المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الرابع عشر
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل
واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف
(١٩) سورة مريم مكية و هي ثمان و تسعون آية (٩٨)
[سورة مريم (١٩): الآیات ١ الی ١٥]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {كهيعص ١ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ٢ إِذْ نَادىَ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ٣ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ٤ وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ٥ يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ٦ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اِسْمُهُ يَحْيىَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ٧ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا ٨ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ٩ قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ١٠فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ١١ يَا يَحْيى خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا ١٢
وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً وَ كَانَ تَقِيًّا ١٣ وَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا ١٤ وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ١٥}
(بيان)
غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} إلخ، هو التبشير و الإنذار غير أنه ساق الكلام في ذلك سوقا بديعا فأشار أولا إلى قصة زكريا و يحيى و قصة مريم و عيسى و قصة إبراهيم و إسحاق و يعقوب و قصة موسى و هارون و قصة إسماعيل و قصة إدريس و ما خصهم به من نعمة الولاية كالنبوة و الصدق و الإخلاص ثم ذكر أن هؤلاء الذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع و الخشوع لربهم لكن أخلافهم أعرضوا عن ذلك و أهملوا أمر التوجه إلى ربهم و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا و يضل عنهم الرشد إلا أن يتوب منهم تائب و يرجع إلى ربه فإنه يلحق بأهل النعمة.
ثم ذكر نبذة من هفوات أهل الغي و تحكماتهم كنفي المعاد، و قولهم: {اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً}، و عبادتهم الأصنام، و ما يلحقهم بذلك من النكال و العذاب.
فالبيان في السورة أشبه شيء ببيان المدعى بإيراد أمثلته كأنه قيل: إن فلانا و فلانا و فلانا الذين كانوا أهل الرشد و الموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس و التوجه إلى ربهم و سبيلهم الخضوع و الخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم فهذا طريق الإنسان إلى الرشد و النعمة لكن أخلافهم تركوا هذا الطريق بالإعراض عن صالح العمل، و الإقبال على مذموم الشهوة و لا يؤديهم ذلك إلا إلى الغي خلاف الرشد، و لا يقرهم إلا على باطل القول كنفي الرجوع إلى الله و إثبات الشركاء لله و سد طريق الدعوة و لا يهديهم إلا إلى النكال و العذاب.
فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثم تعقبها باستخراج المعنى الكلي المطلوب بيانه و ذلك قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآيات، فالسورة تقسم الناس إلى
ثلاث طوائف: الذين أنعم الله عليهم من النبيين و أهل الاجتباء و الهدى. و أهل الغي، و الذين تابوا و آمنوا و عملوا صالحا و هم ملحقون بأهل النعمة و الرشد ثم تذكر ثواب التائبين المسترشدين و عذاب الغاوين و هم قرناء الشياطين و أولياؤهم.
و السورة مكية بلا ريب تدل على ذلك مضامين آياتها و قد نقل على ذلك اتفاق المفسرين.
قوله تعالى: {كهيعص} قد تقدم في تفسير أول سورة الأعراف أن السور القرآنية المصدرة بالحروف المقطعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها و بين تلك الحروف فالحروف المشتركة تكشف عن مضامين مشتركة.
و يؤيد ذلك ما نجده من المناسبة و المجانسة بين هذه السورة و سورة ص في سرد قصص الأنبياء، و سيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطعات الحروف و مضامين السور التي صدرت بها، و كذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة و سورة يس و قد اشتركتا في الياء، و هذه السورة و سورة الشورى و قد اشتركتا في العين.
قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ظاهر السياق أن الذكر خبر لمبتدء محذوف و المصدر بمعنى المفعول، و المال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربك المذكور، و المراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريا على التفصيل الذي قصة بدليل قوله تلوا: {إِذْ نَادىَ رَبَّهُ}.
قوله تعالى: {إِذْ نَادىَ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} الظرف متعلق بقوله: {رَحْمَتِ رَبِّكَ} و النداء و المناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة، و لا ينافيه توصيفه بالخفاء لإمكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، و يشعر بذلك قوله الآتي: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ}.
و قيل: إن العناية في التعبير بالنداء أنه تصور نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه و أحواله السيئة كما يكون حال من يخاف عذابه.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي} إلى آخر الآية، تمهيد لما سيسأله و هو قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}.
و قد قدم قوله: {رَبِّ} للاسترحام في مفتتح الدعاء، و التأكيد بإن للدلالة على تحققه بالحاجة، و الوهن هو الضعف و نقصان القوة و قد نسبه إلى العظم لأنه الدعامة التي يعتمد عليها البدن في حركته و سكونه، و لم يقل: العظام مني و لا عظمي للدلالة على الجنس و ليأتي بالتفصيل بعد الإجمال.
و قوله: {وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً} الاشتعال انتشار شواظ النار و لهيبها في الشيء المحترق قال في المجمع: و قوله: {وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً} من أحسن الاستعارات و المعنى اشتعل الشيب في الرأس و انتشر، كما ينتشر شعاع النار، و كان المراد بالشعاع الشواظ و اللهيب.
و قوله: {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} الشقاوة خلاف السعادة، و كان المراد بها الحرمان من الخير و هو لازم الشقاوة أو هو هي، و قوله: {بِدُعَائِكَ} متعلق بالشقي و الباء فيه للسببية أو بمعنى في و المعنى و كنت سعيدا بسبب دعائي إياك كلما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقيني و تحرمني، أو لم أكن محروما خائبا في دعائي إياك عودتني الإجابة إذا دعوتك و التقبل إذا سألتك، و الدعاء على أي حال مصدر مضاف إلى المفعول.
و قيل: إن {بِدُعَائِكَ} مصدر مضاف إلى الفاعل، و المعنى لم أكن بدعوتك إياي إلى العبودية و الطاعة شقيا متمردا غير مطيع بل عابدا لك مخلصا في طاعتك و المعنى الأول أظهر.
و في تكرار قوله: {رَبِّ} و وضعه متخللا بين اسم كان و خبره في قوله: {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} من البلاغة ما لا يقدر بقدر، و نظيره قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.
قوله تعالى: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً} تتمة التمهيد الذي قدمه لدعائه، و المراد بالموالي العمومة و بنو العم، و قيل: الكلالة و قيل: العصبة، و قيل: بنو العم فحسب، و قيل: الورثة، و كيف كان فهم غير الأولاد من صلب و المراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتي و كان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، و هو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.
و قوله: {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً} العاقر المرأة التي لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد و رجل عاقر لا يولد له ولد. و في التعبير بقوله: {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي} دلالة على أن امرأته على كونها عاقرا جازت حين الدعاء سن الولادة.
و ظاهر عدم تكرار أن في قوله: {وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي} إلخ أن الجملة حالية و مجموع الكلام أعني قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ} إلى قوله: {عَاقِراً} فصل واحد أريد به أن كون امرأتي عاقرا اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي و بعد وفاتي، فمجموع ما مهده للدعاء يئول إلى فصلين أحدهما أن الله سبحانه عوده الاستجابة مدى عمره حتى شاخ و هرم و الآخر أنه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، و يمكن تصوير الكلام فصولا ثلاثة بأخذ كل من شيخوخته و عقر امرأته فصلا مستقلا.
قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} هذا هو الدعاء، و قد قيد الموهبة الإلهية التي سألها بقوله: {مِنْ لَدُنْكَ} لكونه آيسا من الأسباب العادية التي كانت عنده و هي نفسه و قد صار شيخا هرما ساقط القوى. و امرأته و قد شاخت و كانت قبل ذلك عاقرا.
و ولي الإنسان من يلي أمره، و ولي الميت هو الذي يقوم بأمره و يخلفه فيما ترك، و آل الرجل خاصته الذين يئول إليه أمرهم كولده و أقاربه و أصحابه و قيل: أصله أهل، و المراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام)، و قيل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم و كانت امرأة زكريا أخت مريم و على هذا يكون معنى قوله: {يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يرثني و يرث امرأتي و هي بعض آل يعقوب، و الأشبه حينئذ أن تكون {مِنْ} في قوله: {مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} للتبعيض و إن صح كونها ابتدائية أيضا.
و قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} الرضي بمعنى المرضي، و إطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم و العمل جميعا فالمراد به المرضي في اعتقاده و عمله أي اجعله رب محلى بالعلم النافع و العمل الصالح.
و قد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران و هي مدنية متأخرة نزولا عن سورة مريم المكية بقوله في ذيل قصة مريم {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً
حَسَناً وَ كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعَاءِ}: آل عمران: ٣٨.
و لا يرتاب المتدبر في الآيتين أن الذي دعا زكريا و دفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم و كرامتها على الله سبحانه في عبوديتها و إخلاصها العمل فأحب أن يخلفه خلف له من القرب و الكرامة ما شاهد مثله في مريم ثم ذكر ما هو عليه من الشيب و نفاد القوة و ما عليه امرأته من كبر السن و العقر و له موال لا يرتضيهم فوجد لذلك و هو ذاكر ما عوده ربه من استجابة الدعوة و كفاية كل مهمة ففزع إلى ربه بالدعاء و استيهاب ذرية طيبة.
فقوله في سورة آل عمران: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} بحذاء قوله في سورة مريم: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} و قوله هناك: {طَيِّبَةً} بحذاء قوله هنا: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} و المراد به ما شاهده من القرب و الكرامة عند الله لمريم و عملها الصالح فيبقى قوله هناك: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً}، بحذاء قوله هنا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} و هو يفسره فالمراد بقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} إلخ، ولد صلبي يرثه.
و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنه (عليه السلام) طلب بقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} إلخ، من يقوم مقامه و يرثه ولدا كان أو غيره، و كذا ما قيل: إنه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه و يقوم مقامه من سائر الناس.
و ذلك لصراحة قوله في نفس القصة في سورة آل عمران: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في طلب الولد.
على أن التعبير بمثل {فَهَبْ لِي} المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس من الأجانب و إنما الملائم له التعبير بالجعل و نحوه كما في قوله تعالى: {وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً}: النساء: ٧٥.
و من هنا يظهر أيضا أن المراد بقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} الولد كما عبر عنه في آية آل عمران بالذرية فالمراد بالولي الذرية و هو ولي في الإرث، و المراد بالوراثة وراثة ما
تركه الميت من الأموال و أمتعة الحياة، و هو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب إما لكونه حقيقة في المال و نحوه مجازا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم و سائر الصفات و الحالات المعنوية و إما لكونه منصرفا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أي حال ظاهر في وراثة المال و يتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، و يزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.
و أما قول من قال: إن المراد به وراثة النبوة و أنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه النبوة فيدفعه ما عرفت آنفا أن الذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء و المسألة هو ما شاهده من مريم و لا خبر في ذلك عن النبوة و لا أثر فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة و كرامة فيعجبه ذلك و بين أن يطلب من ربه ولدا يرثه النبوة؟
على أن النبوة مما لا يورث بالنسب و هو ظاهر و لو أصلح ذلك بأن المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازا ظهر الإشكال من جهة أخرى و هي عدم ملائمة ذلك قوله بعد: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولدا نبيا و اجعله رضيا، و لو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشيء بما هو دونه، و كذا احتمال أن يكون المراد بالرضى المرضي عند الناس لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم مع عدم مناسبته لداعيه كما مر.
و يقرب منه في الفساد قول من قال: إن المراد به وراثة العلم و أنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه علمه، إذ لا معنى لأن يشاهد زكريا من مريم عبادة و كرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربه ولدا يرثه علمه من دون أي مناسبة بين الداعي و المدعو إليه.
و القول بأن المراد بالوراثة وراثة العلم و بقوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} العمل الصالح و مجموع العلم النافع و العمل الصالح يقرب مما شاهده من مريم من الإخلاص و العبادة و الكرامة.
يدفعه أن قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع و العمل الصالح لمكان الإطلاق، و إنما الإنسان المحسن عملا مع الغض عن العلم مرضي العمل و لا يسمى مرضيا مطلقا البتة، و نظير ذلك القول بأن المراد بالرضى
المرضي عند الناس.
و يقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى و الكرامة و أنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرث ما له من القرب و المنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولدا له ما لمريم من القرب و الكرامة أو مطلق القرب و الكرامة لا أن يطلب ولدا ينتقل إليه ما لنفسه من القرب و الكرامة.
على أنه لا يلائمه قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} إذ ظاهر السياق أنه يطلب ولدا يرثه و ينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي و هو يخاف منهم أن يتلبسوا بذلك بعد وفاته، و لا معنى لأن يخاف (عليه السلام) تلبس مواليه بالقرب و المنزلة و اتصافهم بالتقوى و الكرامة لا قبل وفاته و لا بعدها فساحة الأنبياء أنزه و أطهر من هذه الضنة و لا أمنية لهم إلا صلاح الناس و سعادتهم.
و قول بعضهم إن مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته بعده، فيه أن هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنية إلهية فهي مما لا يورث بالنسب قطعا، على أنها لا تخطئ المورد الصالح لها و لا يتلبس بها إلا أهلها و لا وجه للخوف من ذلك، و إن كانت خلافة ظاهرية دنيوية تورث بالنسب و نحوه فهي قنية اجتماعية و من أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الآية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة و الملك.
على أن يحيى (عليه السلام) لم يتقلد من هذه الخلافة و الملك شيئا حتى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، و لم يكن لبني إسرائيل ملك في زمن زكريا و يحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.
فإن قلت: يؤيد حمل الوراثة في الآية على وراثة العلم و نحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية و الهمم العليا للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المنقطع الفاني و اتصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما زكريا (عليه السلام) فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع و التجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال و المتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف و الحزن و الخوف و يستدعي من ربه ذلك النحو من الاستدعاء و هو يدل على كمال المحبة
و تعلق القلب بالدنيا و زخارفها.
و القول بأنه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربه وارثا مرضيا فاسد فإنه إذا مات الرجل و انتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ و لا مؤاخذة في ذلك على الميت و لا عتاب.
مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته و يتصدق به كله في سبيل الله و يترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم و قبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى و ترويج الشريعة و بقاء النبوة في أولاده.
قلت: الإشكال مبني على كون قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} مسوقا لبيان طلب الوراثة المالية لولده و الواقع خلافه فليس المقصود من قوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} بالقصد الأول إلا طلب الولد كما هو الظاهر أيضا من قوله في سورة آل عمران: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً} و قوله في موضع آخر: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً}: الأنبياء: ٨٩.
و إنما قوله: {يَرِثُنِي} قرينة معينة لكون المراد بالولي في الكلام ولاية الإرث التي تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عاما ذا مصاديق مختلفة لا يتعين واحد منها إلا بقرينة معينة كما قيدت بالنصرة في قوله: {وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ}: الشورى: ٤٦، و المراد به ولاية النصرة، و قيدت بالأمر و النهي في قوله: {وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ}: التوبة: ٧١، و المراد ولاية التدبير. إلى غير ذلك.
و لو لا أن المراد به الوراثة المالية و أنها قرينة معينة لم يبق في الكلام ما يدل على طلب الولد الذي هو المقصود الأصلي بالدعاء فإن وراثة العلم أو النبوة أو العبادة و الكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الآية على شيء من هذه المعاني فيبقى الدعاء خاليا عن الدلالة على المطلوب الأصلي و كفى به سقوطا للكلام.
و بالجملة، العناية إنما هي متعلقة بإفادة طلب الولد، و أما الوراثة المالية فليست
مقصودة بالقصد الأول و إنما هي قرينة معينة لكون المراد بالولي هو الولد نعم هي في نفسها تدل على أنه لو كان له ولد لورثه ماله، و ليس في ذلك و لا في قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} و حاله حال قوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} دلالة على تعلق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية و لا بزخارف حياتها التي هي متاع الغرور.
و أما طلب الولد فهو مما فطر الله عليه النوع الإنساني سواء في ذلك الصالح و الطالح و النبي و من دونه و قد جهز الجميع بجهاز التوالد و التناسل و غرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد و يرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه و استيلاءهم على ما كان مستوليا عليه من أمتعة الحياة و هذا هو الإرث استيلاء نفسه و عيش شخصه هذا.
و الشرائع الإلهية لم تبطل هذا الحكم الفطري و لا ذمت هذه الداعية الغريزية بل مدحته و ندبت إليه، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ}: الصافات: ١٠٠و قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ}: إبراهيم: ٣٩، و قوله حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَ ذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: الفرقان: ٧٤ إلى غير ذلك من الآيات.
فإن قلت: ما تقدم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيا على أن يستفاد من قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} (الآية)، أن الذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم و كرامتها عند الله سبحانه فأحب أن يرزق ولدا يماثلها في العبادة و الكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الآثار أن زكريا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعز عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف و ثمرة الصيف في الشتاء لم يعز عليه أن يرزقني ولدا في غير وقته و أنا شيخ فان و امرأتي عاقر فقال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي}.
فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكن هذا النبي الكريم أجل من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنما طلبه ليرث النبوة أو العلم أو العبادة و الكرامة.
قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} هي الثمرة في غير موسمها، و أن الذي دعا زكريا (عليه السلام) إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم: {إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} و لو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق و خاصة صدر الآية {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} أن العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربها يرزقها لا من طريق الأسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا (عليه السلام) إلى طلب ذرية طيبة و ولد رضي.
و لو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الأول إلى طلب الذرية و الولد و إذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} و التقييد بالطيب في قوله: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}.
و قد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً} و في هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته و عقر امرأته و خوفه الموالي بقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} فالمراد بقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} هو الولد بلا شك، و قد عبر عنه و أشير إليه بعنوان ولاية الإرث.
و ولاية الوراثة التي تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من ولاية وراثة التركة، و أما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة و كذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه و كذا ولاية وراثة المقامات المعنوية و الكرامات الإلهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب و الولادة ربما جامعتها و ربما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرفة و مرآة لها إلا مع قرينة قوية، و ليس في الكلام ما يصلح لذلك، و كل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأول و اشتغل بما وراءه، و كفى به سقوطا للكلام.
قوله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اِسْمُهُ يَحْيىَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} في الكلام حذف إيجازا، و التقدير: «فاستجبنا له و ناديناه يا زكريا إنا نبشرك» إلخ،
و قد ورد في سورة الأنبياء في القصة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيىَ}: الأنبياء: ٩٠، و في سورة آل عمران: {فَنَادَتْهُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرَابِ أَنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىَ}: آل عمران: ٣٩.
و تشهد آية آل عمران على أن قوله: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} إلخ، كان وحيا بتوسط الملائكة فهو قوله تعالى أدته الملائكة إلى زكريا، و ذلك في قوله ثانيا: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} إلخ، أظهر.
و في الآية دلالة على أن الله سبحانه هو الذي سماه يحيى، و هو قوله: {اِسْمُهُ يَحْيىَ} و أنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد، و هو قوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} أي شريكا في الاسم.
و ليس من البعيد أن يراد بالسمي المثل على حد ما سيأتي من قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (الآية) - ٦٥ من السورة و يشهد عليه أن الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحدا من أنبيائه و أوليائه قبله كقوله فيما سيأتي: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا} و قوله: {وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً}: آل عمران: ٣٩، و قوله: {وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، و المسيح (عليه السلام) و إن شاركه في هذه النعوت و هما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى (عليه السلام).
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا} قال الراغب: الغلام الطار الشارب۱ يقال: غلام بين الغلومة و الغلومية، قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} قال: و اغتلم الغلام: إذا بلغ حد الغلمة. انتهى.
و قال في المجمع: العتي و العسي بمعنى يقال: عتا يعتو عتوا و عتيا و عسا يعسو عسوا و عسيا فهو عات و عاس إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبس و الجفاف. انتهى. و بلوغ العتي كناية عن بطلان شهوة النكاح و انقطاع سبيل الإيلاد.
و استفهامه (عليه السلام) عن كون الغلام مع عقر امرأته و بلوغه العتي مع ذكره
الأمرين في ضمن دعائه إذ قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي} إلخ، مبني على استعجاب البشرى و استفسار خصوصياتها دون الاستبعاد و الإنكار فإن من بشر بما لا يتوقعه لتوفر الموانع و فقدان الأسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيات ما بشر به ليطمئن قلبه و يسكن اضطراب نفسه و هو مع ذلك على يقين من صدق ما بشر به فإن الخطورات النفسانية ربما لا تنقطع مع وجود العلم و الإيمان و قد تقدم نظيره في تفسير قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىَ قَالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلىَ وَ لَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: البقرة: ٢٦٠.
قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً} جواب عما استفهمه و استفسره لتطيب به نفسه، و يسكن جأشه، و ضمير قال راجع إليه تعالى، و قوله: {كَذَلِكَ} مقول القول و هو خبر مبتدإ محذوف و التقدير «هو كذلك» أي الأمر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.
و قوله: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} مقول ثان لقال الأول، و هو بمنزلة التعليل لقوله: {كَذَلِكَ} يرتفع به أي استعجاب فلا يتخلف عن إرادته مراد و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر و امرأة عاقر هين سهل عليه.
و قد وقع التعبير عن هذا الاستفهام و الجواب في سرد القصة من سورة آل عمران بقوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اَللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: آل عمران: ٤٠، فقوله: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} هاهنا يحاذي قوله هناك: {اَللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} و هو يؤيد ما قدمناه من المعنى، و قوله هاهنا: {وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً} بيان لبعض مصاديق الخلق الذي يرفع به الاستعجاب.
و في الآية وجوه أخر تعرضوا لها: منها أن قوله: {كَذَلِكَ} متعلق بقال الثاني و مجموع الجملة هو الجواب و المراد أمر ربك بذلك و قضى كذلك، و قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} مقول آخر للقول أو أنه جيء به على سبيل الحكاية.
و منها أن الخطاب في قوله: {قَالَ رَبُّكَ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا لزكريا (عليه السلام) و تلك وجوه لا يساعد عليها السياق.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} قد تقدم في القصة من سورة آل عمران أن إلقاء البشرى إلى زكريا كان بتوسط الملائكة {فَنَادَتْهُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرَابِ أَنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىَ}، و هو (عليه السلام) إنما سأل الآية ليتميز به الحق من الباطل فتدله على أن ما سمعه من النداء وحي ملكي لا إلقاء شيطاني و لذلك أجيب بآية إلهية لا سبيل للشيطان إليها و هو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيام إلا بذكر الله سبحانه فإن الأنبياء معصومون بعصمة إلهية ليس للشيطان أن يتصرف في نفوسهم.
فقوله: {قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً} سؤال لآية مميزة، و قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} إجابة ما سأل، و هو أن يعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير ذكر الله و هو سوي أي صحيح سليم من غير مرض و آفة.
فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و المراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيامها و هو شائع في الاستعمال فكان (عليه السلام) يذكر الله بفنون الذكر و لا يقدر على تكليم الناس إلا رمزا و إشارة، و الدليل على ذلك كله قوله تعالى في القصة من سورة آل عمران: {قَالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ}: آل عمران: ٤١.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} قال في المجمع: و سمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته، و الأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. و قال: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، و أصله من قولهم: الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {يَا يَحْيىَ خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} قد تكرر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوة و الأمر به كقوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}: الأعراف: ١٤٥، و قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا مَا فِيهِ}: البقرة - ٦٣، و قوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا}: البقرة: ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات،
و السابق إلى الذهن من سياقها أن المراد من أخذ الكتاب بقوة التحقق بما فيه من المعارف و العمل بما فيه من الأحكام بالعناية و الاهتمام.
و في الكلام حذف و إيجاز رعاية للاختصار، و التقدير: فلما وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في جانبي العلم و العمل، و بهذا المعنى يتأيد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي و سائر كتب الأنبياء فإن الكتاب الذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة۱.
قوله تعالى: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً} فسر الحكم بالفهم و بالعقل و بالحكمة و بمعرفة آداب الخدمة و بالفراسة الصادقة و بالنبوة، لكن المستفاد من مثل قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ}: الجاثية: ١٦، و قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ}: الأنعام: ٨٩، و غيرهما من الآيات أن الحكم غير النبوة، فتفسير الحكم بالنبوة ليس على ما ينبغي، و كذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى على شيء من ذلك.
نعم ربما يستأنس من مثل قوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ}: البقرة: ١٢٩، و قوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ}: الجمعة: ٢ و الحكمة بناء نوع من الحكم - أن المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقة الإلهية و انكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الأنظار العادية و لعله إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم. و على هذا يكون المعنى إنا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقية و هو صبي لم يبلغ الحلم بعد.
و قوله: {وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} معطوف على الحكم أي و أعطيناه حنانا من لدنا و الحنان: العطف و الإشفاق، قال الراغب: و لكون الإشفاق لا ينفك من الرحمة عبر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى: {وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} و منه قيل: الحنان المنان و حنانيك إشفاقا بعد إشفاق.
و فسر الحنان في الآية بالرحمة و لعل المراد بها النبوة أو الولاية كقول نوح (عليه السلام): {وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}: هود: ٢٨، و قول صالح: {وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}: هود: ٦٣.
و فسر بالمحبة و لعل المراد بها محبة الناس له على حد قوله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}: طه: ٣٩، أي كان لا يراه أحد إلا أحبه.
و فسر بتعطفه على الناس و رحمته و رقته عليهم فكان رءوفا بهم ناصحا لهم يهديهم إلى الله و يأمرهم بالتوبة و لذا سمي في العهد الجديد بيوحنا المعمد.
و فسر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربه لباه الله سبحانه على ما في الخبر فيدل على أنه كان لله سبحانه حنان خاص به على ما يفيده تنكير الكلمة.
و الذي يعطيه السياق و خاصة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله: {مِنْ لَدُنَّا} و الكلمة إنما تستعمل فيما لا مجرى فيه للأسباب الطبيعية العادية أو لا نظر فيه إليها - أن المراد به نوع عطف و انجذاب خاص إلهي بينه و بين ربه غير مألوف، و بذلك يسقط التفسير الثاني و الثالث ثم تعقبه بقوله: {زَكَاةً} و الأصل في معناه النمو الصالح، و هو لا يلائم المعنى الأول كثير ملائمة فالمراد به إما حنان من الله سبحانه إليه بتولي أمره و العناية بشأنه و هو ينمو عليه، و إما حنان و انجذاب منه إلى ربه فكان ينمو عليه، و النمو نمو الروح.
و من هنا يظهر وهن ما قيل: إن المراد بالزكاة البركة و معناها كونه مباركا نفاعا معلما للخير، و ما قيل: إن المراد به الصدقة، و المعنى و آتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدق به على الناس أو المعنى أنه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أن الحكم المؤتى صدقة من الله عليه و ما قيل: إن المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.
قوله تعالى: {وَ كَانَ تَقِيًّا وَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا} التقي صفة مشبهة من التقوى مثال واوي و هو الورع عن محارم الله و التجنب عن اقتراف المناهي المؤدي إلى عذاب الله، و البر بفتح الباء صفة مشبهة من البر بكسر الباء و هو الإحسان، و الجبار قال في المجمع: الذي لا يرى لأحد عليه حقا و فيه جبرية و جبروت، و الجبار من النخل ما فات اليد. انتهى. فيئول معناه إلى أنه المستكبر المستعلي الذي يحمل الناس ما أراد و لا يتحمل عنهم، و يؤيده تعقيبه بالعصي فإنه صفة مشبهة من العصيان
و الأصل في معناه الامتناع.
و من هنا يظهر أن الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق و المخلوق، فقوله: {وَ كَانَ تَقِيًّا} حاله بالنسبة إلى ربه، و قوله: {وَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ} حاله بالنسبة إلى والديه، و قوله: {وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا} حاله بالنسبة إلى سائر الناس، فكان رءوفا رحيما بهم ناصحا متواضعا لهم يعين ضعفاءهم و يهدي المسترشدين منهم، و به يظهر أيضا أن تفسير بعضهم لقوله: {عَصِيًّا} بقوله: أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي.
قوله تعالى: {وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} السلام قريب المعنى من الأمن، و الذي يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أن الأمن خلو المحل مما يكرهه الإنسان و يخاف منه و السلام كون المحل بحيث كل ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه و يخاف منه.
و تنكير السلام لإفادة التفخيم أي سلام فخيم عليه مما يكرهه في هذه الأيام الثلاثة التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم التي يدخلها الإنسان و يعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، و سلام عليه يوم يموت، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، و سلام عليه يوم يبعث حيا فيحيا فيها بحقيقة الحياة و لا نصب و لا تعب.
و قيل: إن تقييد البعث بقوله: {حَيًّا} للدلالة على أنه سيقتل شهيدا لقوله تعالى في الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}: آل عمران: ١٦٩.
و اختلاف التعبير في قوله: {وُلِدَ} {يَمُوتُ} {يُبْعَثُ} لتمثيل أن التسليم في حال حياته (عليه السلام).
(بحث روائي)
في المجمع: و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص.
و في المعاني بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد.
أقول: و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمد بن عمارة عنه (عليه السلام). و روى في الدر المنثور، عن ابن عباس: في قوله: {كهيعص} قال: كبير هاد أمين عزيز صادق و في لفظ كاف بدل كبير، و روى عنه أيضا بطرق أخر: كريم هاد حكيم عليم صادق و روي عن ابن مسعود و غيره ذلك، و محصل الروايات كما ترى أن الحروف المقطعة مأخوذة من أوائل الأسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير أو الكريم و هكذا غير أنه لا يتم في الياء فقد أخذ في الروايات من الولي أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها، و روي فيه، عن أم هانئ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أن معناها كاف هاد عالم صادق، و قد أهمل في الحديث حرف الياء، و قد تقدم في بيان الآية بعض الإشارة.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} يقول: لم يكن دعائي خائبا عندك.
و في المجمع: في قوله: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ} قيل: هم العمومة و بنو العم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قرأ علي بن الحسين و محمد بن علي الباقر (عليه السلام): {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ} بفتح الخاء و تشديد الفاء و كسر التاء.
أقول: و به قرأ جمع من الصحابة و التابعين.
و في الإحتجاج روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليه السلام): أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا بن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا. أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (الحديث).
أقول: مضمون الرواية مروي بطرق من الشيعة و غيرهم، و استدلالها (عليه السلام) مبني على كون المراد بالوراثة في الآية وراثة المال، و قد تقدم الكلام في ذلك في بيان الآية، و قد ورد من طرق أهل السنة بعض ما يدل على ذلكففي الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه من ورثة، و يرحم الله أخي لوطا إن كان يأوي إلى ركن شديد.
و روي فيه أيضا عن الفاريابي عن ابن عباس قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال:
«رب هب {لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: يرثني مالي و يرث من آل يعقوب النبوة.
و قال في روح المعاني: مذهب أهل السنة أن الأنبياء (عليه السلام) لا يرثون مالا و لا يورثون لما صح عندهم من الأخبار، و قد جاء أيضا ذلك من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: إن العلماء ورثة الأنبياء، و ذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا و إنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر، و كلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة.
و الوراثة في الآية محمولة على ما سمعت، و لا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم و المنصب و المال، و إنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية.
و لو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، و من ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، و قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتَابَ} و قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، و قوله تعالى: {إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، {وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}.
قولهم: لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة. قلنا: الداعي متحقق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب و دون تأويله خرط القتاد، و الآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد.
و زعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه، و زعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق.
و من ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: إن سليمان ورث داود، و إن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) ورث سليمان (عليه السلام) فإن وراثة النبي سليمان لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم و النبوة و نحوهما انتهى.
و للبحث جهة كلامية ترجع إلى أمر فدك و هي من قرى خيبر و قد كانت في يد فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فانتزعها من يدها الخليفة الأول استنادا إلى حديث رواها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الأنبياء لا يورثون مالا و ما تركوه صدقة، و قد طالت المشاجرة فيه بين متكلمي الشيعة و أهل السنة و هو نوع بحث خارج عن غرض هذا الكتاب فلا نتعرض له، و جهة تفسيرية يهمنا التعرض لها لتعلقها بمدلول قوله تعالى: {وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.
أما قوله: و قد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة إلخ، فالرواية في ذلك غير منحصرة فيما نقله عن الصادق (عليه السلام) بل روي ما في مضمونها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أيضا من طريقهم، و معناه على ما يسبق إلى ذهن كل سامع أن الأنبياء ليس من شأنهم أن يهتموا بجمع المال و تركه لمن خلفهم من الورثة و إنما الذي من شأنهم أن يتركوا لمن خلفهم الحكمة، و هذا معنى سائغ و استعمال شائع لا سبيل إلى دفعه.
و أما قوله: و لا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال إلى آخر ما ذكره فليس الكلام في كونه حقيقة لغوية في شيء أو مجازا مشهورا أو غير مشهور و لا إصرار على شيء من ذلك، و إنما الكلام في أن الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال مجازا في مثل العلم و الحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلق بالمال و ما يتعلق بمثل العلم و الحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم و الحكمة إلى قرينة صارفة أو معينة و سياق الآية و سائر آيات القصة في سورتي آل عمران و الأنبياء و القرائن الحافة بها تأبى إرادة وراثة العلم و نحوه من لفظة يرثني فضلا أن يصرف عنها أو يعينها على ما قدمنا توضيحه في بيان الآية.
نعم لا يصح تعلق الوراثة بالنبوة على ما يتحصل من تعليم القرآن أنها موهبة إلهية لا تقبل الانتقال و التحول، و لا ريب أن الترك و الانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة كوراثة المال و الملك و المنصب و العلم و نحو ذلك و لذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوة و الرسالة في كتاب و لا سنة.
