11

تفسير الميزان ج11

تفسير الميزان ج11 15283
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تتمة تفسير سورة هود، بالإضافة إلى سورتي يوسف و الرعد

/۳٩۰
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج۱۱

1

تفسير الميزان ج۱۱

2
  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء الحادي عشر

  •  

  •  

  •  

  • تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

تفسير الميزان ج۱۱

4
  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تمتاز هذه الطبعة عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

  • واضافات و تغییرات هامه من قبل المؤلف

  • ملاحظة: تم تطبيق الصفحات مع طبعة الأعلمي الثالثة المطبوعة في سنة ۱٩۷٣ م

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

تفسير الميزان ج۱۱

5
  • بقية سورة هود 

  • [سورة هود (١١): الآیات ١٠٠الی ١٠٨]

  • {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْقُرى‌ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَ حَصِيدٌ ١٠٠وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ١٠١ وَ كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ اَلْقُرى‌ وَ هِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ١٠٢ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ اَلْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ وَ ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ١٠٣ وَ مَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ١٠٤ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ١٠٥ فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ١٠٦ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ١٠٧ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ١٠٨} 

  • (بيان)

  • فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلي يلخص سنة الله في عباده و ما يستتبعه الشرك في الأمم الظالمة من الهلاك في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة؛ ليعتبر بذلك أهل الاعتبار. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْقُرى‌ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَ حَصِيدٌ} الإشارة إلى ما تقدم من القصص، و "من" تبعيضية أي الذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن و البلاد أو أهلهم نقصه عليك. 

تفسير الميزان ج۱۱

6
  • و قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَ حَصِيدٌ} الحصد قطع الزرع، شبهها بالزرع يكون قائما و يكون حصيدا، و المعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أن من القرى التي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدل عليها بالمرة كقرى قوم لوط حين نزول قصتهم في القرآن كما قال: {وَ لَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} العنكبوت: ٣٥ و قال: {وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} الصافات: ١٣٨، و منها ما انمحت آثاره و انطمست أعلامه كقرى قوم نوح و عاد. 

  • و إن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أن من تلك الأمم و الأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم البتة كأمة نوح و صالح، و منهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا أهل بيت لوط و لم يكن لوط منهم. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم و إهلاكهم إثر شركهم و فسوقهم و لكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا و خرجوا عن زي العبودية، و كلما كان عمل و عقوبة عليه كان أحدهما ظلما إما العمل و إما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة. 

  • فمحصل القول أنا عاقبناهم بظلمهم و لذا عقبه بقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} إلخ.. لأن محصل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم، فالمفرع عليه هو الذي يدل عليه قوله: {وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ} إلخ، و المعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم، التي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير و تدفع عنهم الشر، و لم تغنهم شيئا لما جاء أمر ربك و حكمه بأخذهم أو لما جاء عذاب ربك. 

  • و قوله: {وَ مَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} التتبيب‌ التدمير و الإهلاك من التب و أصله القطع لأن عبادتهم الأصنام كان ذنبا مقتضيا لعذابهم و لما أحسوا بالعذاب و البؤس فالتجئوا إلى الأصنام و دعوها لكشفه و دعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم و تغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك. 

  • و نسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز و هو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إياها، و هو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعو. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ اَلْقُرى‌ وَ هِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 

تفسير الميزان ج۱۱

7
  • الإشارة إلى ما تقدم من أنباء القرى، و ذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة، قاس به مطلق أخذه القرى في أنه أليم شديد، و هذا من قبيل التشبيه الكلي ببعض مصاديقه في الحكم؛ للدلالة على أن الحكم عام شامل لجميع الأفراد و هو نوع من فن التشبيه شائع و قوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} بيان لوجه الشبه و هو الألم و الشدة. 

  • و المعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الأمم الظالمة: قوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و قوم فرعون أخذا أليما شديدا، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها فليعتبر بذلك المعتبرون. 

  • قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ اَلْآخِرَةِ} إلى آخر الآية، الإشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذا أليما شديدا. و أنبأ أن أخذه كذلك يكون، و في ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة و علامة تدل على أن الله سبحانه و تعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بإجرامهم، و أن أخذه سيكون أليما شديدا فيوجب اعتباره بذلك و تحرزه مما يستتبع سخط الله تعالى. 

  • و قوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ} أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس، فالإشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة، «و لذلك أتي بلفظ المذكر» كما قيل، و يمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدأ الخبر. 

  • و وصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال: سيجمع أو يجمع له الناس؛ إنما هو للدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه و لا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإخبار عنه بخبر. 

  • فمشخِّص هذا اليوم أن الناس مجموعون لأجله و اللام للغاية فلليوم شأن من الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد و لا يتخلف عنه متخلف: و للناس شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع، و يمتزج فيه الأول مع الآخر و الآخر مع الأول و يختلط فيه الكل بالبعض و البعض بالكل، و هو حساب أعمالهم من جهة الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية، و بالجملة من حيث السعادة و الشقاوة. 

  • فإن من الواضح أن العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، و يرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضا بما له من 

تفسير الميزان ج۱۱

8
  • الأحوال القلبية، و كذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير و التأثر، و كذلك أعمال الأولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين و أعمال اللاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين، و في المتقدمين أئمة الهدى و الضلال المسئولون عن أعمال المتأخرين، و في المتأخرين الأتباع و الأذناب المسئولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين، قال تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ} الأعراف ٦، و قال: {وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يس: ١٢. 

  • ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل. 

  • و هذا الشأن على هذا النعت لا يتم إلا باجتماع من الناس بحيث لا يشذ منهم شاذ. 

  • و من هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم و جزاءهم فيها بشي‌ء من الثواب و العقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ و تذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة و الجزاء المقضي به هناك من الجنة و النار الخالدتين؛ فإن الذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة، و ما يسكن فيه في البرزخ من جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهيئ للقاء و الحكم، و ليس ما هناك حسابا تاما و لا حكما فصلا و لا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله:

  •  {اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ} المؤمن: ٤٦، و قوله: {يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ} المؤمن: ٧٢ فترى الآية تعبر عن عذابهم بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها و هو أشد العذاب، و تعبر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار و هو الاشتعال و قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} آل عمران: ١٧٠فالآية صريحة في عالم القبر و لم تذكر حسابا و لا جنة الخلد و إنما ذكرت شيئا من التنعم إجمالا. 

  • و قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‌ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المؤمنون: ١٠٠تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب و لهو و الحياة الأخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا 

تفسير الميزان ج۱۱

9
  •  إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت: ٦٤. 

  • و بالجملة الدنيا دار عمل و البرزخ دار تهيؤ للحساب و الجزاء، و الآخرة دار حساب و جزاء، قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اِغْفِرْ لَنَا} التحريم: ٨ فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور و هيئوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم و إذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو و اللعب. 

  • و قوله: {وَ ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة. {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ} إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس و إطلاقه يشعر بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس و الملائكة و الجن، و الآيات الكثيرة الدالة على حشر الجن و الشياطين و حضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} أي إن لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله و الله يحكم لا معقب لحكمه و لا راد لقضائه، و لا يؤخر اليوم إلا لأجل يعده فإذا تم العدد و حل الأجل حق القول و وقع اليوم. 

  • قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فاعل {يَأْتِ} ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ} العنكبوت: ٥. 

  • و ذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة و الجزاء، و لازمه إرجاع الضمير إلى القيامة و الجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، و هو تكلف لا حاجة إليه. 

  • و ذكر آخرون - كما في تفسير صاحب المنار - أن المعنى: في الوقت الذي يجي‌ء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو فاعل يأتي. 

  • و هو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في الوقت الذي يجي‌ء فيه ذلك الوقت المعين أو اليوم الذي يجي‌ء فيه ذلك اليوم المعين، و التفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصا و معينا و الآخر عاما و مرسلا لا ينفع في دفع محذور ظرفية 

تفسير الميزان ج۱۱

10
  • الشي‌ء لنفسه و مظروفية الزمان - و هو ظرف بذاته - لزمان آخر و هو محال لا ينقلب ممكنا بتغيير اللفظ. 

  • و ما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإطلاق و التحديد مجرد تصوير لا تغني شيئا فإن اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف و ذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقا و تحديدا و سعة و ضيقا، نعم ربما يؤخذ الزمان متحدا بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثا من الحوادث و تلغى ظرفيته فيجعل مظروفا لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجة و يوم عاشوراء في المحرم، قال تعالى: {وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ} الجاثية: ٢٧ فإن صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم. 

  • و قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله سبحانه، و حذف أحد التاءين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي. 

  • و الباء في قوله: {بِإِذْنِهِ} للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم كما في قوله: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ} النبأ: ٣٨ و المعنى لا تتكلم نفس بشي‌ء من الكلام إلا بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما اختاره و أراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن. 

  • و قد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرّفة له، و ليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس و لا يحدث أي حادث من الحوادث دائما إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة. 

  • و قد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصة به يعمه و غيره كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى‌ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ} المؤمن - ١٦ و قوله {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} المؤمن: ٣٣ و قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الانفطار: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات، و من المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شي‌ء دائما، و ليس لشي‌ء منه عاصم دائما، و لا يملك نفس لنفس شيئا إلا بإذنه دائما، و له الخلق و الأمر دائما. 

  • لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا 

تفسير الميزان ج۱۱

11
  •  عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢ و قوله حكاية عن المجرمين: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} الم السجدة: ١٢، و قوله: {وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } إلى أن قال {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللَّهِ مَوْلاَهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } يونس: ٣٠أن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد و يزيل الستر و الحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهورا تاما و ينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة و عند ذلك لا يختلج في صدورهم شك أو ريب، و لا يهجس قلوبهم هاجس، و يعاينون أن الله هو الحق المبين، و يشاهدون أن القوة لله جميعا، و أن الملك و العصمة و الأمر و القهر له وحده لا شريك له. 

  • و تسقط الأسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا و ينقطع البين و تزول روابط التأثير التي بين الأشياء و عند ذلك تنتثر كواكب الأسباب و تنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، و لا تبقى لذي ملك ملك يستقل به، و لا لذي سلطان و قوة ما يتعزز معه، و لا لشي‌ء ملجأ و ملاذ يلجأ إليه و يلوذ به و يعتصم بعصمته، و لا ستر يستر شيئا عن شي‌ء و يحجبه دونه، و الأمر كله لله الواحد القهار لا يملك إلا هو۱

  • و هذا معنى قوله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى‌ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‌ءٌ} و قوله: {مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} و قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} إلى غير ذلك من الآيات و هي جميعا تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست إلا لهوا و لعبا أن هذه الأسباب تملك معنى التأثير، و تتلبس بأوصاف الملك و السلطنة و القوة و العصمة و العزة و الكرامة تلبسا حقيقيا استقلاليا، و أنها هي المعطية و المانعة و النافعة و الضارة لا بغية في سواها و لا خير فيما عداها. 

  • و من هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} و قد تكرر هذا المعنى في آيات أخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً} النبأ: ٣٨، و قوله: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ} 

    1. و في هذه الأوصاف آيات كثيرة جداً لا تخفى على الباحث المتدبر في كلامه تعالى.

تفسير الميزان ج۱۱

12
  • المرسلات: ٣٥. 

  • و ذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ} الطارق - ٩ و يقول: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ} البقرة: ٢٨٤ فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال و الأعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية. 

  • فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس و مطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، و ما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، و التكلم الذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع و الاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا، و إنما الباعث لنا على وضعها و تداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به. 

  • و التكلم من الأسباب الاجتماعية نتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة و هو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان، و لو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية و يعاينها كما يهتدي مثلا البصر إلى الأضواء و الألوان و اللمس إلى الحرارة و البرودة و الخشونة و الملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات و التكلم بها و لا كان بيننا ما يسمى كلمة أو كلاما، و كذا لو كان النوع الإنساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر و لا انعقدت له نطفة. 

  • كل ذلك لأن النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة و غيب و هو المحسوس المعاين و ما هو وراء الحس، و الناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد و الاطلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم و النطق و لو تبرعنا إطلاق الكلام على شي‌ء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم و اطلاع ذلك البعض على ذلك. 

  • و هذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله: {يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ}، و هذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: {لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاَ جَانٌّ} إلى أن قال: {يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَ اَلْأَقْدَامِ:} الرحمن: ٤١. 

تفسير الميزان ج۱۱

13
  • فإن قلت فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب و الزور هناك و قد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى: {وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ} الأنعام: ٢٤ و قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‌ شَيْ‌ءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ} المجادلة - ١٨. 

  • قلت: هذا من ظهور الملكات كما أن الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه و يكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، و هو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية، و ربما يتكلم بلسانه أيضا بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة و الباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم و النطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير. 

  • و هؤلاء المشركون و المنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا و عاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات و العادات النفسانية و إلا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربه و هو تعالى يعاين باطنه و ظاهره و أعماله محضرة، و صحيفته منشورة، و الأشهاد قائمة و جوارحه بما عملت ناطقة، و الأسباب و منها الكذب ساقطة هالكة، و قد انقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغر الله سبحانه و تعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة، و ينجو بذلك. 

  • و هذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم، قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ} القلم: ٤٣ فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، و لو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه. 

  • فإن قلت: لو كان كما ذكرت و لم يكن هناك إلى التكلم حاجة و لا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} و ما في معناها من الآيات؟ و ما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم. 

  • قلت: لا ريب أن الإنسان و هو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله 

تفسير الميزان ج۱۱

14
  • نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله و تركه و هما بالقياس إليه سواء، فإذا اقترف الفعل مثلا تعين أحد الجانبين تعينا اضطراريا لا خبر عن الاختيار بعد ذلك، و الآثار الضرورية التي تترتب على الفعل و منها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقق. 

  • و النشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإنساني و ليس هناك إلا الإنسان و عمله الذي أتى به و قد لزمه لزوما ضروريا، و ما يرتبط به العمل من الصحائف و الأشهاد و ربه الذي إليه يرجع الأمر و بيده الحكم الفصل، فإذا دعي استجاب اضطرارا، كما قال تعالى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} طه: ١٠٨ و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون، و إذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم الدنيوي الذي كان ناشئا عن اختياره و كاشفا عن أمر خبي‌ء في نفسه فقد ختم على فمه و لا سبيل له إلى التكلم بما يريد، و كيفما يريد، قال تعالى: {اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‌ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يس: ٦٥، و قال: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} المرسلات: ٣٦ فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار و لتحققه إمكان وجود و عدم، و أما العمل السيئ المفروغ منه و الجزاء الذي تعقبه ضرورة فلا مجرى للعذر فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} التحريم: ٧ أي إن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه، و لا يتغير ذلك بعذر و لا تعلل و إنما كان يتغير لو كان جزاء دنيويا أمره بيد الحاكم المجازي يختار فيه ما يراه و يشاؤه. 

  • و بالجملة: إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه و مطابقا لما عنده من العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة، و لو تكلم كذبا كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدم و عملا من أعماله يظهر ظهورا لا كلاما يعد جوابا لسؤال فيختم على فيه و يستنطق سمعه و بصره و جلده و يده و رجله و يحضر العمل الذي عمله و يستشهد الأشهاد و الله على كل شي‌ء شهيد. 

  • فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أن التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفا اختياريا عما في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإن هذا التكلم الاختياري الذي هو من 

تفسير الميزان ج۱۱

15
  • لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلمه و إنما هو منوط بإذن الله و مشيئته، و إن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الإنسان و سائر أفعاله و إحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه و رجوع الغيبِ شهادةً و عليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإلهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة. 

  • و ذكر بعضهم أن معنى قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعا لأن الناس ملجئون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح و أما غير القبيح فهو مأذون فيه. 

  • و فيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن و لا يؤذن في القبيح، و الإلجاء الذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن و القبيح مع كون كليهما اختياريين لأن الحسن و القبح إنما يُعَنوَن بهما الأفعال الاختيارية. 

  • على أن الله تعالى يقول: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} و من المعلوم أن الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شي‌ء. 

  • و قال آخرون: إن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة و وسيلة إلا بإذنه. 

  • و هذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ} طه: ١٠٩ و فيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه و لو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله: {لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً}

  • و قد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة و الآيات النافية له. 

  • توضيحه: أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان: صنف ينفي التكلم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله: {لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاَ جَانٌّ} الرحمن: ٣٩، 

تفسير الميزان ج۱۱

16
  • و قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} النحل: ١١١. 

  • و صنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ} المرسلات: ٣٥، و قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَ لاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} الشعراء: ١٠١. 

  • و الصنف الأول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ} النبأ: ٣٨ و الصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم بإذنه حتى يفيد أنهم ملجئون في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون و يريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما يختص بيوم القيامة من الوصف. 

  • و بذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: و نفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا و المثبتة له مطلقا انتهى. و قد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ} و قوله: {اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‌ أَفْوَاهِهِمْ} الآية. 

  • و ذلك أنه - أولا - لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقا، و ليس كذلك. 

  • و - ثانيا - لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختص به. 

  • و قد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر و هو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، و لم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، و قد ورد ذلك في بعض الروايات. 

  • و هذا الجواب و إن كان بظاهره متميزا من الوجه السابق إلا أنه لا يستغني عن مسألة الإذن فهو في الحقيقة راجع إليه. 

  • و قد يجاب بأن المراد بعدم التكلم و النطق أنهم لا ينطقون بحجة، و إنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، و لوم بعضهم بعضا، و طرح بعضهم الذنوب على بعض، و هذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام و لا يشتمل على حجة: ما تكلمت بشي‌ء و لا نطقت بشي‌ء 

تفسير الميزان ج۱۱

17
  • فسمي من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لأنه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عد الكلام الذي لا جدوى فيه غير كلام ادعاء. 

  • و فيه: أنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ} و أما مثل قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فلا يرجع إلى معنى محصل. 

  • و قد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر و الدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه، و يؤذن لهم في بعض آخر منه. 

  • و فيه: أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، و على قولهم يكون مثلا معنى قوله: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ} هذا يوم لا ينطقون في بعضه و هو خلاف الظاهر، و يرد نظير الإشكال على الوجه الثاني الذي أجيب فيه عن الإشكال باختلاف المواقف فإن مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني و هذا الوجه الرابع واحد و إنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة و هذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى و عدم اشتماله عليه. 

  • و قد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: أن الاستثناء في قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى و محصل الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدرة من الإنسان، و الجائز الواقع ما يكون بإذنه تعالى. 

  • و فيه: أن تكلم الإنسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستندا إلى قدرته محضا في وقتٍ قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمدا من قدرة الله تعالى و إذنه فكلما تكلم الإنسان أو فعل فعلا بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى و يعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحدا منها هو إذنه تعالى، و يصير الاستثناء متصلا و يرجع إلى ما قدمناه من الوجه أولا أن التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي، و الجائز ما كان مستندا إلى السبب الإلهي فقط و هو إذنه و إرادته، و الظرف ظرف الاضطرار و الإلجاء لكنهم يرون 

تفسير الميزان ج۱۱

18
  • أن سبب الإلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجئون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف و الإقرار و قول الصدق و اتباع الحق، و قد قدمنا أن السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل و بروز الحقائق عند ذلك. 

  • قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} السعادة و الشقاوة متقابلان فسعادة كل شي‌ء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه و يلتذ به فهي في الإنسان - و هو مركب من روح و بدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنية و الروحية فيتنعم به و يلتذ، و شقاوته أن يفقد ذلك و يحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم و الملكة، و الفرق بين السعادة و الخير إن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص و الخير أعم. 

  • و ظاهر قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين، و هو الملائم ظاهرا لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن و كافر و مستضعف كالأطفال و المجانين و كل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل و الاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم و هو أنه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، و أنه ينتهي إلى جنة أو نار. 

  • و المستضعفون و إن كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة و من استحق بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى و لا يدوم عليهم الحال بالإبهام و الانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنة أو نار، قال تعالى: {وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: ١٠٦ و لازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء و الأشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي. 

  • فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر: {وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ} الشورى: ٨ حيث إن الجملة {فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ} بمعونة السياق تفيد الحصر و إن كانت وحدها بمعزل من الدلالة. 

  • و الذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء و إما سعيد متلبس بالسعادة و أما إن هذين الوصفين بماذا ثبتا لموضوعيهما؟ و أنهما هل هما ذاتيان 

تفسير الميزان ج۱۱

19
  • لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شي‌ء من ذلك غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإيمان و العمل الصالح، و الندب إلى اختيار الطاعة و ترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى: {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس: ٢٠. 

  • و بذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة و الشقاوة للإنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك، قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد و على بعضهم بأنه شقي، و من حكم الله عليه بحكم و علم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه، و إلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا و علمه جهلا، و ذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا، و أن الشقي لا ينقلب سعيدا. 

  • قال: و روي عن عمر أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} قلت: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ على شي‌ء قد فرغ منه أم على شي‌ء لم يفرغ منه؟ فقال: على شي‌ء قد فرغ منه يا عمر و جفت به الأقلام و جرت به الأقدار و لكن كلٌّ ميسر لما خلق له. قال و قالت المعتزلة: روي عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله و سعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات. 

  • و أيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله و إنما سعد بعمله و لكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله و قدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا. انتهى. 

  • و هو من عجيب المغالطة؛ أما الذي سماه دليلا قاطعا فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته و أثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم و هو الآن، كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضي‌ء بعد كم ساعة - و هو حكم - حق لا يوجب إضاءة الهواء ليلا. و حكمنا بأن الصبي سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم. 

  • فقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} و هو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم القيامة و آخرون سعداء يوم القيامة إن كان حكما بشقاوتهم و سعادتهم كذلك فإنما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا و كذا يوم القيامة و من المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في 

تفسير الميزان ج۱۱

20
  • ظرفه و إلا لزم أن يكون خبره تعالى كذبا و علمه جهلا لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا و كذا هذا الآن، و لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا و كذا دائما، و هو ظاهر. 

  • و ليت شعري ما الذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائما أو كافرون دائما و في الجنة قبل يوم القيامة و في النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها و في غيرها كالشقاوة و السعادة على حد سواء. 

  • و أما ما أورده من الرواية و فيها قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : «و لكن كل ميسر لما خلق له» فلا دلالة لها على ما ذكره أصلا و سيجي‌ء توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • و أما قوله أخيرا: «لا نزاع أنه إنما شقي بعمله و إنما سعد بعمله و لكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله و قدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا» يريد أن تعلق القضاء بالعمل ـ و من المحال أن يتخلف متعلقه عما قضى عليه ـ توجب صيرورته ضروري الثبوت، و يكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريا متساوي الفعل و الترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه و لا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة، و إنما بين الفاعل و فعله، و بين الفعل و الأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتفاقية جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك و ذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين و لا تأثير حقيقي لأحدهما في الآخر. 

  • و هذه مغالطة أخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب و نسبة الإمكان فإن للعمل علة تامة يجب بها وجوده، و هي إرادة الإنسان، و سلامة أدوات العمل منه، و وجود مادة قابلة للعمل، و الزمان، و المكان، و عدم الموانع و العوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت و تمت و كملت كان ثبوت العمل ضروريا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، و له إلى كل واحد من أجزاء علته التامة و من جملتها إرادة الإنسان نسبة هي نسبة الإمكان فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الإرادة فقط بل يمكن و إنما يجب لو انضمت إليه بقية أجزاء العلة. 

تفسير الميزان ج۱۱

21
  • فالعمل المتحقق بضرورة العلة التامة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلة التامة، و نسبة الإمكان إلى إرادة الإنسان، و لا تبطل نسبته الوجوبية إلى العلة التامة نسبته الإمكانية إلى إرادة الإنسان، و لا تقلبها عن الإمكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الإنسان بالإمكان دائما كما أن نسبته إلى المجموع الحاصل من الإنسان و بقية أجزاء العلة التامة بالوجوب دائما و طرفا الفعل و الترك متساويان بالنسبة إلى الإنسان أبدا كما أن أحد الطرفين من الفعل و الترك متعين بالنظر إلى العلة التامة أبدا. 

  • ينتج أن الفعل اختياري للإنسان في عين أنه لا يخلو في وجوده عن علة تامة موجبة له، و القضاء الحتم من صفاته تعالى الفعلية منتزع عن مقام الفعل و هو سلسلة العلل المترتبة بحسب نظام الوجود، و كون المعلولات ضرورية بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كل مقضي بالنسبة إلى ما تعلق به من القضاء الإلهي لا ينافي كونه اختياريا للإنسان نسبته إليه نسبة الإمكان. فقد بان أنه أخذ نسبة العمل إلى الإنسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهم أن كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإلهي يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الإنسان لا ممكنه. 

  • و بتقرير آخر واضح: تعلقُ علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيد بالنار لأنه الذي تعلق به العلم الحق، لا وجوب تحقق الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، و كذا علمه تعالى بأن الإنسان سيعمل باختياره و إرادته عملا أو أنه سيشقى لعمل اختياري كذا يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن و سواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه بأن إنسانا كذا سيشقى بكفره اختياريا يستوجب تحقق الشقوة التي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا. 

  • فاتضح أن علمه تعالى بعمل الإنسان لا يستوجب بطلان الاختيار و ثبوت الإجبار و إن كان معلومه تعالى لا يتخلف عن علمه، له الحكم لا معقب لحكمه. 

  • قوله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ} قال في المجمع: الزفير أول نهاق الحمار و الشهيق‌ آخر نهاقه انتهى. و قال في الكشاف: الزفير إخراج 

تفسير الميزان ج۱۱

22
  • النفس و الشهيق رده انتهى. و قال الراغب في المفردات، الزفير تردد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه. و قال: الشهيق‌ طول الزفير و هو رده و الزفير مده، قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ} ، {سمعوا لها تغيظا و زفيرا} و قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً} و أصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى. 

  • و المعاني - كما ترى متقاربة - و كأن في الكلام استعارة، و المراد أنهم يردون أنفاسهم إلى صدورهم ثم يخرجونها فيمدونها برفع الصوت بالبكاء و الأنين من شدة حر النار و عظم الكربة و المصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه. 

  • و كان الظاهر من سياق قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} أن يقال بعده: فأما الذي شقي ففي النار له فيها زفير و شهيق «إلخ» لكن السياق السابق عليه الذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ وَ ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} مبني على الكثرة و الجماعة، و مقتضاها المضي على هيئة الجمع: الذين شقوا و الذين سعدوا، و إنما عبر بقوله، شقي و سعيد لما قيل قبله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} فاختير المفرد المنكر ليفيد النفي بذلك الاستغراق و العموم فلما حصل الغرض بقوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} عاد السياق السابق المبني على الكثرة و الجماعة فقيل: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا} بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث. 

  • قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. بيان لمكث أهل النار فيها كما أن الآية التالية: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} بيان لمكث أهل الجنة فيها و تأييد لاستقرارهم في مأواهم. 

  • قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبري الشي‌ء من اعتراض الفساد و بقاؤه على الحالة التي هو عليها، و كل ما يتباطأ عنه التغيير و الفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي۱: خوالد و ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال خلد يخلد خلودا قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} و الخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الذي يبقى من الإنسان على 

    1. الأثافي، جمع الأثفية بضم الهمزة و هي الحجر الذي توضع عليه القدر و هما أثفيتان.

تفسير الميزان ج۱۱

23
  • حالته فلا يستحيل ما دام الإنسان حيا استحالة سائر أجزائه، و أصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة، و منه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، و دابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها ثم أستعير للمبقي دائما. 

  • و الخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}

  • و قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، و قيل: مقرطون بخلدة، و الخلدة ضرب من القرطة، و إخلاد الشي‌ء جعله مبقى و الحكم عليه بكونه مبقى، و على هذا قوله سبحانه: {وَ لَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ} أي ركن إليها ظانا أنه يخلد فيها. انتهى. 

  • و قوله: {مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ} نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود و المعنى دائمين فيها دوام السماوات و الأرض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات و الأرض لا تدوم دوام الأبد و هي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة و النار بقاء لا إلى فناء و زوال. 

  • و من الآيات الناصة على الأول قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} الأحقاف: ٣، و قوله: {يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء: ١٠٤، و قوله: {وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الزمر: ٦٧، و قوله: {إِذَا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} الواقعة: ٦. 

