يملك شي‌ء شيئا بحقيقة معنى الكلمة و هو الذلة و المسكنة على الإطلاق و إنما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنها أول ما تبدو و تظهر في الوجوه، و لازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه و لا نفوذه فيهم مانع و لا يحول بينه و بين ما أراد بهم حائل. 

  • و اختير من أسمائه الحي القيوم لأن مورد الكلام الأموات أحيوا ثانيا و قد تقطعت عنهم الأسباب اليوم و المناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة و قيامه بكل أمر. 

تفسير الميزان ج۱٤

213
  • قوله تعالى{وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَ لاَ هَضْماً} لجزائهم أما قوله: {وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان من مؤمن أو كافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة. 

  • و لو كان المراد العموم و أن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا. 

  • و أما قوله: {وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} إلخ فهو بيان استطرادي لحال المؤمنين الصلحاء جي‌ء به لاستيفاء الأقسام و تتميم القول في الفريقين الصلحاء و المجرمين، و قد قيد العمل الصالح بالإيمان لأن الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات الحبط، و الهضم‌ هو النقص، و معنى الآية ظاهر. 

  • و قد تم باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ} أولا ثم حشرهم و قرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الأرض يوما واحدا بقوله: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} إلخ ثانيا. ثم تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ} إلخ، ثالثا. ثم طاعتهم و اتباعهم الداعي للحضور بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} إلخ، رابعا. ثم عدم تأثير الشفاعة لإسقاط الجزاء بقوله: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ} إلخ خامسا. ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس و هي مقدمة للحساب و الجزاء بقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} إلخ سادسا. ثم سلطانه عليهم و ذلتهم عنده و نفوذ حكمه فيهم بقوله: {وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} سابعا. ثم الجزاء بقوله: {وَ قَدْ خَابَ} إلخ ثامنا، و بهذا يظهر وجه ترتب الآيات و ذكر ما ذكر فيها. 

  • قوله تعالى{وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} ظاهر سياقها أن الإشارة بكذلك إلى خصوصيات بيان الآيات، و {قُرْآناً عَرَبِيًّا} حال من الضمير في {أَنْزَلْنَاهُ} و التصريف‌، هو التحويل من حال إلى حال، و المعنى و على ذلك النحو من البيان المعجز أنزلنا الكتاب و الحال أنه قرآن مقرو عربي و أتينا فيه ببعض ما أوعدناهم في صورة بعد صورة. 

تفسير الميزان ج۱٤

214
  • و قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} قد أورد فيما تقدم من قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} الذكر مقابلا للخشية و يستأنس منه أن المراد بالاتقاء هاهنا هو التحرز من المعاداة و اللجاج الذي هو لازم الخشية باحتمال الضرر دون الاتقاء المترتب على الإيمان بإتيان الطاعات و اجتناب المعاصي، و يكون المراد بإحداث الذكر لهم حصول التذكر فيهم و تتم المقابلة بين الذكر و التقوى من غير تكلف. 

  • و المعنى و الله أعلم لعلهم يتحرزون المعاداة مع الحق لحصول الخشية في قلوبهم باحتمال الخطر لاحتمال كونه حقا أو يحدث لهم ذكرا للحق فيعتقدوا به. 

  • قوله تعالى{فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ} تسبيح و تنزيه له عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و هو يقبل التفرع على إنزال القرآن و تصريف الوعيد فيه لهداية الناس و التفرع عليه و على ما ذكر قبله من حديث الحشر و الجزاء و هذا هو الأنسب نظرا إلى انسلاك الجميع في سلك واحد و هو أنه تعالى ملك يتصرف في ملكه بهداية الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم ثم إحضارهم و جزائهم على ما عملوا من خير أو شر. 

  • فتعالى الله الذي يملك كل شي‌ء ملكا مطلقا لا مانع من تصرفه و لا معقب لحكمه يرسل الرسل و ينزل الكتب لهداية الناس و هو من شئون ملكه ثم يبعثهم بعد موتهم و يحضرهم فيجزيهم على ما عملوا و قد عنوا للحي القيوم و هذا أيضا من شئون ملكه فهو الملك في الأولى و الآخرة و هو الحق الثابت على ما كان لا يزول عما هو عليه. 

  • و يمكن أن يتفرع على جميع ما تقدم من قصة موسى و ما فرع عليها إلى هنا و يكون بمنزلة ختم ذلك بالتسبيح و الاستعظام. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} السياق يشهد بأن في الكلام تعرضا لتلقي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وحي القرآن، فضمير {وَحْيُهُ} للقرآن، و قوله: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} نهي عن العجل بقراءته، و معنى قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} من قبل أن يتم وحيه من ملك الوحي. 

  • فيفيد أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل أن يتم الوحي فنهى عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحي و تمامه فيكون الآية في معنى قوله تعالى في موضع آخر: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} القيامة: ١٨. 

تفسير الميزان ج۱٤

215
  • و يؤيد هذا المعنى قوله بعد: {وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} فإن سياق قوله: لا تعجل به و قل رب زدني، يفيد أن المراد هو الاستبدال أي بدل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم و يئول المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد لأن عندك علما به في الجملة لكن لا تكتف به و اطلب من الله علما جديدا بالصبر و استماع بقية الوحي. 

  • و هذه الآية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلو لا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى. 

  • و قيل: المراد بالآية و لا تعجل بقراءة القرآن لأصحابك و إملائه عليهم من قبل أن يتبين لك معانيه، و أنت خبير بأن لفظ الآية لا تعلق له بهذا المعنى. 

  • و قيل: المراد و لا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضي الله وحيه إليك، و هو كسابقه غير منطبق على لفظ الآية. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} قال: أعلمهم و أصلحهم يقولون: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً}

  • و في المجمع قيل: إن رجلا من ثقيف سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة؟ فقال: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها. 

  • أقول: و روى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن جريح و لفظه: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ} (الآية).

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {لاَ تَرى‌ فِيهَا عِوَجاً وَ لاَ أَمْتاً} قال: الأمت: الارتفاع، و العوج: الحزون و الذكوات. 

  • و فيه في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} قال: مناد من عند الله عز و جل. 

تفسير الميزان ج۱٤

216
  • و فيه في قوله تعالى: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً}: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي محمد الوابشي عن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا و تشتد أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما و هو قول الله: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} (الحديث). 

  • و في الكافي أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد. 

  • فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ} {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ}؟ أ ليس محمد؟ قال بلى. قال: كيف يجي‌ء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: {لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ} {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ} ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو على صورة البشر؟ أ ما تستحيون، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشي‌ء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، إلى قوله: و قد قال الله: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة. 

  • فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام) إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شي‌ء. 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} (الآية)، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية، و المعنى: فأنزل الله {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي يفرغ من قراءته {وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}

  • أقول: و روى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن السدي :إلا أن فيه 

تفسير الميزان ج۱٤

217
  • أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يفعل ذلك خوفا من النسيان‌ و أنت تعلم أن نسيان الوحي لا يلائم عصمة النبوة. 

  • و في الدر المنثور أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تطلب قصاصا، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهما القصاص، فأنزل الله {وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}، فوقف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى نزلت {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ} (الآية). 

  • أقول: و الحديث لا يخلو من شي‌ء فلا الآية الأولى بمضمونها تنطبق على المورد و لا الثانية، و قد سبق البحث عن كليهما. 

  • و في المجمع روت عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه.

  • أقول: و الحديث لا يخلو من شي‌ء و كيف يظن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يدعو على نفسه في أمر ليس إليه، و لعل في الرواية تحريفا من جهة النقل بالمعنى. 

  •  

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ١١٥ الی ١٢٦]

  • {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ١١٥ وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبىَ ١١٦ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقىَ ١١٧ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرى‌ ١١٨ وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحى‌ ١١٩ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‌ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاَ يَبْلى‌ ١٢٠فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ عَصى‌

تفسير الميزان ج۱٤

218
  • آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىَ ١٢١ ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدىَ ١٢٢ قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقى‌ ١٢٣ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى‌ ١٢٤ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‌ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً ١٢٥ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى‌ ١٢٦} 

  • (بيان) 

  • قصة دخول آدم و زوجه الجنة و خروجهما منها بوسوسة من الشيطان و قضائه تعالى عند ذلك بتشريع الدين و سعادة من اتبع الهدى و شقاء من أعرض عن ذكر الله. 

  • و قد وردت القصة في هذه السورة بأوجز لفظ و أجمل بيان، و عمدة العناية فيها كما يشهد به تفصيل ذيلها متعلقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين و الجزاء بالثواب و العقاب، و يؤيده أيضا التفريع بعدها بقوله: {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} إلخ، نعم للقصة تعلق ما أيضا من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدم: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىَ}

  • و القصة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة و غيرها مما ذكرت فيها كالبقرة و الأعراف - تمثل حال الإنسان بحسب طبعه الأرضي المادي فقد خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم و غمره في نعمه التي لا تحصى و أسكنه جنة الاعتدال و منعه عن تعديه بالخروج إلى جانب الإسراف باتباع الهوى و التعلق بسراب الدنيا و نسيان جانب الرب تعالى بترك عهده إليه و عصيانه و اتباع وسوسة الشيطان الذي يزين له الدنيا و يصور له و يخيل إليه أنه لو تعلق بها و نسي ربه اكتسب بذلك سلطانا على الأسباب الكونية يستخدمها و يستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة و أنها باقية له و هو باق لها، حتى 

تفسير الميزان ج۱٤

219
  • إذا تعلق بها و نسي مقام ربه ظهرت له سوآت الحياة و لاحت له مساوئ الشقاء بنزول النوازل و خيانة الدهر و نكول الأسباب و تولي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود أخرى و يميل من عذاب إلى ما هو أشد منه و يعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتى يؤمر بالخروج من جنة النعمة و الكرامة إلى مهبط الشقاء و الخيبة. 

  • فهذه هي التي مثلت لآدم (عليه السلام) إذ أدخله الله الجنة و ضرب له بالكرامة حتى آل أمره إلى ما آل إلا أن واقعته (عليه السلام) كانت قبل تشريع أصل الدين و جنته جنة برزخية ممثلة في عيشة غير دنيوية فكان النهي لذلك إرشاديا لا مولويا و مخالفته مؤدية إلى أمر قهري ليس بجزاء تشريعي كما تقدم تفصيله في تفسير سورتي البقرة و الأعراف. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} المراد بالعهد الوصية و بهذا المعنى يطلق على الفرامين و الدساتير العهود، و النسيان معروف و ربما يكنى به عن الترك لأنه لازمه إذ الشي‌ء إذا نسي ترك، و العزم‌ القصد الجازم إلى الشي‌ء قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ} آل عمران: ١٥٩ و ربما أطلق على الصبر و لعله لكون الصبر أمرا شاقا على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ و أثبت فسمي الصبر باسم لازمه قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ}

  • فالمعنى و أقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية و لم نجد له قصدا جازما إلى حفظها أو صبرا عليها و العهد المذكور على ما يظهر من قصته (عليه السلام) في مواضع من كلامه تعالى هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله: {لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ}. الأعراف: ١٩.

  • قوله تعالى{وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبىَ} معطوف على مقدر و التقدير اذكر عهدنا إليه و اذكر وقتا أمرنا الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس حتى يظهر أنه نسي و لم يعزم على حفظ الوصية، و قوله: {أَبىَ} جواب سؤال مقدر تقديره ما ذا فعل إبليس؟ فقيل: أبى. 

  • قوله تعالى{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقىَ} تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلما أبى قلنا إرشادا لآدم إلى ما فيه 

تفسير الميزان ج۱٤

220
  • صلاح أمره و نصحا: إن هذا الآبي عن السجدة إبليس عدو لك و لزوجك إلخ. 

  • و قوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ} توجيه نهي إبليس عن إخراجهما من الجنة إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده و الاستهانة بمكره أي لا تطعه أو لا تغفل عن كيده و تسويله حتى يتسلط عليكما و يقوى على إخراجكما من الجنة و إشقائكما. 

  • و قد ذكر الإمام الرازي في تفسيره وجوها لسبب عداوة إبليس لآدم و زوجه و هي وجوه سخيفة لا فائدة في الإطناب بنقلها، و الحق أن السبب فيها هو طرده من حضرة القرب و رجمه و جعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على ما حكاه الله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}: الحجر: ٣٩. و قوله: {قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء: ٦٢، و معلوم أن تكريم آدم عليه هو تكريم نوع الإنسان عليه كما أن أمره بالسجدة له كان أمرا بالسجدة لنوع الإنسان فأصل السبب هو تقدم الإنسان و تأخر الشيطان ثم الطرد و اللعن. 

  • و قوله: {فَتَشْقىَ} تفريع على خروجهما من الجنة و المراد بالشقاء التعب أي فتتعب إن خرجتما من الجنة و عشتما في غيرها و هو الأرض عيشة أرضية لتهاجم الحوائج و سعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام و الشراب و اللباس و المسكن و غيرها. 

  • و الدليل على أن المراد بالشقاء التعب الآيتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرىَ وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحىَ}

  • و هو أيضا دليل على أن النهي إرشادي ليس في مخالفته إلا الوقوع في المفسدة المترتبة على نفس الفعل و هو تعب السعي في رفع حوائج الحياة و اكتساب ما يعاش به و ليس بمولوي تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد و تستتبع مؤاخذة أخروية. على أنك عرفت أنه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الأمر بالخروج من الجنة و الهبوط إلى الأرض. 

  • و أما إفراد قوله: {فَتَشْقىَ} و لم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلأن العهد إنما نزل على آدم (عليه السلام) و كان التكليم متوجها إليه، و لذلك جي‌ء بصيغة الإفراد في جميع ما 

تفسير الميزان ج۱٤

221
  • يرجع إليه كقوله: {فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} {فَتَشْقىَ} {أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرىَ} {لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحىَ} {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} إلخ {وَ عَصىَ} إلخ {ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ} نعم جي‌ء بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله: {عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا} {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا} {وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} {قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فتدبر فيه. 

  • و قيل إن إفراد: {فَتَشْقىَ} من جهة أن نفقة المرأة على المرء و لذا نسب الشقاء و هو التعب في اكتساب المعاش إلى آدم و فيه. أن الآيتين التاليتين لا تلائمان ذلك و لو كان كما قال لقيل: إن لكما أن لا تجوعا إلخ، و قيل: إن الإفراد لرعاية الفواصل و هو كما ترى. 

  • قوله تعالى{إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَ لاَ تَعْرىَ وَ أَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَ لاَ تَضْحىَ} يقال: ضحى يضحى‌ كسعى يسعى ضحوا و ضحيا إذا أصابته الشمس أو برز لها و كأن المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر و البرد. 

  • و قد رتبت الأمور الأربعة على نحو اللف و النشر المرتب لرعاية الفواصل و الأصل في الترتيب أن لا تجوع فيها و لا تظمأ و لا تعرى و لا تضحى. 

  • قوله تعالى{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلىَ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاَ يَبْلىَ} الشيطان‌ هو الشرير لقب به إبليس لشرارته، و المراد بشجرة الخلد الشجرة المنهية و البلى‌ صيرورة الشي‌ء خلقا خلاف الجديد. 

  • و المراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة، و المراد بملك لا يبلى سلطنة لا تتأثر عن مرور الدهور و اصطكاك المزاحمات و الموانع فيئول المعنى إلى نحو قولنا هل أدلك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة و ملكا دائما فليس قوله: {لاَ يَبْلىَ} تكرارا لإفادة التأكيد كما قيل. 

  • و الدليل على ما ذكره ما في سورة الأعراف في هذا المعنى من قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ} الأعراف: ٢٠و لا منافاة بين جمع خلود الحياة و دوام الملك هاهنا بواو الجمع و بين الترديد بينهما في سورة 

تفسير الميزان ج۱٤

222
  • الأعراف لإمكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلو لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع هاهنا باعتبار الاتصاف بهما جميعا و الترديد هناك باعتبار تعلق النهي كأنه قيل: إن في هذه الشجرة صفتين و إنما نهاكما ربكما عنها إما لهذه، أو لهذه أو إنما نهاكما ربكما عنها أن لا تخلدا في الجنة مع ملك خالد أو أن لا تخلدا بناء على أن الملك الخالد يستلزم حياة خالدة فافهم ذلك و كيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية و الجمع في أخرى. 

  • قوله تعالى{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَ طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ} تقدم تفسيره في سورة الأعراف. 

  • قوله تعالى{وَ عَصىَ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىَ} الغي‌ خلاف الرشد الذي هو بمعنى إصابة الواقع و هو غير الضلال الذي هو الخروج من الطريق، و الهدى يقابلهما و يكون بمعنى الإرشاد إذا قابل الغي كما في الآية التالية و بمعنى إراءة الطريق، أو الإيصال إلى المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضي تفسير الغي في الآية بمعنى الضلال. 

  • و معصية آدم ربه كما أشرنا إليه آنفا و قد تقدم تفصيله إنما هي معصية أمر إرشادي لا مولوي و الأنبياء (عليه السلام) معصومون من المعصية و المخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحى إليهم من جهة تلقيه فلا يخطئون، و من جهة حفظه فلا ينسون و لا يحرفون، و من جهة إلقائه إلى الناس و تبليغه لهم قولا فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم و فعلا فلا يخالف فعلهم قولهم و لا يقترفون معصية صغيرة و لا كبيرة لأن في الفعل تبليغا كالقول، و أما المعصية بمعنى مخالفة الأمر الإرشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز المأمور خيرا أو منفعة من خيرات حياته و منافعها بانتخاب الطريق الأصلح كما يأمر و ينهى المشير الناصح نصحا فإطاعته و معصيته خارجتان من مجرى أدلة العصمة و هو ظاهر. 

  • و ليكن هذا معنى قول القائل إن الأنبياء (عليه السلام) على عصمتهم يجوز لهم ترك الأولى و منه أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة و الآية من معارك الآراء و قد اختلفت فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمة الأنبياء و كل يجر النار إلى قرصته. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدىَ} الاجتباء - كما تقدم 

تفسير الميزان ج۱٤

223
  • مرارا بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه فيه أحد و جعله من المخلصين بفتح اللام، و على هذا المعنى يتفرع عليه قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدىَ}، كأنه كان ذا أجزاء متفرقة متشتتة فجمعها من هنا و هناك إلى مكان واحد ثم تاب عليه و رجع إليه و هداه و سلك به إلى نفسه. 

  • و إنما فسرنا قوله: {هَدىَ} و هو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، و لا ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لأن الهداية إليه تعالى أصل كل هداية و محتدها، نعم يجب تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حق و عمل صالح، و الدليل عليه تفريع الهداية في الآية على الاجتباء، فافهم ذلك. 

  • و على هذا فلا يرد على ما قدمنا أن ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعا عنه و إذ كانت غواية في أمر إرشادي فالآية تدل على إعطاء العصمة له في موارد الأمر المولوية و الإرشادية جميعا و صونه عن الخطإ في أمر الدين و الدنيا معا. 

  • و وجه عدم الورود أن ظاهر تفرع الهداية على الاجتباء كونه مهديا إلى ما كان الاجتباء له و الاجتباء إنما يتعلق بما فيه السعادة الدينية و هو قصر العبودية في الله سبحانه فالهداية أيضا متعلقة بذلك و هي الهداية التي لا واسطة فيها بينه تعالى و بين العبد المهدي و لا تتخلف أصلا كما قال: {فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} النحل: ٣٧، و الهداية إلى منافع الحياة أيضا و إن كانت راجعة إليه تعالى لكنها مما تتخلل الأسباب فيها بينها و بينه تعالى و الأسباب ربما تخلفت، فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} تقدم تفسير مثله في سورتي البقرة و الأعراف. 

  • و في قوله: {قَالَ اِهْبِطَا} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و الإفراد و لعل الوجه فيه اشتمال الآية على القضاء و الحكم و هو مما يختص به تعالى قال: {وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}: المؤمن: ٢٠، و قال: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}: يوسف: ٦٧. 

  • قوله تعالى{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقىَ} في الآية قضاء منه تعالى متفرع على الهبوط و لذا عطف بفاء التفريع، و أصل قوله: 

تفسير الميزان ج۱٤

224
  • {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} فإن يأتكم زيد عليه ما و نون التأكيد للإشارة إلى وقوع الشرط كأنه قيل: إن يأتكم مني هدى - و هو لا محالة آت - فمن اتبع «إلخ». 

  • و في قوله: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ} نسبة الاتباع إلى الهدى على طريق الاستعارة بالكناية، و أصله: من اتبع الهادي الذي يهدي بهداي. 

  • و قوله: {فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقىَ} أي لا يضل في طريقه و لا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره، و إطلاق الضلال و الشقاء يقضي بنفي الضلال و الشقاء عنه في الدنيا و الآخرة جميعا و هو كذلك فإن الهدى الإلهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه، و دين الفطرة هو مجموع الاعتقادات و الأعمال التي تدعو إليها فطرة الإنسان و خلقته بحسب ما جهز به من الجهازات، و من المعلوم أن سعادة كل شي‌ء هو ما تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} الروم: ٣٠. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمىَ} قال الراغب: العيش‌ الحياة المختصة بالحيوان و هو أخص من الحياة لأن الحياة يقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك و يشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} {مَعِيشَةً ضَنْكاً} انتهى، و الضنك‌ هو الضيق من كل شي‌ء و يستوي فيه المذكر و المؤنث، يقال: مكان ضنك و معيشة ضنك و هو في الأصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق. 

  • و قوله: {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} يقابل قوله في الآية السابقة: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ} و كان مقتضى المقابلة أن يقال: «و من لم يتبع هداي» و إنما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر ليشير به إلى علة الحكم لأن نسيانه تعالى و الإعراض عن ذكره هو السبب لضنك العيش و العمى يوم القيامة، و ليكون توطئة و تمهيدا لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا. 

  • و المراد بذكره تعالى أما المعنى المصدري فقوله: {ذِكْرِي} من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الآتي: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} أو الدعوة الحقة و تسميتها ذكرا لأن لازم اتباعها و الأخذ بها ذكره تعالى. 

تفسير الميزان ج۱٤

225
  • و قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي ضيقة و ذلك أن من نسي ربه و انقطع عن ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا و يجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له و يهتم بإصلاح معيشته و التوسع فيها و التمتع منها، و المعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لأنه كلما حصل منها و اقتناها لم يرض نفسه بها و انتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد و أوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر و حنق مما وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم و الغم و الحزن و القلق و الاضطراب و الخوف بنزول النوازل و عروض العوارض من موت و مرض و عاهة و حسد حاسد و كيد كائد و خيبة سعي و فراق حبيب. 

  • و لو أنه عرف مقام ربه ذاكرا غير ناس أيقن أن له حياة عند ربه لا يخالطها موت و ملكا لا يعتريه زوال و عزة لا يشوبها ذلة و فرحا و سرورا و رفعة و كرامة لا تقدر بقدر و لا تنتهي إلى أمد و أن الدنيا دار مجاز و ما حياتها في الآخرة إلا متاع فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا و وسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق و ضنك. 

  • و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر و شقاء الحياة البرزخية بناء على أن كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها و ألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة. 

  • و فيه أنه مبني على مقايسة معيشة الغني من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين و الإمكانات التي فيهما و لا يتعلق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتة، و إنما تبحث الآيات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن و هو مسلح بذكر الله و الإيمان به من المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربه المتعلق النفس بالحياة الدنيا الأعزل من الإيمان و لا ريب أن للمؤمن حياة حرة سعيدة يسعه ما أكرمه ربه به من معيشة و إن كانت بالعفاف و الكفاف أو دون ذلك، و ليس للمعرض عن ذكر ربه إلا عدم الرضا بما وجد و التعلق بما وراءه. 

  • نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: {فَإِنَّ لَهُ 

تفسير الميزان ج۱٤

226
  • مَعِيشَةً ضَنْكاً} متعرضا لبيان حالهم في الدنيا و قوله: {وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمىَ} لبيان حالهم في الآخرة و البرزخ من أذناب الدنيا. 

  • و قيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، و بقوله: {وَ نَحْشُرُهُ} إلخ، ما قبل دخول النار. 

  • و فيه أن إطلاق قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} ثم تقييد قوله: {وَ نَحْشُرُهُ} بيوم القيامة لا يلائمه و هو ظاهر. 

  • نعم لو أخذ أول الآية مطلقا يشمل معيشة الدنيا و الآخرة جميعا و آخرها لتقيده بيوم القيامة مختصا بالآخرة كان له وجه. 

  • و قوله: {وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمىَ} أي بحيث لا يهتدي إلى ما فيه سعادته و هو الجنة و الدليل على ذلك ما يأتي في الآيتين التاليتين. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىَ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً} يسبق إلى الذهن أن عمى يوم القيامة يتعلق ببصر الحس فإن الذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الذي كان له في الدنيا و هو بصر الحس دون بصر القلب الذي هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر ما دل على أن المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم و آيات العظمة و القهر كقوله تعالى: {إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا}: الم السجدة: ١٢، و قوله: {اِقْرَأْ كِتَابَكَ} الإسراء: ١٤، و لذلك ذكر بعضهم أنهم يحشرون أولا مبصرين ثم يعمون، و بعضهم أنهم يحشرون مبصرين ثم عميا ثم مبصرين. 

  • و هذا قياس أمور الآخرة و أحوالها بما لها من نظير في الدنيا و هو قياس مع الفارق فإن من الظاهر المسلم من الكتاب و السنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا الذي نألفه من الطبيعة و كون البصير مبصرا لكل مبصر و الأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي لا دليل على عمومه للنظام الأخروي فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته و فلاحه و فوزه بالكرامة و هو يشاهد ما يتم به الحجة عليه و ما يفزعه من أهوال القيامة و ما يشتد به العذاب عليه من النار و غيرها، قال تعالى: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: ١٥. 

تفسير الميزان ج۱٤

227
  • قوله تعالى{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسىَ} (الآية) جواب سؤال السائل: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىَ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً} و الإشارة في قوله: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ} إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، و في قوله: {وَ كَذَلِكَ اَلْيَوْمَ} إلى معنى قوله: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} و المعنى قال: كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا فنسيتها و كما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إن حشرك اليوم أعمى و تركك لا تبصر شيئا مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشي‌ء المنسي و عدم اهتدائك بها مثل تركنا لك اليوم و عدم هدايتك بجعلك بصيرا تهتدي إلى النجاة، و بعبارة أخرى إنما جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى: {وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشورى: ٤٠. 

  • و قد سمى الله سبحانه معصية المجرمين و هم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسيانا لآياته، و مجازاتهم بالإعماء يوم القيامة نسيانا منه لهم و انعطف بذلك آخر الكلام إلى أوله و هو معصية آدم التي سماها نسيانا لعهده إذ قال: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} فكأن قصة جنة آدم بما لها من الخصوصيات كانت مثالا من قبل يمثل به ما سيجري على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينية و الهدى الإلهي بعده، و بمعصيته التي كانت نسيانا للعهد معاصي بنيه التي هي نسيان لذكره تعالى و آياته المذكرة، و إنما الفرق أن ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع فكان النهي المتوجه إليه إرشاديا و ما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الأولى بخلاف الأمر في بنيه. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة. 

  • و في تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكره و يقول له إبليس: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ}

تفسير الميزان ج۱٤

228
  • أقول: و هذا قول من قال في الآية بأن النسيان بمعناه الحقيقي و أن آدم نسي النهي عند الأكل حقيقة و لم يكن له عزم على المعصية أصلا، رد (عليه السلام) ذلك بمخالفة الكتاب، و به يظهر ضعف‌

  • ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول الله تعالى: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلى‌ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}

  • و هذا القول منسوب إلى ابن عباس و الأصل فيه‌ ما رواه في الدر المنثور عن الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب عن قول الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شي‌ء فقالوا يوما: و الله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا فأنزل الله ما قرأت. 

  • ثم قال لي: إن صاحبكم هذا يعني علي بن أبي طالب إن ولي زهد و لكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به. قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت و الله ما نقول: إنه غير و لا عدل و لا أسخط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أيام صحبته. فقال: و لا في بنت أبي جهل و هو يريد أن يخطبها على فاطمة؟ قلت: قال الله في معصية آدم (عليه السلام): {وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} و صاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لكن الخواطر التي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، و ربما كانت من الفقيه في دين الله العالم بأمر الله فإذا نبه عليها رجع و أناب فقال: يا بن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا. 

  • فقد بنى حجته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية و لازمه كون المراد بالنسيان معناه الحقيقي، فآدم لم يذكر العهد حين الأكل و لا عزم على المعصية فلم يعص ربه، و قد تقدم أنه مخالف لقوله: {قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ} على أن الآية بالمعنى الذي ذكره لا تناسب سياق الآيات السابقة عليها و لا اللاحقة، و من الحري أن يجل ابن عباس و هو هو عن أن ينسب إليه هذا القول. 

تفسير الميزان ج۱٤

229
  • و أما ما وقع في الحديث من سخط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على علي (عليه السلام) في إرادته خطبة بنت أبي جهل على فاطمة (عليه السلام) فإشارة إلى ما في صحيح البخاري، و صحيح مسلم، بعدة طرق عن المسور بن مخرمة و لفظ بعضها: أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل و عنده فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك و هذا علي ناكحا ابنة أبي جهل، قال المسور: فقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني‌۱ و أن فاطمة مضغة مني و إنما أكره أن يفتنوها - و إنها و الله لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدو الله عند رجل واحد أبدا. قال: فترك علي الخطبة. 

  • و الإمعان في التأمل فيما يتضمنه الحديث يوجب سوء الظن به فإن فيه طعنا صريحا في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلو كان ما يتضمنه حقا كانت السخطة منه (صلى الله عليه وآله و سلم) نزعة جاهلية من غير مجوز يجوزها له فبما ذا كان يسخط عليه؟ أ بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} (الآية)، و هو عام لم ينسخ و لم يخصص بآية أخرى خاصة بها؟ أم بشي‌ء من السنة يخصص الآية بفاطمة (عليه السلام) و يشرع فيها خاصة حكما شخصيا بالتحريم فلم يثبت و لم يبلغ قبل ذلك، و في لفظ٢ الحديث دلالة على ذلك أم أن نفس هذا القول بيان و تبليغ فلم يبين و لم يبلغ قبل ذلك و لا بأس بمخالفة الحكم قبل بلوغه و لا معصية فيها، فما معنى سخطه (صلى الله عليه وآله و سلم) على من لم يأت بمعصية و لا عزم عليها، و ساحته (صلى الله عليه وآله و سلم) منزهة من هذه الشيم الجاهلية، و كأن بعض رواة الحديث أراد به الطعن في علي (عليه السلام) فطعن في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حيث لا يشعر. 

  • على أنه يناقض الروايات القطعية الدالة على نزاهة ساحة علي (عليه السلام) من المعصية كخبر الثقلين و خبر المنزلة و خبر علي مع الحق و الحق مع علي، إلى غير ذلك. 

  • و في الكافي و العلل مسندا عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله 

    1. ثناء لصهره أبي العاص زوج بنته زينب.
    2. و فيما روى المسور من طريق أخرى: إني لست أحرم حلالا و أحل حراما و لكن و الله لا تجتمع بنت رسول الله و بنت عدو الله مكانا واحدا أبدا.

تفسير الميزان ج۱٤

230
  • تعالى: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} قال: عهد إليه في محمد و الأئمة من ولده فترك و لم يكن له عزم فيهم أنه هكذا، و إنما سموا أولي العزم لأنهم عهد إليهم في محمد و الأوصياء من بعده و المهدي و سيرته فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك و الإقرار به.

  • أقول: و الرواية ملخصة من حديث مفصل رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) يذكر فيه بدء خلق الإنسان ثم إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذر و أخذ الميثاق من آدم (عليه السلام) و من أولي العزم من الرسل بالربوبية و النبوة و الولاية و إقرار أولي العزم على ذلك و توقف آدم (عليه السلام) و عدم عزمه على الإقرار و إن لم يجحد ثم تطبيق قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ} (الآية)، عليه. 

  • و المعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن أرجع فيه الأحكام إلى حقيقتها و العهود إلى تأويلها و هو الولاية الإلهية، و ليس من تفسير لفظ الآية في شي‌ء، و الدليل على أنه ليس بتفسير أن الآيات و هي اثنتا عشرة آية تقص قصة واحدة و لو حملت الآية الأولى على هذا المعنى تفسيرا لم يبق في الآيات ما يدل على النهي عن أكل الشجرة و هو ركن القصة عليه يعتمد الباقي، و لا يغني عنه قوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ}، و هو ظاهر، و لم يذكر النهي المذكور في سورة متقدمة نزولا على هذه السورة حتى يحال إليه و سورتا الأعراف و البقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخرتان نزولا عن هذه السورة كما سيجي‌ء الإشارة إليه إن شاء الله. 

  • و بالجملة فهو من البطن دون التفسير و إن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير كرواية جابر السابقة و لعله مما اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة و قد بلغ الأمر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الإمام من المعنى جزءا من الآية فصارت من أخبار التحريف‌ كما في المناقب، عن الباقر (عليه السلام): {وَ لَقَدْ عَهِدْنَا إِلىَ آدَمَ مِنْ قَبْلُ} كلمات في محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم» كذا نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و نظير هذه الروايات روايات أخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ} 

تفسير الميزان ج۱٤

231
  • و قوله: {عَنْ ذِكْرِي} على ولاية أهل البيت (عليه السلام) و هي من روايات الجري دون التفسير كما توهم. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني و أبو نعيم في الحلية و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا و وقاه سوء الحساب يوم القيامة، و ذلك أن الله يقول: {فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَ لاَ يَشْقىَ}

  • أقول: الحديث ينزل قوله تعالى {فَلاَ يَضِلُّ} على الدنيا و قوله: {وَ لاَ يَشْقى‌} على الآخرة فيؤيد ما تقدم في تفسير الآية. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}: و قيل: هو عذاب القبر: عن ابن مسعود و أبي سعيد الخدري و السدي، و رواه أبو هريرة مرفوعا.

  • و في الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من مات و هو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عز و جل: {وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمىَ} قال: قلت: سبحان الله أعمى؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحق. 

  • أقول: و روى مثله القمي في تفسيره مسندا عن معاوية بن عمار و الصدوق في من لا يحضره الفقيه، مرسلا عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام). و الرواية في تخصيصها عمى يوم القيامة بطريق الحق و هو طريق النجاة و السعادة تؤيد ما تقدم في تفسير الآية. 

  •  

  • [سورة طه (٢٠): الآیات ١٢٧ الی ١٣٥]

  • {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى‌ ١٢٧ أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهى‌ ١٢٨ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ١٢٩

تفسير الميزان ج۱٤

232
  • فَاصْبِرْ عَلى‌ مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى‌ ١٣٠وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى‌ ١٣١ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوى‌ ١٣٢ وَ قَالُوا لَوْ لاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى‌ ١٣٣ وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى‌ ١٣٤ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ اَلصِّرَاطِ اَلسَّوِيِّ وَ مَنِ اِهْتَدى‌ ١٣٥} 

  • (بيان) 

  • متفرقات من وعيد و وعد و حجة و حكم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) متفرعة على ما تقدم في السورة. 

  • قوله تعالى{وَ كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى‌} الإسراف‌ التجاوز عن الحد و الظاهر أن الواو في قوله: {وَ كَذَلِكَ} للاستيناف، و الإشارة إلى ما تقدم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله و نسي آيات ربه فإنه تجاوز منه عن حد العبودية و كفر بآيات ربه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربه و تركها بعد ما عهد إليه معرضا عن ذكره. 

  • و قوله: {وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقىَ} أي من عذاب الدنيا و ذلك لكونه 

تفسير الميزان ج۱٤

233
  • محيطا بباطن الإنسان كظاهره و لكونه دائما لا يزول. 

  • قوله تعالى{أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} إلخ، الظاهر أن {يَهْدِ} مضمن معنى يبين، و المعنى أ فلم يبين لهم طريق الاعتبار و الإيمان بالآيات كثرة إهلاكنا القرون التي كانوا قبلهم و هم يمشون في مساكنهم كما كانت تمر أهل مكة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن و مساكن ثمود و أصحاب الأيكة بالشام و مساكن قوم لوط بفلسطين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىَ} أي أرباب العقول. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى} مقتضى السياق السابق أن يكون {لِزَاماً} بمعنى الملازمة و هما مصدرا لازم يلازم، و المراد بالمصدر معنى اسم الفاعل و على هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور في الآية السابقة، و أن قوله: {وَ أَجَلٌ مُسَمًّى} معطوف على {كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} و التقدير و لو لا كلمة سبقت من ربك و أجل مسمى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا و لم يؤمنوا بآيات ربهم. 

  • و احتمل بعضهم أن يكون لزام اسم آلة كحزام و ركاب و آخرون أن يكون جمع لازم كقيام جمع قائم و المعنيان لا يلائمان السياق كثيرا. 

  • و قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} تكررت هذه الكلمة منه سبحانه في حق بني إسرائيل و غيرهم في مواضع من كلامه كقوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يونس: ١٩ هود: ١١٠حم السجدة: ٤٥، و قد غياها بالأجل المسمى في قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} الشورى: ١٤، و قد تقدم في تفسير سورتي يونس و هود أن المراد بها الكلمة التي قضي بها عند إهباط آدم إلى الأرض بمثل قوله: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ} الأعراف: ٢٤. 

  • فالناس آمنون من الهلاك و عذاب الاستئصال على إسرافهم و كفرهم ما بين استقرارهم في الأرض و أجلهم المسمى إلا أن يجيئهم رسول فيقضي بينهم، قال تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يونس: ٤٧ و إليه يرجع عذاب الاستئصال عن الآيات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت و هذه الأمة حالهم حال سائر الأمم في الأمن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، و أما 

تفسير الميزان ج۱٤

234
  • القضاء بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد أخره الله إلى أمد كما تقدم استفادته من قوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} الآية من سورة يونس. 

  • و احتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعدا خاصا بهذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة و قد مر في تفسير سورة يونس أن ظاهر الآيات خلافه نعم يدل كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدم. 

  • و نظيره في الفساد قول الآخرين إن المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم بالسيف و الأجل المسمى لباقي كفار مكة و هو كما ترى. 

  • و قوله: {وَ أَجَلٌ مُسَمًّى} قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل المسمى هو الأجل المعين بالتسمية الذي لا يتخطى و لا يتخلف كما قال تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ} الحجر: ٥، و ذكر بعضهم أن المراد بالأجل المسمى يوم القيامة، و قال آخرون إن الأجل المسمى هو الكلمة التي سبقت من الله فيكون عطف الأجل على الكلمة من عطف التفسير، و لا معول على القولين لعدم الدليل. 

  • فمحصل معنى الآية أنه لو لا أن الكلمة التي سبقت من ربك و في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب إعزاز و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تقضي بتأخير عذابهم و الأجل المسمى يعين وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازما لهم بمجرد الإسراف و الكفر. 

  • و من هنا يظهر أن مجموع الكلمة التي سبقت و الأجل المسمى سبب واحد تام لتأخير العذاب عنهم لا أن كل واحد منهما سبب مستقل في ذلك كما اختاره كثير منهم. 

  • قوله تعالى{فَاصْبِرْ عَلى‌ مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا} إلخ، يأمره بالصبر على ما يقولون و يفرعه على ما تقدم كأنه قيل: إذا كان من قضاء الله أن يؤخر عذابهم و لا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلا أن تصبر راضيا على ما قضاه الله من الأمر و تنزهه عما يقولونه من كلمة الشرك و يواجهونك به من السوء، و تحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلا الجميل فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك لعلك ترضى. 

  • و قوله: {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي نزهه متلبسا بحمده و الثناء عليه فإن هذه الحوادث التي يشق تحملها و الصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها و ليست إلا سيئة يجب 

تفسير الميزان ج۱٤

235
  • تنزيهه تعالى عنها و لها نسبة بالإذن إليه تعالى و هي بهذه النسبة جميلة لا يترتب عليها إلا مصالح عامة يصلح بها النظام الكوني ينبغي أن يحمد الله و يثني عليه بها. 

  • و قوله: {قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا} ظرفان متعلقان بقوله: {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}

  • و قوله: {وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ} الجملة نظيرة قوله: {وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ} البقرة: ٤٠، و الآناء على أفعال جمع إني أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و {مِنْ} للتبعيض و الجار و المجرور متعلق بقوله: {فَسَبِّحْ} دال على ظرف في معناه متعلق بالفعل و التقدير و بعض آناء الليل سبح فيها. 