و أما قوله: «قلنا الداعي متحقق و هي صيانة قول المعصوم عن الكذب» ففيه
اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الآيات بل الأمر بالعكس و إنما اضطرهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحته عندهم و فيه أنه لا معنى لتوقف كلامه تعالى في الدلالة الاستعمالية على قرينة منفصلة و خاصة من غير كلامه تعالى و خاصة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة، و هذا غير تخصيص روايات الأحكام و تقييدها لعمومات آيات الأحكام و مطلقاتها، فإن ذلك تصرف في محصل المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال.
على أنه لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية التي ينحصر فيها الجعل التشريعي لا سيما مع مخالفة الكتاب و هذه كلها أمور مبينة في علم الأصول.
و أما قوله: «قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه» يشير إلى أخذ قوله: {وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} تأكيدا لقوله: {وَلِيًّا يَرِثُنِي} أي في النبوة أو أخذ قوله: {رَضِيًّا}، بمعنى المرضي عند الناس دفعا للغو الكلام و قد قدمنا في بيان الآية ما يعلم منه ما فيه.
و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ذكرا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله أوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام. قال: لما أمسك لسانه و لم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله (الحديث).
و في تفسير النعماني بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن معنى الوحي فقال: منه وحي النبوة و منه وحي الإلهام و منه وحي الإشارة و ساقه إلى أن قال و أما وحي الإشارة فقوله عز و جل: {فَخَرَجَ عَلىَ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرَابِ فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} أي أشار إليهم كقوله تعالى: {أَلاَّ تُكَلِّمَ اَلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}.
و في المجمع: عن معمر قال: إن الصبيان قالوا ليحيي: اذهب بنا نلعب قال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله تعالى: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا}: و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
أقول: و روي في الدر المنثور هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا، و روي أيضا ما في معناه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الكافي بإسناده عن علي بن أسباط قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) و قد خرج إلي فأجدت النظر إليه و جعلت أنظر إلى رأسه و رجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد فقال: يا علي إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال: {وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا} {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقد يجوز أن يؤتى الحكمة و هو صبي، و يجوز أن يؤتى الحكمة و هو ابن أربعين سنة.
أقول: و في الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيد ما قدمناه.
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: «في قوله: {وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا} قال: كان سعيد بن المسيب يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا. قال قتادة: و قال الحسن: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أذنب يحيى بن زكريا قط و لا هم بامرأة.
و فيه: أخرج أحمد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما من أحد من ولد آدم إلا و قد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة و لم يعملها.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة بألفاظ مختلفة و ينبغي تخصيص الجميع بأهل العصمة من الأنبياء و الأئمة و إن كانت آبية عنه ظاهرا لكن الظاهر أن ذلك ناشئ من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى و توغلهم فيه. و بالجملة الأخبار في زهد يحيى (عليه السلام) كثيرة فوق الإحصاء، و كان (عليه السلام) على ما فيها يأكل العشب و يلبس الليف و بكى من خشية الله حتى اتخذت الدموع مجرى في وجهه.
و فيه: أخرج ابن عساكر عن قرة قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا و الحسين بن علي، و حمرتها بكاؤها.
أقول: و روى هذا المعنى في المجمع عن الصادق (عليه السلام): و في آخره: و كان قاتل يحيى ولد زنا و قاتل الحسين ولد زنا.
و فيه أخرج الحاكم و ابن عساكر عن ابن عباس قال :أوحى الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا و إني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا و سبعين ألفا.
و في الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: فما عنى بقوله في يحيى: {وَ حَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكَاةً}؟ قال تحنن الله. قلت: فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال: كان إذا قال: يا رب قال الله عز و جل: لبيك يا يحيى. (الحديث).
و في عيون الأخبار بإسناده إلى ياسر الخادم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن: يوم يولد و يخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، و يوم يموت فيعاين الآخرة و أهلها، و يوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.
و قد سلم الله عز و جل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن و آمن روعته فقال: {وَ سَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، و قد سلم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}.
(قصة زكريا في القرآن)
وصفه (عليه السلام)
وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوة و الوحي، و وصفه في أول سورة مريم بالعبودية، و ذكره في سورة الأنعام في عداد الأنبياء و عدة من الصالحين ثم من المجتبين و هم المخلصون و المهديين.
تاريخ حياته
لم يذكر من أخباره في القرآن إلا دعاؤه لطلب الولد و استجابته و إعطاؤه يحيى (عليه السلام)، و ذلك بعد ما رأى من أمر مريم في عبادتها و كرامتها عند الله ما رأى.
فذكر سبحانه أن زكريا تكفل مريم لفقدها أباها عمران ثم لما نشأت اعتزلت عن الناس و اشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد، و كان يدخل عليها زكريا يتفقدها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
هنالك دعا زكريا ربه و سأله أن يهب له من امرأته ذرية طيبة و كان هو شيخا فانيا و امرأته عاقرا فاستجيب له و نادته الملائكة و هو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربه آية لتطمئن نفسه أن النداء من جانبه سبحانه
فقيل له: إن آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا و كان كذلك و خرج على قومه من المحراب و أشار إليهم أن سبحوا بكرة و عشيا و أصلح الله له زوجه فولدت له يحيى (عليه السلام) (آل عمران: ٣٧-٤١ مريم: ٢-١١ الأنبياء: ٨٩-٩٠).
و لم يذكر في القرآن مآل أمره (عليه السلام) و كيفية ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامة و الخاصة، أن قومه قتلوه و ذلك أن أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم و التجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التأمت فدلهم الشيطان عليه و أمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا و قطعوه نصفين فقتل (عليه السلام) عند ذلك.
و قد ورد في بعض الأخبار أن السبب في قتله أنهم اتهموه في أمر مريم و حبلها بالمسيح و قالوا: هو وحده كان المتردد إليها الداخل عليها، و قيل غير ذلك.
(قصة يحيى (عليه السلام) في القرآن)
١ - الثناء عليه
ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه و أثنى عليه ثناء جميلا فوصفه بأنه كان مصدقا بكلمة من الله و هو تصديقه بنبوة المسيح، و أنه كان سيدا يسود قومه، و أنه كان حصورا لا يأتي النساء، و كان نبيا و من الصالحين (سورة آل عمران: ٣٩) و من المجتبين و هم المخلصون و من المهديين (الأنعام: ٨٥-٨٧)، و أن الله هو سماه بيحيى و لم يجعل له من قبل سميا، و أمره بأخذ الكتاب بقوة و آتاه الحكم صبيا، و سلم عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا (مريم: ٢-١٥) و مدح بيت زكريا بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}: الأنبياء: ٩٠و هم يحيى و أبوه و أمه.
٢ - تاريخ حياته
ولد (عليه السلام) لأبويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخا فانيا و أمه عاقرا فرزقهما الله يحيى و هما آيسان من الولد، و أخذ بالرشد و العبادة و الزهد في صغره و آتاه الله الحكم صبيا، و قد تجرد للتنسك و الزهد و الانقطاع فلم يتزوج قط و لا ألهاه شيء من ملاذ الدنيا.
و كان معاصرا لعيسى بن مريم (عليه السلام) و صدق نبوته، و كان سيدا في قومه تحن
إليه القلوب و تميل إليه النفوس و يجتمع إليه الناس فيعظهم و يدعوهم إلى التوبة و يأمرهم بالتقوى حتى استشهد (عليه السلام).
و لم يرد في القرآن مقتله (عليه السلام)، و الذي ورد في الأخبار أنه كان السبب في قتله أن امرأة بغيا افتتن بها ملك بني إسرائيل و كان يأتيها فنهاه يحيى و وبخه على ذلك و كان مكرما عند الملك يطيع أمره و يسمع قوله فأضمرت المرأة عداوته و طلبت من الملك رأس يحيى و ألحت عليه فأمر به فذبح و أهدي إليها رأسه.
و في بعض الأخبار أن التي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك و كان يريد أن يتزوج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزينتها أمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك و أرسلتها إليه و لقنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح (عليه السلام) و وضع رأسه في طست من ذهب و أهدي إليها.
و في الروايات نوادر كثيرة من زهده و تنسكه و بكائه من خشية الله و مواعظه و حكمه.
٣ - قصة زكريا و يحيى في الإنجيل
قال۱: كان في أيام هيردوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا و امرأته من بنات هارون و اسمها إليصابات و كان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب و أحكامه بلا لوم. و لم يكن لهما ولد إذ كانت إليصابات عاقرا و كانا كلاهما متقدمين في أيامهما.
فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله. حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب و يبخر. و كان كل جمهور الشعب يصلون خارجا وقت البخور. فظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور. فلما رآه زكريا اضطرب و وقع عليه خوف. فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت و امرأتك إليصابات ستلد ابنا و تسميه يوحنا. و يكون لك فرج و ابتهاج و كثيرون سيفرحون بولادته. لأنه يكون عظيما أمام الرب و خمرا و مسكرا لا يشرب و من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس. و يرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. و يتقدم أمامه بروح
إيليا و قوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء و العصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعبا مستعدا.
فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ و امرأتي متقدمة في أيامها فأجاب الملاك و قال أنا جبريل الواقف قدام الله و أرسلت لأكلمك و أبشرك بهذا و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته.
و كان الشعب منتظرين زكريا و متعجبين من إبطائه في الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يومئ إليهم و بقي صامتا و لما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته. و بعد تلك الأيام حبلت إليصابات امرأته و أخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلي لينزع عاري بين الناس.
إلى أن قال: و أما إليصابات فتم زمانها لتلد فولدت ابنا و سمع جيرانها و أقرباؤها أن الرب عظم رحمته لها ففرحوا معها. و في اليوم جاءوا ليختنوا الصبي و سموه باسم أبيه زكريا فأجابت أمه و قالت لا بل يسمى يوحنا. فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك يسمى بهذا الاسم. ثم أومئوا إلى أبيه ما ذا يريد أن يسمى. فطلب لوحا و كتب قائلا اسمه يوحنا فتعجب الجميع. و في الحال انفتح فمه و لسانه و تكلم و بارك الله. فوقع خوف على كل جيرانهم و تحدث بهذه الأمور جميعها في كل جبال اليهودية. فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين أ ترى ما ذا يكون هذا الصبي و كانت يد الرب معه. و امتلأ زكريا أبوه من الروح القدس و تنبأ... إلخ.
و فيه۱: و في السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر - إذ كان بيلاطس النبطي واليا على اليهودية، و هيرودس رئيس ربع على الجليل، و فيلبس أخوه رئيس ربع على إيطورية و كورة تراخوتينس، و ليسانيوس رئيس ربع على الأبلية - في أيام رئيس الكهنة حنان و قيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية.
فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبي القائل «صوت خارج في البرية أعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة، كل واد يمتلئ و كل جبل و أكمة ينخفض و تصير المعوجات مستقيمة و الشعاب طرقا سهلة و يبصر كل بشر خلاص الله.
و كان يقول للجموع الذين خرجوا ليعمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة و لا تبتدءوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبا لأني أقول لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم و الآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع و تلقى في النار.
و سأله الجموع قائلين فما ذا نفعل. فأجاب و قال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له و من له طعام فليفعل هكذا. و جاء عشارون أيضا ليعمدوا - فقالوا له يا معلم ما ذا نفعل فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. و سأله جنديون أيضا قائلين و ما ذا نفعل نحن، فقال لهم لا تظلموا أحدا و لا تشوا بأحد و اكتفوا بعلائقكم.
و إذ كان الشعب ينتظر و الجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح أجاب يوحنا الجميع قائلا أنا أعمدكم بماء و لكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه هو سيعمدكم بروح القدس و نار الذي رفشه في يده و سينقي بيدره و يجمع القمح إلى مخزنة و أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ و بأشياء أخر كثيرة كان يعظ الشعب و يبشرهم.
أما هيردوس رئيس الربع فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه و لسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن. و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا۱.
و فيه: أن هيرودس نفسه كان قد أرسل و أمسك يوحنا و أوثقه في السجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه إذ كان قد تزوج بها. لأن يوحنا كان يقول لهيرودس لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك. فحنقت هيروديا عليه و أرادت أن
تقتله و لم تقدر. لأن هيرودس كان يهاب يوحنا عالما أنه رجل بار و قديس و كان يحفظه. و إذ سمعه فعل كثيرا و سمعه بسرور.
و إذ كان يوم موافق لما صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه و قواد الألوف و وجوه الجليل. دخلت ابنة هيروديا و رقصت، فسرت هيرودس و المتكئين معه.
فقال الملك للصبية مهما أردت اطلبي مني فأعطيك. و أقسم لها أن مهما طلبت مني لأعطينك حتى نصف مملكتي. فخرجت و قالت لأمها ما ذا أطلب. فقالت رأس يوحنا المعمدان. فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك و طلبت قائلة أريد أن تعطيني حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق. فحزن الملك جدا و لأجل الإقسام و المتكئين لم يرد أن يردها.
فللوقت أرسل الملك سيافا و أمر أن يؤتى برأسه فمضى و قطع رأسه في السجن و أتى برأسه على طبق و أعطاه للصبية و الصبية أعطته لأمها. و لما سمع تلاميذه جاءوا و رفعوا جثته و وضعوها في قبر انتهى.
و ليحيي (عليه السلام) أخبار أخر متفرقة في الأناجيل لا تتعدى حدود ما أوردناه و للمتدبر الناقد أن يطبق ما نقلناه من الأناجيل على ما تقدم حتى يحصل على موارد الاختلاف.
[سورة مريم (١٩): الآیات ١٦ الی ٤٠]
{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا ١٦ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا ١٧ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ١٨ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا ١٩ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا ٢٠قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كَانَ
أَمْراً مَقْضِيًّا ٢١ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا ٢٢ فَأَجَاءَهَا اَلْمَخَاضُ إِلىَ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ٢٣ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ٢٤ وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ٢٥ فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا ٢٦ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ٢٧ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ٢٨ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا ٢٩ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ٣٠وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ٣١ وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ٣٢ وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ٣٣ ذَلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٣٥ وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٣٦ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ
مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٣٧ أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ اَلظَّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٣٨ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٩ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ٤٠}
(بيان)
انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى (عليه السلام) و بين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة، و قد أوتي عيسى الرشد و النبوة و هو صبي كيحيى، و قد أخبر أنه بر بوالدته و ليس بجبار شقي و أن السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه و قد صدق يحيى بعيسى و آمن به.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا} المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب و جزء الكتاب كتاب و الاحتمالان من حيث المال واحد فلا كثير جدوى في إصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني و تعيينه.
و النبذ على ما ذكره الراغب طرح الشيء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به، و الانتباذ الاعتزال من الناس و الانفراد.
و مريم هي ابنة عمران أم المسيح (عليه السلام)، و المراد بمريم نبأ مريم و قوله: {إِذِ} ظرف له، و قوله: {اِنْتَبَذَتْ} إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، و المعنى و اذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، و كأنه شرقي المسجد.
قوله تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} الحجاب ما يحجب الشيء و يستره عن غيره، و كأنها اتخذت الحجاب من دون
أهلها لتنقطع عنهم و تعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً}: آل عمران: ٣٧ و قد مر الكلام في تفسير الآية.
و قيل: إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها و أقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحية الدار و قد ضربت بينها و بين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوي الخلق فاستعاذت بالله منه.
و فيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، و قد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.
و قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} ظاهر السياق أن فاعل {فَتَمَثَّلَ} ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا و معنى تمثله لها بشرا ترائيه لها، و ظهوره في حاستها في صورة البشر و هو في نفسه روح و ليس ببشر.
و إذ لم يكن بشرا و ليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه و سماه ملكا، و قد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه و سماه جبريل بقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلىَ قَلْبِكَ}: البقرة: ٩٧ و سماه روحا في قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ}: النحل: ١٠٢ و قوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ}: الشعراء: ١٩٤ و سماه رسولا في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}: الحاقة: ٤٠، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.
و أما قوله: {إِذْ قَالَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اَللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} - إلى أن قال - {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اَللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: آل عمران: ٤٧.
فتطبيقه على الآيات التي نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم و محاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور هاهنا، و نسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو عادة، و في القرآن منه شيء كثير كقوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ}: المنافقون: ٨، و القائل واحد. و قوله: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ}: الأنفال: ٣٢، و القائل واحد.
و إضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، و قد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ} (الآية) الإسراء: ٨٥.
و من التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى (عليه السلام) و ضمير تمثل عائد على جبريل. و هو كما ترى.
و من القراءة الردية قراءة بعضهم «روحنا» بتشديد النون على أن روحنا اسم الملك الذي أرسل إلى مريم، و هو غير جبريل الروح الأمين. و هو أيضا كما ترى.
(كلام في معنى التمثل)
كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات، و أما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} (الآية): - ١٧ من السورة، و الآيات التالية التي يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته و لم يصر بذلك بشرا، و إنما ظهر في صورة بشر و ليس ببشر بل ملك و إنما كانت مريم تراها في صورة بشر.
فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر و ليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر و هو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.
و هذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شيء لشيء في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته و هو هو لا صيرورة الشيء شيئا آخر فتمثل الملك بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان لا صيرورة الملك إنسانا، و لو كان التمثل واقعا في نفسه و في الخارج عن ظرف الإدراك كان من قبيل صيرورة الشيء شيئا آخر و انقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.
و استشكل أمر هذا التمثل بأمور مذكورة في التفسير الكبير و غيره.
أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في
مقدار جثة الإنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثة الإنسان لزم أن لا يبقى جبريل، و إن لم تتساقط لزم تداخلها و هو محال.
الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق و امتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل.
الثالث: أنه لو جاز التمثل بصورة الإنسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض و الحشرات و غيرها و معلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل.
الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.
و أجيب عن الأول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة و أجزاء فاضلة و يتمكن بالأجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم و أما على القول بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم و أخرى بالهيكل الصغير.
و أنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الإشكال مبني على كون التمثل تغيرا من المتمثل في نفسه و بطلان صورته الأولى و انتقاله إلى صورة أخرى، و قد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما و هو في نفسه بخلافها.
و الآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا و لا صار بشرا في نفسه و إنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه و في الخارج عن ظرف إدراكها، و نظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق و تمثلهم لإبراهيم و لوط (عليه السلام) في صورة البشر، و نظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، و قد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية ٤٨ و قد كان سراقة يومئذ بمكة.
و في الروايات من ذلك شيء كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، و تمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج، و تمثله ليحيي (عليه السلام) في صورة عجيبة، و نظير تمثل الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتانة، كما في الرواية، و ما ورد من تمثل المال و الولد و العمل للإنسان عند الموت، و ما ورد من تمثل الأعمال للإنسان في القبر و يوم القيامة. و من هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في
صورة الكلب أو الحية أو العقرب و تمثل الزوج في صورة النعل و تمثل العلاء في صورة الفرس و الفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.
فالمتمثل في أغلب هذه الموارد كما ترى من المعاني التي لا صورة لها في نفسها و لا شكل، و لا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة و لا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإشكال و الجواب.
و أجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا و بذلك يرتفع الوثوق و يمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإشكال، و كذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلا فيعود الإشكال.
و لعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الآن هو زيد الذي شاهدناه أمس.
و أنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الإشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس و المحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد و إن كانت نادرة يبطل العلم الحسي و لا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لأن ندرة التخلف و الخطإ تستوجب غفلة الإنسان عن الالتفات إلى الشك فيه و احتمال المغايرة بين الحس و المحسوس.
على أنه إذا جازت المغايرة و هي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟
و الحق أن الإشكال و الجواب فاسدان من أصلهما:
أما الإشكال فهو مبني على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه و يتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسية بديهية و الغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر و النظر لا بنفس الحس.
فالذي يناله الحس من العين الخارجي شيء من كيفياته و هيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشيء الخارجي ثم التجربة و النظر يعرفان حاله في نفسه و الدليل على ذلك
أقسام المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي و هي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيرا و العالي سافلا و المستقيم مائلا و المتحرك ساكنا و عكس ذلك باختلاف المناظر و كذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الإنسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما يمكن و نحكم بتكرر الحس و بالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، و نشاهد الشمس قدر صحفة و هي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الأرض كذا و كذا مرة و أن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الأمر الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه و هو في حسنا قد أحسسناه و هذا معنى بداهة الحس، و أما المحسوس و هو الذي في الخارج عنا و عن حسنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشئ عن فكرنا و نظرنا و هذا ما قلناه إن الذي نعتقده من حال الشيء الخارجي حكم ناشئ عن الفكر و النظر دون الحس هذا. و قد بين في العلوم الباحثة عن الحس و المحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس.
ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، و هذا السبب ربما كان خارجيا كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها و أشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو فكر شيئا من أمرها في نفسها، و ربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارئ على الإنسان فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام و الخواطر المؤلمة.
و في جميع هذه الأحوال ربما أصاب الإنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي و هو الأغلب و ربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص.
فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس و المحسوس الخارجي في نفسه على كونها مما لا بد منه في الجملة لا تستدعي ارتفاع الوثوق و بطلان الاعتماد على الحس فإن الأمر في ذلك يدور مدار ما حصله الإنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك و أصدقها ما صدقته التجربة.
و أما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الإشكال من نيل الحس
نفس المحسوس الخارجي بعينه، و أن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادرا.
و أجيب عن الإشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الإنسان قائم في الأصل، و إنما عرف فساده بدلائل السمع.
و فيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الإشكال أن المراد بالإمكان إن كان هو الإمكان المقابل للضرورة و الامتناع فمن البين أن تمثل الملك بصورة الإنسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، و إن كان هو الإمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.
و أجيب عن الإشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. و فيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع و الجواب الصحيح عن هذا الإشكال هو الذي أوردناه جوابا عن الإشكال الثاني. و الله أعلم.
فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشيء للإنسان بصورة يألفها الإنسان و تناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن المعهود عند الإنسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه و يلقي إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم و التخاطب، و كظهور الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة امرأة حسناء لتغره لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء و اللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للأخذ بمجامع القلب و الغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.
فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الإدراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا و خيالا باطلا و رجوعه إلى السفسطة.
قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور و تحتمله أدوات إدراكه و بين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شيء، و السفسطة هي الثاني دون الأول و توخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله. و الله الهادي.
بيان
قوله تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها و هي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها و استعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الإلهية التي هي غاية آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت.
و اشتراطها بقولها: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط و عليه الوصف للحكم، و التقوى وصف جميل يشق على الإنسان أن ينفيه عن نفسه و يعترف بفقده فيئول المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ و أعتصم بالرحمن منك إن كنت تقيا و من الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي و تقصدني بسوء.
فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المائدة: ٥٧، و قوله: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المائدة: ٢٣.
و ربما احتمل في قوله: {إِنْ كُنْتَ} أن تكون إن نافية و المعنى ما كنت تقيا إذ هتكت على ستري و دخلت بغير إذني. و أول الوجهين أوفق بالسياق. و القول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا} جواب الروح لمريم و قد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، و الزكي هو النامي نموا صالحا و النابت نباتا حسنا.
و من لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا و أنه وهب له يحيى، و ذكر مريم و أنه وهب لها عيسى، و ذكر إبراهيم و أنه وهب له إسحاق و يعقوب، و ذكر موسى و أنه وهب له هارون (عليه السلام).
قوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا} مس البشر بقرينة مقابلته للبغي و هو الزنا كناية عن النكاح و هو في نفسه أعم و لذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: {وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} و الاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد و لم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح و لا من طريق الحرام بالزنا.
و السياق يشهد أنها فهمت من قوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً} إلخ، إنه سيهبه حالا
و لذا قالت: {وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا} فنفت النكاح و الزنا في الماضي.
قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، و قد تقدم في قصة زكريا و يحيى (عليه السلام) توضيح ما للجملتين.
و قوله: {وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا} ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، و هو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا و كذا و لنجعله آية للناس بخلقته و رحمة منا برسالته و الآيات الجارية على يده و حذف بعض الغرض و عطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ}: الأنعام: ٧٥، و في هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
و قوله: {وَ كَانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أو دعاء.
قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا} القصي البعيد أي حملت بالولد فانفرد و اعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.
قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا اَلْمَخَاضُ إِلىَ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ} إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه و جاء به بمعنى و هو في الآية كناية عن الدفع و الإلجاء، و المخاض و الطلق وجع الولادة، و جذع النخلة ساقها، و النسي بفتح النون و كسرها كالوتر و الوتر هو الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، و المعنى أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم دفعها و ألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها و التعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة و قالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا و شيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في.
قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي} إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في {فَنَادَاهَا} لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، و يؤيده تقييده بقوله: {مِنْ تَحْتِهَا} فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك
المنادي مع من يناديه، و يؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).
و قيل: الضمير للروح و أصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة و كان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، و لا دليل على شيء من ذلك من جهة اللفظ.
و لا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: {فَنَادَاهَا} على قوله: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي} إلخ، أنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ.
و قوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} تسلية لها لما أصابها من الحزن و الغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر و أشق على المرأة الزاهدة المتنسكة و خاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها و خاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة و النزاهة في حاضر حاله و سابق عهده و خاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها و كانت الحجة للخصم عليها، و لذا أشار أن لا تتكلم مع أحد و تكفل هو الدفاع عنها و تلك حجة لا يدفعها دافع.
و قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} السري جدول الماء، و السري هو الشريف الرفيع، و المعنى الأول هو الأنسب للسياق، و من القرينة عليه قوله: بعد: {فَكُلِي وَ اِشْرَبِي} كما لا يخفى.
و قيل: المراد هو المعنى الثاني و مصداقه عيسى (عليه السلام)، و قد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، و على أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليه السلام).
و قوله: {وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} الهز هو التحريك الشديد، و نقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه و هز به، و المساقطة هي الإسقاط، و ضمير {تُسَاقِطْ} للنخلة، و نسبة الهز إلى الجذع و المساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة و إنما اخضرت و أورقت و أثمرت رطبا جنيا لساعتها، و الرطب هو نضيج البسر، و الجني هو المجني و ذكر في القاموس على ما نقل أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.
قوله تعالى: {فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً} قرار العين كناية عن المسرة يقال:
أقر الله عليك أي سرك، و المعنى: فكلي من الرطب الجني الذي تسقط و اشربي من السري الذي تحتك و كوني على مسرة من غير أن تحزني، و التمتع بالأكل و الشرب من أمارات السرور و الابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام و مريء الشراب و مصيبته شاغلة، و المعنى: فكلي من الرطب الجني و اشربي من السري و كوني على مسرة مما حباك الله به من غير أن تحزني، و أما ما تخافين من تهمة الناس و مساءلتهم فالزمي السكوت و لا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.
قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا} المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا} و كذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت و لذا أرسل عذرا إرسال المسلم، و الإنسي منسوب إلى الإنس مقابل الجن و المراد به الفرد من الإنسان.
و قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} إلخ، ما زائدة و الأصل إن ترى بشرا فقولي إلخ، و المعنى: إن ترى بشرا و كلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي إلخ، و المراد بالقول التفهيم بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، و عن الفراء أن العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها و تنذره لله على نفسها فلا يكون إخبارا بما لا حقيقة له.
و قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} إلخ، على أي حال متفرع على قوله: {وَ قَرِّي عَيْناً} و المراد لا تكلمي بشرا و لا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم و أدافع خصامهم.
قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ} أنى لك هذا {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا} الضميران في {بِهِ} و {تَحْمِلُهُ} لعيسى، و الاستفهام إنكاري حملهم عليه ما شاهدوه عن عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد و الاحتجاب و كانت ابنة عمران
و من آل هارون القديس، و الفري هو العظيم البديع و قيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر و الآية التالية تؤيد المعنى الأول، و معنى الآية واضح.
قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ مَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} ذكر في المجمع، أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح و على هذا فالمراد بالأخوة الشباهة و معنى {يَا أُخْتَ هَارُونَ} يا شبيهة هارون، و الثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها، و الثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر و الفساد انتهى ملخصا و البغي الزانية، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا} إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم و يكشف لهم عن حقيقة الأمر، و هو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا} على ما تقدم البحث عنه.
و المهد السرير الذي يهيأ للصبي فيوضع فيه و ينوم عليه، و قيل: المراد بالمهد في الآية حجر أمه، و قيل المرباة أي المرجحة، و قيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيئت له مهدا، و الحق أن الآية ظاهرة في ذلك و لا دليل على أنها لم تكن هيئت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها و كلموها بعد ما رجعت إلى بيتها و استقرت فيه و هيئت له مهدا أو مرجحة و تسمى أيضا مهدا.
و قد استشكلت الآية بأن الإتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين و لا استغراب فيه.
و أجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد و منه قريب يلي الحال و إنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، و أما لو كان هو القريب المتصل بالحال و هو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه. و الوجه للزمخشري في الكشاف.
و فيه أنه و إن دفع الإشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه و تكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون {كَانَ} زائدا مستدركا.
و أجيب عنه ثانيا: بأن قوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ} لحكاية الحال الماضية و {مَنْ} موصولة و المعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا. و هذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف.
و فيه أنه و إن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!
و أجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و {مَنْ كَانَ فِي اَلْمَهْدِ} مبتدأ و خبر، و صبيا حال مؤكدة.
و فيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل إن: {كَانَ} الزائدة تدل على الزمان و إن لم تدل على الحدث.
و أجيب عنه رابعا بأن {مَنْ} في الآية شرطية و {كَانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا} شرطها و قوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ} في محل الجزاء و المعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه و الماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.
و فيه أنه تكلف ظاهر.
و يمكن أن يقال: إن {كَانَ} منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط و الجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أو إن كان جيء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتا يقضي مضيه عليه و تحققه فيه و لزومه له كقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً}: الإسراء: ٩٣ أي إن البشرية و الرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، و قوله تعالى: {وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}: الإسراء: ٦٣ أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه و يكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث و سيلبث في صباه برهة من الزمان. و الله أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا} شروع منه (عليه السلام)
في الجواب و لم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم (عليه السلام) لأن نطقه على صباه و هو آية معجزة و ما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته و أمنة من كل قذارة و خباثة و من نزاهته طهارة مولده.
و قد بدأ بقوله: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ} اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين و تتم الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: {وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}.
و في قوله: {آتَانِيَ اَلْكِتَابَ} إخبار بإعطاء الكتاب و الظاهر أنه الإنجيل، و في قوله: {وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا} إعلام بنبوته، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة و الرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة، و ظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب و النبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.
قوله تعالى: {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} كونه (عليه السلام) مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة و البركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع و يدعوهم إلى العمل الصالح و يربيهم تربية زاكية و يبرئ الأكمه و الأبرص و يصلح القوي و يعين الضعيف.
و قوله: {وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ} إلخ، إشارة إلى تشريع الصلاة و الزكاة في شريعته، و الصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه و الزكاة الإنفاق المالي و هذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة و الزكاة و قارن بينهما و ذلك في نيف و عشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس و تطهيرها دون الإنفاق المالي.
قوله تعالى: {وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا} أي جعلني حنينا رءوفا بالناس و من ذلك أني بر بوالدتي و لست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، و الجبار هو الذي يحمل الناس و لا يتحمل منهم، و نقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح و الشقي الذي لا ينتصح.
قوله تعالى: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه و وجوده، و قد تقدم توضيحه
في آخر قصة يحيى المتقدمة.
نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، و في هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، و فرق آخر و هو أن المسلم على يحيى هو الله سبحانه و على عيسى هو نفسه.
قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} الظاهر أن هذه الآية و التي تليها معترضتان، و الآية الثالثة: {وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ} من تمام قول عيسى (عليه السلام).
و قوله: {ذَلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ} الإشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره و شرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته و ما وصفه هو للناس من عبوديته و إيتائه الكتاب و جعله نبيا هو عيسى بن مريم.
و قوله: {قَوْلَ اَلْحَقِّ} منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، و قوله: {اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، و المعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه.
و قيل: المراد بقول الحق كلمة الحق و هو عيسى (عليه السلام) لأن الله سبحانه سماه كلمته في قوله: {وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلىَ مَرْيَمَ}: النساء: ١٧١ و قوله: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}: آل عمران: ٤٥، و قوله: {بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللَّهِ}: آل عمران: ٣٩، و عليه فقول الحق منصوب على المدح، و يؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ}: آل عمران: ٦٠.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} نفي و إبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، و قوله: {إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} حجة أقيمت على ذلك، و قد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.
و ذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، و الله سبحانه غني عن ذلك لا يتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
و أيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير
فردا مثله، و الله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج و لا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة و تدريج من غير أن يماثله، و قد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} (الآية): البقرة: ١١٦ في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: {وَ إِنَّ اَللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} معطوف على قوله: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ} و هو من قول عيسى (عليه السلام)، و من الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، و نظيره في سورة الزخرف حيث قال: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}: الزخرف: ٦٥.
فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف و ابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقول: إن الله ربي و «ربكم» إلخ على أن سياق الآيات أيضا لا يساعد على شيء من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقه و يتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الأحزاب جمع حزب و هو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب هو قول كل منهم فيه (عليه السلام) خلاف ما يقوله الآخرون، و إنما قال: {مِنْ بَيْنِهِمْ} لأن فيهم من ثبت على الحق، و ربما قيل {مِنْ} زائدة و الأصل اختلف الأحزاب بينهم، و هو كما ترى.
و الويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، و المشهد مصدر ميمي بمعنى الشهود: هذا.
و قد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح (عليه السلام) و كليات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ اَلظَّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}
أي ما أسمعهم و أبصرهم بالحق يوم يأتوننا و يرجعون إلينا و هو يوم القيامة فيتبين لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}: الم السجدة: ١٢.
و أما الاستدراك الذي في قوله: {لَكِنِ اَلظَّالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} فهو لدفع توهم أنهم إذا سمعوا و أبصروا يوم القيامة و انكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة و اليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك و لا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم.
و ذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل و أثره و ما اكتسبوه في أمسهم ليومهم و أما أن يستأنفوا يوم القيامة عملا يتوقعون جزاءه غدا فليس لليوم غد، و بعبارة أخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا و انقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا مضطرين على ما هيئوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق و ظهور الحقيقة.
و ذكر بعضهم أن المراد بالآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسمع القوم و يبصرهم ببيان أنهم يوم يحضرون للحساب و الجزاء سيكونون في ضلال مبين. و هو وجه سخيف لا ينطبق على الآية البتة.
قوله تعالى: {وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ظاهر السياق أن قوله: {إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ} بيان لقوله: {يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ} ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر و القضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه و أمنية نفسه و مخ سعادته الذي كان يقدر حصوله لنفسه و لا يرى طيبا للعيش دونه لتعلق قلبه به و تولهه فيه، و معلوم أن الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه و إن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرط في جنبه و لذلك عقب الكلام بقوله: {وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
فالمعنى و الله أعلم و خوفهم يوما يقضى فيه الأمر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم
فينقطعون عن سعادتهم الخالدة التي فيها قرة أعينهم فيتحسرون عليها حسرة لا تقدر بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الذي يهديهم و يوصلهم إليها بالاستقامة و هو الإيمان بالله وحده و تنزيهه عن الولد و الشريك.
و فيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية و الله الهادي.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} قال الراغب في المفردات: الوراثة و الإرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد و سمي بذلك المنتقل عن الميت إلى أن قال و يقال: ورثت مالا عن زيد و ورثت زيدا. انتهى.
و الآية كأنها تثبيت و نوع تقريب لقوله في الآية السابقة: {قُضِيَ اَلْأَمْرُ} فالمعنى و هذا القضاء سهل يسير علينا فإنا نرث الأرض و إياهم و إلينا يرجعون و وراثة الأرض أنهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى و وراثة من عليها أنهم يموتون فيبقى ما بأيديهم لله سبحانه، و على هذا فالجملتان {نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا} في معنى جملة واحدة «نرث عنهم الأرض».
و يمكن أن نحمل الآية على معنى أدق من ذلك و هو أن يراد أن الله سبحانه هو الباقي بعد فناء كل شيء فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود و آثار الوجود و هو الباقي بعد فناء الإنسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في قوله: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ}: المؤمن: ١٦، و قوله: {وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً}: مريم: ٨٤.
و يرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكل و حشرهم إليه تعالى فيكون قوله: {وَ إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} عطف تفسير و بمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب أولي العقل على غيرهم أو لبروز كل شيء يومئذ أحياء عقلاء.
و هذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأول فإن الكلام عليه نظير أن يقال ورثت مال زيد و زيدا.
و اختتام الكلام على قصة عيسى (عليه السلام) بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإن وراثته تعالى من الحجج على نفي الولد فإن الولد إنما يراد ليكون وارثا لوالده فالذي يرث كل شيء في غنى عن الولد.
(بحث روائي)
في المجمع: و روي عن الباقر (عليه السلام): أنه يعني جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريا، و قيل: كانت مدة حملها تسع ساعات. و هذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و في بعض الروايات أن مدة حملها كانت ستة أشهر.
و في المجمع: في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (الآية) و إنما تمنت الموت إلى أن قال و روي عن الصادق (عليه السلام): لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء.
و فيه: في قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قيل: ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب وقيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج الطبراني في الصغير و ابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال النهر.
أقول: و في رواية أخرى فيه عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه نهر أخرجه الله لها لتشرب منه.
و في الخصال عن علي (عليه السلام) من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شيء و لا تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم: {وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً}.
أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).
و في الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده. ثم قال: قالت مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً}
أي صوما صمتا و في نسخة أي صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم و غضوا أبصاركم و لا تنازعوا و لا تحاسدوا (الحديث).
و في كتاب سعد السعود، لابن طاووس من كتاب عبد الرحمن بن محمد الأزدي: و حدثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعثه إلى نجران فقالوا: أ لستم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} و بينهما كذا و كذا؟ فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ لا قلت لهم: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم و الصالحين منهم.
أقول: و أورد الحديث في الدر المنثور، مفصلا و في مجمع البيان، مختصرا عن المغيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و معنى الحديث أن المراد بهارون في قوله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} رجل مسمى باسم هارون النبي أخي موسى (عليه السلام)، و لا دلالة فيه على كونه من الصالحين كما توهمه بعضهم.
و في الكافي و معاني الأخبار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: نفاعا.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظ الحديث: قال النبي قول عيسى (عليه السلام): {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: جعلني نفاعا للناس أين اتجهت.
و في الدر المنثور أخرج ابن عدي و ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال: معلما و مؤدبا.
و في الكافي بإسناده عن بريد الكناسي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) أ كان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل، أ ما تسمع لقوله حين قال: {إِنِّي عَبْدُ اَللَّهِ آتَانِيَ اَلْكِتَابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}.
قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال و هو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية لله و رحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها و كان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان و كان زكريا الحجة لله عز و جل بعد صمت عيسى بسنتين.
ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب و الحكمة و هو صبي صغير أ ما تسمع لقوله عز و جل: {يَا يَحْيىَ خُذِ اَلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنَاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا} فلما بلغ سبع سنين تكلم بالنبوة و الرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى و على الناس أجمعين.
و ليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوما واحدا بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم (عليه السلام) و أسكنه الأرض (الحديث).
و فيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاما فقد وهب الله لك فقر عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) و هو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: و ما يضره من ذلك شيء قد قام عيسى بالحجة و هو ابن ثلاث سنين.
أقول: و يقرب منه ما في بعض آخر من الروايات.
و فيه بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة أ لا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: {وَ أَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}.
و في عيون الأخبار بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و منها عقوق الوالدين لأن الله عز و جل جعل العاق جبارا شقيا في قوله حكاية عن عيسى (عليه السلام): {وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا}.
أقول: ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) أخذ قوله: {وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا} عطف تفسير لقوله: {وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي}.
و في المجمع و روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قيل: يا أهل الجنة فيشرفون و ينظرون، و قيل: يا أهل النار فيشرفون و ينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا و كل قد عرفه. قال:
فيقدم فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت: قال: فذلك قوله: {وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ} (الآية).
قال: و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ثم جاء في آخره: فيفرح أهل الجنة فرحا لو كان أحد يومئذ ميتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا لماتوا.
أقول: و روى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاري و الترمذي و النسائي و الطبري و غيرهم عن أبي سعيد و أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس.
و في تفسير القمي: و قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهَا} قال: كل شيء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة.
أقول: و هذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدمة في تفسيرها.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٤١ الی ٥٠]
{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ٤١ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ٤٢ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا ٤٣ يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ٤٤ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ٤٥ قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا ٤٦ قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ٤٧ وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي
شَقِيًّا ٤٨ فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا ٤٩ وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ٥٠}
(بيان)
تشير الآيات إلى نبذة من قصة إبراهيم (عليه السلام) و هي محاجته أباه في أمر الأصنام بما آتاه الله من الهدى الفطري و المعرفة اليقينية و اعتزاله إياه و قومه و آلهتهم فوهب الله له إسحاق و يعقوب و خصه بكلمة باقية في عقبه و جعل له و لأعقابه ذكرا جميلا باقيا مدى الدهر.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} الظاهر أن الصديق اسم مبالغة من الصدق فهو الذي يبالغ في الصدق فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول لا مناقضة بين قوله و فعله، و كذلك كان إبراهيم (عليه السلام) قال بالتوحيد في عالم وثني و هو وحده فحاج أباه و قومه و قاوم ملك بابل و كسر الآلهة و ثبت على ما قال حتى ألقي في النار ثم اعتزلهم و ما يعبدون كما وعد أباه أول يوم فوهب الله له إسحاق و يعقوب إلى آخر ما عده تعالى من مواهبه.
و قيل: إن الصديق اسم مبالغة للتصديق، و معناه: أنه كان كثير التصديق للحق يصدقه بقوله و فعله، و هذا المعنى و إن وافق المعنى الأول بحسب المال لكن يبعده ندرة مجيء صيغة المبالغة من المزيد فيه.
و النبي على وزن فعيل مأخوذ من النبإ سمي به النبي لأنه عنده نبأ الغيب بوحي من الله، و قيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ظرف لإبراهيم حيث إن المراد بذكره و ذكر نبئه و قصته كما تقدم نظيره في قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ} و أما قول من قال بكونه ظرفا لقوله: {صِدِّيقاً} أو قوله: {نَبِيًّا} فهو تكلف يستبشعه الطبع السليم.
و قد نبه إبراهيم أباه فيما ألقى إليه من الخطاب أولا أن طريقه الذي يسلكه بعبادة الأصنام لغو باطل، و ثانيا أن له من العلم ما ليس عنده فليتبعه ليهديه إلى طريق الحق لأنه على خطر من ولاية الشيطان.
فقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ} إلخ، إنكار توبيخي لعبادته الأصنام و قد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها {مَا لاَ يَسْمَعُ} إلخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول و يعطي الحجة في طي المدعى و هو أن عبادة الأصنام لغو باطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع و تمثيل التذلل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، و الأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع و لا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: {لاَ يَسْمَعُ وَ لاَ يُبْصِرُ}.
و ثانيهما: أن العبادة و الدعاء و رفع الحاجة إلى شيء إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا أو يدفع عنه ضررا فيتوقف و لا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، و الأصنام لا قدرة لها على شيء فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها، و هذا هو الذي أشار إليه بقوله: {وَ لاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً}.
و قد تقدم في تفسير سورة الأنعام أن هذا الذي كان يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: {يَا أَبَتِ} لم يكن والده و إنما كان عمه أو جده لأمه أو زوج أمه بعد وفاة والده فراجع.
و المعروف من مذهب النحاة في لفظ «يا أبت» أن التاء عوض من ياء المتكلم و مثله «يا أمت» و يختص التعويض بالنداء فلا يقال مثلا قال أبت و قالت أمت.
قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} لما بين له بطلان عبادته للأصنام و لغويتها و كان لازم معناه أنه سألك طريق غير سوي عن جهل نبهه أن له علما بهذا الشأن ليس عنده و عليه أن يتبعه حتى يهديه إلى صراط و هو الطريق الذي لا يضل سالكه لوضوحه سوي هو في غفلة من أمره، و لذا نكره إذ قال: {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} و لم يقل: أهدك الصراط السوي كأنه يقول: إذ كنت تسلك صراطا و لا محالة من سلوكه فلا تسلك هذا الصراط غير
السوي بجهالة بل اتبعني أهدك صراطا سويا فإني لذو علم بهذا الشأن.
و في قوله: {قَدْ جَاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ} دليل على أنه أوتي العلم بالحق قبل دعوته و محاجته هذه و فيه تصديق ما قدمناه في قصته (عليه السلام) من سورة الأنعام أنه أوتي العلم بالله و مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قبل أن يلقى أباه و قومه و يحاجهم.
و المراد بالهداية في قوله: {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا} الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب فإنه شأن الإمام و لم يجعل إماما، بعد و قد فصلنا القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}: البقرة: ١٣٤.
قوله تعالى: {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} إلى آخر الآيتين الوثنيون يرون وجود الجن و إبليس من الجن و يعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة و القديسين من البشر، غير أنه ليس المراد بالنهي النهي عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ} (الآية): يس: ٦٠، فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به و مما يأمر به عبادة غير الله.
لما دعاه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر و لا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك و تدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها في صلاح و فلاح و لا رجاء لسلامة و سعادة.
و ذلك أن عبادتها و المستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحمانا تنتهي إليه كل رحمة و التقرب إليها إنما هي من الشيطان و تسويله، و الشيطان عصي للرحمن لا يأمر بشيء فيه رضاه و إنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه و سخطه و العكوف على معصيته و خاصة في أخص حقوقه و هي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته و هي الهداية إلى السعادة و ينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه و هو ولي الشيطان و هو الهلاك.
فمعنى الآيتين و الله أعلم يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة
الأصنام لأن الشيطان عصي مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة و نعمة فهو لا يأمر إلا بما فيه معصيته و الحرمان عن رحمته، و إنما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شيء من عذاب خذلانه و ينقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولي أمرك إلا الشيطان فتكون وليا للشيطان و الشيطان مولاك.
و قد ظهر مما تقدم:
أولا: أن المراد بالعبادة في قوله: {لاَ تَعْبُدِ اَلشَّيْطَانَ} عبادة الطاعة، و لوصف الشيطان - و معناه الشرير - دخل في الحكم.
و ثانيا: وجه تبديل اسم الجلالة من وصف الرحمن في موضعين فإن لوصف الرحمة المطلقة دخلا في الحكمين فإن كونه تعالى مصدرا لكل رحمة و نعمة هو الموجب لقبح الإصرار على معصيته و المصحح للنهي عن طاعة من يقيم على عصيانه، و كذا مصدريته لكل رحمة هو الباعث على الخوف من عذابه الذي يلازم إمساك الرحمة و غشيان النقمة و الشقوة.
و ثالثا: أن المراد بالعذاب هو الخذلان، أو ما هو بمعناه كإمساك الرحمة و ترك الإنسان و نفسه، و ما ذكره بعضهم أن المراد به العذاب الأخروي لا يساعد عليه السياق.
قوله تعالى: {قَالَ أَ رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا} الرغبة عن الشيء نقيض الرغبة فيه كما في المجمع، و الانتهاء: الكف عن الفعل بعد النهي، و الرجم: الرمي بالحجارة، و المعروف من معناه القتل برمي الحجارة، و الهجر هو الترك و المفارقة، و الملي: الدهر الطويل.
و في الآية تهديد لإبراهيم بأخزى القتل و أذله و هو الرجم الذي يقتل به المطرودون، و فيها طرد آزر لإبراهيم عن نفسه.
قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} الحفي على ما ذكره الراغب: البر اللطيف و هو الذي يتتبع دقائق الحوائج فيحسن و يرفعها واحدا بعد واحد، يقال: حفا يحفو حفي و حفوة، و إحفاء السؤال و الإحفاء فيه: الإلحاح و الإمعان فيه.
قابل إبراهيم (عليه السلام) أباه فيما أساء إليه و هدده و فيه سلب الأمن عنه من قبله
بالسلام الذي فيه إحسان و إعطاء أمن، و وعده أن يستغفر له ربه و أن يعتزلهم و ما يدعون من دون الله كما أمره أن يهجره مليا.
أما السلام فهو من دأب الكرام قابل به جهالة أبيه إذ هدده بالرجم و طرده لكلمة حق قالها، قال تعالى: {وَ إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}: الفرقان: ٧٢، و قال: {وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً}: الفرقان: ٦٣، و أما ما قيل: إنه كان سلام توديع و تحية مفارقة و هجرة امتثالا لقوله: {وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا} ففيه أنه اعتزله و قومه بعد مدة غير قصيرة.
و أما استغفاره لأبيه و هو مشرك فظاهر قوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ اَلرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} إنه (عليه السلام) لم يكن وقتئذ قاطعا بكونه من أولياء الشيطان أي مطبوعا على قلبه بالشرك جاحدا معاندا للحق عدوا لله سبحانه و لو كان قاطعا لم يعبر بمثل قوله: {إِنِّي أَخَافُ} بل كان يحتمل أن يكون جاهلا مستضعفا لو ظهر له الحق اتبعه، و من الممكن أن تشمل الرحمة الإلهية لأمثال هؤلاء قال تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً}: النساء: ٩٩، فاستعطفه (عليه السلام) بوعد الاستغفار و لم يحتم له المغفرة بل أظهر الرجاء بدليل قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} و قوله تعالى{ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}: الممتحنة - ٤.
و يؤيد ما ذكر قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبىَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}: التوبة: ١١٤، فتبريه بعد تبين عداوته دليل على أنه كان قبل ذلك عند الموعدة يرجو أن يكون غير عدو لله مع كونه مشركا، و ليس ذلك إلا الجاهل غير المعاند.
و يؤيد هذا النظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى أن قال {لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ} الخ: الممتحنة: ٨.
و مما قيل في توجيه استغفاره لأبيه و هو مشرك أنه وعده الاستغفار و استغفر له بمقتضى العقل فإن العقل لا يأبى عن تجويزه و إنما منع منه النقل و لم يثبت يومئذ المنع عنه شرعا ثم لما حرم ذلك في شرعه تبرأ منه.
و فيه: أنه لا ينطبق على آيات القصة كما يظهر بالتأمل فيما قدمناه.
و منها: أن معنى استغفاره كان مشروطا بتوبته و إيمانه. و هو كما ترى.
و منها: أن معنى {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} سأدعو الله أن لا يعذبك في الدنيا. و هو كسابقه تقييد من غير مقيد.
و منها: أنه وعد الدعاء بالمسبب و هو بالاستلزام وعد للدعاء بالسبب فمعنى سأسأل الله أن يغفر لك، سأسأله أن يوفقك للتوبة و يهديك للإيمان فيغفر لك، و يمكن أن يجعل طلب المغفرة كناية عن طلب توفيق التوبة و الهداية إلى الإيمان.
و هذا و إن كان أعدل الوجوه لكنه لا يخلو عن بعد لأن في الكلام استعطافا و هو بطلب المغفرة أنسب منه بطلب التوفيق و الهداية، تأمل فيه.
و نظير دعائه لأبيه دعاؤه لعامة المشركين في قوله: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: إبراهيم: ٣٦.
قوله تعالى: {وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسىَ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} وعد باعتزالهم و الابتعاد منهم و من أصنامهم ليخلو بربه و يخلص الدعاء له رجاء أن لا يكون بسبب دعائه شقيا و إنما أخذ بالرجاء لأن هذه الأسباب من الدعاء و التوجه إلى الله و نحوه ليست بأسباب موجبة عليه تعالى شيئا بل الإثابة و الإسعاد و نحوه بمجرد التفضل منه تعالى. على أن الأمور بخواتمها و لا يعلم الغيب إلا الله فعلى المؤمن أن يسير بين الخوف و الرجاء.
قوله تعالى: {فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} إلى آخر الآيتين. لعل الاقتصار على ذكر إسحاق لتعلق الغرض بذكر توالي النبوة
في الشجرة الإسرائيلية و لذلك عقب إسحاق بذكر يعقوب فإن في نسله جما غفيرا من الأنبياء، و يؤيد ذلك أيضا قوله: {وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا}.
و قوله: {وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} من الممكن أن يكون المراد به الإمامة كما وقع في قوله: {وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: الأنبياء: ٧٣، أو التأييد بروح القدس كما يشير إليه قوله: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ} (الآية): الأنبياء: ٧٣ على ما سيجيء من معناه أو مطلق الولاية الإلهية.
و قوله: {وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} اللسان على ما ذكروا هو الذكر بين الناس بالمدح أو الذم و إذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل الذي لا كذب فيه، و العلي هو الرفيع و المعنى و جعلنا لهم ثناء جميلا صادقا رفيع القدر.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٥١ الی ٥٧]
{وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ٥١ وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ٥٢ وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ٥٣ وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ٥٤ وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ٥٥ وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ٥٦ وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا ٥٧}
(بيان)
ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شيء من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام).
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} قد تقدم معنى المخلص بفتح اللام و أنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبودية. و تقدم أيضا الفرق بين الرسول و النبي.
قوله تعالى: {وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} الأيمن: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع: النجي بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع.
و ظاهر أن تقريبه (عليه السلام) كان تقريبا معنويا و إن كانت هذه الموهبة الإلهية في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.
قوله تعالى: {وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما أوحى إليه لأول مرة في الطور إذ قال: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}: طه: ٣٢.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ} إلى آخر الآيتين. اختلفوا في {إِسْمَاعِيلَ} هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب.
و يضعف ما وجه به قول الجمهور: أنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه، أنه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليه السلام) لا بعد موسى.
قوله تعالى: {وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} المراد بأهله خاصته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله أمته و هو قول بلا دليل.
و المراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به بعضهم فإن إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} إلى آخر
الآيتين. قالوا: إن إدريس النبي كان اسمه أخنوخ و هو من أجداد نوح (عليه السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.
و قوله: {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعد مواهب النبوة و الولاية و هي مقامات إلهية معنوية أن المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادي و الصعود إلى أقاصي الجو البعيدة أينما كان.
و قيل: إن المراد بذلك كما ورد به الحديث أن الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهية بالغة و كفى بها مزية.
(قصة إسماعيل صادق الوعد)
لم ترد قصة إسماعيل بن حزقيل النبي في القرآن إلا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعده صادق الوعد و آمرا بالمعروف و مرضيا عند ربه، و ذكر أنه كان رسولا نبيا.
و أما الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إسماعيل الذي قال الله عز و جل في كتابه: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز و جل إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي أسوة بما يصنع بالأنبياء (عليه السلام).
أقول: و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي أسوة بالحسين (عليه السلام).
و في العيون بإسناده إلى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره.
أقول: و روى هذا المعنى في الكافي عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن
أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنه (عليه السلام).
و في تفسير القمي: في قوله {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ} قال: وعد وعدا فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل.
أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقا لم يقيده بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبر نفسه في المكان الذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتى يرجع إليه.
و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحب و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أن من الإيمان ما يجتمع مع أي خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتى يخلص من كل شرك خفي فلا يتعلق القلب بشيء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلا إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض حاجة أخرى توجب الانصراف إليها و هو الذي يصدق عليه الوفاء عرفا، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتى يواس من رجوع الصديق إليه عادة بمجيء الليل و نحوه فيقيد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القوية التي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلا ما في وسعها أن تصدقه بالفعل ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أي صارف.
و في الرواية: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وعد بعض أصحابه بمكة أن ينتظره عند الكعبة حتى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثة أيام هناك ينتظره فاطلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصديقين لا يقولون إلا ما يفعلون.
(قصة إدريس النبي (عليه السلام))
١ - لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} (الآية): - ٥٦-٥٧ و في قوله:
{وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصَّابِرِينَ وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ}: الأنبياء: ٨٥ ٨٦.
و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عده نبيا و صديقا و من الصابرين و من الصالحين، و أخبر أنه رفعه مكانا عليا.
٢ - و من الروايات الواردة في قصته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام): و الحديث طويل لخصناه أنه كان بدء نبوة إدريس (عليه السلام) أنه كان في زمانه ملك جبار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمر بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحب أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحير في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامة الأمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهودا أنه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض.
فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزتي لأنتقمن له منك في الآجل و لأسلبن ملكك في العاجل، و لأخربن مدينتك و لأذلن عزك و لأطعمن الكلاب لحم امرأتك فقد غرك يا مبتلى حلمي عنك.
فأتاه إدريس برسالة الله و بلغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثم أرسل إليه بإشارة من امرأته قوما يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثم ناجى ربه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنه سينفذ في الملك أمره و يصدق فيه قوله، ثم سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتى يسأل ذلك فأجيب إليه.
فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلا و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو
متنحيا إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كل مساء.
و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتى جهدوا و اشتدت حالهم فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أن الذي لقوه من الجهد و المشقة إنما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرع.
فأوحى الله إلى إدريس أن القوم عجوا إلي بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم حتى تسألني فاسألني حتى أغيثهم، قال إدريس: اللهم إني لا أسألك.
فأوحى الله إلى الملك الذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيام حتى بلغ به الجوع: فنادى اللهم حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثم سألتك أن تسألني أن أمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلتك.
فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا و حلفت أنها لا تملك غيره شيئا فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما أمسك به روحي و تقوم به رجلي حتى أطلب، قالت: إنهما قرصتان واحدة لي و الأخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت.
فلما رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات، قالت أمه: يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته فقال: لا تجزعي فأنا أحييه لك الساعة بإذن الله و أخذ بعضدي الصبي و قال: أيتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه.
فلما سمعت أمه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيا قالت: أشهد أنك إدريس النبي و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول و قد تبدلت تلا من تراب فاجتمع إليه أناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتى يأتيني جباركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك.
فبلغ ذلك الجبار فبعث إلى إدريس أربعين رجلا و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلما جاءوه و كلفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثم أرسل خمسمائة رجل فلما أتوه كلفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر.
فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتى أهمتهم أنفسهم من الماء.
و في الكافي بإسناده عن عبد الله بن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ ما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي الذي كان يخيط فيه.
أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنه (عليه السلام) أول من خط بالقلم و أول من خاط.
و في تفسير القمي قال: و سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب.
أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام): {وَ رَفَعْنَاهُ
مَكَاناً عَلِيًّا} أن الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلما بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يرد إليه جناحه، فدعا له إدريس فرد الله جناحه إليه و رضي عنه.
قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم أحب أن ترفعني إلى السماء حتى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرك رأسه تعجبا، فسلم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرك رأسك؟ قال: إن رب العزة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا رب كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثم قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى: {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا}.
روى الحديث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و روى ما في معناه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و الروايتان على ما بهما و خاصة في الثانية۱ منهما من ضعف السند لا معول عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة.
و روى الثعلبي في العرائس عن ابن عباس و غيره ما ملخصه: أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها و احمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلة فأذن له.
فكان إدريس يسأله و كان مما سأله: أنك أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي حتى أزداد شكرا و عبادة فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك.
ثم حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إلي و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبدا. فإنه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإني أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شيء فرجع الملك إليه فوجده ميتا.
و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب: إلا أن فيه أن النازل على إدريس الملك الذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه «إلخ» و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عباس هذا الحديث و فيه :أن إدريس مات بين جناحي الملك.
و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتى عرفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصة نزوله و صحبته.
فلما عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثم يردها إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنة فاستأذن و فعل فدخل الجنة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبي الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلق بشجرة هناك،
و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} و قد ذقته، و قال: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} و قد وردت النار، و قال: {وَ مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} و لست أخرج من الجنة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرض له فبقي في الجنة.
و رواه في العرائس عن وهب و في آخره :فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة - و تارة يتنعم في الجنة.
و في مستدرك الحاكم عن سمرة :كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر - قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص - فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم - و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة - فهو حيث يقول: {وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا}.
أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلمية و الأصول المسلمة من الدين.
٣ - و يسمى (عليه السلام) بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشئه و عمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة: ولد بمصر و سموه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانية إرميس و عرب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، و هو عند العبرانيين خنوخ و عرب أخنوخ، و سماه الله عز و جل في كتابه العربي المبين إدريس.
و قال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: إغثاذيمون المصري، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين و المصريين، و سموه أيضا أورين الثاني و إدريس عندهم أورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجد، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلها ثم عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.
و قالت فرقة أخرى: إن إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنه أخذ في أول عمره
بعلم شيث بن آدم و هو جد جد أبيه لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث. قال الشهرستاني: إن إغثاذيمون هو شيث.
و لما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلهم و خالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانية النهر و كأنهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.
فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب و كان معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، و سائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكل ذلك.
و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عز و جل، و تكلم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، و علمه الله عز و جل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية، و قرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علمهم العلوم.
و هو أول من استخرج الحكمة و علم النجوم فإن الله عز و جل أفهمه سر الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لو لا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.
و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول
إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوسآمون، و قيل: إيلاوسآمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.
و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة و أهل العلم جيلا بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (عليه السلام).
[سورة مريم (١٩): الآیات ٥٨ الی ٦٣]
{أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اَلرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا ٥٨ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ٥٩ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ٦٠جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ٦١ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ٦٢ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ٦٣}
(بيان)
قد تقدم في الكلام على غرض السورة أن الذي يستفاد من سياقها بيان أن عبادته تعالى و هو دين التوحيد هو دين أهل السعادة و الرشد من الأنبياء و الأولياء، و أن
التخلف عن سبيلهم بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات اتباع سبيل الغي إلا من تاب و آمن و عمل صالحا.
فالآيات و خاصة الثلاث الأول منها تتضمن حاق غرض السورة و قد أوردته في صورة الاستنباط من القصص المسرودة فيما تقدم من الآيات، و هذا مما تمتاز به هذه السورة من سائر سور القرآن الطوال فإنما يشار في سائر السور إلى أغراضها بالتلويح في مفتتح السورة و مختتمها ببراعة الاستهلال و حسن الختام لا في وسطها.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} إلخ، الإشارة بقوله: {أُولَئِكَ} إلى المذكورين قبل الآية في السورة و هم زكريا و يحيى و مريم و عيسى و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليه السلام).
و قد تقدمت الإشارة إليه من سياق آيات السورة و أن القصص الموردة فيها أمثلة، و أن هذه الآية و اللتين بعدها نتيجة مستخرجة منها، و لازم ذلك أن يكون قوله: {أُولَئِكَ} مشيرا إلى أصحاب القصص بأعيانهم مبتدأ، و قوله: {اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} صفة له، و قوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلخ، خبرا له فهذا هو الذي يهدي إليه التدبر في السياق. و لو أخذ قوله: {اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} خبرا لقوله: {أُولَئِكَ} فقوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلخ، خبر له بعد خبر لكنه لا يلائم غرض السورة تلك الملاءمة.
و قد أخبر الله سبحانه أنه أنعم عليهم و أطلق القول فيهم ففيه دلالة على أنهم قد غشيتهم النعمة الإلهية من غير نقمة و هذا هو معنى السعادة فليست السعادة إلا النعمة من غير نقمة فهؤلاء أهل السعادة و الفلاح بتمام معنى الكلمة و قد أخبر تعالى عنهم أنهم أصحاب الصراط المستقيم المصون سالكه عن الغضب و الضلال إذ قال: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ}: الحمد: ٧، و هم في أمن و اهتداء لقوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ}: الأنعام: ٨٢، فأصحاب الصراط المستقيم المصونون عن الغضب و الضلال و لم يلبسوا إيمانهم بظلم في أمن من كل خطر يهدد الإنسان تهديدا فهم سعداء في سلوكهم سبيل الحياة التي سلكوها و السبيل التي سلكوها، هي سبيل السعادة.
و قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} من فيه للتبعيض و عديله قوله الآتي: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا
وَ اِجْتَبَيْنَا} على ما سيأتي توضيحه. و قد جوز المفسرون كون «من» بيانية و أنت خبير بأن ذلك لا يلائم كون {أُولَئِكَ} مشيرا إلى المذكورين من قبل، لأن النبيين أعم، اللهم إلا أن يكون إشارة إليهم بما هم أمثلة لأهل السعادة و يكون المعنى أولئك المذكورون و أمثالهم الذين أنعم الله عليهم هم النبيون و من هدينا و اجتبينا.
و قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} في معنى الصفة للنبيين و من فيه للتبعيض أي من النبيين الذين هم بعض ذرية آدم، و ليس بيانا للنبيين لاختلال المعنى بذلك.
و قوله: {وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} معطوف على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} و المراد بهم المحمولون في سفينة نوح (عليه السلام) و ذريتهم و قد بارك الله عليهم، و هم من ذرية نوح لقوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ}: الصافات: ٧٧.
و قوله: {وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ} معطوف كسابقه على قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ}.
و قد قسم الله تعالى الذين أنعم عليهم من النبيين على هذه الطوائف الأربع أعني ذرية آدم و من حمله مع نوح و ذرية إبراهيم و ذرية إسرائيل و قد كان ذكر كل سابق يغني عن ذكر لاحقه لكون ذرية إسرائيل من ذرية إبراهيم و الجميع ممن حمل مع نوح و الجميع من ذرية آدم (عليه السلام).
و لعل الوجه فيه الإشارة إلى نزول نعمة السعادة و بركة النبوة على نوع الإنسان كرة بعد كرة فقد ذكر ذلك في القرآن الكريم في أربعة مواطن لطوائف أربع:
أحدها لعامة بني آدم حيث قال: {قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: ٣٩.
و الثاني ما في قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىَ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هود: ٤٨، و الثالث ما في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَ إِبْرَاهِيمَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: الحديد: ٢٦، و الرابع ما في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ}: الجاثية: ١٦.
فهذه مواعد أربع بتخصيص نوع الإنسان بنعمة النبوة و موهبة السعادة، و قد أشير إليها في الآية المبحوث عنها بقوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْرَائِيلَ}، و قد ذكر في القصص السابقة من كل من الذراري الأربع كإدريس من ذرية آدم، و إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح، و إسحاق و يعقوب من ذرية إبراهيم، و زكريا و يحيى و عيسى و موسى و هارون و إسماعيل على ما استظهرنا من ذرية إسرائيل.
و قوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} معطوف على قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} و هؤلاء غير النبيين من الذين أنعم الله عليهم فإن هذه النعمة غير خاصة بالنبيين و لا منحصرة فيهم بدليل قوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}: النساء: ٦٩ و قد ذكر الله سبحانه بين من قص قصته مريم (عليه السلام) معتنيا بها إذ قال: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مَرْيَمَ} و ليست من النبيين فالمراد بقوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} غير النبيين من الصديقين و الشهداء و الصالحين لا محالة، و كانت مريم من الصديقين لقوله تعالى: {مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}: المائدة: ٧٥.
و مما تقدم من مقتضى السياق يظهر فساد قول من جعل {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} معطوفا على قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} مع أخذ من للبيان، و أورد عليه بعضهم أيضا بأن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة و الهداية و الاجتباء للكرامة و هو خلاف الظاهر. و فيه منع كون ظاهر العطف المغايرة مصداقا و إنما هو المغايرة في الجملة و لو بحسب الوصف و البيان.
و نظيره قول من قال بكونه معطوفا على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} و من للتبعيض و قد اتضح وجه فساده مما قدمناه.
و نظيره قول من قال: إن قوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا} استئناف من غير عطف فقد تم الكلام عند قوله: {إِسْرَائِيلَ} ثم ابتدأ فقال: و ممن هدينا و اجتبينا من الأمم قوم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه، و الوجه منسوب إلى أبي مسلم المفسر.
و فيه أنه تقدير من غير دليل. على أن في ذلك إفساد غرض على ما يشهد به السياق إذ الغرض منها بيان طريقة أولئك العباد المنعم عليهم و أنهم كانوا خاضعين لله خاشعين له و أن أخلافهم أعرضوا عن طريقتهم و أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و هذا لا يتأتى إلا بكون قوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ} إلخ خبرا لقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} و أخذ قوله: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا} إلى آخر الآية استئنافا مقطوعا عما قبله إفساد للغرض المذكور من رأس.
و قوله: {إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اَلرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا} السجد جمع ساجد و البكي على فعول جمع باكي و الجملة خبر للذين في صدر الآية و يحتمل أن يكون الخرور سجدا و بكيا كناية عن كمال الخضوع و الخشوع فإن السجدة ممثل لكمال الخضوع و البكاء لكمال الخشوع و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالآيات و تلاوتها ذكر مطلق ما يحكي شأنا من شئونه تعالى.
و أما قول القائل إن المراد بتلاوة الآيات قراءة الكتب السماوية مطلقا أو خصوص ما يشتمل على عذاب الكفار و المجرمين، أو أن المراد بالسجود الصلاة أو سجدة التلاوة أو أن المراد بالبكاء البكاء عند استماع الآيات أو تلاوتها فكما ترى.
فمعنى الآية و الله أعلم أولئك المنعم عليهم الذين بعضهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و بعضهم من أهل الهداية و الاجتباء خاضعون للرحمن خاشعون إذا ذكر عندهم و تليت آياته عليهم.
و لم يقل: كانوا إذا تتلى عليهم «إلخ» لأن العناية في المقام متعلقه ببيان حال النوع من غير نظر إلى ماضي الزمان و مستقبله بل بتقسيمه إلى سلف صالح و خلف طالح و ثالث تاب و آمن و عمل صالحا و هو ظاهر.
قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قالوا: الخلف بسكون اللام البدل السيئ و بفتح اللام ضده و ربما يعكس على ندرة، و ضياع الشيء فساده أو افتقاده بسبب ما كان ينبغي أن يتسلط عليه يقال: أضاع المال إذا أفسده بسوء تدبيره أو أخرجه من يده بصرفه فيما لا ينبغي صرفه فيه، و الغي خلاف الرشد و هو إصابة الواقع و هو قريب المعنى من الضلال خلاف الهدى
و هو ركوب الطريق الموصل إلى الغاية المقصودة.
فقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} إلخ أي قام مقام أولئك الذين أنعم الله عليهم و كانت طريقتهم الخضوع و الخشوع لله تعالى بالتوجه إليه بالعبادة قوم سوء أضاعوا ما أخذوه منهم من الصلاة و التوجه العبادي إلى الله سبحانه بالتهاون فيه و الإعراض عنه، و اتبعوا الشهوات الصارفة لهم عن المجاهدة في الله و التوجه إليه.
و من هنا يظهر أن المراد بإضاعة الصلاة إفسادها بالتهاون فيها و الاستهانة بها حتى ينتهي إلى أمثال اللعب بها و التغيير فيها و الترك لها بعد الأخذ و القبول فما قيل: إن المراد بإضاعة الصلاة تركها ليس بسديد إذ لا يسمى ترك الشيء من رأس إضاعة له و العناية في الآية متعلقه بأن الدين الإلهي انتقل من أولئك السلف الصالح بعدهم إلى هؤلاء الخلف الطالح فلم يحسنوا الخلافة و أضاعوا ما ورثوه من الصلاة التي هي الركن الوحيد في العبودية و اتبعوا الشهوات الصارفة عن الحق.
و قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي جزاء غيهم على ما قيل فهو كقوله: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}.
و من الممكن أن يكون المراد به نفس الغي بفرض الغي غاية للطريق التي يسلكونها و هي طريق إضاعة الصلاة و اتباع الشهوات فإذ كانوا يسلكون طريقا غايتها الغي فسيلقونه إذا قطعوها إما بانكشاف غيهم لهم يوم القيامة حيث ينكشف لهم الحقائق أو برسوخ الغي في قلوبهم و صيرورتهم من أولياء الشيطان كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢، و كيف كان فهو استعارة بالكناية لطيفة.
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} استثناء من الآية السابقة فهؤلاء الراجعون إلى الله سبحانه ملحقون بأولئك الذين أنعم الله عليهم و هم معهم لا منهم كما قال تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}: النساء: ٦٩.
و قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ} من وضع المسبب موضع السبب و الأصل
فأولئك يوفون أجرهم، و الدليل على ذلك قوله بعده: {وَ لاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} فإنه من لوازم توفية الأجر لا من لوازم دخول الجنة.
قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} العدن الإقامة ففي تسميتها به إشارة إلى خلودها لداخليها، و الوعد بالغيب هو الوعد بما ليس تحت إدراك الموعود له، و كون الوعد مأتيا عدم تخلفه، قال في المجمع: و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأن ما أتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال: أتيت خمسين سنة و أتت علي خمسون سنة، و قيل: إن الموعود الجنة و الجنة يأتيها المؤمنون انتهى.
قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} عدم سمع اللغو من أخص صفات الجنة و قد ذكره الله سبحانه و امتن به في مواضع من كلامه و سنفصل القول فيه إن شاء الله في موضع يناسبه، و استثناء السلام منه استثناء منفصل، و السلام قريب المعنى من الأمن و قد تقدم الفرق بينهما فقولك: أنت مني في أمن معناه لا تلقى مني ما يسوءك، و قولك: سلام مني عليك معناه كل ما تلقاه مني لا يسوءك. و إنما يسمعون السلام من الملائكة و من رفقائهم في الجنة، قال تعالى حكاية عن الملائكة {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}: الزمر: ٧٣، و قال: {فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ}: الواقعة - ٩١.
و قوله {وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا} الظاهر أن إتيان الرزق بكرة و عشيا كناية عن تواليه من غير انقطاع.
قوله تعالى: {تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} الإرث و الوراثة هو أن ينتقل مال أو ما يشبهه من شخص إلى آخر بعد ترك الأول له بموت أو جلاء أو نحوهما، و إذ كانت الجنة في معرض العطاء لكل إنسان بحسب الوعد الإلهي المشروط بالإيمان و العمل الصالح فاختصاص المتقين بها بعد حرمان غيرهم عنها بإضاعة الصلاة و اتباع الشهوات وراثة المتقين، و نظير هذه العناية ما في قوله تعالى: {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}: الأنبياء: ١٠٥، و قوله: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ}: الزمر: ٧٤، و الآية كما ترى جمعت بين الإيراث و الأجر.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله تعالى: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} (الآية)، و روي عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: نحن عنينا بها.
أقول: و عن مناقب ابن شهرآشوب، عنه (عليه السلام) مثله، و قد اتضح معنى الحديث بما قدمناه في تفسير الآية فإن المراد بالجملة أهل الهداية و الاجتباء من غير النبيين و هم (عليه السلام) منهم كما ذكر الله سبحانه مريم منهم و ليست بنبية.
قال في روح المعاني: و روى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم. و لا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا و حال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التميز. انتهى. و قد تبين خطؤه مما تقدم و الذي أوقعه في ذلك أخذه قوله تعالى: {وَ مِمَّنْ هَدَيْنَا وَ اِجْتَبَيْنَا} معطوفا على قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} و قوله: {مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} بيانا لقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ} إلخ، فانحصر {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} في النبيين فاضطر إلى القول بأن الآية لا تشمل غير النبيين و هو يرى أن الله ذكر فيمن ذكر مريم بنت عمران و ليست بنبية.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و تلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} فقال: يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، و يقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن و منافق و فاجر.
و في المجمع: في قوله تعالى: {أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ} و قيل: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلا و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و روى في الكافي ما في معناه بإسناده عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام)، و روي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن مسعود و عدة من التابعين.
و عن جوامع الجامع و في روح المعاني: في قوله: {وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ} عن علي (عليه السلام) من بنى الشديد و ركب المنظور و لبس المشهور.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق نهشل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الغي واد في جهنم.
أقول: و في روايات أخرى أن الغي و أثام نهران في جهنم، و هذا على تقدير صحة الحديث ليس بتفسير آخر كما زعمه أكثر المفسرين بل بيان لما سيئول إليه الغي بحسب الجزاء، و نظيره ما ورد أن الويل بئر في جهنم و أن طوبى شجرة في الجنة، إلى غير ذلك من الروايات.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٦٤ الی ٦٥]
{وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ٦٤ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ٦٥}
(بيان)
الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب. و بذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة و رواه في مجمع البيان، أيضا عن ابن عباس :أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) استبطأ نزول جبريل - فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآيتين.
و قد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزل إلا بأمر ربك إلخ، و قال آخرون: إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيًّا} (الآية)، و ذكر قوم أن قوله: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية من
كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير و قال المتقون و ما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك «إلخ» و قيل غير ذلك.
و هي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها. و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال.
قوله تعالى: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، التنزل هو النزول على مهل و تؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال: نزله فتنزل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال: {لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}: التحريم: ٦.
و قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} يقال: كذا قدامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف و التسلط فظاهر قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله: {وَ مَا خَلْفَنَا} بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.
و على هذا فلو أريد بقوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم و المكان الذي هم فيه و جميع المكان الذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ}، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.
فالوجه حمل {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها، و حمل {مَا خَلْفَنَا} على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم، و حمل {مَا بَيْنَ ذَلِكَ} على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلق به وجودنا من قبل و من بعد.
و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو
قدامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان. و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدة حياتنا.
و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الذي هم فيه.
و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماءات عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماءات عليها زمانية و هناك قول بكون الآية تعم الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولا و لا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدمناه.
فقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره و لا إرادة من سواه إلا عن إذن منه و مشية و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.
و قد تقرر بهذا البيان أن قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ} في مقام التعليل لقوله: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} و أن قوله: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} و النسي فعول من النسيان من تمام التعليل أي أنه تعالى لا ينسى شيئا من ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كان هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.
و قيل المعنى و ما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا
لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إياك.
و فيه أنه و إن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} إلخ، ناقصا و ينقطع قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} عما تقدمه كما سيتضح.
قوله تعالى: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} صدر الآية أعني قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} تعليل لقوله في الآية السابقة {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا} إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيا و هو تعالى رب السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و رب الشيء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيته.
و قوله: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك و قد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به و ربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله: {رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} أو على قوله: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي لم ينسك ربك فاعبده «إلخ» و الوجهان كما ترى.
و قد بان بهذا التقرير أمور:
أحدها أن قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} من تمام البيان المقصود بقوله: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} و هو في مقام التعليل له.
و الثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.
و بذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل:
إن المراد بالسمي المماثل مجازا، و قيل: السمي بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.
و الثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الأولى إذ قال: بأمر ربك و قال: و ما كان ربك و لم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: {رَبِّكَ} إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.
و الرابع: أن قوله: {فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمرا بالعبادة و أمرا بالثبات عليها و إدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.
و يمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.
فكان ملك الوحي لما تنزل عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه لم يتنزل و ليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو رب النبي و رب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تثبيتا له و تأكيدا للآيات السابقة.
و هذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو مليكك و مليك عامة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى
تعدل عنه إليه.
فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أن الملك، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول و رسالة أيضا عن قبل الملك و كلامه.
و غير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٦٦ الی ٧٢ ]
{وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ٦٦ أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ٦٧ فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ٦٨ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا ٦٩ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِهَا صِلِيًّا ٧٠وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ٧٢}
(بيان)
عود إلى ما قبل قوله: {وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآيتين و مضى في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم و قد خص بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوة و آخر في المبدإ.
ففي هذه الآيات أعني قوله: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ} إلى قوله {وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.
قوله تعالى: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفار من الوثنيين و من يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الذين كفروا «إلخ»، و فيه أنه لا يلائم قوله الآتي: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ} إلى قوله {صِلِيًّا}.
و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك و قد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي و هو يذكر أن الله خلقه من قبل و لم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً} أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.
و لعل التعبير بالمضارع في قوله: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ} للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.
قوله تعالى: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً} الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر: {وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى أن قال {أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}: يس: ٨١.
فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإن مثل الشيء غيره، قيل: إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا و شخصية
الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا و تعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا و هذا كما أن شخصية الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن و تبدله بتغير أجزائه و تبدلها حالا بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.
و إلى هذا يشير قوله تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى أن قال {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}: الم السجدة: ١١ أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون و لا تفتقدون.
قوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} الجثي في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنهم يحضرون زمرا و جماعات متراكما بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.
و ضمير الجمع في {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} و {لَنُحْضِرَنَّهُمْ} للكفار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من المؤمن و الكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} كذلك و فيه أن لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.
و المراد بقوله: {لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ} جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} و الشياطين أولياؤهم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} الحجر: ٤٢، و قال: {إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأعراف: ٢٧، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}...، {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}: الزخرف: ٣٩.
و المعنى: فأقسم بربك لنجمعنهم يوم القيامة و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلة أو
و هم جماعات و زمرة زمرة.
و في قوله: {فَوَ رَبِّكَ} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و لعل النكتة فيه ما تقدم في قوله: {بِأَمْرِ رَبِّكَ} و نظيره قوله الآتي: {كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً}.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا} النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتي على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان و الظاهر أن قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا} جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىَ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}: الإسراء: ٥٧.
و المعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن و هم الرؤساء و أئمة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.
و في قوله: {عَلَى اَلرَّحْمَنِ} التفات و النكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شيء و هم لم يلقوا منه إلا الرحمة و التمرد على من هذا شأنه عظيم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلىَ بِهَا صِلِيًّا} الصلي في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.
قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} الخطاب للناس عامة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا} و الضمير في {وَارِدُهَا} للنار، و ربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك.
و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ
مَدْيَنَ} و الورد الماء المرشح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} {وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ} {إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً} {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} {مَا وَرَدُوهَا} و الوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.
و إلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلوا عليه بقوله تعالى: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ}: القصص: ٢٣، و قوله: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلىَ دَلْوَهُ}: يوسف: ١٩، و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}: الأنبياء: ١٠٢.
و فيه أن استعماله في مثل قوله: {وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} و قوله: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى، و أما قوله: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا}، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار: {كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلىَ إِبْرَاهِيمَ}.
و قال آخرون و لعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}: الأنبياء: ٩٩، و قوله في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ}: هود: ٩٨، و يدل عليه قوله في الآية التالية: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} أي نتركهم باركين على ركبهم و إنما يقال نذر و نترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه و لعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية.
و هؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتقين
مدعيا أن قوله: {مِنْكُمْ} بمعنى منهم على حد قوله: {وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}: الدهر: ٢٢، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا} (الآية).
و فيه أن كون الورود في مثل قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ} فإن شأن فرعون و هو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أما إدخالهم فيها فليس إليه.
و أما قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا} فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله: {نَذَرُ} لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله {وَارِدُهَا} مستعملا في معنى الدخول و كذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.
و أما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ {وَارِدُهَا} في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار و إنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكىَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً}: النور: ٢١.
قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلا الشر و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله: {كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.
و الحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللغة فقوله: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} إنما يدل على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.
و قوله: {كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه و إنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله: {وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا} يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه، و أما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.
و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم.
و معنى الآيتين: ما من أحد منكم متق أو ظالم إلا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً} قال: فقال: لا مقدرا و لا مكتوبا.
و في المحاسن بإسناده عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: {أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ} (الآية)، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.
أقول: المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثم أثبته الله حين أراد كونه و أما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شيء بنص القرآن.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} قال: قال: على ركبهم.
و فيه بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل:
{وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.
و في المجمع عن السدي قال :سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه.
و فيه و روى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومأ بإصبعيه إلى أذنيه و قال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر حتى يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال: لجهنم ضجيجا من بردها ثم ينجي الله الذين اتقوا و يذر الظالمين فيها جثيا.
أقول: و الرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة.
و فيه و روي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
و فيه و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه سئل عن المعنى فقال: إن الله يجعل النار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.
أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور عن عدة من أرباب الكتب و الجوامع، غير أنه لم يذكر في الرواية الثانية فيما عندنا من نسخة الدر المنثور، قوله: الورود الدخول.
و في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال :لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة لكم و لكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية {وَ إِنْ مِنْكُمْ
إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} فقد علمت أني وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟
و اعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنه حمل الآية عليه.
و قال في مجمع البيان: و قيل: إن الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار :أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها، و لا يدخل أحدا النار حتى يطلعه على الجنة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنة و نعيمها. انتهى.
(كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه) (و عدم جوازه على الله سبحانه)
قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦ في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنه يملك كل شيء ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض و أن كل شيء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شيء مما يتعلق به.
فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لأن القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة و أما إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة و لا يوجد في المجتمع الإنساني ملك مطلق و لا حرية مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الإنسان لو تعداه و يقبح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله.
و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد و لا محدود على ما يدل عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكل شيء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكل شيء لم يستقم حكمه في كل شيء و لا قضاؤه عند كل واقعة، و الاستدلال على محدودية ملكه تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل ذم عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشيء بحكم ما يباينه.
على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كل شيء و إن شئت فقل: كون كل شيء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شيء من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شيء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي و حق مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الإيجاد كعناوين المعاصي التي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقق شيء من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه.
و يتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم أو يجوز و بالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف و مآله إلى مملوكية ذاته و هو محال.
و ما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ و من الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكما لذاته بل لغيره هف.
و إن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي و لا موجود واقعي و إنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجية عاد
الأمر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مر بطلانه.
و إما أمر حقيقي موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلا من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر و أنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة أخرى ينتهي الأمر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلا من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره و هو العدل مثلا واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.
فقد اتضح بهذا البحث أمور:
الأول: أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: البروج: ١٦، و قال: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}: الرعد: ٤١ غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا.
و معنى كونه تعالى مشرعا آمرا و ناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسماة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال و أعمال هي الملاءمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهزة و الأوضاع و الأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل: تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة.
و هذه القوانين التي تهتف بها الفطرة و يعلمها الوحي السماوي هي الشريعة و إذ هي
تنتهي إليه تعالى فالأمر الذي فيها أمره و النهي الذي فيها نهيه و كل حكم فيها حكمه، و فيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و أمور يستقبحها و يستشنعها و يذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا.
فلا ضير في وجوب شيء عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على نفسه، و هذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أن من سنته تعالى التكوينية أن يريد و يفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و إن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.
الثاني: أن هذا الوجوب تشريعي و هناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع عنها معنى العدل.
و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا و قرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلا لكنه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكنا بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقية كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا.
و المغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات و ليس إلا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمرا عينيا و قد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم تأثير غير الذات الواجبية فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشإ انتزاعها.
و المغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن أخذت جزءا من العلة التامة و إنما تتم بانضمام أمر أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا و إن كان بالنسبة إلى علته التامة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريا لا ممكنا.
و الثالث: أن قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقلي، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم قائلين إن من شأنه الإدراك دون الحكم.
و ذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكي بعينه فعلا للعقل قائما به و هو معنى الحكم و القضاء، و أما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٧٣ الی ٨٠]
{وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ٧٣ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِءْياً ٧٤ قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذَابَ وَ إِمَّا اَلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ٧٥ وَ يَزِيدُ
اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا ٧٦ أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً ٧٧ أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً ٧٨ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا ٧٩ وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً ٨٠}
(بيان)
هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا و لو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة و جمال و زينة، فالذي هم عليه من الكفر و قد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون و قد غشيهم رثاثة الحال و فقد المال و عسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، و قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ} إلخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.
قوله تعالى: {وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، و الندي هو المجلس و قيل خصوص مجلس المشاورة، و معنى {قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، و قيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم و صرفهم عن الإيمان، و الأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار و المؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله: {قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.
و قوله: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا} أي للاستفهام و الفريقان هما
الكفار و المؤمنون، و كان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما و أحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد و الفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال و كنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد و ارتياب.
و المعنى: و إذا تتلى على الناس و هم الفريقان الكفار و المؤمنون آياتنا و هي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم و هم الذين كفروا للفريق الآخر و هم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن و أحسن من حيث المجلس و لا محالة هم الكفار يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم و ملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه.
قوله تعالى: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِءْياً} القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، و الأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير و لا واحد له من لفظه، و الرئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر و ليس بالمصدر و إنما المصدر الرأي و الرؤية يدل على ذلك قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ} فالرأي: الفعل، و الرئي: المرئي كالطحن و الطحن و السقي و السقي و الرمي و الرمي. انتهى.
و لما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم و بطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما و أحسن نديا في الدنيا و قد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها و إنما سعادته في سعادتها و الأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له و لا أنها تغني عنه شيئا.
على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة و لا تقيه من غضب الله إن حل به يوما و ما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله و لا طيب في عيش يهدده الهلاك و لا في نعمة كانت في معرض النقمة و الخيبة.
أشار إلى الجواب عنه بقوله: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} و الظاهر أن الجملة حالية و كم خبرية لا استفهامية، و المعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية نحن خير منكم مقاما و أحسن نديا استخفافا للمؤمنين و الحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة و المناظر.
و قد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون و عقبه بحديث غرقه و هلاكه، قال: {وَ نَادىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْ لاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} إلى أن قال {فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ}: الزخرف: ٥٦.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا} إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله: {مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ} تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، و بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد و الاستدراج الذي هو إضلال بعد الضلال.
و قوله: {فَلْيَمْدُدْ} صيغة أمر غائب و يئول معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشيء معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه.
و المد و الأمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أن أكثر ما جاء الأمداد في المحبوب و المد في المكروه و المراد أن من استقرت عليه الضلالة و استمر هو عليها و المراد به الكفار كناية فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة و المباهتة فيظهر له الحق عند ذلك و لن ينتفع به.
فقوله: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذَابَ وَ إِمَّا اَلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ} إلخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام و المراد به أن ينصرف عن الحق و اتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به و هو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.
كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}: المؤمن: ٨٥، و قال: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}: الأنعام: ١٥٨.
و في إرجاع ضمير الجمع في قوله: {رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} إلى {مَنْ} رعاية جانب
معناه كما أن في إرجاع ضمير الإفراد في قوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ} إليه رعاية جانب لفظه.
و قوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً} قوبل به قولهم السابق: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا} أما مكانهم حين يرون العذاب و الظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله و قد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم و أما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، و أما ضعف جندهم فلأنه لا عاصم لهم اليوم من الله و يعود كل ما هيئوه لأنفسهم من عدد و عدة سدى لا أثر له.
قوله تعالى: {وَ يَزِيدُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً} إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة التي تبقى محفوظة عند الله و تستعقب جميل الشكر و عظيم الأجر و قد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.
و الثواب جزاء العمل قال في المفردات: أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة إلى أن قال و الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو إلى أن قال و الثواب يقال في الخير و الشر لكن الأكثر المتعارف في الخير. انتهى و المرد اسم مكان من الرد و المراد به الجنة.
و الآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة و تذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة و تنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به و هؤلاء أحد الفريقين في قولهم: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً} إلخ.
و هذه الآية تبين حال الفريق الآخر و هم المؤمنون و أن الله سبحانه يمد المهتدين منهم و هم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة و هي خير أجرا و خير دارا و هي الجنة و دائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة و هي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.
و في قوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} إشارة إلى أن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب و مرد
حكم إلهي لا يخطئ و لا يغلط البتة.
و هاتان الآيتان كما ترى جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا}.
قوله تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} كما أن سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق و استغواء و استخفافا للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع و قد افتتحت بكلمة التعجيب و اشتملت بقول يشبه القول السابق و اختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم و لحق بهم قائلا لأوتين مالا و ولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كان في الإيمان بالله شؤما و في اتخاذ الآلهة ميمنة. فرده الله سبحانه بقوله: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ} إلخ.
و أما ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الأرت حين طالبه دينا كان له عليه، و أن معنى الجملة لأوتين مالا و ولدا في الجنة فأؤدي ديني فشيء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لأوتين مالا و ولدا إذا بعثت و عند ذلك أؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء و التهكم و لا معنى لرد الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} إلخ.
و نظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الآية عامة فيمن له هذه الصفة.
فقوله: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} مسوق للتعجيب، و كلمة {أَ فَرَأَيْتَ} كلمة تعجيب و قد فرعه بفاء التفريع على ما تقدمه من قولهم: {أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا} لأن كفر هذا القائل و قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} من سنخ كفرهم و مبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء و سعادة الحياة و عزة الدنيا و نعمتها و لا خير إلا ذلك عند الكفار و في ملتهم.
و من هنا يظهر أن لقوله: {وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} نوع ترتب على قوله {كَفَرَ
بِآيَاتِنَا} و أنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزة و القدرة و ترزقه الخير و السعادة في الدنيا و قد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم و نون التأكيد في قوله: {لَأُوتَيَنَّ}.
قوله تعالى: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} رد سبحانه عليه قوله: «لأوتين مالا و ولدا بكفري» بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله و لا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه في ذلك، و قد جيء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاري.
قوله تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا} كلا كلمة ردع و زجر و ذيل الآية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب إيتاء المال و الولد على الكفر بآيات الله و محصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال و الولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره و رجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لأنه هو تبعة قوله لا إيتاء المال و الولد و سنكتب قوله و نرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالآية نظيرة قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ}: العلق: ١٨.
و من هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير، على أن قوله الآتي: {وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ} لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: {وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً} المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت و يفنى و يترك قوله: لأوتين بكفري مالا و ولدا، و قد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.
و قوله: {وَ يَأْتِينَا فَرْداً} أي وحده و ليس معه شيء مما كان ينتصر به و يركن إليه بحسب وهمه فمحصل الآية أنه سيأتينا وحده و ليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال و نمد له من العذاب مدا.
هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الآيات {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} ناظرا
إلى الإيتاء في الدنيا، و أما بناء على كونه ناظرا إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسروها تعجب من الذي كفر بآياتنا و هو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة و قال: أقسم لأوتين إذا بعثت مالا و ولدا في الجنة، أ علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة؟ و قيل: أ نظر في اللوح المحفوظ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا الله حتى يدخل به الجنة و قيل: أ قدم عملا صالحا كلا و ليس الأمر كما قال سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله و نمد له من العذاب مدا و نرثه ما يقول أي ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إياه و إبطالنا ملكه و يأتينا أي يأتي الآخرة فردا ليس عنده شيء من مال و ولد و عدة و عدد.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} إنه العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي و كان أحد المستهزءين، و كان لخباب بن الأرت على العاص بن وائل حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: أ لستم تزعمون أن في الجنة الذهب و الفضة و الحرير؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني و بينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و البخاري و مسلم و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و الترمذي و البيهقي في الدلائل و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و ابن مردويه عن خباب بن الأرت قال :كنت رجلا قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا و الله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا و الله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت -ثم بعثت جئتني و لي ثم مال و ولد فأعطيك فأنزل الله: {أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} إلى قوله {وَ يَأْتِينَا فَرْداً}.
أقول: و روى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب. و أيضا عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يسم خبابا و أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة.
و قد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإن الروايات صريحة في أن الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء و السخرية على أن النقل القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث و النشور.
ثم الآيات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج و لو كانت كلمة استهزاء من غير جد لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي و إلا كان هزلا فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.
و لو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً} على وجه الإلزام و التبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه و كفاه أن يقول لأوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال و ولد و لم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأن في الجنة توالدا و تناسلا و لا وقعت في شيء من القرآن إشارة إلى ذلك. هذا أولا.
و لم يكن للقسم و التأكيد البالغ في قوله: {لَأُوتَيَنَّ} وجه إذ الإلزام و التبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد. و هذا ثانيا.
و لم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله {لَأُوتَيَنَّ} من دون أن يقيده بالجنة أو الآخرة دفعا للبس نكتة ظاهرة. و هذا ثالثا.
و لم يصلح للرد عليه و إبطاله إلا قوله تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ} إلى آخر الآيتين، و أما قوله: {أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} فغير وارد عليه البتة إذ الإلزام و التبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى يتوقف عن منشإ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب و إنما على التزام الخصم الذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه. و هذا رابعا.
و اعلم أنه ورد في ذيل قوله: {وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ} (الآية) أخبار عن النبي و أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و قد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائي في ذيل الآية ٤٦ من سورة الكهف.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٨١ الی ٩٦]
{وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ٨١ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ٨٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ٨٣ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ٨٤ يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً ٨٥ وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً ٨٦ لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً ٨٧ وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً ٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ٨٩ تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبَالُ هَدًّا ٩٠أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ٩١ وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ٩٢ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً ٩٣ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا ٩٤ وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَرْداً ٩٥ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا ٩٦}
(بيان)
هذا هو الفصل الثالث مما نقل عنهم و هو شركهم بالله باتخاذ الآلهة و قولهم: {اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً} سبحانه و الجواب عن ذلك.
قوله تعالى: {وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} هؤلاء الآلهة هم
الملائكة و الجن و القديسون من الإنس و جبابرة الملوك فإن أكثرهم كانوا يرون الملك قداسة سماوية.
و معنى كونهم لهم عزا كونهم شفعاء لهم يقربونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك العزة في الدنيا ينجر إليهم الخير و لا يمسهم الشر، و من فسر كونهم لهم عزا بشفاعتهم لهم في الآخرة خفي عليه أن المشركين لا يقولون بالبعث.
قوله تعالى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} الضد بحسب اللغة المنافي الذي لا يجتمع مع الشيء، و عن الأخفش أن الضد يطلق على الواحد و الجمع كالرسول و العدو و أنكر ذلك بعضهم و وجه إطلاق الضد في الآية و هو مفرد على الآلهة و هي جمع بأنها لما كانت متفقة في عداوة هؤلاء و الكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد و صح بذلك إطلاق المفرد عليها.
و ظاهر السياق أن ضميري {سَيَكْفُرُونَ} و {يَكُونُونَ} للآلهة و ضميري {بِعِبَادَتِهِمْ} و {عَلَيْهِمْ} للمشركين المتخذين للآلهة و المعنى: سيكفر الآلهة بعبادة هؤلاء المشركين و يكون الآلهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدا لهم يعادونهم و لو كانوا لهم عزا لثبتوا على ذلك دائما و قد وقع ذلك في قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} النحل: ٨٦. و أوضح منه قوله: {وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فاطر: ١٤.
و ربما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة و يكونون على الآلهة ضدا كما في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: الأنعام: ٢٣، و يبعده أن ظاهر السياق أن يكون {ضِدًّا} و قد قوبل به {عِزًّا} في الآية السابقة، وصفا للآلهة دون المشركين و لازم ذلك أن يكون الآلهة الذين هم الضد هم الكافرين بعبادة المشركين نظرا إلى خصوص ترتب الضمائر.
على أن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حد ما يقال: كفر بالله، و لا يقال: كفر بعبادة الله.
و المراد بكفر الآلهة يوم القيامة بعبادتهم و كونهم عليهم ضدا هو ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لأهل الجمع لا حدوثها و لو لم تكن الآلهة كافرين بعبادتهم في الدنيا و لا عليهم ضدا بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتم حجة الآية فافهم ذلك، و على هذا المعنى يترتب قوله: {أَ لَمْ تَرَ} على قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} إلخ.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} الأز و الهز بمعنى واحد و هو التحريك بشدة و إزعاج و المراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر و الفساد و تحريضهم على اتباع الباطل و إضلالهم بالتزلزل عن الثبات و الاستقامة على الحق.
و لا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنهم كفروا بالحق فجازاهم الله بزيادة الكفر و الضلال و يشهد بذلك قوله: {عَلَى اَلْكَافِرِينَ} و لو كان إضلالا ابتدائيا لقيل: «عليهم» من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر.