  • و منها في النص على الثاني قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} التغابن: ٩، و قوله: {وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً} الأحزاب: ٦٥. 

  • و على هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين: 

  • إحداهما تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات و الأرض و هما غير مؤبدتين لما مر من الآيات. 

تفسير الميزان ج۱۱

24
  • و ثانيتهما تحديد الأمر الخالد الذي تبتدئ من يوم القيامة و هو كون الفريقين في الجنة و النار و استقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة و هو السماوات و الأرض، و هذا الإشكال الثاني أصعب من الأول لأنه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنة و النار معا بخلاف الأول. 

  • و الذي يحسم الإشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضا و سماوات و إن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} إبراهيم: ٤٨، و قال حاكيا عن أهل الجنة: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} الزمر: ٧٤، و قال يعد المؤمنين و يصفهم: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ} الرعد: ٢٢. 

  • فللآخرة سماوات و أرض كما أن فيها جنة و نارا و لهما أهلا و قد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده، و قال: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} النحل: ٩٦ فحكم بأنها باقية غير فانية. 

  • و تحديد بقاء الجنة و النار و أهلهما بمدة دوام السماوات و الأرض إنما هو من جهة أن السماوات و الأرض مطلقا و من حيث أنهما سماوات و أرض مؤبدة غير فانية، و إنما تفنى هذه السماوات و الأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود و أما السماوات التي تظل الجنة مثلا و الأرض التي تقلها و قد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، و بذلك يندفع الإشكالان جميعا. 

  • و قد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالا حيث قال: و الدليل على أن لها سماوات و أرضا قوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ} و قوله سبحانه: {وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} و لأنه لا بد لأرض الآخرة مما تقلهم و تظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، و كل ما أظلك فهو سماء انتهى. 

  • و إن كان الوجه الذي أشار إليه ثانيا سخيفا لأنه إثبات للسماء و الأرض من جهة الإضافة و أن الجنة و النار لا بد أن يتصور لهما فوق و تحت فيكون الجنة و النار أصلا و سماؤهما و أرضهما تبعين لهما في الوجود، و لازمه تحديد بقاء سمائهما و أرضهما بمدة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية. 

تفسير الميزان ج۱۱

25
  • على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة و النار أرض و سماء و أما السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإشكال في السماوات على حاله. 

  • و بما تقدم يندفع أيضا ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: و فيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده و دوامه و من عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب و العقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى. 

  • و مراده أن الآية تشبه دوام الجنة و النار بأهلهما بدوام السماوات و الأرض فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة و أرضها و لا يعرف أكثر الخلق وجودها و دوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى و هو غير جائز في الكلام البليغ. 

  • و جوابه: أنا إنما عرفنا دوام الجنة و النار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات و أرض لهما و كذا أبدية الجميع من كلامه فأي مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالأخرى في كلامه، و إن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الأخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج. 

  • و يندفع به أيضا ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات و الأرض هذه الأجرام المعهود عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخصا. 

  • وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية التي تعطيها اللغة و العرف، و أما في مقاصدها و تشخيص المصاديق التي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتبع فيها هو التدبر الذي أمر به الله سبحانه و إرجاع المتشابه إلى المحكم و عرض الآية على الآية؛ فإن القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض و يصدق بعضه بعضا كما في الروايات، فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنه واحد أحد أو عالم قادر حي مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق، بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى و يكشفه التدبر البالغ من معانيها، و قد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب. 

  • و قد وردت في الروايات و في كلمات المفسرين توجيهات أخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه و ليكن الذي أوردناه أولها. 

تفسير الميزان ج۱۱

26
  •  الوجه الثاني: أن المراد سماوات الجنة و النار و أرضهما أي ما يظلهما و ما يقلهما فإن كل ما علاك و أظلك فهو سماء و ما استقرت عليه قدمك فهو أرض، و بعبارة أخرى المراد بهما ما هو فوقهما و ما تحتهما. 

  • و هذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفا، و قد عرفت الإشكال فيه. على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدم. 

  • الوجه الثالث: أن المراد ما دامت الآخرة و هي دائمة أبدا كما أن دوام السماء و الأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، و لعل المراد أن قوله: «ما دامت السماوات و الأرض» موضوع وضع التشبيه كقولك: كلمته تكليم المستهزئ الهازى‌ء به أي مثل تكليم من يستهزئ و يهزأ به. 

  • و فيه: أنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، و لو أريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ. 

  • الوجه الرابع: أن المراد به التبعيد و إفادة الأبدية لا أن المراد به التحديد بمدة بقاء السماوات و الأرض بعينها فإن للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأبيد من غير أن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا و كذا ما اختلف الليل و النهار، و ما ذر شارق، و ما طلع نجم، و ما هبت نسيم، و ما دامت السماوات و قد استراحوا إليها و إلى أشباهها ظنا منهم أن هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبدا ثم استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد. 

  • و فيه: أنهم إنما استعملوها في التأبيد و أكثروا منه ظنا منهم أن هذه الأمور دائمة مؤبدة، و أما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية و يعد الإيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة تصورت. كيف لا؟ و قد قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} الأحقاف: ٣ و كيف يصح مع ذلك أن يقال: إن الجنة و النار خالدتان أبدا ما دامت السماوات و الأرض. 

  • الوجه الخامس: أن يكون المراد أنهم خالدون بمدة بقاء السماوات و الأرض التي 

تفسير الميزان ج۱۱

27
  • يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك، و يخلدهم و يؤبد مقامهم، و هذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا و كذا سنة، ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} النبأ: ٢٣ أي أحقابا ثم يزادون على ذلك. 

  • و فيه: أنه على الظاهر مبني على استفادة بعض المدة من قوله: {مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ} و البعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} و دلالته على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا. 

  • الوجه السادس: أن المراد بالنار و الجنة نار البرزخ و جنتها و هما خالدتان ما دامت السماوات و الأرض، و إذا انتهت مدة بقاء السماوات و الأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر. 

  • و فيه: أنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة و توصيفها بما له من الأوصاف، و من المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس، و أنه يوم مشهود، و أنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا اتصل بأخص أوصافه و أوضحها و هو الجزاء بالجنة و النار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة و النار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به. 

  • على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى: {وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذَابِ اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ} المؤمن: ٤٦. 

  • الوجه السابع: أن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان و بالكون في الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء. و ولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالة على تجسم الأعمال. 

  • فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار و ربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية و التوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره و المجرم يتوب عن إجرامه، و السعداء يدخلون الجنة بسعادتهم و ربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان و أخلدوا إلى الأرض و اتبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتد كافرا و الصالح يعود طالحا. 

تفسير الميزان ج۱۱

28
  • و فيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات تعد ما ليوم القيامة من الأوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب و تطير العقول باستماعها و التفكر فيها لتنذر به أولي الاستكبار و الجحود من الكفار و يرتدع به أهل المعاصي و الذنوب. 

  • فيستبعد أن يذكر فيها أنه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود و يوم لا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار و أهل المعاصي في نار منذ كفروا و أجرموا إلى يوم القيامة، و أهل الإيمان و العمل الصالح في جنة منذ آمنوا و عملوا صالحا فإن هذا البيان لا يلائم السياق - أولا - من جهة أن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما قبله المنتهي إليه، و - ثانيا - من جهة أن الآيات مسوقة للإنذار و التبشير، و هؤلاء الكفار و المجرمون أهل الاستكبار و الطغيان لا يعبئون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسهم، و لا يرون لها قيمة، و لا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة و الرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية و هو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن. 

  • و هاهنا وجوه أخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} طوينا ذكرها هاهنا إيثارا للاختصار لأنها تشترك مع الوجوه الآتية التي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإشكال فلنكتف بذلك. 

  • و قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء مما سبقه من حديث الخلود في النار، و نظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنة، و {مَا} في قوله: {مَا شَاءَ رَبُّكَ} مصدرية و التقدير - على هذا - إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم و لكن يضعفه قوله بعد: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فإن {مَا} هاهنا موصولة، و المراد بقوله {مَا شَاءَ} و قوله: {لِمَا يُرِيدُ} واحد. 

  • و إما موصولة و الاستثناء من مدة البقاء المحكوم بالدوام الذي يستفاد من السياق، و المعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلا ما شاء ربك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين و المعنى هم جميعا خالدون فيها إلا من شاء الله أن يخرج منها و يدخل في الجنة فيكون تصديقا لما في الأخبار أن المذنبين و العصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها و يدخلون الجنة بالآخرة للشفاعة، فإن 

تفسير الميزان ج۱۱

29
  • خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم و صحة الاستثناء. 

  • و يبقى الكلام في إيقاع {مَا }في قوله {مَا شَاءَ} على من يعقل و لا ضير فيه و إن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ } النساء - ٣. 

  • و الكلام في الآية التالية {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا} إلخ، نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أن الاستثناء في آية الجنة يعقبه قوله {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} و لازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع و المعنى أن أهل الجنة فيها أبدا إلا أن يخرجهم الله منها لكن العطية دائمية و هم غير خارجين و الله غيرُ شاءٍ ذلك أبدا. 

  • فيكون الاستثناء مسوقا لإثبات قدرة الله المطلقة و أن قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنة الخالدة و سلطنته لا تنفد و ملكه لا يزول و لا يبطل و أن الزمان بيده، و قدرتُه و إحاطته باقية على ما كانت عليه قبل فله تعالى أن يخرجهم من الجنة و إن وعد لهم البقاء فيها دائما لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده و الله لا يخلف الميعاد. 

  • و الكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنة لوحدة السياق بالمقابلة و المحاذاة و إن اختتمت الآية بقوله {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} و فيه من الإشارة إلى التحقق ما لا يخفى. 

  • فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنة لا يخرجون منها أبدا إلا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنه على كل شي‌ء قدير و لا يوجب فعل من الأفعال إعطاء أو منع سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأن قدرته مطلقة غير مقيدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى {وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ } إبراهيم - ٢٧ و قال {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} الرعد - ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و لا منافاة بين هذا الوجه و بين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشية الله كما لا يخفى. 

تفسير الميزان ج۱۱

30
  • هذا وجه في الاستثناء و هنا وجوه أخر أنهى الجميع في مجمع البيان، إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أولها. 

  • و ثانيهما: أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنة و التقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثني من القليل و على هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربك كما يقال ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد. 

  • و فيه: أنه مبني على عدم إفادة قوله: {مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ} الدوام و الأبدية و قد عرفت خلافه. 

  • و ثالثها: أن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنهم ليسوا في جنة و لا نار و مدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت و الحياة لأنه تعالى لو قال خالدين فيها أبدا و لم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار و الجنة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة. 

  • فإن قيل كيف يستثني من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها فالجواب أن ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل الدخول فيها. 

  • و فيه: أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ على أن هذا الوجه بظاهره مبني على إفادة قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} الشقاوة و السعادة الجبريتين من غير اكتساب و اختيار و قد عرفت ما فيه. 

  • و رابعها: أن الاستثناء الأول متصل بقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ} و تقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و لا يتعلق الاستثناء بالخلود و في أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم و إنما دل عليه قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}

تفسير الميزان ج۱۱

31
  • و فيه: أنه قطع لاتصال السياق و وحدته من غير دليل و فيه أخذ {إِلاَّ} الأولى بمعنى سوى و {إِلاَّ} الثانية بمعنى الاستثناء على أنه لا قرينة هناك على تعلق {إِلاَّ} الأولى بقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ} و لا أن قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} يدل على ما ذكره فإنه إنما يدل على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها. 

  • ثم أية فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم و إظهار ذلك للسامعين و المقام مقام التطميع و التبشير و الظرف ظرف الدعوة و الترغيب فهذا من أسخف الوجوه. 

  • و خامسها: أن {إِلاَّ} بمعنى الواو و إلا كان الكلام متناقضا و المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض و ما شاء ربك من الزيادة على ذلك. 

  • و فيه: أن كون {إِلاَّ} بمعنى الواو لم يثبت و إنما ذكره الفراء لكنهم ضعفوه على أن الوجه مبني على عدم إفادة التقدير و التحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام و قد عرفت ما فيه. 

  • و سادسها: أن المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل التوحيد و هم الذين ضموا إلى إيمانهم و طاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم منها إلى الجنة و إيصال ثواب طاعاتهم إليهم. 

  • و أما الاستثناء الذي في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لأن من ينقل من النار إلى الجنة و يخلد فيها لا بد في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم من حاله فكأنه قال إنهم في الجنة خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار. 

  • قالوا: و الذين شقوا في هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم و إنما أجري عليهم كل من الوصفين في الحال الذي يليق به ذلك فإذا أدخلوا في النار و عوقبوا فيها فهم أهل شقاء و إذا أدخلوا في الجنة و أثبتوا فيها فهم أهل سعادة، و نسبوا هذا القول إلى ابن عباس و جابر بن عبد الله و أبي سعيد الخدري من الصحابة و جماعة من التابعين. 

  • و فيه: أنه لا يلائم السياق فإنه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنه يوم مجموع له الناس قسم أهل الجمع إلى قسمين بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} و من المعلوم أن 

تفسير الميزان ج۱۱

32
  • قوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا} إلخ، و قوله: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا} مبدوين بأما التفصيلية مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} و لازم ذلك كون المراد بالذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصة و المراد بالذين سعدوا جميع أصحاب الجنة لا خصوص من أخرج من النار و أدخل الجنة. 

  • اللهم إلا أن يقال: المراد بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ } أيضا وصف طائفة خاصة بأعيانهم كما أن المراد بالذين شقوا و الذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم و المعنى أن بعض أهل الجمع شقي و سعيد معا و هم الذين أدخلوا النار و استقروا فيها خالدين ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها و يدخلهم الجنة و يسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنة. 

  • لكن ينتقل ما قدمناه من الإشكال حينئذ إلى ما ادعي من معنى قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامة لا يساعد على إرادة طائفة خاصة منهم بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} أولا ثم تفصيل حالهم بتفريقهم و هم جماعة واحدة بعينهم و إيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات و الأرض ثم استثناءين ليس المراد بهما إلا واحد و أي فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى و تعقيدا في النظم؟

  • و يمكن أن يقرر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال المراد بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} تقسيم عامة أهل الجمع إلى الشقي و السعيد و المراد بقوله: {اَلَّذِينَ شَقُوا} جميع أهل النار و بقوله: {اَلَّذِينَ سُعِدُوا} جميع أصحاب الجنة و يكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفساق من أهل التوحيد الذين يخرجهم الله تعالى من النار و يدخلهم الجنة و حينئذ يسلم من جل ما كان يرد على الوجه السابق من الإشكال. 

  • و سابعها: أن التعليق بالمشية إنما هو على سبيل التأكيد للخلود و التبعيد للخروج لأن الله سبحانه لا يشاء إلا خلودهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها. 

  • و هذا الوجه يشارك الوجه الأول في دعوى أن الاستثناء في الموردين غير مسوق 

تفسير الميزان ج۱۱

33
  • لنقض الخلود غير أن الوجه الأول يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهية و هذا الوجه يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان أن الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله انتقاضه و لن يشاء أصلا. 

  • و هذا هو وجه الضعف فيه فإن قوله و لن يشاء أصلا لا دليل عليه، هب أن قوله في أهل الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} يشعر أو يدل على ذلك، لكن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} لا يشعر به و لا يدل عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر. 

  • و ثامنها: أن المراد به استثناء الزمان الذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة و كذا في الطوائف الذين يدخلون الجنة فإنه تعالى يقول {وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‌ جَهَنَّمَ زُمَراً } ، {وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً} فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة و لا بد أن يقع بينهما تفاوت في الزمان و هو الذي يستثنيه تعالى بقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} و نقل الوجه عن سلام بن المستنير البصري. 

  • و فيه: أن الظاهر من قوله: {فَفِي اَلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ} و كذا في قوله: {فَفِي اَلْجَنَّةِ خَالِدِينَ} إلخ، أن الوصف ناظر إلى مدة الكون في النار أو الجنة من جهة النهاية لا من جهة البداية. 

  • على أن المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنة على أي حال هو يوم القيامة، و لا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة و التفاوت الزماني الحاصل من ذلك. 

  • و تاسعها: أن المعنى كونهم خالدين في النار معذبين فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، و قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان، عن شيخنا أبي جعفر الطوسي في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم. 

  • و فيه: أن مرجعه إلى الوجه الثاني المبني على أخذ {إِلاَّ} بمعنى سوى مع اختلاف ـ 

تفسير الميزان ج۱۱

34
  • ما في التقرير، و قد عرفت ما يرد عليه. 

  • و عاشرها: أن المراد إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الذين شقوا، و التقدير فأما الذين شقوا فكائنون في النار إلا من شاء ربك، و الظاهر أن هذا القائل يوجه الاستثناء في ناحية أهل الجنة: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا} - إلى قوله - {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} بأن المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنة كما تقدم في بعض الوجوه السابقة، و المعنى أن السعداء في الجنة خالدين فيها إلا الفساق من أهل التوحيد فإنهم في النار ثم يخرجون فيدخلون الجنة، و نسب الوجه إلى أبي مجاز. 

  • و فيه: أن ما ذكره إنما يجري في أول الاستثنائين فالثاني من الاستثناءين لا بد أن يوجه بوجه آخر، و هو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين. 

  • على أن العصاة من المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا و إنما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ} إلخ، من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثم يستثنوا لعدم دخولهم النار، و بالجملة هم ليسوا بأشقياء حتى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنة من أول. 

  • و قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} تعليل للاستثناء، و تأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدم. 

  • قوله تعالى: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} قرئ: سعدوا، بالبناء للمجهول و بالبناء للمعلوم و الثاني أوفق باللغة، لأن مادة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكن الأول و هو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون {شَقُوا} في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أن السعادة و الخير من الله سبحانه و الشر الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكى‌ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} النور: ٢١. 

  • و الجذ: هو القطع و عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعده تعالى الجنة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من أحسن الشواهد 

تفسير الميزان ج۱۱

35
  • على أن مراده باستثناء المشية إثبات بقاء إطلاق قدرته و أنه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قط. 

  • و يجري في هذه الآية جميع ما تقدم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلا ما كان من الوجوه مبنيا على كون المستثنى في قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من دخل النار أولا ثم خرج منها إلى الجنة ثانيا، و ذلك أن من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنة الآخرة و هي جنة الخلد أحد ممن دخلها جزاء أبدا، و هو كالضروري من الكتاب و السنة، و قد تكاثرت الآيات و الروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، و إن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح. 

  • قال في مجمع البيان في وجوب دخول أهل الطاعة الجنة و عدم جواز خروجهم منها: لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة، و أنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها. انتهى. 

  • مسألة «وجوب دخول أهل الثواب الجنة» مبنية على قاعدة عقلية مسلمة و هي أن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأن الذي تعلق به الوعد حق للموعود له، و عدم الوفاء به إضاعة لحق الغير و هو من الظلم و أما الوعيد فهو جعل حق للموعد على التخلف الذي يوعد به له، و ليس من الواجب لصاحب الحق أن يستوفي حقه بل له أن يستوفي و له أن يترك و الله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنة بإطاعتهم، و أوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنة توفية للحق الذي جعله لهم على نفسه، و أما عقاب العاصين فهو حق جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقه و له أن يتركهم بترك حق نفسه. 

  • و أما مسألة عدم الخروج من الجنة بعد دخولها فهو مما تكاثرت عليه الآيات و الروايات، و الإجماع الذي ذكره مبني على الذي تسلموه من دلالة الكتاب و السنة أو العقل على ذلك، و ليس بحجة مستقلة. 

تفسير الميزان ج۱۱

36
  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور: أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: {وَ كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ اَلْقُرى‌ وَ هِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. 

  • و فيه: أخرج الترمذي و حسّنه و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} قلت: يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‌ء قد فرغ منه أو على شي‌ء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شي‌ء قد فرغ منه، و جرت به الأقلام يا عمر، و لكن كل ميسر لما خلق له‌. 

  • أقول: و هذا اللفظ مروي عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) بطرق متعددة من طرق أهل السنة كما في صحيح البخاري عن عمران بن الحصين قال: قلت يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» .

  • و فيه أيضا عن علي (كرم الله وجهه) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار. قالوا: أ لا نتكل؟ قال: اعملوا «فكل ميسر لما خلق له» و قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‌ وَ اِتَّقى‌} إلخ. 

  • و لتوضيح ذلك نقول: إنه لا يخفى على ذي مسكة أن كلا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان و آثارها ما لم يلبس لباس التحقق و الوجود فهو على حد الإمكان و للإمكان نسبة إلى الوجود و العدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان أن تصير رمادا و أن لا تصير، و المني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الإنسانية أي أنها تحمل استعداد أن يصير إنسانا إن اجتمع معها بقية أجزاء العلة الموجبة للإنسانية و استعداد أن يبطل فيصير شيئا غير الإنسان. 

  • و إذا تلبس بلباس الوجود و صار مثلا رمادا بالفعل و إنسانا بالفعل بطل عند ذلك 

تفسير الميزان ج۱۱

37
  • عنه الإمكان الذي كان ينسبه إلى الرماد و غيره معا و إلى الإنسان و عدمه معا، و صار إنسانا فحسب يمتنع غيره و رمادا يمتنع مع هذه الفعلية غيره. 

  • و بهذا يتضح أنا إذا أخذنا الفعليات و نسبناها إلى عللها الموجبة لها و هكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليات لا يتغير شي‌ء منها عما هو عليه، و بطل الإمكانات و الاستعدادات و الاختيارات جميعا، و إذا نظرنا إلى الأمور من جهة الإمكانات و الاستعدادات التي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شي‌ء من الأشياء المادية من حيز الإمكان و مستقر الاختيار. 

  • فللكون وجهان: وجه ضرورة و فعلية يتعين فيه كل جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، و لا يقبل أي إبهام و تردد، و أي تغيير و تبديل و هو الوجه الذي تقوم فيه المسببات بأسبابها الموجبة و المعلولات بعللها التامة التي لا تنفك عن مقتضياتها و لا تتخلف معلولاتها عنها و لا تنفع في تغييرها عما هي عليه حيلة، و لا في تبديلها سعي و لا حركة. 

  • و وجه آخر هو وجه الإمكان و صورة الاستعداد و القابلية لا يتعين بحسبه شي‌ء إلا بعد الوقوع، و لا يخرج عن الإبهام و الإجمال إلا بعد التحقق، و عليه يقوم ناموس الاختيار، و به يتقوم السعي و الحركات، و يبتني العمل و الاكتساب، و إليه تركن التعاليم و التربية و الخوف و الرجاء و الأماني و الأهواء، و به تنجح الدعوة و الأمر و النهي و يصح الثواب و العقاب. 

  • و من الضروري أن الوجهين لا يتدافعان في الوجود و لا يبطل أحدهما الآخر فللفعلية ظرفها و للإمكان و الاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانية تعينها بعد التحقق، و لا تعينها بعده إبهامها قبله. 

  • و الوجه الأول هو وجه القضاء الإلهي، و لا يبطل تعيين الحوادث بحسبه عدم تعينها بحسب ظرف الدعوة و العمل و الاكتساب، و سنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام في القضاء و القدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى. 

  • و لنرجع إلى الأحاديث: 

  • التأمل في سياقها يعطي أنهم فهموا من كتابة السعادة و الشقاوة و الجنة و النار و جريان القلم بذلك، الضرورة و الوجوب، و توهموا من ذلك أولا لزوم بطلان المقدمات الموصلة 

تفسير الميزان ج۱۱

38
  • إلى الغايات، و ارتفاع الروابط بين المسببات و أسبابها، و أنه إذا قضي للإنسان بالجنة تحتم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو اقترف سيئا. 

  • و توهموا ثانيا أن تلك المقدمات و الأسباب نظائر للغايات و المسببات واقعة تحت القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى و لا للسعي و الاكتساب مجال. 

  • و الذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: «يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‌ء قد فرغ منه أو على شي‌ء لم يفرغ منه؟» و قولهم: «يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟» و قولهم: «أ لا نتكل؟» أي أ لا نترك العمل اتكالا على ما كتبه الله كتابةً لا تتغير و لا تتبدل؟ كل ذلك يشير إلى التوهم الأول، و كأن الذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار و الاستطاعة صرفهم عن الإشارة إلى ثاني التوهمين و إن كان ناشبا على قلوبهم فإنهما متلازمان. 

  • و قد أجاب (صلى الله عليه وآله و سلم) عن سؤالهم بقوله: «كل ميسر لما خلق له» و هو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الإنسان: {ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ} عبس: ٢٠أي أن كلا من أهل الجنة الذي خلقه الله لها، و من أهل النار الذي خلقه الله لها كما قال: {وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} الأعراف: ١٧٩. له غاية في خلقه و قد يسره الله السبيل إلى تلك الغاية و سهل له السلوك منه إليها. 

  • فبين الإنسان الذي كتبت له الجنة و بين الجنة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، و بينه و بين النار التي كتبت له كذلك، و سبيل الجنة هو الإيمان و التقوى، و سبيل النار هو الشرك و المعصية، فالإنسان الذي كتب الله له الجنة إنما كتب له الجنة التي سبيلها الإيمان و التقوى فلا بد من سلوكه، و لم يكتب له الجنة سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو سيئا، و كذلك الذي كتب له النار إنما كتب له النار من طريق الشرك و المعصية لا مطلقا. 

  • و لذلك أعقب (صلى الله عليه وآله و سلم) قوله: «كل ميسر لما خلق له» على ما في رواية علي (عليه السلام) بتلاوة قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‌ وَ اِتَّقى‌ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‌ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‌ وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اِسْتَغْنى‌ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‌ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} الليل: ١٠. 

  • فالمتوقع لإحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من 

تفسير الميزان ج۱۱

39
  • غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنما الدار دار سعي و حركة لا تنال فيها غاية إلا بسلوك و نقله، قال تعالى {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى‌ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‌ ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى‌} النجم، ٤١. 

  • و لم يهمل (صلى الله عليه وآله و سلم) الجواب عن ثاني التوهمين حيث عبر بالتيسير فإن التيسير هو التسهيل، و من المعلوم أن التسهيل إنما يتحقق في أمر لا ضرورة تحتمه و لا وجوب يعينه و يسد باب عدمه، و لو كان سبيل الجنة ضروري السلوك حتمي القطع على الإطلاق للإنسان الذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغير، و لم يكن معنى لتيسيره و تسهيل سلوكه له و هو ظاهر. 

  • فقوله (صلى الله عليه وآله و سلم)، «كل ميسر لما خلق له» يدل على أن لما يئول إليه أمر الإنسان من السعادة و الشقاء وجهين وجه ضرورة و قضاء حتم لا يتغير عن سبيل مثله، و وجه إمكان و اختيار ميسر للإنسان يسلك إليه بالعمل و الاكتساب، و الدعوة الإلهية إنما تتوجه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الأول. 

  • و قد تقدم كلام في الجبر و الاختيار في تفسير قوله، {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ } البقرة، ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن قتادة: أنه تلا هذه الآية، {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا} فقال، حدثنا أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: «يخرج قوم من النار» و لا نقول كما قال أهل حروراء. 

  • أقول: و قوله: «و لا نقول كما قال أهل حروراء» هو من كلام قتادة، و أهل حروراء قوم من الخوارج، و هم يقولون بخلود من دخل النار فيها. 

  • و فيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا} - إلى قوله - {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل‌. 

  • و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب الزهد بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجهنميين فقال: كان أبو جعفر يقول: 

تفسير الميزان ج۱۱

40
  • يخرجون منها فينتهي بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم و جلودهم و شعورهم. 

  • أقول: و رواه أيضا بإسناده عن عمر بن أبان عنه (عليه السلام)، و المراد بالجهنميين طائفة خاصة من أهل النار و هم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، و يسمون الجهنميين، لا عامة أهل النار كما يدل عليه ما سيأتي. 

  • و فيه: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن أناسا يخرجون من النار. حتى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشح أهل الجنة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم و دماؤهم، و يذهب عنهم قشف النار، و يدخلون الجنة يقولون أهل الجنة الجهنميين فينادون بأجمعهم: اللهم أذهب عنا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثم قال يا أبا بصير إن أعداء علي هم المخلدون في النار و لا تدركهم الشفاعة. 

  • و فيه: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبدا صالحا يقول في الجهنميين: إنهم يدخلون النار بذنوبهم، و يخرجون بعفو الله.