  • و قوله: {وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على قوله: {وَ مِنْ آنَاءِ} و التقدير و سبح في أطراف النهار و هل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها، أو غير ذلك؟ اختلفت فيه كلمات المفسرين و سنشير إليه. 

  • و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات و إليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة و غيره. 

  • قالوا: إن مجموع الآية يدل على الأمر بالصلوات الخمس اليومية فقوله: {قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ} صلاة الصبح، و قوله: {وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر و قوله: {وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ} صلاتا المغرب و العشاء، و قوله: {وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} صلاة الظهر. 

  • و معنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه بعد الزوال أنه لو نصف النهار حصل نصفان: الأول و الأخير و صلاة الظهر في الجزء الأول من النصف الثاني فهي في طرف النصف الأول لأن آخر النصف الأول ينتهي إلى جزء يتصل بوقتها، و في طرف النصف الثاني لأنه يبتدئ من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف الأول باعتبار و طرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان اثنان اعتبارا. 

  • و أما إطلاق الأطراف بصيغة الجمع على وقتها و إنما هو طرفان اعتبارا فباعتبار أن الجمع قد يطلق على الاثنين و إن كان الأشهر الأعرف كون أقل الجمع في 

تفسير الميزان ج۱٤

236
  • اللغة العربية ثلاثة. و قيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نهر لكل فرد منها طرفان فيكون أطرافا، و قد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضا و جوابا. 

  • لكن الإنصاف أن أصل التوجيه تعسف بعيد من الفهم فالذوق السليم بعد اللتيا و التي يأبى أن يسمي وسط النهار أطراف النهار بفروض و اعتبارات وهمية لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها و لا أمرا يرتضيه الذوق و لا يستبشعه. 

  • و أما من قال: إن المراد بالتسبيح و التحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح و الحمد إما بتذكر تنزيهه و الثناء عليه تعالى قلبا و إما بقول مثل سبحان الله و الحمد لله لسانا أو الأعم من القلب و اللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها و آناء الليل الصبح و العصر و أوقات الليل و أطراف النهار الصبح و العصر. 

  • و أما لزوم إطلاق الأطراف و هو جمع على الصبح و العصر و هما اثنان فقد أجابوا عنه بمثل ما تقدم في القول السابق من اعتبار أقل الجمع اثنين. و أما لزوم التكرار بذكر تسبيح الصبح و العصر مرتين فقد التزم به بعضهم قائلا إن ذلك للتأكيد و إظهار مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، و يظهر من بعضهم أن المراد بالأطراف الصبح و العصر و وسط النهار. 

  • و أنت خبير بأنه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير، و الإشكال كله ناش من ناحية قوله: {وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} من جهة انطباقه على وسط النهار أو الصبح و العصر. 

  • و الذي يمكن أن يقال إن قوله: {وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} مفعول معه و ليس بظرف بتقدير في و إن لم يذكره المفسرون على ما أذكر، و المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس و ما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوي سعة لكل منهما أجزاء كل جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصح أن يسميا أطراف النهار كما يصح أن يسميا طرفي النهار و ذلك كما يسمى ما قبل طلوع الشمس أول النهار باعتبار وحدته و أوائل النهار باعتبار تجزيه إلى أجزاء، و يسمى ما قبل غروبها آخر النهار، و أواخر النهار. 

  • فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: «و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل 

تفسير الميزان ج۱٤

237
  • غروبها و هي أطراف النهار، و بعض أوقات الليل سبح فيها مع أطراف النهار التي أمرت بالتسبيح فيها. 

  • فإن قلت: كيف يستقيم كون {أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} مفعولا معه و هو ظرف للتسبيح بتقدير في نظير ظرفية {آنَاءِ اَللَّيْلِ} له؟ 

  • قلت: آناء الليل ليس ظرفا بلفظه كيف؟ و هو مدخول من و لا معنى لتقدير في معه و إنما يدل به على الظرف، و معنى {وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ} و بعض آناء الليل سبح فيه، فليكن {وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} كذلك، و المعنى مع أطراف النهار التي تسبح فيها و الظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدر. هذا. 

  • فلو قلنا: إن المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح في أجزاء من أول النهار و أجزاء من آخره و أجزاء من الليل بمعية أجزاء أول النهار و آخره و لم يلزم محذور التكرار و لا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة، و هو ظاهر. 

  • و لو قلنا إن المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليومية كانت الآية متضمنة للأمر بصلاة الصبح و صلاة العصر و صلاتي المغرب و العشاء فحسب نظير الأمر في قوله تعالى: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ} هود: ١١٤، و لعل التعبير عن الوقتين في الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للإشارة إلى سعة الوقتين. 

  • و لا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليومية فإن السورة كما سنشير إليه من أوائل السور النازلة بمكة و قد دلت الأخبار المستفيضة التي رواها العامة و الخاصة أن الفرائض اليومية إنما شرعت خمسا في المعراج كما ذكرت في سورة الإسراء النازلة بعد المعراج خمسا في قوله: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىَ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ} الإسراء: ٧٨، فلعل التي شرعت من الفرائض اليومية حين نزول سورة طه و كذا سورة هود و هما قبل سورة الإسراء نزولا كانت هي الأربع و لم تكن شرعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الآيتين: آية طه و آية هود. 

  • و معلوم أنه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس و انطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر و هو وسط النهار. هذا. 

تفسير الميزان ج۱٤

238
  • و قوله: {لَعَلَّكَ تَرْضىَ} السياق السابق و قد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربهم و نسيانهم آياته و إسرافهم في أمرهم و عدم إيمانهم ثم ذكر تأخير الانتقام منهم و أمره بالصبر و التسبيح و التحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله و قدره، و المعنى: فاصبر و سبح بحمد ربك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى مثل معنى قوله: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ}

  • و الوجه فيه أن تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص و الشين و ذكره بالثناء الجميل و المداومة على ذلك يوجب أنس النفس به و زيادته و زيادة الأنس بجمال فعله و نزاهته توجب رسوخه فيها و ظهوره في نظرها و زوال الخطورات المشوشة للإدراك و الفكر، و النفس مجبولة على الرضا بما تحبه و لا تحب غير الجميل المنزه عن القبح و الشين فإدامة ذكره بالتسبيح و التحميد تورث الرضا بقضائه. 

  • و قيل: المراد لعلك ترضى بالشفاعة و الدرجة الرفيعة عند الله. و قيل: لعلك ترضى بجميع ما وعدك الله به من النصر و إعزاز الدين في الدنيا و الشفاعة و الجنة في الآخرة. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} إلخ، مد العين‌ مد نظرها و إطالته ففيه مجاز عقلي ثم مد النظر و إطالته إلى شي‌ء كناية عن التعلق به و حبه و المراد بالأزواج كما قيل الأصناف من الكفار أو الأزواج من النساء و الرجال منهم و يرجع إلى البيوتات و تنكير الأزواج للتقليل و إظهار أنهم لا يعبأ بهم. 

  • و قوله: {زَهْرَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} بمنزلة التفسير لقوله: {مَا مَتَّعْنَا بِهِ} و هو منصوب بفعل مقدر و التقدير نعني به أو جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا و هي زينتها و بهجتها، و الفتنة الامتحان و الاختبار، و قيل: المراد بها العذاب لأن كثرة الأموال و الأولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال: {وَ لاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي اَلدُّنْيَا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كَافِرُونَ}: التوبة: ٨٥. 

  • و قوله: {وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ} المراد به بقرينة مقابلته لما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا هو رزق الآخرة و هو خير و أبقى. 

  • و المعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا و بهجتها التي متعنا بها أصنافا أو أزواجا 

تفسير الميزان ج۱٤

239
  • معدودة منهم لنمتحنهم فيما متعنا به، و الذي سيرزقك ربك في الآخرة خير و أبقى. 

  • قوله تعالى{وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ} (الآية) ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكية كسائرها على أنا لم نظفر بمن يستثنيها و يعدها مدنية، و على هذا فالمراد بقوله {أَهْلَكَ} بحسب انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي (عليه السلام) و كان من أهله و في بيته أو هما و بعض بنات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • فقول بعضهم: إن المراد به أزواجه و بناته و صهره علي، و قول آخرين: المراد به أزواجه و بناته و أقرباؤه من بني هاشم و المطلب، و قول آخرين: جميع متبعيه من أمته غير سديد، نعم لا بأس بالقول الأول من حيث جري الآية و انطباقها لا من حيث مورد النزول فإن الآية مكية و لم يكن له (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة من الأزواج غير خديجة (عليه السلام). 

  • و قوله: {لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} ظاهر المقابلة بين الجملتين أن المراد سؤاله تعالى الرزق لنفسه و هو كناية عن أنا في غنى منك و أنت المحتاج المفتقر إلينا فيكون في معنى قوله: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ} الذاريات: ٥٦ ٥٨، و أيضا هو من جهة تذييله بقوله: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ} في معنى قوله: {لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوىَ مِنْكُمْ} الحج - ٣٧، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق للخلق أو لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس بسديد. 

  • و قوله: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ} تقدم البحث فيه كرارا. 

  • و لا يبعد أن يستفاد من الآية من جهة قصر الأمر بالصلاة في أهله مع ما في الآيتين السابقتين من أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) في نفسه بالصلوات الأربع اليومية و الصبر و النهي عن أن يمد عينيه فيما متع به الكفار أن السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الآية. و فيما۱ روي عن ابن مسعود أن سورة طه من العتاق الأول. 

  •  

    1. رواه السيوطي في الدر المنثور عن البخاري و ابن الضريس عن ابن مسعود، و العتاق جمع عتيق و الأول جمع أولى و المراد قدم نزولها.

تفسير الميزان ج۱٤

240
  • قوله: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولىَ} حكاية قول مشركي مكة و إنما قالوا هذا تعريضا للقرآن أنه ليس بآية دالة على النبوة فليأتنا بآية كما أرسل الأولون و البينة الشاهد المبين أو البين و قيل هو البيان. 

  • و كيف كان فقولهم: {لَوْ لاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} تحضيض بداعي إهانة القرآن و تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باقتراح آية معجزة أخرى، و قوله: {أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ} إلخ، جواب عنه و معناه على الوجه الأول من معنيي البينة أ و لم تأتهم بينة و شاهد يشهد على ما في الصحف الأولى و هي التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية من حقائق المعارف و الشرائع و يبينها و هو القرآن و قد أتى به رجل لا عهد له بمعلم يعلمه و لا ملقن يلقنه ذلك. 

  • و على الوجه الثاني: أ و لم يأتهم بيان ما في الصحف الأولى من أخبار الأمم الماضين الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات المعجزة فأتوا بها و كان إتيانها سببا لهلاكهم و استئصالهم لما لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن؟ و لكل من المعنيين نظير في كلامه تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزىَ} الظاهر أن ضمير {مِنْ قَبْلِهِ} للبينة - في الآية السابقة - باعتبار أنها القرآن، و المعنى: و لو أنا أهلكناهم لإسرافهم و كفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البينة لم تتم عليهم الحجة و لكانت الحجة لهم علينا و لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و هي التي تدل عليها البينة من قبل أن نذل بعذاب الاستئصال و نخزى. 

  • و قيل الضمير للرسول المعلوم من مضمون الآية السابقة بشهادة قولهم: {لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} و هو قريب من جهة اللفظ و المعنى الأول من جهة المعنى و يؤيده قوله: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} و لم يقل فنتبع رسولك. 

  • قوله تعالى{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ اَلصِّرَاطِ اَلسَّوِيِّ وَ مَنِ اِهْتَدىَ} التربص‌ الانتظار، و الصراط السوي‌ الطريق المستقيم، و قوله: {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أي كل منا و منكم متربص منتظر فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم و في تقدم 

تفسير الميزان ج۱٤

241
  • دينه و تمام نوره و أنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة و كل منا و منكم يسلك سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا و انتظروا و فيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا و منكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه و من الذين اهتدوا إلى المطلوب و فيه ملحمة و إخبار بالفتح. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {لَكَانَ لِزَاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى} قال: كان ينزل بهم العذاب و لكن قد أخرهم إلى أجل مسمى. 

  • و في الدر المنثور أخرج الطبراني و ابن مردويه و ابن عساكر عن جرير عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهَا} قال: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح و قبل غروبها صلاة العصر

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ} قال: بالغداة و العشي. 

  • أقول: و هو يؤيد ما قدمناه. 

  • و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: {وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضىَ}؟ قال: يعني تطوع بالنهار. 

  • أقول: و هو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (الآية): قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالسا ثم قال: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، و من اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه و لم يشف غيظه، و من لم يعرف أن لله عليه نعمة لا في مطعم و لا في مشرب قصر أجله و دنا عذابه.

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن راهويه و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الخرائطي في مكارم الأخلاق و أبو نعيم في المعرفة عن أبي رافع قال :أضاف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ضيفا و لم يكن عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما يصلحه فأرسلني 

تفسير الميزان ج۱٤

242
  • إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن. 

  • فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أما و الله إني لأمين في السماء أمين في الأرض و لو أسلفني أو باعني لأديت إليه أذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية {وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} كأنه يعزيه عن الدنيا. 

  • أقول: و مضمون الآية و خاصة ذيلها لا يلائم القصة. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت {وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ} كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يجي‌ء إلى باب علي ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.

  • أقول: و رواه في مجمع البيان عن الخدري و فيه تسعة أشهر مكان ثمانية أشهر، و روى هذا المعنى في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون عنه (عليه السلام) و رواه القمي أيضا في تفسيره، مرفوعا، و التقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على تحديد أصل إتيانه (صلى الله عليه وآله و سلم) و الشاهد عليه‌. ما رواه الشيخ في الأمالي بإسناده عن أبي الحميراء قال :شهدت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أربعين صباحا يجي‌ء إلى باب علي و فاطمة فيأخذ بعضادتي الباب ثم يقول: السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا. 

  • و ظاهر الرواية كون الآية مدنية و لم يذكر ذلك أحد فيما أذكر و لعل المراد بيان إتيانه (صلى الله عليه وآله و سلم) الباب في المدينة عملا بالآية و لو كانت نازلة بمكة و إن كان بعيدا من اللفظ و في رواية القمي التي أومأنا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها: فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا، و حديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق أخرى أيضا غير ما مرت الإشارة إليه. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو عبيد و سعيد بن منصور و ابن المنذر و الطبراني في الأوسط، و أبو نعيم في الحلية، و البيهقي في شعب الإيمان، بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة و تلا {وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ} (الآية).

  • أقول: و روى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد، و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن ثابت عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و فيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الآية. 

تفسير الميزان ج۱٤

243
  • (٢١) سورة الأنبياء مكية و هي مائة و اثنتا عشرة آية (۱۱٢) 

  • [سورة الأنبياء (٢١): الآیات ١ الی ١٥]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ١ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ ٢ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ٣ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٤ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ ٥ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ ٦ وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٧ وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ ٨ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ ٩ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٠وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَ أَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ١١ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ١٢ لاَ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا

تفسير الميزان ج۱٤

244
  • إِلىَ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ ١٣ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ١٤ فَمَا زَاَلَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ١٥} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة الكلام حول النبوة بانيا ذلك على التوحيد و المعاد فتفتتح بذكر اقتراب الحساب و غفلة الناس عن ذلك و إعراضهم عن الدعوة الحقة التي تتضمن الوحي السماوي فهي ملاك حساب يوم الحساب و تنتقل من هناك إلى موضوع النبوة و استهزاء الناس بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رميهم إياه بأنه بشر ساحر بل ما أتى به أضغاث أحلام بل مفتر بل شاعر! فترد ذلك بذكر أوصاف الأنبياء الماضين الكلية إجمالا و أن النبي لا يفقد شيئا مما وجدوه و لا ما جاء به يغاير شيئا مما جاءوا به. 

  • ثم تذكر قصص جماعة من الأنبياء تأييدا لما تقدم من الإجمال و هم موسى و هارون و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و نوح و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى. 

  • ثم تتخلص إلى ذكر يوم الحساب و ما يلقاه المجرمون و المتقون فيه، و أن العاقبة للمتقين و أن الأرض يرثها عباده الصالحون ثم تذكر أن إعراضهم عن النبوة إنما هو لإعراضهم عن التوحيد فتقيم الحجة على ذلك كما تقيمها على النبوة و الغلبة في السورة للوعيد على الوعد و للإنذار على التبشير. و السورة مكية بلا خلاف فيها و سياق آياتها يشهد بذلك. 

  • قوله تعالى{اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} الاقتراب‌ افتعال من القرب و اقترب و قرب بمعنى واحد غير أن اقترب أبلغ لزيادة بنائه و يدل على مزيد عناية بالقرب، و يتعدى القرب و الاقتراب بمن و إلى يقال: قرب أو اقترب زيد من عمرو أو إلى عمرو و الأول يدل على أخذ نسبة القرب من عمرو و الثاني على أخذها من زيد لأن الأصل في معنى من ابتداء الغاية كما أن الأصل في معنى إلى انتهاؤها. 

تفسير الميزان ج۱٤

245
  • و من هنا يظهر أن اللام في {لِلنَّاسِ} بمعنى إلى لا بمعنى «من» لأن المناسب للمقام أخذ نسبة الاقتراب من جانب الحساب لأنه الذي يطلب الناس بالاقتراب منهم و الناس في غفلة معرضون. 

  • و المراد بالحساب و هو محاسبة الله سبحانه أعمالهم يوم القيامة نفس الحساب لا زمانه بنحو التجوز أو بتقدير الزمان و إن أصر بعضهم عليه و وجهه بعض آخر بأن الزمان هو الأصل في القرب و البعد و إنما ينسب القرب و البعد إلى الحوادث الواقعة فيه بتوسطه. 

  • و ذلك لأن الغرض في المقام متعلق بتذكره نفس الحساب لتعلقه بأعمال الناس إذ كانوا مسئولين عن أعمالهم فكان من الواجب في الحكمة أن ينزل عليهم ذكر من ربهم ينبههم على ما فيه مسئوليتهم، و من الواجب عليهم أن يستمعوا له مجدين غير لاعبين و لا لاهية قلوبهم نعم لو كان الكلام مسوقا لبيان أهوال الساعة و ما أعد من العذاب للمجرمين كان الأنسب التعبير بيوم الحساب أو تقدير الزمان و نحو ذلك. 

  • و المراد بالناس الجنس و هو المجتمع البشري الذي كان أكثرهم مشركين يومئذ لا المشركون خاصة و إن كان ما ذكر من أوصافهم كالغفلة و الإعراض و الاستهزاء و غيرها أوصاف المشركين فليس ذلك من نسبة حكم البعض إلى الكل مجازا بل من نسبة حكم المجتمع إلى نفسه حقيقة ثم استثناء البعض الذي لا يتصف بالحكم كما يلوح إليه أمثال قوله: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} و قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ} على ما هو دأب القرآن في خطاباته الاجتماعية من نسبة الحكم إلى المجتمع ثم استثناء الأفراد غير المتصفة به. 

  • و بالجملة فرق بين أخذ المجتمع موضوعا للحكم و استثناء أفراد منه غير متصفة به و بين أخذ أكثر الأفراد موضوع الحكم ثم نسبة حكمه إلى الكل مجازا و ما نحن فيه من القبيل الأول دون الثاني. 

  • و قد وجه بعضهم اقتراب الحساب للناس بأن كل يوم يمر على الدنيا تصير أقرب إلى الحساب منها بالأمس، و قيل: الاقتراب إنما هو بعناية كون بعثته (صلى الله عليه وآله و سلم) في آخر الزمان كما قال (صلى الله عليه وآله و سلم): بعثت أنا و الساعة كهاتين‌، و أما الوجه السابق فإنما يناسب اللفظ الدال على الاستمرار دون الماضي الدال على الفراغ من تحققه و نظيره أيضا 

تفسير الميزان ج۱٤

246
  • توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب. 

  • و قوله: {وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا و اشتغلوا بالتمتع فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا و هو الغفلة فإن الشي‌ء كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به. 

  • و بهذا يظهر الجواب عن الإشكال بأن الجمع بين الغفلة و هي تلازم عدم التنبه للشي‌ء و الإعراض و هو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين، و محصل الجواب أنهم في غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه و هم معرضون عنه لاشتغالهم عن لوازم العلم بخلافها. 

  • و أجاب عنه الزمخشري بما لفظه: وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم و لا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن و المسي‌ء، و إذا قرعت لهم العصا و نبهوا عن سنة الغفلة و فطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات و النذر أعرضوا و سدوا أسماعهم و نفروا. انتهى. 

  • و الفرق بينه و بين ما وجهنا به أنه أخذ الإعراض في طول الغفلة لا في عرضه، و الإنصاف أن ظاهر الآية اجتماعهما لهم في زمان واحد، لا ترتب الوصفين زمانا. 

  • و دفع بعضهم الإشكال بأخذ الإعراض بمعنى الاتساع فالمعنى و هم متسعون في غفلة، و آخرون بأخذ الغفلة بمعنى الإهمال و لا تنافي بين الإهمال و الإعراض، و الوجهان من قبيل الالتزام بما لا يلزم. 

  • و المعنى: اقترب للناس حساب أعمالهم و الحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا و عدم التهيؤ له بالتوبة و الإيمان و التقوى. 

  • قوله تعالى{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (الآية) بمنزلة التعليل لقوله: {وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} إذ لو لم يكونوا في غفلة معرضين لم يلعبوا و لم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم التنبه له و يجب عليهم التهيؤ له، و لذلك جي‌ء بالفصل من غير عطف. 

  • و المراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية و منها 

تفسير الميزان ج۱٤

247
  • القرآن الكريم، و المراد بإتيانه لهم نزوله على النبي و إسماعه و تبليغه، و محدث بمعنى جديد و هو معنى إضافي و هو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإنجيل و الإنجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة و كذلك بعض سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض. 

  • و قوله: {إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ} استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و {اِسْتَمَعُوهُ} حال و {هُمْ يَلْعَبُونَ} {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حالان من ضمير الجمع في {اِسْتَمَعُوهُ} فهما حالان متداخلتان. 

  • و اللعب‌ فعل منتظم الأجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الأطفال و اللهو اشتغالك عما يهمك يقال: ألهاه كذا أي شغله عما يهمه و لذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو و ملاهي، و اللهو من صفة القلب و لذلك قال: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} فنسبه إلى قلوبهم. 

  • و معنى الآية: و ما يأتيهم بالنزول و البلوغ - ذكر جديد من ربهم في حال من الأحوال إلا و الحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي إن إحداث الذكر و تجديده لا يؤثر فيهم و لا أثرا قليلا و لا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما وراءها و هذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديدة لا يؤثر و قديمه يؤثر و هو ظاهر. 

  • و استدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثا غير قديم، و أولها الأشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله و هو لا ينافي قدمه في نفسه و ظاهر الآية عليهم و للكلام تتمة نوردها في بحث مستقل. 

  • (كلام في معنى حدوث الكلام و قدمه في فصول) 

  • ١ - ما معنى حدوث الكلام و بقائه؟

  • إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره و تكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه الأول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الأول بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الأول الصادر من المتكلم الأول و إن تكرر إلى ما لا نهاية له. 

  • هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان 

تفسير الميزان ج۱٤

248
  • وجدنا حقيقة الأمر على خلاف ذلك فقول القائل: جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا لأن فيه الجيم أو الألف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه، و المجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة البتة إلا بحسب الوضع و الاعتبار. 

  • ثم إن الذي تكلم به قائل القول الأول ثانيا و الذي تكلم به الناقل الذي ينقله عن صاحبه الأول ثالثا و رابعا و غير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام الأول المفروض من الأصوات المتكونة و ليست عينها إلا بحسب الاعتبار و ضرب من التوسع. 

  • و ليست هذه الأصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم و أمارات بحسب الوضع و الاعتبار تدل على معان ذهنية، و لا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها. 

  • و يتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في الخارج من ظرف الدعوى و الاعتبار، و إنما المتحقق في الخارج حقيقة الأفراد من الصوت التي جعلت علائم بالوضع و الاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة، و إنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية. 

  • و من هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشي‌ء من الحدوث و البقاء فإن الحدوث و هو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني و البقاء و هو كون الشي‌ء موجودا في الآن بعد الآن على نعت الاتصال من شئون الحقائق الخارجية، و لا تحقق للأمور الاعتبارية في الخارج. 

  • و كذا لا يتصف الكلام بالقدم و هو عدم كون وجود الشي‌ء مسبوقا بعدم زماني لأن القدم أيضا كالحدوث في كونه من شئون الحقائق الخارجية دون الأمور الاعتبارية. 

  • على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله، و هو أن الكلام هو المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل و بعضها بعد، و لا يتصور في القدم تقدم و تأخر و إلا كان المتأخر حادثا و هو قديم هذا خلف، فالكلام بمعنى الحروف المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الأمر فافهم ذلك. 

  • ٢ - هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية 

  • بمعنى أن ذات المتكلم هل هي 

تفسير الميزان ج۱٤

249
  • تامة في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الأربعة عن الزوجية في وجه، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا و لا صفة للمتكلم لأنه أمر اعتباري لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى و الوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات خارجية و لا صفة لموصوف خارجي. 

  • نعم الكلام بما أنه عنوان لأمر خارجي و هو الأصوات المؤلفة و هي أفعال خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل وصف له و هو التكلم و التكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع و الإعظام و الإهانة و البيع و الشري و نحو ذلك. 

  • ٣ - تحليل معنى الكلام

  • من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه و هو الكشف عن المعاني المكنونة في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا، و هذا أمر جار في جل الاعتباريات أو كلها، و قد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود و القنوت و الطوع و الكره و الملك و العرش و الكرسي و الكتاب و غير ذلك. 

  • فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها، و أدق من ذلك أن صفات الشي‌ء الذاتية كلام له يكشف به عن مكنون ذاته، و هذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى الذاتية كالعلم و القدرة و الحياة كلام له تعالى، و أيضا العالم كلامه تعالى. 

  • و بين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه و حدوثه تابع لسنخ وجوده، فالعلم الإلهي كلام قديم بقدم الذات و زيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث، و الوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم و بما أنه في علم الله و اعتبر علمه كلاما له قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الأشياء من حادث و قديم. 

  • ٤ - محصل البحث‌ 

  • تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الآيات التي نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثا و لا قديما. نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام و القرآن. 

تفسير الميزان ج۱٤

250
  • و إن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شي‌ء حق قديما بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به. 

  • و من هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن و حدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، و إن أراد به أنه في علمه تعالى و بعبارة أخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لإضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شي‌ء قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي. 

  • على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية أخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه و لو صح لنا عد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور و البطون و العظمة و البهاء و النور و الجمال و الكمال و التمام و البساطة، إلى غير ذلك مما لا يحصى. 

  • و الذي اعتبره الشرع و ورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: {تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللَّهُ}: البقرة: ٢٥٣، و قوله: {وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسىَ تَكْلِيماً}: النساء: ١٦٤، و قوله: {وَ قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}: البقرة: ٧٥، و قوله: {يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} المائدة: ١٣، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و أما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي و أنشد في ذلك قول الشاعر: 

  • إن الكلام لفي الفؤاد و إنما***جعل اللسان على الفؤاد دليلا
  • و الكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي. 

  • ففيه أنه إن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم و لم يكن أمرا يزيد عليه و صفة مغايرة له و إن أريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها. 

  • و أما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه و لا يضرنا، و الأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء. 

تفسير الميزان ج۱٤

251
  • قوله تعالى{وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} الإسرار يقابل الإعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان القول و إخفائه فإن إسرار القول يفيد وحدة معنى النجوى فإضافته إلى النجوى تفيد المبالغة. 

  • و ضمير الفاعل في {أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى} راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل فعلا لجميعهم و لا لأكثرهم فإن فيهم المستضعف و من لا شغل له به و إن كان منسوبا إلى الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة و الإعراض أوضح النسبة بقوله: {اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان في الذين ظلموا منهم خاصة. 

  • و قوله: {هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} هو الذي تناجوا به، و قد كانوا يصرحون بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يعلنون بأنه بشر و أن القرآن سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ما ذا يقابلون به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يجيبون عما يسألهم من الإيمان بالله و برسالته؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم و إن كانوا أعلنوا به بعد الاتفاق على رد الدعوة. 

  • و قد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام الإنكاري و هما قوله: {هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} و قد اتخذوه حجة لإبطال نبوته و هو أنه كما تشاهدونه - و قد أتوا باسم الإشارة دون الضمير فقالوا: هل هذا؟ و لم يقولوا: هل هو؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة بشر مثلكم لا يفارقكم في شي‌ء يختص به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب و الارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله لأنكم بشر مثله، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعي. 

  • و قولهم: {أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} و هو متفرع بفاء التفريع على نفي النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله، و لا ينبغي لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر و يؤمن بالساحر. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} أي أنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا و في أي مكان و هو السميع لأقوالكم 

تفسير الميزان ج۱٤

252
  • العليم بأفعالكم فالأمر إليه و ليس لي من الأمر شي‌ء. 

  • و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لهم لما أسروا النجوى و قطعوا على تكذيب نبوته و رمي آيته و هو كتابه بالسحر و فيها إرجاع الأمر و إحالته إلى الله سبحانه كما في غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الآية و كذلك سائر الأنبياء كقوله: {قُلْ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: الملك: ٢٦، و قوله: {قَالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} الأحقاف: ٢٣، و قوله: {قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: العنكبوت: ٥٠. 

  • قوله تعالى{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ} تدرج منهم في الرمي و التكذيب، فقولهم: أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤي غير منظمة رآها فحسبها نبوة و كتابا فأمره أهون من السحر، و قولهم: {بَلِ اِفْتَرَاهُ} ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الأمر و اشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد، و قولهم: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} ترق من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو و تدبر فيه لكن الشاعر إنما يلفظ ما يتخيله و يروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو و تدبر فربما مدح القبيح على قبحه و ربما ذم الجميل على جماله و ربما أنكر الضروري و ربما أصر على الباطل المحض، و ربما صدق الكذب أو كذب الصدق. 

  • و قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ} الكلام متفرع على ما تقدمه و المراد بالأولين الأنبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به و هو يعده آية و هو القرآن أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة و لا يقنعنا ذلك فليأتنا بآية كما أتى الأولون من الآيات مثل الناقة و العصا و اليد البيضاء. 

  • و في قوله: {كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ} و كان الظاهر من السياق أن يقال: كما أتى بها الأولون إشارة إلى أن الآية من لوازم الإرسال فلو كان رسولا فليقتد بالأولين فيما احتجوا به على رسالتهم. 

  • و المشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون؟ فتارة يواجهونه بالتهكم و أخرى يتحكمون و ثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون 

تفسير الميزان ج۱٤

253
  • آية من آيات الأولين و هم لا يؤمنون برسالتهم و لا يعترفون بآياتهم. و في قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ}، مع ذلك وعد ضمني بالإيمان لو أتى بآية من الآيات المقترحة.

  • قوله تعالى{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ} رد و تكذيب لما يشتمل عليه قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ} من الوعد الضمني بالإيمان لو أتى بشي‌ء مما اقترحوه من آيات الأولين. 

  • و محصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم و لو أنزلنا شيئا مما اقترحوه من آيات الأولين لم يؤمنوا بها و كان فيها هلاكهم فإن الأولين من أهل القرى اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم، و طباع هؤلاء طباع أوليهم في الإسراف و الاستكبار فليسوا بمؤمنين فالآية بوجه مثل قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}: يونس: ٧٤. 

  • و على هذا ففي الآية حذف و إيجاز و التقدير نحو من قولنا: ما آمنت قبلهم أهل قرية اقترحوا الآيات فأنزلناها عليهم و أهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أ فهم يعني مشركي العرب يؤمنون و هم مثلهم في الإسراف فتوصيف القرية بقوله: {أَهْلَكْنَاهَا} توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} جواب عما احتجوا به على نفي نبوته (صلى الله عليه وآله و سلم) بقولهم: {هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، بأن الماضين من الأنبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية لا تنافي النبوة. 

  • و توصيف {رِجَالاً} بقوله: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} للإشارة إلى الفرق بين الأنبياء و غيرهم و محصله أن الفرق الوحيد بين النبي و غيره هو أنا نوحي إلى الأنبياء دون غيرهم و الوحي موهبة و من خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع و إذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم وجوده عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها. 

  • فالآية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته: 

تفسير الميزان ج۱٤

254
  • إحداهما نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية و النبوة. 

  • و الثانية: من طريق الحل و هو أن الفارق بين النبي و غيره ليس وصفا لا يوجد في البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الإلهي و هو كرامة و من خاص من الله يختص به من يشاء فالآية بهذا النظر نظيرة قوله: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} إلى أن قال : {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ} إبراهيم: ١١. 

  • و قوله: {فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} تأييد و تحكيم لقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} أي إن كنتم تعلمون به فهو و إن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل الذكر و اسألوهم هل كانت الأنبياء الأولون إلا رجالا من البشر؟ 

  • و المراد بالذكر الكتاب السماوي و بأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان المشركون يعظمونهم و ربما شاوروهم في أمره و سألوهم عن مسائل يمتحنونه بها و هم القائلون للمشركين على المسلمين: {هَؤُلاَءِ أَهْدىَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} النساء: ٥١، و الخطاب في قوله {فَسْئَلُوا} إلخ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا و ذلك لتأييد القول و هو شائع في الكلام. 

  • قوله تعالى{وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ} إلى قوله {اَلْمُسْرِفِينَ} أي هم رجال من البشر و ما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل و لا يشرب و لا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام و هو خاصة ضرورية و يموتون و هو مثل الأكل. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ} عطف على قوله المتقدم: {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} و فيه بيان عاقبة إرسالهم و ما انتهى إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الآيات، و فيه أيضا توضيح ما أشير إليه من هلاكهم في قوله: {مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} و تهديد للمشركين. 

  • و المراد بالوعد في قوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ اَلْوَعْدَ} ما وعدهم من النصرة لدينهم و إعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ 

تفسير الميزان ج۱٤

255
  • اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ}: الصافات: ١٧٣، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ} أي الرسل و المؤمنين و قد وعدهم النجاة كما يدل عليه قوله: {حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ}: يونس: ١٠٣، و المسرفون هم المشركون المتعدون طور العبودية، و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} امتنان منه تعالى بإنزال القرآن على هذه الأمة، فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم و هو آخر ما تسعه حوصلة الإنسان من المعارف الحقيقية العالية و أقوم ما يمكن أن يجري في المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية و الخطاب لجميع الأمة. 

  • و قيل: المراد بالذكر الشرف، و المعنى: فيه شرفكم أن تمسكتم به تذكرون به كما فسر به قوله تعالى: {وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ} الزخرف: ٤٤، و الخطاب لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لأن القرآن إنما نزل بلغتهم و فيه بعد. 

  • قوله تعالى{وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} إلى آخر الآيات الخمس، القصم‌ في الأصل الكسر، يقال: قصم ظهره أي كسره، و يكنى به عن الهلاك، و الإنشاء الإيجاد، و الإحساس‌ الإدراك من طريق الحس، و البأس‌ العذاب، و الركض‌ العدو بشدة الوطء، و الإتراف‌ التوسعة في النعمة، و الحصيد المقطوع و منه حصاد الزرع، و الخمود السكون و السكوت. 

  • و المعنى: {وَ كَمْ قَصَمْنَا} و أهلكنا {مِنْ قَرْيَةٍ} أي أهلها {كَانَتْ ظَالِمَةً} لنفسها بالإسراف و الكفر {وَ أَنْشَأْنَا} و أوجدنا {قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا} و وجدوا بالحس أي أهل القرية الظالمة {بَأْسَنَا} و عذابنا {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} و يعدون هاربين كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا و تقريعا {لاَ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلىَ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من النعم {وَ مَسَاكِنِكُمْ} و إلى مساكنكم {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي لعل المساكين و أرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم و تختالوا أو تحتجبوا عنهم و هذا كناية عن اعتزازهم و استعلائهم و عد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله. 

  • {قَالُوا} تندما {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَاَلَتْ تِلْكَ} و هي كلمتهم يا ويلنا المشتملة على الاعتراف بربوبيته تعالى و ظلم أنفسهم {دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً} 

تفسير الميزان ج۱٤

256
  • محصودا مقطوعا {خَامِدِينَ} ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت و لا يذكر لهم صيت. 

  • و قد وجه قوله: {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} بوجوه أخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها. 

  • (بحث روائي) 

  • في الاحتجاج روي عن صفوان بن يحيى قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) لأبي قرة صاحب شبرمة: التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و كل كتاب أنزل - كان كلام الله أنزله للعالمين نورا و هدى، و هي كلها محدثة و هي غير الله حيث يقول: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} و قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ} و الله أحدث الكتب كلها التي أنزلها. 

  • فقال أبو قرة: فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فعل الله - و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان فعل الله، أ لم تسمع الناس يقولون: رب القرآن؟ و أن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب هذا فلان و هو أعرف به منه قد أظمأت نهاره و أصهرت ليله فشفعني فيه؟ و كذلك التوراة و الإنجيل و الزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شي‌ء لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم و لا واحد، و أن الكلام لم يزل معه و ليس له بدء (الحديث). 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} قال: من التلهي. 

  • و فيه: في قوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ} قال: كيف يؤمنون و لم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتى هلكوا. 

  • و فيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} من المعنون بذلك؟ قال: نحن. قلت: فأنتم المسئولون؟ قال: نعم. قلت: و نحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: فعلينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: فعليكم أن تجيبونا؟ قال: لا - ذاك إلينا إن شئنا فعلنا و إن شئنا تركنا ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. 

  • أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان عن علي و أبي جعفر (عليه السلام) قال: و يؤيده أن الله تعالى سمى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكرا رسولا. 

تفسير الميزان ج۱٤

257
  • و هو من الجري ضرورة أن الآية ليست بخاصة و الذكر إما القرآن أو مطلق الكتب السماوية أو المعارف الإلهية و هم على أي حال أهله و ليس بتفسير للآية بحسب مورد النزول إذ لا معنى لإرجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن و هم خصماؤهم و لو قبلوا منهم لقبلوا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه. 

  • و في روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليه السلام) في الوعظ و الزهد في الدنيا يقول فيه: و لقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: {وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} و إنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: {وَ أَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} فقال عز و جل: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} يعني يهربون قال: {لاَ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلىَ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسَاكِنِكُمْ -لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} فلما أتاهم العذاب {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَاَلَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} و أيم الله إن هذه عظة لكم و تخويف إن اتعظتم و خفتم. 

  •  

  • [سورة الأنبياء (٢١): الآیات ١٦ الی ٣٣]

  • {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ١٦ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ١٧ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ٢٠أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ٢١ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ٢٢ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ٢٣ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ

تفسير الميزان ج۱٤

258
  • هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ٢٤ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ٢٥ وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ٢٦ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ٢٧ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‌ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ٢٨ وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ ٢٩ أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ أَ فَلاَ يُؤْمِنُونَ ٣٠وَ جَعَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٣١ وَ جَعَلْنَا اَلسَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ٣٢ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ٣٣}

  • (بيان) 

  • أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة و أن الله لم يله بإيجاد السماء و الأرض و ما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون و يلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا 

تفسير الميزان ج۱٤

259
  • فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية و إن الله لبالمرصاد. 

  • و إذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه و أقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد و في ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية و هو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم و المتأخر. 

  • و الآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد و قد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف. 

  • قوله تعالى{وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها، و هما بعينهما على ما يعطيه السياق السابق حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة و هي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة. 

  • فمحصل ما تقدم أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير و الشر و صالح الأعمال و طالحها بهداية إلهية و هي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة و لو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا و كان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك. 

  • فمقام الآيتين كما ترى مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة على هذا من مقتضيات المعاد من غير عكس. 

  • و حجة الآيتين كما ترى تعتمد على معنى اللعب و اللهو و اللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم و تأخر و ربح و خسارة و نفع و ضرر كلها بحسب الفرض و التوهم و إذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا. 

  • فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها و يقصد لأجلها و كان الله سبحانه لا يزال يوجد و يعدم و يحيي و يميت و يعمر و يخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال و لا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها و يريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به و نتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا و عارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل و نحو ذلك. 