و الآية و هي مصدرة بقوله: {أَ لَمْ تَرَ} المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما ذكر في الآية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدا، فإن تهييج الشياطين إياهم للشر و الفساد و اتباع الباطل معاداة و ضدية و الشياطين و هم من الجن من جملة آلهتهم و لو لم يكن هؤلاء الآلهة عليهم ضدا ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم و شقاؤهم.
فالآية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الآلهة الذين يحسبونهم لأنفسهم عزا هم عليهم ضد و تصديق ذلك أن الشياطين و هم من آلهتهم يحركونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم و ليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنما هو بإذن من الله يسمى إرسالا و على هذا فالآية متصلة بسابقتها و هو ظاهر.
و جعل صاحب روح المعاني، هذه الآية مترتبة على مجموع الآيات من قوله: {وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} إلى قوله: {وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} و متصلة به و أطنب في بيان كيفية الاتصال بما لا يجدي نفعا و أفسد بذلك سياق الآيات و اتصال ما بعد هذه الآية بما قبلها.
قوله تعالى: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} العد هو الإحصاء و العد يفني
المعدود و ينفده و بهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم و الانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأن أنفاسهم الممدة لأعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحدا بعد آخر حتى تنتهي و هو اليوم الموعود عليهم.
و إذ كان مدة بقاء الإنسان هي مدة بلائه و امتحانه كما ينبئ عنه قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: الكهف: ٧ كان العد بالحقيقة عدا للأعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتم بذلك بنية الحياة الأخروية الخالدة و يستقصي للإنسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم به خلقه جسمه كذلك مكث الإنسان في الدنيا لأن يتم به خلقة نفسه و إن يعد الله ما قدر له من العطية و يستقصيه.
و على هذا فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لأن مدة بقائه مدة عد سيئاته ليحاسب عليها و يعذب بها و لا لمؤمن صالح لأن مدة بقائه مدة عد حسناته ليثاب بها و يتنعم و الآية لا تقيد العد و إن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عد الأنفاس أو الأيام.
و كيف كان فقوله: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} تفريع على ما تقدم، و قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ} تعليل له و هو في الحقيقة علة التأخير و محصل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون باتخاذ الآلهة و كانوا هم و آلهتهم منتهين إلينا غير خارجين من سلطاننا و لا مسيرهم في طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء و لا يضيق صدرك عن تأخير ذلك إنما نعد لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدا.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً} الوفد هم القوم الواردون لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك و لا يسمون وفدا إلا إذا كانوا ركبانا و هو جمع واحده وافد.
و ربما استفيد من مقابلة قوله في هذه الآية {إِلَى اَلرَّحْمَنِ} قوله في الآية التالية: {إِلىَ جَهَنَّمَ} أن المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنة و إنما سمي حشرا إلى الرحمن لأن الجنة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً} فسر الورد بالعطاش و كأنه
مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب و لا يكون ذلك إلا عن عطش فجعل بذلك الورد كناية عن العطاش، و في تعليق السوق إلى جهنم بوصف الاجرام إشعار بالعلية و نظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الآية السابقة بوصف التقوى. و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} و هذا جواب ثان عن اتخاذهم الآلهة للشفاعة و هو أن ليس كل من يهوى الإنسان شفاعته فاتخذه إلها ليشفع له يكون شفيعا بل إنما يملك الشفاعة بعهد من الله و لا عهد إلا لآحاد من مقربي حضرته، قال تعالى: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: الزخرف: ٨٦.
و قيل: المراد أن المشفع لهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا و العهد هو الإيمان بالله و التصديق بالنبوة، و قيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في الأنبياء و الأئمة و المؤمنين و الملائكة على ما في الأخبار، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلا الله و أن يتبرأ من الحول و القوة و أن لا يرجو إلا الله، و الوجه الأول هو الأوجه و هو بالسياق أنسب.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً} من قول الوثنيين و بعض خاصتهم، و إن قال ببنوة الآلهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفا أو تجليلا لكن عامتهم و بعض خاصتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقا بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت و اشتمال الولد على جوهرة والده، و هذا هو المراد بالآية و الدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، و كذا ما في قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه.
قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} إلى تمام ثلاث آيات، الإد بكسر الهمزة: الشيء المنكر الفظيع، و التفطر الانشقاق، و الخرور السقوط، و الهد الهدم.
و الآيات في مقام إعظام الذنب و إكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمرا منكرا فظيعا تكاد السماوات يتفطرن و ينشققن منه و تنشق الأرض و تسقط الجبال على السهل سقوط انهدام إن دعوا للرحمن ولدا.
قوله تعالى: {وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ
إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً} إلى تمام أربع آيات. المراد بإتيان كل منهم عبدا له توجه الكل إليه و مثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و ذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجودا، و لذا لم يقيد الإتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة.
و المراد بإحصائهم و عدهم تثبيت العبودية لهم فإن العبيد إنما تتعين لهم أرزاقهم و تتبين وظائفهم و الأمور التي يستعملون فيها بعد الإحصاء و عدهم و ثبتهم في ديوان العبيد و به تسجل عليهم العبودية.
و المراد بإتيانه له يوم القيامة فردا إتيانه يومئذ صفر الكف لا يملك شيئا مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا و كان يقال: إن له حولا و قوة و مالا و ولدا و أنصارا و وسائل و أسبابا إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطع بهم الأسباب أنه فرد ليس معه شيء يملكه و أنه كان عبدا بحقيقة معنى العبودية لم يملك قط و لن يملك أبدا فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه.
و يظهر بما تقدم أن الذي تتضمنه الآيات من الحجة على نفي الولد حجة واحدة و محصلها أن كل من في السماوات و الأرض عبد لله مطيع له في عبوديته ليس له من الوجود و آثار الوجود إلا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلا لأمره تابعا لإرادته من غير أن يملك من ذلك شيئا، و ليس من عبوديتها هذا فحسب بل الله أحصاهم و عدهم فسجل عليهم العبودية و أثبت كلا في موضعه و سخره مستعملا له فيما يريده منه فكان شاهدا لعبوديته، و ليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كل منهم فردا لا يملك شيئا و لا يصاحبه شيء و يظهر بذلك حقيقة عبوديتهم للكل فيشهدون ذلك و إذا كان هذا حال كل من في السموات و الأرض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولدا لله واجدا لحقيقة اللاهوت مشتقا من جوهرتها، و كيف تجتمع الألوهية و الفقر؟
و أما انتهاء وجود الأشياء إليه تعالى وحده كما تضمنته الآية الأولى فمما لا يرتاب فيه مثبتو الصانع سواء في ذلك الموحدون و المشركون و إنما الاختلاف في كثرة المعبود و وحدته و كثرة الرب بمعنى المدبر و لو بالتفويض و عدمها.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا}
الود و المودة المحبة و في الآية وعد جميل منه تعالى أنه سيجعل للذين آمنوا و عملوا الصالحات مودة في القلوب و لم يقيده بما بينهم أنفسهم و لا بغيرهم و لا بدنيا و لا بآخره أو جنة فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنة و آخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك.
و قد ورد في أسباب النزول، من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآية نزلت في علي (عليه السلام)، و في بعضها ما ورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في مهاجري الحبشة و في بعضها غير ذلك و سيجيء في البحث الروائي الآتي.
و على أي حال فعموم لفظ الآية في محله، و الظاهر أن الآية متصلة بقوله السابق: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}.
(بحث روائي)
في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة و يتبرءون منهم و من عبادتهم إلى يوم القيامة.
و في الكافي بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله عز و جل: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال: ما هو عندك؟ قلت: عد الأيام قال الآباء و الأمهات يحصون ذلك و لكنه عدد الأنفاس.
و في نهج البلاغة من كلامه (عليه السلام): نفس المرء خطاه إلى أجله.
و فيه قال (عليه السلام): كل معدود متنقص و كل متوقع آت.
و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر محمد بن علي: في قوله: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال: كل شيء حتى النفس.
أقول: و هي أشمل الروايات و لا يبعد أن يستفاد منها أن ذكر النفس في الروايات من قبيل ذكر المثال.
و في محاسن البرقي بإسناده عن حماد بن عثمان و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً} قال يحشرون على النجائب.
و في تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأل علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن تفسير قوله عز و جل: {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً} قال: يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا أولئك رجال اتقوا الله عز و جل فأحبهم و اختصهم و رضي أعمالهم فسماهم الله متقين. الحديث.
أقول: ثم روى القمي حديثا آخر طويلا يذكر (صلى الله عليه وآله و سلم) فيه تفصيل خروجهم من قبورهم و ركوبهم من نوق الجنة و وفودهم إلى الجنة و دخولهم فيها و تنعمهم بما رزقوا من نعمها.
و في الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية قال: أما و الله ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة.
أقول: و روى أيضا هذا المعنى عن ابن أبي الدنيا و ابن أبي حاتم و ابن مردويه من طرق عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث طويل يصف فيه ركوبهم و وفودهم و دخولهم الجنة. و استقرارهم فيها و تنعمهم من نعمها. و رواه فيه عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام).
و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً} قال: إلا من دان بولاية أمير المؤمنين و الأئمة من بعده - فهو العهد عند الله.
أقول: و روى في الدر المنثور عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرني و من سرني فقد اتخذ عند الله عهدا )الحديث(. و روى عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): أن المحافظة على العهد هو المحافظة على الصلوات الخمس، و هنا روايات أخر من طرق الخاصة و العامة قريبة مما أوردناه و يستفاد من مجموعها أن العهد المأخوذ عند الله اعتقاد حق أو عمل صالح ينجي المؤمن يوم القيامة و أن ما ورد في الروايات من قبيل المصاديق المتفرقة.
و اعلم أيضا أن الروايات السابقة مبنية على كون المراد ممن يملك الشفاعة في الآية هو الذي ينال الشفاعة أو الأعم من الشفعاء و المشفوع لهم، و أما لو كان المراد هم الشفعاء فالأخبار أجنبية منها.
و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل: {وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً} قال هذا حيث قالت قريش: إن لله عز و جل ولدا و أن الملائكة إناث فقال الله تبارك و تعالى ردا عليهم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} أي عظيما {تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يعني مما قالوه و مما رموه به و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا مما قالوه و مما رموه به {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} فقال الله تبارك و تعالى: {وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَرْداً} واحدا واحدا.
في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: ولاية أمير المؤمنين هي الود الذي ذكره الله.
أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و الديلمي عن البراء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي عندك ودا و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة فأنزل الله {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: فنزلت في علي.
و فيه أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: محبة في قلوب المؤمنين.
و في المجمع: في الآية: قيل فيه أقوال: أحدها أنها خاصة في علي فما من مؤمن إلا و في قلبه محبة لعلي (عليه السلام) عن ابن عباس و في تفسير أبي حمزة الثمالي: حدثني أبو جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي: قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا، فقالهما فنزلت هذه الآية: و روى نحوه عن جابر بن عبد الله.
أقول: قال في روح المعاني: الظاهر أن الآية على هذا مدنية، و أنت خبير بأن لا دلالة في شيء من الأحاديث على وقوع القصة في المدينة أصلا.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف: أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و أمية بن خلف فأنزل الله {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا}.
أقول: صريح الحديث كون الآية مدنية و يدفعه اتفاق الكل على كون السورة بجميع آياتها مكية و قد تقدم في أول السورة.
و فيه أخرج الحكيم الترمذي و ابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا} ما هو؟ قال: المحبة في قلوب المؤمنين و الملائكة المقربين، يا علي إن الله أعطى المؤمن ثلاثا: المقة و المحبة و الحلاوة و المهابة في صدور الصالحين.
أقول: المقة المحبة و في معناه بعض روايات أخر من طرق أهل السنة مبنية على عموم لفظ الآية و هو لا ينافي خصوص مورد النزول.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٩٧ الی ٩٨]
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ٩٧ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ٩٨}
(بيان)
الآيتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن و هي أعلى من أن تنالها أيدي الأفهام العادية أو يمسه غير المطهرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
و يذكر أن الغاية من هذا التيسير أن يبشر به المتقين من عباده و ينذر به قوما لدا خصماء، ثم لخص إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم.
قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} التيسير و هو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته و لا فهمه و قد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}: الزخرف: ٤، فأخبر أنه لو أبقاه على ما كان عليه عنده - و هو الآن كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا لم يرج أن يعقله الناس و كان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم و ينفذ فيه عقولهم.
و من هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو لسانه (صلى الله عليه وآله و سلم) فتنبئ الآية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير و الإنذار.
و ربما قيل: إن معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي و اختصاصه بوحي الكلام الإلهي ليبشر به و ينذر. و هذا و إن كان في نفسه وجها عميقا لكن الوجه الأول مضافا إلى تأيده بالآيات السابقة و أمثالها أنسب و أوفق بسياق آيات السورة.
و قوله: {وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} المراد قومه، (صلى الله عليه وآله و سلم) و اللد جمع ألد من اللدد و هو الخصومة.
قوله تعالى: {وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} الإحساس هو الإدراك بالحس، و الركز هو الصوت، قيل: و الأصل في معناه الحس، و محصل المعنى أنهم و إن كانوا خصماء مجادلين لكنهم غير معجزي الله بخصامهم فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحس منهم أحد و لا يسمع لهم صوت.
(٢٠) (سورة طه مكية و هي مائة و خمس و ثلاثون آية) (١٣٥)
[سورة طه (٢٠): الآیات ١ الی ٨]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {طه ١ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ ٢ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ ٣ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلى ٤ اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى ٥ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ اَلثَّرى ٦ وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى ٧ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى ٨}
(بيان)
غرض السورة التذكرة من طريق الإنذار تغلب فيها آيات الإنذار و التخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد اشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين و المكذبين لآيات الله و تضمنت حججا بينة تلزم العقول على توحيده تعالى و الإجابة لدعوة الحق و تنتهي إلى بيان ما سيستقبل الإنسان من أهوال الساعة و مواقف القيامة و سوء حال المجرمين و خسران الظالمين.
و قد افتتحت الآيات على ما يلوح من السياق بما فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف به بل هو تنزيل إلهي يذكر الناس بالله و آياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكروا فيؤمنوا به و يتقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا و تذكروا و إلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم و فسقهم و وفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم و تكذيبهم.
و سياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية و في بعض الآثار أن قوله: {فَاصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ} (الآية): - ١٣٠مدنية و في بعضها الآخر أن قوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} (الآية): - ١٣١، مدنية و لا دليل على شيء من ذلك من ناحية اللفظ.
و من غرر الآيات في السورة قوله تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}.
قوله تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} {طه} حرفان من الحروف المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو {الم} {الر} و نظائرهما و قد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجل البحث التفسيري عن إيرادها و الغور في أمثالها، و سنلوح إليها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و الشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: و الشقاوة كالسعادة من حيث الإضافة فكما أن السعادة في الأصل ضربان: سعادة أخروية و سعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب: سعادة نفسية و بدنية و خارجية كذلك الشقاوة على هذه الأضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، و كل شقاوة تعب، و ليس كل تعب شقاوة فالتعب أعم من الشقاوة. انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
قوله تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلىَ} التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشيء و إذ كان الإنسان ينال حقائق الدين الكلية بفطرته كوجوده تعالى و توحده في وجوب وجوده و ألوهيته و ربوبيته و النبوة و المعاد و غير ذلك كانت أمورا مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الإنسان إلى الأرض و إقباله إلى الدنيا و اشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالا لا يدع في قلبه فراغا أنساه ما أودع
في فطرته و كان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها و تذكرة له بها بعد نسيانها.
و من المعلوم أن ذلك إعراض و إنما سمي نسيانا بنوع من العناية و هو اشتراكهما في الأثر و هو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتباع الهوى و الانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعا و يدفعها إلى الإقبال إلى الحق دفعا و هو الخشية و الخوف من عاقبة الغفلة و وبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها و تنفع في اتباع الحق صاحبها.
و بما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: {لِمَنْ يَخْشىَ} و أن المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك بأن كان مستعدا لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنه الخشية فآمن و اتقى.
و الاستثناء في قوله: {إِلاَّ تَذْكِرَةً} استثناء منقطع على ما قالوا و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن ليكون مذكرا يتذكر به من من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله و يتقي.
فالسياق على رسله يستدعي كون {تَذْكِرَةً} مصدرا بمعنى الفاعل و مفعولا له لقوله: {مَا أَنْزَلْنَا} كما يستدعي كون قوله: {تَنْزِيلاً} بمعنى اسم المفعول حالا من ضمير {تَذْكِرَةً} الراجع إلى القرآن، و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن لتذكر الخاشعين بكلام إلهي منزل من عنده.
و قوله: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلىَ} العلى جمع عليا مؤنث أعلى كفضلى و فضل، و اختيار خلق الأرض و السماوات صلة للموصول و بيانا لإبهام المنزل لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو و سفل يكونان مبدأ و منتهى لهذا التسيير، و قد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما و إنما الغرض بيان مبدإ التنزيل و منتهاه بخلاف قوله: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا} إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع.
قوله تعالى: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} استئناف يذكر فيه مسألة توحيد الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة و التذكرة و ذلك في أربع آيات {اَلرَّحْمَنُ} إلى قوله {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}.
و قد تقدم في قوله تعالى {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ}: الأعراف: ٥٤، أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك و الأخذ بزمام تدبير الأمور و هو فيه تعالى على ما يناسب ساحة كبريائه و قدسه ظهور سلطنته على الكون و استقرار ملكه على الأشياء بتدبير أمورها و إصلاح شئونها.
فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شيء و انبساط تدبيره على الأشياء سماويها و أرضيها جليلها و دقيقها خطيرها و يسيرها، فهو تعالى رب كل شيء المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشيء المدبر لأمره، و لذلك عقب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شيء و علمه بكل شيء و ذلك في معنى التعليل و الاحتجاج على الاستواء المذكور.
و معلوم أن {اَلرَّحْمَنُ} و هو مبالغة من الرحمة التي هي الإفاضة بالإيجاد و التدبير و هو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء و الصفات و لذلك اختص من بينها بالذكر.
و قد ظهر بما تقدم أن {اَلرَّحْمَنُ} مبتدأ خبره {اِسْتَوىَ} و {عَلَى اَلْعَرْشِ} متعلق بقوله {اِسْتَوىَ} و المراد بيان الاستواء على العرش و هذا هو المستفاد أيضا من سائر الآيات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ} الأعراف: ٥٤، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} يونس: ٣، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} الم السجدة: ٤، و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ}: الحديد: ٤، إلى غير ذلك.
و بذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ} مبتدأ و خبر ثم قوله {اِسْتَوىَ} فعل فاعله {مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ} و قوله {لَهُ} متعلق بقوله: {اِسْتَوىَ} و المراد باستواء كل شيء له تعالى جريها على ما يوافق إرادته و انقيادها لأمره.
و قد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و سيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ اَلثَّرىَ}
الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الأرض دون التراب و يبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها و ما يعيش فيها مما نعلمه و نحس به كالإنسان و أصناف الحيوان و النبات و ما لا نعلمه و لا نحس به.
و إذا عم الملك ما في السماوات و الأرض و من ذلك أجزاؤهما عم نفس السماوات و الأرض فليس الشيء إلا نفس أجزائه.
و قد بين في هذه الآية أحد ركني الربوبية و هو الملك، فإن معنى الربوبية كما تقدم آنفا هو الملك و التدبير.
قوله تعالى: {وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىَ} الجهر بالقول: رفع الصوت به، و الإسرار خلافه، قال تعالى: {وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ} الملك: ١٣، و السر هو الحديث المكتوم في النفس، و قوله: {وَ أَخْفىَ} أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقي في الآية و لا يصغي إلى قول من قال: إن {أَخْفىَ} فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، و المعنى: أنه يعلم السر و أخفى علمه. هذا و في تنكير {أَخْفىَ} تأكيد للخفاء.
و ذكر الجهر بالقول في الآية أولا ثم إثبات العلم بما هو أدق منه و هو السر و الترقي إلى أخفى يدل على أن المراد إثبات العلم بالجميع، و المعنى: و إن تجهر بقولك و أعلنت ما تريده و كأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالبا أو أسررته في نفسك و كتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيا حتى عليك نفسك فإن الله يعلمه.
فالأصل ترديد القول بين المجهور به و السر و أخفى و إثبات العلم بالجميع ثم وضع إثبات العلم بالسر و أخفى موضع الترديد الثاني و الجواب إيجازا. فدل على الجواب في شقي الترديد معا و على معنى الأولوية بأوجز بيان كأنه قيل: و إن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه و كيف لا يعلمه؟ و هو يعلم السر و أخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة.
و ذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك و لم ترفع صوتك
به، و المراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا و الذي ذكره حق في الإسرار لكن القول لا يسمى سرا إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعول على ما قدمناه من المعنى.
و كيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكل شيء ظاهر أو خفي فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى: {ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا} (الآية): الحديد: ٤، و معلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه و يحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك و إذنه و بنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري و هذا هو التدبير.
فالآية تثبت عموم التدبير كما أن الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك و مجموع مدلوليهما هو الملك و التدبير و ذلك معنى الربوبية المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} بمنزلة النتيجة لما تقدم من الآيات و لذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبرا لمبتدإ محذوف و التقدير هذا المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلا هو... إلخ، و إن كان الأقرب بالنظر إلى استقلال الآية و جامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدأ و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} خبره، و قوله: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} خبرا بعد خبر.
و كيف كان فقوله: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} يمكن أن يعلل بما ثبت في الآيات السابقة من توحده تعالى بالربوبية المطلقة و يمكن أن يعلل بقوله بعده: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}.
أما الأول فلأن معنى الإله في كلمة التهليل إما المعبود و إما المعبود بالحق فمعنى الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره و المعبودية من شئون الربوبية و لواحقها فإن العبادة نوع تمثيل و ترسيم للعبودية و المملوكية و إظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكا لعابده مدبرا أمره أي ربا له و إذ كان تعالى رب كل شيء لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه.
و أما الثاني فلأن العبادة لأحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعا في الخير الذي عنده لينال بذلك، و إما خوفا مما في الإعراض عنه و عدم الاعتناء بأمره من الشر و إما لأنه أهل للعبادة و الخضوع.
و الله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شيء شيئا من الخير إلا ما ملكه هو إياه و هو المالك مع ذلك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره و هو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز و له كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.
و الله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شيء و هو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شر لأحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لأن يعبد خوفا من غضبه لو لم يخضع لعظمته و كبريائه.
و الله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده لأن أهلية الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلا لكمال فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع و هو إما جمال تنجذب إليه النفس انجذابا أو جلال يخر عنده اللب و يذهب دونه القلب و له سبحانه كل الجمال و ما من جمال إلا و هو آية لجماله، و له سبحانه كل الجلال و كل ما دونه آيته. فالله سبحانه لا إله إلا هو و لا معبود سواه لأنه له الأسماء الحسنى.
و معنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الأسماء التي هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أن توصيف الاسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في اصطلاح الصرف صفة كاسم الفاعل و الصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لأن الأعلم إنما شأنها الإشارة إلى الذوات و الاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل و الظالم و العالم و الجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي و العليم و القدير، و كثيرا ما يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي صفوهم.
و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: الأعراف: ١٨٠، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه.
فالمراد بالأسماء الحسنى ما دل على معان وصفية كالإله و الحي و العليم و القدير دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم و الجائر و الجاهل، و إلى حسنة كالعادل و العالم، و الأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما و إن
كان غير خال عن شوب النقص و الإمكان نحو صبيح المنظر و معتدل القامة و جعد الشعر و ما فيه الكمال من غير شوب كالحي و العليم و القدير بتجريد معانيها عن شوب المادة و التركيب و هي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص و العيب و هي التي تليق أن تجري عليه تعالى و يتصف بها.
و لا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: {لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ} و تقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده.
و معنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته و الذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدل عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر كقوله: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: المؤمن: ٦٥، و قوله: {وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ}: الروم: ٥٤ و قوله{ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ}: المؤمن: ٥٦، و قوله: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: البقرة: ١٦٥، و قوله: {فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: النساء: ١٣٩، و قوله: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}: البقرة: ٢٥٥، إلى غير ذلك.
و لا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه و صفاته حتى ما كان منها عين ذاته كالحي و العليم و القدير و كالحياة و العلم و القدرة فإن الشيء ربما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي}: المائدة: ٢٥.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر عن الربيع بن أنس و أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)
قالا: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورم فأنزل الله تبارك و تعالى: {طه} بلغة طي يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ}.
أقول: و روى ما في معناه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا و يضع رجلا فهبط عليه جبريل فقال: {طه} يعني الأرض بقدميك يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و أنزل {فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ}.
أقول: و المظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصة بأن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قام على قدميه في الصلاة حتى تورمت قدماه ثم جعل يرفع قدما و يضع أخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من الروايات بعض القصة سببا للنزول و إن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كل المساعدة.
نعم يبقى على الرواية أمران:
أحدهما: أن في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصة خفاء.
و ثانيهما: ما في الرواية من قوله: «فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمد» و نظيره ما مر في رواية القمي فأنزل الله: {طه} بلغة طي يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و معناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ و مفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإ الأرض و ضع قدميك عليها و لا ترفع إحداهما و تضع الأخرى.
فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع رجلا و يضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة و يشتغل بربه من غير شاغل يشغله و على
هذا فرفع الكلفة و التعب عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتى يزيد ذلك في تعبه و يشدد وجعه فلا يلائم قوله {طه} قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ} و لعل قوله: «يعني الأرض بقدميك» من كلام الراوي و النقل بالمعنى.
على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون {طه} حرفين مقطعتين لا معنى وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية.
و ذكر قوم منهم أن معنى {طه} يا رجل ثم قال بعضهم: إنه لغة نبطية و قيل: حبشية، و قيل: عبرانية، و قيل: سريانية، و قيل: لغة عكل، و قيل: لغة عك، و قيل: هو لغة قريش، و احتمل الزمخشري أن يكون لغة عك و أصله يا هذا قلبت الياء طاء و حذفت ذا تخفيفا فصارت طاها، و قيل: معناه يا فلان، و قرأ قوم طه بفتح الطاء و سكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ و الهاء للسكت و قيل: إنه من أسماء الله و لا عبرة بشيء من هذه الأقوال و لا جدوى في إمعان البحث عنها.
نعم ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في روح المعاني و عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما عن معاني الأخبار بإسناده عن الثوري: أن طه اسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - كما ورد في روايات أخرى :أن يس من أسمائه و روى الاسمين معا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر.
و إذ كانت تسمية سماوية ما كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يدعى و لا يعرف به قبل نزول القرآن و لا أن لطه معنى وصفيا في اللغة و لا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات مع وجود اسمه و اشتهاره به و كان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، و كانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ} إلخ كما أن سورة يس كذلك {يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ} بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة و ظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمرا راجعا إلى شخصه (صلى الله عليه وآله و سلم) متحققا به بعينه فكان وصفا لشخصيته الباطنة مختصا به فكان اسما من أسمائه (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا أطلق عليه و قيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطة أو يس ثم صار علما بكثرة الاستعمال.
هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شرا و من قبيل قوله:
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا | *** | إذا أضع العمامة تعرفوني |
يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا.
و في احتجاج الطبرسي عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى (عليه السلام) عن قول الله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} فقال: استولى على ما دق و جل.
و في التوحيد بإسناده إلى محمد بن مازن: أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عز و جل: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} فقال: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء.
أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في التوحيد بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في الكافي و التوحيد بالإسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عنه (عليه السلام): و زادا «لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب استوى من كل شيء».
و في الاحتجاج عن علي (عليه السلام): في حديث {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} يعني استوى تدبيره و علا أمره.
أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله {اِسْتَوىَ} و إلا عاد قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ} جملة تامة مركبة من مبتدإ و خبر و لا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدمت الإشارة إليه.
و يؤيد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله: «و علا أمره» بعد قوله: «استوى تدبيره» فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على كون الآية كناية عن الاستيلاء و انبساط السلطان.
و في التوحيد بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد أشرك. ثم قال: من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شيء فقد زعم أنه محصور، و من زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا.
و فيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل و فيه: قال السائل: فقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ}؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، و كذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، و لا أن يكون العرش حاويا له و لا أن يكون العرش ممتازا له و لكنا نقول هو حامل العرش و ممسك العرش، و نقول من ذلك ما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ}.
فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته و نفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا و أن يكون عز و جل محتاجا إلى مكان أو إلى شيء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه.
أقول: و قوله (عليه السلام): فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته إلخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و آياته الخارجة عن الحس و ذلك بإرجاعها إلى المحكمات و نفي ما تنفيه المحكمات عن ساحته تعالى و إثبات ما ثبت بالآية و هو أصل المعنى المجرد عن شائبة النقص و الإمكان التي نفاها المحكمات.
فالعرش هو المقام الذي يبتدئ منه و ينتهي إليه أزمة الأوامر و الأحكام الصادرة من الملك و هو سرير مقبب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلز يجلس عليه الملك ثم إن المحكمات من الآيات كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}: الشورى: ١١، و قوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}: الصافات - ١٥٩، تدل على انتفاء الجسم و خواصه عنه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ}: طه: ٥ و قوله: {وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ}: المؤمنون: ٨٦، كونه سريرا من مادة كذا على هيئة خاصة و يبقى أصل المعنى و هو أنه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في النظام الكوني و هو من مراتب العلم الخارج من الذات.
و المقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم و بعبارة أخرى يدور مداره صدق الاسم و إن تغيرت المصاديق و اختلفت الخصوصيات.
مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم و هو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل و مصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة و يشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة
و تضيء ما حولها مثلا، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع و المصابيح النفطية و لم يزل ينتقل من مصداق إلى مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه من مادة المصداق الأولي و لا هيئته شيء أصلا غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة و بذلك يسمى سراجا حقيقة.
و نظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجن مثلا و هو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع و القنبلة الذرية و قد سرى هذا النوع من التحول و التطور إلى كثير من وسائل الحياة و الأعمال التي يعتورها الإنسان في عيشته.
و بالجملة كانت الصحابة لا يتكلمون في غير الأحكام من معارف الدين مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و غيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه و يسكتون عن المعنى الإثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلا في مثل قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ} إن الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفي عنه تعالى و أما أن المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، و الأمر مفوض إليه و قد ادعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الأول من الهجرة مجمعون على التفويض، و هو نفي لوازم التشبيه و السكوت عن البحث في أصل المراد.
لكنه مدفوع بأن طريقة أئمة أهل البيت (عليه السلام) المأثورة منهم هي الإثبات و النفي معا و الإمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الإثبات و الدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمة التي لا يسع إنكارها إلا لمكابر.
بل الذي روي۱ عن أم سلمة رضي الله عنها :في معنى الاستواء أنها قالت: «الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الإقرار به إيمان و الجحود به كفر» يدل على أنها كانت ترى هذا الرأي و لو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء مجهول و الكيف غير معقول، إلخ.
نعم الأكثرون من الصحابة و التابعين و تابعيهم من السلف على هذه الطريقة و قد
نسبه الغزالي إلى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد، و إلى البخاري و الترمذي و أبي داود السجستاني من أرباب الصحاح و إلى عدة من أعيان السلف.
و كان الذي دعاهم إلى السكوت عن الإثبات كما ذكره جمع هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرم الله ابتغاءه في قوله: {وَ اِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ}: آل عمران: ٧، بناء على الوقف على {إِلاَّ اَللَّهُ} بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا كما نقله الآلوسي أن كل من فسر فقد أول و من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير.
و قد تقدم في ذيل آية المحكم و المتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل الذي يذكره و يذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ و أن رد المتشابه إلى المحكم و بيانه به ليس من التأويل في شيء و كذا أن التأويل غير التفسير.
ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه و صفاته تعالى و اقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب و السنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش و الكرسي و الحجب و القلم و اللوح و كتب الأعمال و أبواب السماء و غيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش و الكرسي و القلم و اللوح و غير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد و هو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة و الإمكان.
و ذلك أن الذي أوجد أمثال العرش و الكرسي و اللوح و القلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزز به و اتخذنا العرش لنستريح عليه و نتعزز به و نظهر التفرد بالعزة و العظمة و نمثل به التعيين بالملك و السلطان و اتخذنا اللوح و القلم و الكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس و التحرز عن النسيان و نحو ذلك و على هذا النمط.
فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع و البصر و اليد و الساق و الرضا و الأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة و الإمكان و بين الآيات التي تثبت له عرشا و كرسيا و ملأ و حملة لعرشه و لوحا و قلما و هي توهم الحاجة و الإمكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأولى و هو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
و بين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية و هو قوله: {وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ} مثلا.
نعم ذكر الإمام الرازي اعتذارا عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الأمور أدى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين و أحكام الشرع و هو قول الباطنية. و أنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الأحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية و أجراها بين الناس تعليم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تربيته دفع للضرورة و مكابرة مع البداهة و ليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه و كانت هناك آية محكمة يمكن أن يرد إليها و يرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدا لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حق لإماتة باطل و إن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شيء.
و ألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي يدهش العقول بعظمته على هيئة سرير ذي قوائم و حمله و وضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه و حفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا و يثابوا في الآخرة، و نظيره اللوح و القلم و سائر الآيات العظام الغائبة عن الحس. و سقوط هذا القول غني عن البيان.
و بعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤولة و هم الذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الأسماء و الصفات بين الإثبات و النفي فينزهونه عن لوازم الحاجة و الإمكان بتأويلها بمعنى الحمل على خلاف الظاهر إلى معان توافق الأصول المسلمة من الدين أو المذهب، و هؤلاء منشعبون على شعب:
منهم من اكتفى في الإثبات بعين ما نفاه بالدليل و هم الذين يفسرون الأسماء و الصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل و معنى العالم من ليس بجاهل و على هذا السبيل.
و لازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال و البراهين العقلية و ظواهر الكتاب و السنة و نصوصهما تدفعه، و هو من أقوال الصابئة المتسربة في الإسلام.
و منهم من فسرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الأصول المسلمة و هو المسمى عندهم بالتأويل.
و منهم من اكتفى بالمحتملات النقلية و لم يعتبر العقل.
و قد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم و المتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب و السنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب و السنة.
و جل هؤلاء الطوائف الثلاث المسمين بالمؤولة يسلكون في أفعاله تعالى مما لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، و أما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيئولونه، ففي قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} يؤولون الاستواء إلى مثل الاستيلاء و الاستعلاء و يبقون العرش، و هو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود و هو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبب ذي قوائم، و فيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤولون نزوله بنزول رحمته و يفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، و هكذا.
و قد عرفت فيما مر أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوغ له و لا دليل يدل عليه فلم ينزل الكتاب إلغازا و تعمية ثم الحديث فيه المحكم و المتشابه كالقرآن و إبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث و قد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه.
ثم إن في عملهم بهذه الروايات و تحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر و ذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة و لا قطعية الصدور، و ما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الإمضاء، و قد اتضح في علم الأصول اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقادية و الموضوعات الخارجية.
نعم الخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة و إن كان في غير الأحكام لأن الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه و هذه كلها مسائل مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع.
و في سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس و نهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى و نستشفع بالله تعالى عليك. فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ويحك أ تدري ما تقول؟ و سبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أ تدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه و عرشه فوق سماواته لهكذا و قال بأصابعه مثل القبة، و إنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب.
أقول: و متنه لا يخلو من اختلال، و إنما أوردناه لكونه من أصرح الأخبار في جسمية العرش، و هنا روايات تدل على أن له قوائم، و أخرى تدل على أن له حملة أربع، و أخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة، و أخرى تدل على أن الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهري فلاة السماوات و الأرض بالنسبة إلى الكرسي كذلك، و قد تقدم طريقة أئمة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير أمثال هذه الأخبار و قد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل نظرهم (عليه السلام).
و في معاني الأخبار بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى} قال: {اَلسِّرَّ} ما أكننته في نفسك و {أَخْفىَ} ما خطر ببالك ثم أنسيته.
و في المجمع روي عن السيدين الباقر و الصادق (عليه السلام): {اَلسِّرَّ} ما أخفيته في نفسك و {أَخْفىَ} ما خطر ببالك ثم أنسيته.
[سورة طه (٢٠): الآیات ٩ الی ٤٨]
{وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ ٩ إِذْ رَأىَ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً ١٠فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسى ١١ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً ١٢ وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ
فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ ١٣ إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي ١٤ إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعى ١٥ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدى ١٦ وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى ١٧ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى ١٨ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسى ١٩ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ٢٠قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا اَلْأُولى ٢١ وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ٢٢ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا اَلْكُبْرى ٢٣ اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ٢٤ قَالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي ٢٥ وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ٢٦ وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ٢٧ يَفْقَهُوا قَوْلِي ٢٨ وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ٢٩ هَارُونَ أَخِي ٣٠اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣١ وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ٣٢ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ٣٣ وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ٣٤ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً ٣٥ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى ٣٦ وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ٣٧ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى ٣٨ أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ
عَلىَ عَيْنِي ٣٩ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلىَ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى ٤٠وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ٤١ اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ٤٢ اِذْهَبَا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ٤٣ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ٤٤ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغى ٤٥ قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرى ٤٦ فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ اَلسَّلاَمُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدى ٤٧ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ٤٨}
(بيان)
شروع في قصة موسى (عليه السلام) و قد ذكرت في السورة فصول أربعة منها و هي: اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى و أمره بدعوة فرعون. ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد و إرسال بني إسرائيل معه و إقامته الحجة و إيتاؤه المعجزة. ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر و تعقيب فرعون و غرقه و نجاة بني إسرائيل. ثم عبادة بني إسرائيل العجل و ما انتهى إليه أمرهم و أمر السامري و عجله، و قد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها.
و وجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكرة بالتوحيد و وعيد بالعذاب فالقصة تبتدئ بوحي التوحيد و تنتهي بقول موسى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (الآية) و تذكر هلاك فرعون و طرد السامري و قد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى و انتهت إلى مثل قوله: {اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ}.
قوله تعالى: {وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ} الاستفهام للتقرير و الحديث، القصة.
قوله تعالى: {إِذْ رَأىَ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} إلى آخر الآية المكث اللبث، و الإيناس إبصار الشيء أو وجدانه و هو من الأنس خلاف النفور و لذا قيل: إنه إبصار شيء يؤنس به فيكون إبصارا قويا، و القبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود و نحوه و الهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، و المراد على أي حال من قام به الهداية.
و سياق الآية و ما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر و معه أهله و هم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة و قد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق و إلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.
و في قوله: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا} إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} مع ما يشتمل عليه من التأكيد و التعبير بالإيناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله و يؤيد ذلك قوله أيضا أولا: {إِذْ رَأىَ نَاراً}، و كذا قوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ} إلخ يدل على أن في الكلام حذفا و التقدير امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} إلى قوله {طُوىً} طوى اسم لواد بطور و هو الذي سماه الله سبحانه بالواد المقدس، و هذه التسمية و التوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب و موطن الحضور و المناجاة فيئول معنى الآية إلى مثل
قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك و أنت بمحضر مني و قد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب و اخلع نعليك.
و على هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة و الأزمنة كالكعبة المشرفة و المسجد الحرام و سائر المساجد و المشاهد المحترمة في الإسلام و الأعياد و الأيام المتبركة فإنما ذلك قدس و شرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك و عبادة مقدسة شرعت فيها و إلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان و لا بين أجزاء الزمان.
و لما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: {يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه و الكلام كلامه و ذلك أنه كان وحيا منه تعالى و قد صرح تعالى بقوله: {وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}: الشورى: ٥١، أن لا واسطة بينه تعالى و بين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي و إذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه و لا توهمه إلا الله و لم يجد الكلام إلا كلامه و لو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الإنسان و بين ربه غيره.
و هذا حال النبي و الرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة و الرسالة لم يختلجه شك و لا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة و لو افتقر إلى شيء من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.
فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: {وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}.
و قوله في موضع آخر: {مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ} يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).
قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة و إنما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام
و احتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا و وحيا من الملك، و إن التفت إليه تعالى كان وحيا منه و إن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، و من الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} فسماه وحيا، و قد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.
و بالجملة قوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} إلخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور و مقام المشافهة و قد خلى به و خصه من نفسه بمزيد العناية، و لذا قيل: إني أنا ربك، و لم يقل: أنا الله أو أنا رب العالمين، و لذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ} تكرار، لأن الأول تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، و الثاني من الوحي.
و في قوله: {نُودِيَ} حيث طوي ذكر الفاعل و لم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، و فيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجاة.
قوله تعالى: {وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} الاختيار مأخوذ من الخير، و حقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.
فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية إلهية و هي إعطاء النبوة و الرسالة و يشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} فقد تعلقت المشية الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة و الرسالة و كان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره و أصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).
و قوله: {وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ} على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوته و رسالته فهو إنشاء لا إخبار، و لو كان إخبارا لقيل: و قد اخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة و الرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته و رسالته فقال: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ} و الاستماع لما يوحى الإصغاء إليه.
قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة و الرسالة معا أما النبوة ففي هذه الآية و الآيتين بعدها، و أما الرسالة فتؤخذ من قوله {وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى} و تنتهي في قوله: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} و قد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}: مريم: ٥١.
و قد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا و هما ركن الاعتقاد و ركن العمل، و أصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد و النبوة و المعاد و قد ذكر منها التوحيد و المعاد و طوي عن النبوة لأن الكلام مع النبي نفسه و أما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: {فَاعْبُدْنِي} فتمت بذلك أصول الدين و فروعه في ثلاث آيات.
فقوله: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال: إنني أنا الله و لم يقل: إن الله هو أنا لأن مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشيء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: {إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي} و اسم الجلالة و إن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى «الله» فالمتكلم حاضر مشهود و المسمى باسم «الله» كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.
و قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} كلمة التوحيد مرتبة على قوله: {إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ} لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شيء و به يقوم و إليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الإله المعبود بالحق لا إله غيره و لذا فرع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال: {فَاعْبُدْنِي}.
و قوله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} خص الصلاة بالذكر و هو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه لأن الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي و يتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.
و على هذا المعنى فقوله: {لِذِكْرِي} من إضافة المصدر إلى مفعوله و اللام للتعليل و هو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع و اشرب لتروي و هذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.
و قد تكاثرت الأقوال في قوله: {لِذِكْرِي} فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم و قيل: بالصلاة، و قيل: بقوله: {فَاعْبُدْنِي} ثم اللام قيل: للتعليل، و قيل للتوقيت و المعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ}: الإسراء: ٧٨.
ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة، و قيل الذكر القلبي الذي يقارنها و يتحقق بها أو يترتب عليها و يحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، و قيل: المراد الأعم من القلبي و القالبي.
ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، و قيل: من إضافة المصدر إلى فاعله و المراد صل لأن أذكرك بالثناء و الإثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية و أمري بها.
و قيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، و المعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، و قيل: لا قصر.
و قيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، و المراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، و قيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ و إن كان حقا في نفسه.
و قيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها و الكلام على تقدير مضاف و الأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فأطلق المسبب و أريد به السبب إلى غير ذلك و الوجوه الحاصلة بين غث و سمين. و الذي يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ} تعليل لقوله في الآية السابقة: {فَاعْبُدْنِي} و لا يناقض ذلك كون {فَاعْبُدْنِي} متفرعا على
كلمة التوحيد المذكورة قبله لأن وجوب عبادته تعالى و إن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله و يتميز فيه المحسن من المسيء و المطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا و الأمر و النهي سدى لا أثر لهما، و لذلك كانت مقضية قضاء حتما و تكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.
و قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} ظاهر إطلاق الإخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها و أكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة و أشد في المفاجاة و لا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}: الأعراف: ١٨٧، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة و المعصية، و أصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار و لو أخفي و كتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.
و قيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي و هو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شيء، قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ و عزي إلى الرواية.
و قوله: {لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ} متعلق بقوله: {آتِيَةٌ} و المعنى واضح.
قوله تعالى: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدىَ} الصد الصرف، و الردى الهلاك، و الضميران في {عَنْهَا} و {بِهَا} للساعة، و معنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن و هو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، و كذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.
و قوله: {وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} أي إن عدم الإيمان بها مصداق اتباع الهوى و إذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام علية الهوى لعدم الإيمان بها، و استفيد من ذلك بالالتزام أن الإيمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى و المنجي من الردى.
فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية و الجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الإيمان بها و ذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها
و يعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.
و لعل الإتيان في قوله: {وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ} بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الإيمان.
قوله تعالى: {وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسىَ} شروع في وحي الرسالة و قد تم وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية و الاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى و كانت عصاه، ليسميها و يذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).
و الظاهر أن المشار إليه بقوله: {تِلْكَ} العودة أو الخشبة، و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و ما ذلك بجعل المشار إليه هو الشيء لمكان التجاهل بكونها عصا و إلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: {فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} الأنعام: ٧٨.
و يمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها و حقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف و الخواص و يؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا و خواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه و هي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها و خواصها، و هذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: {اَلْقَارِعَةُ مَا اَلْقَارِعَةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ}: القارعة: ٤، و قوله: {اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ} الحاقة: ٣.
قوله تعالى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلىَ غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىَ} العصا معروفة و هي من المؤنثات السماعية، و التوكي و الاتكاء على العصا الاعتماد عليها، و الهش هو خبط ورق الشجرة و ضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، و المآرب جمع مأربة مثلثة الراء و هي الحاجة، و المراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها. و معنى الآية ظاهر.
و إطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا و خواصها قيل: لأن المقام و هو
مقام المناجاة و المسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة و لذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة و هذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.
و قد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام و جوابه و ليس الكلام عليه من باب الإطناب و خاصة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: {وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىَ}.
قوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسى} إلى قوله {سِيرَتَهَا اَلْأُولى} السيرة الحالة و الطريقة و هي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.
أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه و هو قوله: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسىَ} فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد و جلادة و ذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له و هو قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىَ} و قد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله: {رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} : القصص: ٣١، و عبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: {فَأَلْقىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}: الأعراف: ١٠٧، الشعراء: ٣٢ و الثعبان: الحية العظيمة.
و قوله: {قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا} أي حالتها {اَلْأُولىَ} و هي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية و قد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسىَ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ}: القصص: ٣١، و الخوف و هو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب و اضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف و الأنبياء (عليه السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: {اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ}: الأحزاب: ٣٩.
قوله تعالى: {وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرىَ} الضم الجمع، و الجناح جناح الطائر و اليد و العضد و الإبط و لعل المراد به المعنى الأخير ليئول إلى قوله في موضع آخر: {أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} و السوء كل رداءة و قبح قيل: كني به في الآية عن البرص و المعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.
و قوله: {آيَةً أُخْرىَ} حال من ضمير تخرج و فيه إشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى و اليد البيضاء آية أخرى و قال تعالى في ذلك: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلىَ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ}: القصص: ٣٢.
قوله تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا اَلْكُبْرىَ} اللام للتعليل و الجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.
قوله تعالى: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} هذا هو أمر الرسالة و كانت الآيات السابقة: {وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} إلخ مقدمة له.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلى قوله {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} الآيات و هي إحدى عشرة آية متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة و هي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و إدارة أمورهم لا في أمر النبوة.
و يؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقي إليه قوله: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} و هو أمر الرسالة.
نعم الآيات الأربع الأول: {رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة و هي تلقي عقائد الدين و أحكامه العملية عن ساحة الربوبية.
فقوله: {رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي} و الشرح البسط و الجملة من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية كأن صدر الإنسان و قد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة و الإدراك ثم يختزن فيه السر و إذا كان أمرا عظيما يشق على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه و احتاج إلى انشراح حتى يسعه.
و قد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة و قد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة و القوة و على رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته و ينادي أنا ربكم الأعلى، و كان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف و الإسارة بين آل فرعون ثم الجهل و انحطاط الفكر، و كان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد و المصائب و يشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة
من الفظائع و الفجائع و هو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم و يأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي و استقائه في ماء مدين و في لسانه و هو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة و التبليغ عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.
فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة و لما ستستقبله من العظائم و الشدائد في مسيره في الدعوة فقال: {رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي}.
ثم قال: {وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي} و هو الأمر الذي قلده من الرسالة و لم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته و يتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة و إنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر و الخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده و الدليل على ذلك قوله: {وَ يَسِّرْ لِي}.
و وجه الدلالة أن قوله: {لِي} و المقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: و يسر لي، و أنا الذي أوقفتني هذا الموقف و قلدتني ما قلدتني أمري الذي قلدتنيه و من المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، و نظير الكلام يجري في قوله: {اِشْرَحْ لِي} فمعناه اشرح لي و أنا الذي أمرتني بالرسالة و قبالها شدائد و مكاره {صَدْرِي} حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي و دهمتني، و لو قيل: رب اشرح صدري و يسر أمري فاتت هذه النكتة.
و قوله: {وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه و التنكير في {عُقْدَةً} للدلالة على النوعية فله وصف مقدر و هو الذي يلوح من قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي عقدة تمنع من فقه قولي.
و قوله: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} سؤال له آخر و هو رابع الأسئلة و آخرها، و الوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، و قيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لأن الملك يلتجئ إليه في آرائه و أحكامه.
و بالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله و يبينه أنه هارون أخي و إنما يسأل ذلك لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده
بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير و يكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى و هذا معنى قوله و هو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا {اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}.
فمعنى قوله: {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} سؤال إشراك في أمر كان يخصه و هو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه و لا يشاركه فيه أحد سواه و لا له أن يستنيب فيه غيره و أما تبليغ الدين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين و على العالم أن يبلغ الجاهل و على الشاهد أن يبلغ الغائب و لا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه و أخاه و كل من آمن به من الإرشاد و التعليم و البيان و التبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه و سائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة و حجية الكلمة.
و أما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك و إنما كان يخاف التفرد في التبليغ و إدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك، و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} القصص: ٣٤.
على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) و لم يكن نبيا.
و قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً} ظاهر السياق و قد ذكر في الغاية تسبيحهما معا و ذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا و ذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة و هي شرح صدره و تيسير أمره و حل عقدة من لسانه و يترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح و الذكر تنزيههما معا لله سبحانه و ذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه و يذكراه معا بين الناس في مجامعهم و نواديهم و أي مجلس منهم حلا فيه و حضرا فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله و رفض الشركاء.
و بذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الأمر خطير و قد غر هذا الطاغية و ملأه و أمته عزهم و سلطانهم و نشب الشرك و الوثنية بأعراقه في قلوبهم و أنساهم ذكر الله من أصله و قد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزة فرعون و شوكة ملئه و اندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون و ارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله و لا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة و الدعوة في نجاحه و مضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا و إلى ذكرك بالربوبية و الألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا و هذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي و أيدني به و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا لعل السعي ينجع و الدعوة تنفع.
و بهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ} إلخ، بما تقدمه.
و ثانيا: وجه ورود قوله: {كَثِيراً} مرتين و أنه ليس من التكرار في شيء إذ كل من التسبيح و الذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، و لو قيل كي نسبحك و نذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين و هو غير مراد.
و ثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الآلهة من دون الله و إبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، و هو المراد بالذكر، موقعها. فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، و قد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها و لا في نقلها.
و قوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} إلخ، أي أنك كنت بصيرا بي و بأخي منذ خلقتنا و عرفتنا نفسك و تعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح و الذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي و أيدتني به و أشركته في أمري تم أمر الدعوة و سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و المراد بقوله {بِنَا} على هذا هو و أخوه. و يمكن أن يكون المراد بالضمير في {بِنَا} أهله، و المعنى: أنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح و ذكر فإن جعلت هارون
أخي، و هو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و هذا الوجه أحسن من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق: {وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أيضا فافهم ذلك.
قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسىَ} إجابة لأدعيته جميعا و هو إنشاء نظير ما مر من قوله: {وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى}.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىَ} إلى قوله {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ} يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.
ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منه على موسى.
فقوله: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىَ} امتنان بما صنعه به أول عمره و قد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبئ عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و رد مكره إليه و تربية عدوه في حجره، و أما موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال: {يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له.
و قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحىَ} المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: {وَ أَوْحىَ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ}: النحل: ٦٨، و أما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن
و لا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىَ}: يوسف: ١٠٩ و قوله: {أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ} إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و {أَنِ} للتفسير، و قيل: مصدرية متعلق بأوحي و التقدير أوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدرية و الجملة بدل من: {مَا يُوحىَ}.
و التابوت الصندوق و ما يشبهه و القذف الوضع و الإلقاء و كأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليم إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليم البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل شاطئ البحر و جانبه من البر، و الصنع و الصنيعة الإحسان.
و قوله: {فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ} أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه و مفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، و كذا قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي} إلخ و هو جزاء مترتب على هذا الأمر.
و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا أمك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه أو ألقيه في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليم و البحر و هو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطئ يأخذه عدو لي و عدو له و هو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.
و قوله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: {وَ لاَ تَحْزَنَ} فصل ثان تال للفصل السابق متمم له و المجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: {وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى}.
فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدو الله و عدوه و الفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه و استقراره في حجرها لتقر عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: {فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ}: القصص: ١٣، و لازم هذا المعنى
كون الجملة أعني قوله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ} إلخ، معطوفا على قوله: {أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّكَ}.
و معنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية و في تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها.
و اللام في قوله: {وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} للغرض، و الجملة معطوفة على مقدر و التقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك. و ربما قيل: إن المراد بقوله: {وَ لِتُصْنَعَ عَلىَ عَيْنِي} الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه و جعل تربيته في حجرها.
و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.
و قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلىَ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ} الظرف على ما يعطيه السياق متعلق بقوله: {وَ لِتُصْنَعَ} و المعنى: و ألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرأى مني و تحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر و لا تحزن.
و قوله: {فَرَجَعْنَاكَ} بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلم بالغير و ليس بالتفات.
قوله تعالى: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ} إلى آخر الآية، إشارة إلى من أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين و هو قصة قتله (عليه السلام) القبطي و ائتمار الملإ أن يقتلوه و فراره من مصر و تزوجه هناك ببنت شعيب النبي و بقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، و القصة مفصلة مذكورة في سورة القصص.
فقوله: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً} هو قتله القبطي بمصر، و قوله: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ} و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب و ورد عليه و قص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
و قوله: {وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختبارا، قال الراغب من المفردات: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنَّارِ يُفْتَنُونَ} {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي عذابكم، قال: و تارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: {أَلاَ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا} و تارة في الاختبار، نحو: {وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً} و جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة و رخاء و هما في الشدة أظهر معنى و أكثر استعمالا و قد قال فيهما: {وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً} انتهى موضع الحاجة من كلامه.
و قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} متفرع على الفتنة. و قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلىَ قَدَرٍ يَا مُوسىَ} لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر و هو ما حصله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين.
و على هذا فمجموع قوله: {وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ} - إلى قوله - {يَا مُوسىَ} من واحد و هو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعلية الكمال.
و ربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، و الوجهان مبنيان على فصل قوله: {فَلَبِثْتَ} إلى آخر الآية عما قبله و لذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، و فيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.
و قال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير و المراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما
قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أن القدر و القدر بسكون الدال و فتحها كما صرحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد. على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين. و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر و هي سخيفة لا جدوى فيها.
و ختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.
قوله تعالى: {وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان على ما ذكروا يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقق إحسانه إليه و ثبته فيه، و نقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه. انتهى.
و على هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه و يظهر موقع قوله: {لِنَفْسِي} أتم ظهور و أما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، و المعنى على أي حال و جعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا و ينطبق ذلك على قوله: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً}: مريم: ٥١.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إن المراد بقوله: {لِنَفْسِي} لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.
و يظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم و من الممكن أن يكون معطوفا على قوله: {جِئْتَ عَلىَ قَدَرٍ} عطف تفسير.
و الاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.
و فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد
اللطف و تقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: {وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}.
قوله تعالى: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} تجديد للأمر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ} بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا.
و أمرهما أن يذهبا بآياته و لم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أما القول بأن المراد هما الآيتان و الجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيرة مما لا ينبغي الركون إليه.
و قوله: {وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} نهي عن الوني و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل.
قوله تعالى: {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} جمعهما في الأمر ثانيا فخاطب موسى و هارون معا و كذلك في النهي الذي قبله في قوله: {وَ لاَ تَنِيَا} و قد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ} و ليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف و يؤيده سياق قوله بعد: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} إلخ.
و المراد بقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} المنع من أن يكلماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة.
و قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} رجاء لتذكره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا و التزاما لما تقتضيه حجة المذكر و إيمانه به و الخشية من مقدمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.
و استدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا
إلى أن «لعل» من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس و قدماء المفسرين فالآية تدل على تحتم وقوع أحد الأمرين التذكر أو الخشية و هو مدار النجاة.
و فيه أنه ممنوع و لا تدل عسى و لعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره و هو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدس و إنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف و اطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا و كذا و أما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم و ربما قام بمقام التخاطب.
و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض.
و هو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الإرسال وجه صحة الأمر بالشيء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشيء أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و إنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة و الائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أما المجبرة و هو منهم فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة و قطع المعذرة.
و إن كان المراد بسر الإرسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: {وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} الإسراء: ٨٢، و لو ألغي التكميل في جانب الشقاء لغا الامتحان فيه فلم تتم الحجة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتم
الحجة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر.
قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغىَ} الفرط التقدم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ}.
و استشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا}: القصص: ٣٥، يدل على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.
و أجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك. {وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: الشعراء - ١٤، و الذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدم.
على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معا في هذا المورد، و قد تقدم احتمال أن يكون قوله: {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ} إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.
قوله تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: {لاَ تَخَافَا} تأمين، و قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلا فنفس الحضور و العلم يعم جميع الأشياء و الأحوال.
و قد استدل بعضهم بالآية على أن السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} دال على العلم و لو دل {أَسْمَعُ وَ أَرىَ} عليه أيضا لزم
التكرار و هو خلاف الأصل.
و هو من أوهن الاستدلال، أما أولا: فلما عرفت أن مفاد {إِنَّنِي مَعَكُمَا} هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم.
و أما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة.
و أما ثالثا: فلأن المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.
قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بين تمام ما يكلفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أولا لموسى: {اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ}، ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته و أجيب إليها: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ} {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ}، ثم قوله لما ذكرا خوفهما و أجيبا بالأمن: {فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ} إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.
فقوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} تبليغ أنهما رسولا الله، و في قوله بعد: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ} إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.
و قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ} تكليف فرعي متوجه إلى فرعون.
و قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} استناد إلى حجة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها.
و قوله: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ} كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية و هو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى.
و قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى} في مقام التعليل
لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لأن الله سبحانه أوحي إلينا أن العذاب و هو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - و تولى و أعرض عنها.
و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزين به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: {فَأْتِيَاهُ} و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشيء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل: {فَقُولاَ} و لم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، و قيل: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} و {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} فقرع سمعه مرتين بأن له ربا و هو الذي كان ينادي بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ}، و قيل: {وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ} و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله: {أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى} من غير خطاب.
و هذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ} من كمال الإحاطة و العزة و القدرة التي لا يقوم لها شيء.
و ليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق و لا احتشام و تأثر من ظاهر سلطانه الباطل و عزته الكاذبة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد {أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً} كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.
و في الفقيه: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً} قال: كانتا من جلد حمار ميت.
أقول: و رواه أيضا في تفسير القمي مرسلا و مضمرا، و روى هذا المعنى في الدر المنثور عن عبد الرزاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن علي. و قد ورد ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.
و في المجمع: في قوله تعالى: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي} قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): و يعضده ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح.
أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى مسندة و غير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق أهل السنة و عن الصادقين (عليه السلام) من طرق الشيعة.
و في المجمع: في قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} روي عن ابن عباس {أَكَادُ أُخْفِيهَا} عن نفسي و هي كذلك في قراءة أبي، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسر لي أمري و أن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزرى - و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
أقول: و روي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضا في المجمع، عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قريبا منه.
و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحق و لا يجوز حمله على النبوة و لا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلا فصل.
و مثله: فيما ذكر ما صح من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته «أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» انتهى.
قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل
فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنما نبحث عن المراد بقوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعائه لعلي (عليه السلام): {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (صلى الله عليه وآله و سلم) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر۱.
فمراده (صلى الله عليه وآله و سلم) بالأمر في قوله: {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، و هو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالأمر في قوله: {وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} ليس هو النبوة و إلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {أَمْرِي} بلا معنى يفيده.
و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحق كما ذكره قطعا لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة و يشاركه فيه غيره و حجة الكتاب و السنة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي}: يوسف: ١٠٨، و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد رواه العامة و الخاصة : فليبلغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.
على أن الإضافة في قوله: {أَمْرِي} تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية.
نعم التبليغ الابتدائي و هو تبليغ الوحي لأول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره و في قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: {وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما أبهم من كلامه و يفصل ما أجمل و يبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه.
فهذا النوع من التبليغ و ما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي و الإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو المراد
أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى.
و قد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.
و في تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.
فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت: يذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: {وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فأحبته القبطية الموكلة بها.
و في العلل بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز و جل لموسى {اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً - لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} فقال: أما قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} أي كنياه و قولا له: يا أبا مصعب و كان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ} فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب و قد علم الله عز و جل أن فرعون لا يتذكر و لا يخشى إلا عند رؤية البأس، أ لا تسمع الله عز و جل يقول: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ}؟ فلم يقبل الله إيمانه و قال: {آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ}.
أقول: و روى صدر الحديث في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن علي:. و تفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.
و روى ذيل الحديث أيضا في الكافي، بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي (عليه السلام) و فيه تأييد ما قدمنا أن لعل مستعملة في الآية للترجي.
[سورة طه (٢٠): الآیات ٤٩ الی ٧٩]
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ ٤٩ قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ ٥٠قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ ٥١ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسى ٥٢ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ٥٣ كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهى ٥٤ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى ٥٥ وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبى ٥٦ قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى ٥٧ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً ٥٨ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى ٥٩ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ٦٠قَالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرى ٦١ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى ٦٢ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ
مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى ٦٣ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلى ٦٤ قَالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ٦٥ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعى ٦٦ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ٦٧ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى ٦٨ وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ٦٩ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسى ٧٠قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقى ٧١ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ٧٢ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى ٧٣ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيى ٧٤ وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلى ٧٥ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ٧٦ وَ لَقَدْ
أَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَ لاَ تَخْشىَ ٧٧ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ٧٨ وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدى ٧٩}
(بيان)
فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى و هارون (عليه السلام) إلى فرعون و تبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل، و قد فصل في الآيات خبر ذهابهما إليه و إظهارهما آيات الله و مقابلة السحرة و ظهور الحق و إيمان السحرة و أشير إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل و شق البحر و اتباع فرعون لهم بجنوده و غرقهم.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ} حكاية لمحاورة موسى و فرعون و قد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون و يدعواه إلى التوحيد و يكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف و ما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه.
و يظهر مما نقل من كلام فرعون إنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها و هارون وزيره و لذا خاطب موسى وحده و سأل عن ربهما معا. و قد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} إلخ، لفظ {رَبِّكَ} خطابا لفرعون مرتين و هو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما و لغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: {أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ} النازعات: ٢٤، و قال: {لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ}: الشعراء: ٢٩، فقوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} و كان الحري بالمقام أن يقول فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما {رَبِّكَ} و يسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
و كان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر و أعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها و ربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه بالعبادة و القربان ليقرب الإنسان من الله زلفى و يشفع له عنده فهؤلاء هم الآلهة و الأرباب و ليس الله سبحانه بإله و لا رب و إنما هو إله الآلهة و رب الأرباب فقول القائل: إن لي ربا إنما يعني به أحد الآلهة من دون الله و ليس يعني به الله سبحانه و لا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.
فقول فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا} ليس إنكارا لوجود خالق الكل و لا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله: {وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ}: الأعراف: ١٢٧، و إنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها و ربا من هو غيره؟ و هذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه و هما في أول الدعوة فهو يقدر و لو كتقدير المتجاهل أن موسى و أخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة التي يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، و قد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الآلهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها و ربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم و سيأتي قول الملإ: {وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلىَ} نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق و التدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.
فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة و التقرب و إنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة و الجن و القديسين من البشر، و كان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة و الأرباب و كان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الآلهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم و كان أكثرهم من الوثنية الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكا متألها و هو يعبد الأصنام و هو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.
و من هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني: ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا و استدلوا عليه بعدة من الآيات. و بأن ملكه لم يتجاوز القبط و لم يبلغ الشام أ لا ترى أن موسى (عليه السلام)
لما هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم؟ و بأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا و كل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم و من كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر.
و من الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و اختلفوا في كيفية جهله. فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، و لعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر و أن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذيمقراطيس و أتباعه.
و يحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة و يحتمل أنه كان من عبدة الكواكب و يحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، و يحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، و أما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته و الانقياد له و عدم الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص.
و أنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الأقوال و المحتملات و لا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الأمر.
قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} سياق الآية و هي واقعة في جواب سؤال فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ} يعطي أن {خَلْقَهُ} بمعنى اسم المصدر و الضمير للشيء فالمراد الوجود الخاص بالشيء.
و الهداية إراءة الشيء الطريق الموصل إلى مطلوبه أو إيصاله إلى مطلوبه و يعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد و هو نوع من إيصال الشيء إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه. و قد أطلق الهداية من حيث المهدي و المهدي إليه، و لم يسبق في الكلام إلا الشيء الذي أعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شيء المذكور قبلا إلى مطلوبه و مطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده و ينتهي إليها و المطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه و معنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.
فيئول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شيء بما جهز به في وجوده من القوى و الآلات و بين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلا و هو
نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى و أعضاء تناسب من الأفعال و الآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه و بدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصها و هو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت و سيرت بما جهزت به من القوى و الأعضاء نحو مطلوبها و هو غاية الوجود الإنساني و الكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع.
و من هنا يظهر معنى عطف قوله: {هَدىَ} على قوله: {أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} بثم و أن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشيء و حركته بعد وجوده رتبة و هذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو.
و ظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شيء دون الهداية الخاصة بالإنسان، و ذلك بتحليل الهداية الخاصة و تعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب و الطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شيء جهز بما يربطه بشيء و يحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشيء فكل شيء مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز و الله سبحانه هو الهادي.
فنظام الفعل و الانفعال في الأشياء و إن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شيء و النظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها و انتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى و ذلك بعناية أخرى مصداق لتدبيره، و معلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذي ينتهي و ينتسب إليه تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهي إليه و يقوم به.
فقد تبين أن الكلام أعني قوله: {اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شيء لا رب غيره فإن خلقه الأشياء و إيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها لقيامها به و ملك تدبير أمرها.
و عند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي و السياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد و طاعة الرسول و قد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، و حمل كلامهما على دعوتهما له إلى
ربهما فسأل: من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما و إياه و غيرهم جميعا فأجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: {رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} فأجيب بأنه رب كل شيء و أفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، و لو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.
و إنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الإشارة إليه لأن المقام مقام الدعوة و الهداية و الهداية، العامة أشد مناسبة له.
هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الآية الكريمة، و بذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للآية:
كقول بعضهم: إن المراد بقوله: {خَلْقَهُ} مثل خلقه و هو الزوج الذي يماثل الشيء، و المعنى: الذي خلق لكل شيء زوجا، فيكون في معنى قوله: {وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}.
و قول بعضهم: إن المراد بكل شيء أنواع النعم و هو مفعول ثان لأعطى و بالخلق المخلوق و هو مفعول أول لأعطى، و المعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شيء من النعم.
و قول بعضهم: إن المراد بالهداية الإرشاد و الدلالة على وجوده تعالى و وحدته بلا شريك، و المعنى: الذي أعطى كل شيء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد و دل بذلك على وجود نفسه و وحدته.
و التأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق و تقييدات للفظ الآية من غير مقيد.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} قيل: البال في الأصل بمعنى الفكر و منه قولهم: خطر ببالي كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، و لا يثنى و لا يجمع، و قولهم: بآلات، شاذ.
لما كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الإنسان إلا بنبوة و معاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب و جزاء يتميز به المحسن من المسيء و لا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه و ما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففي آخرها:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى} و الوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية و قد انقطع بما أجاب به موسى إلى أمر المعاد و السؤال عنه بانيا على الاستبعاد.
فقوله: {فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} أي ما حال الأمم و الأجيال الإنسانية الماضية الذين ماتوا و فنوا لا خبر عنهم و لا أثر كيف يجزون بأعمالهم و لا عامل في الوجود و لا عمل و ليسوا اليوم إلا أحاديث و أساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الم السجدة: ١٠، و ظاهر الكلام أنه مبني على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم و بأعمالهم للموت و الفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام).
قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} فأطلق العلم بها فلا يفوته شيء من أشخاصهم و أعمالهم و جعلها عند الله فلا تغيب عنه و لا تفوته، و قد قال تعالى: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} ثم قيد ذلك بقوله: {فِي كِتَابٍ} - و كأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله و قد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته و دقتها فلا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها.
فيئول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل و لم يعلم بها لكنها معلومة لربي محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ و لا تغيير و لا غيبة و زوال.
و قوله: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} نفي للجهل الابتدائي و الجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم و لكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشيء مكان غيره و إنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كانت عليه في العلم أولا، و النسيان خروج الشيء من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، و نفيه هو المناسب لإثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون الأولى و لا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.
و من هنا يظهر أن قوله: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسىَ} من تمام بيان الآية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها و إن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار لا يتميز شيء منها من شيء فأجيب بأن شيئا منها و من آثارها و أعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال و لا يغيب عنه بنسيان، و لذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.
و قد أثبت العلم و نفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى و ذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شيء و الرب هو المالك للشيء المدبر لأمره يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة و كونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له، و لو فرض شيء منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشيء أيا ما كان و أينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما و لا فاصل و هو الحضور الذي نسميه علما و قد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.
و قد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل و لم يقل: {رَبُّنَا} كما في الآية السابقة لأن السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا و أخي إليه هو كذا و كذا، و أما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى و الذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، و الذي يفيد هذا المعنى هو {رَبِّي} لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.
و النكتة في {رَبِّي} الثاني هي نظيرة ما في {رَبِّي} الأول و في كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.
و قد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه و الاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها و من أعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول المعارف الإلهية و إقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ و المعاد مما ينكره الوثنية و يشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين و أخبار الماضين، و جواب موسى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} إلخ،
محصله إرجاع العلم بها إلى الله و أنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب.
قوله تعالى: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً} إلى قوله {لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىَ} قد عرفت أن لسؤاله {فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ} ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الإنسان إلى سعادته في الحياة و هي الحياة الخالدة الأخروية و كذا الجواب عنه بقوله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} إلخ مرتبط فقوله: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً} مضى في الحديث عن الهداية العامة و ذكر شواهد بارزة من ذلك.
فالله سبحانه أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد و يربى لحياة هي أشرف منه و أرقى، و جعل للإنسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه و بين غايته و هو التقرب منه تعالى و الدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية و أنزل من السماء ماء و هو ماء الأمطار و منه مياه عيون الأرض و أنهارها و بحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا و أصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته و ربوبيته تعالى.
فقوله: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً} إشارة إلى قرار الإنسان في الأرض لإدامة الحياة و هو من الهداية، و قوله: {وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} إشارة إلى مسالك الإنسان التي يسلكها في الأرض لإدراك مآربه و هو أيضا من الهداية، و قوله: {وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} إشارة إلى هداية الإنسان و الإنعام إلى أكل النبات لإبقاء الحياة، و فيه هداية السماء إلى الإمطار و ماء الأمطار إلى النزول و النبات إلى الخروج.
و الباء في {بِهِ} للسببية و فيه تصديق السببية و المسببية بين الأمور الكونية، و المراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا و أصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة الازدواج بين الذكور و الإناث من النبات و هي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز.
و قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: و الوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب و إبداع الصور المتشتتة و الأزواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة و الصنع العظيم لا يصدر
إلا من العظيم و العظماء يتكلمون عنهم و عن غيرهم من أعوانهم و قد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}: فاطر: ٢٧، و قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}: النمل: ٦٠، و قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} الأنعام: ٩٩.
و قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىَ} النهى جمع نهية بالضم فالسكون: و هو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى.
قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرىَ} الضمير للأرض و الآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض ثم إعادته فيها و صيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الإنسان.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبىَ} الظاهر أن المراد بالآيات العصا و اليد و سائر الآيات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي} فالمراد جميع الآيات التي أريها و إن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: {فَكَذَّبَ وَ أَبىَ} مطلق تكذيبه و إبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة.
قوله تعالى: {قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسىَ} الضمير لفرعون و قد اتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة و حقية دعوته، و ثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم و هي أرض مصر، و هي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه و إثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم من بيئتهم و وطنهم بمكيدته و لا حياة لمن لا بيئة له.
قوله تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً} الظاهر كما يشهد به الآية التالية أن الموعد اسم زمان و إخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، و مكان سوى بضم السين أي واقع المنتصف من المسافة أو مستوي الأطراف من غير ارتفاع و انخفاض قال في المفردات: و مكان سوى و سواء وسط، و يقال: سواء و سوى و سوى - بضم السين و كسرها - أي يستوي طرفاه،
و يستعمل ذلك وصفا و ظرفا، و أصل ذلك مصدر. انتهى.
و المعنى: فأقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك و إبطال إرادتك فاجعل بيننا و بينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوي الأطراف أو اجعل بيننا و بينك مكانا كذلك.
قوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى} الضمير لموسى و قد جعل الموعد يوم الزينة، و يظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجري بينهم مجرى العيد، و يظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه و يزينون الأسواق، و حشر الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها، و الضحى وقت انبساط الشمس من النهار.
و قوله: {وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى} معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت و نحوه و المعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة و يوم حشر الناس في الضحى، و ليس من البعيد أن يكون مفعولا معه و المعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى و يرجع إلى الاشتراط. و إنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به و يأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتىَ} ظاهر السياق أن المراد بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، و المراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة و سائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس و التلبيس عليهم و يمكن أن يكون المراد بجمع كيده جمع ذوي كيده بحذف المضاف و المراد بهم السحرة و سائر عماله و أعوانه و قوله: {ثُمَّ أَتىَ} أي ثم أتى الموعد و حضره.
قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرىَ} الويل كلمة عذاب و تهديد، و الأصل فيه معنى العذاب و معنى ويلكم عذبكم الله عذابا، و السحت بفتح السين استيصال الشعر بالحلق و الإسحات الاستئصال و الإهلاك.
و قوله: {قَالَ لَهُمْ مُوسىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً} ضمائر الجمع غيبة و خطابا لفرعون و كيده و هم السحرة و سائر أعوانه على موسى (عليه السلام) و قد مر ذكرهم
في الآية السابقة، و أما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر و لا دل عليهم دليل من جهة اللفظ.
و هذا القول من موسى (عليه السلام) موعظة لهم و إنذار أن يفتروا على الله الكذب، و قد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الآيات الإلهية سحرا، و رمي الدعوة الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم و من الافتراء أيضا السحر لكن افتراء الكذب على الله و هو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، و عد الآية المعجزة سحرا و الدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله و كذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شيء منها افتراء على الله.
فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد بأصول الوثنية كألوهية الآلهة و شفاعتها و رجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الآية بذلك، و قد عد ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله: {قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} الأعراف: ٨٩.
و قوله: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى يستأصلكم و يهلككم بعذاب بسبب شرككم، و تنكير العذاب للدلالة على شدته و عظمته.
قوله: {وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرىَ} الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة و قد وضعت الجملة في الكلام وضع الأصل الكلي الذي يتمسك به و هو كذلك فإن الافتراء من الكذب و سببيته سببية كاذبة و الأسباب الكاذبة لا تهتدي إلى مسببات حقة و آثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء و لا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم و الخسران فالآية أشمل معنى من قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} يونس: ٦٩. لإثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الآية الثانية و قد تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله: {وَ جَاؤُ عَلىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} يوسف: ١٨ في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوىَ} إلى قوله {مَنِ اِسْتَعْلىَ} التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشيء من مقره لينقلع
منه و التنازع يتعدى بنفسه كما في الآية و بفي كقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} النساء: ٥٩.
و النجوى الكلام الذي يسار به، و أصله مصدر بمعنى المناجاة و هي المسارة في الكلام، و المثلى مؤنث أمثل كفضلى و أفضل و هو الأقرب الأشبه و الطريقة المثلى السنة التي هي أقرب من الحق أو من أمنيتهم و هي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم تدار بها و هي عبادة الآلهة و في مقدمتها فرعون إله القبط، و الإجماع على ما ذكره الراغب جمع الشيء عن فكر و ترو، و الصف جعل الأشياء على خط مستو كالإنسان و الأشجار و نحو ذلك و يستعمل مصدرا و اسم مصدر و قوله: {ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا} يحتمل أن يكون مصدرا، و أن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد و اتفاق من دون أن تختلفوا و تتفرقوا فتضعفوا و كونوا كيد واحدة عليه.
و يظهر من تفريع قوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ} على ما في الآية السابقة من قوله: {قَالَ لَهُمْ مُوسىَ} إلخ إن التنازع و الاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثرت فيهم بعض أثرها و من شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض و كان محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من ألوهية الآلهة و شفاعتها فنسبتكم الشركاء و الشفعاء إلى الله افتراء عليه و قد خاب من افترى و هذا برهان واضح لا ستر عليه و لا غبار.
و يظهر من قوله الآتي الحاكي لقول السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ} أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة و منهم و ربما أشعر قوله الآتي: {ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا} أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم و لعل السياق يساعد على ذلك.
و كيف كان لما رأى فرعون و أياديه تنازع القوم و فيه خزيهم و خذلانهم أسروهم النجوى و لم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة و الموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر و طرح خطة سياسية لإخراج أمة القبط من أرضهم و لا ترضى الأمة بذلك ففيه خروج من ديارهم و أموالهم و سقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء و هم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.
و أضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء و الخروج من الديار و الأموال و هو ذهاب طريقتهم المثلى و سنتهم القومية التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن و جيلا بعد جيل و قد اشتد بها عظمهم و نبت عليها لحمهم و العامة تقدس السنن القومية و خاصة ما اعتادت عليها و أذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية. و هذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبت و الاستقامة على ملة الوثنية لكن لا لأنها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة موسى أوضحت فسادها و كشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها مليتهم و تستند إليها شوكتهم و عظمتهم و تعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا و تركوا مقابلة موسى و استعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة.
فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف و يأتوا صفا حتى يستعلوا و قد أفلح اليوم من استعلى.
فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا و يتفقوا و لا يهنوا في حفظ ملتهم و مدنيتهم و يكروا على عدوهم كرة رجل واحد، و شفع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ} الشعراء: ٤٢. و بأي وجه كان من ترغيب و ترهيب حملوهم على أن يثبتوا و يواجهوا موسى بمغالبته.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيات بالاستمداد من السياق و القرائن المتصلة و الشواهد المنفصلة، و على ذلك فقوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إشارة إلى اختلافهم إثر موعظة موسى و ما أومأ إليه من الحجة.
و قوله: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوىَ} إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى و اجتهادهم في رفع الاختلاف الناشئ من استماعهم وعظ موسى (عليه السلام)، و قوله: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ} إلخ، بيان النجوى الذي أسروه فيما بينهم و قد مر توضيح معناه.
و قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} القراءة المعروفة «إن» بكسر الهمزة و سكون النون و هي «إن» المشبهة بالفعل خففت فألغيت عن العمل بنصب الاسم و رفع الخبر.
قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسىَ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقىَ}
إلى آخر الآية التالية، الحبال جمع حبل و العصي جمع عصا، و قد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات و ثعابين أمثال ما كان يظهر من عصا موسى (عليه السلام).
و هنا حذف و إيجاز كأنه قيل فأتوا الموعد و قد حضره موسى فقيل فما فعلوا؟ فقيل: {قَالُوا يَا مُوسىَ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} أي عصاك {وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقىَ} و هذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، {قَالَ} موسى: {بَلْ أَلْقُوا} فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به و هو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق و اضطراب و قد قال له ربه فيما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ}.
و قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعىَ} فيه حذف، و التقدير: فألقوا و إذا حبالهم و عصيهم إلخ، و إنما حذف لتأكيد المفاجاة كأنه (عليه السلام) لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال و العصي.
و الذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر: {سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ} الأعراف: ١١٦، غير أنه ذكر هاهنا موسى من بينهم و كان ذلك ليكون تمهيدا لما في الآية التالية.
قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسىَ} قال الراغب في المفردات: الوجس الصوت الخفي، و التوجس التسمع، و الإيجاس وجود ذلك في النفس، قال: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى.
فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها و لا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة و يتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر و تحرز و إلا لظهر أثره في ظاهر البشرة و عمل الإنسان قطعا، و إلى ذلك يومئ تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به، و من العجيب قول بعضهم: إن التنكير للتفخيم و كان الخوف عظيما و هو خطأ و لو كان
كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته و لم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.
فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم و أنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور و هو كنفس الخطور لا أثر له.
و قيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته و سحرهم للتشابه فيشكوا و لا يؤمنوا و لا يتبعوه و لم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.
و فيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله و وثوقه بأمره و قد قال له ربه قبل ذلك: {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ} القصص: ٣٥.
و قيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم و لا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعي التساوي و يخيب السعي.
و فيه: أنه خلاف ظاهر الآية فإن ظاهر تفريع قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} إلخ، على قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} إلخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الأمر بإلقاء العصا، و لو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم و عصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام): {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىَ} و لقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا.
و كيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه و إن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له و ما أتى به آية معجزة ذات حقيقة و قد استعظم الله سحرهم إذ قال: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنَّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جَاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}: الأعراف: ١١٦. و لذا أيده الله هاهنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة و هو تلقف العصا جميع ما سحروا به.
قوله تعالى: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىَ} إلى قوله {حَيْثُ أَتىَ} نهي بداعي التقوية و التأييد و قد علله بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىَ} فالمعنى: أنك فوقهم من كل جهة و إذا كان كذلك لم يضرك شيء من كيدهم و سحرهم فلا موجب لأن تخاف.
و قوله: {وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} إلخ أمر بإلقاء العصا لتكون
حية و تلقف ما صنعوا بالسحر و التعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير و أعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشيء من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا و إن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شيء ثم التعبير عن حياتهم و ثعابينهم بقوله: {مَا صَنَعُوا} يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الأشياء في أساميها و حقائقها و بين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو أن يكون كيدا باطلا و كلمة الله هي العليا و الله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.
و في هذه الجملة أعني قوله: {وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه.
و قوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} تعليل بحسب اللفظ لقوله: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} و {مَا} مصدرية أو موصولة و بيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لأن ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له و ما معه آية معجزة ذات حقيقة و الحق يعلو و لا يعلى عليه.
و قوله: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} بمنزلة الكبرى لقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له و لا فلاح و لا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.
فقوله: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} نظير قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} الأنعام: ١٤٤، {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ}: المائدة: ١٠٨، و غيرهما و الجميع من فروع {إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} الإسراء: ٨١، {وَ يَمْحُ اَللَّهُ اَلْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الشورى: ٢٤، فلا يزال الباطل يزين أمورا و يشبهها بالحق و لا يزال الحق يمحوه و يلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى و سحر السحرة يجري في كل باطل يبدو و حق يلقفه و يزهقه، و قد تقدم في تفسير قوله: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الرعد: ١٧، كلام نافع في المقام.
قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسىَ} في الكلام حذف و إيجاز و التقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فألقي السحرة و في التعبير
بقوله: {فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ} بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى إذلال القدرة الإلهية لهم و غشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الأرض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك و إنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟
و قولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسىَ} شهادة منهم بالإيمان و إنما أضافوه تعالى إلى موسى و هارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى و رسالة موسى و هارون معا و فصل قوله: {قَالُوا} إلخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا إلخ.
قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إلى آخر الآية، الكبير الرئيس و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى و التصليب تكثير الصلب و تشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع و تشديده و الجذوع جمع جذع و هو ساقة النخل.
و قوله: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا و الجملة استفهامية محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، و قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ} رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطئوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله و يأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه و اجتمعوا على مغالبته تخاذلوا و انهزموا عنه و آمنوا و اتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم و أخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} الأعراف: ١٢٣، و إنما رماهم بهذا القول تهييجا للعامة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أول يوم.
و قوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ} إلى آخر الآية، إيعاد لهم و تهديد بالعذاب الشديد و لم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟
قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في
معناه رفيع في منزلته يغلي و يفور علما و حكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة و قد ملأت هيبة فرعون و أبهته قلوبهم و أذلت زينات الدنيا و زخارفها التي عنده و ليست إلا أكاذيب خيال و أباطيل وهم نفوسهم يسمونه ربا أعلى و يقولون حينما ألقوا حبالهم و عصيهم: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْغَالِبُونَ} فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة و سلطان و لما عنده من زينة الدنيا و زخرفها من قدر و منزلة و غشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن و الملق و اتباع الهوى و التوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا و مكنت فيها التعلق بالحق و الدخول تحت ولاية الله و الاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله و لا يرجون إلا الله و لا يخافون إلا الله عز اسمه.
يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون و بينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يرى إلا نفسه و يضيف إليه أنه رب القبط و له ملك مصر و له جنود مجندة، و له ما يريد و له ما يقضي و ليست في نظر الحق و الحقيقة إلا دعاوي و قد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله و الحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس و في جبلتها الفهم و القضاء بشعورها و إدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، و لا يذعن قلوبهم و لا توقن بحق إلا عن إجازته و هو قوله للسحرة: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}.
و يرى أن لا حقيقة للإنسان إلا هذه البنية الجسمانية التي تعيش ثم تفسد و تفنى و أن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، و ذلك قوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقىَ} و ليتدبر في آخر كلامه.
و أما هؤلاء المؤمنون و قد أدركهم الحق و غشيهم فأصفاهم و أخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها و منزلتها سرابا خياليا و زينة غارة باطلة، و أنهم إذا خيروا بينه و بين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق و الباطل و الحقيقة و السراب، و حاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا الباطل على الحق و السراب على الحقيقة و هم يشهدون ذلك شهادة عيان و ذلك قولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} أي لن نختارك {عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا} فليس مرادهم
به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها و منالها.
و ما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع و العذاب الشديد و قطع دابر الحياة الدنيا و هو يرى أن ليس للإنسان إلا الحياة التي فيها و فيها سعادته و شقاؤه فإنهم يرون الأمر بالعكس من ذلك و أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا و إن شقي فيها فلا ينفعه شيء.
و على ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، و ذلك قولهم لفرعون و هو جواب تهديده إياهم بالقتل {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا} ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل و توضيح لقولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا}.
و في قولهم: {مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ} تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا و تلقفها الحبال و العصي و رجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، و يمكن أن يكون {مِنَ} للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحدة و آمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة و لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ} الخطايا جمع خطيئة و هي قريبة معنى من السيئة و قوله: {وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ} معطوف على {خَطَايَانَا} و {مِنَ اَلسِّحْرِ} بيان له و المعنى و ليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه و فيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم و إما حين تنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى فحملوا على المقابلة و المغالبة.
و أول الآية تعليل لقولهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ} إلخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك و آمنا به ليغفر لنا خطايانا و السحر الذي أكرهتنا عليه، و ذيل الآية: {وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقىَ} من تمام البيان و بمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: و إنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير و أبقى، أي خير من كل خير و أبقى من كل باق لمكان الإطلاق فلا يؤثر عليه شيء و في هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: {وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقىَ}.
و قد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، و ثانيا بربنا، و ثالثا بالله، أما الأول فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود و يتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه و أن ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان منشأ كل ترجيح و المقام مقام الترجيح بينه تعالى و بين فرعون.
و أما الثاني فلأن فيه إخبارا عن الإيمان به و أمس صفاته تعالى بالإيمان و العبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك و التدبير.
و أما الثالث فلأن ملاك خيرية الشيء الكمال و عنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، و على هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى و المعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا، لأنه فطرنا و إنا آمنا بربنا لأنه ربنا و الله خير لأنه الله عز اسمه.
قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيىَ} تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأن من لم يغفر خطاياه كان مجرما و من يأت ربه مجرما «إلخ».
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلىَ} إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم و تقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا و لذا يقال درجات الجنة و دركات النار، و التزكي هو التنمي بالنماء الصالح و المراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حق و عمل صالح.
و الآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان و العمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية و الآيات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام و الإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون و وعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع و الصلب و ادعى أنه أشد العذاب و أبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها و لا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت و فيه نجاة المجرم المعذب، و لا يحيى فيها إذ ليس فيها شيء مما تطيب به الحياة و لا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.
و وعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه و الأجر كما حكى الله تعالى: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ اَلْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ}: الأعراف: ١١٤ فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك و في الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم لهم الدرجات العلى و هذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى بالإيمان و العمل الصالح و هذا يقابل وعده لهم بالأجر.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً} إلى قوله {وَ مَا هَدىَ}. الإسراء السير بالليل و المراد بعبادي بنو إسرائيل و قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً} قيل المراد الضرب بالعصا كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع و أن {طَرِيقاً} مفعول به لأضرب على الاتساع و هو مجاز عقلي و الأصل اضرب البحر ليكون لهم طريقا. انتهى. و يمكن أن يكون المراد بالضرب البناء و الإقامة من باب ضربت الخيمة و ضربت القاعدة.
و اليبس على ما ذكره الراغب المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، و الدرك بفتحتين تبعة الشيء، و في نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة و جعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: و في قوله: {وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدىَ} تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: {وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ} المؤمن: ٢٩، و على هذا فقوله: {وَ مَا هَدىَ} ليس تأكيدا و تكرارا لمعنى قوله: {وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}.
(بحث روائي)
في نهج البلاغة قال (عليه السلام): لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال.
أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الآية.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثم قرأ: {وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتىَ} قال لا يأمن حيث وجد.
أقول: و في انطباق المعنى المذكور في الحديث على الآية بما لها من السياق خفاء.
[سورة طه (٢٠): الآیات ٨٠الی ٩٨]
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىَ ٨٠كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ لاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ٨١ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى ٨٢ وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسىَ ٨٣ قَالَ هُمْ أُولاَءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ٨٤ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ ٨٥ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ٨٦ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَ لَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى اَلسَّامِرِيُّ ٨٧ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسى فَنَسِيَ ٨٨ أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا
وَ لاَ نَفْعاً ٨٩ وَ لَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي ٩٠قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسى ٩١ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ٩٢ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي ٩٣ قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ٩٤ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ٩٥ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ٩٦ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً ٩٧ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ٩٨}
(بيان)
الفصل الأخير من قصة موسى (عليه السلام) الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم و مواعدتهم جانب الطور الأيمن و إنزال المن و السلوى عليهم، و يختمه بذكر قصة السامري و إضلاله القوم بعبادة العجل و للقصة اتصال بمواعدة الطور.
و هذا الجزء من الفصل و فيه بيان تعرض بني إسرائيل لغضبه تعالى هو
المقصود بالأصالة من هذا الفصل و لذا فصل فيه القول و لم يبين غيره إلا بإشارة و إجمال.
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} إلى آخر الآية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل و قوله: {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} المراد به فرعون أغرقه الله و أنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.
و قوله: {وَ وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ} بنصب أيمن على أنه صفة جانب و لعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة و قد مرت القصة في سورة البقرة و غيرها و كذا قصة إنزال المن و السلوى.
و قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إباحة في صورة الأمر و إضافة الطيبات إلى {مَا رَزَقْنَاكُمْ} من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ لا معنى لأن ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسمه إلى طيب و غيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: {وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} الجاثية: ١٦.
قوله: {وَ لاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} ضمير فيه راجع إلى الأكل المتعلق بالطيبات و ذلك بكفران النعمة و عدم أداء شكره كما قالوا: {يَا مُوسىَ لَنْ نَصْبِرَ عَلىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَ قِثَّائِهَا وَ فُومِهَا وَ عَدَسِهَا وَ بَصَلِهَا} البقرة: ٦١.
و قوله: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي يجب غضبي و يلزم من حل الدين يحل من باب ضرب إذا وجب أداؤه، و الغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الأسباب لذلك عن معصية عصاها.
و قوله: {وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىَ} أي سقط من الهوي بمعنى السقوط و فسر بالهلاك.
قوله تعالى: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىَ} وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد و لذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ} و لم يقل: و أنا غافر أو سأغفر.
و التوبة و هي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، و الإيمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من
أنبيائه و رسله و كل حكم جاءوا به من عند الله تعالى، و قد كثر استعمال الإيمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين و بنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل و على هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك و المعصية جميعا و الإيمان بالله و آياته و كذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين و المؤمنين من بني إسرائيل و غيرهم و إن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الإلهية كالمغفرة لا تختص بقوم دون قوم.
فمعنى الآية و الله أعلم و إني لكثير المغفرة لكل إنسان تاب و آمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية و سواء آمن بي أو بآياتي من رسلي، أو ما جاءوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل و يعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة و التمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه و هو المحقق لأصل معنى الرجوع من شيء و قد مر تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ} النساء: ١٧، في الجزء الرابع من الكتاب.
و أما قوله: {ثُمَّ اِهْتَدىَ} فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى: {مَنِ اِهْتَدىَ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}: الإسراء: ١٥، و قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ}: المائدة: ١٠٥، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبة عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة و لا تكفي عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى المعصية التي تاب عنها و بعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا تاما إذا لم يضل في غيره من الأعمال، أو المراد ما يعم المعنيين؟
ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الأول فيفيد معنى الثبات و الاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الإصلاح الذي هو مذكور في عدة من الآيات كقوله: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: آل عمران: ٨٩ النور - ٥.
لكن يبقى على الآية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب؟ و ثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكما من أحكامه كافرا به و إن اعترف بأنه
من عند الله و إنما يعصيه اتباعا للهوى لا ردا للحكم اللهم إلا أن يقال إن الآية لاشتمالها على قوله {تَابَ وَ آمَنَ} إنما تشمل المشرك أو الراد لحكم من أحكام الله و هو كما ترى.
فيمكن أن يقال: إن المراد بالتوبة و الإيمان التوبة من الشرك و الإيمان بالله كما أن المعنيين هما المرادان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة و الإيمان فيها معا، و على هذا كان المراد من قوله: {وَ عَمِلَ صَالِحاً} الطاعة لأحكامه تعالى بالائتمار لأوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يكون معنى الآية أن من تاب من الشرك و آمن بالله و أتى بما كلف به من أحكامه فإني كثير المغفرة لسيئاته أغفر له زلة بعد زلة فتكثر المغفرة لكثرة مواردها.
و قد ذكر تعالى نظير المعنى و هو مغفرة السيئات في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء: ٣١.
فقوله: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً} ينطبق على آية النساء و يبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة و هو مدلول قوله: {ثُمَّ اِهْتَدىَ} و هو الاهتداء إلى الطريق و يظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه و دخل عليه من بابه.
و لا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الإيمان بالله و العمل الصالح في تأثيره و قبوله عند الله إلا الإيمان بالرسول بمعنى التسليم له و طاعته في خطير الأمور و يسيرها و أخذ الدين عنه و سلوك الطريق التي يخطها و اتباعه من غير استبداد و ابتداع يئول إلى اتباع خطوات الشيطان و بالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم و دنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته و فرض طاعته و أوجب الأخذ عنه و التأسي به في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها و لا مجال لاستقصائها فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
و كان جل بني إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه و تصديقهم رسالة موسى و هارون متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله و لعل هذا هو الوجه في وقوع الآية {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىَ} بعد نهيهم عن الطغيان و تخويفهم من غضب الله.
فقد تبين أن المراد بالاهتداء في الآية على ما يهدي إليه سائر الآيات هو الإيمان
بالرسول باتباعه في أمر الدين و الدنيا و بعبارة أخرى هو الاهتداء إلى ولايته.
و بذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: {ثُمَّ اِهْتَدىَ} فقد قيل: الاهتداء لزوم الإيمان و الاستمرار عليه ما دامت الحياة، و قيل: أن لا يشك ثانيا في إيمانه، و قيل: الأخذ بسنة النبي و عدم سلوك سبيل البدعة، و قيل: الاهتداء هو أن يعلم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، و قيل: هو تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، و قيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شيء فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الإيمان و غير العمل، و المطلوب على جميع هذه الأقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الإيمان و العمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شيء من ذلك.
قوله تعالى: {وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسىَ} إلى قوله {لِتَرْضىَ} حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى و بين موسى (عليه السلام) في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة كما قص في سورة الأعراف تفصيلا.
و ظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعا فتقدم عليهم موسى في الحضور و خلفهم فقيل له: {وَ مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسىَ} فقال: {هُمْ أُولاَءِ عَلىَ أَثَرِي} أي إنهم لسائرون على أثري و سيلحقون بي عن قريب {وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىَ} أي و السبب في عجلي هو أن أحصل رضاك يا رب.
و الظاهر أن المراد بالقوم و قد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلا الذين اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده و سائر جهات القصة و قوله بعد: {أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ} أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل كلهم الطور.
و هذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى (عليه السلام) في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي يقارن المسير و اللقاء و إذا لم يكن السؤال في بدء الورود و الحضور استقام قوله بعد: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} إلخ، بناء على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الآثار و لا حاجة إلى تمحلاتهم في توجيه الآيات.
قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ} الفتنة الامتحان و الاختبار و نسبة الإضلال إلى السامري و هو الذي سبك العجل و أخرجه لهم فعبدوه و ضلوا لأنه أحد أسبابه العاملة فيه.
و الفاء في قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ} للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق الكلام فإن المفهوم من قول موسى: {هُمْ أُولاَءِ عَلىَ أَثَرِي} أن قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنه قيل: لا تكن واثقا على ما خلفتهم فيه فإنا قد فتناهم فضلوا.
و قوله: {قَوْمِكَ} من وضع الظاهر موضع المضمر و لعل المراد غير المراد به في الآية السابقة بأن يكون ما هاهنا عامة القوم و ما هناك السبعون رجلا الذين اختارهم موسى للميقات.
قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسىَ إِلىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} إلى قوله {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} الغضبان صفة مشبهة من الغضب، و كذا الأسف من الأسف بفتحتين و هو الحزن و شدة الغضب، و الموعد الوعد، و إخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، و يؤيده قوله في موضع آخر: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}.
و المعنى: فرجع موسى إلى قومه و الحال أنه غضبان شديد الغضب أو حزين و أخذ يلومهم على ما فعلوا، قال يا قوم أ لم يعدكم ربك وعدا حسنا و هو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله و في الأخذ بها سعادة دنياهم و أخراهم أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوهم و يمكنهم في الأرض و يخصهم بنعمه العظام {أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ} و هو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فطغوتم بالكفر به بعد الإيمان و عبدتم العجل {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} و تركتم ما وعدتموني من حسن الخلافة بعدي.
و ربما قيل في معنى قوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} بعض معان أخر:
كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، و قول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه
إلى غير ذلك.
قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} إلى آخر الآية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك و كأن المراد بقولهم: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} ما خالفناك و نحن نملك من أمرنا شيئا كما قيل و من الممكن أن يكون المراد أنا لم نصرف في صوغ العجل شيئا من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الأمر متعمدين فيه و لكن كنا حاملين لأثقال من حلي القوم فطرحناها فأخذها السامري و ألقاها في النار فأخرج العجل.
و الأوزار جمع وزر و هو الثقل، و الزينة الحلي كالعقد و القرط و السوار و القذف و الإلقاء و النبذ متقاربة معناها الطرح و الرمي.
و معنى قوله: {وَ لَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً} إلخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم و لعل المراد به قوم فرعون فطرحناها فكذلك ألقى السامري ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما ألقينا ما عندنا مما حملنا فأخرج العجل.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسىَ فَنَسِيَ} في لفظ الإخراج دلالة على أن كيفية صنع العجل كانت خفية على الناس في غير مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره و إراءته، و الجسد هو الجثة التي لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتة، و فيه دليل على أن العجل لم يكن له روح و لا فيه شيء من الحياة، و الخوار بضم الخاء صوت العجل.
و ربما أخذ قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى اَلسَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ} إلخ كلاما مستقلا إما من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: {فَقَذَفْنَاهَا} و إما من كلام القوم و على هذا فضمير {قَالُوا} لبعض القوم و ضمير {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} لبعض آخر كما هو ظاهر.
و ضمير {فَنَسِيَ} قيل: لموسى و المعنى قالوا هذا إلهكم و إله موسى فنسي موسى إلهه هذا و هو هنا و ذهب يطلبه في الطور و قيل: الضمير للسامري و المراد به نسيانه تعالى بعد ذكره و الإيمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى و أضل القوم.
و ظاهر قوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسىَ} حيث نسب القول إلى الجمع أنه كان مع السامري في هذا الأمر من يساعده.
قوله تعالى: {أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً} توبيخ لهم حيث عبدوه و هم يرون أنه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه، و لا يملك لهم ضرا فيدفعه عنهم و لا نفعا بأن يجلبه و يوصله إليهم، و من ضروريات عقولهم أن الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضر أو لجلب نفع و أن يملك الضر و النفع لمربوبه.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي} تأكيد لتوبيخهم و زيادة تقرير لجرمهم، و المعنى: أنهم مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم و عدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر و العقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم هارون إنه فتنة فتنوا به و إن ربهم الرحمن عز اسمه و إن من الواجب عليهم أن يتبعوه و يطيعوا أمره.
فردوا على هارون قائلين: لن نبرح و لن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتى يرجع إلينا موسى فنرى ما ذا يقول فيه و ما ذا يأمرنا به.
قوله تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي} رجع (عليه السلام) بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسئولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم و أوصاه حين كان يوادعه قائلا: {اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ}.
و كأن قوله: {مَنَعَكَ} مضمن معنى دعاك أي ما دعاك، إلى أن لا تتبعن مانعا لك عن الاتباع أو ما منعك داعيا لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}: الأعراف: ١٢.
و المعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي و هو منعهم عن الضلال و الشدة في جنب الله أ فعصيت أمري أن تتبعني و لا تتبع سبيل المفسدين؟
قوله تعالى: {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي} إلخ، {يَا بْنَ أُمَّ} أصله يا بن أمي و هي كلمة استرحام و استرآف قالها لإسكات غضب موسى، و يظهر من قوله:
{لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي} إنه أخذ بلحيته و رأسه غضبا ليضربه كما أخبر به في موضع آخر: {وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} الأعراف: ١٥٠.
و قوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} تعليل لمحذوف يدل عليه اللفظ و محصله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل و قاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلا بعض القوم و أدى ذلك إلى تفرقهم فرقتين: مؤمن مطيع، و مشرك عاص، و كان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم و اتفاقهم الظاهر تفرقا و اختلافا و ربما انجر إلى قتال و قد كنت أمرتني بالإصلاح إذ قلت لي: {أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ} فخشيت أن تقول حين رجعت و شاهدت ما فيه القوم من التفرق و التحزب: فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي. هذا ما اعتذر به هارون و قد عذره موسى و دعا له و لنفسه كما في سورة الأعراف بقوله: {رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} الأعراف: ١٥١.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} رجوع منه (عليه السلام) بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامري و هو أحد المسئولين الثلاثة و هو الذي أضل القوم.
و الخطب: الأمر الخطير الذي يهمك، يقول: ما هذا الأمر العظيم الذي جئت به؟
قوله تعالى: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: {كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ} {وَ إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ} و للقوة التي فيها، و يقال لقوة القلب المدركة بصيرة و بصر نحو قوله: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} و قال: {مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغىَ} و جمع البصر أبصار و جمع البصيرة بصائر، قال تعالى: {فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لاَ أَبْصَارُهُمْ} و لا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، و يقال من الأول: أبصرت، و من الثاني: أبصرته و بصرت به، و قلما يقال في الحاسة بصرت إذا لم تضامه رؤية القلب. انتهى.
و قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول و أورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن،
و لا يقال: نسجه اليمن، فالمتعين حمله في الآية على أنه مفعول مطلق. و رد بأن الممنوع لحوق التاء الدالة على التحديد و المرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، و فيه أن كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة.
و قوله: {مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ} الأثر شكل قدم المارة على الطريق بعد المرور، و الأصل في معناه ما بقي من الشيء بعده بوجه بحيث يدل عليه كالبناء أثر الباني و المصنوع أثر الصانع و العلم أثر العالم و هكذا، و من هذا القبيل أثر الأقدام على الأرض من المارة.
و الرسول هو الذي يحمل رسالة و قد أطلق في القرآن على الرسول البشري الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس و أطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} التكوير: ١٩، و كذا أطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله: {بَلىَ وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف: ٨٠، و قال أيضا في الملائكة: {جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}: فاطر: ١.
و الآية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى (عليه السلام) بقوله: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} و هو سؤال عن حقيقة ذاك الأمر العظيم الذي أتى به و ما حمله على ذلك، و السياق يشهد على أن قوله: {وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} جوابه عن السبب الذي دعاه إليه و حمله عليه و أن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل و أما بيان حقيقة ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ} و لا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة و لا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه و لذا اختلفوا في تفسيره.
ففسره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل و قد نزل على موسى للوحي أو رآه و قد نزل راكبا على فرس من الجنة قدام فرعون و جنوده حين دخلوا البحر فأغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه و من خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شيء إلا حلت فيه الحياة و دخلت فيه الروح فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحيي و تحرك و خار.
فالمراد بقوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} إبصاره جبريل حين نزل راجلا أو
راكبا رآه و عرفه و لم يره غيره من بني إسرائيل، و بقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل و المراد بالرسول جبريل فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحيي العجل فكان له خوار!
و أعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات و ستوافيك في البحث الروائي التالي للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسدا له خوار و الجسد هو الجثة التي لا روح لها و لا حياة فيها، و لا يطلق على الجسم ذي الروح و الحياة البتة.
مضافا إلى ما أوردوه من وجوه الإشكال على الروايات مما سيجيء نقله في البحث الروائي الآتي.
و نقل عن أبي مسلم في تفسير الآية أنه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه، و هنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالرسول موسى (عليه السلام) و أثره سنته و رسمه الذي أمر به و درج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان و يقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه.
و تقرير الآية على ذلك أن موسى (عليه السلام) لما أقبل على السامري باللوم و المسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق و قد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها و لم أتمسك بها و تعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير: ما قول الأمير في كذا؟ و يكون إطلاق الرسول منه عليه نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} انتهى و من المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعي بخلاف الوجه السابق.
و فيه أن سياق الآية يشهد على تفرع النبذ على القبض و القبض على البصر و لازم ما ذكره تفرع النبذ على البصر و البصر على القبض فلو كان ما ذكره حقا كان من الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.
و ثانيا: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} إشارة إلى سبب عمل العجل و جوابا عن مسألة موسى {فَمَا خَطْبُكَ}؟ و محصله أنه إنما سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الآية أنه لم يكن موحدا و مدلول ذيلها أنه لم يكن وثنيا فلا موحد و لا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد: {وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ} إلخ إنه كان وثنيا.
و ثالثا أن التعبير عن موسى و هو مخاطب بلفظ الغائب بعيد.
و يمكن أن يتصور للآية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة التي حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها و كانت لموسى أو منسوبة إليه و هو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في أمر الصباغة و التقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ و قبض قبضة من أثر الرسول و هو الحلي من الذهب فنبذها و طرحها في النار و أخرج لهم عجلا جسدا له خوار، و كان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه و خروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية. هذا.
و يبقى الكلام على التعبير عن موسى و هو يخاطبه بالرسول، و على تسمية حلي القوم أثر الرسول، و على تسمية عمل العجل و كان يعبده تسويلا نفسانيا.
قوله تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} هذه مجازاة له من موسى (عليه السلام) بعد ثبوت الجرم.
فقوله: {قَالَ فَاذْهَبْ} قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم و لا يمس أحدا و لا يمسه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم و غير ذلك من مظاهر الاجتماع الإنساني و هو من أشق أنواع العذاب، و قوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} و محصله أنه تقرر و حق عليك أن تعيش فردا ما دمت حيا كناية عن تحسره المداوم من الوحدة و الوحشة.
و قيل: إنه دعاء من موسى عليه و أنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلا حمي حمى شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس لا مساس، و قيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحش و يفر من كل من يلقاه و ينادي لا مساس و هو وجه حسن لو صح الخبر.
و قوله: {وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت عينه الله و قضاه قضاء محتوما و يحتمل الدعاء عليه، و قيل: المراد به عذاب الآخرة.
قوله تعالى: {وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً} قال في المجمع: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذرأه بالمنسف ليطير عنه قشوره. انتهى.
و قوله: {وَ اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي ظللت و دمت عليه عاكفا لازما، و فيه دلالة على أنه كان اتخذه إلها له يعبده.
و قوله: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً} أي أقسم لنحرقنه بالنار ثم لنذرينه في البحر ذروا، و قد استدل بحديث إحراقه على أنه كان حيوانا ذا لحم و دم و لو كان ذهبا لم يكن لإحراقه معنى، و هذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيوانا ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل عليه. لكن الحق أنه إنما يدل على أنه لم يكن ذهبا خالصا لا غير.
و قد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، و المعنى: لنبردنه بالمبرد ثم لنذرين برادته في البحر و هذا أنسب.
قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} الظاهر أنه من تمام كلام موسى (عليه السلام) يخاطب به السامري و بني إسرائيل و قد قرر بكلامه هذا توحده تعالى في ألوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، و هو بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدل فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو و بذلك على أنه لا غير إلههم.
قيل: و في قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما و فيه مغالطة فإن مدلول الآية أن كل ما يسمى شيئا فقد وسعه علمه لا أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئا و الذي ينفع المستدل هو الثاني دون الأول.
(بحث روائي)
في التوحيد بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك و تعالى:
{وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى} ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عز و جل زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عز و جل لا يستفزه شيء و لا يغيره.
أقول: و روى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا.
و في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن الله تبارك و تعالى لا يقبل إلا العمل الصالح و لا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط و العهود فمن وفى لله بشرطه و استعمل ما وصف في عهده نال ما عنده و استكمل وعده إن الله تبارك و تعالى أخبر العباد بطرق الهدى، و شرع لهم فيها المنار، و أخبرهم كيف يسلكون؟ فقال: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى} و قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اَللَّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ} فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في المجمع: قال أبو جعفر (عليه السلام): {ثُمَّ اِهْتَدى} إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن و المقام ثم مات و لم يجيء بولايتنا لأكبه الله في النار على وجهه:، رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده و أورده العياشي في تفسيره، بعدة طرق.
أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن سدير عنه (عليه السلام) و في تفسير القمي بإسناده عن الحارث بن عمر عنه (عليه السلام) و في مناقب ابن شهرآشوب، عن أبي الجارود و أبي الصباح الكناسي عن الصادق (عليه السلام) و عن أبي حمزة عن السجاد (عليه السلام): مثله و لفظه: إلينا أهل البيت.
و المراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم و دنياهم و هي المرجعية في أخذ معارف الدين و شرائعه و في إدارة أمور المجتمع، و قد كانت للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: {اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ثم جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية و بما تواتر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) من حديث الثقلين و حديث المنزلة و نظائرهما.
و الآية و إن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل و ظاهرها ذلك لكنها غير مقيدة بشيء يخصها بهم و يمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم
أما جريانها فيهم فلأن لموسى بما كان إماما في أمته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الأنبياء فعلى أمته أن يهتدوا به و يدخلوا تحت ولايته، و أما جريانها في غيرهم فلأن الآية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهي تهدي الناس في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى ولايته و بعده إلى ولاية الأئمة من أهل بيته (عليه السلام) فالولاية سنخ واحد لها معناها إلى أي من نسبت.
إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الآلوسي في تفسير روح المعاني، فإنه بعد ما نقل رواية مجمع البيان، السابقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و أنت تعلم أن ولايتهم و حبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى (عليه السلام) مما يستدعي القول بأنه عز و جل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت و أوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك و لم يثبت ذلك في صحيح الأخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه.
و الذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الآية خاصة ببني إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره و ليست الولاية في آياتها و أخبارها بمعنى المحبة و إنما هي ملك التدبير و التصرف في الأمور الذي من شئونه لزوم الاتباع و افتراض الطاعة و هو الذي يدعيه أئمة أهل البيت لأنفسهم و أما المحبة فهي معنى توسعي للولاية بمعناها الحقيقي و من لوازمها العادية و هي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى من آية أو رواية.
و لولاية أهل البيت (عليه السلام) معنى آخر ثالث و هو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبر لأموره و المتصرف في شئونه لإخلاصه في العبودية و هذه الولاية هي لله بالأصالة فهو الولي لا ولي غيره و إنما تنسب إلى أهل البيت (عليه السلام) لأنهم السابقون الأولون من الأمة في فتح هذا الباب و هي أيضا من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالأصالة و إلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين بنوع من التوسع.
فتلخص أن الولاية في حديث المجمع، بمعنى ملك التدبير و أن الآية الكريمة عامة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم و أنه (عليه السلام) إنما فسر الاهتداء إلى الولاية من جهة ـ
الآية في هذه الأمة و هو المعنى المتعين.
و في تفسير القمي، و قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} قال اختبرناهم بعدك {وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ} قال: بالعجل الذي عبدوه.
و كان سبب ذلك أن موسى لما وعده الله أن ينزل عليه التوراة و الألواح إلى ثلاثين يوما أخبر بني إسرائيل بذلك و ذهب إلى الميقات و خلف أخاه على قومه، فلما جاء الثلاثون يوما و لم يرجع موسى إليهم عصوا و أرادوا أن يقتلوا هارون و قالوا: إن موسى كذب و هرب منا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال لهم: إن موسى قد هرب منكم و لا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه.
و كان السامري على مقدمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون و أصحابه فنظر إلى جبرئيل و كان على حيوان في صورة رمكة۱ و كانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع فنظر إليه السامري و كان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من حافر رمكة جبرئيل و كان يتحرك فصره في صرة فكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل فلما جاءهم إبليس و اتخذوا العجل قال للسامري: هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه في جوف العجل فلما وقع التراب في جوفه تحرك و خار و نبت عليه الوبر و الشعر فسجد له بنو إسرائيل و كان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفا من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسىَ} فهموا بهارون فهرب منهم و بقوا في ذلك حتى تم ميقات موسى أربعين ليلة.
فلما كان يوم عشرة من ذي الحجة أنزل الله علم الألواح فيها التوراة و ما يحتاج إليه من أحكام السير و القصص فأوحى الله إلى موسى أنا فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري و عبدوا العجل و له خوار، فقال: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن؟ فقال: مني يا موسى، إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة.
{فَرَجَعَ مُوسىَ - كما حكى الله - إِلىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ
رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطَالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}، ثم رمى بالألواح و أخذ بلحية أخيه و رأسه يجره إليه فقال: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي} فقال هارون كما حكى الله: {يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.
فقال له بنو إسرائيل: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قال: ما خالفناك {وَ لَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ} يعني من حليهم {فَقَذَفْنَاهَا} قال: التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه. ثم أخرج السامري العجل و له خوار فقال له موسى: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قال السامري: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ} يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر {فَنَبَذْتُهَا} أي أمسكتها {وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي زينت.
فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار و ألقاه في البحر، ثم قال موسى للسامري: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} يعني ما دمت حيا و عقبك هذه العلامة فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتى يعرفوا أنكم سامرية فلا يغتر بكم الناس فهم إلى الساعة بمصر و الشام معروفين لا مساس، ثم هم موسى بقتل السامري فأوحى الله إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي، فقال له موسى: {اُنْظُرْ إِلىَ إِلَهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
أقول: ظاهر هذا الذي نقلناه أن قوله: «و السبب في ذلك» إلخ، ليس ذيلا للرواية التي في أول الكلام «قال بالعجل الذي عبدوه» بل هو من كلام القمي اقتبسه من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الآيات و على ذلك شواهد في خلال القصة التي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصة: «قال ما خالفناك» رواية، و كذا قوله: «قال التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه» رواية، و كذا قوله: «ثم هم موسى» إلخ، مضمون رواية مروية عن الصادق (عليه السلام).
ثم على تقدير كونه رواية و تتمة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمرة.
و في الدر المنثور أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن علي (عليه السلام) قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بني إسرائيل فضربه عجلا - ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار فقال لهم السامري: هذا إلهكم و إله موسى فقال لهم هارون: يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا (الحديث).
أقول: و ما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى (عليه السلام).
و فيه أخرج ابن جرير عن أبي عباس قال :لما هجم فرعون على البحر هو و أصحابه و كان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى فلما رآها الحصان هجم خلفها و عرف السامري جبريل لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار و أطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنا و في الأخرى عسلا و في الأخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة و ألقي في روع السامري أنك لا تلقيها على شيء فتقول: كن كذا إلا كان.
فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى و بنو إسرائيل البحر أغرق الله آل فرعون - قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و مضى موسى لموعد ربه، و كان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلا جسدا له خوار - فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره و يخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم و إله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به و إن ربكم الرحمن فاتبعوني و أطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.
أقول: و الخبر كما ترى لا يتضمن كون تراب الحافر ذا خاصية الإحياء لكنه مشتمل على أعظم منه و هو كونه ذا خاصية كلمة التكوين فالسامري على هذا إنما استعمله ليخرج الحلي من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير
سبب طبيعي عادي و أما الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه و خروجه بصوت عدم اتصافه بالحياة.
على أن ما فيه من إخفاء أم السامري إياه لما ولدته في غار خوفا من أن يذبحه فرعون و أن جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتى نشأ مما لا يعتمد عليه و كون السامري من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عباس نفسه في خبر سعيد بن جبير المفصل في القصة و روى عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان من أهل كرمان.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري و عجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك و أضلهم السامري فلما خبره خبرهم قال: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال يا رب فأنت إذا أضللتهم.
ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال: حزينا {قَالَ: يَا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} إلى قوله {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} يقول: بطاقتنا و لكنا حملنا أوزارا من زينة القوم يقول: من حلي القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فعكفوا عليه يعبدونه و كان يخور و يمشي فقال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامري ما بالك إلى قوله و انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه.
قال: فأخذه و ذبحه ثم حرقة بالمبرد يعني سحكه ثم ذرأه في اليم فلم يبق نهر يجري يومئذ إلا وقع فيه منه شيء ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم (الحديث).
أقول: و من عجيب ما اشتمل عليه قصة إنبات الذهب على شوارب محبي العجل عن شرب الماء، و حمله قوله تعالى: {وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} عليه و لفظة {فِي قُلُوبِهِمُ} نعم الدليل على أن المراد بالإشراب حلول حبه و نفوذه في قلوبهم دون شرب الماء الذي نسف فيه بعد السحك.
و أعجب منه جمعه بين ذبحه و سحكه و لا يكون ذبح إلا في حيوان ذي لحم و دم و لا يتيسر السحك و البرد إلا في جسد مسبوك من ذهب أو فلز آخر.
و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن علي قال: إن جبريل لما نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس و حمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد و كتب الله الألواح و هو يسمع صرير الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه.
أقول: و هو يتضمن ما هو أعجب من سوابقه و هو عروج جبريل بموسى إلى السماء و سياق آيات القصة في هذه السورة و غيرها لا يساعده، و أعجب منه أخذ التراب من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى و هو في الطور و السامري مع بني إسرائيل، و لو صح هذا النزول و الصعود فقد كان في آخر الميقات و إضلال السامري بني إسرائيل قبل ذلك بأيام.
و نظير هذا الإشكال وارد على سائر الأخبار التي تتضمن أخذه التربة من تحت حافر فرس جبريل حين تمثل لفرعون حتى دخل فرسه البحر فإن فرعون و أصحابه إنما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل و معهم السامري لو كان هناك من البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامري من فرعون؟
و أعظم ما يرد على هذه الأخبار - كما تقدمت الإشارة إليه أولا كونها مخالفة للكتاب حيث إن الكتاب ينص على كون العجل جسدا غير ذي روح و هي تثبت له جسما ذا حياة و روح و لا حجية لخبر و إن كان صحيحا اصطلاحا مع مخالفة الكتاب و لو لا ذلك لسقط الكتاب عن الحجية مع مخالفة الخبر فيتوقف حجية الكتاب على موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقف حجية الخبر بل نفس قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي يحكيه الخبر بل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على حجية ظاهر الكتاب و هو دور ظاهر، و تمام البحث في علم الأصول.
و ثانيا: كونها أخبار آحاد و لا معنى لجعل حجية أخبار الآحاد في غير الأحكام الشرعية فإن حقيقة الجعل التشريعي إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية و هو
متوقف على وجود أثر عملي للحجة كما في الأحكام، و أما غيرها فلا أثر فيه حتى يترتب على جعل الحجية مثلا إذا وردت الرواية بكون البسملة جزءا من السورة كان معنى جعل حجيتها وجوب الإتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة و أما إذا ورد مثلا أن السامري كان رجلا من كرمان و هو خبر واحد ظني كان معنى جعل حجيته أن يجعل الظن بمضمونه قطعا و هو حكم تكويني ممتنع و ليس من التشريع في شيء و تمام الكلام في علم الأصول.
و قد أورد بعض من لا يرتضي تفسير الجمهور للآية بمضمون هذه الأخبار عليها إيرادات أخر ردية و أجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردأ منها.
و قد أيد بعضهم التفسير المذكور بأنه تفسير بالمأثور من خير القرون القرن الأول قرن الصحابة و التابعين و ليس مما يقال فيه بالرأي فهو في حكم الخبر المرفوع و العدول عنه ضلال.
و فيه أولا: أن كون قرن ما خير القرون لا يوجب حجية كل قول انتهى إليه و لا ملازمة بين خيرية القرن و بين كون كل قول فيه حقا صدقا و كل رأي فيه صوابا و كل عمل فيه صالحا، و يوجد في الأخبار المأثورة عنهم كمية وافرة من الأقوال المتناقضة و الروايات المتدافعة و صريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين و كذب أحد المتدافعين، و يوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجة على قولهم كما يطالب غيرهم و لهم فضلهم فيما فضلوا.
و ثانيا: أن كون المورد الذي ورد عنهم الأثر فيه مما لا يقال فيه بالرأي كجزئيات القصص مثلا مقتضيا لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنما ينفع إذا كانوا منتهين في رواياتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكنا نجدهم حتى الصحابة كثيرا ما يروون من الروايات ما ينتهي إلى اليهود و غيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الأخبار المأثورة في قصص ذي القرنين و جنة إرم و قصة موسى و الخضر و العمالقة و معجزات موسى و ما ورد في عثرات الأنبياء و غير ذلك مما لا يعد و لا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا يستلزم رفعها إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و ثالثا: سلمنا كونها في حكم المرفوعة لكن المرفوعة منها و حتى الصحيحة
في غير الأحكام لا حجية فيها و خاصة ما كان مخالفا للكتاب منها كما تقدم.
و في المحاسن بإسناده عن الوصافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن فيما ناجى الله به موسى أن قال: يا رب هذا السامري صنع العجل، الخوار من صنعه؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليه: أن تلك فتنتي فلا تفحص عنها.
أقول: و هذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة، و عمدة الوجه في ذلك شيوع النقل بالمعنى و خاصة في النبويات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن الأول الهجري حتى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر و ليس به فإنه إضلال مجازاة و ليس بإضلال ابتدائي. و قد نسب هذا النوع من الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كما قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦.
و أحسن تعبير عن معنى هذا الإضلال في الروايات ما تقدم في رواية القمي: «فقال يعني موسى: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن؟ فقال: مني يا موسى إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة. و ما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدر المنثور: و فيه «قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم قال! يا موسى: يا رأس النبيين و يا أبا الحكام، إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم». الحديث.
و في المجمع قال الصادق (عليه السلام): إن موسى هم بقتل السامري فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي.
[سورة طه (٢٠): الآیات ٩٩ الی ١١٤]
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ٩٩ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِزْراً ١٠٠خَالِدِينَ فِيهِ وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِمْلاً ١٠١ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ١٠٢ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ١٠٣ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ١٠٤ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ١٠٥ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ١٠٦ لاَ تَرى فِيهَا عِوَجاً وَ لاَ أَمْتاً ١٠٧ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ١٠٨ يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً ١٠٩ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ١١٠وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ١١١ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَ لاَ هَضْماً ١١٢ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ١١٣ فَتَعَالَى اَللَّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ١١٤}
(بيان)
تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الإنذار.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} الظاهر أن الإشارة إلى خصوصية قصة موسى و المراد بما قد سبق الأمور و الحوادث الماضية و الأمم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصة موسى و على شاكلته
نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث و الأمم.
و قوله: {وَ قَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق و قصص و عبر و أخلاق و شرائع و غير ذلك.
قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِزْراً} ضمير {عَنْهُ} للذكر و الوزر الثقل و الإثم و الظاهر بقرينة الحمل إرادة المعنى الأول و تنكيره للدلالة على عظم خطره، و المعنى: من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر و مر الأثر، شبه الإثم من حيث قيامه بالإنسان بالثقل الذي يحمله الإنسان و هو شاق عليه فاستعير له اسمه.
قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهِ وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِمْلاً} المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه و هو العذاب بنحو الكناية و التعبير في {خَالِدِينَ} بالجمع باعتبار معنى قوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} كما أن التعبير في {أَعْرَضَ} و {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ} باعتبار لفظه، فالآية كقوله: {وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}: الجن: ٢٣.
و مع الغض عن الجهات اللفظية فقوله: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} من أوضح الآيات دلالة على أن الإنسان إنما يعذب بعمله و يخلد فيه و هو تجسم الأعمال.
و قوله: {وَ سَاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حِمْلاً} ساء من أفعال الذم كبئس، و المعنى: و بئس الحمل حملهم يوم القيامة، و الحمل بكسر الحاء و فتحها واحد، غير أن ما بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر و ما بالفتح هو المحمول في الباطن كالولد في البطن.
قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} {يَوْمَ يُنْفَخُ} إلخ، بدل من يوم القيامة في الآية السابقة، و نفخ في الصور كناية عن الإحضار و الدعوة و لذا أتبعه فيما سيأتي بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} (الآية) - ١٠٨ من السورة.
و الزرق جمع أزرق من الزرقة و هي اللون الخاص، و عن الفراء أن المراد بكونهم
زرقا كونهم عميا لأن العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها و هو معنى حسن و يؤيده قوله تعالى: {وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً}: الإسراء: ٩٧.
و قيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب و العطش، و قيل: زرقة عيونهم لأن أسوأ ألوان العين و أبغضها عند العرب زرقتها، و قيل: المراد به كونهم عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين و يريها كالأزرق و هي وجوه غير مرضية.
قوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} إلى قوله {إِلاَّ يَوْماً} التخافت تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت و ذلك من أهل المحشر لهول المطلع، و قوله: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، و معنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود و الأبدية.
و قوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي لنا إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الأقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الأرض إلا يوما و إنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقة و أقربها إلى الصدق لأن اللبث المحدود الأرضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الأبدي الخالد، و عده يوما و هو أقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة، و القول مع ذلك نسبي غير حقيقي و حقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الروم: ٥٦، و سيجيء استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الآية إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ} - إلى قوله - {وَ لاَ أَمْتاً} تدل الآية على أنهم سألوه (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حال الجبال يوم القيامة فأجيب عنه بالآيات.
و قوله: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أي يذرؤها و يثيرها فلا يبقى منها في مستقرها شيء، و قوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} القاع الأرض المستوية و الصفصف الأرض المستوية الملساء، و المعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شيء عليها، و كأن الضمير للأرض باعتبار أنها كانت جبالا، و قوله: {لاَ تَرىَ فِيهَا عِوَجاً وَ لاَ أَمْتاً} قيل: العوج
ما انخفض من الأرض و الأمت ما ارتفع منها، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد كل من له أن يرى و المعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالأودية و لا مرتفعا كالروابي و التلال.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع بأن يكون {لاَ عِوَجَ لَهُ} حالا عن ضمير الجمع و عامله يتبعون فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير أي توقف أو استنكاف أو تثبط أو مساهلة فيه لأن ذلك كله فرع القدرة و الاستطاعة أو توهم الإنسان ذلك لنفسه و هم يعاينون اليوم أن الملك و القدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن: ١٦، و قال: {وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذَابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} البقرة: ١٦٥.
و إن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير أن يهمل أحدا بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة.
لكن تعقيب الجملة بقوله: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} إلخ يناسب المعنى الأول فإن ارتفاع الأصوات عند الدعوة و الإحضار إنما يكون للتمرد و الاستكبار عن الطاعة و الاتباع.
و قوله: {وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} قال الراغب: الهمس الصوت الخفي و همس الأقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى: {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً}. انتهى. و الخطاب في قوله: {فَلاَ تَسْمَعُ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد كل سامع يسمع و المعنى و انخفضت الأصوات لاستغراقهم في المذلة و المسكنة لله فلا يسمع السامع إلا صوتا خفيا.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل و الحكم الفصل على حسب الوعد و الوعيد الإلهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها.
و قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم و المراد الإذن في
الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده: {وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}: هود: ١٠٥ و قال: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً}: النبأ: ٣٨. و قد مر القول في معنى الإذن في التكلم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب.
و أما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطإ أو خطيئة قضاء لحق الإطلاق و لا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطإ في الاعتقاد و الخطيئة في العمل و طهر نفسه من رجس الشرك و الجهل في الدنيا أو من ألحقه بهم فإن البلاء و الابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ} و للبحث ذيل طويل سيمر بك بعضه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} إن كان ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى {مَنْ أَذِنَ لَهُ} باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم و هم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه بقول مزوق غير مرضي.
و إن كانت راجعة إلى المجرمين فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء و هو ما بين أيديهم و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أو ميتا و هو ما خلفهم فهم محاطون لعلمه و لا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا و قد عنت وجوههم للحي القيوم فلا يستطيعون ردا لحكمه و عند ذلك خيبتهم. و هذا الاحتمال أنسب لسياق الآيات.
قوله تعالى: {وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر و هي شأن كل شيء دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الإلهية كما قال: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن: ١٦، فلا يملك شيء شيئا بحقيقة معنى الكلمة و هو الذلة و المسكنة على الإطلاق و إنما نسبت العنوة إلى الوجوه لأنها أول ما تبدو و تظهر في الوجوه، و لازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه و لا نفوذه فيهم مانع و لا يحول بينه و بين ما أراد بهم حائل.
و اختير من أسمائه الحي القيوم لأن مورد الكلام الأموات أحيوا ثانيا و قد تقطعت عنهم الأسباب اليوم و المناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة و قيامه بكل أمر.
قوله تعالى: {وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَ لاَ هَضْماً} لجزائهم أما قوله: {وَ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان من مؤمن أو كافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة.
و لو كان المراد العموم و أن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا.
و أما قوله: {وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ} إلخ فهو بيان استطرادي لحال المؤمنين الصلحاء جيء به لاستيفاء الأقسام و تتميم القول في الفريقين الصلحاء و المجرمين، و قد قيد العمل الصالح بالإيمان لأن الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات الحبط، و الهضم هو النقص، و معنى الآية ظاهر.
و قد تم باختتام هذه الآية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ} أولا ثم حشرهم و قرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الأرض يوما واحدا بقوله: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} إلخ ثانيا. ثم تسطيح الأرض لاجتماعهم عليها بقوله: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبَالِ} إلخ، ثالثا. ثم طاعتهم و اتباعهم الداعي للحضور بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} إلخ، رابعا. ثم عدم تأثير الشفاعة لإسقاط الجزاء بقوله: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ} إلخ خامسا. ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس و هي مقدمة للحساب و الجزاء بقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ} إلخ سادسا. ثم سلطانه عليهم و ذلتهم عنده و نفوذ حكمه فيهم بقوله: {وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ} سابعا. ثم الجزاء بقوله: {وَ قَدْ خَابَ} إلخ ثامنا، و بهذا يظهر وجه ترتب الآيات و ذكر ما ذكر فيها.