  • و فيه: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنهم يقولون: لا تعجبون من قوم يزعمون أن الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنة مع أولياء الله؟ فقال: أ ما يقرءون قول الله تبارك و تعالى: {وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أنها جنة دون جنة و نار دون نار. إنهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما و الله منزلة، و لكن لا أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لأضيق من الحلقة، إن القائم إذا قام بدأ بهؤلاء.

  • أقول: قوله: «إن القائم» إلخ، أي إذا ظهر بدأ بهؤلاء المستهزءين بأهل الحق انتقاما. 

  • و في تفسير العياشي، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: هذه في الذين يخرجون من النار. 

  • و فيه: عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ} قال: 

تفسير الميزان ج۱۱

41
  • في ذكر أهل النار استثنى، و ليس في ذكر أهل الجنة استثنى {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}

  • أقول: يشير (عليه السلام) إلى أن الاستثناء بالمشية في أهل الجنة لما عقبه الله بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} لم يكن استثناء دالا على إخراج بعض أهل الجنة منها، و إنما يدل على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنه معقب بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} المشعر بوقوع الفعل، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا} (الآية) قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها و أوجب لهم خلود الأبد، و قوله: {وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا} (الآية) قال: فجاء بعد ذلك من مشية الله ما نسخها فأنزل بالمدينة: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } - إلى قوله - {ظِلاًّ ظَلِيلاً} فأوجب لهم خلود الأبد. 

  • أقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعما منه أنهما تدلان على الانقطاع قد عرفت خلافه. على أن النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل و لا نقل. على أن ذلك لا يوافق الصريح من آية الجنة. على أن خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكية كالأنعام و الأعراف و غيرهما. 

  • و فيه أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. 

  • و فيه أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، و قرأ: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا}.

  • و فيه أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: و قال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها.

  • أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة و لا حجة فيها على غيرهم، 

تفسير الميزان ج۱۱

42
  • و لو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب و قد قال تعالى في الكفار: {وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ} البقرة: ١٦٧. 

  • و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنه بلغنا أنه يأتي على جهنم حتى۱ يصفق أبوابها. فقال: لا و الله إنه الخلود. قلت: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} فقال: هذه في الذين يخرجون من النار. 

  • أقول: و الروايات الدالة على خلود الكفار في النار من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا، و قد قدمنا بحثا فلسفيا في خلود العذاب و انقطاعه في ذيل قوله: {وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ} البقرة: ١٦٧ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • [سورة هود (١١): الآیات ١٠٩ الی ١١٩]

  • {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ١٠٩ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ١١٠وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١١ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١٢ وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ ١١٣ وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ 

    1. حين ظ 

تفسير الميزان ج۱۱

43
  • وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرى‌ لِلذَّاكِرِينَ ١١٤ وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ١١٥ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كَانُوا مُجْرِمِينَ ١١٦ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى‌ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ١١٧ وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١١٩} 

  • (بيان‌) 

  • لما فصل تعالى فيما قصة لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) قصص الأمم الغابرة و ما أداهم إليه شركهم و فسقهم و جحودهم لآيات الله و استكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم و ساقهم إلى الهلاك و عذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة. 

  • أمر في هذه الآيات نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعتبر هو و من معه بذلك، و يستيقنوا أن الشرك بالله و الفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلا إلى الهلاك و البوار فعليهم أن يلزموا طريق العبودية و يمسكوا بالصبر و الصلاة و لا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار و ما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، و يعلموا أن كلمة الله هي العليا، و كلمة الذين كفروا السفلى و أنّ مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه و ستتم بما يجازيهم به يوم القيامة. 

  • قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} إلخ، 

تفسير الميزان ج۱۱

44
  • تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الأمم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء و الفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، و المشار إليهم بقوله: {هَؤُلاَءِ} هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله: {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الذي سلكه الأولون من غير حجة، و المراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال شركهم و فسقهم. 

  • و قوله: {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} حال من النصيب و فيه تأكيد لقوله: {لَمُوَفُّوهُمْ} فإن التوفية تأدية حق الغير بالتمام و الكمال، و فيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهي. 

  • و معنى الآية: فإذا سمعت قصص الأولين و أنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله و يكذبون بآياته، و علمت سنة الله تعالى فيهم و أنها الهلاك في الدنيا و المصير إلى النار الخالدة في الآخرة، لا تكن في شك و مرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك؛ ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة و لا بينة، و إنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان. 

  • و يمكن أن يكون المراد بآبائهم، الأمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلا و ذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله: {أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ} المؤمنون: ٦٨ و هذا أنسب و أحسن و المعنى - على هذا - فلا تكن في شك من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الأمم الهالكة الذين هم آباؤهم، و لا شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} لما كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، و كانت القصص نفسها سردت ليتعظ بها القوم و يقضوا بالحق في اتخاذهم شركاء لله سبحانه، و تكذيبهم بآيات الله و رمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى. 

  • تعرض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتخاذهم الآلهة و تكذيب القرآن فذكر تعالى أن عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الأمم الماضية لها و سينالهم العذاب كما نال أسلافهم و إن اختلافهم في كتاب الله كاختلاف أمة موسى (عليه السلام) فيما آتاه الله من الكتاب و أن الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ 

تفسير الميزان ج۱۱

45
  •  فَاخْتُلِفَ فِيهِ} إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى. 

  • و قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} كرر سبحانه في كتابه ذكر أن اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليه، لكن اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى: {وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } يونس: ١٩ و قال: {وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} آل عمران: ١٩، و قال: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} البقرة: ٢١٣. 

  • و قد قضى الله سبحانه أن يوفي الناس أجر ما عملوه و جزاء ما اكتسبوه، و كان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتعهم في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا، و يكتسبوا في دنياهم لأخراهم كما قال: {وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‌ حِينٍ} البقرة: ٣٦، و مقتضى هذين القضاءين أن يؤخر القضاء بين المختلفين في دين الله و كتابه بغيا، إلى يوم القيامة. 

  • فإن قلت: فما بال الأمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلا أخرهم إلى يوم القيامة لكلمة سبقت منه. 

  • قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم و لا معاصيهم و بالجملة مجرد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الآخر و يؤخره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يونس: ٤٧. 

  • و بالجملة قوله: {وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يشير إلى أن اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يقتضي الآخر أن يمتعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، و مقتضى ذلك كله أن يتأخر عذابهم إلى يوم القيامة. 

  • و قوله: {وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} الإرابة إلقاء الشك في القلب، فتوصيف الشك بالمريب من قبيل قوله: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} و {حِجَاباً مَسْتُوراً} و {حِجْراً مَحْجُوراً} 

تفسير الميزان ج۱۱

46
  • و غير ذلك، و يفيد تأكدا لمعنى الشك. 

  • و الظاهر أن مرجع الضمير في قوله: {وَ إِنَّهُمْ} أمة موسى و هم اليهود، و حق لهم أن يشكوا فيه فإن سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل من كهنتهم يسمى عزراء عندما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدسة، و قد أحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا و نظيرها الإنجيل من جهة سنده. 

  • على أن التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضى الفطرة الإنسانية أن تنسبها إلى كتاب سماوي و مقتضاه الشك فيها. 

  • و أما إرجاع الضمير في قوله: {وَ إِنَّهُمْ} إلى مشركي العرب، و في قوله: {مِنْهُ} إلى القرآن كما فعله بعض المفسرين فبعيد من الصواب لأن الله سبحانه قد أتم الحجة عليهم في صدر السورة أنه كتابه المنزل من عنده على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و تحدى بمثل قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} و لا معنى مع ذلك لإسناد شك إليهم. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لفظة إنّ هي المشبهة بالفعل و اسمها قوله: {كُلاًّ} منونا مقطوعا عن الإضافة و التقدير كلهم أي المختلفين، و خبرها قوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} و اللام و النون لتأكيد الخبر، و قوله: {لَمَّا} مؤلف من لام تدل على القسم و ما مشددة تفصل بين اللامين، و تفيد مع ذلك تأكيدا، و جواب القسم محذوف، يدل عليه، خبر إن. 

  • و المعنى - و الله أعلم - و إن كل هؤلاء المختلفين أقسم ليوفينهم و يعطينهم ربك أعمالهم أي جزاءها إنه بما يعملون من أعمال الخير و الشر خبير. 

  • و نقل في روح المعاني، عن أبي حيان عن ابن الحاجب أن {لَمَّا} في الآية هي لما الجازمة و حذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت و لما، و سافرت و لما. ثم قال: و الأولى على هذا أن يقدر: لما يوفوها أي و إن كلا منها لما يوفوا أعمالهم ليوفينهم ربك إياها. و هذا وجه وجيه. 

  • و لأهل التفسير في مفردات الآية و نظمها أبحاث أدبية طويلة لا يهمنا منها أزيد مما 

تفسير الميزان ج۱۱

47
  • أوردناه، و من شاء الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير. 

  • قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يقال: قام كذا و ثبت و ركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب و غيره، و الظاهر أن الأصل المأخوذ به في ذلك قيام الإنسان و ذلك أن الإنسان في سائر حالاته و أوضاعه غير القيام كالقعود و الانبطاح و الجثو و الاستلقاء و الانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الأعمال كالقبض و البسط و الأخذ و الرد و سائر ما الإنسان مهيمن عليه بالطبع لكنه إذا قام على ساقه قياما كان على أعدل حالاته الذي يسلطه على عامة أعماله من ثبات و حركة و أخذ و رد و إعطاء و منع و جلب و دفع، و ثبت مهيمنا على ما عنده من القوى و أفعالها، فقيام الإنسان يمثل شخصيته الإنسانية بما له من الشئون. 

  • ثم استعير في كل شي‌ء لأعدل حالاته الذي يسلط معه على آثاره و أعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله و قيام الشجر أن يركز على ساقه متعرقا بأصله في الأرض، و قيام الإناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه و قيام العدل أن ينبسط على الأرض، و قيام السنة و القانون أن تجري في البلاد. 

  • و الإقامة جعل الشي‌ء قائما أي جعله بحال يترتب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئا منها كإقامة العدل و إقامة السنة و إقامة الصلاة و إقامة الشهادة، و إقامة الحدود، و إقامة الدين و نحو ذلك. 

  • و الاستقامة طلب القيام من الشي‌ء و استدعاء ظهور عامة آثاره و منافعه فاستقامة الطريق اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء و الوضوح و عدم إضلاله من ركبه، و استقامة الإنسان في أمر أن يطلب من نفسه القيام به و إصلاحه بحيث لا يتطرق إليه فساد و لا نقص، و يأتي تاما كاملا، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‌ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} حم السجدة: ٦ أي قوموا بحق توحيده في ألوهيته، و قال: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا} حم السجدة: ٣٠أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شئون حياتهم لا يركنون في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم إلا إلى ما يوافق التوحيد و يلائمه أي يراعونه و يحفظونه في عامة ما يواجههم في باطنهم و ظاهرهم. و قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} الروم: ٣٠فإن المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل 

تفسير الميزان ج۱۱

48
  • و تواجهه، و إقامة الإنسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم. 

  • فقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي كن ثابتا على الدين موفيا حقه طبق ما أمرت بالاستقامة، و قد أمر به في قوله: {وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لاَ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} يونس: ١٠٥، و قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الروم: ٣٠. 

  • قال في روح المعاني: أمر رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها و هذا يقتضي أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بوحي آخر و لو غير متلو كما قاله غير واحد، و الظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة، و هي لزوم المنهج المستقيم و هو المتوسط بين الإفراط و التفريط، و هي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم و العمل و سائر الأخلاق. انتهى. 

  • أما احتماله أن يكون هناك وحي آخر غير متلو يشير إليه قوله تعالى: {كَمَا أُمِرْتَ} أي استقم كما أمرت سابقا بالاستقامة فبعيد عن سنة القرآن و حاشا أن يعتمد بالبيان القرآني على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، و قد عرفت أن الإشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، و إقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، و قد ورد قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} كما عرفت في سورتين كلتاهما مكيتان، و سورة يونس التي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعا و إن لم يسلم ذلك في السورة الأخرى التي هي سورة الروم. 

  • و أما قوله: «إن المراد بقوله: {فَاسْتَقِمْ} الدوام على الاستقامة و هي لزوم المنهج المستقيم المتوسط بين الإفراط و التفريط» فقد عرفت أن معنى استقامة الإنسان في أمر ثبوته على حفظه و توفية حقه بتمامه و كماله، و استقامة الإنسان مطلقا ركوزه و ثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه و أركانه بحيث لا يترك شيئا من قدرته و استطاعته لغى لا أثر له. 

  • و لو كان المراد بالأمر بالاستقامة هو الأمر بلزوم الاعتدال بين الإفراط و التفريط لكان الأنسب أن يردف هذا الأمر بالنهي عن الإفراط و التفريط معا مع أنه تعالى عقبه بقوله: {وَ لاَ تَطْغَوْا} فنهى عن الإفراط فقط، و هو بمنزلة عطف التفسير لقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ} و هذا أحسن شاهد على أن المراد بقوله: {فَاسْتَقِمْ} إلخ، 

تفسير الميزان ج۱۱

49
  • الأمر بإظهار الثبات على العبودية و لزوم القيام بحقها، ثم نهى عن تعدي هذا الطور و الاستكبار عن الخضوع لله و الخروج بذلك عن زي العبودية فقيل: {وَ لاَ تَطْغَوْا} كما فعل ذلك الأمم الماضية، و لم يكونوا مبتلين إلا بالإفراط دون التفريط و الاستكبار دون التذلل. 

  • و قوله: {وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ} عطف على الضمير المستكن في {فَاسْتَقِمْ} أي استقم أنت و من تاب معك أي استقيموا جميعا و إنما أخرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من بينهم و أفرده بالذكر معهم تشريفا لمقام النبوة، و على ذلك تجري سنته تعالى في كلامه كقوله تعالى: {آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ} البقرة: ٢٨٥ و قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} التحريم: ٨. 

  • على أن الأمر الذي تقيد به قوله: {فَاسْتَقِمْ} أعني قوله: {كَمَا أُمِرْتَ} يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يشاركه فيه غيره فإن ما ذكر من مثل قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} «إلخ» خاص به فلو قيل: فاستقيموا لم يصح تقييده بالأمر السابق. 

  • و المراد بمن تاب مع النبي المؤمنون الذين رجعوا إلى الله بالإيمان و إطلاق التوبة على أصل الإيمان - و هو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى: {وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} المؤمن: ٧ إلى غير ذلك. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَطْغَوْا} أي لا تتجاوزوا حدكم الذي خطته لكم الفطرة و الخلقة و هو العبودية لله وحده كما تجاوزه الذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك و ساقهم إلى الهلكة، و الظاهر أن الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز حده، ثم استعير لهذا الأمر المعنوي الذي هو طغيان الإنسان في حياته لتشابه الأثر و هو الفساد. 

  • و قوله: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل لمضمون ما تقدمه، و معنى الآية اثبت على دين التوحيد و الزم طريق العبودية من غير تزلزل و تذبذب، و ليثبت الذين آمنوا معك، و لا تتعدوا الحد الذي حد لكم لأن الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره. 

تفسير الميزان ج۱۱

50
  • و في الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحس فيها بشي‌ء من آثار الرحمة و أمارات الملاطفة و قد تقدمها من الآيات ما يتضمن من حديث مؤاخذة الأمم الماضية و القرون الخالية بأعمالهم و استغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس و تطير القلوب. 

  • غير ما في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} من إفراد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالذكر و إخراجه من بين المؤمنين تشريفا لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقه فإن تخصيصه قبلا بالذكر يوجب توجه هول الخطاب و روع التكليم من مقام العزة و الكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجه إلى جميع الأمة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ } إسراء: ٧٥. 

  • و لذلك ذكر أكثر المفسرين‌ أن قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «شيبتني سورة هود» ناظر إلى هذه الآية، و سيوافيك الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} قال في الصحاح: ركن‌ إليه كنصر، ركونا: مال و سكن، و الركن‌ بالضم: الجانب الأقوى و الأمر العظيم و العز و المنعة انتهى و عن لسان العرب، مثله، و عن المصباح، أن الركون‌ هو الاعتماد على الشي‌ء. 

  • و قال الراغب: ركن الشي‌ء جانبه الذي يسكن إليه، و يستعار للقوة، قال تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‌ رُكْنٍ شَدِيدٍ} و ركنت إلى فلان أركن بالفتح و الصحيح أن يقال: ركن يركُن – كنصر - و ركن يركن – كعلم - قال تعالى: {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا}، و ناقة مركنة الضرع له أركان تعظمه و المركن الإجابة، و أركان العبادات جوانبها التي عليها مبناها، و بتركها بطلانها. انتهى و هذا قريب مما ذكره في المصباح. 

  • و الحق أنه الاعتماد على الشي‌ء عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب و لذلك عدي بإلى لا بعلى و ما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعم من معناه على ما هو دأبهم. 

  • فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها و إما في حياة دينية كأن يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الديني 

تفسير الميزان ج۱۱

51
  • بولاية الأمور العامة أو المودة التي تقضي إلى المخالطة و التأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيوية. 

  • و بالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد و الاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير و يغيرهما عن الوجهة الخالصة، و لازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو إحياء حق بإحياء باطل و بالآخرة إماتة الحق لإحيائه. 

  • و الدليل على هذا الذي ذكرنا أنه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الذي هو من تتمة الخطاب في الآية السابقة بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين المؤمنين من أمته، و الشئون التي له و لأمته هي المعارف الدينية و الأخلاق و السنن الإسلامية في تبليغها و حفظها و إجرائها و الحياة الاجتماعية بما يطابقها، و ولاية أمور المجتمع الإسلامي، و انتحال الفرد بالدين و استنانه بسنة الحياة الدينية فليس للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا لأمته أن يركنوا في شي‌ء من ذلك إلى الذين ظلموا. 

  • على أن من المعلوم أن هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة التي أخذهم الله بظلمهم و هما متفرعتان عليها ناظرتان إليها، و لم يكن ظلم هؤلاء الأمم الهالكة في شركهم بالله تعالى و عبادة الأصنام فحسب بل كان مما ذمه الله من فعالهم اتباع الظالمين و الفساد في الأرض بعد إصلاحها و هو الاستنان بالسنن الظالمة التي يقيمها الولاة الجائرون، و يستن بها الناس و هم بذلك ظالمون. 

  • و من المعلوم أيضا من السياق أن الآيتين مترتبتان في غرضهما فالأولى تنهى عن أن يكونوا من أولئك الذين ظلموا، و الثانية تنهى أن يقتربوا منهم و يميلوا إليهم و يعتمدوا۱ في حقهم على باطلهم فقوله: {لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} نهي عن الميل إليهم و الاعتماد عليهم و البناء على باطلهم في أمر أصل الدين و الحياة الدينية جميعا. 

  • و وقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرعة على ما تقدم من القصص المذكورة يفيد أن المراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققاً ما؛ و إلا لعم جميع الناس إلا 

    1. أي أن يتوسلوا في إجراء الحق بين أنفسهم بالوسيلة الباطلة التي عند أعداء الدين من الظالمين.

تفسير الميزان ج۱۱

52
  • أهل العصمة و لم يبق للنهي حينئذٍ معنى، و ليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم فإنّ لإفادة الفعل الدال على مجرد التحقق معنى الصفة الدالة على التلبس و الاستمرار أسبابا لا يوجد في المقام منها شي‌ء و لا دلالة لشي‌ء على شي‌ء جزافا. 

  • بل المراد بالذين ظلموا أناس حالهم في الظلم حال أولئك الذين قصهم الله في الآيات السابقة من الأمم الهالكة، و كان الشأن في قصتهم أنه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم و إلى من ردها ثم عبر عمن قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة و عمن ردها بالذين ظلموا و ما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله: {وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} و قوله: {وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ} و قوله: {وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} و قوله: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} و قوله: {أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} إلى غير ذلك. 

  • فقد عبر سبحانه عن ردهم و قبولهم قبال الدعوة الإلهية و بالقياس إليها بالفعل الماضي الدال على مجرد التحقق و الوقوع، و أما في الخارج من مقام القياس و النسبة فإن التعبير بالصفة كقوله: {وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} و قوله: {وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ} و قوله: {وَ لاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} إلى غير ذلك و هو كثير. 

  • و مقتضى مقام القياس و النسبة إلى الدعوة قبولا و ردا أن يكتفي بمجرد الوقوع و التحقق، و يبين أنهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، و لا حاجة إلى ذكر الاتصاف و الاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا و عصوا و اتبعوا أمر فرعون أنهم وسموا بسمة الظلم و العصيان و اتباع أمر فرعون، و معنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا بسمة الإيمان و تعلموا بعلامته. 

  • فكان التعبير بالماضي كافيا في إفادة أصل الاتسام المذكور و إن كان مما يلزمه الاتصاف، و بعبارة أخرى الذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكن العناية إنما تعلقت بحسب المقام بتحقق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، و لذا ترى أنه كلما خرج الكلام عن مقام القياس و النسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله: 

تفسير الميزان ج۱۱

53
  • {بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} و قوله: {وَ لاَ تَكُنْ مَعَ اَلْكَافِرِينَ} فافهم ذلك. 

  • و من هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله: {اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} حيث أخذه بعضهم دالا على مجرد تحقق ظلم ما، و آخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره: فسر الزمخشري {اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} بقوله: أي إلى الذين وجد منهم الظلم و لم يقل: إلى الظالمين، و حكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال؟ هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى. 

  • و معنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان، و هذا غلط أيضا و إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه فهم كالذين كفروا في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي و حسبك منه قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } البقرة: ٦، و المخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ}

  • و قد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به في الآيات ٣٧، ٦٧، ٩٤، و عبر عنهم فيها بالظالمين أيضا كقوله: {وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ} فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف و التعبير بالذي و صلته فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد انتهى. 

  • أما قول صاحب الكشاف: «إن المراد بالذين ظلموا» الذين وجد منهم الظلم و لم يقل: «إلى الظالمين» فهو كذلك لكنه لا ينفعه فإن التعبير بالفعل في ما قررناه من المقام و إن كان لا يفيد أزيد من تحقق المعنى الحدثي و وقوعه لكنه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغى‌ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوى‌ وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى‌ فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى‌} النازعات: ٤١ حيث عبر بالفعل و هو منطبق على معنى الصفة. 

  • و أما قول صاحب المنار: «إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه» فتحكم محض، 

تفسير الميزان ج۱۱

54
  • و أي دليل يدل على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب و قد ذكرهم الله أخيرا في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغيا، و قد نهى الله عن ولايتهم و شدد فيه حتى قال: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة: ٥١، و قال في ولاية مطلق الكافرين، {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللَّهِ فِي شَيْ‌ءٍ} آل عمران: ٢٨. 

  • و أي مانع يمنع الآية أن تشمل الظالمين من هذه الأمة و فيهم من هو أشقى من جبابرة عاد و ثمود و أطغى من فرعون و هامان و قارون. 

  • و مجرد كون الإسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش و مشركي مكة و حواليها لا يوجب تخصيصا في اللفظ فإن خصوص المورد لا يخصص عموم اللفظ فالآية تنهى عن الركون إلى كل من اتسم بسمة الظلم، أي من كان مشركا أو موحدا مسلما أو من أهل الكتاب. 

  • و أما قوله: إن المراد بقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} المعنى الوصفي و إن كان فعلا أي الكافرون لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي. ففيه أنا بينا في الكلام على تلك الآية و في مواضع أخرى تقدمت في الكتاب أن الآية خاصة بالكفار من صناديد قريش الذين شاقوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بادئ أمره حتى كفاه الله إياهم و أفناهم ببدر و غيره، و أنهم المسمون بالذين كفروا. و ليست الآية عامة، و لو كانت الآية عامة و كان المراد بالذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به فما أكثر من آمن من الكافرين حتى من كفار مكة بعد نزول هذه الآية. 

  • و لو قيل: إن المراد بهم الذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئا إذ لا معنى لقولنا: إن الكافرين الذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من أخذها آية خاصة غير عامة، و كون المراد بالذين كفروا طائفة خاصة بأعيانهم. 

  • و قد ذكرنا فيما تقدم أن {اَلَّذِينَ آمَنُوا} أيضا فيما لا دليل في المورد يدل على خلافه اسم تشريفي لمن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في أول دعوته الحقة، و بهم تختص خطابات {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} في القرآن و إن شاركهم غيرهم في الأحكام. 

  • و أما قوله في آخر كلامه: و قد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به و عبر عنهم فيها بالظالمين أيضا فلا 

تفسير الميزان ج۱۱

55
  • فرق بين التعبيرين «إلخ» و محصله أن التعبير عنهم تارة بالذين ظلموا و تارة بالظالمين دليل على أن المراد بالكلمتين واحد. 

  • ففيه: أنه خفي عليه وجه العناية الكلامية الذي تقدمت الإشارة إليه و اتحاد مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلقة بهما. 

  • فالمحصل من مضمون الآية نهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم و يعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية فهذا هو المراد بقوله: {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا}

  • و قوله: {فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ} تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مس النار، و قد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مس النار و عاقبة نفس الظلم النار، و هذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم و التلبس بالظلم نفسه. 

  • و قوله: {وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} في موضع الحال من مفعول {فَتَمَسَّكُمُ} أي تمسكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء و هو يوم القيامة الذي يفقد فيه الإنسان جميع أوليائه من دون الله. أو حال الركون إن كان المراد بالنار العذاب، و المراد بقوله: {ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} نفي الشفاعة على الأول و الخذلان الإلهي على الثاني. 

  • و التعبير بثم في قوله: {ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} للدلالة على اختتام الأمر على ذلك بالخيبة و الخذلان كأنه قيل: تمسكم النار و ليس لكم إلا الله فتدعونه فلا يجيبكم و تستنصرونه فلا ينصركم فيئول أمركم إلى الخسران و الخيبة و الخذلان. 

  • و قد تحصل مما تقدم من الأبحاث في الآية أمور: 

  • الأول: أن المنهي عنه في الآية إنما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن أمور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع و تقليدهم الأمور العامة أو إجراء الأمور الدينية بأيدهم و قوتهم و أشباه ذلك. 

  • و أما الركون و الاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع و شرى و الثقة بهم و ائتمانهم في بعض الأمور فإن ذلك كله غير مشمول للنهي الذي في الآية لأنها ليست بركون 

تفسير الميزان ج۱۱

56
  • في دين أو حياة دينية، و قد وثق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عند ما خرج من مكة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق و ائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثة أيام و كان يعامل هو و كذا المسلمون بمرأى و مسمع منه الكفار و المشركين. 

  • الثاني: أن الركون المنهي عنه في الآية أخص من الولاية المنهي عنها في آيات أخرى كثيرة فإن الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم و هم أعداء الدين، و أما الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو أخص من الولاية موردا أي أن كل مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلي، و بروز الأثر في الركون بالفعل و في الولاية أعم مما يكون بالفعل. 

  • و يظهر من جمع من المفسرين أن الركون المنهي عنه في الآية هو الولاية المنهي عنها في آيات أخر. 

  • قال صاحب المنار في تفسيره، بعد ما نقل عن الزمخشري قوله: إن النهي في الآية متناول للانحطاط في هواهم و الانقطاع إليهم و مصاحبتهم و مجالستهم و زيارتهم و مداهنتهم و الرضا بأعمالهم، و التشبه بهم و التزيي بزيهم، و مد العين إلى زهرتهم، و ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، و تأمل قوله: {وَ لاَ تَرْكَنُوا} فإن الركون‌ هو الميل اليسير، و قوله: {إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي إلى الذين وجد منهم الظلم، و لم يقل: إلى الظالمين. انتهى. 

  • أقول: كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، و قد يكون من لوازم الركون الحقيرة و لكن لا يصح أن يجعل شي‌ء منه تفسيرا للآية مرادا منها، و المخاطب الأول بها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و السابقون الأولون إلى التوبة من الشرك و الإيمان معه، و لم يكن أحد منهم مظنة للانقطاع بظلمة المشركين، و الانحطاط في هواهم، و الرضا بأعمالهم. إلى آخر ما أطنب فيه. 

  • و قد ناقض فيه نفسه أولا حيث اعترف بكون بعض الأمور المذكورة من لوازم الركون لكنه استحقرها و نفى شمول الآية لها، و المعصية كلها عظيمة لا يستهان بها غير أن أكثر المفسرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى. 