تفسير الميزان ج۱٤

260
  • فاللعب بنظر آخر لهو، و لذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} ثم بدله في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة. 

  • و تلهيه تعالى بشي‌ء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي و دفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، و لا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه و احتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، و خلقه فعله و فعله، خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته. 

  • و بهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء و الأرض و ما بينهما لعبا و لهوا و ما أبدعها عبثا و لغير غاية و غرض، و هو قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}

  • و أما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو و إن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله و يصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها و أمر رافع لتلك الحاجة، و لا سبيل للنقص و الحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب و لا لهو في فعله تعالى و هو خلقه، و أما أنه لا لعب و لا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام و إنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة «لو» الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} فافهم ذلك. 

  • و بهذا البيان يظهر أن قوله: {لَوْ أَرَدْنَا} إلخ، في مقام التعليل للنفي في قوله: {وَ مَا خَلَقْنَا} إلخ، و أن قوله: {مِنْ لَدُنَّا} معناه من نفسنا، و في مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، و أن قوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة {لَوْ} في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد. 

  • و بهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة و يتصل الكلام بالسياق المتقدم و محصله أن للناس رجوعا إلى الله و حسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا و عقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة و دعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد و العمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة و لو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض و غاية فكانت الخلقة لعبا و لهوا منه تعالى و هو غير جائز، و لو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب 

تفسير الميزان ج۱٤

261
  • أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لأن من المحال أن يؤثر غيره فيه و يحتاج إلى غيره بوجه و إذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية و هو المعاد و يستلزم ذلك النبوة و من لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا و أسرفوا و توقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}

  • و للقوم في تفسير قوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} وجوه: 

  • منها ما ذكره في الكشاف، و محصله أن قوله: {مِنْ لَدُنَّا} معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء و ذلك بدلالة {لَوْ} على الامتناع. 

  • و فيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال و اللهو و معناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه محال عليه تعالى. على أن دلالة {مِنْ لَدُنَّا} على القدرة لا تخلو من خفاء. 

  • و منها قول بعضهم: المراد بقوله: {مِنْ لَدُنَّا} من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى. 

  • و فيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه و إنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شي‌ء قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الإظهار فيئول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لأن إظهاره محال و هو كما ترى. 

  • و منها قول بعضهم إن المراد باللهو المرأة و الولد و العرب تسمي المرأة لهوا و الولد لهوا لأن المرأة و الولد يستروح بهما و اللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة و ولدا أو أحدهما لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: {لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىَ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}

  • و قيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام و الجسمانيات السافلة، و قيل: لاتخذناه من الحور العين، و كيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة و الولد و هما مريم و المسيح (عليه السلام). 

  • و فيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق. 

تفسير الميزان ج۱٤

262
  • و منها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: {مِنْ لَدُنَّا} من جهتنا، و معنى الآية: لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم و هذا عين الجد و الحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع و محصله أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد و الحكمة فلو أراد لهوا صار جدا و حكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى. 

  • و فيه أنه و إن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الآية كما هو ظاهر. 

  • و قوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} الظاهر أن {أَنْ} شرطية كما تقدمت الإشارة إليه، و على هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: {لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} و قال بعضهم: إن {أَنْ} نافية و الجملة نتيجة البيان السابق، و عن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، و قد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية. 

  • قوله تعالى{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} القذف‌ الرمي البعيد، و الدمغ على ما في مجمع البيان، شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، و زهوق النفس‌ تلفها و هلاكها، يقال: زهق الشي‌ء يزهق أي هلك. 

  • و الحق و الباطل مفهومان متقابلان، فالحق‌ هو الثابت العين، و الباطل‌ ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقي الحق و زهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، و السراب‌ الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. 

  • و قد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق و الباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق و ما ليس كذلك من الباطل و عد الحياة الآخرة حقا و الحياة الدنيا بجميع ما يراه الإنسان لنفسه فيها و يسعى له سعيه من ملك و مال و جاه و أولاد و أعوان و نحو ذلك باطلا و عد ذاته المتعالية حقا و سائر الأسباب التي يغتر بها الإنسان و يركن إليها من دون الله باطلا، و الآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام. 

  • و الذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال: {اَلْحَقُّ مِنْ 

تفسير الميزان ج۱٤

263
  • رَبِّكَ} آل عمران: ٦٠، و قال: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ص: ٢٧، و أما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة و إنما هو لازم نقص بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الإدراك و سائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها، و هي تنتسب إليه تعالى بالإذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء و صفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء و هو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا. 

  • و من هنا يظهر أن لا شي‌ء في الوجود إلا و فيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان و لا سبيل له إليه قال: {أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ} النور: ٢٥. 

  • و يظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق و الباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} الرعد: ١٧، و تحت هذا معارف جمة. 

  • و قد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله و يحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره و إن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، و الكمال الحق لا يهلك من أصله و إن تكاثرت أضداده، و النصر الإلهي لا يتخطى رسله و إن كانوا ربما بلغ بهم الأمر إلى أن استيئسوا و ظنوا أنهم قد كذبوا. 

  • و هذا معنى قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} إلخ، و في قوله: {نَقْذِفُ} المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية، و في قوله: {نَقْذِفُ}... {فَيَدْمَغُهُ} دلالة على علو الحق على الباطل، و في قوله: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} دلالة على مفاجاة القذف و مباغتته في حين لا يرجى للحق غلب و لا للباطل انهزام، و الآية مطلقة غير مقيدة بالحق و الباطل في الحجة أو في السيرة و السنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشي‌ء من ذلك. 

  • و المعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب و التلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة 

تفسير الميزان ج۱٤

264
  • فحجة الحق تبطلها، و إن كان عملا و سنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله و يبطله، و إن كان غير ذلك فغير ذلك. 

  • و قد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، و هو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو و لم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد و اللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية و تشمل ما يقابله. 

  • و قوله: {وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} وعيد للناس المنكرين للمعاد و النبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق. 

  • و يظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى و هو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق و يخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض و هو الله الحق عز اسمه قال: {وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ} النور: ٢٥، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير و يزعم لغيره من القوة و الملك و الأمر كما قال: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} الأنعام: ٩٤، و قال: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة: ١٦٥، و قال: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن: ١٦، و قال: {وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الانفطار: ١٩، و الآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة. 

  • قوله تعالى{وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} دفع لأحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة و هو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه و الحساب و الجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات و الأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد. 

  • و من المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الإيجاد بمعنى قيام الشي‌ء بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، و الإيجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير و العبادة فكل من في السماوات و الأرض مملوك لله لا مالك غيره. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ} إلى آخر 

تفسير الميزان ج۱٤

265
  • الآية التالية، قال في مجمع البيان: الاستحسار الانقطاع عن الإعياء يقال: بعير حسير أي معي، و أصله من قولهم: حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى. 

  • و المراد بقوله: {وَ مَنْ عِنْدَهُ} المخصوصون بموهبة القرب و الحضور و ربما انطبق على الملائكة المقربين، و قوله: {يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} بمنزلة التفسير لقوله: {وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يأخذهم عي و كلال بل يسبحون الليل و النهار من غير فتور، و التسبيح بالليل و النهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع. 

  • يصف تعالى حال المقربين من عباده و المكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل و لا يصرفهم صارف، و كأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته و سلطنته المذكورة في صدر الآية. 

  • و ذلك أن السنة الجارية بين الموالي و عبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالإغماض عن كثير من الوظائف و الرسوم الجارية على عامة العبيد، و كان معفوا عن الحساب و المؤاخذة، و ذلك لكون الاجتماع المدني الإنساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة، و الحاجة قائمة دائما، و المولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم، فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك و لذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره و يعفي عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة و مبايعة. 

  • و هذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، و مملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه و لا يختلف الحال فيه بالقرب و البعد و علو المقام و دنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة و الكبرياء و العزة و البهاء عنده أظهر و الإحساس بذلة نفسه و مسكنتها و حاجتها أكثر و يلزمها الإمعان في خشوع العبودية و خضوع العبادة. 

  • فكان قوله: {وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ} إلخ إشارة إلى أن ملكه تعالى و قد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة و الحساب و الجزاء على خلاف الملك الدائر في المجتمع الإنساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو الحساب و الجزاء. 

تفسير الميزان ج۱٤

266
  • و يمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي و المعنى له من في السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوا و سيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده و كرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع. 

  • و قد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ} استفادة أن المراد بقوله: {اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل. 

  • قوله تعالى{أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} الإنشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، و في الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات و يحاسبونهم و ليس لله سبحانه من أمر المعاد شي‌ء حتى نخافه و نضطر إلى إجابة رسله و اتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم و لا جناح؟ 

  • و تقييد قوله: {أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً} بقوله {مِنَ اَلْأَرْضِ} قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن الذي يميتهم ثم يبعثهم؟ 

  • و يمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من الحجارة و الخشب و الفلزات فيكون فيه نوع من التهكم و التحقير و يئول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الآلهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى و عباده و انقطع هؤلاء عنهم و يئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم و تماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الأصنام و التماثيل. 

  • قوله تعالى{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} قد تقدم في تفسير سورة هود و تكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين و الموحدين ليس في وحدة الإله و كثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، و إنما النزاع في الإله بمعنى الرب المعبود و الوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله و يقربوهم إليه زلفى كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان و هكذا و هم آلهة من دونهم و الله 

تفسير الميزان ج۱٤

267
  • سبحانه إله الآلهة و خالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} الزخرف: ٨٧ و قوله: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ} الزخرف: ٩. 

  • و الآية الكريمة إنما تنفي الآلهة من دون الله في السماء و الأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، و المراد بكون الإله في السماء و الأرض تعلق ألوهيته بالسماء و الأرض لا سكناه فيهما فهو كقوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلَهٌ} الزخرف: ٨٤. 

  • و تقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متباينين حقيقة و تباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات و تفسد السماء و الأرض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الأجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد و هو المطلوب. 

  • فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب و العلل و تزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد. 

  • قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض إثر بعض و ينتج الحاصل من ذلك و ما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل و الأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها و تمانعها و تزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط و ارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع و الانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان و يخدمانه في سبيل غرضه و هو تعديل الوزن بواسطة اللسان. 

  • فإن قلت: آثار العلم و الشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا و قد توافقوا على أن لا يختلفوا و لا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة. 

  • قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا 

تفسير الميزان ج۱٤

268
  • الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل و انسياقه إلى غايته، و هذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية و النظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية و هي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية و هو متبوع، فافهم ذلك. 

  • فهذا تقرير حجة الآية و هي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه و يتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدإ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع و اختلفوا في تقريرها و ربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية و خاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة. 

  • قوله تعالى{فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيه له تعالى عن وصفهم و هو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، و قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} «ما» فيه مصدرية و المعنى: عن وصفهم. 

  • و للكلام تتمة ستوافيك. 

  • قوله تعالى{لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} الضمير في {لاَ يُسْئَلُ} له تعالى بلا إشكال، و الضمير في {وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} للآلهة الذين يدعونهم أو للآلهة و الناس جميعا أو للناس فقط، و أحسن الوجوه أولها لأن ذلك هو المناسب للسياق و الكلام في الآلهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسئولون و الله سبحانه لا يسأل عن فعله. 

  • و السؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ و هو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، و الله سبحانه لما كان حكيما على الإطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، و الحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق و الباطل و أن يقارن فعلهم المصلحة و المفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة. 

  • هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية و هو معنى صحيح في الجملة لكن 

تفسير الميزان ج۱٤

269
  • يبقى عليه أمران: 

  • الأمر الأول: أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية. 

  • و لذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالأغراض لأن الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به و ينتفع به و إذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته و يستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له: لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل. 

  • و إن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته و غرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالإنسان البخيل الذي يكثر الإنفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الإنفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها. 

  • و لذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى و كبرياءه و عزته و بهاءه تقهر كل شي‌ء من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شي‌ء من شئون إرادته فغيره تعالى أذل و أحقر من أن يجترئ عليه بسؤال أو مؤاخذة على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله و يؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا. 

  • و إن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره و سخطه كالملوك الجبارين و الطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص و الفتور و لا يعتريه عيب و قصور، و الذي يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ} الم السجدة: ٧، و قوله: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} الحشر: ٢٤، و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً} يونس: ٤٤، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و بالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الإطلاق يئول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل و هو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة، و قوله: لا يسأل عما يفعل و هم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا. 

  • و لو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه 

تفسير الميزان ج۱٤

270
  • التمسك بقوله و هو متصل بالآية: {فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فإن الآية تثبت له الملك المطلق و الملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك أي لذاته لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة و إلا لم يكن فرق بينه و بين أدنى رعيته و كانت المصلحة هي المتبعة و لم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، و كذلك المولى متبع و مطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه و يأمره به عن وجه الحكمة و المصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات و سلطنة عليها لذاته. 

  • فالله سبحانه ملك و مالك للكل و الكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و ليس لغيره ذلك، و له أن يسألهم عما يفعلون و ليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة و لا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسي‌ء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، و من ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} المائدة: ١١٨ حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له و يوجه مغفرتهم بكونه حكيما. 

  • و من هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه. 

  • الأمر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق و غاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، و أنت خبير بأن مآله الاستطراد و لا موجب له. 

  • و نظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: {اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} و الحساب‌ هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، و هل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر؟ و فيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة. على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية و الصدر باق على ما كان. 

  • و أنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها من قوله: {فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فالعرش كما تقدم 

تفسير الميزان ج۱٤

271
  • كناية عن الملك فتتصل الآيتان و يكون قوله: {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ} بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه و عدم مسئوليته برهان على ربوبيته، و برهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم و مسئوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذي ليس بمسئولين عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة، و الفاعل الذي هو مسئول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة و المصلحة هي التي تملكه و ترفع المؤاخذة عنه، و رب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش و غيره مربوبون له. 

  • (بحث في حكمته تعالى و معنى كون فعله مقارنا للمصلحة) و هو بحث فلسفي و قرآني‌ 

  • الحركات المتنوعة المختلفة التي تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة و المرض و الحركة الاضطرارية بالحركة اليومية أو السنوية مثلا أفعالا لنا، و من الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه و الإذعان بكونه كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه و نفعه غالبا على ضرره فما في الفعل من جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في فاعلية الفاعل منا و هذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله و غرضه من فعله و قد قطعت الأبحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الأثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير إرادي لا يخلو من غاية. 

  • و كون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل فالمصلحة التي يعدها العقلاء و هم أهل الاجتماع الإنساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على فعله، و هي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، و لولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له. 

  • و من الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل، فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين الكلية الجارية و الأصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها و الأفعال إلى 

تفسير الميزان ج۱٤

272
  • أغراضها و ما تحصل عنده بالتجربة من روابط الأشياء بعضها مع بعض، و لا ريب أن هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه. 

  • و شأن الفاعل الإرادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده من النظام العلمي و يراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله و إن أخطأ في انطباق العلم على المعلوم الخارجي و إن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا و جاهلا و نحوهما. 

  • فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي و اشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج و إنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، و كذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج. 

  • و هذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقة الخارج كأفعالنا الإرادية و أما الفعل الذي هو نفس الخارج و هو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة و فعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه و تبعثه نحوه كما عرفت. 

  • و كل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول «لم فعلت كذا»؟ و المطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي و يشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، و أما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه و لا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، و فعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل و لا نظام آخر فوقه كما سمعت حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم. 

  • و أما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالأشياء قبل إيجادها و العلم تابع للمعلوم فللأشياء ثبوت ما في نفسها قبل الإيجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت و لها مصالح مترتبة و استعدادات أزلية على الوجود و الخير و الشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك الثبوت ثم يفيض عليها الوجود هاهنا على ما علم. 

تفسير الميزان ج۱٤

273
  • فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالأشياء قبل الإيجاد حصوليا و قد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري و ليس هو بتابع للمعلوم بل الأمر بالعكس. 

  • و أما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له و ما لا شيئية له لا ثبوت له. 

  • و أما ثالثا: فلأن إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه و كذا فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال و نقص، و هذه آثار خارجية تختص بالوجودات الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الإيجاد وجودا عينيا بعده و هذا خلف. هذا ما يعطيه البحث العقلي و يؤيده البحث القرآني و كفى في ذلك قوله تعالى: {وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ} الأنعام: ٧٣، فقد عد كلمة {كُنْ} التي هي ما به يوجد الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه و ذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الأشياء الخارجي و هو فعله أيضا فقوله فعله و قوله و فعله وجود الأشياء خارجا، و قال: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ} آل عمران: ٦٠، و الحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة و القول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، و إذا كان الخارج هو فعله تعالى و الخارج هو مبدأ القول و الاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدأ و إليه يعود، و لذا قال: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} و لم يقل: الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان. 

  • و من هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لأن المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا بصيغة اسم المفعول للحق و هذا إنما يجري في غير نفس الحق و أما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة. 

  • قوله تعالى{أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} إلى آخر الآية. {هَاتُوا} اسم فعل بمعنى ائتوا به، و البرهان‌ الدليل المفيد للعلم، و المراد بالذكر على ما يستفاد من السياق الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة و بذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها. 

تفسير الميزان ج۱٤

274
  • و يمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن و هو ذكر من معه (صلى الله عليه وآله و سلم) و الوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الأمر بتوحيد العبادة النازل عليه و النازل على من تقدمه من الأنبياء (عليه السلام)، و ربما فسر الذكر بالخبر و غيره و لا يعبأ به. 

  • و في الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لإثبات المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم و يستغنوا بذلك عن عبادة الله و ولايته المستلزمة للمعاد إليه و حسابه و وجوب إجابة دعوة أنبيائه، و دفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه و قد خاصمهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يطالبهم بالدليل بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}... إلخ. 

  • و قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من قبيل المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة و محصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه. 

  • يقول تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): قل لهؤلاء المتخذين الآلهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع و لا يجوز عقلا أن يركن إليها، و الذي استند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن و هو ذكر من معي و هذه سائر الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما و هي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه تعالى وحده و وجوب عبادته. 

  • أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي و هو ذكر من معي و الوحي النازل على من سبقني من الأنبياء و هو ذكر من قبلي في أمر عبادة الإله يحصر الألوهية و العبادة فيه تعالى. 

  • و قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق و اتباعه. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} تثبيت لما قيل في الآية السابقة أن الذكر يذكر توحيده و وجوب عبادته 

تفسير الميزان ج۱٤

275
  • و لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر. 

  • و قوله: {نُوحِي إِلَيْهِ} مفيد للاستمرار، و قوله: {فَاعْبُدُونِ} خطاب للرسل و من معهم من أممهم و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، و قد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: {سُبْحَانَهُ} ثم ذكر حقيقة حالهم بالإضراب. 

  • و إذ كان قوله بعد: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ}... إلخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الآثار و صفائها من جهة الخواص و التبعات و قد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيئول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية و من الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم. 

  • فالمراد بكونهم عبادا و جميع أرباب الشعور عباد الله إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، و المراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، و هذا نظير كون العبد مخلصا بكسر اللام لربه و مقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا بفتح اللام لنفسه، و إنما الفرق بين كرامة الملائكة و البشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، و أما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، و ربما يكنى به عن الإرادة و المشية أي إرادته تبع إرادته، و قوله: {وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، و ليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لأمره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا و فعلا. 

  • و بعبارة أخرى إرادتهم و عملهم تابعان لإرادته نظرا إلى كون القول كناية عن الإرادة فلا يريدون إلا ما أراد و لا يعملون إلا ما أراد و هو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته و عمله مملوكين لمولاه. 

  • هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي، و تفيد 

تفسير الميزان ج۱٤

276
  • الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الإتيان بالفعل المنهي عنه و هم لا يفعلون إلا عن أمر. 

  • و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يس: ٨٣، و قوله: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} القمر: ٥٠، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجي‌ء استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك. 

  • قوله تعالى{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فسروا {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} بما قدموا من أعمالهم و ما أخروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون. 

  • فقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول و عمل و ما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك. 

  • و هو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتم البيان. 

  • و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} مريم: ٦٤، أن الأوجه حمل قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم، و قوله: {وَ مَا خَلْفَنَا} على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} - إلى قوله - {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الذي به وجدوا و الأصل الذي عليه نشئوا و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسرة كريمة. 

تفسير الميزان ج۱٤

277
  • و قوله: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ} تعرض لشفاعتهم لغيرهم و هو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبئ عنه قولهم: {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ} {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفىَ} فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: ٤٨، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيون مشركون، و من عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين. 

  • و قوله: {وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأن جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كل شي‌ء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ} أي من قال كذا كان ظالما و نجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، و الآية قضية شرطية و الشرطية لا تقتضي تحقق الشرط. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ أَ فَلاَ يُؤْمِنُونَ} المراد بالرؤية العلم الفكري و إنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس. 

  • و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات: الرتق‌ الضم و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} و قال: الفتق‌ الفصل بين المتصلين و هو ضد الرتق. انتهى. و ضمير التثنية في {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} للسماوات و الأرض بعد السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجي‌ء الخبر أعني رتقا مفردا لكونه مصدرا و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما. 

  • و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده و نفي ما اتخذوها آلهة من دون الله و عدوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة و الإيجاد لله 

تفسير الميزان ج۱٤

278
  • و الربوبية و التدبير للآلهة. فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كل ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها التي ذكرها سبحانه. 

  • فقوله: {أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} المراد بالذين كفروا بمقتضى السياق هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين. 

  • لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية و الجوية بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصله منه غير متميز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعلية ذواتها و آثارها. 

  • و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها و هذه الأجرام العلوية و الأرض التي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلف. 

  • فتكرار انفصال جزئيات المركبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات و آثارها. 

  • فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية و السفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قربت الأبحاث 

تفسير الميزان ج۱٤

279
  • العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة و لكل منها بقاء محدود و عمر مؤجل و إن اختلفت بالطول و القصر. 

  • هذا لو أريد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض و بالفتق تميز السماوات من الأرض و لو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شي‌ء أو يخرج من الأرض شي‌ء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تم البرهان و ربما أيده قوله بعد: {وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ} لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول. 

  • و ذكر بعض المفسرين و ارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه. 

  • و فيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلقون العبادة على ذلك. 

  • و قوله: {وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ} ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و {كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ} مفعوله و المراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال: {وَ اَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} النور: ٤٥، و لعل ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة. 

  • قوله تعالى{وَ جَعَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} قال في المجمع: الرواسي‌ الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفج‌ الطريق الواسع بين الجبلين. انتهى. 

  • و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم. 

  •  

تفسير الميزان ج۱٤

280
  • و فيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها. 

  • قوله تعالى{وَ جَعَلْنَا اَلسَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: {وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} الحجر: ١٧، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد. 

  • قوله تعالى{وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الآية) ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل و هو الظل المخروطي الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كل منها. 

  • و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوها و إن كانت حال الأجرام الأخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، التي هي نيرة بالذات و للقمر و سائر السيارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا. 

  • و قوله: {يَسْبَحُونَ} من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنما قال: يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: {وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يوسف: ٤. 

  • (بحث روائي)

  • في المحاسن بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل و ذلك قول الله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}

  • و فيه بإسناده عن أيوب بن الحر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أيوب ما من أحد إلا و قد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه و ذلك أن الله يقول في كتابه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.

  • أقول: و الروايتان مبنيتان على تعميم الآية. 

تفسير الميزان ج۱٤

281
  • و في العيون في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت و ماروت في حديث: أن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم: {لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} و قال عز و جل: {وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}

  • و في نهج البلاغة قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و مسبحون لا يسأمون، و لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان. 

  • أقول: و به يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حي إلا و هو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عز و جل: {يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}؟ قال: أنفاسهم تسبيح. على أن الرواية ضعيفة. 

  • و في التوحيد بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال عز و جل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا}

  • أقول: و هو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل. 

  • و فيه بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام): يا بن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا، و منهم من يسقط غير تام، و منهم من يولد أعمى و أخرس و أصم، و منهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، و منهم من يبقى إلى الاحتلام، و منهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك و ما وجهه؟

  • فقال (عليه السلام): إن الله تبارك و تعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم و هو الخالق و المالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، و من عمره فإنما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى و عادل فيما منع و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون. 

  • قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله و كيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا، و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار، فمن وجد في نفسه حرجا في شي‌ء مما قضى كفر و من أنكر شيئا من أفعاله جحد. 

تفسير الميزان ج۱٤

282
  • أقول: و هي رواية شريفة تعطي أصلا كليا في الحسنات و السيئات و هو أن الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه و فضله تعالى، و السيئات أمور عدمية تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد. و ما ذكره (عليه السلام) أنه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته و العبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى و هو المالك لما ملكه و ملك العبد في طول ملكه. 

  • و قوله: «لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا إشارة إلى التقريب الأول الذي قدمناه، و قوله: «و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار» إشارة إلى التقريب الثاني الذي أوردناه في تفسير الآية. 

  • و في نور الثقلين عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوتي أديت إلي فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني و ذلك أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون. 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} قال أبو عبد الله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن و بذكر من قبلي ما قد كان. 

  • و في العيون بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال (عليه السلام): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. 

  • قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ} قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه. 

  • و في الدر المنثور أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن جابر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تلا قول الله: {وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ} فقال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. 

  • و في الاحتجاج و روي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر (عليه السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ 

تفسير الميزان ج۱٤

283
  • كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} ما هذا الرتق و الفتق؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقا لا تنزل القطر و كانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر و فتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد و لم يجد اعتراضا و مضى.

  • أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين. 

  • و في نهج البلاغة قال (عليه السلام): و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.

  •  

  • [سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٣٤ الی ٤٧]

  • {وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخَالِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٣٥ وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ٣٦ خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ٣٧ وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنَّارَ وَ لاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ٣٩ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ٤٠وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٤١ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ مِنَ اَلرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ٤٢ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ٤٣ بَلْ مَتَّعْنَا

تفسير الميزان ج۱٤

284
  • هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَ فَهُمُ اَلْغَالِبُونَ ٤٤ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاَ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ٤٥ وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ٤٦ وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفى‌ بِنَا حَاسِبِينَ ٤٧} 

  • (بيان) 

  • من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كقولهم: سيموت فنتخلص منه و نستريح و قولهم استهزاء به: {أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}، و قولهم استهزاء بالبعث و القيامة التي أنذروا بها: {مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} و فيها جواب أقاويلهم و إنذار و تهديد لهم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى{وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخَالِدُونَ} يلوح من الآية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سيموت فيتخلصون من دعوته و تنجو آلهتهم من طعنة كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ} الطور: ٣٠، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتى يتوقع ذلك لك بل إنك ميت و إنهم ميتون، و لا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميتون، و لا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو من الفتنة و الامتحان الإلهي فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، و لا أنهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم و نجزيهم بما عملوا. 

  • و قوله: {أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخَالِدُونَ} و لم يقل: فهم خالدون و الاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود و قبض عليه و عاش عيشة خالدة 

تفسير الميزان ج۱٤

285
  • طيبة ناعمة و ليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، و الحياة الدنيا مبنية على الفتنة و الامتحان، و لا معنى للفتنة الدائمة و الامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم و ميزهم. 

  • قوله تعالى{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لفظ النفس على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشي‌ء معناه الشي‌ء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و نفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، و على هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد. 

  • و بهذا المعنى يطلق على كل شي‌ء حتى عليه تعالى كما قال: {كَتَبَ عَلىَ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ} الأنعام: ١٢، و قال: {وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ} آل عمران: ٢٨، و قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} المائدة: ١١٦. 

  • ثم شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصة و هو الموجود المركب من روح و بدن فصار ذا معنى في نفسه و إن قطع عن الإضافة قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي من شخص إنساني واحد، و قال: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ اَلنَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا اَلنَّاسَ جَمِيعاً} المائدة: ٣٢، أي من قتل إنسانا و من أحيا إنسانا، و قد اجتمع المعنيان في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} فالنفس الأولى بالمعنى الثاني و الثانية بالمعنى الأول. 

  • ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة و العلم و القدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ} الأنعام: ٩٣. 

  • و لم يطرد هذان الإطلاقان أعني الثاني و الثالث في غير الإنسان كالنبات و سائر الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات و الحيوان عرفا نفس و لا للمبدإ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لأن للحياة توقفا عليها و منه النفس السائلة. 

  • و كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني و الثالث على الملك و الجن و إن كان معتقدهم أن لهما حياة، و لم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا و إن نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالإنسان و موتا و حشرا قال: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: ٥٦، و قال {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ 

تفسير الميزان ج۱٤

286
  • وَ اَلْإِنْسِ}: الأحقاف: ١٨، و قال: {وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ}: الأنعام: ١٢٨، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة. 

  • و أما الموت فهو فقد الحياة و آثارها من الشعور و الإرادة عما من شأنه أن يتصف بها قال تعالى: {وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} البقرة: ٢٨، و قال في الأصنام: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} النحل: ٢١، و أما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال و من المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح و البدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه و أما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، و أما قوله: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} القصص: ٨٨، و قوله: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} الزمر: ٦٨ فسيجي‌ء إن شاء الله أن الهلاك و الصعق غير الموت و إن انطبقا عليه أحيانا. 

  • فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} الإنسان و هو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث دون الروح الإنساني إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه. 

  • و ثانيا: أن الآية إنما تعم الإنسان لا غير كالملك و الجن و سائر الحيوان و إن كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن و الحيوان، و من القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله: {وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ} و قوله بعده: {وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً} على ما سنوضحه. 

  • و قد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، و قد عرفت خلافه و أصر كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الإنسان و الملك و الجن و سائر الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة و قد عرفت ما فيه. 

  • و من أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير، بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام): {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، و كذا الجمادات لها نفوس و هي لا تموت. ثم قال: و العام 

تفسير الميزان ج۱٤

287
  • المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، و ذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس الفلكية أنها لا تموت. انتهى. 

  • و فيه أولا: أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى و على كل شي‌ء هي النفس بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الآية التي استشهد بها و التي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين و قد عرفت أن المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني. 

  • و ثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: {كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} و قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} و غير ذلك. 

  • و ثالثا: أن قوله: إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق البرهان، و البرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو بعضها براهين كما أدعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور و الظهور حجة ظنية و كيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، و إن لم تكن براهين لم تثبت المسائل و لا حاجة معه إلى ظن بالخلاف. 

  • ثم إن قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} كما هو تقرير و تثبيت لمضمون قوله قبلا: {وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ} إلخ، كذلك توطئة و تمهيد لقوله بعد {وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً} أي و نمتحنكم بما تكرهونه من مرض و فقر و نحوه و ما تريدونه من صحة و غنى و نحوهما امتحانا كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة و نمتحنكم فيها بالشر و الخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم و لكم. 

  • و فيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، و هي أن حياة كل نفس حياة امتحانية ابتلائية، و من المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي و من الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد و من الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة و بعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ 

تفسير الميزان ج۱٤

288
  • آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} إن نافية و المراد بقوله: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزأ به. 

  • و قوله: {أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} و التقدير يقولون أو قائلين: أ هذا الذي إلخ حكاية كلمة استهزائهم، و الاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، و مرادهم ذكره آلهتهم بسوء و لم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم و هو نظير قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الآية): - ٦٠من السورة. 

  • و قوله: {وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} في موضع الحال من ضمير {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} أو من فاعل يقولون المقدر و هو أقرب و محصله أنهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول فيها أنها لا تنفع و لا تضر و هو كلمة حق فلا يواجهونك إلا بالهزء و الإهانة و لا يأنفون لله إذ يكفر بذكره و الكافرون هم أنفسهم. 

  • و المراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة و منعم كل نعمة و لازمه كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، و قيل: المراد بالذكر القرآن. 

  • و المعنى: و إذا رآك الذين كفروا و هم المشركون ما يتخذونك و لا يعاملون معك إلا بالهزء و السخرية قائلين بعضهم لبعض أ هذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها و الحال أنهم بذكر الرحمن كافرون و لا يعدونه جرما و لا يأنفون له. 

  • قوله تعالى{خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبوية يستهزءون بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كلما رأوه، و هو زيادة في الكفر و العتو، و الاستهزاء بشي‌ء إنما يكون بالبناء على كونه هزلا غير جد فيقابل الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرضا للعذاب الإلهي بعد تعرض و هو الاستعجال بالعذاب فإنهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات و هم في عافية و يطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، و لذلك عد سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الآيات و هي الآيات الملازمة للعذاب و أخبرهم أنه سيريهم إياها. 

  • فقوله: {خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنه خلق من عجل و لا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله و خلق من خير أو من شر و هو أبلغ من قولنا، ما أعجله و ما أشد استعجاله، و الكلام وارد مورد التعجيب. 

تفسير الميزان ج۱٤

289
  • و فيه استهانة بأمرهم و أنه لا يعجل بعذابهم لأنهم لا يفوتونه. 

  • و قوله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} (الآية) الآتية تشهد بأن المراد بإراءة الآيات تعذيبهم بنار جهنم و هي قوله {لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ} إلخ. 

  • قوله تعالى{وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} القائلون هم الذين كفروا و المخاطبون هم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون و كان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به و إغراؤهم عليه و الوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة و تفسره الآية اللاحقة. 

  • قوله تعالى{لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنَّارَ وَ لاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} {لَوْ} للتمني و {حِينَ} مفعول يعلم على ما قيل و قوله {لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنَّارَ وَ لاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ} أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم و من خلفهم و فيه إشارة إلى إحاطتها بهم. 

  • و قوله: {وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة و المعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم و لا بنصر من ينصرهم على دفعه. 

  • و الآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، و المعنى ليت الذين كفروا يعلمون الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم و لا هم ينصرون في دفعها. 

  • قوله تعالى{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} الذي يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، و الجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة: {لاَ يَكُفُّونَ} إلخ. لا عن مقدر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، و لا عن قوله: {لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} بدعوى أنه في معنى النفي و التقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإن هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق. 

  • و معنى إتيان النار بغتة أنها تفاجئهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم و تحيط بهم 

تفسير الميزان ج۱٤

290
  • فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: {نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ} الهمزة: ٧، و قوله: {اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ} البقرة: ٢٤، و قوله: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (الآية): ٩٨ من السورة، و النار التي هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من جهة إلى جهة و تأخذ الظاهر قبل الباطن و الخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا اختلاف جهة و لا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها و بينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلا البهت و الحيرة. 

  • فمعنى الآية و الله أعلم لا يدفعون النار عن وجوههم و ظهورهم بل تأتيهم من حيث لا يشعرون بها و لا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها و لا يمهلون في إتيانها. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} قال في المجمع: الفرق بين السخرية و الهزء أن في السخرية معنى طلب الذلة لأن التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول. انتهى و الحيق‌ الحلول، و المراد بما كانوا به يستهزءون، العذاب و في الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تخويف و تهديد للذين كفروا. 

  • قوله تعالى{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ مِنَ اَلرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} الكلاءة الحفظ و المعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة و الإنذار فيهم فقال: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ} أي القرآن {مُعْرِضُونَ} فلا يعتنون به و لا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم و قيل المراد بالذكر مطلق المواعظ و الحجج. 

  • قوله تعالى{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أم منقطعة و الاستفهام للإنكار، و كل من {تَمْنَعُهُمْ} و {مِنْ دُونِنَا} صفة آلهة، و المعنى بل أسألهم أ لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. 

  • و قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام 

تفسير الميزان ج۱٤

291
  • الإنكاري و لذا جي‌ء بالفصل و التقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضا و لا هم منا يجأرون و يحفظون فكيف ينصرون عبادهم من المشركين أو يجيرونهم، و ذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين و السياق يأباه. 

  • قوله تعالى{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ} إلى آخر الآية هو إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} إضرابا عما تقدمه و المضامين كما ترى متقاربة. 

  • و قوله: {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ} غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة و التقدير بل متعنا هؤلاء المشركين و آباءهم و دام لهم التمتع حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك و نسوا ذكر الله و أعرضوا عن عبادته، و كذلك كان مجتمع قريش فإنهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي تحمل إليهم حتى تسلطوا على مكة و أخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم و عبدوا الأصنام. 

  • و قوله: {أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الأنسب للسياق أن يكون المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الأمم التي تسكنها فإن لكل أمة أجلا ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون و قد تقدمت الإشارة إلى أن المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم. 

  • و المعنى: أ فلا يرون أن الأرض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فما ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك و انقراض. 

  • و قد مر بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع. و اعلم أن في هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرض لها لظهورها. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاَ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} أي إن الذي أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه و إنما لا يؤثر فيكم أثره و هو الهداية لأن فيكم صمما لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} النفحة الوقعة من العذاب، و المراد أن الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون 

تفسير الميزان ج۱٤

292
  • إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا و يعترفوا بظلمهم. 

  • قوله تعالى{وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} القسط العدل و هو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف و التقدير الموازين ذوات القسط، و قد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف. 

  • و قوله: {وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} الضمير في {وَ إِنْ كَانَ} للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي و إن كان العمل الموزون مقدار حبة من خردل في ثقله أتينا بها و كفى بنا حاسبين و حبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها و صغرها و حقارتها، و فيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال :لما نعى جبريل للنبي نفسه قال: يا رب فمن لأمتي؟ فنزلت: {وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ} (الآية). 

  • أقول: سياق الآيات و هو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر. على أن هذا السؤال لا يلائم موقع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، على أن النعي كان في آخر حياة النبي و السورة من أقدم السور المكية. 

  • و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على أبي سفيان و أبي جهل و هما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك و قال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فرجع إلى أبي جهل فوقع به و خوفه و قال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك، و قال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية {وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} (الآية). 

  • أقول: هو كسابقه في عدم انطباق القصة على الآية ذاك الانطباق. 

  • و في المجمع روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مرض فعاده 

تفسير الميزان ج۱٤

293
  • إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك قال: إن الله تعالى يقول: {وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً} فالخير الصحة و الغنى و الشر المرض و الفقر.

  • و فيه في قوله: {أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} و قيل: بموت العلماء و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نقصانها ذهاب عالمها.

  • أقول: و تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى الحديث. 

  • و في التوحيد عن علي (عليه السلام): في حديث و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات و أما قوله تبارك و تعالى {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ -فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك و تعالى الخلق بعضهم ببعض بالموازين.

  • و في المعاني بإسناده إلى هشام قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} قال: هم الأنبياء و الأوصياء.

  • أقول: و رواه في الكافي بسند فيه رفع عنه (عليه السلام) و قد أوردنا روايات أخر في هذه المعاني في تفسير سورة الأعراف و تكلمنا فيها بما تيسر. 

  •  

  • [سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٤٨ الی ٧٧]

  • {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسىَ وَ هَارُونَ اَلْفُرْقَانَ وَ ضِيَاءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ٤٨ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ٤٩ وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٥٠وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ٥١ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ٥٢ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

تفسير الميزان ج۱٤

294
  • لَهَا عَابِدِينَ ٥٣ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٥٤ قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاَّعِبِينَ ٥٥ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلىَ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ ٥٦ وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ٥٧ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ٥٨ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ ٥٩ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ٦٠قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلىَ أَعْيُنِ اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ٦١ قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ٦٢ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ٦٣ فَرَجَعُوا إِلىَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ ٦٤ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‌ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ ٦٥ قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ ٦٦ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٧ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلى‌ إِبْرَاهِيمَ ٦٩ وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ ٧٠وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ٧١ وَ وَهَبْنَا

تفسير الميزان ج۱٤

295
  • لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ٧٢ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ٧٣ وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ٧٤ وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٧٥ وَ نُوحاً إِذْ نَادى‌ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ٧٦ وَ نَصَرْنَاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ٧٧}  

  • (بيان) 

  • لما استوفى الكلام في النبوة بانيا لها على المعاد عقبه بالإشارة إلى قصص جماعة من أنبيائه الكرام الذين بعثهم إلى الناس و أيدهم بالحكمة و الشريعة و أنجاهم من أيدي ظالمي أممهم و في ذلك تأييد لما مر في الآيات من حجة التشريع و إنذار و تخويف للمشركين و بشرى للمؤمنين. 