تفسير الميزان ج۱۱

57
  • و أفسد من ذلك قوله: إن المخاطب الأول بهذا النهي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و السابقون الأولون و لم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين و الانحطاط في هواهم و الرضا بأعمالهم إلخ، فإن فيه أولا: أن الخطاب خطاب واحد موجه إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) و إلى أمته، و لا أول فيه و لا ثاني، و تقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ. 

  • و ثانيا: أن عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه و خاصة النواهي الصادرة عن مقام التشريع و إنما يمنع عن تأكيده و الإلحاح عليه و قد نهى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عما هو أعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله و عن ترك تبليغ بعض أوامره و نواهيه، قال تعالى: {وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ} الزمر: ٦٥، و قال: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} المائدة: ٦٧، و قال: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحى‌ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } الأحزاب: ٢ و لا يظن به (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يشرك بربه البتة، و لا أن لا يبلغ ما أنزل إليه من ربه أو يطيع الكافرين و المنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من النواهي. 

  • و كذا السابقون الأولون نهوا عن أمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} نزلت في أهل بدر و فيهم السابقون الأولون و قد وصف بعضهم بقوله: {اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} و هو أشد لحنا من قوله: {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا}، و كعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر و أحد و حنين، و النواهي الموجهة إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكل ذلك مما لم يكن يظن بالسابقين الأولين أن يبتلوا به على أن بعضهم ابتلي ببعضها بعد. 

  • الثالث: أن الآية بما لها من السياق المؤيد بإشعار المقام إنما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شي‌ء من ظلمهم و هو أن يراعوا في قولهم الحق و عملهم الحق جانب ظلمهم و باطلهم حتى يكون في ذلك إحياء للحق بسبب إحياء الباطل، و مآله إلى إحياء حق بإماتة حق آخر كما تقدمت الإشارة إليه. 

تفسير الميزان ج۱۱

58
  • و أما الميل إلى شي‌ء من ظلمهم و إدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلامي أو في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين. 

  • و قد اختلط هذا الأمر على كثير من المفسرين فأوردوا في المقام أبحاثا لا تمس الآية أدنى مس، و قد أغمضنا عن إيرادها و البحث في صحتها و سقمها إيثارا للاختصار و من أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم. 

  • قوله تعالى: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ} إلخ، طرفا النهار هو الصباح و المساء و الزلف‌ جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا و معنى على ما قيل، و هو وصف ساد مسد موصوفه كالساعات و نحوها، و التقدير و ساعات من الليل أقرب من النهار. 

  • و المعنى أقم الصلاة في الصباح و المساء و في ساعات من الليل هي أقرب من النهار، و ينطبق من الصلوات الخمس اليومية على صلاة الصبح و العصر و هي صلاة المساء و المغرب و العشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح و المغرب و وقتهما طرفا النهار و العشاء الآخرة و وقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، و قيل غير ذلك. 

  • لكن البحث لما كان فقهيا كان المتبع فيه ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل بيته (عليهم السلام) من البيان، و سيجي‌ء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • و قوله: {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ} تعليل لقوله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ} و بيان أن الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي و هي ما تعتريها من السيئات، و قد تقدم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب

  • و قوله: {ذَلِكَ ذِكْرى‌ لِلذَّاكِرِينَ} أي هذا الذي ذكر و هو أن الحسنات يذهبن السيئات على رفعة قدره تذكار للمتلبسين بذكر الله تعالى من عباده. 

  • قوله تعالى: {وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} ثم أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر بعد ما أمره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ} البقرة: ٤٥ و ذلك أن كلا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، و الصبر في الأخلاق و قد قال تعالى في الصلاة: {وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ} العنكبوت: ٤٥ و قال في الصبر: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ} الشورى: ٤٣. ـ 

تفسير الميزان ج۱۱

59
  • و اجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب و المكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق و الجزع و الانهزام، و الصلاة توجهها إلى ناحية الرب تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، و قد تقدم بيان في ذلك في تفسير الآية ٤٥ من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب

  • و إطلاق الأمر بالصبر يعطي أن المراد به الأعم من الصبر على العبادة و الصبر عن المعصية و الصبر عند النائبة، و على هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدم من الأوامر و النواهي أعني قوله: {فَاسْتَقِمْ} {وَ لاَ تَطْغَوْا} {وَ لاَ تَرْكَنُوا} {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ}

  • لكن إفراد الأمر و تخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يفيد أنه صبر في أمر يختص به و إلا قيل: و «اصبروا» جريا على السياق، و هذا يؤيد قول من قال: إن المراد اصبر على أذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه و ظلم الظالمين منهم، و أما قوله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ} فإنه ليس أمرا بما يخصه (صلى الله عليه وآله و سلم) من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك. 

  • و قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} تعليل للأمر بالصبر. 

  • قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ} إلخ، لولا بمعنى هلاّ و ألاّ يفيد التعجيب و التوبيخ، و المعنى هلاّ كان من القرون التي كانت من قبلكم و قد أفنيناها بالعذاب و الهلاك أولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها و يحفظوا أمتهم من الاستئصال. 

  • و قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإن المعنى: من العجب أنه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله و شاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب و الهلاك منهم فإنهم كانوا ينهون عن الفساد. 

  • و قوله: {وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كَانُوا مُجْرِمِينَ} بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء و هم أكثرهم و عرفهم بأنهم الذين ظلموا و بيّن أنهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي أترفوا فيها و كانوا مجرمين. 

  • و قد تحصل بهذا الاستثناء و هذا الباقي الذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين 

تفسير الميزان ج۱۱

60
  • مختلفين: الناجون بإنجاء الله و المجرمون و لذلك عقبه بقوله: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}

  • قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى‌ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي لم يكن من سنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون لأن ذلك ظلم و لا يظلم ربك أحدا فقوله: {بِظُلْمٍ} قيد توضيحي لا احترازي، و يفيد أن سنته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم {وَ مَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ }إلى قوله {أَجْمَعِينَ} الخلف‌ خلاف القدام و هو الأصل فيما اشتق من هذه المادة من المشتقات يقال: خلف أباه‌ أي سد مسده لوقوعه بعده، و أخلف وعده‌ أي لم يف به كأنه جعله خلفه، و مات و خلّف ابنا أي تركه خلفه، و استخلف‌ فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم و ذريته في الأرض، و خالف فلان فلانا و تخالفا إذا تفرقا في رأي أو عمل كأن كلا منهما يجعل الآخر خلفه، و تخلف عن أمره إذا أدبر و لم يأتمر به، و اختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، و اختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد، و اختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد أخرى. 

  • ثم الاختلاف و يقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى و تضعيفها و آثارٍ أخرى غير محمودة من نزاع و مشاجرة و جدال و قتال و شقاق، كل ذلك يذهب بالأمن و السلام غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني و هو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد و هو يؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية و الروحية و بانضمام اختلاف الأجواء و الظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق و السنن و الآداب و المقاصد و الأعمال النوعية و الشخصية في المجتمعات الإنسانية، و قد أوضحت الأبحاث الاجتماعية أن لولا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني و لا طرفة عين. 

  • و قد ذكره الله تعالى في كتابه و نسبه إلى نفسه حيث قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا}  

تفسير الميزان ج۱۱

61
  • الزخرف: ٣٢. و لم يذمه تعالى في شي‌ء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس و خالف هدى العقل. 

  • و ليس منه الاختلاف في الدين فإن الله سبحانه يذكر أنه فطر الناس على معرفته و توحيده و سوّى نفس الإنسان فألهمها فجورها و تقواها، و أن الدين الحنيف هو من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، و لذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه و ظلمهم {فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}. 

  • و قد جمع الله الاختلافين في قوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ } و هذا هو الاختلاف الأول في الحياة و المعيشة {و ما اختلف فيه} و هذا هو الاختلاف الثاني في الدين {إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ} البقرة: ٢١٣ فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف. 

  • و الذي ذكره بقوله: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} يريد به رفع الاختلاف من بينهم و توحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، و من المعلوم أنه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين و انقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله و هم قليل و طائفة أخرى و هم الذين ظلموا. 

  • فالمعنى أنهم و إن اختلفوا في الدين فإنهم لم يعجزوا الله بذلك و لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله: {وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} النحل: ٩ و قوله: {أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً} الرعد: ٣١. 

  • و على هذا فقوله: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} إنما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإن ذلك هو الذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم، و الكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما. 

  • على أن قوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يصرح أنه رفعه عن طائفة رحمهم، و الاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة، و إنما رفع عنهم الاختلاف 

تفسير الميزان ج۱۱

62
  • الديني الذي يذمه و ينسبه إلى البغي بعد العلم بالحق. 

  • و قوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} استثناء من قوله: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحق أبدا إلا الذين رحمهم الله فإنهم لا يختلفون في الحق و لا يتفرقون عنه، و الرحمة هي الهداية الإلهية كما يفيده قوله: {فَهَدَى اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ} البقرة: ٢١٣. 

  • فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي و الإثبات فيصير معنى قوله: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أنهم منقسمون دائما إلى محق و مبطل، و لا يصح حينئذ ورود الاستثناء عليه إلا بحسب الأزمان دون الأفراد و ذلك أن انضمام قوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إليه يئول المعنى إلى مثل قولنا: إنهم منقسمون دائما إلى مبطلين و محقين إلا من رحم ربك منهم فإنهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط، و من المعلوم أن المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إن منهم مبطلين و محقين و المحقون محقون لا مبطل فيهم، و هذا كلام لا فائدة فيه. 

  • على أنه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف أصلا و هم من الناس المختلفين، و الاختلاف قائم بهم و بالمبطلين معا. 

  • قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية و سائر الآيات المتعرضة له الذامة لأهله إنما هو الاختلاف في الحق، و مخالفة البعض للبعض في الحق و إن كانت توجب كون بعض منهم على الحق و على بصيرة من الأمر لكنه إذا نسب إلى المجموع و هو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع و تفرقهم عن الحق و عدم اجتماعهم عليه و تركهم إياه بحياله، و مقتضاه اختفاء الحق عنهم و ارتيابهم فيه. 

  • و الله سبحانه إنما يذم الاختلاف من جهة لازمة هذا و هو التفرق و الإعراض عن الحق و الآيات تشهد بذلك فإنه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلولا أن المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة التي تفرقهم عن الحق لم يصح ذلك. 

  • و من أحسن ما يؤيده قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‌ وَ عِيسى‌ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 

تفسير الميزان ج۱۱

63
  • الشورى: ١٣ حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، و كذا قوله: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: ١٥٣ و هذا أوضح دلالة من سابقه فإنه يجعل أهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرق و الاختلاف. 

  • و لذلك ترى أنه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرت من الآيات: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} آية ١١٠من السورة، و قد كرر هذا المعنى في مواضع من كلامه. 

  • و قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} النبأ: ٣ أي يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون و قال: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ} الذاريات: ١٠أي قول لا يقف على وجه و لا يبتني على علم بل الخرص و الظن هو الذي أوجده فيكم. 

  • و في هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} آل عمران: ٧١ فإن هذا اللبس المذموم منهم إنما كان بإظهار قول يشبه الحق و ليس به و هو إلقاء التفرق الذي يختفي به الحق. 

  • فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا و آراء يتفرقون بها عن الحق و يظهر بها الريب فهم لاتباعهم أهواءهم المخالفة للحق يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا و عدوانا بعد علمهم بالحق فهو اختلافهم في الحق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم. 

  • و يتبين بما تقدم على طوله أن الإشارة بقوله: {وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إلى الرحمة المدلول عليه بقوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} و التأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأن المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} الأعراف: ٥٦ و ذلك لأنك عرفت أن هذا الاختلاف بغي منهم يفرقهم عن الحق و يستره و يظهر الباطل و لا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، و لا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنساني ليبغوا و يميتوا الحق و يحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته. 

تفسير الميزان ج۱۱

64
  • على أن سياق الآيات مع الغض عما ذكر يدفع ذلك فإنها في مقام بيان أن الله تعالى يدعو الناس برأفته و رحمته إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما و لا شرا، و لكنهم بظلمهم و اختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، و يكذبون بآياته، و يعبدون غيره، و يفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون، و لا أن يخلقهم ليبغوا و يفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة و الهداية، و الذي من بغيهم و اختلافهم و ظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، و هذا هو الذي يعطيه سياق الآيات. 

  • و كون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنما هو لاتصالها بما هو الغاية الأخيرة و هو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } الأعراف: ٤٣ و هذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات: ٥٦. 

  • و قوله: {وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي حقت كلمته تعالى و أخذت مصداقها منهم بما ظلموا و اختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، و الكلمة هي قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} إلخ. 

  • و الآية نظيره قوله: {وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} الم السجدة: ١٣ و الأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} ص: ٨٥ و الآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا. 

  • هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين و قد تلخص بذلك: 

  • أولا: أن المراد بقوله: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} توحيدهم برفع التفرق و الخلاف من بينهم و قيل: إن المراد هو الإلجاء إلى الإسلام و رفع الاختيار لكنه ينافي التكليف و لذلك لم يفعل و نسب إلى قتادة، و قيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة لكنه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، و نسب إلى أبي مسلم. و أنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شي‌ء من المعنيين. 

تفسير الميزان ج۱۱

65
  •  و ثانيا: أن المراد بقوله: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} دوامهم على الاختلاف في الدين و معناه التفرق عن الحق و ستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق. و قال بعضهم: هو الاختلاف في الأرزاق و الأحوال و بالجملة الاختلاف غير الديني و نسب إلى الحسن. و قد عرفت أنه أجنبي من سياق الآيات السابقة. و قال آخرون: إن معنى {مُخْتَلِفِينَ} يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم و تعاطي باطلهم، و هو كسابقه أجنبي من مساق الآيات و فيها قوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} الآية. 

  • و ثالثا: أن المراد بقوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} إلا من هداه الله من المؤمنين. 

  • و رابعا: أن الإشارة بقوله: {وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إلى الرحمة و هي الغاية التي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم. و ذكر بعضهم: أن المعنى خلقهم للاختلاف و نسب إلى الحسن و عطاء. و قد عرفت أنه سخيف ردي جدا نعم لو جاز عود ضمير «خلقهم» إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم و كانت الآية قريبة المضمون من قوله: {وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ} الآية الأعراف: ١٧٩. 

  • و ذكر آخرون: أن الإشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في خلقهم مستعدين للاختلاف و التفرق في علومهم و معارفهم و آرائهم و شعورهم و ما يتبع ذلك من إرادتهم و اختيارهم في أعمالهم و من ذلك الدين و الإيمان و الطاعة و العصيان، و بالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعم مما في الدين أو في غيره. 

  • و نسب إلى ابن عباس بناء على ما روي عنه أنه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، و فريقا لا يرحم فيختلف، و إلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنة و فريق في السعير، و قد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة. 

  • و خامسا: أن المراد بتمام الكلمة هو تحققها و أخذها مصداقها. 

تفسير الميزان ج۱۱

66
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ} الآية قال: قال (عليه السلام): في القيامة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ} قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا. 

  • و في المجمع، في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الآية قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) آية كانت أشد عليه و لا أشق من هذه الآية، و لذلك‌ قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله: شيبتني هود و الواقعة.

  • أقول: و الحديث مشهور في بعض الألفاظ شيبتني هود و أخواتها، و عدم اشتمال الواقعة على ما يناظر قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (الآية) يبعد أن تكون إليه الإشارة في الحديث، و المشترك فيه بين السورتين حديث القيامة و الله أعلم. 

  • و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لاَ تَرْكَنُوا} (الآية) قال: قال (عليه السلام): ركون مودة و نصيحة و طاعة. 

  • أقول: و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنهم (عليهم السلام). 

  • و في تفسير العياشي، عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ} قال: أما إنه لم يجعلها خلودا و لكن {فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ} فلا تركنوا إليهم.

  •  أقول: أي و لكن قال: تمسكم النار فجعله مسا. 

  • و فيه عن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ} و طرفاه المغرب و الغداة {وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ} و هي صلاة العشاء الآخرة.

  • و في التهذيب، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث في الصلوات الخمس اليومية: و قال تعالى في ذلك: {أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ} و هي صلاة 

تفسير الميزان ج۱۱

67
  • العشاء الآخرة. 

  • أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر و ما بعدها ليشمل أوقات الخمس. 

  • و في المعاني، بإسناده عن إبراهيم بن عمر عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ} قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار. 

  • أقول: و الحديث مروي في الكافي، و تفسير العياشي، و أمالي المفيد، و أمالي الشيخ. 

  • و في المجمع، عن الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا أبا عثمان أ لا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله قال: هكذا فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: أ لا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت: و لم فعلته؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق. ثم قرأ هذه الآية: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ} إلى آخرها. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الطيالسي و أحمد و الدارمي و ابن جرير و الطبراني و البغوي في معجمه، و ابن مردويه غير مسلسل. 

  • و فيه عنه بإسناده عن الحارث عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنبا، فأعرض عنه فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أ ليس قد صليت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنها كفارة ذنبك. 

  • أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي أمامة و معاذ بن جبل و ابن عباس و بريدة و واثلة بن الأسقع و أنس و غيرهم و في سرد القصة اختلاف ما في ألفاظهم، و رواه الترمذي و غيره عن أبي اليسر و هو صاحب القصة. 

  • و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) 

تفسير الميزان ج۱۱

68
  • أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال: حسنة و ليست إياها. فقال بعضهم: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ} قال: حسنة و ليست إياها. و قال بعضهم: {وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} قال: حسنة و ليست إياها. 

  • قال: ثم أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا و الله ما عندنا شي‌ء. قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: أرجى آية في كتاب الله: {وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ طَرَفَيِ اَلنَّهَارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ} و قرأ الآية كلها، و قال: يا علي و الذي بعثني بالحق بشيرا و نذيرا إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه و قلبه لم ينفتل عن صلاته و عليه من ذنوبه شي‌ء كما ولدته أمه فإذا أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. 

  • ثم قال: يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم؟ أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و الله الصلوات الخمس لأمتي. 

  • أقول: و قد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و أنس و جابر و أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و فيه عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان من أين جئت؟ قال: و لم يقل في جوابه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): جئت من هنا و هاهنا. انظر بما تقطع به يومك فإن معك ملكا موكلا يحفظ و يكتب ما تعمل فلا تحتقر سيئة و إن كانت صغيرة فإنها ستسوؤك يوما، و لا تحتقر حسنة فإنه ليس شي‌ء أشد طلبا من الحسنة؛ إنها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه و تسقطه و تذهب به بعدك، و ذلك قول الله {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرى‌ لِلذَّاكِرِينَ} .

  • و فيه عن سماعة بن مهران قال: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجلٌ من أهل الجبال عن رجل أصاب مالا من أعمال السلطان فهو يتصدق منه و يصل قرابته و يحج ليغفر له ما 

تفسير الميزان ج۱۱

69
  • اكتسب، و هو يقول: {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ}فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة و لكن الحسنة تكفر الخطيئة. 

  • ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء و يصلي فيحسن الصلاة إلا غفرت له ما بينها و بين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه. 

  • أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث. 

  • و فيه أخرج الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و الديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يسأل عن تفسير هذه الآية: {وَ مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى‌ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و أهلها ينصف بعضهم بعضا. 

  • و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: {وَ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فقال: كانوا أمة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ عليهم الحجة. 

  • أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عنه (عليه السلام) مثله.

  • و في المعاني، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: و سألته عن قوله عز و جل: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.

  • و في تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني آل محمد و أتباعهم يقول الله: {وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.

  • و في تفسير العياشي، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن 

تفسير الميزان ج۱۱

70
  • قول الله: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: نزلت هذه بعد تلك. 

  • أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} لكونها خاصة ناسخة للآية الأولى العامة، و قد تقدم في الكلام على النسخ أنه في عرفهم (عليه السلام) أعم مما اصطلح عليه علماء الأصول، و الآيات الخاصة التكوينية ظاهرة في حكمها على الآيات العامة فإن العوامل و الأسباب الخاصة أنفذ حكما من العامة فافهمه. 

  • [سورة هود (١١): الآیات ١٢٠الی ١٢٣]

  • {وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَ جَاءَكَ فِي هَذِهِ اَلْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى‌ لِلْمُؤْمِنِينَ ١٢٠وَ قُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا عَلى‌ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ١٢١ وَ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ١٢٢ وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٢٣} 

  • (بيان) 

  • الآيات تلخص للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، و تنبئه أن السورة تبين له حق القول في المبدأ و المعاد و سنة الله الجارية في عباده فهي بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تعليم للحق، و بالنسبة إلى المؤمنين موعظة و ذكرى، و بالنسبة إلى الكافرين المستنكفين عن الإيمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجهم: اعملوا بما ترون و نحن عاملون بما نراه، و ننتظر جميعا صدق ما قص الله علينا من سنته الجارية في خلقه من إسعاد المصلحين و إشقاء المفسدين، و تختم بأمره (صلى الله عليه وآله و سلم) بعبادته و التوكل عليه لأن الأمر كله إليه. 

تفسير الميزان ج۱۱

71
  •  قوله تعالى: {وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} إلى آخر الآية أي و كل القصص نقص عليك تفصيلا أو إجمالا، و قوله: {مِنْ أَنْبَاءِ اَلرُّسُلِ} بيان لما أضيف إليه كل، و قوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} عطف بيان للأنباء أشير به إلى فائدة القصص بالنسبة إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو تثبيت فؤاده و حسم مادة القلق و الاضطراب منه. 

  • و المعنى نقص عليك أنباء الرسل لنثبت به فؤادك و نربط جأشك في ما أنت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلى الحق، و النهضة على قطع منابت الفساد، و المحنة من أذى قومك. 

  • ثم ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قومه مؤمنين و كافرين فقال فيما يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من فائدة نزول السورة: {وَ جَاءَكَ فِي هَذِهِ اَلْحَقُّ} و الإشارة إلى السورة أو إلى الآيات النازلة فيها أو الأنباء على وجه، و مجي‌ء الحق فيها هو ما بين الله تعالى في ضمن القصص و قبلها و بعدها من حقائق المعارف في المبدأ و المعاد و سنته تعالى الجارية في خلقه بإرسال الرسل و نشر الدعوة ثم إسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، و في الآخرة بالجنة، و إشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة. 

  • و قال فيما يرجع إلى المؤمنين: {وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى‌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فإن فيما ذكر فيها من حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسوه من علوم الفطرة في المبدأ و المعاد و ما يرتبط بهما، و فيما ذكر فيها من القصص و العبر موعظة يتعظون بها. 

  • قوله تعالى: {وَ قُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا عَلى‌ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} و هذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين، يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يختم الحجاج معهم و يقطع خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: أما إذا لم تؤمنوا و لم تنقطعوا عن الشرك و الفساد بما ألقيت إليكم من التذكرة و العبر و لم تصدقوا بما قصه الله من أنباء الأمم و أخبر به من سنته الجارية فيهم فاعملوا على ما أنتم عليه من المكانة و المنزلة، و بما تحسبونه خيرا لكم إنا عاملون، و انتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم إنا منتظرون فسوف تعرفون صدق النبإ الإلهي و كذبه. 

  • و هذا قطع للخصام و نوع تهديد أورده الله في القصص الماضية قصة نوح و هود و صالح (عليهم السلام)، و في قصة شعيب (عليه السلام) حاكيا عنه: {وَ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلى‌ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} آية 

تفسير الميزان ج۱۱

72
  • ٩٣ من السورة. 

  • قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ} لما كان أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم بالعمل بما تهوى أنفسهم و الانتظار، و إخبارهم بأنه و من آمن معه عاملون و منتظرون، في معنى أمره و من تبعه بالعمل و الانتظار عقبه بهاتين الجملتين ليكون على طيب من النفس و ثبات من القلب من أن الدائرة ستكون له عليهم. 

  • و المعنى فاعمل و انتظر أنت و من تبعك فغيب السماوات و الأرض الذي يتضمن عاقبة أمرك و أمرهم إنما يملكه ربك الذي هو الله سبحانه دون آلهتهم التي يشركون بها و دون الأسباب التي يتوكلون عليها حتى يديروا الدائرة لأنفسهم و يحولوا العاقبة إلى ما ينفعهم، و إلى ربك الذي هو الله يرجع الأمر كله فيظهر من غيبه عاقبة الأمر على ما شاءه و أخبر به، فالدائرة لك عليهم، و هذا من عجيب البيان. 

  • و من هنا يظهر وجه تبديل قوله: {رَبُّكَ} المكرر في هذه الآيات بلفظ الجلالة «الله» لأن فيه من الإشعار بالإحاطة بكل ما دق و جل ما ليس في غيره، و المقام يقتضي الاعتماد و الالتجاء إلى ملجإ لا يقهره قاهر و لا يغلب عليه غالب، و هو الله سبحانه و لذلك ترى أنه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرره من صفة الرب، و هو قوله: {وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

  • قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ} الظاهر أنه تفريع لقوله: {وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ} أي إذا كان الأمر كله مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئا و لا يستقل بشي‌ء فاعبده سبحانه و اتخذه وكيلا في جميع الأمور و لا تتوكل على شي‌ء من الأسباب دونه لأنها أسباب بتسبيبه غير مستقلة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شي‌ء منها. و ما ربك بغافل عما تعملون فلا يجوز التساهل في عبادته و التوكل عليه. 

تفسير الميزان ج۱۱

73
  • (١٢) سورة يوسف مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية ١١١) 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ١ الی ٣]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ، الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ١ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٢ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا اَلْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغَافِلِينَ ٣} 

  • (بيان) 

  • غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الذي أخلص إيمانه له تعالى إخلاصاً، و امتلأ بمحبته تعالى لا يبتغي له بدلا و لم يلو إلى غيره تعالى من شي‌ء، و أن الله تعالى يتولى هو أمره فيربيه أحسن تربية فيورده مورد القرب و يسقيه فيرويه من مشرعة الزلفى فيخلصه لنفسه و يحييه حياة إلهية، و إن كانت الأسباب الظاهرة أجمعت على هلاكه، و يرفعه و إن توفرت الحوادث على ضعته، و يعزه و إن دعت النوائب و رزايا الدهر إلى ذلته و حط قدره. 

  • و قد بين تعالى ذلك بسرد قصة يوسف الصديق (عليه السلام). و لم يرد في سور القرآن الكريم تفصيل قصة من القصص باستقصائها من أولها إلى آخرها غير قصته (عليه السلام)، و قد خصت السورة بها من غير شركة ما من غيرها. 

  • فقد كان (عليه السلام) عبدا مخلصا في عبوديته؛ فأخلصه الله لنفسه و أعزه بعزته و قد تجمعت الأسباب على إذلاله و ضِعته، فكلما ألقته في إحدى المهالك أحياه الله تعالى من نفس السبيل التي كانت تسوقه إلى الهلاكة؛ حسده إخوته فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر و أدخله في بيت الملك و العزة، راودته التي هو في بيتها عن نفسه و اتهمته عند العزيز و لم تلبث دون أن اعترفت عند النسوة ببراءته ثم اتهمته و أدخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، و كان قميصه الملطخ بالدم الذي جاءوا به إلى أبيه يعقوب أول يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره 

تفسير الميزان ج۱۱

74
  • فصار قميصه بعينه و قد أرسله بيد إخوته من مصر إلى أبيه آخر يوم هو السبب في عود بصره إليه، و على هذا القياس. 

  • و بالجملة كلما نازعه شي‌ء من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد أمره و نجاح طلبته، و لم يزل سبحانه يحوله من حال إلى حال حتى آتاه الحكم و الملك و اجتباه و علمه من تأويل الأحاديث و أتم نعمته عليه كما وعده أبوه. 

  • و قد بدأ الله سبحانه قصته بذكر رؤيا رآها في بادئ الأمر و هو صبي في حجر أبيه و الرؤيا من المبشرات ثم حقق بشارته و أتم كلمته فيه بما خصه به من التربية الإلهية، و هذا هو شأنه تعالى في أوليائه كما قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْرى‌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ} يونس: ٦٤. 

  • و في قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف و تعبير أبيه (عليه السلام) لها: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} إشعار بأنه كان هناك قوم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عما يرجع إلى هذه القصة، و هو يؤيد ما ورد أن قوما من اليهود بعثوا مشركي مكة أن يسألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن سبب انتقال بني إسرائيل إلى مصر و قد كان يعقوب (عليه السلام) ساكنا في أرض الشام فنزلت السورة. 

  • و على هذا فالغرض بيان قصته (عليه السلام) و قصة آل يعقوب، و قد استخرج تعالى ببيانه ما هو الغرض العالي منها و هو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من مفتتح السورة و مختتمها، و السورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، و ما ورد في بعض الروايات عن ابن عباس أن أربعا من آياتها مدنية، و هي الآيات الثلاث التي في أولها، و قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد. 

  • قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ} الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم و التفخيم، و الظاهر أن يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلو و هو مبين واضح في نفسه و مبين موضح لغيره ما ضمنه الله تعالى من المعارف الإلهية و حقائق المبدأ و المعاد. 

  • و قد وصف الكتاب في الآية بالمبين لا كما في قوله في أول سورة يونس: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْحَكِيمِ} لكون هذه السورة نازلة في شأن قصة آل يعقوب و بيانها، و من المحتمل أن 

تفسير الميزان ج۱۱

75
  • يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ. 

  • قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الضمير للكتاب بما أنه مشتمل على الآيات الإلهية و المعارف الحقيقية، و إنزاله قرآنا عربيا هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة و العربية، و جعله لفظا متلوا مطابقا لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في موضع آخر: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الزخرف: ٤. 

  • و قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} من قبيل توسعة الخطاب و تعميمه فإن السورة مفتتحة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ}، و على ذلك يجري بعد كما في قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} إلخ. 

  • فمعنى الآية - و الله أعلم - أنا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الآيات في مرحلة النزول ملبسا بلباس اللفظ العربي محلى بحليته؛ ليقع في معرض التعقل منك و من قومك أو أمتك، و لو لم يقلّب في وحيه في قالب اللفظ المقروّ أو لم يجعل عربيا مبينا لم يعقل قومك ما فيه من أسرار الآيات بل اختص فهمه بك لاختصاصك بوحيه و تعليمه. 

  • و في ذلك دلالة ما على أن لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعينها بالاستناد إلى الوحي و كونها عربية دخلا في ضبط أسرار الآيات و حقائق المعارف، و لو أنه أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمعناه و كان اللفظ الحاكي له لفظه (صلى الله عليه وآله و سلم) كما في الأحاديث القدسية مثلا أو ترجم إلى لغة أخرى خفي بعض أسرار آياته البينات عن عقول الناس و لم تنله أيدي تعقلهم و فهمهم. 

  • و عنايته تعالى فيما أوحى من كتابه باللفظ مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه كيف؟ و قد قسمه إلى المحكمات و المتشابهات و جعل المحكمات أم الكتاب ترجع إليها المتشابهات قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتَابِ وَ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} آل عمران: ٧ و قال تعالى أيضا: {وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} النحل ١٠٣. 

  • قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا اَلْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغَافِلِينَ } قال الراغب في المفردات: القص‌ تتبع الأثر يقال: قصصت أثره، و القصص‌ الأثر قال: فارتدا على آثارهما قصصا، و قالت لأخته قصيه. قال: 

تفسير الميزان ج۱۱

76
  • و القصص‌ الأخبار المتتبعة قال تعالى: {لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ}{فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}، {وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ}، {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ} انتهى. فالقصص هو القصة و أحسن القصص أحسن القصة و الحديث، و ربما قيل: إنه مصدر بمعنى الاقتصاص. 

  • فإن كان اسم مصدر فقصة يوسف (عليه السلام) أحسن قصة لأنها تصف إخلاص التوحيد في العبودية، و تمثل ولاية الله سبحانه لعبده و أنه يربيه بسلوكه في صراط الحب و رفعه من حضيض الذلة إلى أوج العزة، و أخذه من غيابة جب الإسارة و مربط الرقية و سجن النكال و النقمة إلى عرش العزة و سرير الملك. 

  • و إن كان مصدرا فالاقتصاص عن قصته بالطريق الذي اقتص سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنه اقتصاص لقصة الحب و الغرام بأعف ما يكون و أستر ما يمكن. 

  • و المعنى - و الله أعلم - نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن إليك و أنك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصة من الغافلين عنها. 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٤ الی ٦]

  • {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ٤ قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلى‌ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٥ وَ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلى‌ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٦} 

تفسير الميزان ج۱۱

77
  • (بيان)

  • تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف و قصها على أبيه يعقوب (عليهما السلام) فعبرها أبوه له و نهاه أن يقصها على إخوته، و هذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية و القرب من ربه، و هي بمنزلة المدخل في قصته (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة و الرأفة و الشفقة كما يدل عليه ما في الآية التالية: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ} إلخ. 

  • و قوله: {رَأَيْتُ} و {رَأَيْتُهُمْ} من الرؤيا و هي ما يشاهده النائم في نومته أو الذي خمدت حواسه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، و يشهد به قوله في الآية التالية: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلى‌ إِخْوَتِكَ} و قوله في آخر القصة: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ}

  • و تكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله: {رَأَيْتُ} و قوله: {لِي سَاجِدِينَ} و من فائدة التكرير الدلالة على أنه إنما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى، على أن ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب و الشمس و القمر مشاهدة أمر صوري و مشاهدة سجدتهم و خضوعهم و تعظيمهم له مشاهدة أمر معنوي. 

  • و قد عبر عن الكواكب و النيرين في قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} بما يختص بأولى العقل - ضمير الجمع المذكر و جمع المذكر السالم - للدلالة على أن سجدتهم كانت عن علم و إرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر. 

  • و قد افتتح سبحانه قصته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا التي أراها له و هي بشرى له تمثل له ما سيناله من الولاية الإلهية و يخص به من اجتباء الله إياه و تعليمه تأويل الأحاديث و إتمام نعمته عليه، و من هناك تبتدئ التربية الإلهية له لأن الذي بشر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، و لا ينتقل من شأن إلى شأن، و لا يواجه 

تفسير الميزان ج۱۱

78
  • نائبة، و لا يلقى مصيبة، إلا و هو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطّن نفسه على الصبر عليها. 

  • و هذه هي الحكمة في أن الله سبحانه يخص أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب و منزلة الزلفى كما في قوله: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } إلى أن قال {لَهُمُ اَلْبُشْرى‌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} يونس: ٦٤. 

  • قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلى‌ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ذكر في المفردات: أن الكيد ضرب من الاحتيال، و قد يكون مذموما و ممدوحا و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر. انتهى. و قد ذكروا أن الكيد يتعدى بنفسه و باللام. 

  • و الآية تدل على أن يعقوب لما سمع ما قصّه عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدل عليه أن يوسف (عليه السلام) سيتولى الله أمره و يرفع قدره، يسنده على أريكة الملك و عرش العزة، و يخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) و خاف من إخوته عليه و هم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - و هي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) و زوجه و أحد عشر من ولده غير يوسف، و ظاهرة الدلالة على أنهم جميعا سيخضعون و يسجدون ليوسف - حملهم الكبر و الأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه و بين ما تبشره به رؤياه. 

  • و لذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدل عليه قوله: {يَا بُنَيَّ} بلفظ التصغير، و نهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبرها له و ينبئه بما تدل عليه رؤياه من الكرامة الإلهية المقضية في حقه، و لم يقدم النهي على البشارة إلا لفرط حبه له و شدة اهتمامه به و اعتنائه بشأنه، و ما كان يتفرس من إخوته أنهم يحسدونه و أنهم امتلئوا منه بغضا و حنقا. 

  • و الدليل على بلوغ حسدهم و ظهور حنقهم و بغضهم قوله: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلى‌ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} فلم يقل: إني أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم و أكد تحقق الكيد منهم بالمصدر المفعول المطلق إذ قال: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} ،

تفسير الميزان ج۱۱

79
  • ثم أكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل: {إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إن لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذي هو الحسد و يثيره و يهيجه ليؤثر أثره السيئ و هو الشيطان الذي هو عدو للإنسان مبين لا خلة بينه و بينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته و تسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة و السعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه و آخرته فيفسد ما بين الوالد و ولده و ينزع بين الشقيق و شقيقه و يفرق بين الصديق و صديقه ليضلهم عن الصراط. 

  • فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليه السلام): يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنهم يحسدونك و يغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ و إغراء من الشيطان و قد تمكن من قلوبهم و لا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ} إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية و هي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، و منه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى: {يُجْبى‌ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} القصص: ٥٧ ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشي‌ء و حفظها من التفرق و التشتت، و فيه سلوك و حركة من الجابي نحو المجبي، فاجتباء الله سبحانه عبدا من عباده هو أن يقصده برحمته و يخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله و يحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة للإنسان و يركبه صراطه المستقيم، و هو أن يتولى أمره و يخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ} الآية ٢٤ من السورة. 

  • و قوله: {وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ} التأويل‌ هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الذي تتعقبه، و هو الحقيقة التي تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه و مشاعره كما تمثل سجدة أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر و خرورها أمامه ساجدة له، و قد تقدم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (الآية) آل عمران: ٧ في الجزء الثالث من الكتاب. 

  • و الأحاديث‌ جمع الحديث و ربما أريد به الرؤى لأنها من حديث النفس فإن نفس 

تفسير الميزان ج۱۱

80
  • الإنسان تصور له الأمور في المنام كما يصور المحدث لسُمّاعه الأمور في اليقظة، فالرؤيا حديث مثله، و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن الرؤى سميت أحاديث باعتبار حكايتها و التحديث بها، و هو كما ترى. 

  • و كذا ما قيل: إنها سميت أحاديث لأنها من حديث الملك إن كانت صادقة و من حديث الشيطان إن كانت كاذبة. انتهى، و فيه أنها ربما لم تستند إلى ملك و لا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ و نحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء و نزول الثلج و نحوهما. 

  • و رده بعضهم بأنه يخالف الواقع فإن رؤيا يوسف ليس فيها حديث و كذا رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر انتهى. و قد اشتبه عليه معنى الحديث و ظن أن المراد بقولهم: إن الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، و ليس كذلك بل المراد أن المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أن تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد و هذا كما يقال لمن يقصد أمرا و يعزم على فعل أو ترك أنه حدثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي أنه يصوره فأراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بأنه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، و بالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الأنباء و القصص بالتحديث اللفظي فهي حديث إما ملكي أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق أنها من أحاديث النفس بالمباشرة، و سيجي‌ء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. هذا. 

  • لكن الظاهر المتحصل من قصته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أن الأحاديث التي علمه الله تعالى تأويلها أعم من أحاديث الرؤيا، و إنما هي الأحاديث أعني الحوادث و الوقائع التي تتصور للإنسان أعم من أن تتصور له في يقظة أو منام فإن بين الحوادث و الأصول التي تنشأ هي منها و الغايات التي تنتهي إليها اتصالا لا يسع إنكاره، و بذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث و الحقائق التي تنتهي هي إليها. 

  • و يؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف 

تفسير الميزان ج۱۱

81
  • (عليه السلام)، و تأويل يوسف لرؤيا نفسه و رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا عزيز مصر و فيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} الآية ٣٧ من السورة، و كذا قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الآية ١٥ من السورة و سيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى. 

  • و قوله: {وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ} قال الراغب في المفردات: النعمة - بالكسر فالسكون - الحالة الحسنة، و بناء النِعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النَعمة بالفتح فالسكون التنعم و بناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة و الشتمة، و النعمة للجنس تقال للقليل و الكثير. 

  • قال: و الإنعام‌ إيصال الإحسان إلى الغير، و لا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} {وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} و النعماء بإزاء الضراء. 

  • قال: و النعيم‌ النعمة الكثيرة قال تعالى: {فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ} و قال تعالى: {جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ}، و تنعم‌ تناول ما فيه النعمة و طيب العيش، يقال: نعّمه تنعيما فتنعم أي لين عيش و خصب قال تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ} و طعام ناعم و جارية ناعمة انتهى. 

  • ففي الكلمة- كما ترى - شي‌ء من معنى اللين و الطيب و الملاءمة فكأنها مأخوذة من النعومة و هي الأصل في معناها، و قد اختص استعمالها بالإنسان لأن له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع و يستلئمه و يتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه مما يضره، كما أن المال و الأولاد و غيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد و نقمة لآخر و نعمة للإنسان في حال و نقمة في أخرى. 

  • و لذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال و الجاه و الأزواج و الأولاد و غير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلا إذا وقعت في طريق السعادة و منصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى، و أما إذا وقعت في طريق الشقاء و تحت ولاية الشيطان فإنما هي نقمة و ليست بنعمة، و الآيات في ذلك كثيرة. 

تفسير الميزان ج۱۱

82
  • نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه و فضل و رحمة لأنه خير يفيض الخير و لا يريد في موهبته شرا و لا سوء، و هو رؤوف رحيم غفور ودود، قال تعالى: {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم: ٣٤ و الخطاب في الآية لعامة الناس، و قال تعالى: {وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} المزمل: ١١، و قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‌ عِلْمٍ} الزمر: ٤٩ فهذه و أمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم: ٧. 

  • و بالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء الحياة و التوصل إلى السعادة نعما إلهية بالنسبة إليه، و إن كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما و هي جميعا من الله سبحانه نعم و إن كانت مكفورا بها. 

  • ثم إن وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن أوتي مالا و سلب الأمن و السلام فلا يتمكن من أن يتمتع به كما يريده و متى و أينما يريده، و إذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة

  • فقوله: {وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ} يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك و في حق آل يعقوب و هم يعقوب و زوجه و سائر بنيه كما كان رآه في رؤياه. 

  • و قد جعل يوسف (عليه السلام) أصلا و آل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: {عَلَيْكَ وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ} كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له و رأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر و أحد عشر كوكبا سجدا له. 

  • و قد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنه آتاه الحكم و النبوة و الملك و العزة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين و علمه من تأويل الأحاديث، و مما أتم به النعمة على آل يعقوب أنه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (عليه السلام)، و جاء به و بأهله جميعا من البدو و رزقهم الحضارة بنزول مصر. 

  • و قوله: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلى‌ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ} أي نظير ما أتم النعمة 

تفسير الميزان ج۱۱

83
  • من قبل على إبراهيم و إسحاق و هما أبواك فإنه آتاهما خير الدنيا و الآخرة فقوله: {مِنْ قَبْلُ} متعلق بقوله: {أَتَمَّهَا} و ربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله {أَبَوَيْكَ} و التقدير كما أتمها على أبويك الكائنين من قبل. 

  • و {إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ} بدل أو عطف بيان لقوله {أَبَوَيْكَ} و فائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمها الله على إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف (عليه السلام) و سائر آل يعقوب. 

  • و معنى الآية: و كما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، و يعلمك من تأويل الأحاديث و هو ما يئول إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة و يتم نعمته هذه و هي الولاية الإلهية بالنزول في مصر و اجتماع الأهل و الملك و العزة عليك و على أبويك و إخوتك و إنما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك و ما يستحقونه من غضبه. 

  • و التدبر في الآية الكريمة يعطي: 

  • أولا: أن يعقوب أيضا كان من المخلصين و قد علمه الله من تأويل الأحاديث فإنه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف و ما كان ليخبر عن خرص و تخمين دون أن يعلمه الله ذلك. 

  • على أن الله بعد ما حكى عنه لبنيه {يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} إلخ، قال في حقه: {وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}

  • على أنه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنه قال: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} فأخبر أنه من تأويل الحديث و قد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} إلخ، فأخبر أنه مخلص بفتح اللام لله كآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب نقي الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا و لذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الأحاديث، و الاشتراك في العلة كما ترى يعطي أن آباءه الكرام إبراهيم و إسحاق و يعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الأحاديث. 

تفسير الميزان ج۱۱

84
  • و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر: {وَ اُذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ} ص: ٤٦ و يعطي أن العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه. 

  • و ثانيا: أن جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا و هو سجدة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا له و ذلك أن سجدتهم له و فيهم يعقوب الذي هو من المخلصين و لا يسجد إلا لله وحده تكشف عن أنهم إنما سجدوا أمام يوسف لله و لم يأخذوا يوسف إلا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها و لا يقصد بذلك إلا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف و لا له إلا الله تعالى، و هذا هو كون العبد مخلَصا بفتح اللام لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شي‌ء كما يومئ إليه يوسف بقوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} و قد تقدم آنفا أن العلم بتأويل الأحاديث متفرع على الإخلاص. 

  • و من هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: {وَ كَذَلِكَ } أي كما رأيت نفسك مسجودا لها {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي يخلصك لنفسه {وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ}

  • و كذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا و هي أجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدل على أنهم سترتفع مكانتهم و يعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانية السعيدة، و هي الحياة الدينية العامرة للدنيا و الآخرة و يمتازون في ذلك من غيرهم. 

  • و من هنا مضى يعقوب في حديثه و قال: {وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك {وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ } أي علي و على زوجي و ولدي جميعا كما رأيتنا مجتمعين متقاربي الصور {كَمَا أَتَمَّهَا عَلى‌ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

  • و ثالثا: أن المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة و ضم الدنيا إلى الآخرة، و لا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع و بين اختصاص الاجتباء و تعليم تأويل الأحاديث بيعقوب و يوسف (عليه السلام) من بينهم لأن النعمة و هي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، و حيث نسبت إلى الجميع يأخذ كل منهم نصيبه منها. 

  • على أن من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم 

تفسير الميزان ج۱۱

85
  • بمعنى ذلك الأمر كما في قوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} الجاثية: ١٦ و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات. 

  • و رابعا: أن يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب و لذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث و عطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله و أفرده بالذكر حيث قال: {وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‌ آلِ يَعْقُوبَ}

  • و لذلك أيضا نسب هذه العناية و الرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة: {رَبُّكَ} و لم يقل: «يجتبيك الله» و لا «أن الله عليم حكيم فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، و أما أبواه إبراهيم و إسحاق فإن التعبير بما يشعر بالتنظير: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلى‌ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ} يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تأويل هذه الرؤيا أنه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و إخوته. فأما الشمس فأم يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أما أحد عشر كوكبا فإخوته، فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه، و كان ذلك السجود لله.

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس، في قوله تعالى: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} قال: إخوته «و الشمس» قال: أمه «و القمر» قال: أبوه، و لأمه راحيل ثلث الحسن. 

  • أقول: و الروايتان كما ترى تفسران الشمس بأمه و القمر بأبيه و لا تخلوان من ضعف، و ربما روي أن التي دخلت عليه بمصر هي خالته دون أمه فقد ماتت أمه قبل ذلك، و كذلك وردت في التوراة. 

  • و في تفسير القمي عن الباقر (عليه السلام): كان له أحد عشر أخا، و كان له من أمه أخ واحد يسمى بنيامين. قال: فرأى يوسف هذه الرؤيا و له تسع سنين فقصها على أبيه فقال: {يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ} (الآية). 

تفسير الميزان ج۱۱

86
  •  أقول: و في بعض الروايات أنه كان يومئذ ابن سبع سنين و في التوراة أنه كان ابن ست عشر سنة، و هو بعيد. 

  • و في قصة الرؤيا روايات أخرى سيجي‌ء بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٧ الی ٢١]

  • {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ٧ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٨ اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ٩ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ اَلسَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ١٠قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى‌ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ١١ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ١٢ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ١٣ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ ١٤ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١٥ وَ جَاؤُ أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ١٦ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنَا يُوسُفَ 

تفسير الميزان ج۱۱

87
  • عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَ لَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ١٧ وَ جَاؤُ عَلى‌ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ ١٨ وَ جَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلى‌ دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرى‌ هَذَا غُلاَمٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ١٩ وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كَانُوا فِيهِ مِنَ اَلزَّاهِدِينَ ٢٠وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‌ أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٢١} 

  • (بيان) 

  • شروع في القصة بعد ذكر البشارة التي هي كالمقدمة الملوحة إلى إجمال الغاية التي تنتهي إليها القصة، و الآيات تتضمن الفصل الأول من فصول القصة و فيه مفارقة يوسف ليعقوب (عليه السلام) و خروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، و قد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر، و أخرجته السيارة منها، و باعه إخوته من السيارة، و هم حملوه إلى مصر و باعوه من العزيز فبقي عنده. 

  • قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} شروع في القصة و فيه التنبيه على أن القصة مشتملة على آيات إلهية دالة على توحيد الله سبحانه، و أنه هو الولي 

تفسير الميزان ج۱۱

88
  • يلي أمور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة، و يثبتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره و يستنتج منها ما يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها. 

  • فهذه إخوة يوسف (عليه السلام) حسدوا أخاهم و كادوه و ألقوه في قعر بئر ثم شروه من السيارة عبدا يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك، و أن يذللوه فأعزه الله بعين سبب التذليل، و وضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع و الخفض، و أن يحولوا حب أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، و ذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الذي جاء به إليه البشير و ألقاه على وجهه. 

  • و لم يزل يوسف (عليه السلام) كلما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه و جعل فيه ظهور كرامته و جمال نفسه، و كلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة و منقبة شريفة ظاهرة، و إلى ذلك يشير يوسف (عليه السلام) حيث يعرف نفسه لإخوته و يقول: {أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} الآية ٩١ من السورة، و يقول لأبيه بحضرة من إخوته: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي} ثم تأخذه الجذبة الإلهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه و يعرض عن غيره فيقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} الآية ١٠١ من السورة. 

  • و في قوله تعالى: {لِلسَّائِلِينَ} دلالة على أنه كان هناك جماعة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن القصة أو عما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة. 

  • قوله تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ذكر في المجمع، أن العصبة هي الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، و يقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، و قيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، و لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط و النفر. انتهى. 

تفسير الميزان ج۱۱

89
  • و قوله: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا} القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف و أخاه الذي ذكروه معه، و كانت عدتهم عشرة و هم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب و إدارة مواشيه و أمواله كما يدل عليه قولهم: {وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ}

  • و قولهم: {لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ} بنسبته إلى يوسف مع أنهم جميعا أبناء ليعقوب و إخوة فيما بينهم يشعر بأن يوسف و أخاه هذا كانا أخوين لأم واحدة و أخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، والروايات تذكر أن اسم أخي يوسف هذا «بنيامين»، و السياق يشهد أنهما كانا صغيرين لا يقومان بشي‌ء من أمر بيت يعقوب و تدبير مواشيه و أمواله. 

  • و قولهم: {وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ} أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض، و هو حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم و حنقهم لهما و غيظهم على أبيهم يعقوب في حبه لهما أكثر منهم، و هو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}

  • و قولهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} قضاء منهم على أبيهم بالضلال و يعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة و فساد السيرة دون الضلال في الدين. 

  • أما أولا: فلأن ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم إنهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شئون أبيهم الحيوية و إصلاح معاشه و دفع كل مكروه يواجهه، و يوسف و أخوه طفلان صغيران لا يقويان من أمور الحياة على شي‌ء، و ليس كل منهما إلا كَلّا عليه و عليهم، و إذا كان كذلك كان توغل أبيهم في حبهما و اشتغاله بكليته بهما دونهم و إقباله عليهما بالإعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن حكمة الحياة تستدعي أن يهتم الإنسان بكل من أسبابه و وسائله على قدر ما له من التأثير، و قصر الإنسان اهتمامه على من هو كَلٌّ عليه و لا يغني عنه طائلا و الإعراض عمن بيده مفاتيح حياته و أزمة معاشه ليس إلا ضلالا من صراط الاستقامة و اعوجاجا في التدبير، و أما الضلال في الدين فله أسباب أخر كالكفر بالله و آياته و مخالفة أوامره و نواهيه. 

  • و أما ثانيا: فلأنهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم: {وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} و قولهم أخيرا: {يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } الآية ٩٧ من السورة و قولهم ليوسف أخيرا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا} و غير ذلك، و لو أرادوا بقولهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين. 

تفسير الميزان ج۱۱

90
  • و هم مع ذلك كانوا يحبون أباهم و يعظمونه و يوقرونه، و إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حب أبيهم كما قالوا: {اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فهم - كما يدل عليه هذا السياق - كانوا يحبونه و يحبون أن يخلص لهم حبه، و لو كان خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدؤوا بأبيهم دون أخيهم و أن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو و يصفو لهم الأمر ثم الشأن في يوسف عليهم أهون. 

  • و لقد جبهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ} الآية ٩٥ من السورة، و من المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإفراط في حب يوسف و المبالغة في أمره بما لا ينبغي. 

  • و يظهر من الآية و ما يرتبط بها من الآيات أنه كان يعقوب (عليه السلام) يسكن البدو و كان له اثنا عشر ابنا و هم أولاد علة، و كان عشرة منهم كبارا هم عصبة أولو قوة و شدة يدور عليهم رحى حياته و يدبر بأيديهم أمور أمواله و مواشيه، و كان اثنان منهم صغيرين أخوين لأم واحدة في حجر أبيهما و هما يوسف و أخوه لأمه و أبيه، و كان يعقوب (عليه السلام) مقبلا إليهما يحبهما حبا شديدا لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال و التقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف؟ و هو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ} ص: ٤٦ و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك. 

  • فكان هذا الحب و الإيثار يثير حسد سائر الإخوة لهما و يؤجج نائرة الأضغان منهم عليهما و يعقوب (عليه السلام) يتفرس ذلك و يبالغ في حبهما و خاصة في حب يوسف و كان يخافهم عليه و لا يرضى بخلوتهم به و لا يأمنهم عليه و ذلك يزيد في حسدهم و غيظهم فصار يتفرس من وجوههم الشر و المكر كما مرت استفادته من قوله {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} حتى رأى يوسف الرؤيا و قصها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه و ازداد حبه له و وجده فيه، و أوصاه أن يكتم رؤياه و لا يخبر إخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير غلب تدبيره. 

  • فاجتمع الكبار من بني يعقوب و تذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم و ما يصنعه بيوسف و أخيه حيث يشتغل بهما عنهم و يؤثرهما عليهم و هما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل و هم عصبة أولو قوة و شدة أركان حياته و أياديه الفعالة في 

تفسير الميزان ج۱۱

91
  • دفع كل رزية عادية و جلب منافع المعيشة و إدارة الأموال و المواشي، و ليس من حسن السيرة و استقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة أبيهم و حكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه. 

  • و لم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الآيات و قد تقدمت الإشارة إليها. 

  • و بذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية: 

  • منها: ما ذكره بعضهم أن هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل و المساواة جهل مبين و خطأ كبير لعل سببه اتهامهم إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات و لا سيما الإماء منهن‌۱ و هو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم و كانا أصغر أولاده. 

  • قال: و من فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد و تربيتهم على المحبة و العدل، و إنقاء وقوع التحاسد و التباغض بينهم و منه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له و محاباة لأخيه بالهوى، و قد نهى عنه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مطلقا، و منه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق و التقوى و العلم و الذكاء. 

  • و ما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا و ما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، و لكن ما يفعل الإنسان بغريزته و قلبه و روحه؟ أ يستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلا. انتهى. 

  • أما قوله: إن منشأ حسدهم و بغيهم اختلاف الأمهات و خاصة الإماء منهن «إلخ» ففيه: أن استدعاء اختلاف الأمهات اختلاف الأولاد و إن كان مما لا يسوغ إنكاره، و وجود ذلك في المورد محتمل، لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، و لو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به و لم يقنعوا به. 

    1. إشارة إلى ما في التوراة أن يعقوب كان له من الأولاد اثنا عشر ولدا ذكرا و هم راوبين و شمعون و لاوى و يهوذا و يساكر و زبولون و هؤلاء من ليئة بنت خاله، و يوسف و بنيامين من راحيل بنت خاله الأخرى. و دان و نفتالى من جارية راحيل، و جاد و أشير من زلفة جارية ليئة.

تفسير الميزان ج۱۱

92
  • و أما قوله: «و هو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم» و مفاده أن محبة يعقوب ليوسف إنما كانت رقة و ترحما غريزيا منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم. 

  • ففيه: أن هذا النوع من الحب المشوب بالرقة و الترحم مما يسلمه الكبار للصغار و ينقطعون عن مزاحمتهم و معارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم و ضعفائهم و اعترضوا بأن ذلك خلاف التعديل و التسوية فأجيبوا بأنهم صغار ضعفاء يجب أن يُرق لهم و يرحموا و يعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا و انقطعوا عن الاعتراض و أقنعهم ذلك. 

  • فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف و أخيه صورة الرقة و الرأفة و الرحمة لهما لصغرهما و هي التي يعهدها كل من العصبة في نفسه و يذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها و لم يذموا أباهم عليها و لكان قولهم: {وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ} دليلا عليهم يدل على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدل على ضلال أبيهم في زيادة حبه لهما. 