  • و قد عد فيها من الأنبياء موسى و هارون و إبراهيم و لوطا و إسحاق و يعقوب و نوحا و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل و ذا النون و زكريا و يحيى و عيسى سبعة عشر نبيا، و قد ذكر في الآيات المنقولة سبعة منهم فذكر أولا موسى و هارون و عقبهما بإبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و هم قبلهما ثم عقبهم بنوح و هو قبلهم. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسىَ وَ هَارُونَ اَلْفُرْقَانَ وَ ضِيَاءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} رجوع بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا {وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} (الآية) بذكر ما أوتي النبيون من المعارف و الشرائع و أيدوا بإهلاك أعدائهم بالقضاء بالقسط. 

تفسير الميزان ج۱٤

296
  • و الآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان و الضياء و الذكر التوراة آتاها الله موسى و أخاه هارون شريكه في النبوة. 

  • و الفرقان‌ مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، و ذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا مصدر و تسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق و الباطل في الاعتقاد و العمل، و الآية نظيرة قوله: {وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ اَلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} البقرة: ٥٣ و تسميتها ضياء لكونها مضيئة لمسيرهم إلى السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة، و تسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم و المواعظ و العبر. 

  • و لعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لإتيانه باللام بخلاف ضياء و ذكر، و بوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء و ذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها غيرهم و لذا جي‌ء بالضياء و الذكر منكرين ليتقيدا بقوله: {لِلْمُتَّقِينَ} بخلاف الفرقان و قد سميت التوراة نورا و ذكرا في قوله تعالى: {فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ} المائدة: ٤٤ و قوله: {فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ} (الآية): ٧ من السورة. 

  • قوله تعالى{وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} الإشارة بهذا إلى القرآن و إنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به و الكافر في المجتمع البشري و تتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته. 

  • يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد و الصلاح في المجتمع العام البشري و الرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي يسترشد بمعناه و إن جهل الجاهلون لفظه، و أنكر الجاحدون حقه و كفروا بعظيم نعمته، و أعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، {وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً}

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} انعطاف إلى ما قبل موسى و هارون و نزول التوراة كما يفيده قوله: {مِنْ قَبْلُ} و المراد أن إيتاء التوراة لموسى و هارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده. 

  • و الرشد خلاف الغي و هو إصابة الواقع، و هو في إبراهيم (عليه السلام) اهتداؤه 

تفسير الميزان ج۱٤

297
  • الفطري التام إلى التوحيد و سائر المعارف الحقة و إضافة الرشد إلى الضمير الراجع إلى إبراهيم تفيد الاختصاص و تعطي معنى اللياقة و يؤيد ذلك قوله بعده: {وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} و هو كناية عن العلم بخصوصية حاله و مبلغ استعداده. 

  • و المعنى: و أقسم لقد أعطينا إبراهيم ما يستعد له و يليق به من الرشد و إصابة الواقع و كنا عالمين بمبلغ استعداده و لياقته، و الذي آتاه الله سبحانه كما تقدم هو ما أدركه بصفاء فطرته و نور بصيرته من حقيقة التوحيد و سائر المعارف الحقة من غير تعليم معلم أو تذكير مذكر أو تلقين ملقن. 

  • قوله تعالى{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} التمثال‌ الشي‌ء المصور و الجمع تماثيل، و العكوف‌ الإقبال على الشي‌ء و ملازمته على سبيل التعظيم له كذا ذكره الراغب فيهما. 

  • يريد (عليه السلام) بهذه التماثيل الأصنام التي كانوا نصبوها للعبادة و تقريب القرابين و كان سؤاله عن حقيقتها ليعرف ما شأنها و قد كان أول وروده في المجتمع و قد ورد في مجتمع ديني يعبدون التماثيل و الأصنام و السؤال مع ذلك مجموع سؤالين اثنين و سؤاله أباه عن الأصنام كان قبل سؤاله قومه على ما أشير إليه في سورة الأنعام و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} هو جواب القوم و لما كان سؤاله (عليه السلام) عن حقيقة الأصنام راجعا بالحقيقة إلى سؤال السبب لعبادتهم إياها تمسكوا في التعليل بذيل السنة القومية فذكروا أن ذلك من سنة آبائهم وجدوهم يعبدونها. 

  • قوله تعالى{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} و وجه كونهم في ضلال مبين ما سيورده في محاجة القوم بعد كسر الأصنام من قوله: {أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ}

  • قوله تعالى{قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاَّعِبِينَ} سؤال تعجب و استبعاد و هو شأن المقلد التابع من غير بصيرة إذا صادف إنكارا لما هو فيه استبعد و لم يكد يذعن بأنه مما يمكن أن ينكره منكر و لذا سألوه أ جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين و المراد بالحق على ما يعطيه السياق الجد أي أ تقول ما تقوله جدا أم تلعب به؟ 

تفسير الميزان ج۱٤

298
  • قوله تعالى{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى‌ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} هو (عليه السلام) كما ترى يحكم بأن ربهم هو رب السماوات و أن هذا الرب هو الذي فطر السماوات و الأرض و هو الله سبحانه، و في ذلك مقابلة تامة لمذهبهم في الربوبية و الألوهية فإنهم يرون أن لهم إلها أو آلهة غير ما للسماوات و الأرض من الإله أو الآلهة، و هم جميعا غير الله سبحانه و لا يرونه تعالى إلها لهم و لا لشي‌ء من السماوات و الأرض بل يعتقدون أنه إله الآلهة و رب الأرباب و فاطر الكل. 

  • فقوله: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ} رد لمذهبهم في الألوهية بجميع جهاته و إثبات أن لا إله إلا الله و هو التوحيد. 

  • ثم كشف (عليه السلام) بقوله: {وَ أَنَا عَلىَ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ} عن أنه معترف مقر بما قاله ملتزم بلوازمه و آثاره شاهد عليه شهادة إقرار و التزام فإن العلم بالشي‌ء غير الالتزام به و ربما تفارقا كما قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} النمل: ١٤. 

  • و بهذا التشهد يتم الجواب عن سؤالهم أ هو مجد فيما يقول أم لاعب؟ و الجواب لا بل أعلم بذلك و أتدين به. 

  • هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم في تفسيرها أقاويل أخر و كذا في معاني آيات القصة السابقة و اللاحقة وجوه أخر أضربنا عنها لعدم جدوى في التعرض لها فلا سياق الآيات يساعد عليها و لا مذاهب الوثنية توافقها. 

  • قوله تعالى{وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} معطوف على قوله: {بَلْ رَبُّكُمْ} إلخ أي قال لأكيدن أصنامكم «إلخ» و الكيد التدبير الخفي على الشي‌ء بما يسوؤه، و في قوله: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} دلالة على أنهم كانوا يخرجون من البلد أو من بيت الأصنام أحيانا لعيد كان لهم أو نحوه فيبقى الجو خاليا. 

  • و سياق القصة و طبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله: {وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول يقال: لأفعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته. 

  • و من البعيد أن يكون مخاطبا به القوم و هم أمة وثنية كبيرة ذات قوة و شوكة 

تفسير الميزان ج۱٤

299
  • و حمية و عصبية و لم يكن فيهم يومئذ - و هو أول دعوة إبراهيم موحد غيره فلم يكن من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء و خاصة بالتصريح على أن ذلك منه بالكيد يوم تخلو البلدة أو بيت الأصنام من الناس كمن يفشي سرا لمن يريد أن يكتمه منه اللهم إلا أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول و أما إعلان السر لعامتهم فلا قطعا. 

  • قوله تعالى{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} قال الراغب الجذ كسر الشي‌ء و تفتيته و يقال لحجارة الذهب المكسورة و لفتات الذهب جذاذا و منه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} انتهى فالمعنى فجعل الأصنام قطعا مكسورة إلا صنما كبيرا من بينهم. 

  • و قوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ظاهر السياق أن هذا الترجي لبيان ما كان يمثله فعله أي كان فعله هذا حيث كسر الجميع إلا واحدا كبيرا لهم فعل من يريد بذلك أن يرى القوم ما وقع على أصنامهم من الجذ و يجدوا كبيرهم سالما بينهم فيرجعوا إليه و يتهموه في أمرهم كمن يقتل قوما و يترك واحدا منهم ليتهم في أمرهم. 

  • و على هذا فالضمير في قوله: {إِلَيْهِ} راجع إلى {كَبِيراً لَهُمْ} و يؤيد هذا المعنى أيضا قول إبراهيم الآتي: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} في جواب قولهم: {أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}. 

  • و الجمهور من المفسرين على أن ضمير {إِلَيْهِ} لإبراهيم (عليه السلام) و المعنى فكسر الأصنام و أبقى كبيرهم لعل الناس يرجعون إلى إبراهيم فيحاجهم و يبكتهم و يبين بطلان ألوهية أصنامهم، و ذهب بعضهم إلى أن الضمير لله سبحانه و المعنى فكسرهم و أبقاه لعل الناس يرجعون إلى الله بالعبادة لما رأوا حال الأصنام و تنبهوا من كسرها أنها ليست بآلهة كما كانوا يزعمون. 

  • و غير خفي أن لازم القولين كون قوله: {إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ} مستدركا و إن تكلف بعضهم في دفع ذلك بما لا يغني عن شي‌ء، و كان المانع لهم من إرجاع الضمير إلى {كَبِيراً} عدم استقامة الترجي على هذا التقدير لكنك عرفت أن ذلك لبيان ما يمثله فعله (عليه السلام) لمن يشهد صورة الواقعة لا لبيان ترج جدي من إبراهيم (عليه السلام). 

  • قوله تعالى{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ} استفهام بداعي 

تفسير الميزان ج۱٤

300
  • التأسف و تحقيق الأمر للحصول على الفاعل المرتكب للظلم و يؤيد ذلك قوله تلوا: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} إلخ فقول بعضهم: إن «من موصولة» ليس بسديد. 

  • و قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ} قضاء منهم بكونه ظالما يجب أن يساس على ظلمه إذ قد ظلم الآلهة بالتعدي إلى حقهم و هو التعظيم و ظلم الناس بالتعدي إلى حقهم و هو احترام آلهتهم و تقديس مقدساتهم و ظلم نفسه بالتعدي إلى ما ليس له بحق و ارتكاب ما لم يكن له أن يرتكبه. 

  • قوله تعالى{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} المراد بالذكر على ما يستفاد من المقام الذكر بالسوء أي سمعنا فتى يذكر الآلهة بالسوء فإن يكن فهو الذي فعل هذا بهم إذ لا يتجرأ لارتكاب مثل هذا الجرم إلا مثل ذاك المتجري. 

  • و قوله: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} برفع إبراهيم و هو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو إبراهيم كذا ذكره الزمخشري. 

  • قوله تعالى{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلىَ أَعْيُنِ اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} المراد بإتيانه على أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس و مرآهم و هو حيث كسرت الأصنام كما يظهر من قول إبراهيم (عليه السلام): {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} بالإشارة إلى كبير الأصنام. 

  • و كأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك ذريعة إلى أخذ الإقرار منه بالجذ و الكسر، و أما ما قيل: إن المراد شهادتهم عقاب إبراهيم على ما فعل فبعيد. 

  • قوله تعالى{قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} الاستفهام كما قيل للتقرير بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع و في قولهم {بِآلِهَتِنَا} تلويح إلى أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الأصنام. 

  • قوله تعالى{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ما أخبر (عليه السلام) به بقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} دعوى بداعي إلزام الخصم و فرض و تقدير قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله {أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ} إلخ. و ليس بخبر جدي البتة، و هذا كثير الورود في المخاصمات و المناظرات 

تفسير الميزان ج۱٤

301
  • فالمعنى قال: بل شاهد الحال و هو صيرورة الجميع جذاذا و بقاء كبيرهم سالما يشهد أن قد فعله كبيرهم هذا و هو تمهيد لقوله: {فَسْئَلُوهُمْ} إلخ. 

  • و قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أمر بأن يسألوا الأصنام عن حقيقة الحال و أن الذي فعل بهم هذا من هو؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله {فَسْئَلُوهُمْ}

  • فتحصل أن الآية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم و تأخير أو محذور تعقيد، و أن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم و توطئة و تمهيد لذيلها و هو أمرهم بسؤال الأصنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم بأنهم لا ينطقون. 

  • و ربما قيل: إن قوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} قيد لقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} و التقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، و إذ كان نطقهم محالا فالفعل منه كذلك و قوله: «فاسألوا» جملة معترضة. 

  • و ربما قيل: إن فاعل قوله: {فَعَلَهُ} محذوف و التقدير بل فعله من فعله ثم ابتدأ فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم إلخ و ربما قيل: غير ذلك و هي وجوه غير خالية من التكلف لا يخلو الكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى. 

  • قوله تعالى{فَرَجَعُوا إِلىَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ} تفريع على قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فإنهم لما سمعوا منه ذلك و هم يرون أن الأصنام جمادات لا شعور لها و لا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على نفسه أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله: {فَرَجَعُوا إِلىَ أَنْفُسِهِمْ} استعارة بالكناية عن تنبههم و تفكرهم في أنفسهم، و قوله: {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ} أي قال كل لنفسه مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق. 

  • و قيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض و قال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون و أنت خبير بأن ذلك لا يناسب المقام و هو مقام تمام الحجة على الجميع و اشتراكهم في الظلم و لو بني على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الأنسب أن يقال: إنا نحن الظالمون كما في نظائره قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا 

تفسير الميزان ج۱٤

302
  • كُنَّا طَاغِينَ} القلم: ٣١، و قال: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} الواقعة: ٦٧. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ نُكِسُوا عَلىَ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ} قال الراغب: النكس‌ قلب الشي‌ء على رأسه و منه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه قال تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلىَ رُؤُسِهِمْ}. انتهى فقوله: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلىَ رُؤُسِهِمْ} كناية أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل على مكان الحق الذي ظهر لهم و الحق على مكان الباطل كأن الحق علا في قلوبهم الباطل فنكسوا على رءوسهم فرفعوا الباطل و هو كون إبراهيم ظالما على الحق و هو كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ}. 

  • و معنى قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ} إلخ. أن دفاعك عن نفسك برمي كبير الأصنام بالفعل و هو الجذ و تعليق ذلك باستنطاق الآلهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية عن ثبوت الجرم و قضاء على إبراهيم. 

  • قوله تعالى{قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ} إلى قوله {أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} لما تفوهوا بقولهم: {مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ} و سمعه إبراهيم لم يشتغل بالدفاع فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم و أتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقة للعبادة أي غير آلهة. 

  • فما حصل تفريع قوله: {أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ} أن لازم كونهم لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا و لا يقدروا على شي‌ء، و لازم ذلك أن لا ينفعوكم شيئا و لا يضروكم، و لازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما لرجاء خير أو لخوف شر و ليس عندهم شي‌ء من ذلك فليسوا بآلهة. 

  • و قوله: {أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} تزجر و تبر منهم و من آلهتهم بعد إبطال ألوهيتها، و هذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما مر: {وَ أَنَا عَلىَ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ}، و قوله: {أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ لهم. 

  • قوله تعالى{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} هو (عليه السلام) و إن أبطل بكلامه السابق ألوهية الأصنام و كان لازمه الضمني أن لا يكون كسرهم ظلما 

تفسير الميزان ج۱٤

303
  • و جرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الأصنام بالفعل و أمرهم أن يسألوا الآلهة عن ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لإبطال ألوهية الآلهة و بهذا المقدار من السكوت و عدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم و أن جزاءه أن يحرق بالنار. 

  • و لذلك قالوا: حرقوه و انصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم و مجازاة من أهان بهم و قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} تهييج و إغراء. 

  • قوله تعالى{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلىَ إِبْرَاهِيمَ} خطاب تكويني للنار تبدلت به خاصة حرارتها و إحراقها و إفنائها بردا و سلاما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) على طريق خرق العادة، و بذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الأمر فيه تفصيلا إذ الأبحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما لنا علم بروابط العلية و المعلولية فيه من العاديات المتكررة، و أما الخوارق التي نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها فيها. نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها و قد تكلمنا في ذلك في مباحث الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و الفصل في قوله: {قُلْنَا} إلخ. لكونه في معنى جواب سؤال مقدر و تقدير الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحو من قولنا: فأضرموا نارا و ألقوه فيها فكأنه قيل: فما ذا كان بعده فقيل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلىَ إِبْرَاهِيمَ}، و على هذا النحو الفصل في كل {قَالَ} و {قَالُوا} في الآيات السابقة من القصة. 

  • قوله تعالى{وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ} أي احتالوا عليه ليطفئوا نوره و يبطلوا حجته فجعلناهم الأخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم و عدم تأثيره و زادوا خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ و الإنجاء. 

  • قوله تعالى{وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} الأرض المذكورة هي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم، و لوط أول من آمن به و هاجر معه كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي}: العنكبوت: ٢٦. 

  • قوله تعالى{وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً} النافلة العطية و قد تكرر البحث عن مضمون الآيتين. 

تفسير الميزان ج۱٤

304
  • قوله تعالى{وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} إلى آخر الآية، الظاهر كما يشير إليه ما يدل من‌۱ الآيات على جعل الإمامة في عقب إبراهيم (عليه السلام) رجوع الضمير في {جَعَلْنَاهُمْ} إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب. 

  • و ظاهر قوله: {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أن الهداية بالأمر يجري مجرى المفسر لمعنى الإمامة، و قد تقدم الكلام في معنى هداية الإمام بأمر الله في الكلام على قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}: البقرة: ١٢٤ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و الذي يخص المقام أن هذه الهداية المجعولة من شئون الإمامة ليست هي بمعنى إراءة الطريق لأن الله سبحانه جعل إبراهيم (عليه السلام) إماما بعد ما جعله نبيا كما أوضحناه في تفسير قوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فيما تقدم و لا تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للإمامة إلا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب و هي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال و نقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر. 

  • و إذ كانت تصرفا تكوينيا و عملا باطنيا فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يس: ٨٣ فهو الفيوضات المعنوية و المقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة و يتلبسون بها رحمة من ربهم. 

  • و إذ كان الإمام يهدي بالأمر و الباء للسببية أو الآلة فهو متلبس به أولا و منه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالإمام هو الرابط بين الناس و بين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية و أخذها كما أن النبي رابط بين الناس و بين ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية و هي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي و تنتشر منه و بتوسطه إلى الناس و فيهم، و الإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة و الأعمال الصالحة، و ربما تجتمع النبوة و الإمامة كما في إبراهيم و ابنيه. 

  •  

    1. كقوله تعالى: «و جعلها كلمة باقية في عقبه» الزخرف: ٢٨ و غيره.

تفسير الميزان ج۱٤

305
  • و قوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ} إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق معناه في الخارج فإن أريد أن لا يفيد الكلام ذلك جي‌ء بالقطع عن الإضافة أو بأن و أن الدالتين على تأويل المصدر نص على ذلك الجرجاني في دلائل الإعجاز فقولنا: يعجبني إحسانك و فعلك الخير و قوله تعالى: {مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} البقرة: ٤٣ أ يدل على الوقوع قبلا، و قولنا: يعجبني أن تحسن و أن تفعل الخير و قوله تعالى: {أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} البقرة: ١٨٤ لا يدل على تحقق قبلي، و لذا كان المألوف في آيات الدعوة و آيات التشريع الإتيان بأن و الفعل دون المصدر المضاف كقوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ} الرعد: ٣٦، و {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} يوسف: ٤٠ {وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} الأنعام: ٧٢. 

  • و على هذا فقوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ} إلخ. يدل على تحقق الفعل أي أن الوحي تعلق بالفعل الصادر عنهم أي أن الفعل كان يصدر عنهم بوحي مقارن له و دلالة إلهية باطنية هو غير الوحي المشرع الذي يشرع الفعل أولا و يترتب عليه إتيان الفعل على ما شرع. 

  • و يؤيد هذا الذي ذكر قوله بعد: {وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} فإنه يدل بظاهره على أنهم كانوا قبل ذلك عابدين لله ثم أيدوا بالوحي و عبادتهم لله إنما كانت بأعمال شرعها لهم الوحي المشرع قبلا فهذا الوحي المتعلق بفعل الخيرات وحي تسديد ليس وحي تشريع. 

  • فالمحصل أنهم كانوا مؤيدين بروح القدس و الطهارة مسددين بقوة ربانية تدعوهم إلى فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هي الإنفاق المالي الخاص بشريعتهم. 

  • و القوم حملوا الوحي في الآية على وحي التشريع فأشكل عليهم الأمر أولا من جهة أن فعل الخيرات بالمعنى المصدري ليس متعلقا للوحي بل متعلقه حاصل الفعل، و ثانيا أن التشريع عام للأنبياء و أممهم و قد خص في الآية بهم، و لذا ذكر الزمخشري أن المراد بفعل الخيرات و ما يتلوه من إقام الصلاة و إيتاء الزكاة المصدر المبني للمفعول، و المعنى و أوحينا إليهم أن يفعل الخيرات بالبناء للمجهول و هكذا، و به يندفع الإشكالان إذ المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل كالمترادفين فيندفع الإشكال الأول، و الفاعل فيه مجهول ينطبق على الأنبياء و أممهم جميعا فيندفع الإشكال الثاني 

تفسير الميزان ج۱٤

306
  • و قد كثر البحث حول ما ذكره. 

  • و فيه: أولا منع ما ذكره من اتحاد معنى المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل. 

  • و ثانيا: ما قدمناه من أن إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق الفعل و لا يتعلق الوحي التشريعي به. 

  • و قد تقدمت قصة إبراهيم (عليه السلام) في تفسير سورة الأنعام و قصة يعقوب (عليه السلام) في تفسير سورة يوسف من الكتاب، و ستجي‌ء قصة إسحاق في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً} إلى آخر الآيتين. الحكم‌ بمعنى فصل الخصومات أو بمعنى الحكمة و القرية التي كانت تعمل الخبائث سدوم التي نزل بها لوط في مهاجرته مع إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالخبائث الأعمال الخبيثة، و المراد بالرحمة الولاية أو النبوة و لكل وجه، و قد تقدمت قصة لوط (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب. 

  • قوله تعالى{وَ نُوحاً إِذْ نَادىَ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} إلى آخر الآيتين، أي و اذكر نوحا إذ نادى ربه قبل إبراهيم و من ذكر معه فاستجبنا له، و نداؤه ما حكاه سبحانه من قوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} و المراد بأهله خاصته إلا امرأته و ابنه الغريق، و الكرب‌ الغم الشديد، و قوله: {وَ نَصَرْنَاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ} كأن النصر مضمن معنى الإنجاء و نحوه و لذا عدي بمن و الباقي ظاهر. 

  • و قد تقدمت قصة نوح (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب. 

  • (بحث روائي) 

  • في روضة الكافي: علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خالف إبراهيم (صلى الله عليه وآله و سلم) قومه و عاب آلهتهم إلى قوله فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج۱٤

307
  • إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم و وضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا و الله ما اجترى عليها و لا كسرها إلا الفتى الذي كان يعيبها و يبرأ منها فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار. 

  • فجمع له الحطب و استجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود و جنوده و قد بني له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار؟ و وضع إبراهيم في منجنيق، و قالت الأرض: يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار؟ قال الرب إن دعاني كفيته. 

  • فذكر أبان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر (عليه السلام): أن دعاء إبراهيم (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ كان: يا أحد يا أحد يا صمد يا صمد يا من لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد. ثم قال: توكلت على الله فقال الرب تبارك و تعالى: كفيت فقال للنار: كوني بردا! قال: فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال الله عز و جل و سلاما على إبراهيم و انحط جبرئيل فإذا هو جالس مع إبراهيم يحدثه في النار. 

  • قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. قال: فقال عظيم من عظمائهم: إني عزمت على النار أن لا تحرقه - فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه قال: فآمن له لوط فخرج مهاجرا إلى الشام هو و سارة و لوط. 

  • و فيه أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (صلى الله عليه وآله و سلم) لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثق و عمل له حيرا و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم سليما مطلقا من وثاقه. 

  • فأخبر نمرود خبره فأمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده و أن يمنعوه من الخروج بماشيته و ماله فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمرود و قضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا 

تفسير الميزان ج۱٤

308
  • سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضر بالهتكم (الحديث). 

  • و في العلل بإسناده إلى عبد الله بن هلال قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار تلقاه جبرئيل في الهواء و هو يهوي فقال: يا إبراهيم أ لك حاجة فقال: أما إليك فلا.

  • أقول: و قد ورد حديث قذفه بالمنجنيق في عدة من الروايات من العامة و الخاصة و كذا قول جبريل له: أ لك حاجة؟ و قوله: أما إليك فلا، رواه الفريقان. 

  • و في الدر المنثور أخرج الفاريابي و ابن أبي شيبة و ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً} قال: بردت عليه حتى كادت تؤذيه حتى قيل: و سلاما قال: لا تؤذيه. 

  • و في الكافي و العيون عن الرضا (عليه السلام) في حديث في الإمامة قال: ثم أكرمه الله عز و جل يعني إبراهيم بأن جعلها يعني الإمامة في ذريته و أهل الصفوة و الطهارة فقال عز و جل: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال الله جل جلاله: {إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ} فكانت خاصة. 

  • فقلدها علي (عليه السلام) بأمر الله عز و جل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم و الإيمان بقوله تعالى: {قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‌ يَوْمِ اَلْبَعْثِ} فهي في ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في المعاني بإسناده عن يحيى بن عمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً} قال: ولد الولد نافلة.

  • و في تفسير القمي: في قوله: {وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبَائِثَ} 

تفسير الميزان ج۱٤

309
  • قال: كانوا ينكحون الرجال. 

  • أقول: و الروايات في قصص إبراهيم (عليه السلام) كثيرة جدا لكنها مختلفة اختلافا شديدا في الخصوصيات مما لا يرجع إلى منطوق الكتاب، و قد اكتفينا منها بما قدمناه و قد أوردنا ما هو المستخرج من قصصه من كلامه تعالى في تفسير سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.

  •  

  • [سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٧٨ الی ٩١]

  • {وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ٧٨ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنَّا فَاعِلِينَ ٧٩ وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ٨٠وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى‌ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَالِمِينَ ٨١ وَ مِنَ اَلشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ٨٢ وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادى‌ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ٨٣ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ ذِكْرى‌ لِلْعَابِدِينَ ٨٤ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصَّابِرِينَ ٨٥ وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٨٦ وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادى‌ فِي اَلظُّلُمَاتِ

تفسير الميزان ج۱٤

310
  • أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ ٨٧ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ ٨٨ وَ زَكَرِيَّا إِذْ نَادى‌ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ ٨٩ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيى‌ وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ٩٠وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ٩١} 

  • (بيان) 

  • تذكر الآيات جماعة آخرين من الأنبياء و هم داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى (عليه السلام)، و لم يراع في ذكرهم الترتيب بحسب الزمان و لا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في الآيات السابقة، و قد أشار سبحانه إلى شي‌ء من نعمه العظام على بعضهم و اكتفى في بعضهم بمجرد ذكر الاسم. 

  • قوله تعالى{وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ} إلى قوله {حُكْماً وَ عِلْماً} الحرث‌ الزرع و الحرث أيضا الكرم، و النفش‌ رعي الماشية بالليل، و في المجمع: النفش بفتح الفاء و سكونها أن تنتشر الإبل و الغنم بالليل فترعى بلا راع. انتهى. 

  • و قوله: {وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ} السياق يعطي أنها واقعة واحدة بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هو الملك الحاكم في بني إسرائيل 

تفسير الميزان ج۱٤

311
  • و قد جعله الله خليفة في الأرض كما قال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ}: ص: ٢٦ فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه و لحكمة ما و لعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود. 

  • و من المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحدة شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم و نفوذه، و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ} إذ يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، و يؤيده كمال التأييد التعبير بقوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ} على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذا تدريجيا لم يتم بعد و لن يتم إلا حكما واحدا نافذا و كان الظاهر أن يقال: إذ حكما. 

  • و يؤيده أيضا قوله: {وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فإن الظاهر أن ضمير {لِحُكْمِهِمْ} للأنبياء و قد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير لداود و سليمان و المحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلا فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الأنبياء و الظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه. 

  • فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما واقعيا لله ناسخا أحدهما و هو حكم سليمان الآخر و هو حكم داود لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} و إما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم الواقعي و قد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه. 

  • أما الأول و هو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ و المنسوخ متباينان و لو كان حكماهما من قبيل النسخ و متباينين لقيل: و كنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد و التباين و لم يقل: {وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} المشعر بوحدة الحكم و كونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطإ، و لو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطإ، و لا يناسبه أيضا قوله: {وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً} و هو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح. 

  • و أما الثاني و هو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} و هو العلم بحكم الله الواقعي 

تفسير الميزان ج۱٤

312
  • و كيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني. ثم يقول: {وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً} فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا و لو لم يشمل قوله: {وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً} حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لإيراد الجملة في المورد. 

  • على أنك سمعت أن قوله: {وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحدا و مصونا عن الخطإ. فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء و كان حكم سليمان أوفق و أرفق. 

  • و قد وردت في روايات الشيعة و أهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم و سليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع و صوف و نتاج. 

  • و لعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها و كان ذلك مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، و حكم سليمان بما هو أرفق منه و هو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة و المنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة. 

  • فقوله: {وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ} أي و اذكر داود و سليمان {إِذْ} حين {يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ} {إِذْ} حين {نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ} أي تفرقت فيه ليلا و أفسدته {وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ} أي لحكم الأنبياء، و قيل: الضمير راجع إلى داود و سليمان و المحكوم له، و قد عرفت ما فيه، و قيل: الضمير لداود و سليمان لأن الاثنين جمع و هو كما ترى {شَاهِدِينَ} حاضرين نرى و نسمع و نوقفهم على وجه الصواب فيه {فَفَهَّمْنَاهَا} أي الحكومة و القضية {سُلَيْمَانَ وَ كُلاًّ} من داود و سليمان {آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً} و ربما قيل: إن تقدير صدر الآية «و آتينا داود و سليمان حكما و علما» إذ يحكمان إلخ. 

  • قوله تعالى{وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنَّا فَاعِلِينَ} التسخير هو تذليل الشي‌ء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر بكسر الخاء و هذا غير الإجبار و الإكراه و القسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر بفتح الخاء فإنه جار على مقتضى طبعه و اختياره كما أن إحراق الإنسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار و ليست بمقسورة و كذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير و ليس بمجبر و لا مكره. 

  • و من هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال و الطير مع داود يسبحن معه أن لهما 

تفسير الميزان ج۱٤

313
  • تسبيحا في نفسهما و تسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله: {يُسَبِّحْنَ} بيان لقوله: {وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ} و قوله: {وَ اَلطَّيْرَ} معطوف على الجبال. 

  • و قوله: {وَ كُنَّا فَاعِلِينَ} أي كانت أمثال هذه المواهب و العنايات من سنتنا و ليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منا. 

  • قوله تعالى{وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}. قال في المجمع: اللبوس‌ اسم للسلاح كله عند العرب إلى أن قال و قيل: هو الدرع انتهى. و في المفردات: و قوله تعالى: {صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} يعني به الدرع. 

  • و البأس‌ شدة القتال و كأن المراد به في الآية شدة وقع السلاح و ضمير {وَ عَلَّمْنَاهُ} لداود كما قال في موضع آخر: {وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ} و المعنى و علمنا داود صنعة درعكم أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم و تمنعكم شدة وقع السلاح و قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} تقرير على الشكر. 

  • قوله تعالى{وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} إلخ. عطف على قوله {مَعَ دَاوُدَ} أي و سخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها و هي أرض الشام التي كان يأوي إليها سليمان و كنا عالمين بكل شي‌ء. 

  • و ذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها و رخائها كما قال: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (ص) - ٣٦ أن تسخير الريح عاصفة أعجب و أدل على القدرة. 

  • قيل: و لشيوع كونه (عليه السلام) ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها و اقتصر على ذكر جريانها إليها و هو أظهر في الامتنان انتهى، و يمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لترده إليها و تنزله فيها بعد ما حملته، و على هذا يشمل الكلام الخروج منها و الرجوع إليها جميعا. 

  • قوله تعالى{وَ مِنَ اَلشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي و غيرها، و المراد بالعمل 

تفسير الميزان ج۱٤

314
  • الذي دون ذلك ما ذكره بقوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} سبأ: ١٣، و المراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته و منعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الأمر، و المعنى ظاهر و ستجي‌ء قصتا داود و سليمان (عليه السلام) في سورة سبإ إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادىَ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} الضر بالضم خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض و الهزال و نحوهما و بالفتح أعم. 

  • و قد شملته (عليه السلام) البلية فذهب ماله و مات أولاده و ابتلي في بدنه بمرض شديد مدة مديدة ثم دعا الله و شكى إليه حاله فاستجاب الله له و نجاه من مرضه و أعاد عليه ماله و ولده و مثلهم معهم و هو قوله في الآية التالية: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} أي نجيناه من مرضه و شفيناه {وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} أي من مات من أولاده {وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ ذِكْرىَ لِلْعَابِدِينَ} ليتذكروا و يعلموا أن الله يبتلي أولياءه امتحانا منه لهم ثم يؤتيهم أجرهم و لا يضيع أجر المحسنين. 

  • و ستجي‌ء قصة أيوب (عليه السلام) في سورة _ ص إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ} إلخ. أما إدريس (عليه السلام) فقد تقدمت قصته في سورة مريم، و أما إسماعيل فستجي‌ء قصته في سورة الصافات، و تأتي قصة ذي الكفل في سورة _ ص إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} إلخ. النون‌ الحوت و ذو النون‌ هو يونس النبي ابن متى صاحب الحوت الذي بعث إلى أهل نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذبهم فلما أشرف عليهم العذاب تابوا و آمنوا فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى في بطنه فكشف عنه و أرسله ثانيا إلى قومه. 

  • و قوله: {وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي و اذكر ذا النون إذ ذهب مغاضبا أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل. 

تفسير الميزان ج۱٤

315
  • و يمكن أن يكون قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} واردا مورد التمثيل أي كان ذهابه هذا و مفارقة قومه ذهاب من كان مغاضبا لمولاه و هو يظن أن مولاه لن يقدر عليه و هو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته و أما كونه (عليه السلام) مغاضبا لربه حقيقة و ظنه أن الله لا يقدر عليه جدا فمما يجل ساحة الأنبياء الكرام عن ذلك قطعا و هم معصومون بعصمة الله. 

  • و قوله: {فَنَادىَ فِي اَلظُّلُمَاتِ} إلخ. فيه إيجاز بالحذف و الكلام متفرع عليه و التقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه فنادى في بطنه ربه، و الظاهر أن المراد بالظلمات كما قيل -ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت و ظلمة الليل. 

  • و قوله: {أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ} تبر منه (عليه السلام) مما كان يمثله ذهابه لوجهه و مفارقته قومه من غير أن يؤمر فإن ذهابه ذلك كان يمثل و إن لم يكن قاصدا ذلك متعمدا فيه أن هناك مرجعا يمكن أن يرجع إليه غير ربه فتبرأ من ذلك بقوله {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ}، و كان يمثل أن من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه و أن من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرأ من ذلك بتنزيهه بقوله: سبحانك. 

  • و قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} اعتراف بالظلم من حيث إنه أتى بعمل كان يمثل الظلم و إن لم يكن ظلما في نفسه و لا هو (عليه السلام) قصد به الظلم و المعصية غير أن ذلك كان تأديبا منه تعالى و تربية لنبيه ليطأ بساط القرب بقدم مبرأة في مشيتها من تمثيل الظلم فضلا عن نفس الظلم. 

  • قوله تعالى{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ} هو (عليه السلام) و إن لم يصرح بشي‌ء من الطلب و الدعاء، و إنما أتى بالتوحيد و التنزيه و اعترف بالظلم لكنه أظهر بذلك حاله و أبدى موقفه من ربه و فيه سؤال النجاة و العافية فاستجاب الله له. و نجاه من الغم و هو الكرب الذي نزل به. 

  • و قوله: {وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ} وعد بالإنجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغم ثم نادى ربه بمثل ما نادى به يونس (عليه السلام) و ستجي‌ء قصته (عليه السلام) في سورة الصافات إن شاء الله. 

تفسير الميزان ج۱٤

316
  • قوله تعالى{وَ زَكَرِيَّا إِذْ نَادىَ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ} معطوف على ما عطف عليه ما قبله أي و اذكر زكريا حين نادى ربه يسأل ولدا و قوله: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} بيان لندائه، و المراد بتركه فردا أن يترك و لا ولد له يرثه. 

  • و قوله: {وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ} ثناء و تحميد له تعالى بحسب لفظه و نوع تنزيه له بحسب المقام إذ لما قال: {لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} و هو كناية عن طلب الوارث و الله سبحانه هو الذي يرث كل شي‌ء نزهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة و رفعه عن مساواة غيره فقال: {وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ}

  • قوله تعالى{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيىَ وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} إلخ. ظاهر الكلام أن المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريا له جعلها شابة ولودا بعد ما كانت عاقرا كما يصرح به في دعائه {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً} مريم: ٨. 

  • و قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ظاهر السياق أن ضمير الجمع لبيت زكريا، و كأنه تعليل لمقدر معلوم من سابق الكلام و التقدير نحو من قولنا: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات. 

  • و الرغب و الرهب‌ مصدران كالرغبة و الرهبة بمعنى الطمع و الخوف و هما تمييزان إن كانا باقيين على معناهما المصدري و حالان إن كانا بمعنى الفاعل و الخشوع‌ هو تأثر القلب من مشاهدة العظمة و الكبرياء. 

  • و المعنى: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال و يدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين و كانوا لنا خاشعين بقلوبهم. 

  • و قد تقدمت قصة زكريا و يحيى (عليه السلام) في أوائل سورة مريم. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} المراد بالتي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران و فيه مدح لها بالعفة و الصيانة و رد لما اتهمها به اليهود. 

  • و قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} الضمير لمريم و النفخ فيها من الروح كناية عن عدم استناد ولادة عيسى (عليه السلام) إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصور 

تفسير الميزان ج۱٤

317
  • النطفة أولا ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا نفخ الروح فيها و هي الكلمة الإلهية كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} آل عمران: ٥٩ أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة. 

  • و قوله: {وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أفرد الآية فعدهما أعني مريم و عيسى (عليه السلام) معا آية واحدة للعالمين لأن الآية هي الولادة كذلك و هي قائمة بهما معا و مريم أسبق قدما في إقامة هذه الآية و لذا قال تعالى: {وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً} و لم يقل: و جعلنا ابنها و إياها آية. و كفى لها فخرا أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء (عليه السلام) في كلامه تعالى و ليست منهم. 

  • (بحث روائي) 

  • في الفقيه روى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ} قال: لم يحكما إنما كانا يتناظران ففهمها سليمان

  • أقول: تقدم في بيان معنى الآية ما يتضح به معنى الحديث. 

  • و في الكافي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلى أبي عثمان عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ} فقال: لا يكون النفش إلا بالليل إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، و ليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار إنما رعاها۱ بالنهار و أرزاقها فما أفسدت فليس عليها، و على صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا و هو النفش. 

  • و إن داود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، و حكم سليمان الرسل و الثلاثة و هو اللبن و الصوف في ذلك العام. 

    1. بضم الراء جمع راعي‌

تفسير الميزان ج۱٤

318
  • أقول: و روى فيه أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في الحديث: فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (عليه السلام) من قبله، و أوحى الله إلى سليمان (عليه السلام): و أي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها. و كذلك جرت السنة بعد سليمان و هو قول الله عز و جل: {وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً} فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز و جل. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في حديث ذكر فيه: أن الحرث كان كرما نفشت فيه الغنم و ذكر حكم سليمان ثم قال: و كان هذا حكم داود و إنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده، و لم يختلفا في الحكم و لو اختلف حكمهما لقال: و كنا لحكمهما شاهدين

  • و في المجمع: و اختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه كان كرما قد بدت عناقيده - فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله ارفق. قال: و ما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان و تدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • أقول: و روي :كون الحرث كرما من طرق أهل السنة عن عبد الله بن مسعود و هناك روايات أخر عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) قريبة المضامين مما أوردناه، و ما مر في بيان معنى الآية يكفي في توضيح مضامين الروايات. 