  • على أنهم قالوا لأبيهم حينما كلموا أباهم في أمر يوسف: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى‌ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} و من المعلوم أن إكرامه ليوسف و ضمه إليه و مراقبته له و عدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبة بالرقة و الرحمة له و لصغره و ضعفه. 

  • و أما قوله: و ما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال و معناه أن هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأن ذلك خلاف العدل و الإنصاف و أنه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب و علقة الروح مما لا يستطيعه الإنسان. 

  • ففيه أنه إفساد للأصول المسلمة العقلية و النقلية التي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء و العلماء بالله من الصديقين و الشهداء و الصالحين و ما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أن الإنسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها و محق الرذائل النفسانية التي أصلها و أساسها اتباع هوى النفس و إيثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة و بغية، و هذا أمر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من أهل التقوى و الورع فما الظن بالأنبياء 

تفسير الميزان ج۱۱

93
  • ثم بمثل يعقوب (عليه السلام) منهم. 

  • و ليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الأمور فما معنى هذه الأوامر و النواهي الجمة في الدين المتعلقة بها و هل هي إلا مجازفة صريحة. 

  • على أن فيما ذكره إزراء لمقامات أنبياء الله و أوليائه و حطا لمواقفهم العبودية إلى درجة المتوسطين من الناس أسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربهم، و قد عرف سبحانه الأنبياء بمثل قوله {وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الأنعام: ٨٧ و قال في يعقوب و أبويه إبراهيم و إسحاق (عليهما السلام): {وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الأنبياء: ٧٣، و قال فيهم أيضا: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدَّارِ} ص- ٤٦. 

  • فأخبر أنه هداهم إلى مستقيم صراطه و لم يقيد ذلك بقيد، و أنه اجتباهم و جمعهم و أخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك، فلا يبتغون إلا ما يريده من الحق و لا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيره، و قد كرر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بني آدم عن الشيطان و استثنى المخلصين: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} ص- ٨٣. 

  • فالحق أن يعقوب إنما كان يحب يوسف و أخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما التقوى و الكمال و من يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب، و لم يكن حبه هوى البتة. 

  • و منها ما ذكره بعضهم أن مرادهم من قولهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ضلاله في الدين، و قد عرفت أن سياق الآيات الكريمة يدفعه. 

  • و يقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء و إنما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته و العدول في أمرهم عن العدل و الاستقامة، و إذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية و الظلم في أخيهم و أبيهم، أجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل 

تفسير الميزان ج۱۱

94
  • النبوة و ربما أجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغارا مراهقين و من الجائز صدور أمثال هذه الأمور عن الأطفال المراهقين. و هذه أوهام مدفوعة، و ليس قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلى‌ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ} النساء: ١٦٣ الظاهر في نبوة الأسباط صريحا في إخوة يوسف. 

  • و الحق أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف و أذنبوا بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم و أصلحوا و قد استغفر لهم يعقوب و يوسف (عليه السلام) كما حكى الله عن أبيهم قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} الآية: ٩٨ من السورة بعد قولهم: {يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} و عن يوسف قوله: {يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} الآية: ٩٢ من السورة بعد اعترافهم له بقولهم: {وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}

  • و منها: قول بعضهم: إن إخوة يوسف إنما حسدوه بعد ما قص عليهم رؤياه و قد كان يعقوب نهاه أن يقص رؤياه على إخوته و الحق أن الرؤيا إنما أوجبت زيادة حسدهم و قد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه. 

  • قوله تعالى: {اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} تتمة قول إخوة يوسف، و الآية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله: {وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ} الآية ١٠٢ من السورة. 

  • و قد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث: {قَالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ } إلى قوله { إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}

  • فأوردوا أولا ذكر مصيبتهم في يوسف و أخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما و جذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها و لا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، و هذه محنة حالّةٌ بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيتهم و خيبة مسعاهم و ذلتهم بعد العزة و ضعفهم بعد القوة، و هو انحراف من يعقوب في سيرته و طريقته. 

  • ثم تذاكروا ثانيا في طريق التخلص من الرزية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة 

تفسير الميزان ج۱۱

95
  • و يراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، و آخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه و اللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه و يمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم و ينبسط حبه و حبائه فيهم. 

  • ثم اتفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني و هو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيارة و يذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره و يعفى أثره. 

  • فقوله تعالى: {اُقْتُلُوا يُوسُفَ} حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، و في ذكرهم يوسف وحده - و قد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف و أخاه معا: {لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا} - دليل على أنه كان مخصوصا بمزيد حب يعقوب و بلوغ عنايته و اهتمامه و إن كان أخوه أيضا محبوا بالحب و الإكرام من بينهم و كيف لا؟! و يوسف هو الذي رأى الرؤيا و بُشر بأخصّ العنايات الإلهية و الكرامات الغيبية، و قد كان أكبرهما و الخطر المتوجه من قبله إليهم أقرب ممّا من قِبل أخيه، و لعل في ذكر الأخوين معا إشارة إلى حب يعقوب لأمهما الموجب لحبه بالطبع لهما و تهييج حسد الإخوة و غيظهم و حقدهم بالنسبة إليهما. 

  • و قوله: {أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً} حكاية رأيهم الثاني فيه، و المعنى صيروه أو غربوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه، فيكون كالمقتول ينقطع أثره و يستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء و نظير ذلك. 

  • و الدليل عليه تنكير «أرض» و لفظ الطرح الذي يستعمل في إلقاء الإنسان المتاع أو الأثاث الذي يستغني عنه و لا ينتفع به للإعراض عنه. 

  • و في نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أن مجموع الرأيين كان هو المرضي عند أكثر الإخوة حتى قال قائل منهم: {لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ} إلخ. 

  • و قوله: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي افعلوا به أحد الأمرين حتى يخلو لكم وجه أبيكم، و هو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحب و العطف إلى نفسه كأنهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم حال يوسف بينه و بينهم و صرف وجهه إلى نفسه، فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم و اختص حبه بهم و انحصر إقباله عليهم. 

تفسير الميزان ج۱۱

96
  • و قوله: {وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} أي و تكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - و المآل واحد - قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية. 

  • و في هذا دليل على أنهم كانوا يرونه ذنبا و إثما، و كانوا يحترمون أمر الدين و يقدسونه لكن غلبهم الحسد و سوّلت لهم أنفسهم اقتراف الذنب و ارتكاب المظلمة و آمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهية و هو أن يقترفوا الذنب ثم يتوبوا. 

  • و هذا من الجهل فإن التوبة التي شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فإن من يوطن نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله و الخضوع لمقامه حقيقة بل إنما يقصد المكر بربه في دفع ما أوعده من العذاب و العقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه أولا: أن يذنب فيتوب، فهي في الحقيقة تتمة ما رامه أولا من نوع المعصية و هو الذنب الذي تعقبه توبة و ليست رجوعا إلى ربه بالندم على ما فعل. و قد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ} (الآية) النساء: ١٧ في الجزء الرابع من الكتاب. 

  • و قيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا و انتظام الأمور فيها و المعنى و تكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم. 

  • قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ اَلسَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} الجب‌ هو البئر التي لم يطو، أي لم يبن داخلها بالحجارة، و إن بني بها سميت البئر طويا، و الغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الذي يغيب ما فيه من الأنظار و غيابة الجب‌ قعره الذي لا يرى لما فيه من الظلمة. 

  • و قد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الذي يشير إليه قوله: {أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً} إلا أنه قيده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدي إلى هلاكه كأن يلقى في بئر و يترك فيها حتى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأي يتضمن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكا لذي رحم، و هو أن يلقى في بعض الآبار التي على طريق المارة حتى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه و يسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره و تقطع خبره، و السياق يشهد بأنهم 

تفسير الميزان ج۱۱

97
  • ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه و قد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية. 

  • و اختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنه كان أحد إخوته لقوله تعالى {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، و قيل: هو يهوذا، و قد كان أسنهم و أعقلهم، و قيل: هو لاوى، و لا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه. 

  • و ذكر بعضهم: أن تعريف الجب باللام يدل على أنه كان جبا معهودا فيما بينهم، و هو حسن لو لم يكن اللام للجنس، و قد اختلفوا أيضا في أن هذا الجب أين كان هو؟ على أقوال مختلفة لا يترتب على شي‌ء منها فائدة طائلة. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى‌ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أصل {لاَ تَأْمَنَّا} لا تأمننا ثم أدغم بالإدغام الكبير. 

  • و الآية تدل على أن الإخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب، و أجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف و يفعلوا به ما عزموا عليه و قد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف و لا يخليه و إياهم فكان من الواجب قبلا أن يزكوا أنفسهم عند أبيهم و يجلوا قلبه من كدر الشبهة و الارتياب حتى يتمكنوا من أخذه و الذهاب به. و لذلك جاءوا أباهم و خاطبوه بقولهم: {يَا أَبَانَا } و فيه إثارة للعطف و الرحمة و إيثار للمودة {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى‌ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي و الحال أنا لا نريد به إلا الخير و لا نبتغي إلا ما يرضيه و يسره. 

  • ثم سألوه ما يريدونه و هو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم و غنمهم ليرتع و يلعب هناك، و هم حافظون له فقالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا} إلخ. 

  • قوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الرتع‌ هو توسع الحيوان في الرعي و الإنسان في التنزه و أكل الفواكه و نحو ذلك. 

  • و قولهم {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ} اقتراح لمسئولهم كما تقدمت الإشارة إليه 

تفسير الميزان ج۱۱

98
  • و قولهم: {وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أكدوه بوجوه التأكيد: إن و اللام و الجملة الاسمية على وزان قولهم: {وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} كما يدل أن كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعا من التطيب لنفس أبيهم كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه إيانا معشر الإخوة كأن نقصده بسوء فإنا له لناصحون و إن كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كان يدهمه المكروه و نحن مساهلون في حفظه و مستهينون في كلاءته فإنا له لحافظون. 

  • فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعي: ذكروا أولا أنه في أمن من ناحيتهم دائما ثم سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا أنهم حافظون له ما دام عندهم، و بذلك يظهر أن قولهم: {وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} تأمين له دائمي من ناحية أنفسهم، و قولهم: {وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} تأمين له موقت من غيرهم. 

  • قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} هذا ما ذكر أبوهم جوابا لما سألوه، و لم ينف عن نفسه أنه لا يأمنهم عليه و إنما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال و قد أكد كلامه: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} و قد كشف عن المانع أنه نفسه التي يحزنها ذهابهم به و لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم و لئلا يهيج ذلك عنادهم و لجاجهم و هو من لطائف النكت. 

  • و اعتذر إليهم في ذلك بقوله: {وَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} و هو عذر موجه فإن الصحاري ذوات المراتع التي تأوي إليها المواشي و ترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها و تكمن فيها للافتراس و الاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم و يغفلوا عنه فيأكله الذئب. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} تجاهلوا لأبيهم كأنهم لم يفقهوا إلا أنه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه رد منكر مستغرب، و ذكروا لتطيب نفسه أنهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس و شدة، و أقسموا بالله إنّ أكْل الذئب إياه و هم عصبة يقضي بخسرانهم و لن يكونوا خاسرين البتة، و إنما أقسموا - كما يدل عليه لام القسم - ليطيبوا نفسه و يذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، و هذا شائع في الكلام، و في الكلام وعد ضمني منهم له أنهم لن يغفلوا، لكنهم لم يلبثوا يوما حتى كذبوا أنفسهم فيما أقسموا له و أخلفوه ما وعدوه إذ قالوا: 

تفسير الميزان ج۱۱

99
  • {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ} (الآية). 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ} قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ}. قال: و يقال أجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه. انتهى. 

  • و في المجمع: أجمعوا أي عزموا جميعا أن يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر و اتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشي‌ء لا يقال فيه أنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي. انتهى. 

  • و الآية تشعر بأنهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول و أرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإنفاذ ما أزمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجب. 

  • و جواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الأمر و فظاعته، و هي صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلم يصف أمرا فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب و لا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه و الأحوال التي تؤدي إليه فيجري في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على أن صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلم أن يصرح به و لا يطيق السامع أن يسمعه. 

  • فكأن الذي يصف القصة - عز اسمه - لما قال: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ} سكت مليا و أمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى و أسفا لأن السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء و لم يأت بجرم يستحق به شيئا مما ارتكبوه فيه و هم إخوته و هم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصديق بأيدي إخوته، و يثكل أبا كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، و يزين بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربوا في حجر النبوة و نشئوا في بيت الأنبياء. 

  • و لما حصل الغرض بالسكوت عن جواب "لما" جرى سبحانه في ذيل القصة فقال: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الضمير ليوسف 

تفسير الميزان ج۱۱

100
  • و ظاهر الوحي أنه من وحي النبوة، و المراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إياه في غيابة الجب، و كذا الظاهر أن جملة {وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال من الإيحاء المدلول عليه بقوله: {وَ أَوْحَيْنَا} «إلخ» و متعلق {لاَ يَشْعُرُونَ} هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإيحاء أي و هم لا يشعرون بما أوحينا إليه. 

  • و المعنى - و الله أعلم - و أوحينا إلى يوسف أقسم لتخبرنهم بحقيقة أمرهم هذا و تأويل ما فعلوا بك فإنهم يرونه نفيا لشخصك و إنساء لاسمك و إطفاء لنورك و تذليلا لك و حطا لقدرك و هو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزة و عرش المملكة و إحياء لذكرك و إتمام لنورك و رفع لقدرك و هم لا يشعرون بهذه الحقيقة و ستنبئهم بذلك، و هو قوله لهم و قد اتكى على أريكة العزة و هم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم: {يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ} إذ قال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } إلى أن قال { أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا} إلخ. 

  • انظر إلى موضع قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} فإنه إشارة إلى أن هذا الذي تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، و قوله: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} فإنه يحاذي من هذه الآية التي نحن فيها قوله: {وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}

  • و قيل: في معنى الآية وجوه أخر: 

  • منها: أنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، و هو الذي أخبرهم به في مصر و هم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه. 

  • و منها: أن المراد بإنبائه إياهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعد من أساء إليه فيقول: لأنبئنك و لأعرفنك. 

  • و منها: قول بعضهم كما روي عن ابن عباس أن المراد بإنبائه إياهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم و هم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظن فقال: إن هذا الجام يخبرني أنكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب و بعتموه بثمن بخس. 

  • و هذه وجوه لا تخلو من سخافة و الوجه ما قدمناه، و قد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى: {إِلَى اَللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المائدة: ١٠٥ و قوله: {وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} المائدة: ١٤،

تفسير الميزان ج۱۱

101
  • و قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} المجادلة: ٦ إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة. 

  • و منها: قول بعضهم إن المعنى و أوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك و هم لا يشعرون بهذا الوحي. و هذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد و لا حاجة إليه ظاهرا. 

  • و منها: قول بعضهم: إن معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك و عزتك و ملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم و يذلهم لك و يجعل رؤياك حقا و هم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله. 

  • و عمدة الفرق بين هذا القول و ما قدمناه من الوجه أن في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلامي إلى الإنباء بالحال الخارجي و الوضع العيني، و لا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} إلخ. 

  • قوله تعالى: {وَ جَاؤُ أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} العشاء آخر النهار، و قيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، و إنما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون و لا يكذبهم. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: أصل السبق‌ التقدم في السير نحو {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} و الاستباق‌ التسابق و قال: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} {وَ اِسْتَبَقَا اَلْبَابَ} انتهى، و قال الزمخشري في الكشاف: نستبق أي نتسابق، و الافتعال و التفاعل يشتركان كالانتضال و التناضل و الارتماء و الترامي و غير ذلك، و المعنى نتسابق في العدو أو في الرمي. انتهى. 

  • و قال صاحب المنار في تفسيره: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق و هو الغرض من المسابقة و التسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب، و قد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، و منه {فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ} فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، و قوله الآتي في هذه السورة {وَ اِسْتَبَقَا اَلْبَابَ} كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، و صيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، و لم يفطن 

تفسير الميزان ج۱۱

102
  • الزمخشري علامة اللغة و من تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى. 

  • أقول: و الذي مثل به من قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ} من موارد الغلب فإن من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات و المثوبات و القربات و أن يتقدم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق و كذا قوله تعالى: {وَ اِسْتَبَقَا اَلْبَابَ} فإن المراد به قطعا أن كلا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه و هذه لتمنعه من الفتح و هو معنى التسابق فالحق أن معنيي الاستباق و التسابق متحدان صدقا على المورد، و في الصحاح: سابقته فسبقته سبقا و استبقنا في العدو أي تسابقنا. انتهى، و في لسان العرب: سابقته فسبقته، و استبقنا في العدو، أي تسابقنا. انتهى. 

  • و لعل الوجه في تصادق استبق و تسابق أن نفس السبق معنى إضافي في نفسه، وزنة «افتعل» تفيد تأكد معنى «فعل» و إمعان الفاعل في فعله و أخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب و اكتسب و حمل و احتمل و صبر و اصطبر و قرب و اقترب و خفي و اختفى و جهد و اجتهد و نظائرها، و طرو هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخص السبق لنفسه و لا يتم إلا مع تسابق في المورد. 

  • و قوله: {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لقولنا، و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} العنكبوت: ٢٦. 

  • و المعنى - أنهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي و لعله كان في عدو فإن ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم و متاعهم و كان عنده يوسف على ما ذكروا و تركنا يوسف عند رحلنا و متاعنا فأكله الذئب، و من خيبتنا و مسكنتنا أنك لست بمصدق لنا فيما نقوله و نخبر به و لو كنا صادقين فيه. 

  • و قولهم: {وَ مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَ لَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب و انسدت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه و عذره غير مسموع و هو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر أن يخبر بالحق و يكشف عن الصدق و إن كان غير مصدق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال. 

تفسير الميزان ج۱۱

103
  •  قوله تعالى: {وَ جَاؤُ عَلى‌ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} الكذب‌ بالفتح فالكسر مصدر أريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب. 

  • و في الآية إشعار بأن القميص و عليه دم - و قد نكر الدم للدلالة على هوان دلالته و ضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإن من افترسته السباع و أكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق. و هذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب و لا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه و تناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع و أحوال خارجية تحف به و تنادي بالصدق و تكشف القناع عن قبيح سريرته و باطنه و إن حسنت صورته.

  • (كلام في أن الكذب لا يفلح) 

  • من المجرب أن الكذب لا يدوم على اعتباره و أن الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادعاه، و الوجه فيه أن الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب و إضافات غير متغيرة و لا متبدلة فلكل حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم و ملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض، و لها جميعا فيما بينها أحكام و آثار يتصل بعضها ببعض، و لو اختل واحد منها لاختل الجميع و سلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة، و هذا قانون كلي غير قابل لورود الاستثناء عليه. 

  • فلو انتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمانٍ، كان من لوازمه أن يفارق المكان الأول و يبتعد منه و يغيب عنه و عن كل ما يلازمه و يتصل به و يخلو عنه المكان الأول و يشغل به الثاني و أن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، و لو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأول اختلت جميع اللوازم المحتفة به. 

  • و ليس في وسع الإنسان و لا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات و الملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن 

تفسير الميزان ج۱۱

104
  • محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الأخرى و إلا فالثالثة و هكذا. 

  • و من هنا كانت الدولة للحق و إن كانت للباطل جولة، و كانت القيمة للصدق و إن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الزمر: ٣ و قال: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} المؤمن: ٢٨. و قال: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} النحل: ١١٦ و قال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} ق: ٥، و ذلك أنهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل و اعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضا و يدفع طرفٌ منه طرفا. 

  • قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ} هذا جواب يعقوب و قد فوجئ بنعي ابنه و حبيبه يوسف دخلوا عليه و ليس معهم يوسف و هم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بالدم، و قد كان يعلم بمبلغ حسدهم له و هم قد انتزعوه من يده بإلحاح و إصرار و جاؤوا بقميصه و عليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه و أخبروا به. 

  • فأضرب عن قولهم: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} إلخ، بقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} و التسويل‌ الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا، و أبهم الأمر و لم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم و ينتقم منهم لنفسه انتقاما و إنما يكظم ما هجم نفسه كظما. 

  • فقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف و بيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع و إنما يستند إلى مكر مكروه و تسويل من أنفسهم لهم، و الكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} إلى آخر الآية. 

  • و قوله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} مدح للصبر و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبب و التقدير: سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل و تنكير الصبر و حذف صفته و إبهامها للإشارة إلى فخامة أمره و عظم شأنه أو مرارة طعمه و صعوبة تحمله. 

  • و قد فرع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} على ما تقدم للإشعار بأن الأسباب التي أحاطت 

تفسير الميزان ج۱۱

105
  • به و أفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر، و ذلك أنه (عليه السلام) فقدَ أحب الناس إليه يوسف و هو ذا يذكر له أنه صار أكلة للذئب و هذا قميصه ملطخا بالدم و هو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به، و يرى أن لهم صنعا في افتقاده و مكرا في أمره و لا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف و التجسس مما آل إليه أمره و أين هو؟ و ما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب و أعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه و هم عصبة أولوا قوة و شدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة و وقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ و بما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر. 

  • غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإنسان ما حمله من الرزية و ينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام و تلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه و جهزه بما يقدم به على النوائب و الرزايا ما استطاع، و لا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب و حفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانية من الاختلال، و ضبط الجمعية الداخلية من التفرق و التلاشي و نسيان التدبير و اختباط الفكر و فساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، و غيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شي‌ء. 

  • و من هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة و كسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية و إرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإنسان لدفع العدو المهاجم، و أما عود نعمة الأمن و السلامة و حرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز و الظفر، و هذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه؛ فعلى الإنسان الموحد إذا نابته نائبة و نزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي و لا يتلاشى معسكر قواه و مشاعره، ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب راجيا أن يدفع عنه الشر و يوجه أمره إلى غاية صلاح حاله، و الله سبحانه غالب على أمره، و قد تقدم شي‌ء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ } البقرة: ٤٥ في الجزء الأول من الكتاب. 

  • و لهذا كله لما قال يعقوب (عليه السلام): {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} عقبه بقوله: {وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ} فتمّم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات 

تفسير الميزان ج۱۱

106
  • المستقبلة: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} الآية ٨٣ من السورة. 

  • فقوله: {وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ} - و هو من أعجب الكلام - بيان لتوكله على ربه يقول: إني أعلم أن لكم في الأمر مكرا و إن يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن في كشف كذبكم و الحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله و لا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر و أوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضى نحبه و صار أكلة لذئب. 

  • فظهر أن قوله: {وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ} دعاء في موقف التوكل و معناه: اللهم إني توكلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بنيّ هؤلاء، و الكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر و معناها أن الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقا إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، و لتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر و لم يقل و الله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه و ذكر اسم ربه و إن الأمر منوط بحكمه الحق و هو من كمال توحيده و هو مستغرق في وجده و أسفه و حزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف و لا يتوله فيه و لا يجد لفقده إلا لله و في الله. 

  • قوله تعالى: {وَ جَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلى‌ دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرى‌ هَذَا غُلاَمٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره. انتهى، و قال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، و أدليتها إذا أخرجتها. انتهى، و قيل بالعكس، و قال: الإسرار خلاف الإعلان. انتهى. 

  • و قوله: {قَالَ يَا بُشْرى‌ هَذَا غُلاَمٌ} إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم و لذا قال: {قَالَ يَا بُشْرى‌} و نداء البشرى كنداء الأسف و الويل و نظائرهما للدلالة على حضوره و جلاء ظهوره. 

  • و قوله: {وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مفاده ذم عملهم و الإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و يمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد 

تفسير الميزان ج۱۱

107
  • بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لو لم يخرج من الجب و لم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك و العزة. 

  • و معنى الآية: و جاءت جماعة مارة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - و قد تعلق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع و التجارة و الحال أن الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أن ذلك كان بعلمه تعالى و كان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة و الملك و النبوة. 

  • قوله تعالى: {وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كَانُوا فِيهِ مِنَ اَلزَّاهِدِينَ} الثمن البخس‌ هو الناقص عن حق القيمة، و دراهم معدودة أي قليلة و الوجه فيه على ما قيل إنهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها و لا يعدون إلا القليلة منها و المراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ، و الشراء هو البيع، و الزهد هو الرغبة عن الشي‌ء أو هو كناية عن الاتقاء. 

  • و الظاهر من السياق أن ضميري الجمع في قوله: {وَ شَرَوْهُ} {وَ كَانُوا} للسيارة و المعنى أن السيارة الذين أخرجوه من الجب و أسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص و هي دراهم معدودة قليلة و كانوا يتقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم. 

  • و معظم المفسرين على أن الضميرين لإخوة يوسف و المعنى أنهم باعوا يوسف من السيارة بعد أن ادعوا أنه غلام لهم سقط في البئر و هم إنما حضروا هناك لإخراجه من الجب فباعوه من السيارة و كانوا يتقون ظهور الحال. 

  • أو أن أول الضميرين للإخوة و الثاني للسيارة و المعنى أن الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة و كانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد و الرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أن الأمر لا يخلو من مكر و أن الغلام ليس فيه سيماء العبيد. 

  • و سياق الآيات لا يساعد على شي‌ء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة و لم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير {وَ شَرَوْهُ} و {كَانُوا} أو أحدهما إليهم على أن ظاهر قوله في الآية التالية: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} أنه 

تفسير الميزان ج۱۱

108
  • اشتراه متحقق بهذا الشراء. 

  • و أما ما ورد في الروايات «أن إخوة يوسف حضروا هناك و أخذوا يوسف منهم بدعوى أنه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس» فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات و لا أنه يدفع الروايات. 

  • و ربما قيل: إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء و هو مسموع و هو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر و عرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر و أدخله في بيته. 

  • و قد أعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه و تعريفه فذكر فيها أولا بمثل قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} فأنبأت أنه كان رجلا من أهل مصر، و ثانيا بمثل قوله: {وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى اَلْبَابِ} فعرفته بأنه كان سيدا مصمودا إليه، و ثالثا بمثل قوله: {وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} فأوضحت أنه كان عزيزا في مصر يسلم له أهل المدينة العزة و المناعة، ثم أشارت إلى أنه كان له سجن و هو من شئون مصدرية الأمور و الرئاسة بين الناس، و علم بذلك أن يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز مصر و دخل بيت العزة. 

  • و بالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى إلا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة، و لم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلا من أهل مصر و بها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ}

  • و كيف كان، الآية تنبئ على إيجازها بأن السيارة حملوا يوسف معهم و أدخلوه مصر و شروه من بعض أهلها فأدخله بيته و وصاه امرأته قائلا: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}

  • و العادة الجارية تقضي أن لا يهتم السادة و الموالي بأمر أرقائهم دون أن يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة و الرشد، و يشاهد في سيماه الخير و السعادة، و على الخصوص الملوك و السلاطين و الرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات و مئات من 

تفسير الميزان ج۱۱

109
  • أحسن أفراد الغلمان و الجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه و لا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه و رجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق و على الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته و سيدة بيته و ليس من المعهود أن تباشر الملكات و العزيزات جزئيات الأمور و سفاسفها و لا أن تتصدى السيدات المنيعة مكانا، أمور العبيد و الغلمان. 

  • نعم؛ إن يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول و يوله الألباب، و كان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، و هذه صفات لا تنمو في الإنسان إلا و أعراقها ناجمة فيه أيام صباوته و آثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره. 

  • فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف و هو طفل صغير حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة و مقاصده العالية أو يدخل في أرومته و يكون ولدا له و لامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته. 

  • و من هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته و لذلك ترجى أن يتبنى هو و زوجته يوسف. 

  • فقوله: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ} أي العزيز {لاِمْرَأَتِهِ} و هي العزيزة {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي تصدي بنفسك أمره و اجعلي له مقاما كريما عندك {عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا} في مقاصدنا العالية و أمورنا الهامة {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} بالتبني. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‌ أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} قال في المفردات: المكان‌ عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشي‌ء قال و يقال: مكنته و مكنت له فتمكن، قال تعالى: {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ} {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} {أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} {وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} قال: قال الخليل: المكان‌ مفعل من الكون، و لكثرته في الكلام أجري مجرى فعال فقيل: تمكن و تمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقر الشي‌ء من الأرض، و الإمكان و التمكين‌ الإقرار و التقرير في المحل، و ربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشي‌ء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم و عند الناس و يقال: أمكنته من الشي‌ء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه و هو من قبيل الكناية. 