  • و في تفسير القمي و قوله عز و جل: {وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً} قال: تجري من كل جانب {إِلى‌ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قال: إلى بيت المقدس و الشام. 

  • و فيه أيضا بإسناده عن عبد الله بن بكير و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال: أحيا الله عز و جل له أهله الذين كانوا قبل البلية و أحيا له الذين ماتوا و هو في البلية

  • و فيه أيضا و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} يقول: من أعمال قومه {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} يقول: ظن أن لن يعاقب بما صنع. 

تفسير الميزان ج۱٤

319
  • و في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون في عصمة الأنبياء قال (عليه السلام): و أما قوله: {وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} إنما {فَظَنَّ} بمعنى استيقن أن لن يضيق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله عز و جل: {وَ أَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيق عليه رزقه. و لو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر

  • و في التهذيب بإسناده عن الزيات عن رجل عن كرام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أربع لأربع إلى أن قال و الرابعة للغم و الهم {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} قال الله سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ}

  • أقول: و روى هذا المعنى في الخصال، عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مرسلا. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: اسم الله الذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة و للمؤمنين إذا دعوا بها أ لم تسمع قول الله: {وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ} فهو شرط من الله لمن دعاه. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال: كانت لا تحيض فحاضت. 

  • و في المعاني بإسناده إلى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء و تستقبل بهما وجهك، و الرهبة أن تلقي كفيك و ترفعهما إلى الوجه

  • أقول: و روى مثله في الكافي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله (عليه السلام) و لفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء، و الرهبة أن تجعل ظهر كفيك إلى السماء.

  •  و في تفسير القمي: {يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً} قال: راغبين راهبين، و قوله: {اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} قال: مريم لم ينظر إليها شي‌ء، و قوله {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قال: روح مخلوقة يعني من أمرنا. 

تفسير الميزان ج۱٤

320
  • [سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٩٢ الی ١١٢]

  • {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ٩٢ وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ٩٣ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ٩٤ وَ حَرَامٌ عَلى‌ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ٩٥ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ٩٦ وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ٩٧ إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ٩٨ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ٩٩ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ١٠٠إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‌ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ١٠١ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ١٠٢ لاَ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ١٠٣ يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ١٠٤ وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ ١٠٥ إِنَّ فِي هَذَا

تفسير الميزان ج۱٤

321
  • لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ١٠٦ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ١٠٧ قُلْ إِنَّمَا يُوحىَ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٠٨ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‌ سَوَاءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ١٠٩ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ١١٠وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ ١١١ قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمَنُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ ١١٢} 

  • (بيان) 

  • في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا و هو الذي فطر السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة و إجابة دعوتها و يستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، و لم تندب النبوة إلا إلى دين واحد و هو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل و من قبله إبراهيم و من قبله نوح و من جاء بعد موسى و قبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم و نبذة مما أنعم به عليهم كأيوب و إدريس و غيرهما. 

  • فالبشر ليس إلا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه و دين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم و تشتتوا في أديانهم و اختلقوا لهم آلهة دون الله و أديانا غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم و تباينت غاية مسيرهم في الدنيا و الآخرة. 

  • أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم و لا يشاهدون ما يسوؤهم و لن يزالوا في نعمة و كرامة، و أما غيرهم فإلى العذاب و العقاب. 

تفسير الميزان ج۱٤

322
  • و أما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض و يجعل لهم عاقبة الدار و الطالحون إلى هلاك و دمار و خسران و سعي و بوار. 

  • قوله تعالى{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد، و الخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، و المراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد، و تأنيث الإشارة في قوله {هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} لتأنيث الخبر. 

  • و المعنى: أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر و هي أمة واحدة و أنا الله الواحد عز اسمه ربكم إذ ملكتكم و دبرت أمركم فاعبدوني لا غير. 

  • و في قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع الإنساني لما كان نوعا واحدا و أمة واحدة ذات مقصد واحد و هو سعادة الحياة الإنسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية و الألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء و كم يشاء و كيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، و الإنسان حقيقة نوعية واحدة، و النظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض و نظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية. و هو الله عز اسمه. 

  • و قيل: المراد بالأمة الدين، و الإشارة بهذه إلى دين الإسلام الذي كان دين الأنبياء و المراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، و المعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها و هي ملة اتفقت الأنبياء (عليه السلام) عليها. 

  • و هو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الإيصال إليه إلا بقرينة صارفة و لا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته و استقامته و تأيده بسائر كلامه تعالى كقوله: {وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} يونس: ١٩ و هو كما ترى يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية و الآية التي تليها. 

تفسير الميزان ج۱٤

323
  • على أن التعبير في قوله: {وَ أَنَا رَبُّكُمْ} بالرب دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد و أنا المالك المدبر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها. 

  • و في الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات. 

  • قوله تعالى{وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} التقطع‌ على ما قال في مجمع البيان، بمعنى التقطيع و هو التفريق، و قيل: هو بمعناه المتبادر و هو التفرق و الاختلاف و {أَمْرَهُمْ} منصوب بنزع الخافض، و التقدير فتقطعوا في أمرهم و قيل {تَقَطَّعُوا} مضمن معنى الجعل و لذا عدي إلى المفعول بنفسه. 

  • و كيف كان فقوله: {وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} استعارة بالكناية و المراد به أنهم جعلوا هذا الأمر الواحد و هو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة و هو أمر وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه و ترك شيئا كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين على اختلاف طوائفهم و هذا نوع تقريع للناس و ذم لاختلافهم في الدين و تركهم الأمر الإلهي أن يعبدوه وحده. 

  • و قوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا و هم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ} إلخ. 

  • و الفصل في جملة: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ و ما ذا ينتج؟ فقيل: كل إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا. 

  • قوله تعالى{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي و سيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}

تفسير الميزان ج۱٤

324
  • فقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ} أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات و قد قيد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال: {وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان. 

  • و المراد بالإيمان على ما يظهر من السياق و خاصة قوله في الآية الماضية: {وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} الإيمان بالله قطعا غير أن الإيمان بالله لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا} النساء: ١٥١. 

  • و قوله: {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا ستر على ما عمله من الصالحات و الكفران يقابل الشكر و لذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: {وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} الدهر: ٢٢. 

  • و قوله: {وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه فالمراد بقوله: {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} إن عمله الصالح لا ينسى و لا يكفر. 

  • و الآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيده آيات حبط الأعمال مع الكفر، و تدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة. 

  • قوله تعالى{وَ حَرَامٌ عَلىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} الذي يستبق من الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة و يتداركوا ما فوتوه من الصالحات و هو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الآخر قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} إلخ. فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب و سعي مشكور و إنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا و لا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته. 

  • غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: {وَ حَرَامٌ عَلىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} 

تفسير الميزان ج۱٤

325
  • و لم يقل: و حرام على من أهلكناه لأن فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع و ينتهي إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: {وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً}: إسراء: ٥٨. 

  • و يمكن على بعد أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة و الهدى كما في قوله: {وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ} الأنعام : ٢٦ فتكون الآية في معنى قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} النحل - ٣٧، و المعنى و حرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم و قضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة و حال الاستقامة. 

  • و معنى الآية و القرية التي لم تعمل من الصالحات و هي مؤمنة و أنجز أمرها إلى الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور و العمل المكتوب المقبول. 

  • و أما قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} و كان الظاهر أن يقال: إنهم يرجعون فالحق أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشي‌ء أعني ما يئول إليه حال المتعلق بعد تعلقه به موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة و في هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل. 

  • و نظيره أيضا قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الأعراف: ١٢ حيث إن تعلق المنع بالسجدة يئول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع. 

  • و نظيره أيضا قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الأنعام: ١٥١ حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق و قد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر بتوجيه آخر أيضا. 

  • و للقوم في توجيه الآية وجوه: 

  • منها: أن لا زائدة و الأصل أنهم يرجعون. 

تفسير الميزان ج۱٤

326
  • و منها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون و استدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء: 

  • و إن حراما لا أرى الدهر باكيا***على شجوة إلا بكيت على صخر
  • و منها: أن متعلق الحرمة محذوف و التقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة. 

  • و منها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع إلى الدنيا و المعنى على استقامة اللفظ و ممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة؛ و أنت خبير بما في كل من هذه الوجوه من الضعف. 

  • قوله تعالى{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} الحدب‌ بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، و النسول‌ الخروج بإسراع و منه نسلان الذئب، و السياق يقتضي أن يكون قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} إلخ. غاية للتفصيل المذكور في قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ} إلى آخر الآيتين، و أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج و مأجوج. 

  • و المعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين و نشكر سعيهم و نهلك القرى الظالمة و نحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه يأجوج و مأجوج أي سدهم أو طريقهم المسدود و هم أي يأجوج و مأجوج يخرجون إلى سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم و هو من أشراط الساعة و أمارات القيامة كما يشير إليه بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} الكهف: ٩٩ و قد استوفينا الكلام في معنى يأجوج و مأجوج و السد المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف. 

  • و قيل: ضمير الجمع للناس و المراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر. 

  • و فيه أن سياق ما قبل الجملة {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} إلخ. و ما بعدها {وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ} لا يناسب هذا المعنى، و كذا نفس الجملة من جهة كونها حالا. على أن النسول من كل حدب و قد اشتملت عليه الجملة لا يصدق على الخروج من القبور 

تفسير الميزان ج۱٤

327
  • و لذا قرأ صاحب هذا القول و هو مجاهد الجدث بالجيم و الثاء المثلثة و هو القبر. 

  • قوله تعالى{وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ. المراد بالوعد الحق الساعة، و شخوص‌ البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب و هو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره و يكون غالبا في الشر الذي يظهر للإنسان بغتة. 

  • و قوله: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} حكاية قول الكفار إذا شاهدوا الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا إغفالا ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة و يغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}

  • قوله تعالى{إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الحصب‌ الوقود، و قيل: الحطب، و قيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعم. 

  • و المراد بقوله: {وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ} و لم يقل: و من تعبدون مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بعد: {مَا وَرَدُوهَا} الأصنام و التماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء و الصلحاء و الملائكة كما قيل و يدل على ذلك قوله بعد: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ} إلخ. 

  • و الظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار و فيها القضاء بدخولهم في النار و خلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة و استدلال على بطلان عبادة الأصنام و اتخاذهم آلهة من دون الله. 

  • و قوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، و ظاهر السياق أن الخطاب شامل للكفار و الآلهة جميعا أي أنتم و آلهتكم تردون جهنم أو تردون إليها. 

  • قوله تعالى{لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} تفريع و إظهار لحقيقة حال الآلهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، و قوله: {وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي كل منكم و من الآلهة. 

تفسير الميزان ج۱٤

328
  • قوله تعالى{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} الزفير هو الصوت برد النفس إلى داخل و لذا فسر بصوت الحمار، و كونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا. 

  • و في الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إعراضا عن خطابهم ليبين سوء حالهم لغيرهم، و عليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا لهم و للآلهة معا. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الحسنى‌ مؤنث أحسن و هي وصف قائم مقام موصوفه و التقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة أو بالجنة و الموعدة بكل منهما وارد في كلامه تعالى قال: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} مريم: ٧٢ و قال: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} التوبة: ٧٢. 

  • قوله تعالى{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} إلى قوله {تُوعَدُونَ} الحسيس‌ الصوت الذي يحس به، و الفزع الأكبر الخوف الأعظم و قد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ الصور حيث قال: {وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} النمل: ٨٧. 

  • و قوله: {وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ} أي بالبشرى و هي قولهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

  • قوله تعالى{يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} إلى آخر الآية، قال في المفردات: و السجل‌ قيل: حجر كان يكتب فيه ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا قال تعالى: {كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أي كطيه لما كتب فيه حفظا له، انتهى. و هذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة و أبسطه. 

  • و على هذا فقوله: {لِلْكُتُبِ} مفعول طي كما أن السجل فاعله و المراد أن السجل و هو الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيه الكتاب و هو الألفاظ أو المعاني التي لها نوع تحقق و ثبوت في السجل بتوسط الخطوط و النقوش فغاب الكتاب بذلك و لم يظهر منه عين و لا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة الإلهية كما قال: {وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الزمر: ٦٧ فتغيب عن غيره و لا يظهر منها عين و لا أثر غير أنها لا تغيب عن عالم الغيب و إن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن السجل 

تفسير الميزان ج۱٤

329
  • و إن غاب عن غيره. 

  • فطي السماء على هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها و قدرت كما قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١ و قال مطلقا: {وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ} آل عمران: ٢٨ و قال: {إِنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلرُّجْعىَ} العلق: ٨. 

  • و لعله بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إن قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} ناظر إلى رجوع كل شي‌ء إلى حاله التي كان عليها حين ابتدأ خلقه و هي أنه لم يكن شيئا مذكورا كما قال تعالى: {وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً} مريم: ٩، و قال {هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} : الدهر: ١. 

  • و هذا معنى ما نسب إلى ابن عباس أن معنى الآية يهلك كل شي‌ء كما كان أول مرة و هو و إن كان مناسبا للاتصال بقوله: {يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ} إلخ. ليقع في مقام التعليل له لكن الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء و إرجاعها إلى حالها قبل ظهورها بالوجود. 

  • فظاهر سياق الآيات أن المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} للتشبيه و {كَمَا} مصدرية و {أَوَّلَ خَلْقٍ} مفعول {بَدَأْنَا} و المراد أنا نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعز علينا. 

  • و قوله: {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك و وجب علينا الوفاء به و إنا كنا فاعلين لما وعدنا و سنتنا ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ} الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود (عليه السلام) و قد سمي بهذا الاسم في قوله: {وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} النساء: ١٦٣، إسراء: ٥٥، و قيل: المراد به القرآن، و قيل: مطلق الكتب المنزلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى و لا دليل على شي‌ء من ذلك. 

  • و المراد بالذكر قيل: هو التوراة و قد سماها الله به في موضعين من هذه السورة و هما قوله: {فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الآية) - ٧ و قوله: {وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} (الآية) - ٤٨ منها، و قيل: هو القرآن و قد سماه الله ذكرا في مواضع من كلامه و كون 

تفسير الميزان ج۱٤

330
  • الزبور بعد الذكر على هذا القول بعدية رتبية لا زمانية و قيل: هو اللوح المحفوظ و هو كما ترى. 

  • و قوله: {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ} الوراثة و الإرث‌ على ما ذكره الراغب انتقال قنية إليك من غير معاملة. 

  • و المراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم و استقرار بركات الحياة بها فيهم، و هذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتع الصالح بأمتعتها و زيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستطهر من الشرك و المعصية و يسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله و لا يشركون به شيئا كما يشير إليه قوله تعالى: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} إلى قوله {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} النور: ٥٥. 

  • و إما أخروية و هي مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنها من بركات الحياة الأرضية و هي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} الزمر: ٧٤ و قوله: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ} المؤمنون: ١١. 

  • و من هنا يظهر أن الآية مطلقة و لا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه فهم بين من يخصها بالوراثة الأخروية تمسكا بما يناسبها من الآيات، و ربما استدلوا لتعينه بأن الآية السابقة تذكر الإعادة و لا أرض بعد الإعادة حتى يرثها الصالحون، و يرده أن كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعين فمن الممكن أن تكون معطوفة على قوله السابق: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ} كما سنشير إليه. 

  • و بين من يخصها بالوراثة الدنيوية و يحملها على زمان ظهور الإسلام أو ظهور المهدي (عليه السلام) الذي أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الأخبار المتواترة المروية من طرق الفريقين، و يتمسك لذلك بالآيات المناسبة له التي أومأنا إلى بعضها. 

  • و بالجملة الآية مطلقة تعم الوراثتين جميعا غير أن الذي يقتضيه الاعتبار بالسياق أن تكون معطوفة على قوله السابق: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} إلخ. 

تفسير الميزان ج۱٤

331
  • المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخروي و تكون هذه الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيوي، و يكون المحصل أنا أمرناهم بدين واحد لكنهم تقطعوا و اختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أما في الآخرة فللمؤمنين سعي مشكور و عمل مكتوب و للكافرين خلاف ذلك، و أما في الدنيا فللصالحين وراثة الأرض بخلاف غيرهم. 

  • قوله تعالى{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} البلاغ‌ هو الكفاية، و أيضا ما به بلوغ البغية، و أيضا نفس البلوغ، و معنى الآية مستقيم على كل من المعاني الثلاثة، و الإشارة بهذا إلى ما بين في السورة من المعارف. 

  • و المعنى: أن فيما بيناه في السورة أن الرب واحد لا رب غيره يجب أن يعبد من طريق النبوة و يستعد بذلك ليوم الحساب، و أن جزاء المؤمنين كذا و كذا و جزاء الكافرين كيت و كيت كفاية لقوم عابدين إن أخذوه و عملوا به كفاهم و بلغوا بذلك بغيتهم. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم و الدليل عليه الجمع المحلى باللام و ذلك مقتضى عموم الرسالة. 

  • و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم و أخراهم. 

  • و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطبيق إحدى الحياتين على الأخرى. 

  • قوله تعالى{قُلْ إِنَّمَا يُوحىَ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي إن الذي يوحى إلي من الدين ليس إلا التوحيد و ما يتفرع عليه و ينحل إليه سواء كان عقيدة أو حكما و الدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر و ظهوره في الحصر الحقيقي. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلىَ سَوَاءٍ} الإيذان كما قيل إفعال من الإذن و هو العلم بالإجازة في شي‌ء و ترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم و اشتق منه 

تفسير الميزان ج۱٤

332
  • الأفعال و كثيرا ما يتضمن معنى التحذير و الإنذار. 

  • و قوله: {عَلىَ سَوَاءٍ} الظاهر أنه حال من مفعول {آذَنْتُكُمْ} و المعنى فإن أعرضوا عن دعوتك و تولوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها لكونكم مساوين في الاعلام أو في الخطر، و قيل: أعلمتكم بالحرب و هو بعيد في سورة مكية. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المأمور به. 

  • و المراد بقوله: {مَا تُوعَدُونَ} ما يشير إليه قوله: {آذَنْتُكُمْ عَلىَ سَوَاءٍ} من العذاب المهدد به أمر (صلى الله عليه وآله و سلم) أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن الإسلام، و ثانيا أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه و بعده و يعلله بقصر العلم بالجهر من قولهم - و هو طعنهم في الإسلام و استهزاؤهم علنا - و ما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر. 

  • و منه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في الظاهر و ما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في هذه الدعوة الإلهية و إضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر قولهم و باطن مكرهم و لا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل و بعده فأنف العلم بخصوصية قربه و بعده عن نفسك و أرجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده. 

  • و قد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الإسلام طعنا و استهزاء، و بما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر و الخدعة. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ} من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المأمور به و ضمير {لَعَلَّهُ} على ما قيل كناية عن غير مذكور و لعله راجع إلى الإيذان المأمور به، و المعنى و ما أدري لعل هذا الإيذان الذي أمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم و يمتعكم إلى حين و أجل استدراجا و إمهالا. 

  • قوله تعالى{قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمَنُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلىَ مَا تَصِفُونَ} 

تفسير الميزان ج۱٤

333
  • الضمير في {قَالَ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن دعوتهم إلى الحق و ردهم له و توليهم عنه فكأنه (صلى الله عليه وآله و سلم) لما دعاهم و بلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا و شددوا فيه أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه و قال: {رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ} و تقييد الحكم بالحق توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل: رب احكم بحكمك الحق و المراد ظهور الحق لمن كان و على من كان. 

  • ثم التفت (صلى الله عليه وآله و سلم) إليهم و قال: {وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمَنُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلىَ مَا تَصِفُونَ} و كأنه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم و رجوعه إلى الله سبحانه و سؤاله أن يحكم بالحق فهو سبحانه ربه و ربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، و هو كثير الرحمة لا يخيب سائله المنيب إليه، و هو الذي يحكم لا معقب لحكمه و هو الذي يحق الحق و يبطل الباطل بكلماته فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) في كلمته: {رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ} راجع الذي هو ربه و ربهم و سأله برحمته أن يحكم بالحق و استعان به على ما يصفونه من الباطل و هو نعتهم دينهم بما ليس فيه و طعنهم في الدين الحق بما هو بري‌ء من ذلك. 

  • و قد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من الخطاب إلى الغيبة في {قَالَ} و التعبير عنه تعالى أولا بربي و ثانيا بربنا و توصيفه بالرحمن و المستعان إلى غير ذلك. 

  • (بحث روائي) 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {وَ حَرَامٌ عَلىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} (الآية): روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون.

  • و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} وجد منها أهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري و كفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أ محمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما. 

تفسير الميزان ج۱٤

334
  • فقال: يا محمد أ رأيت الآية التي قرأت آنفا فينا و في آلهتنا خاصة أم الأمم و آلهتهم؟ فقال: بل فيكم و في آلهتكم و في الأمم و في آلهتهم إلا من استثنى الله فقال ابن الزبعري: خصمتك و الله أ لست تثني على عيسى خيرا؟ و قد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى و أمه و أن طائفة من الناس يعبدون الملائكة أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا فضجت قريش و ضحكوا قالت قريش: خصمك ابن الزبعري. فقال رسول الله: قلتم الباطل أ ما قلت: إلا من استثنى الله و هو قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‌ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}.

  • أقول: و قد روي الحديث أيضا من طرق أهل السنة لكن المتن في هذا الطريق أمتن مما ورد من طريقهم و أسلم و هو ما عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} شق ذلك على أهل مكة و قالوا شتم الآلهة فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي فقال: يا محمد هذا شي‌ء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: بل لكل من عبد من دون الله فقال ابن الزبعري: خصمت و رب هذه البنية يعني الكعبة. أ لست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح و أن عزير عبد صالح و أن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى و هذه اليهود تعبد عزيرا و هذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة و فرحوا. 

  • فنزلت: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ} عزير و عيسى و الملائكة {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} و نزلت {وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}

  • و في هذا المتن أولا: ذكر اسم عزير و الواقعة في أوائل البعثة بمكة و لم يذكر اسمه في شي‌ء من السور المكية و إنما ذكر في سورة التوبة و هي من أواخر ما نزلت بالمدينة. 

  • و ثانيا: قوله: «و هذه اليهود تعبد عزيرا و اليهود لا تعبد عزيرا و إنما قالوا عزير ابن الله تشريفا كما قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه. 

  • و ثالثا: ما اشتمل عليه من نزول قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} بعد اعتراف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعموم قوله: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ} لكل 

تفسير الميزان ج۱٤

335
  • معبود من دون الله، و نقض ابن الزبعري ذلك بعيسى و عزير و الملائكة و هذا من ورود البيان بعد وقت الحاجة و أشد تأييدا لوقوع التهمة. 

  • و رابعا: اشتماله على نزول قوله: {وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} (الآية) في الواقعة و لا ارتباط لمضمونها بها أصلا. 

  • و نظيره ما شاع بينهم أن ابن الزبعري اعترض بذلك على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت: و ما تعبدون، و ما لم يعقل، و لم أقل: و من تعبدون. 

  • و فيه من الخلل ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من قوله: إني قلت كذا و لم أقل كذا و من الواجب أن يجل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أن يتلفظ في آية قرآنية بمثل «قلت كذا و لم أقل كذا» و نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له و لم يوجد في شي‌ء من كتب الحديث لا مسند و لا غير مسند. 

  • و نظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقص هذه القصة أن ابن الزبعري قال: أ أنت قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك و رب الكعبة أ ليس اليهود عبدوا عزيرا و النصارى عبدوا المسيح و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ} (الحديث). 

  • و ذلك أن الحجة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الحديث تنفع ابن الزبعري أكثر مما تضره فإن الحجة كما تخرج عزيرا و عيسى و الملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الآلهة التي هي أصنام فإنها تشارك المذكورين في أنها لا خبر لها عن عبادة عابديها و لا رضى منها بذلك إذ لا شعور لها فتختص الآية بالشياطين و لا تشمل الأصنام و هو خلاف ما نسب إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) من دعوى شمول الآية لآلهتهم و تصديقه. 

  • و نظيره في الضعف ما في الدر المنثور عن البزار عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ثم نسخها قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

  • و وجه الضعف ظاهر و لو كان هناك شي‌ء فهو التخصيص. 

تفسير الميزان ج۱٤

336
  • و في أمالي الصدوق عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث: يا علي أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظل العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون فيكم نزلت هذه الآية {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} و فيكم نزلت {لاَ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.

  • أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه و قد وردت روايات كثيرة في جماعة من المؤمنين عدوا ممن تجري فيه الآيتان و خاصة الثانية كمن قرأ القرآن محتسبا، و أم به قوما محتسبا، و رجل أذن محتسبا و مملوك أدى حق الله و حق مواليه‌ رواه في المجمع، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم):، و المتحابين في الله و المدلجين في الظلم و المهاجرين‌ روى في الدر المنثور، الأول عن أبي الدرداء، و الثاني عن أبي أمامة، و الثالث عن الخدري جميعا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد عد في أحاديث أئمة أهل البيت (عليه السلام) ممن تجري فيه الآية خلق كثير. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن علي: في قوله: {كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ} قال: ملك. 

  • أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن الباقر (عليه السلام) في حديث. 

  • و في تفسير القمي: و أما قوله: {يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قال: السجل اسم الملك الذي يطوي الكتب، و معنى يطويها يفنيها فتتحول دخانا و الأرض نيرانا. 

  • و في نهج البلاغة في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}

  • أقول: استشهاده (عليه السلام) بالآية يقبل الانطباق على كل من معنيي الإعادة أعني إعادة الخلق إلى ما بدءوا منه و إعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما كانوا قبل موتهم، و قد تقدم المعنيان في بيان الآية. 

تفسير الميزان ج۱٤

337
  • و في المجمع و يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: تحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.

  • أقول: و روى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوريستي بإسناده عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في تفسير القمي: و قوله: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ} قال الكتب كلها ذكر {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ} قال: القائم و أصحابه قال: و الزبور فيه ملاحم و التحميد و التمجيد و الدعاء. 

  • أقول: و الروايات في المهدي (عليه السلام) و ظهوره و ملئه الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) بالغة حد التواتر، من أراد الوقوف عليها فليراجع مظانها من كتب العامة و الخاصة. 

  • و في الدر المنثور أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما أنا رحمة مهداة. 

تفسير الميزان ج۱٤

338
  • (٢٢) سورة الحج مدنية و هي ثمان و سبعون آية (٧٨) 

  • [سورة الحج (٢٢): الآیات ١ الی ٢]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْ‌ءٌ عَظِيمٌ ١ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارى‌ وَ مَا هُمْ بِسُكَارى‌ وَ لَكِنَّ عَذَابَ اَللَّهِ شَدِيدٌ ٢} 

  • (بيان) 

  • السورة تخاطب المشركين بأصول الدين إنذارا و تخويفا كما كانوا يخاطبون في السور النازلة قبل الهجرة في سياق يشهد بأن لهم بعد شوكة و قوة، و تخاطب المؤمنين بمثل الصلاة و مسائل الحج و عمل الخير و الإذن في القتال و الجهاد في سياق يشهد بأن لهم مجتمعا حديث العهد بالانعقاد قائما على ساق لا يخلو من عدة و عدة و شوكة. 

  • و يتعين بذلك أن السورة مدنية نزلت بالمدينة ما بين هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غزوة بدر و غرضها بيان أصول الدين بيانا تفصيليا ينتفع بها المشرك و الموحد و فروعها بيانا إجماليا ينتفع بها الموحدون من المؤمنين إذ لم يكن تفاصيل الأحكام الفرعية مشرعة يومئذ إلا مثل الصلاة و الحج كما في السورة. 

  • و لكون دعوة المشركين إلى الأصول من طريق الإنذار و كذا ندب المؤمنين إلى إجمال الفروع بلسان الأمر بالتقوى بسط الكلام في وصف يوم القيامة و افتتح السورة بالزلزلة التي هي من أشراطها و بها خراب الأرض و اندكاك الجبال. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْ‌ءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة و الزلزال‌ شدة الحركة على الحال الهائلة و كأنه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من زل بمعنى زلق فكرر للمبالغة و الإشارة إلى تكرر الزلة، و هو شائع في نظائره مثل ذب و ذبذب و دم و دمدم و كب و كبكب و دك و دكدك و رف و رفرف و غيرها. 

تفسير الميزان ج۱٤

339
  • الخطاب يشمل الناس جميعا من مؤمن و كافر و ذكر و أنثى و حاضر و غائب و موجود بالفعل و من سيوجد منهم، و ذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكل لاتحاد الجميع بالنوع. 

  • و هو أمر الناس أن يتقوا ربهم فيتقيه الكافر بالإيمان و المؤمن بالتجنب عن مخالفة أوامره و نواهيه في الفروع، و قد علل الأمر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة من طريق الإنذار. 

  • و إضافة الزلزلة إلى الساعة لكونها من أشراطها و أماراتها، و قيل: المراد بزلزلة الساعة شدتها و هولها، و لا يخلو من بعد من جهة اللفظ. 

  • قوله تعالى{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} الذهول‌ الذهاب عن الشي‌ء مع دهشة، و الحمل‌ بالفتح الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن و بالكسر الثقل المحمول في الظاهر كحمل بعير قاله الراغب. 

  • و قال في مجمع البيان: الحمل‌ بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، و الحمل‌ بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس. 

  • قال في الكشاف: إن قيل: لم قيل: {مُرْضِعَةٍ} دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، و المرضع التي شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل: مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة. 

  • و قال: فإن قلت: لم قيل أولا: ترون ثم قيل: ترى على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، و هي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم انتهى. 

  • و قوله: {وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارىَ وَ مَا هُمْ بِسُكَارىَ} نفى السكر بعد إثباته للدلالة على أن سكرهم و هو ذهاب العقول و سقوطها في مهبط الدهشة و البهت ليس معلولا للخمر بل شدة عذاب الله هي التي أوقعتها فيما وقعت و قد قال تعالى: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} هود: ١٠٢. 

  • و ظاهر الآية أن هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى التي يخبر تعالى عنها بقوله: {وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىَ فَإِذَا هُمْ 

تفسير الميزان ج۱٤

340
  • قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} الزمر: ٦٨ و ذلك لأن الآية تفرض الناس في حال عادية تفاجئهم فيها زلزلة الساعة فتنقلب حالهم من مشاهدتها إلى ما وصف، و هذا قبل النفخة التي تموت بها الأحياء قطعا. 

  • و قيل: إنها تمثيل شدة العذاب أي لو كان هناك راء يراها لكانت الحال هي الحال، و وقوع الآية في مقام الإنذار و التخويف لا يناسبه تلك المناسبة إذ الإنذار بعذاب لا يعلم به لا وجه له. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه من طرق عن الحسن و غيره عن عمران بن حصين قال :لما نزلت {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْ‌ءٌ عَظِيمٌ} إلى قوله: {وَ لَكِنَّ عَذَابَ اَللَّهِ شَدِيدٌ} أنزلت عليه هذه و هو في سفر فقال: أ تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب و ما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار و واحدا إلى الجنة. 

  • فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قاربوا و سددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت و إلا أكملت من المنافقين، و ما مثلكم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير. 

  • ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا. قال: فلا أدري قال: الثلثين، أم لا؟

  • أقول: و هي مروية بطرق أخرى كثيرا عن عمران و ابن عباس و أبي سعيد الخدري و أبي موسى و أنس مع اختلاف في المتون و أعدلها ما أوردناه. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارىَ} قال: يعني ذاهبة 

تفسير الميزان ج۱٤

341
  • عقولهم من الحزن و الفزع متحيرين‌ 

  •  

  • [سورة الحج (٢٢): الآیات ٣ الی ١٦]

  • {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ٣ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلىَ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ ٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىَ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ٥ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىَ وَ أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ٦ وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ ٧ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ ٨ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ٩ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ١٠وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ

تفسير الميزان ج۱٤

342
  • يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلىَ وَجْهِهِ خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ ١١ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ اَلضَّلاَلُ اَلْبَعِيدُ ١٢ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلى‌ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ ١٣ إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ١٤ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ١٥ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ أَنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ١٦}  

  • (بيان) 

  • تذكر الآيات أصنافا من الناس من مصر على الباطل مجادل في الحق أو متزلزل فيه و تصف حالهم و تبين ضلالهم و سوء مآلهم و تذكر المؤمنين و أنهم مهتدون في الدنيا منعمون في الآخرة. 

  • قوله تعالى{وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} المريد الخبيث و قيل: المتجرد للفساد و المعري من الخير و المجادلة في الله بغير علم التكلم فيما يرجع إليه تعالى من صفاته و أفعاله بكلام مبني على الجهل بالإصرار عليه. 

  • و قوله: {وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} بيان لمسلكه في الاعتقاد و العمل بعد بيان مسلكه في القول كأنه قيل: إنه يقول في الله بغير علم و يصر على جهله و يعتقد بكل 

تفسير الميزان ج۱٤

343
  • باطل و يعمل به و إذ كان الشيطان هو الذي يهدي الإنسان إلى الباطل و الإنسان إنما يميل إليه بإغوائه فهو يتبع في كل ما يعتقده و يعمل به الشيطان فقد وضع اتباع الشيطان في الآية موضع الاعتقاد و العمل للدلالة على الكيفية و ليبين في الآية التالية أنه ضال عن طريق الجنة سألك إلى عذاب السعير. 

  • و قد قال تعالى: {وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ} و لم يقل: و يتبع الشيطان المريد و هو إبليس للدلالة على تلبسه بفنون الضلال و أنواعه فإن أبواب الباطل مختلفة و على كل باب شيطانا من قبيل إبليس و ذريته و هناك شياطين من الإنس يدعون إلى الضلال فيقلدهم أولياؤهم الغاوون و يتبعونهم و إن كان كل تسويل و وسوسة منتهيا إلى إبليس لعنه الله. 

  • و الكلمة أعني قوله: {وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ} مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في اتباع الباطل إلى حد يقف عليه لبطلان استعداده للحق و كون قلبه مطبوعا عليه فهو في معنى قوله: {وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} الأعراف: ١٤٦. 

  • قوله تعالى{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلىَ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ} التولي‌ أخذه وليا متبعا، و قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} إلخ. مبتدأ محذوف الخبر، و المعنى و يتبع كل شيطان مريد من صفته أنه كتب عليه أن من اتخذه وليا و اتبعه فإضلاله له و هدايته إياه إلى عذاب السعير ثابت لازم. 

  • و المراد بكتابته عليه القضاء الإلهي في حقه بإضلاله متبعيه أولا و إدخاله إياهم النار ثانيا، و هذان القضاءان هما اللذان إشارة إليهما في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الحجر: ٤٣ و قد تقدم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب. 

  • و بما تقدم يظهر ضعف ما قيل: إن المعنى من تولى الشيطان فإن الله يضله إذ لا شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدعاة و إنما المذكور في كلامه تعالى القضاء بتسليط إبليس على من تولاه و اتبعه كما تقدم. 

  • على أن لازمه اختلاف الضمائر و رجوع ضمير {فَأَنَّهُ} إلى ما لم يتقدم ذكره من 

تفسير الميزان ج۱٤

344
  • غير موجب. 

  • و أضعف منه قول من قال: إن المعنى كتب على هذا الذي يجادل في الله بغير علم أنه من تولاه فإنه يضله بإرجاع الضمائر إلى الموصول في {مَنْ يُجَادِلُ} و هو كما ترى. 

  • و يظهر من الآية أن القضاء على إبليس قضاء على قبيله و ذريته و أعوانه، و أن إضلالهم و هدايتهم إلى عذاب السعير و بالجملة فعلهم فعله، و لا يخفى ما في الجمع بين يضله و يهديه في الآية من اللطف. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله {شَيْئاً} المراد بالبعث إحياء الموتى و الرجوع إلى الله سبحانه و هو ظاهر، و العلقة القطعة من الدم الجامد، و المضغة القطعة من اللحم الممضوغة و المخلقة على ما قيل تامة الخلقة و غير المخلقة غير تامتها و ينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، و عليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق التصوير. 

  • و قوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} ظاهر السياق أن المراد لنبين لكم أن البعث ممكن و نزيل الريب عنكم فإن مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم إلى الإنسان الحي لا تدع ريبا في إمكان تلبس الميت بالحياة و لذلك وضع قوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} في هذا الموضع و لم يؤخر إلى آخر الآية. 

  • و قوله: {وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى} و أي و نقر فيها ما نشاء من الأجنة و لا نسقطه إلى تمام مدة الحمل {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}، قال في المجمع: أي نخرجكم من بطون أمهاتكم و أنتم أطفال، و الطفل الصغير من الناس، و إنما وحد و المراد به الجمع لأنه مصدر كقولهم: رجل عدل و رجال عدل، و قيل: أراد ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. انتهى، و المراد ببلوغ الأشد حال اشتداد الأعضاء و القوى. 

  • و قوله: {وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىَ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ} المقابلة بين الجملتين تدل على تقيد الأولى بما يميزها من الثانية و التقدير و منكم من يتوفى من قبل أن يرد إلى أرذل العمر، و المراد بأرذل العمر أحقره و أهونه و ينطبق على حال الهرم فإنه أرذل الحياة إذا قيس إلى ما قبله. 

تفسير الميزان ج۱٤

345
  • و قوله: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي شيئا يعتد به أرباب الحياة و يبنون عليه حياتهم، و اللام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى و المشاعر بحيث لا يبقى له من العلم الذي هو أنفس محصول للحياة شي‌ء يعتد به لها. 

  • قوله تعالى{وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} قال الراغب: يقال: همدت‌ النار طفئت، و منه أرض هامدة لا نبات فيها، و نبات هامد يابس، قال تعالى: {وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هَامِدَةً} انتهى و يقرب منه تفسيرها بالأرض الهالكة. 

  • و قال أيضا: الهز التحريك الشديد يقال: هززت الرمح فاهتز و اهتز النبات إذا تحرك لنضارته، و قال أيضا: ربا إذا زاد و علا قال تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ} أي زادت زيادة المتربى. انتهى بتلخيص ما. 

  • و قوله: {وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي و أنبتت الأرض من كل صنف من النبات متصف بالبهجة و هي حسن اللون و ظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل الفرد فإن كلامه يثبت للنبات ازدواجا كما يثبت له حياة، و قد وافقته العلوم التجريبية اليوم. 

  • و المحصل أن للأرض في إنباتها النبات و إنمائها له شأنا يماثل شأن الرحم في إنباته الحيوي للتراب الصائر نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير إنسانا حيا. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىَ وَ أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة من خلق الإنسان و النبات و تدبير أمرهما حدوثا و بقاء خلقا و تدبيرا واقعيين لا ريب فيهما. 

  • و الذي يعطيه السياق أن المراد بالحق نفس الحق أعني أنه ليس وصفا قائما مقام موصوف محذوف هو الخبر فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شي‌ء حق و يجري في الأشياء النظام الحق فكونه تعالى حقا يتحقق به كل شي‌ء حق هو السبب لهذه الموجودات الحقة و النظامات الحقة الجارية فيها، و هي جميعا تكشف عن كونه تعالى هو الحق. 

تفسير الميزان ج۱٤

346
  • و قوله: {وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىَ} معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة من صيرورة التراب الميت بالانتقال من حال إلى حال إنسانا حيا و كذا صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتا حيا و استمرار هذا الأمر بسبب أن الله يحيي الموتى و يستمر منه ذلك. 

  • و قوله: {وَ أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} معطوف على سابقه كسابقه و المراد أن ما ذكرناه بسبب أن الله على كل شي‌ء قدير و ذلك أن إيجاد الإنسان و النبات و تدبير أمرهما في الحدوث و البقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود و كما أن إيجادهما و تدبير أمرهما لا يتم إلا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا تتم إلا مع القدرة على كل شي‌ء فخلقهما و تدبير أمرهما بسبب عموم القدرة و إن شئت فقل: ذلك يكشف عن عموم القدرة. 

  • قوله تعالى{وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ} الجملتان معطوفتان على «أن» في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ}

  • و أما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن بيان السابقة ينتج نتائج أخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى و نفي شركاء العبادة و كونه تعالى عليما و منعما و جوادا و غير ذلك. 