تفسير الميزان ج۱۱

110
  • و لعل المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة و التوسع فيها بعد ما حرم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض و يتغرب عن أرضه و مستقر أبيه. 

  • و قد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب و تسيير السيارة إياه إلى مصر و بيعه من العزيز و هو قوله في هذه الآية {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ} و ثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز و انتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} الآية ٥٦ من السورة و العناية في الموضعين واحدة. 

  • و قوله: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ} الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجب و بيعه و استقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز و استقراره فيه على أهنإ عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشي‌ء بنفسه ليدل به على غزارة الأوصاف المذكورة له و ليس من القسم المذموم من تشبيه الشي‌ء بنفسه كقوله: 

  • كأننا و الماء من حولنا***قوم جلوس حولهم ماء
  • بل المراد أن ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه و أخبرنا عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشي‌ء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه و أهميتها و تعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه. 

  • و من هذا الباب قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ} الشورى: ١١ و قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ} الصافات: ٦١ و المراد أن كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه و لا يماثله شي‌ء، و إن كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة و ماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به. 

  • و إن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلي ببعض أفراده ليدل به على أن سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض أجزائه للدلالة على أن الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور 

تفسير الميزان ج۱۱

111
  • فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب و دخوله مصر و استقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه و حرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب و سلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية و باعوه من السيارة ليغربوه من أهله، فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن و الاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال، ثم تعلقت به امرأة العزيز و راودته هي و نسوة مصر ليوردنه في الصبوة و الفحشاء فصرف الله عنه كيدهن و جعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه و صدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن و يسلبوا عنه حرية معاشرة الناس و المخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع. 

  • و بالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلْكَافِرِينَ } المؤمن ٧٤ و قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ} الرعد: ١٧ أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، و ضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب و هو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره. 

  • و قوله: {وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ} بيان لغاية التمكين المذكور و اللام للغاية، و هو معطوف على مقدر و التقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا و كذا و لنعلمه من تأويل الأحاديث و إنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب، و من هذا القبيل قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ} الأنعام: ٧٥ و نظائره. 

  • و قوله: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‌ أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الظاهر أن المراد بالأمر الشأن و هو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى: {يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} يونس: ٣، و إنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ} الأعراف: ٥٤. 

  • و المعنى أن كل شأن من شئون الصنع و الإيجاد من أمره تعالى و هو تعالى غالب عليه و هو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو 

تفسير الميزان ج۱۱

112
  • يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى و يفوته قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق: ٣. 

  • و بالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع و الطاعة و لكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أن الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعالة برؤوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شي‌ء و قد أخطئوا. 

  • (بحث روائي) 

  • في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: صليت مع علي بن الحسين (عليه السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلما فرغ من صلاته و تسبيحه نهض إلى منزله و أنا معه فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل إلا أطعمتموه فإن اليوم يوم الجمعة. 

  • قلت: ليس كل من يسأل مستحقا فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقا فلا نطعمه و نرده فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب و آله أطعموهم. 

  • إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به و يأكل هو و عياله منه، و إن سائلا مؤمنا صواما محقا له عند الله منزلة و كان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقه و لم يصدقوا قوله . فلما أيس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكى جوعه إلى الله و بات طاويا و أصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله و بات يعقوب و آل يعقوب شباعا بطانا، و أصبحوا و عندهم من فضل طعامهم. 

  • قال: فأوحى الله عز و جل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي، و استوجبت بها أدبي و نزول عقوبتي و بلواي عليك و على ولدك يا يعقوب إن أحب أنبيائي إلي و أكرمهم علي من رحم مساكين عبادي و قربهم إليه و أطعمهم و كان لهم مأوى و ملجأ. 

تفسير الميزان ج۱۱

113
  • يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لما اعتر ببابك عند أوان إفطاره و يهتف بكم أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئا فاسترجع و استعبر و شكى ما به إلي، و بات جائعا و طاويا حامدا و أصبح لي صائما و أنت يا يعقوب و ولدك شباع و أصبحت و عندكم فضل من طعامكم. 

  • أوَما علمت يا يعقوب إن العقوبة و البلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ و ذلك حسن النظر مني لأوليائي و استدراج مني لأعدائي. أما و عزتي لأنزلن بك بلواي، و لأجعلنك و ولدك غرضا لمصابي، و لأؤدبنك بعقوبتي فاستعدوا لبلواي و ارضوا بقضائي و اصبروا للمصائب. 

  • فقلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب و آل يعقوب شباعا، و بات فيها دميال طاويا جائعا فلما رأى يوسف الرؤيا و أصبح يقصها على أبيه يعقوب اغتم يعقوب لما سمع من يوسف و بقي مغتما فأوحى الله إليه أن استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك على إخوتك فإني أخاف أن يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه، و قصها على إخوته. 

  • قال علي بن الحسين (عليه السلام): إن أول بلوى نزل بيعقوب و آل يعقوب الحسد ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدت رقة يعقوب على يوسف و خاف أن يكون ما أوحى الله عز و جل إليه من الاستعداد للبلاء إنما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته عليه من بين ولده. 

  • فلما رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، و تكرمته إياه، و إيثاره إياه عليهم اشتد ذلك عليهم و بدا البلاء فيهم فتآمروا فيما بينهم و {قَالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} أي تتوبون. 

  • فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلى‌ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} فقال يعقوب {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فانتزعه مقدرا 

تفسير الميزان ج۱۱

114
  • حذرا عليه منه أن يكون البلوى من الله عز و جل على يعقوب من يوسف خاصة لموقعه في قلبه و حبه له. 

  • قال: فغلب قدرة الله و قضاؤه و نافذ أمره في يعقوب و يوسف و إخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه و لا يوسف و ولده، فدفعه إليهم و هو لذلك كاره متوقع البلوى من الله في يوسف. 

  • فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم و ضمه إليه و اعتنقه و بكى و دفعه إليهم فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم فلما أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم: {لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ} و لكن {أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ اَلسَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}

  • فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه و هم يظنون أنه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب ناداهم: يا ولد رومين أقرءوا يعقوب السلام مني فلما رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من هاهنا حتى تعلموا أنه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا {و رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب}

  • فلما سمع مقالتهم استرجع و استعبر و ذكر ما أوحى الله عز و جل إليه من الاستعداد للبلاء فصبر و أذعن للبلوى و قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} و ما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة. 

  • قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليه السلام) عند هذا. 

  • قال أبو حمزة: فلما كان من الغد غدوت إليه و قلت له: جعلت فداك إنك حدثتني أمس بحديث ليعقوب و ولده - ثم قطعته فيما كان من قصة إخوة يوسف و قصة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنهم لما أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف: أ مات أم هو حي؟ 

  • فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة و قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلما 

تفسير الميزان ج۱۱

115
  • أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب و جئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم و نحوا به ناحية فقالوا له: إما أن تقر لنا أنك عبد لنا فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك فقال لهم يوسف: لا تقتلوني و اصنعوا ما شئتم. 

  • فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا: من يشتري منكم هذا العبد منا؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهما و كان إخوته فيه من الزاهدين و سار به الذي اشتراه من البدو حتى أدخله مصر فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر و ذلك قول الله عز و جل: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}

  • قال أبو حمزة: فقلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب؟ فقال: ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ و بين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوما. (الحديث). 

  • أقول: و للحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى و فيه نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الآيات لكنها ترتفع بأدنى تأمل. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال:الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. 

  • و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبأ في منامه مثل يوسف و إبراهيم (عليه السلام)، و منهم من يعاين، و منهم من نكت في قلبه و يوقر في أذنه.

  • و فيه عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما ابتلي يعقوب بيوسف أنه ذبح كبشا سمينا و رجل من أصحابه يدعى بيوم بقوم محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله و لم يطعمه فابتلي بيوسف، و كان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب. 

  • و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: 

تفسير الميزان ج۱۱

116
  • {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} يقول: لا يشعرون أنك أنت يوسف. أتاه جبرئيل و أخبره بذلك. و فيه و في رواية أبي الجارود :في قول الله: {وَ جَاؤُ عَلى‌ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} قال: إنهم ذبحوا جديا على قميصه.

  • و في أمالي الشيخ، بإسناده :في قوله عز و جل: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال: بلا شكوى.

  • أقول: و كأن الرواية عن الصادق (عليه السلام) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه، و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن حيان بن جبلة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و في المضامين السابقة روايات أخر. 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٢٢ الی ٣٤]

  • {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ٢٢ وَ رَاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ ٢٣ وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ ٢٤ وَ اِسْتَبَقَا اَلْبَابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى اَلْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٥ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٢٦ وَ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٢٧ 

تفسير الميزان ج۱۱

117
  • فَلَمَّا رَأى‌ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ٢٨ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخَاطِئِينَ ٢٩ وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٣٠فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قَالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ٣١ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصَّاغِرِينَ ٣٢ قَالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ ٣٣ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٣٤} 

  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات قصته (عليه السلام) أيام لبثه في بيت العزيز و قد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له و مراودتها إياه عن نفسه، و مني بتعلق نساء المدينة به و مراودتهن إياه عن نفسه، و كان ذلك بلوى، و قد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه و طهارة ذيله أمر عجيب، و من 

تفسير الميزان ج۱۱

118
  • تولهه في محبة ربه ما هو أعجب. 

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه و تتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، و يأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل و يتم الرشد. 

  • و الظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، و الدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام): {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى‌ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً} القصص: ١٤ حيث دل على التوسط فيه بقوله: {اِسْتَوى‌}، و قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} الآية: الأحقاف: ١٥ فلو كان بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله: {بَلَغَ}

  • فلا مجال لما ذكره بعضهم: أن المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث و الثلاثين، و كذا ما قاله آخرون إن المراد به بلوغ الأربعين و هو سن الأربعين. على أن من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه و ريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره و أشرف على الشيخوخة تعلقت به و راودته عن نفسه. 

  • و قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْماً} الحكم‌ هو القول الفصل و إزالة الشك و الريب من الأمور القابلة للاختلاف على ما يتحصل من اللغة و لازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الأخلاق النفسانية و الشرائع و الآداب المرتبطة بالمجتمع البشري. 

  • و بالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} الآية ٤٠من السورة، و قوله بعد: {قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} الآية ٤١ من السورة يعلم أن هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، و هذا هو الذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربه إذ قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الشعراء: ٨٣. 

  • و قوله: {وَ عِلْماً} و هذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان و أي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني و لا تسويل شيطاني كيف؟ و الذي آتاهما هو الله سبحانه و قد قال تعالى: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ 

تفسير الميزان ج۱۱

119
  •  عَلى‌ أَمْرِهِ} الآية ٢١ من السورة، و قال: {إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق: ٣ فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب و الشك، و ما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة. 

  • ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية و لا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم و العلم لا تستوي هي و النفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها، و قد قال تعالى: {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} الأعراف: ٥٨ و إلى ذلك الإشارة بقوله: {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} حيث يدل على أن هذا الحكم و العلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين. 

  • و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله: {وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ} إن الله تعالى يجزي كل محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئا من الحكم و العلم يناسب موقعه في الإحسان و قد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} الحديد: ٢٨ و قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} الأنعام: ١٢٢. 

  • و هذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة: {وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ} و قوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ رَاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} قال في المفردات: الرود هو التردد في طلب الشي‌ء برفق و منه الرائد لطالب الكلاء، قال: و الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شي‌ء، قال: و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، و راودت فلانا عن كذا، قال تعالى: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} و قال: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} أي تصرفه عن رأيه، و على ذلك قوله: {وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} انتهى. 

  • و في المجمع: المراودة المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و منه المرود لأنه يعمل به، و لا يقال في المطالبة بدين: راوده، و أصله من راد يرود إذا طلب المرعى، و في 

تفسير الميزان ج۱۱

120
  • المثل: الرائد لا يكذب أهله، و التغليق‌ إطباق الباب بما يعسر فتحه، و إنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى. 

  • و هيت لك‌ اسم فعل بمعنى هلم، و معاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله. 

  • و الآية الكريمة {وَ رَاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} على ما فيها من الإيجاز تنبئ عن إجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها و السياق الذي هي واقعة فيه و سائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال و يكشف القناع عن تفصيل ما خبأ من الأمر. 

  • يوسف: 

  • هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد و لعله لم يسأل إلا عن اسمه، و لم يتكلم إلا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك و لم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين، و لم يسأل عن بيته و نسبه، فليس للعبيد بيوت و لم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب و هو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشي‌ء، و كم من حديث بين جوانحه، فلم يعرّف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن {وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} و لا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله: {مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} إلخ. 

  • هو اليوم حليف الصمت و السكوت لكن قلبه ملي‌ء بما يشاهده من لطيف صنع الله به، فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد و معنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه و يلحقه بآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و ليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنه تحت الولاية الإلهية و التربية الربوبية معني بأمره و سينبئ إخوته بأمرهم هذا و هم لا يشعرون. 

  • فكان (عليه السلام) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت 

تفسير الميزان ج۱۱

121
  • ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلا على خير و لا يواجه إلا جميلا. 

  • و هذا هو الذي هون عليه ما نزل به من النوائب، و تواتر عليه من المحن و البلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك و لم يجزع و لم يضل الطريق و قد ذكر ذلك لإخوته حين عرفهم نفسه بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} الآية ٩٠من السورة. 

  • فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه و يمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، و يزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية و يشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت و هو على كل شي‌ء شهيد، حتى تمكنت المحبة الإلهية منه و استقر الوله و الهيمان في سره فكان همه في ربه، لا يشغله عنه شاغل و لا يصرفه عنه صارف و لا طرفة عين، و هذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله: {مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} و قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} و قوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} و قوله: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} و غير ذلك كما سنبين إن شاء الله تعالى. 

  • فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية أنستْه نفسَه و شغلته عن كل شي‌ء، و صورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد. 

  • و لم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته إلا أنه غلام صغير عبري مملوك له غير أن قوله لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسى‌ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} يكشف أنه شاهد منه وقارا و تمكينا و تفرس فيه عظمة و كبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبني على ما في يوسف من عجيب الجمال و الحسن. 

  • امرأة العزيز: 

  • امرأة العزيز و هي عزيزة مصر، وصاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه و أعلمها أن له فيه إربة و أمنية فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف و تحسن مثواه و تهتم بأمره لا كما يهتم في أمر رقيق مملوك، بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة كبد، و تحبه لبديع جماله و غزير كماله و تزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم و استوى على مستوى 

تفسير الميزان ج۱۱

122
  • الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه و تذل على ما لها من مناعة الملك و العزة و عصمة العفة و الخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الآخذ بمجامع قلبها. 

  • و قد كان يوسف يلازمها في العشرة و لا يفارق بينها من جانب و كانت عزيزة لا يثني أمرها و لا ترد عزيمتها و كانت فيما تزعم سيدة يوسف و هو عبدها المملوك لا يسعه إلا أن يطيعها و ينقاد لها، و لبيوت الملوك و الأعزة أن تحتال لشتى مقاصدها و مآربها بأنواع الحيل و المكايد فإن عامة الأسباب و إن عزت و امتنعت ميسرة لها، و كانت العزيزة ذات جمال و زينة فإن حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة و لا تحل بها إلا غوان ذوات حسن فتانات. 

  • و العادة تحكم أن هذه الأسباب - و قد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرها كل لهيب، و أججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف و تولهت في غرامه و اشتغلت به عن كل شي‌ء، و قد أحاط بقلبها من كل جانب، هو أول منطقها إذا تكلمت و في ضميرها إذا سكتت فلا هم لها إلا يوسف و لا بغية لها إلا فيه {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} و ليوسف الجمال الذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محب واله و أدام النظر إليه مهيم ذو غرام. 

  • يوسف و امرأة العزيز: 

  • لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها و تمنيها بوصال يوسف و الظفر بما تبتغيه منه و تلاطفه في عشرته و تشفع ذلك بما لربات الحسن و الزينة من الغنج و الدلال لتصطاده بما عندها كما اصطادها بما عنده، و لعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف و سكوته كان يغرها فيما ترومه و يغريها عليه. 

  • حتى إذا تاقت نفسها له و بلغت بها و أعيتها المذاهب خلت به في بيتها و قد غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي و يوسف، و هي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها و لا يمتنع عليها لما كانت و لا تزال تراه بالسمع و الطاعة، و تشاهد أن الأوضاع و الأحوال الحاضرة تقضي بفوزها و نيلها ما تريده منه. 

  • فتى واله في حبه و فتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها و تتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب و مراودته عن نفسه و الاعتماد على ما لها من العزة و الملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر {هَيْتَ لَكَ} لتقهره 

تفسير الميزان ج۱۱

123
  • على ما تريده منه. 

  • و أما هو فقد استغرق في حب ربه و أخلص و صفي ذلك نفسه، فلم يترك لشي‌ء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه و حضرة منه يشاهد فيه جماله و جلاله و قد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب و لا يركن إلى الأعضاد. 

  • ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب و المراودة و الأمر بقولها: {هَيْتَ لَكَ} و أما هو فقد قابلها بقوله: {مَعَاذَ اَللَّهِ} فلم يجبها بتهديد و لم يقل: إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة و الطهارة أو إن عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، و لم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، و لو كان قلبه متعلقا بشي‌ء من الأسباب الظاهرة لذكره و بدأ به عند مفاجأة الشدة و نزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان. 

  • بل استمسك بعروة التوحيد و أجاب بالعياذ بالله فحسب و لم يكن في قلبه أحد سوى ربه و لا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية و أولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، و إنما قال {مَعَاذَ اَللَّهِ} و كم من الفرق بين قوله هذا و بين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} مريم: ١٨. 

  • و أما قوله لها ثانيا: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله: {مَعَاذَ اَللَّهِ} و يجليه، يقول: إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} فعل من ربي و إحسان منه إلي فربي أحسن مثواي و إن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به و ألوذ إليه، و إنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين و ارتكاب هذه المعصية ظلم و لا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه. 

  • فقد أفاد (عليه السلام) بقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أولا: أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه. 

تفسير الميزان ج۱۱

124
  • و ثانيا: أنه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا و يشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنها هي التي أكرمت مثواه عن وصية العزيز، و أنها و بعلها رَبّان له يتوليان أمره يرى هو أن الله سبحانه هو الذي أحسن مثواه و أنه ربه الذي يتولى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به. 

  • و ثالثا: أنه إنما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به و لا يهتدي إلى سعادته و لا يتمكن في حضرة الأمن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (عليه السلام): {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} انعام ٨٢. 

  • و رابعا: أنه مربوب أي مملوك مدبر لله سبحانه ليس له من الأمر شي‌ء، و لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله له أو أحب أن يأتي به و لذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله: {مَعَاذَ اَللَّهِ} إلخ، فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به و لم يقل: لا أرتكب كذا، و لم يقل: أعوذ بالله منك، و ما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول و القوة، و إشفاقا من وسمة الشرك و الجهالة اللهم إلا ما في قوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين و ليس فيه إلا تثبيت المربوبية و تأكيد الذلة و الحاجة، و لهذه العلة بعينها بدل الإكرام إحسانا فأتى حذاء قول العزيز: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} بقوله: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} لما في الإكرام من الإشعار باحترام الشخصية و تعظيمها. 

  • و بالجملة الواقعة و إن كانت مراجعة و مغالبة بين امرأة العزيز و يوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعا بين حب و هيمان إلهي، و عشقٍ و غرام حيواني يتشاجران في يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه، و كانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهية و دافعت عنه المحبة الإلهية و الله غالب على أمره. 

  • فقوله تعالى: {وَ رَاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} يدل على أصل المراودة، و الإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أن الأوضاع و الأحوال كانت لها عليه و أن الأمر كان عليه شديدا، و كذا قوله: {وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوَابَ} حيث عبر بالتغليق و هو يدل على المبالغة و علق الغلق بالأبواب و هو جمع محلى باللام و كذا قوله: {وَ قَالَتْ هَيْتَ لَكَ} حيث عبر بالأمر المولوي الدال على إعمال المولوية و السيادة مع إشعاره بأنها هيأت له 

تفسير الميزان ج۱۱

125
  • من نفسها ما ليس بينه و بين طلبتها إلا مجرد إقبال من يوسف، و لا بين يوسف على ما هيأت من العلل و الشرائط و نظمتها بزعمها و بين الإقبال عليها شي‌ء حائل، غير أن الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه و من العزيزة امرأة العزيز، و لله سبحانه العزة جميعا. 

  • و قوله: {قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: «أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربي الذي تولى أمري و أحسن مثواي و جعلني بذلك سعيدا مفلحا و لو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح و خرجت به من تحت ولايته. 

  • و قد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم و قد أتى أولا بلفظة «الجلالة» ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب. 

  • و احتمل عدة من المفسرين أن يكون الضمير في قوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} للشأن، و المراد أن ربي و مولاي و هو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، و لو أجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له و ما كنت لأخونه. 

  • و نظير الوجه قول بعضهم: إن الضمير عائد إلى العزيز و هو اسم إن و خبرها قوله: {رَبِّي}، و قوله: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، خبر بعد خبر. 

  • و فيه: أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول و هو في السجن: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ } الآية - ٥٢ من السورة و لم يقل: إني لم أظلمه بالغيب. 

  • على أنه (عليه السلام) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه، و هو حر غير مملوك له و إن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، و قد قال لأحد صاحبيه في السجن: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} الآية ٤٢ من السورة، و قال لرسول الملك: {اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ} الآية ٥١ من السورة و لم يعبر عن الملك بلفظ ربي على عادتهم في ذكر الملوك، و قال أيضا لرسول الملك: {فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا للرسول. 

تفسير الميزان ج۱۱

126
  • و يؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية: {لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ}

  • [بيان] 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ} التدبر البالغ في أطراف القصة و إمعان النظر فيما محتف به الجهات و الأسباب و الشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا للعادة و واقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة. 

  • فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شابا بالغا أشده و ذلك أوان غليان الشهوة و ثوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب و الجمال و الملاحة يدعو إلى الهوى و الترح، و كان مستغرقا في النعمة و هني‌ء العيش محبورا بمثوى كريم و ذلك من أقوى أسباب التهوس و الإتراف، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال و كذلك تكون حرم الملوك و العظماء. 

  • و كانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب، و هي عزيزة مصر و هي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس و تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف و ذلك كله مما يقطع اللسان و يصمت الإنسان، و قد تعرضت له و دعته إلى نفسها و الصبر مع التعرض أصعب، و قد راودته هذه الفتانة و أتت فيها بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه و الصبر معها أصعب و أشق، و كانت عزيزة لا يرد أمرها و لا يثنى رأيها، و هي ربته خصه بها العزيز، و كانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون و تدعو إلى كل عيش هني‌ء. 

  • و كانا في خلوة و قد غلقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن الشر مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هني‌ء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيها كالملك و العزة و المال. 

  • فهذه أسباب و أمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها و لم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز. 

تفسير الميزان ج۱۱

127
  • أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن منه. و لو كان بدا من ذلك شي‌ء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشي‌ء و قلبت العقوبة ليوسف حتى سجن. 

  • و أما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا و أشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهموا بقتله و يلقوه في غيابت الجب و يبيعوه من السيارة بيع العبيد و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي (عليه السلام) فبكى حتى ابيضت عيناه. 

  • و أما قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعية و القوانين الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، و ذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية و الحكومة العادلة، و أما لو أغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشي‌ء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب. 

  • فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد و هو الإيمان بالله. و إن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا و لا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في القصة. و لنرجع إلى متن الآية. 

  • فقوله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ} لا ريب أن الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، و السياق يعطي أن المراد بصرف السوء و الفحشاء عنه إنجاؤه مما أريد منه و سئل بالمراودة و الخلوة، و أن المشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ} هو ما يشتمل عليه قوله: {أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ}

  • فيئول معنى قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ} إلى آخر الآية إلى أنه (عليه السلام) لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء و الفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء و الفحشاء عن يوسف (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج۱۱

128
  • و لازم ذلك أن يكون الجزاء المقدر لقوله: {لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ} هو ارتكاب السوء و الفحشاء، و لازم ذلك أن يكون {لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌} إلخ، قيدا لقوله: {وَ هَمَّ بِهَا} و ذلك يقتضي أن يكون المراد بهمه بها نظير همها به هو القصد إلى المعصية و يكون حينئذ همه بها داخلا تحت الشرط، و المعنى أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها و أوشك أن يرتكب فإن {لَوْ لاَ} و إن كانت ملحقة بأدوات الشرط و قد منع النحاة تقدم جزائها عليها قياسا على إن الشرطية إلا أن قوله: {وَ هَمَّ بِهَا} ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} و هو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: و الله لأضربنه إن يضربني و المعنى: و الله إن يضربني أضربه. 

  • و معنى الآية: و الله لقد همت به و الله لولا أن رأى برهان ربه لهم بها و أوشك أن يقع في المعصية، و إنما قلنا: أوشك أن يقع، و لم نقل: وقع لأن الهم كما قيل لا يستعمل إلا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: {وَ هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} التوبة: ٧٤، و قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ} آل عمران: ١٢٢، و قول صخر: 

  • أهم بأمر الحزم لا أستطيعه***و قد حيل بين العير و النزوان
  • فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم و الاقتراب دون الارتكاب و الاقتراف، و قد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ} و لم يقل: لنصرفه من السوء و الفحشاء فتدبر فيه. 

  • و من هنا يظهر أن الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهم بها و الميل إليها كما أن المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل و لم يكد، و لولا ما أراه الله من البرهان لهم و كاد أن يفعل، و هذا المعنى هو الذي يؤيده ما قدمناه من الاعتبار و التأمل في الأسباب و العوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه. 

  • فقوله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} اللام فيه للقسم، و المعنى و أقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه و لا يكون الهم إلا بأن تشفع الإرادة بشي‌ء من العمل. 

  • و قوله: {وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، و المعنى أقسم لولا رؤيته برهان ربه لهم بها و كاد أن يجيبها لما تريده منه. 

  • و البرهان‌ هو السلطان و يراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة، 

تفسير الميزان ج۱۱

129
  • قال تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‌ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ} القصص: ٣٢، و قال: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} النساء: ١٧٤، و قال: {أَ إِلَهٌ مَعَ اَللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} النمل: ٦٤ و هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق و لا تدع ريبا لمرتاب. 

  • و الذي رآه يوسف (عليه السلام) من برهان ربه و إن لم يوضحه كلامه تعالى كل الإيضاح لكنه على أي حال كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل و الضلال بتاتا، و يدل على أنه كان من قبيل العلم قولُ يوسف (عليه السلام) فيما يناجي ربه كما سيأتي: {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} الآية ٣٣ من السورة، و يدل على أنه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال و قبحها و مصلحتها و مفسدتها أن هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال و المعصية و هو ظاهر قال تعالى: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى‌ عِلْمٍ} الجاثية: ٢٣ و قال: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} النمل: ١٤. 

  • فالبرهان الذي أراه به و هو الذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف و اليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا، و سنورد فيه بعض الكلام إن شاء الله تعالى. 

  • و قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ} اللام في {لِنَصْرِفَ} للغاية أو التعليل و المآل واحد و {كَذَلِكَ} متعلق بقوله {لِنَصْرِفَ} و الإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربه، و السوء هو الذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد و هو مطلق المعصية أو الهم بها، و الفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا، و قد تقدم أن ظاهر السياق انطباق السوء و الفحشاء على الزنا و الهم به. 

  • و المعنى: الغاية - أو السبب - في أن رأى برهان ربه هي أن نصرف عنه الفحشاء و الهم بها. 

  • و من لطيف الإشارة في الآية ما في قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ} حيث أخذ السوء و الفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، و هو ينافي شهادته تعالى بأنه من عباده 

تفسير الميزان ج۱۱

130
  • المخلَصين و هم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شي‌ء فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أي داع يدعو من دون الله سبحانه. 

  • و قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ} في مقام التعليل لقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ} «إلخ» و المعنى: عاملنا يوسف كذلك لأنه من عبادنا المخلصين، و هم يعاملون هذه المعاملة. 