  • فالذي يعطيه السياق و المقام مقام إثبات البعث و عرض هذه الآيات على سائر الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقا على الإطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، و لو لم يكن هناك نشاة أخرى يعيش فيها الإنسان بما له من سعادة أو شقاء و اقتصر في الخلقة على الإيجاد ثم الإعدام ثم الإيجاد ثم الإعدام و هكذا كان لعبا باطلا فكونه تعالى حقا لا يفعل إلا الحق يستلزم نشاة البعث استلزاما بينا فإن هذه الحياة الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة أخرى باقية لا محالة. 

  • فالآية أعني قوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ} في مجرى قوله: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} الدخان: ٣٩ و قوله: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} ص: ٢٧ و غيرهما من الآيات المتعرضة لإثبات المعاد، و إنما الفرق أنها 

تفسير الميزان ج۱٤

347
  • تثبته من طريق حقية فعله تعالى و الآية المبحوث عنها تثبته من طريق حقيته تعالى في نفسه المستلزمة لحقية فعله. 

  • ثم لما كان من الممكن أن يتوهم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ دفعه بقوله: {وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىَ} فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت إنسانا حيا و جعل الأرض الميتة نباتا حيا واقع مستمر مشهود فلا ريب في إمكانه و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} يس: ٧٩ و سائر الآيات المثبتة لإمكان البعث و الإحياء ثانيا من طريق ثبوت مثله أولا. 

  • ثم لما أمكن أن يتوهم أن جواز الإحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلق القدرة به استبعادا له و استصعابا دفعه بقوله: {وَ أَنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} فإن القدرة لما كانت غير متناهية كانت نسبتها إلى الإحياء الأول و الثاني و ما كان سهلا في نفسه أو صعبا على حد سواء فلا يخالطها عجز و لا يطرأ عليها عي و تعب. 

  • و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: {أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ} ق: ١٥ و قوله: {إِنَّ اَلَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ اَلْمَوْتىَ إِنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} حم السجدة - ٣٩ و سائر الآيات المثبتة للبعث بعموم القدرة و عدم تناهيها. 

  • فهذه أعني ما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ} إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة من الآية السابقة عليها مسوقة جميعا لغرض واحد و هو ذكر ما يثبت به البعث و هو الذي تتضمنه الآية الأخيرة {وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ}

  • و لم تتضمن الآية إلا بعث الأموات و الظرف الذي يبعثون فيه فأما الظرف و هو الساعة فذكره في قوله: {وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا} و لم ينسب إتيانها إلى نفسه بأن يقال مثلا: و أن الله يأتي بالساعة أو ما في معناه و لعل الوجه في ذلك اعتبار كونها لا تأتي إلا بغتة لا يتعلق به علم قط كما قال: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}

  • و قال: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ} الأعراف: ١٨٧ و قال: {إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} طه: ١٥ فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها و كتمان مرساها 

تفسير الميزان ج۱٤

348
  • مبالغة في إخفائها و تأييدا لكونها مباغتة مفاجئة، و قد كثر ذكرها في كلامه و لم يذكر في شي‌ء منه لها فاعل بل كان التعبير مثل آتية «تأتيهم» «قائمة» «تقوم» و نحو ذلك. 

  • و أما المظروف و هو إحياء الموتى من الإنسان فهو المذكور في قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ}

  • فإن قلت: الحجة المذكورة تنتج البعث لجميع الأشياء لا للإنسان فحسب لأن الفعل بلا غاية لغو باطل سواء كان هو الإنسان أو غيره لكن الآية تكتفي بالإنسان فقط. 

  • قلت: قصر الآية النتيجة في الإنسان فقط لا ينافي ثبوت نظير الحكم في غيره لكن الذي تمسه الحاجة في المقام بعث الإنسان على أنه يمكن أن يقال: إن نفي المعاد عن الأشياء غير الإنسان لا يستلزم كون فعلها باطلا منه تعالى لأنها مخلوقة لأجل الإنسان فهو الغاية لخلقها و البعث غاية لخلق الإنسان. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الثلاث و عرضها على سائر الآيات المتعرضة لإثبات المعاد على تفننها، و به يظهر وجه الاكتفاء من النتائج المترتبة عليها بهذه النتائج المعدودة بحسب المترائي من اللفظ خمسا و هي في الحقيقة ثلاث موضوعة في الآية الثانية مستخرجة من الأولى، و واحدة موضوعة في الآية الثالثة مستخرجة من الثلاث الموضوعة في الثانية. 

  • و به يندفع أيضا شبهة التكرار المتوهم من قوله: {وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىَ} {وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ} {وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ} إلى غير ذلك. 

  • و للقوم في تفسير الآيات الثلاث و تقرير حجتها وجوه كثيرة مختلفة لا ترجع إلى جدوى و قد أضافوا في جميعها إلى حجة الآية مقدمات أجنبية تختل بها سلاسة النظم و استقامة الحجة، و قد طوينا ذكرها فمن أراد الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير. 

  • قوله تعالى{وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ} صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف، على ما نقل: إن الأظهر في النظم و الأوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام و الآية السابقة {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ} إلى قوله: {مَرِيدٍ} في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا. 

تفسير الميزان ج۱٤

349
  • و هو كذلك بدليل قوله هنا ذيلا: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} و قوله هناك: {وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} و الإضلال من شأن المقلد بفتح اللام و الاتباع من شأن المقلد بكسر اللام. 

  • و الترديد في الآية بين العلم و الهدى و الكتاب مع كون كل من العلم و الهدى يعم الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص و بالهدى هدى خاص فقيل: إن المراد بالعلم العلم الضروري و بالهدى الاستدلال و النظر الصحيح الهادي إلى المعرفة و بالكتاب المنير الوحي السماوي المظهر للحق. 

  • و فيه أن تقييد العلم بالضروري و هو البديهي لا دليل عليه. على أن الجدال سواء كان المراد به مطلق الإصرار في البحث أو الجدل المصطلح و هو القياس المؤلف من المشهورات و المسلمات من طرق الاستدلال و لا استدلال على ضروري البتة. 

  • و يمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية، و بالهدى ما تفيضه الهداية الإلهية لمن أخلص لله في عبادته و عبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أو بالعكس بوجه و بالكتاب المنير الوحي الإلهي من طريق النبوة، و تلك طرق ثلاث إلى مطلق العلم: 

  • العقل و البصر و السمع و قد أشار تعالى إليها في قوله: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً}: إسراء: ٣٦ و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، الثني‌ الكسر و العطف‌ بكسر العين الجانب، و ثني العطف كناية عن الإعراض كأن المعرض يكسر أحد جانبيه على الآخر. 

  • و قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} متعلق بقوله: {يُجَادِلُ} و اللام للتعليل أي يجادل في الله بجهل منه مظهر للإعراض و الاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس و هؤلاء هم الرؤساء المتبوعون من المشركين. 

  • و قوله: {لَهُ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} تهديد بالخزي و هو الهوان و الذلة و الفضيحة في الدنيا، و إلى ذلك آل أمر صناديد قريش و أكابر مشركي مكة، و إيعاد بالعذاب في الآخرة. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} إشارة إلى ما 

تفسير الميزان ج۱٤

350
  • تقدم في الآية السابقة من الإيعاد بالخزي و العذاب، و الباء في {بِمَا قَدَّمَتْ} للمقابلة كقولنا: بعت هذا بهذا أو للسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي و العذاب جزاء ما قدمت يداك أو بسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب معرضا مستكبرا لإضلال الناس و في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لتسجيل اللوم و العتاب. 

  • و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} معطوف على {بِمَا قَدَّمَتْ} أي ذلك لأن الله لا يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله و يعطيه ما يسأله بلسان حاله. 

  • قوله تعالى{وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ} إلى آخر الآية الحرف و الطرف و الجانب بمعنى، و الاطمئنان‌: الاستقرار و السكون، و الفتنة كما قيل المحنة و الانقلاب الرجوع. 

  • و هذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين و هو الذي يعبد الله سبحانه بانيا عبادته على جانب واحد دون كل جانب و على تقدير الله على كل تقدير و هو جانب الخير و لازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير على عبادة الله و اطمأن إليها، و إن أصابته فتنة و محنة انقلب و رجع على وجهه من غير أن يلتفت يمينا و شمالا و ارتد عن دينه تشؤما من الدين أو رجاء أن ينجو بذلك من المحنة و المهلكة و كان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها لينالوا بذلك الخير أو ينجو من الشر بشفاعتهم في الدنيا و أما الآخرة فما كانوا يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه خسر الدنيا بوقوعه في المحنة و المهلكة، و خسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه و ارتداده و كفره ذلك هو الخسران المبين. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، و عليه فقوله: {يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ} من قبيل الاستعارة بالكناية، و قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} إلخ. تفسير لقوله: {يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ} و تفصيل له، و قوله: {خَسِرَ اَلدُّنْيَا} أي بإصابة الفتنة، و قوله: {وَ اَلْآخِرَةَ} أي بانقلابه على وجهه. 

  • قوله تعالى{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ اَلضَّلاَلُ اَلْبَعِيدُ} المدعو هو الصنم فإنه لفقده الشعور و الإرادة لا يتوجه منه إلى عابده نفع أو 

تفسير الميزان ج۱٤

351
  • ضرر و الذي يصيب عابده من ضرر و خسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التي هي فعل له منسوب إليه. 

  • قوله تعالى{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلىَ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ} المولى‌ الولي الناصر، و العشير الصاحب المعاشر. 

  • ذكروا في تركيب جمل الآية أن {يَدْعُوا} بمعنى يقول، و قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} إلخ. مقول القول، و {لَمَنْ} مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء و هو موصول صلته {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}. و قوله: {لَبِئْسَ اَلْمَوْلىَ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ} جواب قسم محذوف و هو قائم مقام الخبر دال عليه. 

  • و المعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى و عشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء و عشير سوء أقسم لبئس المولى و لبئس العشير. 

  • و إنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من العذاب الخالد و الهلاك المؤبد. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ} إلخ. لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار و هم الأئمة المتبوعون المجادلون في الله بغير علم و المقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم و المذبذبون العابدون لله على حرف، و وصفهم بالضلال و الخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس و هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات و وصفهم بكريم المثوى و حسن المنقلب و أن الله يريد بهم ذلك. 

  • و ذكر هؤلاء الأصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم و بيان حالهم تفصيلا. 

  • قوله تعالى{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} قال في المجمع: السبب‌ كل ما يتوصل به إلى الشي‌ء و منه قيل للحبل سبب و للطريق سبب و للباب سبب انتهى و المراد بالسبب في الآية الحبل، و القطع معروف و من معانيه الاختناق يقال: قطع أي اختنق و كأنه مأخوذ من قطع النفس. 

تفسير الميزان ج۱٤

352
  • قالوا: إن الضمير في {لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك أن مشركي مكة كانوا يظنون أن الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الدين أحدوثة كاذبة لا تبتني على أصل عريق فلا يرتفع ذكره، و لا ينتشر دينه، و ليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة فنصره الله سبحانه فبسط دينه و رفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا فقرعهم الله سبحانه بهذه الآية و أشار بها إلى أن الله ناصره و لن يذهب غيظهم و لو خنقوا أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثرا. 

  • و المعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الدنيا برفع الذكر و بسط الدين و في الآخرة بالمغفرة و الرحمة له و للمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء كأن يربط طرف الحبل على جذع عال و نحوه ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده و حيلته هذا ما يغيظ أي غيظة. 

  • و هذا معنى حسن يؤيده سياق الآيات السابقة و ما استفدناه سابقا من نزول السورة بعد الهجرة بقليل و مشركو مكة بعد على قدرتهم و شوكتهم. 

  • و ذكر بعضهم: أن ضمير {لَنْ يَنْصُرَهُ} عائد إلى {مَنْ} و معنى القطع قطع المسافة و المراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لإبطال حكم الله، و المعنى من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة و لينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم. 

  • و لعل هؤلاء يعنون أن المراد بالآية أن من الواجب على الإنسان أن يرجو ربه في دنياه و آخرته و إن لم يرجه و ظن أن لن ينصره الله فيهما و غاظه ذلك فليكد ما يكيد فإنه لا ينفعه. 

  • و ذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، و المراد بالنصر الرزق كما يقال: أرض منصورة أي ممطورة و المعنى كما في القول الأول. 

  • و هذا أقرب إلى الاعتبار من سابقه و أحسن لكن يرد على الوجهين جميعا لزوم انقطاع الآية عما قبلها من الآيات. على أن الأنسب على هذين الوجهين في التعبير أن يقال: من ظن أن لن ينصره الله «إلخ». لا أن يقال «من كان يظن» الظاهر في استمرار 

تفسير الميزان ج۱٤

353
  • الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول الأول. 

  • قوله تعالى{وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ أَنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} قد تقدم مرارا أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلالة على أن ما في الفرد من الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد و عمرو و هما يتكلمان و يمشيان على قدميهما و يقول كذلك يكون الإنسان أي حكم التكلم و المشي على القدمين جار في جميع الأفراد فمعنى قوله: {وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أنزلنا القرآن و هو آيات واضحة الدلالات كما في الآيات السابقة من هذه السورة. 

  • و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} خبر لمبتدإ محذوف أي و الأمر أن الله يهدي من يريد و أما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الآيات بينات لا يكفي في هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته. 

  • و قيل: الجملة معطوفة على ضمير {أَنْزَلْنَاهُ} و التقدير و كذلك أنزلنا أن الله يهدي من يريد، و الوجه الأول أوضح اتصالا بأول الآية و هو ظاهر. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} قال: المريد الخبيث. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد: في قوله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال نزلت في النضر بن الحارث. 

  • أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح و الظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في غالب الروايات المتعرضة لأسباب النزول، و على ذلك فالقول بنزول الآية الآتية: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً} (الآية) فيه كما نقل عن مجاهد أولى من القول بنزول هذه الآية فيه لأن الرجل من معاريف القوم و هذه الآية كما تقدم في الاتباع و الآية الأخرى في المتبوعين. 

تفسير الميزان ج۱٤

354
  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال: المخلقة إذا صارت تاما و {غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال: السقط. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن مسعود قال :حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو الصادق المصدق أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد. 

  • فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها و إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. 

  • أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عنه و عن ابن عباس و أنس و حذيفة بن أسيد. و في متونها بعض الاختلاف، و في بعضها و هو ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود : يقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق فينسخها فلا يزال معه - حتى يأتي على آخر صفتها )الحديث(. 

  • و قد ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ما يقرب من ذلك كما في قرب الإسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) و فيه: فإذا تمت الأربعة الأشهر بعث الله تبارك و تعالى إليها ملكين خلاقين - يصورانه و يكتبان رزقه و أجله و شقيا أو سعيدا. الحديث. 

  • و قد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران‌- حديث الكافي عن الباقر (عليه السلام) في تصوير الجنين و كتابة ما قدر له و فيه: أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن لوح - يقرع جبهة أمه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان‌، الحديث و في معناه غيره. 

  • و مقتضى هذا الحديث و ما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن 

تفسير الميزان ج۱٤

355
  • مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شي‌ء و منها الإنسان نصيبا في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير و التبدل إلى ما كتب فيه و نصيبا من لوح المحو و الإثبات الذي يقبل التغير و التبدل فالقضاء قضاءان محتوم و غير محتوم، قال تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} الرعد: ٣٩. 

  • و قد تقدم الكلام في معنى القضاء و اتضح به أن لوح القضاء كائنا ما كان ينطبق على نظام العلية و المعلولية و ينحل إلى سلسلتين: سلسلة العلل التامة و معلولاتها و لا تقبل تغييرا و سلسلة العلل الناقصة مع معاليلها و هي القابلة و كأن الصنف الأول من الروايات يشير إلى ما يقضى للجنين من قضاء محتوم و الثاني إلى غيره و قد بينا أيضا فيما تقدم أن حتمية القضاء لفعل العبد لا تنافي اختيارية الفعل فتذكر. 

  • و في الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدم (صلى الله عليه وآله و سلم)، أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء و هم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. و أما قوله: {وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} فهم كل نسمة لم يخلقهم الله عز و جل في صلب آدم حين خلق الذر و أخذ عليهم الميثاق، و هم النطف من العزل و السقط قبل أن ينفخ فيه الروح و الحياة و البقاء. 

  • أقول: و قد تقدم توضيح معنى الحديث في البحث الروائي المتعلق بآية الذر في سورة الأعراف. 

  • و في تفسير القمي بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.

  • أقول: و قد تقدم بعض الروايات في هذا المعنى في تفسير سورة النحل في ذيل الآية ٧٠. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث و عام خصب و عام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به، و إن وجدوا عام جدب و عام ولاد سوء و عام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ}

تفسير الميزان ج۱٤

356
  • أقول: و هذا المعنى مروي عنه أيضا بغير هذا الطريق. 

  • و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: {وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‌ حَرْفٍ} قال: نعم قوم وحدوا الله و خلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك و لم يعرفوا أن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد و ما جاء به فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا و عوفينا في أنفسنا و أولادنا علمنا أنه صادق و أنه رسول الله: و إن كان غير ذلك نظرنا. 

  • قال الله عز و جل: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ} يعني عافية في الدنيا {وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يعني بلاء في نفسه {اِنْقَلَبَ عَلىَ وَجْهِهِ} انقلب على شكه إلى الشرك {خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُ} قال: ينقلب مشركا يدعو غير الله و يعبد غيره )الحديث). 

  • أقول: و رواه الصدوق في التوحيد، باختلاف يسير. 

  • و في الدر المنثور أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ} قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا و الآخرة {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} قال: فليربط حبلا {إِلَى اَلسَّمَاءِ} قال: إلى سماء بيته السقف {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قال ثم يختنق به حتى يموت. 

  • أقول: هو و إن كان تفسيرا منه لكنه في معنى سبب النزول و لذلك أوردناه. 

  •  

  • [سورة الحج (٢٢): الآیات ١٧ الی ٢٤]

  • {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئِينَ وَ اَلنَّصَارىَ وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ ١٧ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ

تفسير الميزان ج۱٤

357
  • وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبَالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذَابُ وَ مَنْ يُهِنِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ١٨ هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ ١٩ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ ٢٠وَ لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ٢١ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ٢٢ إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ٢٣ وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى‌ صِرَاطِ اَلْحَمِيدِ ٢٤} 

  • (بيان) 

  • بعد ما ذكر في الآيات السابقة اختلاف الناس و اختصامهم في الله سبحانه بين تابع ضال يجادل في الله بغير علم، و متبوع مضل يجادل في الله بغير علم و مذبذب يعبد الله على حرف، و الذين آمنوا بالله و عملوا الصالحات، ذكر في هذه الآيات أن الله شهيد عليهم و سيفصل بينهم يوم القيامة و هم خاضعون مقهورون له ساجدون قبال عظمته و كبريائه حقيقة و إن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا و هم الذين حق عليهم العذاب. ثم ذكر أجر المؤمنين و جزاء غيرهم بعد فصل القضاء يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج۱٤

358
  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئِينَ وَ اَلنَّصَارىَ وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} إلخ. المراد بالذين آمنوا بقرينة المقابلة هم الذين آمنوا بمحمد ص و كتابهم القرآن. 

  • و الذين هادوا هم المؤمنين بموسى من قبله من الرسل الواقفون فيه و كتابهم التوراة و قد أحرقها بخت نصر ملك بابل حينما استولى عليهم في أواسط القرن السابع قبل المسيح فافتقدوها برهة ثم جدد كتابتها لهم عزراء الكاهن في أوائل القرن السادس قبل المسيح حينما فتح كورش ملك إيران بابل و تخلص بنو إسرائيل من الإسارة و رجعوا إلى الأرض المقدسة. 

  • و الصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الآية من المقابلة بينهم و بين الذين أشركوا بل هم على ما قيل قوم متوسطون بين اليهودية و المجوسية و لهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي و يسمى الواحد منهم اليوم عند العامة «صبي» و قد تقدم لهم ذكر في ذيل قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارىَ وَ اَلصَّابِئِينَ} البقرة: ٦٢. 

  • و النصارى هم المؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) و من قبله من الأنبياء و كتبهم المقدسة الأناجيل الأربعة للوقا و مرقس و متى و يوحنا و كتب العهد القديم على ما اعتبرته و قدسته الكنيسة لكن القرآن يذكر أن كتابهم الإنجيل النازل على عيسى (عليه السلام). 

  • و المجوس المعروف أنهم المؤمنون بزرتشت و كتابهم المقدس «أوستا» غير أن تاريخ حياته و زمان ظهوره مبهم جدا كالمنقطع خبره و قد افتقدوا الكتاب باستيلاء إسكندر على إيران ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم؛ و المسلم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين مبدأ الخير و مبدأ الشر يزدان و أهريمن أو النور و الظلمة و يقدسون الملائكة و يتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية، و يقدسون البسائط العنصرية و خاصة النار و كانت لهم بيوت نيران بإيران و الصين و الهند و غيرها و ينهون الجميع إلى «أهورا مزدا» موجد الكل. 

  • و الذين أشركوا هم الوثنية عبدة الأصنام و أصول مذاهبهم ثلاثة: الوثنية الصابئة، و البرهمانية، و البوذية، و قد كان هناك أقوام آخرون يعبدون من الأصنام ما 

تفسير الميزان ج۱٤

359
  • شاءوا كما شاءوا من غير أن يبنوه على أصل منظم كعرب الحجاز و طوائف في أطراف المعمورة و قد تقدم تفصيل القول فيهم في الجزء العاشر من الكتاب. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} المراد به فصل القضاء فيما اختلف فيه أصحاب هذه المذاهب و اختصموا فينفصل المحق منهم و يتميز من المبطل انفصالا و تميزا لا يستره ساتر و لا يحجبه حاجب. 

  • و تكرار إن في الآية للتأكيد دعا إلى ذلك طول الفصل بين {إِنَّ} في صدر الآية و بين خبرها و نظيره ما في قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} النحل: ١١٠، و قوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} النحل: ١١٩. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} تعليل للفصل إنه فصل بالحق. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبَالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ} إلى آخر الآية، الظاهر أن الخطاب لكل من يرى و يصلح لأن يخاطب، و المراد بالرؤية العلم، و يمكن أن يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يكون المراد بالرؤية الرؤية القلبية كما قال فيه: {مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأىَ أَ فَتُمَارُونَهُ عَلىَ مَا يَرىَ} النجم: ١٢. 

  • و تعميم السجدة لمثل الشمس و القمر و النجوم و الجبال من غير أولي العقل دليل على أن المراد بها السجدة التكوينية و هي التذلل و الصغار قبال عزته و كبريائه تعالى و تحت قهره و سلطنته، و لازمه أن يكون {مَنْ فِي اَلْأَرْضِ} شاملا لنوع الإنسان من مؤمن و كافر إذ لا استثناء في السجدة التكوينية و التذلل الوجودي. 

  • و عدم ذكر نفس السماوات و الأرض في جملة الساجدين مع شمول الحكم لهما في الواقع يعطي أن معنى الكلام أن المخلوقات العلوية و السفلية من ذي عقل و غير ذي عقل ساجدة لله متذللة في وجودها تجاه عزته و كبريائه، و لا تزال تسجد له تعالى سجودا تكوينيا اضطراريا. 

  • و قوله: {وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ} عطف على {مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ. أي و يسجد 

تفسير الميزان ج۱٤

360
  • له كثير من الناس، و إسناد السجود إلى كثير من الناس بعد شموله في الجملة السابقة لجميعهم دليل على أن المراد بهذا السجود نوع آخر من السجود غير السابق و إن كانا مشتركين في أصل معنى التذلل، و هذا النوع هو السجود التشريعي الاختياري بالخرور على الأرض تمثيلا للسجود و التذلل التكويني الاضطراري و إظهارا لمعنى العبودية. 

  • و قوله: {وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذَابُ} المقابلة بينه و بين سابقه يعطي أن معناه و كثير منهم يأبى عن السجود، و قد وضع موضعه ما هو أثره اللازم المترتب عليه و هو ثبوت العذاب على من استكبر على الله و أبى أن يخضع له تعالى، و إنما وضع ثبوت العذاب موضع الإباء عن السجدة للدلالة على أنه هو عملهم يرد إليهم، و ليكون تمهيدا لقوله تلوا: {وَ مَنْ يُهِنِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} الدال على أن ثبوت العذاب لهم إثر إبائهم عن السجود هوان و خزي يتصل بهم ليس بعده كرامة و خير. 

  • فإباؤهم عن السجود يستتبع بمشية الله تعالى ثبوت العذاب لهم و هو إهانة ليس بعده إكرام أبدا إذ الخير كله بيد الله كما قال، {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ} آل عمران: ٢٦ فإذا منعه أحدا لم يكن هناك من يعطيه غيره. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} كناية عن عموم القدرة و تعليل لما تقدمه من حديث إثباته العذاب للمستكبرين عن السجود له و إهانتهم إهانة لا إكرام بعده. 

  • فالمعنى - و الله أعلم - أن الله يميز يوم القيامة بين المختلفين فإنك تعلم أن الموجودات العلوية و السفلية يخضعون و يتذللون له تكوينا لكن الناس بين من يظهر في مقام العبودية الخضوع و التذلل له و بين من يستكبر عن ذلك و هؤلاء هم الذين حق عليهم العذاب و أهانهم الله إهانة لا إكرام بعده و هو قادر على ما يشاء فعال لما يريد، و من هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها. 

  • قوله تعالى{هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ} الإشارة بقوله: {هَذَانِ} إلى القبيلين اللذين دل عليهما قوله سابقا: {إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} و قوله بعده: {وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذَابُ}

  • و يعلم من حصر المختلفين على كثرة أديانهم و مذاهبهم في خصمين اثنين أنهم جميعا منقسمون إلى محق و مبطل إذ لو لا الحق و الباطل لم ينحصر الملل و النحل على تشتتها في 

تفسير الميزان ج۱٤

361
  • اثنين البتة، و المحق و المبطل هما المؤمن بالحق و الكافر به فهذه الطوائف على تشتت أقوالهم ينحصرون في خصمين اثنين و على انحصارهم في خصمين اثنين لهم أقوال مختلفة فوق اثنين فما أحسن تعبيره بقوله: {خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا} حيث لم يقل: خصوم اختصموا و لم يقل: خصمان اختصما. 

  • و قد جعل اختصامهم في ربهم أي أنهم اختلفوا في وصف ربوبيته تعالى فإلى وصف الربوبية يرجع اختلافات المذاهب بالغة ما بلغت فهم بين من يصف ربه بما يستحقه من الأسماء و الصفات و ما يليق به من الأفعال فيؤمن بما وصف و هو الحق و يعمل على ما يقتضيه وصفه و هو العمل الصالح فهو المؤمن العامل بالصالحات، و من لا يصفه بما يستحقه من الأسماء و الصفات كمن يثبت له شريكا أو ولدا فينفي وحدانيته أو يسند الصنع و الإيجاد إلى الطبيعة أو الدهر أو ينكر النبوة أو رسالة بعض الرسل أو ضروريا من ضروريات الدين الحق فيكفر بالحق و يستره و هو الكافر فالمؤمن بربه و الكافر بالمعنى الذي ذكرهما الخصمان. 

  • ثم شرع في جزاء الخصمين و بين عاقبة أمر كل منهما بعد فصل القضاء و قدم الذين كفروا فقال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ} أي الماء الحار المغلي. 

  • قوله تعالى{يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ} الصهر الإذابة أي يذوب و ينضج بذاك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء و الجلود. 

  • قوله تعالى{وَ لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} المقامع‌ جمع مقمعة و هي المدقة و العمود. 

  • قوله تعالى{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} ضمير {مِنْهَا} للنار و {مِنْ غَمٍّ} بيان له أو من بمعنى السببية و الحريق بمعنى المحرق كالأليم بمعنى المؤلم. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية، الأساور على ما قيل - جمع أسورة و هي جمع سوار و هو على ما ذكره الراغب معرب «دستواره» و الباقي ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلىَ صِرَاطِ اَلْحَمِيدِ} الطيب من القول ما لا خباثة فيه و خبيث القول باطله على أقسامه، و قد جمع القول الطيب كله 

تفسير الميزان ج۱٤

362
  • قوله تعالى إخبارا عنهم: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} يونس: ١٠فهدايتهم إلى الطيب من القول تيسيره لهم، و هدايتهم إلى صراط الحميد و الحميد من أسمائه تعالى أن لا يصدر عنهم إلا محمود الفعل كما لا يصدر عنهم إلا طيب القول. 

  • و بين هذه الآية و قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} مقابلة ظاهرة. 

  • (بحث روائي) 

  • في التوحيد بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) في حديث: قال (عليه السلام): سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل إليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبي؟ قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله إليهم كتابا و بعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها. 

  • فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ديننا و أهلكته فاخرج نطهرك و نقيم عليك الحد فقال لهم: اجتمعوا و اسمعوا قولي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت و إلا فشأنكم فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم و أمنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك قال: أ و ليس قد زوج بنيه بناته و بناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك فمحا الله ما في صدورهم من العلم و رفع عنهم الكتاب فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب و المنافقون أشد حالا منهم. قال الأشعث. و الله ما سمعت بمثل هذا الجواب، و الله لا عدت إلى مثلها أبدا. 

  • أقول: قوله: «و المنافقون أشد حالا منهم» فيه تعريض للأشعث و في كون المجوس من أهل الكتاب روايات أخر فيها أنهم كان لهم نبي فقتلوه و كتاب فأحرقوه. 

  • و في الدر المنثور في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: أخرج ابن أبي حاتم و اللالكائي في السنة، و الخلعي في فوائده، عن علي: أنه قيل له: إن هاهنا رجلا يتكلم 

تفسير الميزان ج۱٤

363
  • في المشيئة فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت؟ قال بل لما يشاء قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال بل إذا شاء. قال فيدخلك الجنة حيث شاء أو حيث شئت؟ قال: بل حيث شاء. قال: و الله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. 

  • أقول: و رواه في التوحيد، بإسناده عن عبد الله بن الميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) و فيه: «فيدخلك حيث يشاء أو حيث شئت» و لم يذكر الجنة. و قد تقدمت رواية في هذا المعنى شرحناها في ذيل قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة: ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و في التوحيد بإسناده إلى سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا (عليه السلام): المشية من صفات الأفعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد. 

  • أقول: في قوله (عليه السلام) ثانيا: «لم يزل مريدا شائيا تلويح إلى اتحاد الإرادة و المشية و هو كذلك فإن المشية معنى يوصف به الإنسان إذا اعتبر كونه فاعلا شاعرا بفعله المضاف إليه، و إذا تمت فاعليته بحيث لا ينفك عنه الفعل سمي هذا المعنى بعينه إرادة، و على أي حال هو وصف خارج عن الذات طار عليه، و لذلك لا يتصف تعالى بها كاتصافه بصفاته الذاتية كالعلم و القدرة لتنزهه عن تغير الذات بعروض العوارض بل هي من صفات فعله منتزعة من نفس الفعل أو من حضور الأسباب عليه. 

  • فقولنا: أراد الله كذا معناه أنه فعله عالما بأنه أصلح أو أنه هيأ أسبابه عالما بأنه أصلح، و إذا كانت بمعناها الذي فينا غير الذات فلو قيل: لم يزل الله مريدا كان لازمه إثبات شي‌ء أزلي غير مخلوق له معه و هو خلاف توحيده، و أما قول القائل: إن معنى الإرادة هو العلم بالأصلح، و العلم من صفات الذات فلم يزل مريدا أي عالما بما فعله أصلح فهو إرجاع للإرادة إلى العلم و لا محذور فيه غير أن عد الإرادة على هذا صفة أخرى وراء الحياة و العلم و القدرة لا وجه له. 

  • و في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي 

تفسير الميزان ج۱٤

364
  • في الدلائل عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إلى قوله {إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} نزلت في الثلاثة و الثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر و هم حمزة بن المطلب و عبيدة بن الحارث و علي بن أبي طالب و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة. 

  • قال علي أنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة. 

  • أقول: و رواه فيه، أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن قيس بن سعد بن عبادة و ابن عباس و غيرهما، و رواه في مجمع البيان، عن أبي ذر و عطاء. 

  • و في الخصال عن النضر بن مالك قال: قلت للحسين بن علي (عليه السلام): يا با عبد الله حدثني عن قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فقال: نحن و بنو أمية اختصمنا في الله تعالى: قلنا صدق الله، و قالوا: كذب، فنحن الخصمان يوم القيامة. 

  • أقول: و هو من الجري، و نظيره ما في الكافي بإسناده عن ابن أبي حمزة عن الباقر (عليه السلام): فالذين كفروا بولاية علي (عليه السلام) قطعت لهم ثياب من نار. 

  • و في تفسير القمي: {وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ} قال التوحيد و الإخلاص{ وَ هُدُوا إِلى‌ صِرَاطِ اَلْحَمِيدِ} قال: الولاية. 

  • أقول: و في المحاسن بإسناده عن ضريس عن الباقر (عليه السلام) ما في معناه. 

  • و في المجمع و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: ما أحد أحب إليه الحمد من الله عز ذكره.

  •  

  • [سورة الحج (٢٢): الآیات ٢٥ الی ٣٧]

  • {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ٢٥ وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ

تفسير الميزان ج۱٤

365
  • بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْقَائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ ٢٦ وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَ عَلىَ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ٢٧ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى‌ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْبَائِسَ اَلْفَقِيرَ ٢٨ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ٢٩ ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلى‌ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ ٣٠حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ٣١ ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ ٣٢ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ٣٣ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلى‌ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ ٣٤ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصَّابِرِينَ عَلى‌ مَا أَصَابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاَةِ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٣٥ وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ

تفسير الميزان ج۱٤

366
  • اَللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٣٦ لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‌ مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى‌ مَا هَدَاكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ ٣٧} 

  • (بيان) 

  • تذكر الآيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام و تقرعهم بالتهديد و تشير إلى تشريع حج البيت لأول مرة لإبراهيم (عليه السلام) و أمره بتأذين الحج في الناس و جملة من أحكام الحج. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} إلخ. الصد المنع، و {سَوَاءً} مصدر بمعنى الفاعل، و العكوف‌ في المكان الإقامة فيه، و البادي‌ من البدو و هو الظهور، و المراد به كما قيل الطارئ أي الذي يقصده من خارج فيدخله، و الإلحاد الميل إلى خلاف الاستقامة و أصله إلحاد حافر الدابة. 

  • و المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في أول البعثة قبل الهجرة و كانوا يمنعون الناس عن الإسلام و هو سبيل الله و المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة و إقامة الصلاة و سائر المناسك فقوله: {يَصُدُّونَ} للاستمرار و لا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و المعنى الذين كفروا قبل و يستمرون على منع الناس عن سبيل الله و المؤمنين عن المسجد الحرام. 

  • و بذلك يظهر أن قوله: {وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} عطف على {سَبِيلِ اَللَّهِ} و المراد بصده منعهم المؤمنين عن أداء العبادات و المناسك فيه و كان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها. 

  • و به يتبين أن المراد بقوله: {اَلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} و هو وصف المسجد الحرام جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن يمنع أحدا من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم و صدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق الناس و إلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى. 

تفسير الميزان ج۱٤

367
  • و يؤيد ذلك أيضا تعقيبه بقوله: {سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ} أي المقيم فيه و الخارج منه مساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، و المراد بالإقامة فيه و في الخارج منه إما الإقامة بمكة و في الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة و الطرو عليه لها. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحق المشروع لهم في المسجد و لازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه و مفعول {يُرِدْ} محذوف للدلالة على العموم، و الباء في {بِإِلْحَادٍ} للملابسة و في {بِظُلْمٍ} للسببية و الجملة تدل على خبر قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} في صدر الآية. 

  • و المعنى الذين كفروا و لا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله و هو دين الإسلام و يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبدا للناس يستوي فيه العاكف فيه و البادي نذيقهم. من عذاب أليم لأنهم يريدون الناس فيه بإلحاد بظلم و من يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم. 

  • و للمفسرين في إعراب مفردات الآية و جملها أقاويل كثيرة جدا و لعل ما أوردناه أنسب للسياق. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْقَائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ} بوء له مكانا كذا أي جعله مباءة و مرجعا له يرجع إليه و يقصده، و المكان‌ ما يستقر عليه الشي‌ء فمكان البيت القطعة من الأرض التي بني فيها، و المراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعبادة و الصلاة. و الركع جمع راكع كسجد جمع ساجد و السجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع. 

  • و قوله: {وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ} الظرف فيه متعلق بمقدر أي و اذكر وقت كذا و فيه تذكير لقصة جعل البيت معبدا للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلا إلحادا بظلم. 

  • و تبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعل مكانه مباءة و مرجعا لعبادته لا لأن يتخذه بيت سكنى يسكن فيه، و يلوح إليه قوله بعد {طَهِّرْ بَيْتِيَ} بإضافة البيت إلى نفسه، و لا ريب أن هذا الجعل كان وحيا لإبراهيم فقوله: {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ} في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة و مرجعا لعبادتي و إن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، و بعبارة أخرى أن اعبدني في 

تفسير الميزان ج۱٤

368
  • هذا المكان. 

  • و بذلك يتضح أن {مَكَانَ} في قوله: {أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} مفسرة تفسر الوحي السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا و نحوه. 

  • و يتضح أيضا أن قوله: {أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} ليس المراد به و هو واقع في هذا السياق النهي عن الشرك مطلقا و إن كان منهيا عنه مطلقا بل المنهي عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة و بعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للأوثان و الإهلال لها و نحوهما. 

  • و كذا قوله: {وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْقَائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ} و التطهير إزالة الأقذار و الأدناس عن الشي‌ء ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الأولي، و قد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال: {بَيْتِيَ} أي بيتا يختص بعبادتي، و تطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الأعمال الدنسة و الأرجاس‌ التي تفسد العبادة و ليست إلا الشرك و مظاهره. 

  • فتطهير بيته إما تنزيهه من الأرجاس المعنوية خاصة بأن يشرع إبراهيم (عليه السلام) للناس و يعلمهم طريقا من العبادة لا يداخلها قذارة شرك و لا يدنسها دنسه كما أمر لنفسه بذلك، و إما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية و المعنوية لكن الذي يمس سياق الآية منها هو الرجس المعنوي فمحصل تطهير المعبد عن الأرجاس المعنوية و تنزيهه عنها للعباد الذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها و لا يشركون به شيئا. 

  • فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق و اذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتي هذا بأخذه مباءة و مرجعا لعبادتي و لا تشرك بي شيئا في عبادتي و سن لعبادي القاصدين بيتي من الطائفين و القائمين و الركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك. 

  • و في الآية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف و قيام و ركوع و سجود و إشعار بأن الركوع و السجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر. 

  • و مما قيل في الآية أن قوله: {بَوَّأْنَا} معناه «قلنا تبوء» و قيل: معناه «أعلمنا» و من ذلك أن {مَكَانَ} في قوله: {أَنْ لاَ} مصدرية و قيل: مخففة من الثقيلة، و من ذلك أن المراد بالطائفين الطارءون و بالقائمين المقيمون بمكة، و قيل: المراد بالقائمين و الركع السجود: المصلون، و هي جميعا وجوه بعيدة. 

تفسير الميزان ج۱٤

369
  • قوله تعالى{وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَ عَلىَ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} التأذين‌: الاعلام برفع الصوت و لذا فسر بالنداء، و الحج‌ القصد سمي به العمل الخاص الذي شرعه أولا إبراهيم (عليه السلام) و جرت عليه شريعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) لما فيه من قصد البيت الحرام، و رجال‌ جمع راجل خلاف الراكب، و الضامر المهزول الذي أضمره السير، و الفج العميق على ما قيل الطريق البعيد. 

  • و قوله: {وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ} أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحج و الجملة معطوفة على قوله: {لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} و المخاطب به إبراهيم و ما قيل: إن المخاطب نبينا محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) بعيد من السياق. 

  • و قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} إلخ، جواب الأمر أي أذن فيهم و أن تؤذن فيهم يأتوك راجلين و على كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، و لفظة {كُلِّ} تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق. 

  • قوله تعالى{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} إلخ، اللام للتعليل أو الغاية و الجار و المجرور متعلق بقوله: {يَأْتُوكَ} و المعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم و قد أطلقت المنافع و لم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية. 

  • و المنافع نوعان: منافع دنيوية و هي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية و يصفو بها العيش و ترفع بها الحوائج المتنوعة و تكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة و السياسة و الولاية و التدبير و أقسام الرسوم و الآداب و السنن و العادات و مختلف التعاونات و التعاضدات الاجتماعية و غيرها. 

  • فإذا اجتمعت أقوام و أمم من مختلف مناطق الأرض و أصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب و الألوان و السنن و الآداب ثم تعارفوا بينهم و كلمتهم واحدة هي كلمة الحق و إلههم واحد و هو الله عز اسمه و وجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح و وحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه و أعطاه ما يرضيه، و استعان قوم بآخرين في حل مشكلتهم و أعانوهم بما في مقدرتهم فيبدل كل مجتمع جزئي مجتمعا أرقى، ثم امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعا وسيعا له من القوة و العدة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، و لا تقوى عليه أي قوة 

تفسير الميزان ج۱٤

370
  • جبارة طاحنة، و لا وسيلة إلى حل مشكلات الحياة كالتعاضد و لا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، و لا تفاهم كتفاهم الدين. 

  • و منافع أخروية و هي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الإنسان من قول و فعل و عمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله و ترك لذائذ الحياة و شواغل العيش و السعي إليه بتحمل المشاق و الطواف حول بيته و الصلاة و التضحية و الإنفاق و الصيام و غير ذلك. 

  • و قد تقدم فيما مر أن عمل الحج بما له من الأركان و الأجزاء يمثل دورة كاملة مما جرى على إبراهيم (عليه السلام) في مسيره في مراحل التوحيد و نفي الشريك و إخلاص العبودية لله سبحانه. 

  • فإتيان الناس إبراهيم (عليه السلام) أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع أخرويها و دنيويها و إذا شهدوها تعلقوا بها فالإنسان مجبول على حب النفع. 

  • و قوله: {وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ} قال الراغب: و البهيمة ما لا نطق له و ذلك لما في صوته من الإبهام لكن خص في التعارف بما عدا السباع و الطير فقال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ}. انتهى. 

  • و قال: و النعم‌ مختص بالإبل و جمعه أنعام و تسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة، لكن الأنعام تقال للإبل و البقر و الغنم، و لا يقال لها: أنعام حتى تكون في جملتها الإبل. انتهى. 

  • فالمراد ببهيمة الأنعام الأنواع الثلاثة: الإبل و البقر و الغنم من معز أو ضأن و الإضافة بيانية. 

  • و الجملة أعني قوله: {وَ يَذْكُرُوا}، إلخ معطوف على قوله: {لِيَشْهَدُوا} أي و ليذكروا اسم الله في أيام معلومات أي في أيام التشريق على ما فسرها أئمة أهل البيت (عليه السلام) و هي يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و ثلاثة أيام بعده. 

  • و ظاهر قوله: {عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ} أنه متعلق بقوله: {يَذْكُرُوا} و قوله: {مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ} بيان للموصول و المراد ذكرهم اسم الله على البهيمة الأضحية عند ذبحها أو نحوها على خلاف ما كان المشركون يهلونها لأصنامهم. 

  • و قد ذكر الزمخشري أن قوله: {وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ} إلخ كناية عن الذبح و النحر 

تفسير الميزان ج۱٤

371
  • و يبعده أن في الكلام عناية خاصة بذكر اسمه تعالى بالخصوص و العناية في الكناية متعلقة بالمكني عنه دون نفس الكناية، و يظهر من بعضهم أن المراد مطلق ذكر اسم الله في أيام الحج و هو كما ترى. 

  • و قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْبَائِسَ اَلْفَقِيرَ} البائس‌ من البؤس و هو شدة الضر و الحاجة، و الذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصي إلزامي. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ} التفث‌ شعث البدن، و قضاء التفث إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار و أخذ الشعر و نحو ذلك و هو كناية عن الخروج من الإحرام. 

  • و المراد بقوله: {وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، و بقوله: {وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ} طواف النساء على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام) فإن الخروج من الإحرام يحلل له كل ما حرم به إلا النساء فتحل بطواف النساء و هو آخر العمل. 

  • و البيت العتيق‌ هو الكعبة المشرفة سميت به لقدمه فإنه أول بيت بني لعبادة الله كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدىً لِلْعَالَمِينَ} آل عمران: ٩٦، و قد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة و هو معمور و كان له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين و خمسمائة سنة. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} إلى آخر الآية الحرمة، ما لا يجوز انتهاكه و وجب رعايته، و الأوثان‌ جمع وثن و هو الصنم، و الزور الميل عن الحق و لذا يسمى الكذب و قول الباطل زورا. 

  • و قوله: {ذَلِكَ} أي الأمر ذلك أي الذي شرعناه لإبراهيم (عليه السلام) و من بعده من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه و أشرنا إليه من الإحرام و الطواف و الصلاة و التضحية بالإخلاص لله و التجنب عن الشرك. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ندب إلى تعظيم حرمات الله و هي الأمور التي نهى عنها و ضرب دونها حدودا منع عن تعديها و اقتراف ما وراءها و تعظيمها الكف عن التجاوز إليها. 

  • و الذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة و تمهيد لما بعدها من قوله {وَ أُحِلَّتْ 

تفسير الميزان ج۱٤

372
  • لَكُمُ اَلْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلىَ عَلَيْكُمْ} فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الأنعام على كونها مما رزقهم الله و قد أحلها لهم فيها حرمة إلهية و هي التي يدل عليها الاستثناء إلا ما يتلى عليكم . 

  • و المراد بقوله {مَا يُتْلىَ عَلَيْكُمْ} استمرار التلاوة، فإن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام و هي مكية و في سورة النحل و هي نازلة في آخر عهده (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة و أول عهده بالمدينة، و في سورة البقرة و قد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها على ما روي و لا موجب لجعل {يُتْلىَ} للاستقبال و أخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه. 

  • و الآيات المتضمنة لمحرمات الأكل و إن تضمنت منها عدة أمور كالميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها و ما بعدها بخصوص ما أهل به لغير الله فإن المشركين كانوا يتقربون في حجهم و هو السنة الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم بالأصنام المنصوبة على الكعبة و على الصفا و على المروة و بمنى و يهلون بضحاياهم لها فالتجنب منها و من الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنى به من الآية و إن كان أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير أيضا من جملة حرمات الله. 

  • و يؤيد ذلك أيضا تعقيب الكلام بقوله: {فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ} فإن اجتناب الأوثان و اجتناب قول الزور و إن كانا من تعظيم حرمات الله و لذلك تفرع {فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ} على ما تقدمه من قوله: {وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذ و إصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك و إهلال الضحايا باسمها. 

  • و بذلك يظهر أن قوله: {فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ} نهي عام عن التقرب إلى الأصنام و قول الباطل أورد لغرض التقرب إلى الأصنام في عمل الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، و عن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من الضحايا، و على ذلك يبتني التفريع بالفاء. 

  • و في تعليق حكم الاجتناب أولا بالرجس ثم بيانه بقوله: {مِنَ اَلْأَوْثَانِ} إشعار بالعلية كأنه قيل: اجتنبوا الأوثان لأنها رجس و في تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها 

تفسير الميزان ج۱٤

373
  • أو التقرب أو التوجه إليها أو مسها و نحو ذلك مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالأعمال دون الأعيان مبالغة ظاهرة. 

  • و قد تبين بما مر أن {مَنْ} في قوله: {مِنَ اَلْأَوْثَانِ} بيانية، و ذكر بعضهم أنها ابتدائية، و المعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان و هو عبادتها، و ذكر آخرون أنها تبعيضية، و المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الأوثان و هو عبادتها، و في الوجهين من التكلف و إخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى. 

  • قوله تعالى{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ} إلخ، الحنفاء جمع حنيف و هو المائل من الأطراف إلى حاق الوسط. و كونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار و هي الآلهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير مشركين به معنى. 

  • و هما أعني قوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} و قوله: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} حالان عن فاعل {فَاجْتَنِبُوا} أي اجتنبوا التقرب من الأوثان و الإهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبون في الحج بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك. 

  • و قوله: {وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ} أي تأخذه بسرعة، شبه المشرك في شركه و سقوطه به من أعلى درجات الإنسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير. 

  • و قوله: {أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي بعيد في الغاية و هو معطوف على {فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ} تشبيه آخر من جهة البعد. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ} {ذَلِكَ} خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي قلنا، و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و شعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ} و قال: {وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ} (الآية). 

  • و المراد بها البدن التي تساق هديا و تشعر أي يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام) و يؤيده ظاهر قوله تلوا: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} إلخ، و قوله بعد: {وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا} (الآية)، و قيل: المراد بها جميع 

تفسير الميزان ج۱٤

374
  • الأعلام المنصوبة للطاعة، و السياق لا يلائمه. 

  • و قوله: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ} أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه فأرجع إليه الضمير. 

  • و إضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى و هي التحرز و التجنب عن سخطه تعالى و التورع عن محارمه أمر معنوي يرجع إلى القلوب و هي النفوس و ليست هي جسد الأعمال التي هي حركات و سكنات فإنها مشتركة بين الطاعة و المعصية كالمس في النكاح و الزنا، و إزهاق الروح في القتل قصاصا أو ظلما و الصلاة المأتي بها قربة أو رياء و غير ذلك، و لا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان و الطاعة و نحوها. 

  • قوله تعالى{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ} المحل‌ بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل، و ضمير {فِيهَا} للشعائر، و المعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر و هي البدن منافع من ركوب ظهرها و شرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، و الجملة في معنى قوله: {هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ} هذا على تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام). 

  • و أما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك و منتهاها إلى البيت العتيق لأن آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت. 

  • قوله تعالى{وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلىَ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ} إلى آخر الآية. المنسك‌ مصدر ميمي و اسم زمان و مكان، و ظاهر قوله: {لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ} إلخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة و هي العبادة التي فيها ذبح و تقريب قربان. 

  • و المعنى: و لكل أمة من الأمم السالفة المؤمنة جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أمة شرعت لهم التضحية و تقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك. 

  • و قوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع 

تفسير الميزان ج۱٤

375
  • لكم و للأمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم و إله من قبلكم إله واحد فأسلموا و استسلموا له بإخلاص عملكم له و لا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في {فَإِلَهُكُمْ} لتفريع السبب على المسبب و في قوله: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} لتفريع المسبب على السبب. 

  • و قوله: {وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ} فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين، و قد فسره بقوله: {اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصَّابِرِينَ عَلىَ مَا أَصَابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاَةِ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} و انطباق الصفات المعدودة في الآية و هي الوجل و الصبر و إقامة الصلاة و الإنفاق، على من حج البيت مسلما لربه معلوم. 

  • قوله تعالى{وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} إلى آخر الآية البدن‌ بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين و هي السمينة الضخمة من الإبل، و السياق أنها من الشعائر باعتبار جعلها هديا. 

  • و قوله: {فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} الصواف جمع صافة و معنى كونها صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها و رجلاها و جمعت و قد ربطت يداها. 

  • و قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ} الوجوب‌ السقوط يقال: وجبت الشمس أي سقطت و غابت، و الجنوب جمع جنب، و المراد بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها و هو كناية عن موتها، و الأمر في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} للإباحة و ارتفاع الحظر، و القانع‌ هو الفقير الذي يقنع بما أعطيه سواء سأل أم لا، و المعتر هو الذي أتاك و قصدك من الفقراء، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى{لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوىَ مِنْكُمْ} إلى آخر الآية. بمنزلة دفع الدخل كأن متوهما بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعا في هذه الضحايا و لحومها و دمائها فأجيب أن الله سبحانه لن يناله شي‌ء من لحومها و دمائها لتنزهه عن الجسمية و عن كل حاجة و إنما يناله التقوى نيلا معنويا فيقرب المتصفين به منه تعالى. 

  • أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزها عن الجسمية و عن كل نقص و حاجة و لا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فأجيب بتقرير الكلام و أن الأمر كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها و هذه الصفة المعنوية من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى و تقرب صاحبها منه تقريبا لا يبقى معه بينه و بينه حجاب يحجبه عنه. 

تفسير الميزان ج۱٤

376
  • و قوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلىَ مَا هَدَاكُمْ} الظاهر أن المراد بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء و العظمة، فالهداية هي هدايته إلى طاعته و عبوديته و المعنى كذلك سخرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته و التقرب إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء و العظمة على هذه الهداية. 

  • و قيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة و بالهداية الهداية إلى تسخيرها و المعنى كذلك سخرها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها. 

  • و أول الوجهين أوجه و أمس بالسياق فإن التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام و هو تسخيرها لتضحى و يتقرب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه العبادة التي فيها رضاه و ثوابه، و أما مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها لهم فلا اختصاص له بالمقام. 

  • و قوله: {وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ} أي الذين يأتون بالأعمال الحسنة أو بالإحسان و هو الإنفاق في سبيل الله. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في قوله تعالى: {وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} إلخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعثه مع رجلين أحدهما مهاجري و الآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام و هرب إلى مكة فنزلت فيه {وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الإسلام. 

  • أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها و رجوع الذيل إلى الصدر و كونه متمما لمعناه كما مر. 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله {وَ اَلْبَادِ} قال: نزلت في قريش حين صدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن مكة، و قوله: {سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ} قال: أهل مكة و من جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول و دخول الحرم.

  • و في التهذيب بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية {سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ} فقال كانت مكة ليس على شي‌ء منها باب، 

تفسير الميزان ج۱٤

377
  • و كان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، و ليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور و منازلها.

  • أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و تحرير المسألة في الفقه. 

  • و في الكافي عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: كل ظلم إلحاد، و ضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإلحاد. 

  • و فيه بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل: {وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فقال: كل ظلم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شي‌ء من الظلم فإني أراه إلحادا، و لذلك كان يتقي أن يسكن الحرم.

  • أقول: و رواه أيضا في العلل عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) و فيه: و لذلك كان ينهى أن يسكن الحرم‌، و في معنى هذه الرواية و التي قبلها روايات أخر. 

  • و في الكافي أيضا بإسناده عن الربيع بن خثيم قال: شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) و هو يطاف به حول الكعبة في محمل و هو شديد المرض فكان كلما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض فأخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم يقول: ارفعوني. 

  • فلما فعل ذلك مرارا في كل شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إن هذا يشق عليك فقال: إني سمعت الله عز و جل يقول: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فقلت: منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: الكل

  • و في المجمع في الآية و قيل: منافع الآخرة و هي العفو و المغفرة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

  • أقول: و إثبات إحدى المنفعتين لا ينفي العموم كما في الرواية السابقة. 

  • و في العيون فيما كتبه الرضا (عليه السلام) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل: و علة الحج الوفادة إلى الله عز و جل و طلب الزيادة و الخروج من كل ما اقترف و ليكون تائبا مما مضى مستأنفا لما يستقبل، و ما فيه من استخراج الأموال و تعب الأبدان، و حظرها عن الشهوات و اللذات و التقرب بالعبادة إلى الله عز و جل و الخضوع و الاستكانة. 

تفسير الميزان ج۱٤

378
  • و الذل شاخصا في الحر و البرد و الأمن و الخوف، دائبا في ذلك دائما. 

  • و ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، و الرغبة و الرهبة إلى الله تعالى، و منه ترك قساوة القلب و جسأة النفس و نسيان الذكر و انقطاع الرجاء و الأمل، و تجديد الحقوق و حظر النفس عن الفساد، و منفعة من في شرق الأرض و غربها و من في البر و البحر ممن يحج و من لا يحج من تاجر و جالب و بائع و مشتر و كاسب و مسكين، و قضاء حوائج أهل الأطراف و المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم. 

  • أقول و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن الفضل بن شاذان عنه (عليه السلام).

  • و في المعاني بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قال: هي أيام التشريق.

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخر عن الباقر و الصادق (عليه السلام)، و هناك ما يعارضها كما يدل على أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة، و ما يدل على أن المعلومات عشر ذي الحجة و المعدودات أيام التشريق، و الآية أشد ملاءمة لما يدل على أن المراد بالمعلومات أيام التشريق. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال: هو الحلق و ما في جلد الإنسان.

  • و في الفقيه في رواية البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: التفث تقليم الأظفار و طرح الوسخ و طرح الإحرام عنه. 

  • و في التهذيب بإسناده عن حماد الناب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ} قال: هو طواف النساء.

  • أقول: و في معنى الروايات الثلاث روايات أخرى عنهم (عليه السلام). 

  • و في الكافي بإسناده عن أبان عمن أخبره عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: لم سمى الله البيت العتيق؟ قال: هو بيت حر عتيق من الناس لم يملكه أحد. 

  • و في تفسير القمي حدثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث يذكر فيه غرق قوم نوح قال: و إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق.

  • و في الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه و الترمذي و حسنه و ابن جرير 

تفسير الميزان ج۱٤

379
  • و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما سمى الله البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة - فلم يظهر عليه جبار قط

  • أقول: أما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدقها و قد خرب البيت ثم غيره عبد الله بن الزبير نفسه ثم الحصين بن نمير بأمر يزيد ثم الحجاج بأمر عبد الملك ثم القرامطة، و يمكن أن يكون مراده (صلى الله عليه وآله و سلم) الإخبار عما مضى على البيت و أما الرواية السابقة عليها فلم تثبت. 

  • و فيه أخرج سفيان بن عيينة و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الحجر من البيت لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) طاف بالبيت من ورائه، قال الله: {وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ}

  • أقول: و في معناه روايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام). 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و الحاكم و صححه عن جبير بن مطعم: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت و صلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار. 

  • و في المجمع: {فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ} و روى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار من ذلك. {وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ} و روى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهية. 

  • و فيه و روى أيمن بن خزيم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه خطبنا فقال: أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ}

  • أقول: و روى ما في الذيل في الدر المنثور عن أحمد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن أيمن. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى} قال: إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها و إن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها۱ 

  •  

    1. نهك الضرع: استوفى ما فيه. 

تفسير الميزان ج۱٤

380
  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: يركب الرجل بدنته بالمعروف

  • أقول: و روى أيضا نظيره عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في تفسير القمي قوله: {فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ} قال: العابدين. 

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: ذلك حين تصف للنحر تربط يديها ما بين الخف إلى الركبة، و وجوب جنوبها إذا وقعت على الأرض. 

  • و فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} قال: إذا وقعت على الأرض {فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ} قال: القانع الذي يرضى بما أعطيته و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا، و المعتر المار بك لتطعمه. 

  • و في المعاني عن سيف التمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سعيد بن عبد الملك قدم حاجا فلقي أبي فقال: إني سقت هديا فكيف أصنع؟ فقال: أطعم أهلك ثلثا، و أطعم القانع ثلثا، و أطعم المسكين ثلثا. قلت: المسكين هو السائل؟ قال: نعم، و القانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، و المعتر يعتريك لا يسألك. 

  • أقول: و الروايات في المعاني السابقة عن الأئمة كثيرة و ما نقلناه نبذة منها. 

  • و في جوامع الجامع في قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا} و روي أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت. 

  • أقول: روى ما في معناه في الدر المنثور عن ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس. 

  • و في تفسير القمي قوله عز و جل: {لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلىَ مَا هَدَاكُمْ} قال: التكبير أيام التشريق في الصلوات بمنى في عقيب خمس عشر صلاة، و في الأمصار عقيب عشرة صلوات.

  •  

  • [ سورة الحج (٢٢): الآیات ٣٨ الی ٥٧]

  • {إِنَّ اَللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ 

تفسير الميزان ج۱٤

381
  • كَفُورٍ ٣٨ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٣٩ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ ٤١ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ ثَمُودُ ٤٢ وَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ ٤٣ وَ أَصْحَابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى‌ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٤٤ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلى‌ عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ ٤٥ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ ٤٦ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ٤٧ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ ٤٨ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٤٩ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

تفسير الميزان ج۱٤

382
  • وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٥٠وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ ٥١ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آيَاتِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٢ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٣ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٤ وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ٥٥ اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٥٦ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ٥٧} 

  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات إذن المؤمنين في القتال و هي كما قيل أول ما نزلت في الجهاد و قد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول لهم: لم أومر بشي‌ء في القتال، و كان يأتيه كل يوم و هو بمكة قبل الهجرة أفراد من المؤمنين بين مضروب و مشجوج و معذب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكة من المشركين فيسليهم و يأمرهم بالصبر و انتظار الفرج حتى نزلت الآيات و هي تشتمل على قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} إلخ. 

تفسير الميزان ج۱٤

383
  • و هي كما تقدم أول ما نزلت في الجهاد، و قيل: أول ما نزل فيه قول تعالى: {وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} البقرة: ١٩٠، و قيل: إنه قوله: {إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرىَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ} (الآية): التوبة: ١١١. 

  • و الاعتبار يستدعي أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا و ذلك لاشتمالها على الإذن صريحا و احتفافها بالتوطئة و التمهيد و تهييج القوم و تقوية قلوبهم و تثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحا و تصريحا و ذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم و كل ذلك من لوازم تشريع الأحكام الهامة و بيانها و إبلاغها لأول مرة و خاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية و التفدية و هو أشق حكم اجتماعي و أصعبه في الإسلام و أمسه بحفظ المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام و استيقاظ الأفهام كما هو مشاهد في هذه الآيات. 

  • فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم. ثم نص على إذنهم في القتال و ذكر أنهم مظلومون و القتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة و وصفهم بأنهم صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم و أنه سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} المدافعة مبالغة في الدفع، و الخوان‌ اسم مبالغة من الخيانة و كذا الكفور من الكفران و المراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة و إن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لأن الآيات تشرع القتال و لا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، و المورد لا يكون مخصصا. 

  • و المراد بكل خوان كفور المشركون، و إنما كانوا مكثرين في الخيانة و الكفران لأن الله حملهم أمانة الدين الحق و جعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه و رعايته سعادة الدارين و عرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد و الإنكار و غمرهم بنعمه الظاهرة و الباطنة فكفروا بها و لم يشكروه بالعبودية. 

  • و في الآية تمهيد لما في الآية التالية من الإذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع عن الذين آمنوا و إنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء و لا يحب أولئك لخيانتهم و كفرهم فهو إنما يحب هؤلاء لأمانتهم و شكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين. 

تفسير الميزان ج۱٤

384
  • فهو تعالى مولاهم و وليهم الذي يدفع عنهم أعداءه كما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلىَ لَهُمْ} سورة محمد: ١١. 

  • قوله تعالى{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ظاهر السياق أن المراد بقوله: {أُذِنَ} إنشاء الإذن دون الإخبار عن إذن سابق و إنما هو إذن في القتال كما يدل عليه قوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} إلخ، و لذا بدل قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا} من قوله: {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} ليدل على المأذون فيه. 

  • و القراءة الدائرة {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء مبنيا للمفعول أي الذين يقاتلهم المشركون لأنهم الذين أرادوا القتال و بدءوهم به، و الباء في {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} للسببية و فيه تعليل الإذن في القتال أي أذن لهم فيه بسبب أنهم ظلموا، و أما ما هو الظلم فتفسيره قوله: {اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلخ. 

  • و في عدم التصريح بفاعل {أُذِنَ} تعظيم و تكبير و نظيره ما في قوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} من ذكر القدرة على النصر دون فعليته فإن فيه إشارة إلى أنه مما لا يهتم به لأنه هين على من هو على كل شي‌ء قدير. 

  • و المعنى أذن من جانب الله للذين يقاتلهم المشركون و هم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا من جانب المشركين و إن الله على نصرهم لقدير، و هو كناية عن النصر. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ} إلى آخر الآية بيان جهة كونهم مظلومين و هو أنهم أخرجوا من ديارهم و قد أخرجهم المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم. 

  • و لم يخرجوهم بحمل و تسفير بل آذوهم و بالغوا في إيذائهم و شددوا بالتعذيب و التفتين حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة و التغرب عن الوطن و ترك الديار و الأموال فقوم إلى الحبشة و آخرون إلى المدينة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، فإخراجهم إياهم إلجاؤهم إلى الخروج. 

  • و قوله: {إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ} استثناء منقطع معناه و لكن أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله، و فيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم و ألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل ربنا الله و هو كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره. 

  • و قيل: الاستثناء متصل و المستثنى منه هو الحق و المعنى أخرجوا بغير حق إلا 

تفسير الميزان ج۱٤

385
  • الحق الذي هو قولهم: ربنا الله. و أنت خبير بأنه لا يناسب المقام فإن الآية في مقام بيان أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق لا أنهم إنما أخرجوا بهذا الحق لا بحق غيره. 

  • و توصيف الذين آمنوا بهذا الوصف كونهم مخرجين من ديارهم و هو وصف بعضهم و هم المهاجرون من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد و الائتلاف فإن المؤمنين إخوة و هم يد واحدة على من سواهم و توصيف، الأمم بوصف بعض الأفراد في القرآن الكريم فوق حد الإحصاء. 

  • و قوله: {وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً} الصوامع‌ جمع صومعة و هي بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال و البراري و يسكنه الزهاد و المعتزلون من الناس للعبادة، و البيع‌ جمع بيعة بكسر الباء معبد اليهود و النصارى، و الصلوات‌ جمع صلاة و هي مصلى اليهود سمي بها تسمية للمحل باسم الحال كما أريد بها المسجد في قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارىَ} إلى قوله {وَ لاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}

  • و قيل: هي معرب «صلوثا» بالثاء المثلثة و القصر و هي بالعبرانية المصلى، و المساجد جمع مسجد و هو معبد المسلمين. 

  • و الآية و إن وقعت موقع التعليل بالنسبة إلى تشريع القتال و الجهاد، و محصلها أن تشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شر أعداء الدين المهتمين بإطفاء نور الله فلو لا ذلك لانهدمت المعابد الدينية و المشاعر الإلهية و نسخت العبادات و المناسك. 

  • لكن المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال فإن دفع بعض الناس بعضا ذبا عن منافع الحياة و حفظا لاستقامة حال العيش سنة فطرية جارية بين الناس و السنن الفطرية منتهية إليه تعالى و يشهد به تجهيز الإنسان كسائر الموجودات بأدوات و قوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع و الدفاع عن نفسه أو أي شأن من شئون نفسه مما تتم به حياته و تتوقف عليه سعادته. 

  • و الدفع بالقتال آخر ما يتوسل إليه من الدفع إذا لم ينجع غيره من قبيل آخر الدواء الكي ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض و تحمل لمشقة في سبيل راحة سنة جارية في المجتمع الإنساني بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما و استقلال ما. 

تفسير الميزان ج۱٤

386
  • ففي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية و هي دفع الناس بعضهم بعضا عن شئون حياتهم، و إذا نسب إلى الله سبحانه كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضيعة. 

  • و إنما اختص انهدام المعابد بالذكر مع أن من المعلوم أنه لو لا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه و انمحت جميع آثاره لأن هذه المعابد و المعاهد هي الشعائر و الأعلام الدالة على الدين المذكرة له الحافظة لصورته في الأذهان. 

  • و قوله: {وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} قسم مع تأكيد بالغ على نصره تعالى من ينصره بالقتال ذبا عن الدين الإلهي و لقد صدق الله وعده فنصر المسلمين في حروبهم و مغازيهم فأيدهم على أعدائه و رفع ذكره ما كانوا ينصرونه. 

  • و المعنى أقسم لينصرن الله من ينصره بالدفاع عن دينه إن الله لقوي لا يضعفه أحد و لا يمنعه شي‌ء عما أراد عزيز منيع الجانب لا يتعدى إلى ساحة عزته و لا يعادله شي‌ء في سلطنته و ملكه. 

  • و يظهر من الآية أنه كان في الشرائع السابقة حكم دفاعي في الجملة و إن لم يبين كيفيته. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ} إلخ توصيف آخر للذين آمنوا المذكورين في أول الآيات، و هو توصيف المجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الأشخاص و المراد من تمكينهم في الأرض إقدارهم على اختيار ما يريدونه من نحو الحياة من غير مانع يمنعهم أو مزاحم يزاحمهم. 

  • يقول تعالى: إن من صفتهم أنهم إن تمكنوا في الأرض و أعطوا الحرية في اختيار ما يستحبونه من نحو الحياة عقدوا مجتمعا صالحا تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر و تخصيص الصلاة من بين الجهات العبادية و الزكاة من بين الجهات المالية بالذكر لكون كل منهما عمدة في بابها. 

  • و إذ كان الوصف للذين آمنوا المذكورين في صدر الآيات و المراد به عقد مجتمع صالح و حكم الجهاد غير خاص بطائفة خاصة فالمراد بهم عامة المؤمنين يومئذ بل عامة المسلمين إلى يوم القيامة و الخصيصة خصيصتهم بالطبع فمن طبع المسلم بما هو مسلم الصلاح و إن كان ربما غشيته الغواشي. 

تفسير الميزان ج۱٤

387
  • و ليس المراد بهم خصوص المهاجرين بأعيانهم سواء كانت الآيات مكية أو مدنية و إن كان المذكور من جهة المظلومية هو إخراجهم من ديارهم و ذلك لمنافاته عموم الموصوف المذكور في صدر الآيات و عموم حكم الجهاد لهم و لغيرهم قطعا. 

  • على أن المجتمع الصالح الذي عقد لأول مرة في المدينة ثم انبسط فشمل عامة جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو أفضل مجتمع متكون في تاريخ الإسلام تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و تؤمر فيه بالمعروف و تنهى فيه عن المنكر مشمول للآية قطعا و كان السبب الأول ثم العامل الغالب فيه الأنصار دون المهاجرين. 

  • و لم يتفق في تاريخ الإسلام للمهاجرين، خاصة أن يعقدوا وحدهم مجتمعا من غير شركة من الأنصار فيقيموا الحق و يميطوا الباطل فيه اللهم إلا أن يقال: إن المراد بهم أشخاص الخلفاء الراشدين أو خصوص علي (عليه السلام) على الخلاف بين أهل السنة و الشيعة، و في ذلك إفساد معنى جميع الآيات. 

  • على أن التاريخ يضبط من أعمال الصدر الأول و خاصة المهاجرين منهم أمورا لا يسعنا أن نسميها إحياء للحق و إماتة للباطل سواء قلنا بكونهم مجتهدين معذورين أم لا فليس المراد توصيف أشخاصهم بل المجموع من حيث هو مجموع. 

  • و قوله: {وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ} تأكيد لما تقدم من الوعد بالنصر و إظهار المؤمنين على أعداء الدين الظالمين لهم. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلى قوله {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فيه تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن تكذيب قومه له ليس ببدع فقد كذبت أمم قبلهم لأنبيائهم. و إنذار و تخويف للمكذبين بالإشارة إلى ما انتهى إليه تكذيب من قبلهم من الأمم و هو الهلاك بعذاب من الله تعالى. 

  • و قد عد من تلك الأمم قوم نوح و عادا و هم قوم هود و ثمود و هم قوم صالح و قوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و هم قوم شعيب، و ذكر تكذيب موسى. قيل: و لم يقل: و قوم موسى لأن قومه بنو إسرائيل و كانوا آمنوا به، و إنما كذبه فرعون و قومه. 

  • و قوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} الإملاء الإمهال و تأخير الأجل، و النكير الإنكار، و المعنى فأمهلت الكافرين الذين كذبوا رسلهم 

تفسير الميزان ج۱٤

388
  • من هذه الأمم ثم أخذتهم و هو كناية عن العقاب فكيف كان إنكاري لهم في تكذيبهم و كفرهم؟ و هو كناية عن بلوغ الإنكار و شدة الأخذ. 

  • قوله تعالى{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلىَ عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ} قرية خاوية على عروشها أي ساقطة جدرانها على سقوفها فهي خربة، و البئر المعطلة الخالية من الواردين و المستقين و شاد القصر أي جصصه و الشيد بالكسر الجص. 

  • و قوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ظاهر السياق أنه بيان لقوله في الآية السابقة: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} و قوله: {وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ} عطف على قرية. 

  • و المعنى: فكم من قرية أهلكنا أهلها حال كونهم ظالمين فهي خربة ساقطة جدرانها على سقوفها، و كم من بئر معطلة باد النازلون عليها فلا وارد لها و لا مستقي منها، و كم من قصر مجصص هلك سكانها لا يرى لهم أشباح و لا يسمع منهم حسيس، و أصحاب الآبار أهل البدو و أصحاب القصور أهل الحضر. 

  • قوله تعالى{أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} إلخ، حث و تحضيض على الاعتبار بهذه القرى الهالكة و الآثار المعطلة و القصور المشيدة التي تركتها تلك الأمم البائدة بالسير في الأرض فإن السير فيها ربما بعث الإنسان إلى أن يتفكر في نفسه في سبب هلاكهم و يستحضر الحجج في ذلك فيتذكر أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله و إعراضهم عن آياته و استكبارهم على الحق بتكذيب الرسل فيكون له قلب يعقل به و يردعه عن الشرك و الكفر هذا إن وسعه أن يستقل بالتفكير. 

  • و إن لم يسعه ذلك بعثه الاعتبار إلى أن يصغي إلى قول المشفق الناصح الذي لا يريد به إلا الخير و عظة الواعظ الذي يميز له ما ينفعه مما يضره و لا عظة ككتاب الله و لا ناصح كرسوله فيكون له أذن يسمع بها ما يهتدي به إلى سعادته. 

  • و من هنا يظهر وجه الترديد في الآية بين القلب و الأذن من غير تعرض للبصر و ذلك لأن الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل و تمييز الخير من الشر و النافع من الضار و بين الاتباع لمن يجوز اتباعه و هذان شأن القلب و الأذن. 

  • ثم لما كان المعنيان جميعا التعقل و السمع في الحقيقة من شأن القلب أي 

تفسير الميزان ج۱٤

389
  • النفس المدركة فهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق عد إدراك القلب لذلك رؤية له و مشاهدة منه، و لذلك عد من لا يعقل و لا يسمع أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين لأن الذي يعمى بصره يمكنه أن يتدارك بعض منافعه الفائتة بعصا يتخذها أو بهاد يأخذه بيده و أما القلب فلا بدل له يتسلى به، و هو قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ}

  • و جعل الصدر ظرفا للقلب من المجاز في النسبة، و في الكلام مجاز آخر ثان من هذا القبيل و هو نسبة العقل إلى القلب و هو للنفس، و قد تقدم التنبيه عليه مرارا. 

  • قوله تعالى{وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} كان القوم يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أخبرهم أن الله سبحانه وعده أن يعذبهم إن لم يؤمنوا به فكانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء به و تعجيزا له قائلين: متى هذا الوعد؟ فرد الله عليهم بقوله: {وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ} فإن كان المراد بالعذاب عذاب مشركي مكة فالذي وعدهم من العذاب هو ما ذاقوه يوم بدر و إن كان المراد به ما يقضى به بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين أمته بعذاب موعود لم ينزل بعد و قد أخبر الله عنه في قوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ} يونس: ٤٧ إلى آخر الآيات. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} حكم بتساوي اليوم الواحد و الألف سنة عند الله سبحانه فلا يستقل هذا و لا يستكثر ذلك حتى يتأثر من قصر اليوم الواحد و طول الألف سنة فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب بل هو حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدر لهم من أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون، و لذا عقب الكلام بقوله في الآية التالية: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ}

  • و قوله: {وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} رد لاستعجالهم بالعذاب بأن الله يستوي عنده قليل الزمان و كثيره، كما أن قوله: {وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ} تسلية و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رد لتكذيبهم له فيما أخبرهم به من وعد الله و تعجيزهم له و استهزائهم به. 

تفسير الميزان ج۱٤

390
  • و قيل: معنى قوله: {وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ} إن يوما من أيام الآخرة التي سيعذبون فيها يعدل ألف سنة من أيام الدنيا التي يعدونها. و قيل: المراد أن يوما لهم و هم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا. 

  • و المعنيان لا يلائمان صدر الآية و لا الآية التالية كما هو ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ} (الآية) كما مر متممة لقوله: {وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} بمنزلة الشاهد على صدق المدعى، و المعنى: قليل الزمان و كثيره عند ربك سواء و قد أملى لكثير من القرى الظالمة و أمهلها ثم أخذها بعد مهل. 

  • و قوله: {وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ} بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شي‌ء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل. 

  • و قد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} إلخ، فلكل من الآيتين مفادها. 

  • و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لأن الكلام فيها في صفة من صفاته تعالى و هو الحلم و المطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه. 

  • قوله تعالى{قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} إلى قوله {أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ} أمر بإعلام الرسالة بالإنذار و بيان ما للإيمان به و العمل الصالح من الأجر الجميل و هو المغفرة بالإيمان و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، و ما للكفر و الجحود من التبعة السيئة و هي صحابة الجحيم من غير مفارقة. 

  • و قوله: {سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} السعي‌ الإسراع في المشي و هو كناية عن بذل الجهد في أمر آيات الله لإبطالها و إطفاء نورها بمعاجزة، الله و التعبير بلفظ المتكلم مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني قوله: {أَمْلَيْتُ لَهَا} إلخ. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلخ، التمني‌ تقدير الإنسان وجود ما يحبه سواء كان ممكنا أو ممتنعا كتمني الفقير أن يكون غنيا و من لا ولد له أن يكون ذا ولد، و تمني الإنسان أن يكون له بقاء لا فناء معه و أن يكون له جناحان يطير بهما، و يسمى صورته الخيالية 

تفسير الميزان ج۱٤

391
  • التي يلتذ بها أمنية، و الأصل في معناه المني بالفتح فالسكون بمعنى التقدير، و قيل: ربما جاء بمعنى القراءة و التلاوة يقال: تمنيت الكتاب أي قرأته. و الإلقاء في الأمنية المداخلة فيها بما يخرجها عن صرافتها و يفسد أمرها. 

  • و معنى الآية على أول المعنيين و هو كون التمني هو تمني القلب: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى و قدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه و إقبال الناس عليه و إيمانهم به ألقى الشيطان في أمنيته و داخل فيها بوسوسة الناس و تهييج الظالمين و إغراء المفسدين فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي و أبطل سعيه فينسخ الله و يزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي و إظهار الحق و الله عليم حكيم. 

  • و المعنى: على ثاني المعنيين و هو كون التمني بمعنى القراءة و التلاوة: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تلا و قرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضلة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها و يفسدوا على المؤمنين إيمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه و يذهب به بتوفيق النبي لرده أو بإنزال ما يرده. 

  • و في الآية دلالة واضحة على اختلاف معنى النبوة و الرسالة لا بنحو العموم و الخصوص مطلقا كما اشتهر بينهم أن الرسول هو من بعث و أمر بالتبليغ و النبي من بعث سواء أمر بالتبليغ أم، لا إذ لو كان كذلك لكان من الواجب أن يراد بقوله في الآية: {وَ لاَ نَبِيٍّ} غير الرسول أعني من لم يؤمر بالتبليغ، و ينافيه قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا}

  • و قد قدمنا في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ما يدل من روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الرسول هو من ينزل عليه الملك بالوحي فيراه و يكلمه و النبي هو من يرى المنام و يوحى إليه فيه، و قد استفدناه مضمون هذه الروايات من قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} إسراء: ٩٥ في الجزء الثالث عشر من الكتاب. 

  • و أما سائر ما قيل في الفرق بين الرسالة و النبوة كقول من قال: إن الرسول من بعث بشرع جديد و النبي أعم منه و ممن جاء مقررا لشرع سابق ففيه أنا قد أثبتنا في مباحث النبوة أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمسة و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد ص و قد صرح القرآن على رسالة جمع كثير 

تفسير الميزان ج۱٤

392
  • منهم غير هؤلاء. على أن هذا القول لا دليل له. 

  • و قول من قال: إن الرسول من كان له كتاب و النبي بخلافه و قول من قال: إن الرسول من له كتاب و نسخ في الجملة و النبي بخلافه، و يرد على القولين نظير ما ورد على القول الأول. 

  • و في قوله: {فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آيَاتِهِ} التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و الوجه فيه العناية بذكر لفظ الجلالة و إسناد النسخ و الإحكام إلى من لا يقوم له شي‌ء، و لذلك بعينه أعاد لفظ الجلالة ثانيا مع أنه من وضع الظاهر موضع المضمر و منه أيضا إعادة لفظ الشيطان ثانيا دون ضميره ليشار إلى أن الملقي هو الشيطان الذي لا يعبأ به و بكيده في قباله تعالى، و كان الظاهر أن يقال: فينسخ ما يلقيه ثم يحكم آياته. 

  • قوله تعالى{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} إلخ، مرض القلب عدم استقامة حاله في التعقل بأن لا يذعن بما من شأنه أن يذعن به من الحق و هو الشك و الارتياب، و قساوة القلب صلابته و غلظه مأخوذ من الحجر القاسي أي الصلب. و صلابته بطلان عواطفه الرقيقة المعينة في إدراك المعاني الحقة كالخشوع و الرحمة و التواضع و المحبة فالقلب المريض سريع التصور للحق بطي‌ء الإذعان به، و القلب القسي بطيئهما معا، و كلاهما سريع القبول للوساوس الشيطانية.

  • و الإلقاءات الشيطانية التي تفسد الأمور على الحق و أهله و تبطل مساعي الرسل و الأنبياء دون أن تؤثر أثرها و إن كانت مستندة إلى الشيطان نفسه لكنها كسائر الآثار لما كانت واقعة في ملكه تعالى، و لا يقع أثر من مؤثر أو فعل من فاعل إلا بإذنه، و لا يقع شي‌ء بإذنه إلا استند إليه استنادا ما بمقدار الإذن، و لا يستند إليه إلا ما فيه خير لا يخلو من مصلحة و غاية. 

  • لذا ذكر سبحانه في هذه الآية أن لهذه الإلقاءات الشيطانية مصلحة و هي أنها محنة يمتحن بها الناس عامة و الامتحان من النواميس الإلهية العامة الجارية في العالم الإنساني و يتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته و الشقي بشقائه، و فتنة يفتتن بها الذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم خاصة فإن تلبس الأشقياء بكمال شقائهم من التربية الإلهية المقصودة في نظام الخلقة، قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ 

تفسير الميزان ج۱٤

393
  • وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} إسراء: ٢٠. 

  • و هذا معنى قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فاللام في {لِيَجْعَلَ} للتعليل يعلل بها إلقاء الشيطان في أمنية الرسول و النبي أي يفعل الشيطان كذا ليفعل الله كذا و معناه أنه مسخر لله سبحانه لغرض امتحان العباد و فتنة أهل الشك و الجحود و غرورهم. 

  • و قد تبين أن المراد بالفتنة الابتلاء و الامتحان الذي ينتج الغرور و الضلال و بالذين في قلوبهم مرض أهل الشك من الكفار و بالقاسية قلوبهم أهل الجحود و العناد منهم. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الشقاق و المشاقة المباينة و المخالفة و توصيفه بالبعد توصيف له بحال موصوفه، و المعنى: و إن الظالمين و هم أهل الجحود على ما يعطيه السياق أو هم و أهل الشك جميعا لفي مباينة و مخالفة بعيد صاحبها من الحق و أهله. 

  • قوله تعالى{وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} إلخ، المتبادر من السياق أنه عطف على قوله: {لِيَجْعَلَ} و تعليل لقوله: {فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آيَاتِهِ} و الضمير في {أَنَّهُ} على هذا لما يتمناه الرسول و النبي المفهوم من قوله {إِذَا تَمَنَّى} إلخ، و لا دليل على إرجاعه إلى القرآن. 

  • و المعنى: فينسخ الله ما يلقيه الشيطان ثم يحكم آياته ليعلم الذين أوتوا العلم بسبب ذاك النسخ و الأحكام أن ما تمناه الرسول أو النبي هو الحق من ربك لبطلان ما يلقيه الشيطان فيؤمنوا به فتخبت أي تلين و تخشع له قلوبهم. 

  • و يمكن أن يكون قوله {وَ لِيَعْلَمَ} معطوفا على محذوف و مجموع المعطوف و المعطوف عليه تعليلا لما بينه في الآية السابقة من جعله تعالى هذا الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم. 

  • و المعنى: إنما بينا هذه الحقيقة لغاية كذا و كذا و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك «إلخ» على حد قوله: {وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا} آل عمران: ١٤٠، و هو كثير الورود في القرآن. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَهَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في مقام التعليل لكون علم الذين أوتوا العلم غاية مترتبة على فعله تعالى فيفيد أنه تعالى إنما فعل ما فعل ليعلموا 

تفسير الميزان ج۱٤

394
  • أن الأمر حق لأنه هاد يريد أن يهديهم فيهديهم بهذا التعليم إلى صراط مستقيم. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ} إلخ الآية كما ترى تخبر عن حرمان هؤلاء الذين كفروا من الإيمان مدى حياتهم فليس المراد بهم مطلق الكفار لقبول بعضهم الإيمان بعد الكفر فالمراد به عدة من صناديد قريش الذين لم يوفقوا للإيمان ما عاشوا كما في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} البقرة: ٦. 

  • و عقم اليوم كونه بحيث لا يخلف يوما بعده و هو يوم الهلاك أو يوم القيامة، و المراد به في الآية على ما يعطيه سياق الآية الثالثة يوم القيامة. 

  • و المعنى و يستمر الذين كفروا في شك من القرآن حتى يأتيهم يوم القيامة أو يأتيهم عذاب يوم القيامة و هو يوم يأتي بغتة لا يمهلهم حتى يحتالوا له بشي‌ء و لا يخلف بعده يوما حتى يقضى فيه ما فات قبله. 

  • و إنما ردد بين يوم القيامة و بين عذابه لأنهم يعترفون عند مشاهدة كل منهما بالحق و يطيح عنهم الريب و المرية قال تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ} يس: ٥٢، و قال: {وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلىَ وَ رَبِّنَا} الأحقاف: ٣٤. 

  • و قد ظهر بما تقدم أن تقييد اليوم تارة بكونه بغتة و تارة بالعقم للدلالة على كونه بحيث لا ينفع معها حيلة و لا يقع بعدها تدارك لما فات قبله. 

  • قوله تعالى{اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} إلى قوله {عَذَابٌ مُهِينٌ} قد تقدم مرارا أن المراد بكون الملك يومئذ لله ظهور كون الملك له تعالى لأن الملك له دائما و كذا ما ورد من نظائره من أوصاف يوم القيامة في القرآن ككون الأمر يومئذ لله و كون القوة يومئذ لله و هكذا. 

  • و لسنا نعني به أن المراد بالملك مثلا في الآية ظهور الملك مجازا بل نعني به أن الملك قسمان ملك حقيقي حق و ملك مجازي صوري و للأشياء ملك مجازي صوري ملكها الله ذلك و له تعالى مع ذلك الملك الحق بحقيقة معناه حتى إذا كان يوم القيامة ارتفع كل ملك صوري عن الشي‌ء المتلبس به و لم يبق من الملك إلا حقيقته و هو لله وحده فمن خاصة يوم القيامة أن الملك يومئذ لله و على هذا القياس. 

تفسير الميزان ج۱٤

395
  • و قوله: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي و لا حاكم غيره لأن الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن يومئذ لأحد نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم. 

  • و قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} و هؤلاء المعاندون المستكبرون {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} بيان لحكمه تعالى. 

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بقتال و لا أذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} و قلده سيفا. 

  • و فيه كان المشركون يؤذون المسلمين. لا يزال يجي‌ء مشجوج و مضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يشكون ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. و هي أول آية نزلت في القتال.

  • أقول: و روى في الدر المنثور عن جم غفير من أرباب الجوامع عن ابن عباس و غيره: أنها أول آية نزلت في القتال. و ما اشتمل عليه بعض هذه الروايات أنها نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة إن صحت الرواية فهو اجتهاد من الراوي لما مر أن الآية مطلقة و أنه لا يعقل توجيه حكم القتال إلى أشخاص من الأمة بأعيانهم و هو حكم عام. 

  • و نظير الكلام جار في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} إلخ بل و في قوله: {اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلخ على ما تقدم في البيان. 

  • و فيه في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} و قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمد الذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا.

  • أقول: و على ذلك يحمل‌ ما في المناقب عنه (عليه السلام): في الآية: نحن. نزلت فينا و في روضة الكافي عنه (عليه السلام): جرت في الحسين (عليه السلام). 

  • و كذا ما في المجمع: في قوله تعالى: {وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ} عنه (عليه السلام): نحن هم. و كذا ما في الكافي، و المعاني، و كمال الدين، عن الصادق و الكاظم (عليه السلام): 

تفسير الميزان ج۱٤

396
  • في قوله تعالى: {وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ} قالا: البئر المعطلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق. 

  • و في الدر المنثور أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نصر السجزي في الإبانة و البيهقي في شعب الإيمان و الديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليس الأعمى من يعمى بصره و لكن الأعمى من تعمى بصيرته. 

  • و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك.

  • أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى. و المراد بمعاينة الملك على ما في غيره من الروايات نزول الملك عليه و ظهوره له و تكليمه بالوحي، و قد تقدم بعض هذه الروايات في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال :قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع {أَ فَرَأَيْتُمُ اَللاَّتَ وَ اَلْعُزَّى وَ مَنَاةَ اَلثَّالِثَةَ اَلْأُخْرىَ} ألقى الشيطان على لسانه «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد و سجدوا. 

  • ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: أعرض علي ما جئتك به فلما بلغ «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قال جبريل لم آتك بهذا. هذا من الشيطان فأنزل الله {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ} (الآية). 

  • أقول: الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس و جمع من التابعين و قد صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر. 

  • لكن الأدلة القطعية على عصمته (صلى الله عليه وآله و سلم) تكذب متنها و إن فرضت صحة سندها فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة مضافا إلى أن الرواية تنسب إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) أشنع الجهل و أقبحه فقد تلى «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» و جهل أنه ليس من كلام الله و لا نزل به جبريل، و جهل أنه كفر صريح يوجب الارتداد و دام على جهة حتى سجد و سجدوا في آخر السورة و لم يتنبه ثم دام على جهله 

تفسير الميزان ج۱٤

397
  • حتى نزل عليه جبريل و أمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه و أعاد الجملتين و هو مصر على جهله حتى أنكره عليه جبريل ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع و الخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياء و المرسلين و هي قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}

  • و بذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعا عن الحديث بأن ذلك كان سبقا من لسان دفعه بتصرف من الشيطان سهوا منه (عليه السلام) و غلطا من غير تفطن. فلا متن الحديث على ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق على هذه المعذرة، و لا دليل العصمة يجوز مثل هذا السهو و الغلط. 

  • على أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان في لسانه (صلى الله عليه وآله و سلم) بإلقاء آية أو آيتين في القرآن الكريم لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ} (الآية) فيضعه في لسان النبي و ذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه و هو حديث الغرانيق سترا على سائر ما ألقاه. 

  • أو يكون حديث الغرانيق من الكلام الله، و آية {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ} إلخ، و جميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان و يستر بما ألقاه من الآية و أبطل من حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، و بذلك يرتفع الاعتماد و الوثوق بكتاب الله من كل جهة و تلغو الرسالة و الدعوة النبوية بالكلية جلت ساحة الحق من ذلك.

  •  

  • [سورة الحج (٢٢): الآیات ٥٨ الی ٦٦]

  • {وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٥٨ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ٥٩ ذَلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا

تفسير الميزان ج۱٤

398
  • عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ٦٠ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٦١ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبَاطِلُ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ ٦٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ٦٣ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ٦٤ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ٦٥ وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ٦٦} 

  • (بيان) 

  • الآيات تعقب الغرض السابق و تبين ثواب الذين هاجروا ثم قتلوا جهادا في سبيل الله أو ماتوا، و فيها بعض التحريض على القتال و الوعد بالنصر كما يدل عليه قوله: {ذَلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ} (الآية). 

  • و قد اختصت هذه الآيات بخصوصية لا توجد في جميع القرآن الكريم إلا فيها فهي ثمان آيات متوالية ختمت كل منها باسمين من أسماء الله الحسنى وراء لفظ الجلالة و قد اجتمعت فيها بناء على اسمية الضمير «هو» ستة عشر اسما و إن الله لهو خير الرازقين العليم الحليم العفو الغفور السميع البصير العلي الكبير اللطيف الخبير الغني الحميد الرءوف الرحيم، ثم ذكر في الآية التاسعة أنه تعالى يحيي و يميت و في أثنائها أنه 

تفسير الميزان ج۱٤

399
  • الحق و أن له ما في السماوات و الأرض و هي في معنى أربعة أسماء أعني المحيي المميت الحق المالك أو الملك فتلك عشرون اسما من أسمائه اجتمعت في الآيات الثمان على ألطف وجه و أبدعه. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} لما ذكر إخراج المهاجرين من ديارهم ظلما عقبه بذكر ما يثيبهم به على مهاجرتهم و محنتهم في سبيل الله و هو وعد حسن برزق حسن. 

  • و قد قيد الهجرة بكونها في سبيل الله لأن المثوبة إنما تترتب على صالح العمل، و إنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه و كونه في سبيله لا في سبيل غيره من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية، و بمثل ذلك يتقيد قوله: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا و قد تغربوا في سبيل الله. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ} ختم للآية يعلل به ما ذكر فيها من الرزق الحسن و هو النعمة الأخروية إذ موطنها بعد القتل و الموت، و في الآية إطلاق الرزق على نعم الجنة كما في قوله: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آل عمران: ١٦٩. 

  • قوله تعالى{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} المدخل‌ بضم الميم و فتح الخاء اسم مكان من الإدخال و احتمال كونه مصدرا ميميا لا يناسب السياق تلك المناسبة. 

  • و توصيف هذا المدخل و هو الجنة بقوله: {يَرْضَوْنَهُ} و الرضا مطلق، دليل على اشتمالها على أقصى ما يريده الإنسان كما قال: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ} الفرقان: ١٦. 

  • و قوله: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} بيان لقوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} و إدخاله إياهم مدخلا يرضونه و لا يكرهونه على الرغم من إخراج المشركين إياهم إخراجا يكرهونه و لا يرضونه و لذا علله بقوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بما يرضيهم فيعده لهم إعدادا حليم فلا يعاجل العقوبة لأعدائهم الظالمين لهم. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} ذلك خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي أخبرناك به و ذكرناه لك، و العقاب مؤاخذة الإنسان بما يكرهه بإزاء فعله ما لا يرتضيه المعاقب و إنما سمي 

تفسير الميزان ج۱٤

400
  • عقابا لأنه يأتي عقيب الفعل. 

  • و العقاب بمثل العقاب كناية عن المعاملة بالمثل و لما لم يكن هذه المعاملة بالمثل حسنا إلا فيما كان العقاب الأول من غير حق قيده بكونه بغيا فعطف قوله: {بُغِيَ عَلَيْهِ} بثم عليه. 

  • و قوله: {لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ} ظاهر السياق و المقام مقام الإذن في الجهاد أن المراد بالنصر هو إظهار المظلومين على الظالمين الباغين و تأييدهم عليهم في القتال لكن يمكن أن يستظهر من مثل قوله: {وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} إسراء: ٣٣ أن المراد بالنصر هو تشريع حكم للمظلوم يتدارك به ما وقع عليه من وصمة الظلم و البغي فإن في إذنه أن يعامل الظالم الباغي عليه بمثل ما فعل بسطا ليده على من بسط عليه اليد. 

  • و بهذا يتضح معنى تعليل النصر بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فإن الإذن و الإباحة في موارد الاضطرار و الحرج و ما شابه ذلك من مقتضيات صفتي العفو و المغفرة كما تقدم مرارا في أمثال قوله تعالى: {فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} المائدة: ٣ و قد أوضحنا ذلك في المجازاة و العفو في آخر الجزء السادس من الكتاب. 

  • و المعنى على هذا و من عامل من عاقبه بغيا عليه بمثل ما عاقب نصره الله بإذنه فيه و لم يمنعه عن المعاملة بالمثل لأن الله عفو غفور يمحو ما تستوجبه هذه المعاملة و الانتقام من المساءة و التبعة كأن العقاب و إيصال المكروه إلى الناس مبغوض في نظام الحياة غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية و يستر على أثره السيئ إذا كان عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه، فيجيز له ذلك و لا يمنعه بالتحريم و الحظر. 

  • و بذلك يظهر أيضا مناسبة ذكر وصف الحلم في آخر الآية السابقة { إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} و يظهر أيضا أن {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} للتراخي بحسب الذكر لا بحسب الزمان. 

  • و أما ما أوردوه في معنى الآية: و من جازى الجاني بمثل ما جنى به عليه ثم 

تفسير الميزان ج۱٤

401
  • بغي عليه بالمعاودة إلى العقاب لينصرنه الله على من بغي عليه إن الله لعفو غفور لمن ارتكبه من العقاب إذ كان تركا للأولى لأن الأولى هو الصبر و العفو عن الجاني كما قال تعالى: {وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوىَ}، و قال: {فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ}، و قال: {وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ} الشورى: ٤٣. 

  • ففيه أولا: أنه لما أخذت «ثم» للتراخي بحسب الزمان أفاد كون العقاب غير البغي و مطلق العقاب أعم من أن يكون جناية، و عمومها للجناية و غيرها يفسد معنى الكلام، و إرادة خصوص الجناية منه - كما فسر - إرادة معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ. 

  • و ثانيا: أنه فسر النصرة بالنصرة التكوينية دون التشريعية فكان إخبارا عن نصره تعالى المظلوم على الظالم إذا قابله بالمجازاة على جنايته ثم بغيه و الواقع ربما يتخلف عن ذلك. 

  • و ثالثا: أن قتال المشركين و الجهاد في سبيل الله من مصاديق هذه الآية قطعا، و لازم ما ذكر أن يكون تركه بالعفو عنهم أولى من فعله و هو واضح الفساد. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إيلاج‌ كل من الليل و النهار في الآخر حلوله محل الآخر كورود ضوء الصباح على ظلمة الليل كشي‌ء يلج في شي‌ء ثم اتساعه و إشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل، و ورود ظلمة المساء على نور النهار كشي‌ء يلج في شي‌ء ثم اتساعها و شمول الليل. 

  • و المشار إليه بذلك بناء على ما تقدم من معنى النصر ظهور المظلوم بعقابه على الظالم الباغي عليه، و المعنى أن ذلك النصر بسبب أن من سنة الله أن يظهر أحد المضادين و المتزاحمين على الآخر كما يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و أن الله سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم و هو مهضوم الحق بعينه و ما يسأله بلسان حاله في سمعه. 

  • و ذكر في معنى الآية وجوه أخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن ذكرها أولى. 

تفسير الميزان ج۱٤

402
  • قوله تعالى{ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبَاطِلُ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه و إلى ما ذكر من سببه. 

  • و الحصر أن في قوله: {بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ} و قوله: {وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبَاطِلُ} إما بمعنى أنه تعالى حق لا يشوبه باطل و أن ما يدعون من دونه و هي الأصنام باطل لا يشوبه حق فهو قادر على أن يتصرف في تكوين الأشياء و أن يحكم لها و عليها بما شاء. 

  • و إما بمعنى أنه تعالى حق بحقيقة معنى الكلمة مستقلا بذلك لا حق غيره إلا ما حققه هو، و أن ما يدعون من دونه و هي الأصنام بل كل ما يركن إليه و يدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، و إنما كان باطلا إذ كان لا حقية له باستقلاله. 

  • و المعنى على أي تقدير أن ذلك التصرف في التكوين و التشريع من الله سبحانه بسبب أنه تعالى حق يتحقق بمشيته كل حق غيره، و أن آلهتهم من دون الله و كل ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شي‌ء. 

  • و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ} علوه تعالى بحيث يعلو و لا يعلى عليه و كبره بحيث لا يصغر لشي‌ء بالهوان و المذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال و موجودا لا يمسه عدم. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفا بإنزال الماء من السماء و المراد بها جهة العلو و صيرورة الأرض بذلك مخضرة. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} تعليل لجعل الأرض مخضرة بإنزال الماء من السماء فتكون نتيجة هذا التعليل و ذاك الاستشهاد كأنه قيل: إن الله ينزل كذا فيكون كذا لأنه لطيف خبير و هو يشهد بعموم قدرته. 

  • قوله تعالى{لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ} ظاهره أنه خبر بعد خبر لأن فهو تتمة التعليل في الآية السابقة كأنه قيل: إن الله لطيف خبير مالك لما في السماوات و ما في الأرض يتصرف في ملكه كما يشاء بلطف و خبرة، و يمكن أن يكون استئنافا يفيد تعليلا باستقلاله. 

تفسير الميزان ج۱٤

403
  • و قوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ} يفيد عدم حاجته إلى شي‌ء من تصرفاته بما هو غني على الإطلاق و هي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الإطلاق فمفاد الاسمين معا أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى الخلق أنفسهم. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ، استشهاد آخر على عموم القدرة، و المقابلة بين تسخير ما في الأرض و تسخير الفلك في البحر يؤيد أن المراد بالأرض البر مقابل البحر، و على هذا فتعقيب الجملتين بقوله: {وَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاءَ} إلخ، يعطي أن محصل المراد أن الله سخر لكم ما في السماء و الأرض برها و بحرها. 

  • و المراد بالسماء جهة العلو و ما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه مما يسقط من الأحجار السماوية و الصواعق و نحوها. 

  • و قد ختم الآية بصفتي الرأفة و الرحمة تتميما للنعمة و امتنانا على الناس. 

  • قوله تعالى{وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} سياق الماضي في {أَحْيَاكُمْ} يدل على أن المراد به الحياة الدنيا و أهمية المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية. 

  • و هذه الحياة ثم الموت ثم الحياة من النعم الإلهية العظمى ختم بها الامتنان و لذا عقبها بقوله: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}

  • (بحث روائي) 

  • في جامع الجوامع في قوله: {وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا} إلى قوله {لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} روي أنهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا أن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} (الآية) روي أن الآية نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم: 

تفسير الميزان ج۱٤

404
  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن مقاتل و أثر الضعف ظاهر عليه فإن المشركين كانوا يحرمون الأشهر الحرم، و قد تقدم في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (الآية): البقرة - ٢١٧، في الجزء الثاني من الكتاب من الروايات في قصة عبد الله بن جحش و أصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية. 

  •  

  • [سورة الحج (٢٢): الآیات ٦٧ الی ٧٨]

  • {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ وَ اُدْعُ إِلى‌ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى‌ هُدىً مُسْتَقِيمٍ ٦٧ وَ إِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ٦٨ اَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ٦٩ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ٧٠وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ٧١ وَ إِذَا تُتْلى‌ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ اَلنَّارُ وَعَدَهَا اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٧٢ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ ٧٣ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٧٤ اَللَّهُ يَصْطَفِي

تفسير الميزان ج۱٤

405
  • مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٧٥ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٧٦ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٧٧ وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هَذَا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى‌ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ ٧٨}  

  • (بيان) 

  • الآيات تأمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بالدعوة و تبين أمورا من حقائق الدعوة و أباطيل الشرك ثم تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة و هو عبادة الله و فعل الخير و تختم بالأمر بحق الجهاد في الله و بذلك تختتم السورة. 

  • قوله تعالى{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ} إلى آخر الآية. المنسك‌ مصدر ميمي بمعنى النسك و هو العبادة و يؤيده قوله: {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي يعبدون تلك العبادة، و ليس اسم مكان كما احتمله بعضهم. 

  • و المراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه (صلى الله عليه وآله و سلم) كالعرب و العجم و الروم لوحدة الشريعة و عموم النبوة. 

  • و قوله: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ} نهي للكافرين بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن منازعته في المناسك التي أتى بها و هم و إن كانوا لا يؤمنون بدعوته و لا يرون لما أتى به 

تفسير الميزان ج۱٤

406
  • من الأوامر و النواهي وقعا يسلمون له و لا أثر لنهي من لا يسلم للناهي طاعة و لا مولوية لكن هذا النهي لما كان معتمدا على الحجة لم يصر لغوا لا أثر له و هي صدر الآية. 

  • فكأن الكفار من أهل الكتاب أو المشركين لما رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلا نازعوه في ذلك من أين جئت به و لا عهد به في الشرائع السابقة و لو كان من شرائع النبوة لعرفه المؤمنين من أمم الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية. 

  • و معناها أن كلا من الأمم كان لهم منسك هم ناسكوه و عبادة يعبدونها و لا يتعداهم إلى غيرهم لما أن الله سبحانه بدل منسك السابقين مما هو أحسن منه في حق اللاحقين لتقدمهم في الرقي الفكري و استعدادهم في اللاحق لما هو أكمل و أفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حق اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين. 

  • و لما كان نهيهم عن منازعته (صلى الله عليه وآله و سلم) في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم و نهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله: {وَ اُدْعُ إِلىَ رَبِّكَ} كأنه قيل: طب نفسا و لا تعبأ بمنازعتهم و اشتغل بما أمرت به و هو الدعوة إلى ربك. 

  • و علل ذلك بقوله: {إِنَّكَ لَعَلىَ هُدىً مُسْتَقِيمٍ} و توصيف الهدى بالاستقامة و هي وصف الصراط الذي إليه الهداية من المجاز العقلي. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} سياق الآية السابقة يؤيد أن المراد بهذا الجدال المجادلة و المراء في أمر اختلاف منسكه (صلى الله عليه وآله و سلم) مع الشرائع السابقة بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، و قد أمر (صلى الله عليه وآله و سلم) بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون. 

  • و قيل: المراد بقوله: {إِنْ جَادَلُوكَ} مطلق الجدال في أمر الدين، و قيل: الجدال في أمر الذبيحة و السياق السابق لا يساعد عليه. 

  • و قوله: {فَقُلِ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} توطئة و تمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي الله أعلم بعملكم و يحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، و إنما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون و تخالفون الحق و أهله و الاختلاف و التخالف بمعنى كالاستباق و التسابق. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ 

تفسير الميزان ج۱٤

407
  • ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي إن ما يعملون بعض ما في السماء و الأرض و هو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم. 

  • و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} تأكيد لما تقدمه أي إن ما علمه من شي‌ء مثبت في كتاب فلا يزول و لا ينسى و لا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم، و قوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ} أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هين عليه. 

  • قوله تعالى{وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} إلخ الباء في {بِهِ} بمعنى مع، و السلطان البرهان و الحجة و المعنى و يعبد المشركون من دون الله شيئا و هو ما اتخذوه شريكا له تعالى لم ينزل الله معه حجة حتى يأخذوها و يحتجوا بها و لا أن لهم به علما. 

  • قيل: إنما أضاف قوله: {وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} على قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لأن الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجة و دليل كالضروريات. 

  • و ربما فسر نزول السلطان بالدليل السمعي و وجود العلم بالدليل العقلي أي يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع و لا العقل، و فيه أنه لا دليل عليه و تنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبي كذلك يصدق على تنزيل البرهان على القلوب. 

  • و قوله: {وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} قيل: هو تهديد للمشركين و المراد أنه ليس لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب. 

  • و الظاهر على ما يعطيه السياق أنه في محل الاحتجاج على أن ليس لهم برهان على شركائهم و لا علم، بأنه لو كان لهم حجة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ البرهان نصير لمن يحتج به و العلم نصير للعالم لكنهم ظالمون و ما للظالمين من نصير فليس لهم برهان و لا علم، و هذا من ألطف الاحتجاجات القرآنية. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ} إلخ المنكر مصدر ميمي بمعنى الإنكار، و المراد بمعرفة الإنكار في وجوههم معرفة أثر الإنكار و الكراهة، و {يَسْطُونَ} من السطوة و هي على ما في مجمع البيان: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال سطا عليه يسطو سطوة و سطاعة و الإنسان مسطو عليه، و السطوة و البطشة بمعنى. انتهى. 

تفسير الميزان ج۱٤

408
  • و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا و الحال أنها واضحات الدلالة تعرف و تشهد في وجوه الذين كفروا أثر الإنكار يقربون من أن يبطشوا على الذين يتلون و يقرءون عليهم آياتنا لما يأخذهم من الغيظ. 

  • و قوله: {قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} تفريع على إنكارهم و تحرزهم من استماع القرآن أي قل: أ فأخبركم بما هو شر من هذا الذي تعدونه شرا تحترزون منه و تتقون أن تسمعوه أ فأخبركم به لتتقوه إن كنتم تتقون. 

  • و قوله: {اَلنَّارُ وَعَدَهَا اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ} بيان للشر أي ذلكم الذي هو شر من هذا هي النار، و قوله: {وَعَدَهَا اَللَّهُ} إلخ بيان لكونه شرا. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} إلى آخر الآية خطاب للناس جميعا و العناية بالمشركين منهم. 

  • و قوله: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} المثل‌ هو الوصف الذي يمثل الشي‌ء في حالة سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال التي تشتمل على محاورات الحيوانات و الجمادات و مشافهاتها، و ضرب المثل نصبه ليتفكر فيه كضرب الخيمة ليسكن فيها. 

  • و هذا المثل هو قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} و المعنى أنه لو فرض أن آلهتهم شاءوا أن يخلقوا ذبابا و هو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبدا و إن يسلبهم الذباب شيئا مما عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه. 

  • فهذا الوصف يمثل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد و على تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب و على تدبير أهون الأمور و هو استرداد ما أخذه الذباب منهم و أضرهم بذلك و كيف يستحق الدعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟ 

  • و قوله: {ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ} مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الآلهة و هي الأصنام المدعوة فإن المفروض أنهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون و استنقاذ ما سلبه إياهم فلا يقدرون، و المطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق و يطلب ليستنقذ منه. 

  • و في هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من الحيوانات التي فيها شي‌ء من الشعور و القدرة. 

تفسير الميزان ج۱٤

409
  • قوله تعالى{مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} قدر الشي‌ء هندسته و تعيين كميته و يكنى به عن منزلة الشي‌ء التي تقتضيها أوصافه و نعوته يقال: قدر الشي‌ء حق قدره أي نزله المنزلة التي يستحقها و عامله بما يليق به. 

  • و قدره تعالى حق القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا و يعامل كما يستحقه بأن يتخذ ربا لا رب غيره و يعبد وحده لا معبود سواه لكن المشركين ما قدروه حق قدره إذ لم يتخذوه ربا و لم يعبدوه بل اتخذوا الأصنام أربابا من دونه و عبدوها دونه و هم يرون أنها لا تقدر على خلق ذباب و يمكن أن يستذلها ذباب فهي من الضعف و الذلة في نهايتهما، و الله سبحانه هو القوي العزيز الذي إليه ينتهي الخلق و الأمر و هو القائم بالإيجاد و التدبير. 

  • فقوله: {مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيته تعالى و إعراضهم عن عبادته ثم اتخاذهم الأصنام أربابا من دونه يعبدونها خوفا و طمعا دونه تعالى. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل للنفي السابق و قد أطلق القوة و العزة فأفاد أنه قوي لا يعرضه ضعف و عزيز لا تعتريه ذلة كما قال: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة: ١٦٥، و قال: {فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} النساء: ١٣٩، و إنما خص الاسمين بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم و هو الضعف و الذلة فهؤلاء استهانوا أمر ربهم إذ عدلوا بينه تعالى و هو القوي الذي يخلق ما يشاء و العزيز الذي لا يغلبه شي‌ء و لا يستذله من سواه و بين الأصنام و الآلهة الذين يضعفون من خلق ذباب و يستذلهم ذباب ثم لم يرضوا بذلك حتى قدموهم عليه تعالى فاتخذوهم أربابا يعبدونهم دونه تعالى. 

  • قوله تعالى{اَللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الاصطفاء أخذ صفوة الشي‌ء و خالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشي‌ء كما أن الاختيار تناول خيره و الاجتباء تناول جبايته. انتهى. 

  • فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلا و من الناس اختياره من بينهم من يصفو لذلك و يصلح. 

  • و هذه الآية و التي بعدها تبينان وجوب جعل الرسالة و صفتها و صفة الرسل و هي 

تفسير الميزان ج۱٤

410
  • العصمة، و للكلام فيها بعض الاتصال بقوله السابق: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} لإنبائه عن الرسالة. 

  • تبين الآية أولا أن لله رسلا من الملائكة و من الناس، و ثانيا أن هذه الرسالة ليست كيفما اتفقت و ممن اتفق بل هي بالاصطفاء و تعيين من هو صالح لذلك. 

  • و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليل لأصل الإرسال فإن الناس أعني النوع الإنساني يحتاج حاجة فطرية إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم و كمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونية فالحاجة نحو الهداية عامة، و ظهور الحاجة فيهم و إن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم و استدعاء لما ترتفع به حاجتهم و الله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطرية إلى الهداية و يسمع بسمعه سؤالهم ذلك. 

  • فمقتضى سمعه و بصره تعالى أن يرسل إليهم رسولا و يهديهم به إلى سعادتهم التي خلقوا لنيلها و التلبس بها فما كل الناس بصالحين للاتصال بعالم القدس و فيهم الخبيث و الطيب و الطالح و الصالح، و الرسول رسولان رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى و يؤديه إلى الرسول الإنساني و رسول إنساني يأخذ الوحي من الرسول الملكي و يلقيه إلى الناس و بالجملة قوله: {إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يتضمن الحجة على لزوم أصل الإرسال، و أما معنى الاصطفاء و الحجة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ}

  • قوله تعالى{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ} ظاهر السياق أن ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة و الناس، و يشهد وقوع هذا التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا} (الآية): مريم: ٦٤، و قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضىَ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} الجن: ٢٨. 

  • و الآية كما ترى تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم و ما خلفهم لدلالة على أنه تعالى مراقب للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه و بين الناس حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشي‌ء من مكائد الشياطين و تسويلاتهم كل ذلك لأن 

تفسير الميزان ج۱٤

411
  • حملة الوحي من الرسل بعينه و بمشهد منه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و هو بالمرصاد. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم و بين من يؤدون إليه فما بين أيدي الرسول الملكي هو ما بينه و بين الرسول الإنساني و ما بين يدي الرسول الإنساني هو ما بينه و بين الناس، و المراد بما خلفهم هو ما بينهم و بين الله سبحانه و الجميع سائرون من جانب الله إلى الناس. 

  • فالوحي في مأمن إلهي منذ يصدر من ساحة العظمة و الكبرياء إلى أن يبلغ الناس و لازمه أن الرسل معصومون في تلقي الوحي و معصومون في حفظه و معصومون في إبلاغه للناس. 

  • و قوله: {وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ} في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم و ما خلفهم أي كيف يخفى عليه شي‌ء من ذلك؟ و إليه يرجع جميع الأمور و إذ ليس هذا الرجوع رجوعا زمانيا حتى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع و إنما هو مملوكية ذاته له تعالى فلا استقلال له منه و لا خفاء فيه له فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الأمر بالركوع و السجود أمر بالصلاة و مقتضى المقابلة أن يكون المراد بقوله: {وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ} الأمر بسائر العبادات المشرعة في الدين كالحج و الصوم و يبقى لقوله: {وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ} سائر الأحكام و القوانين المشرعة فإن في إقامتها و العمل بها خير المجتمع و سعادة الأفراد و حياتهم كما قال: {اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال: ٢٤. 

  • و في الآية أمر بإجماع الشرائع الإسلامية من عبادات و غيرها. 

  • قوله تعالى{وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} إلى آخر الآية. الجهاد بذل الجهد و استفراغ الوسع في مدافعة العدو، و يطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربما يتوسع في معنى العدو حتى يشمل كل ما يتوقع منه الشر كالشيطان الذي يضل الإنسان و النفس الأمارة بالسوء و غير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها و الاجتناب عن طاعة الشيطان في وسوسته، و قد سمى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مخالفة النفس جهادا أكبر. 

  • و الظاهر أن المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعم و خاصة بالنظر إلى تقييده 

تفسير الميزان ج۱٤

412
  • بقوله: {فِي اَللَّهِ} و هو كل ما يرجع إليه تعالى، و يؤيده أيضا قوله: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}: العنكبوت: ٦٩. 

  • و على ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حق جهاده أن يكون متمحضا في معنى الجهاد و يكون خالصا لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حق تقواه في قوله: {اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} آل عمران - ١٢٤. 

  • و قوله: {هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امتنان منه تعالى على المؤمنين بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة الدين من عند أنفسهم و بحولهم غير أن الله من عليهم إذ وفقهم فاجتباهم و جمعهم للدين، و رفع عنهم كل حرج في الدين امتنانا سواء كان حرجا في أصل الحكم أو حرجا طارئا عليه اتفاقا فهي شريعة سهلة سمحة ملة أبيهم إبراهيم الحنيف الذي أسلم لربه. 

  • و إنما سمي إبراهيم أبا المسلمين لأنه (عليه السلام) أول من أسلم لله كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} البقرة: ١٣١، و قال حاكيا عنه (عليه السلام): {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} إبراهيم: ٣٦ فنسب اتباعه إلى نفسه، و قال أيضا: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} إبراهيم: ٣٥، و مراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعا و قال: {إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} آل عمران: ٦٨. 

  • و قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هَذَا} امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين بعد الامتنان بقوله: {هُوَ اِجْتَبَاكُمْ} فالضمير له تعالى و قوله: {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل نزول القرآن و قوله: {وَ فِي هَذَا} أي و في هذا الكتاب و في امتنانه عليهم بذكر أنه سماهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم. 

  • و قوله: {لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ} المراد به شهادة الأعمال و قد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية ١٤٣ و غيرها و في الآية تعليل ما تقدم من حديث الاجتباء و نفي الحرج و تسميتهم مسلمين. 

  • و قوله: {فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} تفريع على جميع ما تقدم مما امتن به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة و هو إشارة إلى العمل بالأحكام العبادية و المالية و تعتصموا بالله في جميع الأحوال فأتمروا 

تفسير الميزان ج۱٤

413
  • بكل ما أمر به و تنتهوا عن جميع ما نهى عنه و لا تنقطعوا عنه في حال لأنه مولاكم و ليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال و لا للإنسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره بوجه على الاحتمالين في معنى المولى . 

  • فقوله: {هُوَ مَوْلاَكُمْ} في مقام التعليل لما قبله من الحكم، و قوله: {فَنِعْمَ اَلْمَوْلىَ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ} كلمة مدح له تعالى و تطييب لنفوس المؤمنين و تقوية لقلوبهم بأن مولاهم و نصيرهم هو الله الذي لا مولى غيره و لا نصير سواه. 

  • و اعلم أن الذي أوردناه من معنى الاجتباء و كذا الإسلام و غيره في الآية هو الذي ذكره جل المفسرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا في صدر الكلام و شموله عامة المؤمنين و جميع الأمة. 

  • و قد بينا غير مرة أن الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصا بفتح اللام مخصوصا بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، و هذه صفة لا توجد إلا في آحاد معدودين من الأمة دون الجميع قطعا، و كذا الكلام في معنى الإسلام و الاعتصام، و المعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعا. 

  • و على هذا فنسبة الاجتباء و الإسلام و الشهادة إلى جميع الأمة توسع من جهة اشتمالهم على من يتصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل: {وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً} المائدة: ٢٠، و قوله فيهم: {وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ} الجاثية: ١٦ و نظائره كثيرة في القرآن. 

  • (بحث روائي) 

  • عن جوامع الجامع في قوله تعالى: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ} روي أن بديل بن ورقاء و غيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل الله يعنون الميتة. 

  • أقول: سياق الآية لا يساعد عليه. 

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بياع الأنماط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: 

تفسير الميزان ج۱٤

414
  • كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك و العنبر، و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة، و كان نسر عن يسارها، و كانوا إذا دخلوا خروا سجدا ليغوث و لا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثم يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثم يلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه و ما ملك. 

  • قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئا إلا أكله، و أنزل الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (الآية). 

  • و فيه بإسناده عن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} قال: إيانا عنى و نحن المجتبون و لم يجعل الله تبارك و تعالى لنا في الدين من حرج فالحرج أشد من الضيق. 

  • {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} إيانا عنى خاصة {هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ} الله عز و جل سمانا المسلمين {مِنْ قَبْلُ} في الكتب التي مضت {وَ فِي هَذَا} القرآن {لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ} فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك و تعالى و نحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدق يوم القيامة صدقناه و من كذب كذبناه. 

  • أقول: و الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في هذا المعنى كثيرة، و قد تقدم في ذيل الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن هذه الآية {وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قال: الضيق. 

  • و في التهذيب بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله عز و جل قال الله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه. 

تفسير الميزان ج۱٤

415
  • أقول: و في معناها روايات أخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجي و في التمسك بالآية في الحكم دلالة على صحة ما قدمناه في معنى الآية. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و إسحاق بن راهويه في مسنده عن مكحول أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تسمي الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام و سمى أمتي المسلمين، و هو المؤمن و سمى أمتي المؤمنين‌

  • تم و الحمد لله 

تفسير الميزان ج۱٤

416
  •  

  • بعض المواضيع المبحوث عنها في هذا الجزء 

  •