  • و يظهر من الآية أن من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربهم، و إن الله سبحانه يصرف كل سوء و فحشاء عنهم فلا يقترفون معصية و لا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، و هذه هي العصمة الإلهية. 

  • و يظهر أيضا أن هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.

  •  

  • و للمفسرين من العامة و الخاصة في تفسير الآية أقوال مختلفة

  • ١ - منها: ما ذكره بعضهم و نسب إلى ابن عباس و مجاهد و قتادة و عكرمة و الحسن و غيرهم: أن المعنى أنها همت بالفاحشة و أنه هم بمثله لولا أن رأى برهان ربه لفعل. 

  • و قد وصفوا همه (عليه السلام) بما يجل عنه مقام النبوة و يتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا أنه قصدها بالفاحشة و دنا منها حتى حل السراويل و جلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربه أبطل الشهوة و نجاة من الهلكة، و ذكروا في وصف هذا البرهان أمورا كثيرة مختلفة. 

  • قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة: اختلفوا فيه - يعني في البرهان - ما هو؟ قال بعضهم: إن طائرا وقع على كتفه فقال في أذنه: لا تفعله فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء. و قيل: إنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه، و هو يقول: يا يوسف أ ما تراني؟ و قال الحسن البصري: رآها و هي تغطي شيئا فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أغطي وجه صنمي لئلا يراني فقال يوسف: أنت تستحيين الجماد الذي لا يعقل و لا يرى فأنا أولى أن أستحيي ممن يراني و يعلم سري و علانيتي. 

  • قال أرباب اللسان: إنه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء، 

تفسير الميزان ج۱۱

131
  • و تريد أن تفعل فعل السفهاء. و قيل: رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها: {وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا}. و قيل: انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة تقول: يا رسول العصمة لا تفعل فإنك معصوم. و قيل: نكس رأسه فرأى على الأرض مكتوبا: {مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِ}. و قيل: أتاه ملك و مسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من أصابع رجليه. و قيل: رأى الملك في البيت و هو يقول: ألست هاهنا؟ و قيل: وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه. و قيل: رأى جارية من جواري الجنة فتحير من حسنها فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يزني. 

  • و قيل: جاز عليه طائر فناداه: يا يوسف لا تعجل فإنها لك حلال و لك خلقت. و قيل: رأى ذلك الجب الذي كان بحذائه و عليه ملك قائم يقول يا يوسف أ نسيت هذا الجب. و قيل: رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها. و قيل رأى شخصا فقال: يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال: الزاني في بطني غدا فهرب منه. انتهى. 

  • و مما قيل فيه أنه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من أطراف أنامله رواه في الدر المنثور، عن مجاهد و عكرمة و ابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة التي أوردها في التفسير بالمأثور. 

  • و الجواب عنه مضافا إلى أنه (عليه السلام) كان نبيا ذا عصمة إلهية تحفظه من المعصية، و قد تقدم إثبات ذلك، أن الذي أورده الله تعالى من كرائم صفاته و إخلاص عبوديته لا يبقي شكا في أنه أطهر ساحة و أرفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث؛ فقد ذكر تعالى أنه من عباده الذين أخلصهم لنفسه و اجتباهم لعبوديته و آتاهم حكما و علما، و علمه من تأويل الأحاديث، و أنه كان عبدا متقيا صبورا في الله غير خائن و لا ظالم و لا جاهل، و كان من المحسنين و قد ألحقه بآبائه الصالحين إبراهيم و إسحاق و يعقوب. 

  • و كيف يستقيم هذه المقامات العالية و الدرجات الرفيعة إلا لإنسان طاهر في وجدانه منزه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله. 

  • و أما من ذهب لوجهه في معصية الله و هم بما هو من أفحش الإثم في دين الله و هو زنا ذات البعل و خيانة من أحسن إليه أبلغ الإحسان في عرضه و أصرّ عليه حتى حلّ التكة، 

تفسير الميزان ج۱۱

132
  • و جلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف، و ازدجر بنداء بعد نداء من كل جانب فلم يستحي و لم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رؤوس أصابعه، و شاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه و هرب من هول ما رأى، فمثله أحرى به أن لا يسمى إنسانا فضلا أن يتكئ على أريكة النبوة و الرسالة، و يأتمنه الله على وحيه، و يسلم إليه مفاتيح دينه، و يؤتيه حكمه و علمه و يلحقه بمثل إبراهيم الخليل. 

  • لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الأقاويل المختلفة و الإسرائيليات و الآثار الموضوعة إذ يتهمون جده إبراهيم (عليه السلام) في زوجته سارة لا يبالون أن يتهموا نجله (عليه السلام) في زوجة غيره. 

  • قال في الكشاف: و قد فُسر همّ يوسف بأنه حل الهميان و جلس منها مجلس المجامع، و بأنه حل تكة سراويله و قعد بين شعبها الأربع و هي مستلقية على قفاها، و فسر البرهان بأنه سمع صوتا إياك و إياها فلم يكترث له، فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته، و قيل ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. 

  • و قيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين هم، و قيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له، و قيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد و لا معصم مكتوب فيها: {وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} فلم ينصرف ثم رأى فيها: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى‌ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً} فلم ينته ثم رأى فيها: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ} فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل و هو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟! 

  • و قيل: رأى تمثال العزيز، و قيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته و قالت: أستحيي منه أن يرانا فقال يوسف: استحييت ممن لا يسمع و لا يبصر و لا أستحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور؟! 

  • و هذا و نحوه مما يورده أهل الحشو و الجبر الذين دينهم بهت الله تعالى و أنبيائه، و أهل العدل و التوحيد ليسوا من مقالاتهم و رواياتهم بحمد الله بسبيل. 

  • و لو وجدت من يوسف (عليه السلام) أدنى زلة لنعيت عليه و ذكرت توبته و استغفاره كما 

تفسير الميزان ج۱۱

133
  • نعيت على آدم زلته، و على داود و على نوح و على أيوب و على ذي النون و ذكرت توبتهم و استغفارهم كيف و قد أثنى عليه و سمي مخلصا؟! 

  • فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض و أنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة و العزم ناظرا في دليل التحريم و وجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه و مصدق لها، و لم يقتصر إلا على استيفاء قصته، و ضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجده الخليل إبراهيم (عليه السلام). و ليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة و طيب الإزار و التثبت في مواقع العثار. 

  • فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية و في حل تكته للوقوع عليها، و في أن ينهاه ربه ثلاث مرات، و يصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن و بالتوبيخ العظيم و بالوعيد الشديد و بالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، و هو جاثم في مربضه لا يتحلحل و لا ينتهي و لا يتنبّه حتى يتداركه الله بجبريل و بإجباره، و لو أن أوقح الزناة و أشطرهم و أحدهم حدقة وأجلحهم وجها لقي بأدنى ما لقي به مما ذكروا لما بقي له عرق ينبض و لا عضو يتحرك، فيا له من مذهب ما أفحشه و من ضلال ما أبينه. انتهى. 

  • و ما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذم أصحاب هذا القول: إنهم يتهمونه (عليه السلام) في هذه الواقعة و قد شهد ببراءته و طهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ} و الشاهد الذي شهد له من أهلها إذ قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} إلى آخر الآيتين، و العزيز إذ قال لامرأته: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} و امرأة العزيز إذ قالت: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} و النسوة إذ قلن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} و يوسف ينفي ذلك عن نفسه و قد سماه الله صديقا إذ قال: {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}

  • و عمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران: 

  • أحدهما: إفراطهم في الركون إلى الآثار و قبول الحديث كيفما كان و إن خالف 

تفسير الميزان ج۱۱

134
  • صريح العقل و محكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليات و ما يلحق بها من الأخبار الموضوعة المدسوسة، و أنستهم كل حق و حقيقة و صرفتهم عن المعارف الحقيقية. 

  • و لذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس، و لا للمقامات المعنوية الإنسانية كالنبوة و الولاية و العصمة و الإخلاص أصلا إلا الوضع و الاعتبار نظائر المقامات الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الإنسان الاعتباري التي ليست لها وراء التسمية و المواضعة حقيقة تتكئ عليها و تطمئن إليها. 

  • فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامية التي تنقلب بين الأهواء و بلغت بها الجهالة و الخساسة فإن ارتقت فإنما ترتقي إلى منزلة التقوى و رجاء الثواب و خوف العقاب تصيب كثيرا و تخطئ و إن لحقت بها عصمة إلهية في مورد أو موارد فإنما هي قوة حاجزة بين الإنسان و المعصية لا تعمل عملها إلا بإبطال سائر الأسباب و القوى التي جهز بها الإنسان و إلجاء الإنسان و اضطراره إلى فعل الجميل و اقتراف الحسنة، و لا جمال لفعل و لا حسن لعمل و لا مدح لإنسان مع الإلجاء و الاضطرار و للكلام تتمة سنوردها في بحث يختص به. 

  • الثاني: ظاهر قوله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ} بناء على ما ذكره النحاة أن جزاء {لَوْ لاَ} لا يتقدم عليها قياسا على إن الشرطية، و على هذا يصير قوله {وَ هَمَّ بِهَا} جملة تامة غير متعلقه بالشرط، و جواب لو لا قولنا «لفعل» أو ما يشبه ذلك و التقدير: و لقد همت امرأة العزيز بيوسف و هم يوسف بها لولا أن رأى برهان ربه لفعل، و هو المطلوب. 

  • و قد عرفت فساد ذلك و أن الجملتين معا أعني قوله: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} و قوله: {وَ هَمَّ بِهَا} قسميتان، و أن جزاء لولا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه، و الكلام على تقدير: و أقسم لقد همت به و أقسم لولا أن رأى برهان ربه لهم بها نظير قولهم: و الله لأضربنه إن ضربني. 

  • على أن الذي قدروه من المعنى كان الأنسب به أن يقال: «ولو لا أن رأى برهان ربه» بالوصل، و لا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل. 

  • ٢ - و من الأقوال في الآية أن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و انتزاع الغريزة قال في 

تفسير الميزان ج۱۱

135
  • الكشاف: فإن قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية و قصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة و نازعت إليها عن شهوة الشباب و قرمه ميلا يشبه الهم به و القصد إليه و كما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول و العزائم، و هو يكسر ما به و يرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم. 

  • و لو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء و شدته، و لو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. 

  • و يجوز أن يريد بقوله: {وَ هَمَّ بِهَا} و شارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل و مشافهته كأنه شرع فيه. 

  • ثم قال: فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفا يدل عليه {هَمَّ بِهَا}، و هلا جعلته هو الجواب مقدما. قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنه في حكم الشرط، و للشرط صدر الكلام و هو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، و لا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، و أما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز. 

  • فإن قلت: فلم جعلت لولا متعلقة بهم بها وحده؟ و لم تجعلها متعلقة بجملة قوله: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا} لأن الهم لا يتعلق بالجواهر و لكن بالمعاني فلا بد من تقدير المخالطة و المخالطة لا تكون إلا باثنين معا فكأنه قيل: و لقد هما بالمخالطة لو لا أن منع مانع أحدهما. 

  • قلت: نعم ما قلت و لكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا} فكان إغفاله إلغاء له فوجب أن يكون التقدير: و لقد همت بمخالطته و هم بمخالطتها، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، و توصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لو لا أن رأى برهان ربه فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت «لولا» حقيقة بأن تعلق بهم بها وحده انتهى. 

  • و لخصه البيضاوي في تفسيره، حيث قال: المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة لا القصد الاختياري و ذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح و الأجر 

تفسير الميزان ج۱۱

136
  • الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك: قتلته لو لم أخف الله. انتهى. 

  • و رد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم‌ و هو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه و أما مجرد ميل الطبع و منازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هما البتة و الهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، و الطبع و إن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما. 

  • أقول: هذا إنما يصلح جوابا لقولهم: إن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة، و أما تجويزه أن يكون المراد بالهم الإشراف على الهم فلا، بل هو قول على حدة في معنى الآية و هو أن يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إلى المخالطة و بهمه إشرافه (عليه السلام) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل و القرينة عليه هو وصفه تعالى إياه بما فيه مدح بالغ، و لو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أن المراد بهمه (عليه السلام) إشرافه على الهم لا الهم بالفعل. 

  • و الجواب: أنه معنى مجازي لا يصار إليه إلا مع عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقي، و قد تقدم أنه بمكان من الإمكان. 

  • على أن الذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه و أن المراد بها الرجوع إلى الحجة العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية و المحارم الإلهية معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل إلا في الإبصار الحسي أو المشاهدة القلبية التي هي بمنزلتها أو أظهر منها، و أما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة. 

  • ٣ - و من الأقوال في الآية: أن المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته و همه بها هو قصده أن يضربها للدفاع عن نفسه، و الدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على أنه من عباده المخلصين و قيام الحجة عقلا على عصمة الأنبياء (عليه السلام). 

  • قال في مجمع البيان: إن الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا} فعلق الهم بهما و ذاتاهما لا يجوز أن يراد و يعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد و يعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد 

تفسير الميزان ج۱۱

137
  • من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به. و قد أمكن أن نعلق عزمه بغير القبيح، و نجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال: و لقد همت بالفاحشة منه و أرادت ذلك و هم يوسف بضربها و دفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه و إيقاع مكروه به. 

  • و على هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح و قذفته بأنه دعاها إليه و ضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء و الفحشاء اللذين هما القتل و ظن اقتراف الفاحشة به، و يكون التقدير: لو لا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك، و يكون جواب لولا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}. انتهى موضع الحاجة. 

  • و الجواب: أنه قول لا بأس به لكنه مبني على التفرقة بين الهمين و هو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد و قد عرفت إمكان ذلك. 

  • على أن لازمه أن يكون المراد بالبرهان الذي رآه ما يدل على أنه إن ضربها استتبع ذلك هلاكه أو مصيبة أخرى تصيبه و يكون المراد بالسوء و الفحشاء القتل و التهمة - كما أشار إليه في المجمع - و هذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا. 

  • و أما ما ذكره في المجمع، من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمين معا، و محصله أن الهم إنما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده، و إذا فرض تحقق الهم من أحد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلق الإرادة بالمريد و الطلب من الطالب و بعث من هو مبعوث بالفعل. 

  • ففيه: أنه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون سبق و لحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كإنسانين يريدان الاقتراب و الاجتماع فربما يثبت أحدهما و يتحرك إليه الآخر، و ربما يتحركان و يقتربان و يتدليان معا و جسمين يريدان الانجذاب و الاتصال فربما يجذب أحدهما و ينجذب إليه الآخر و ربما يتجاذبان و يتدانيان. 

  • ٤ - و من الأقوال في الآية: أن المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب و الدفاع فهي لما راودته و ردها بالامتناع و الاستنكاف ثارت منها داعية الغضب و الانتقام و هاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط و الأسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما أمرته به، و هو 

تفسير الميزان ج۱۱

138
  • لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه و ضربها إن مستها بسوء، غير أن ضربه إياها و مقاومته لدفعها لما كان ربما يتهمه في أنه راودها عن نفسه و دعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك و ألهم أن يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه و يخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب. 

  • و لا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة أما في قوله: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} فلأن الهم لا يكون إلا بفعل للهامّ، و الوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به، و إنما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه، هذا أولا. 

  • على أن يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه و رضاها بتمكينه منه هما لها فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية و بعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله و مقدماته أيضا. و هذا ثانيا. 

  • على أن ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: و لقد هم بها و همت به لأن الأول هو المقدم في الطبع و الوضع و هو الهم الحقيقي، و الهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه. و هذا ثالثا. 

  • على أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه و لا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال: إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا أنه كان قبولا لطلبه و مواتاة له إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، و أما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير. و هذا رابعا. انتهى ملخصا مما أورده صاحب المنار في تفسيره. 

  • و الجواب: أنه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما أوردناه على سابقه، و أما ما يختص به أن المراد بهمها به قصدها إياه بضرب و نحوه فمما لا دليل عليه أصلا، و أما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدل على ذلك. 

  • و أما ما ذكره في استبعاد أن يراد من قوله: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} الهم على المخالطة أو عدم صحته فوجوه سخيفة جدا فإن من المعلوم أن هذه المخالطة تتألف عادة من حركات و سكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال و العمل دون القبول فلو همت به 

تفسير الميزان ج۱۱

139
  • بضم أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة، و تلجئه إلى إجابتها فيما تريده منه صح أن يقال: إنها همت به أي بمخالطته و ليس من الواجب أن يفسر همها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به إطلاق الهم عليه. 

  • و أما ما ذكره أخيرا أنها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح أن يراد بهمها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه أنها إنما كانت جازمة في إرادتها منه و عزيمتها عليه، و أما في تحقق الفعل و وقوعه على ما قدرته فلا. كيف؟ و قد شاهدت من يوسف الامتناع و الإباء عن مراودتها، و إنما همت به لما قابلها بالاستنكاف و لا جزم لها مع ذلك بإجابته لها و مطاوعته لما أرادته منه و هو ظاهر. 

  • ٥ - و من الأقوال في الآية: حمل الكلام على التقديم و التأخير و يكون التقدير: و لقد همت به و لو لا أن رأى برهان ربه لهم بها، و لما رأى برهان ربه لم يهم بها، و يجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لو لا أني تداركتك، و قد كنت قتلت لو لا أني خلصتك، و المعنى: لو لا تداركي لهلكت - و لو لا تخليصي لقتلت و إن كان لم يقع هلاك و قتل، و مثله قول الشاعر: 

  • فلا تدعني قومي ليوم كريهة***لئن لم أعجل ضربة أو أعجل‌ 
  • و في القرآن الكريم: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى‌ قَلْبِهَا} نسبه في المجمع، إلى أبي مسلم المفسر. 

  • و الجواب: أنه إن كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون: إن في القرآن تقديما و تأخيرا فإنما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم و اكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى: {وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} هود: ٧١ إنه من التقديم و التأخير، و إن التقدير: فبشرناها فضحكت و أما قوله: {وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ} فالمعنى يختلف فيه بالتقديم و التأخير فهو إذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للولا مقدما عليها على ما ذكروه، و إذا أخر كان هما مقيدا بالشرط. 

  • و إن كان المراد أنه جواب لل لا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على إن الشرطية و يؤولون ما سمع من ذلك، اللهم إلا أن يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل 

تفسير الميزان ج۱۱

140
  • على هذا القياس، و لا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك. 

  • ٦ - و من الأقوال في الآية: ما ذكروا أنها أول ما همت به في منامها و هم بها لأنه رآها في منامه فعند ذلك علم أنها له فلذلك هم بها. أورده الغزالي في تفسيره، قال: و هذا وجه حسن لأن الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي. انتهى. 

  • و الجواب أنه إن أريد به أن قوله: {وَ هَمَّ بِهَا} حكاية ما رآه يوسف (عليه السلام) في المنام فهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و إن أريد به أنه (عليه السلام) رآها في المنام و هم بها فيه، و اعتقد من هناك أنها له و خاصة بناء على أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم هم بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربه يبين له أنه قد أخطأ في زعمه ففيه إثبات خطإ الأنبياء في تلقي الوحي، و ليس ذلك بأقل محذورا من تجويز إقدامهم على المعاصي. 

  • على أن الآية السابقة و قد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه و استعاذ بالله منه تناقض ذلك فكيف يزعم أنها له و هو يعده ظلما و يستعيذ منه بالله سبحانه؟! 

  • فهذه عمدة الأقوال في الآية و هي مع ما قدمناه أولا ترتقي إلى سبعة أو ثمانية، و قد علمت أن معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل إنه سبب يقيني شاهده يوسف (عليه السلام)، و من قائل إنه الآيات و الأمور التي ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة، و من قائل إنه العلم بحرمة الزنا و عذابه، و من قائل إنه ملكة العفة، و من قائل إنه العصمة و الطهارة و قد عرفت ما هو الحق منها و سنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى. 

  • [تتمة البيان]‌ 

  • قوله تعالى: {وَ اِسْتَبَقَا اَلْبَابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} الاستباق‌ هو التسابق و قد تقدم، و القد والقط هو الشق إلا أن القد هو الشق طولا و القط هو الشق عرضا، و الدبر و القبل‌ كالخلف و الأمام. 

  • و السياق يعطي أن استباقهما كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (عليه السلام) يريد أن يفتحه و يتخلص منها بالخروج من البيت، و امرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح و الخروج لعلها تفوز بما تريده منه، و أن يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه 

تفسير الميزان ج۱۱

141
  • من الوراء فقدته و لم ينقدّ إلا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها و إلا لم ينشق طولا. 

  • و قوله: {وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى اَلْبَابِ} الإلفاء الوجدان يقال: ألفيته كذا أي وجدت و المراد بسيدها زوجها. قيل: إنه جري على عرف مصر و قد كانت النساء بمصر يلقبن زوجهن بالسيد، و هو مستمر إلى هذا الزمان. 

  • قوله تعالى: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، و إنما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب و حضورهما و الهيئة هذه الهيئة عنده، و يتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله: {وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى اَلْبَابِ} إلى تمام خمس آيات. 

  • فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه و تسأله أن يجازيه، فذكرت أنه أراد بها سوءا و عليه أن يسجنه أو يعذبه عذابا أليما لكنها لم تصرح بذلك و لا بشي‌ء من أطراف الواقعة بل كنّت و أتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلم يصرح باسم يوسف و هو المريد، و لا باسم نفسها و هي الأهل، و لا باسم السوء و هو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز و تقديسا لساحته. 

  • و لم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن و العذاب الأليم لأن قلبها الواله إليه الملي‌ء بحبه ما كان يساعدها على التعيين فإن في الإبهام نوعاً من الفرج إلا أن في تعبيرها بقولها: {بِأَهْلِكَ} نوعا من التحريض عليه و تهييجه على مؤاخذته، و لم يكن ذلك إلا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد و الأسى لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها، أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف (عليه السلام) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة. 

  • قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} لم يبدأ يوسف (عليه السلام) بالقول أدبا مع العزيز و صونا لها أن يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بُدّا دون أن يصرح بالحق فقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} و في الكلام دلالة على القصر و هي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي. 

  • و في كلامه هذا - و هو خال عن أقسام التأكيد كالقسم و نحوه - دلالة على سكون 

تفسير الميزان ج۱۱

142
  • نفسه (عليه السلام) و طمأنينته و أنه لم يحتشم و لم يجزع و لم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ كان لم يأت بسوء و لا يخافها و لا ما اتهمته و قد استعاذ بربه حين قال: {مَعَاذَ اَللَّهِ}

  • قوله تعالى: {وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} إلى آخر الآيتين. لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} «إلخ» بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إلخ، و قد قيل: إن هذا القول لما أدى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة. 

  • و قد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة و يتضح طريق القضية فتكلم فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} فإن من البين أن أحدهما صادق في دعواه و الآخر كاذب، و كون القد من قبل يدل على منازعتهما و مصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه، {وَ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} فإن كون القد من دبر يدل على هربه منها و تعقيبها إياه و اجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها. و هو ظاهر. 

  • و أما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم: كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن و قتادة و عكرمة، و قيل: كان رجلا و هو ابن عم المرأة و كان جالسا مع زوجها لدى الباب، و قيل: لم يكن من الإنس و لا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد، و رد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: «من أهلها». 

  • و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و بعض طرق أهل السنة أنه كان صبيا في المهد من أهلها، و سيجي‌ء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. 

  • و الذي ينبغي أن ينظر فيه أن الذي أتى به هذا الشاهد بيان عقلي و دليل فكري يؤدي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر، و مثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فإنها هي البيان المعتمد على الحس أو ما في حكمه و بالجملة القول الذي لا يعتمد على التفكير و التعقل كما في قوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ} حم السجدة: ٢٠، و قوله: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ} المنافقون: ١ فإن الحكم بصدق الرسالة و إن كان في نفسه مستندا إلى التفكر و التعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر و تعقل كما في موارد يعبر عنه فيها 

تفسير الميزان ج۱۱

143
  • بالقول و نحوه. 

  • فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل {وَ شَهِدَ شَاهِدٌ} إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو و فكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر و تعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتني على ترو و تفكر، و بهذا يتأيد ما ورد من الرواية أنه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيد الله سبحانه به قول يوسف (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأىَ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي فلما رأى العزيز قميص يوسف و الحال أنه مقدود مشقوق من خلف، قال إن الأمر من كيدكن معاشر النساء إن كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق. 

  • و نسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء، و كيدهن معهود معروف، و لذا استعظمه و قال ثانيا: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} و ذلك أن الرجال أوتوا من الميل و الانجذاب إليهن ما ليس يخفى و أوتين من أسباب الاستمالة و الجلب ما في وسعهن أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال و يسخرن أرواحهم بجلوات فتانة و أطوار سحارة تسلب أحلامهم، و تصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون، و هو الكيد و إرادة الإنسان بالسوء و مفاد الآية أن العزيز لما شاهد أن قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (عليه السلام) على امرأته. 

  • قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخَاطِئِينَ} من مقول قول العزيز أي إنه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر و أمر امرأته أن تستغفر لذنبها و من خطيئتها. 

  • فقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} يشير إلى ما وقع من الأمر و يعزم على يوسف أن يعرض عنه و يفرضه كأن لم يكن فلا يحدث به و لا يذيعه، و لم يرد في كلامه تعالى ما يدل على أن يوسف (عليه السلام) حدث به أحدا و هو الظن به (عليه السلام)، كما نرى أنه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير، و قد استولى عليها الوله و سلب منها الغرام كل حلم و حزم، و لم تكن المراودة مرة أو مرتين و الدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة: {اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ 

تفسير الميزان ج۱۱

144
  •  تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}

  • و قوله: {وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخَاطِئِينَ} يقرر لها الذنب و يأمرها أن تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة، و لذلك قيل: {مِنَ اَلْخَاطِئِينَ} و لم يقل من الخاطئات. 

  • و هذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء و حكم و القضاء للعزيز لا للشاهد. 

  • و من الخطإ قول بعضهم: إن معنى {وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى. بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز و كذا قول آخر: معناه: استغفري الله من ذنبك و توبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام. انتهى. 

  • و ذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون إلا الآلهة و الأرباب من دون الله سبحانه - و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب - على أن الآية لا تشتمل إلا على قوله: {وَ اِسْتَغْفِرِي} من دون أن يذكر المتعلق، و هو ربها المعبود لها في مذهبها. 

  • و ربما قيل: إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة، و الحق أن الذي تدل عليه أنه كان شديد الحب لامرأته. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الآية إلى تمام ست آيات. 

  • و الذي يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الأحوال و ما يستوجبه طبع القصة أنه لما كان من أمر يوسف و العزيزة ما كان، شاع الخبر في المدينة تدريجا، و صارت النساء و هن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن و محافلهم فيما بينهن و يعيّرن بذلك عزيزة مصر و يعبنها أنها تولهت إلى فتاها و افتتنت به و قد أحاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه، و ضلت به ضلالا مبينا. 

تفسير الميزان ج۱۱

145
  • و كان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد و العجب فإن المرأة تغلبها العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة و ركوز لطف الخلقة و جمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة و الجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال، و يورث ذلك فيها و خاصة في الفتيات إعجابا بالنفس و حسدا للغير. 

  • و بالجملة كان تحديثهن بحديث الحب و المراودة مكرا منهن بالعزيزة و فيه بعض السلوة لنفوسهن و الشفاء لغليل صدورهن و لمّا يرين يوسف، و لا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولهها و هتك سترها و إنما كنّ يتخيلن شيئا و يقايسن قياسا، و أين الرواية من الدراية و البيان من العيان. 

  • و شاع التحديث به في المسامرات حتى بلغ الخبر امرأة العزيز، تلك التي لا هم لها إلا أن تفوز في طلب يوسف و بلوغ ما تريد منه و لا تعبأ في حبه بشي‌ء من الملك و العزة إلا لأن تتوصل به إلى حبه لها و ميله إليها و إنجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها و علمت بمكرهن بها فأرسلت إليهن للحضور لديها و إنهن سيدات و نساء أشراف المدينة و أركان البلاد ممن له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه. 

  • فتهيأن للحضور و تبرزن بأحسن الجمال و أوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيدات، و كلٌّ تتمنى أن ترى يوسف و تشاهد ما عنده من الحسن الذي أوقع على العزيزة ما أوقع و فضحها. 

  • و العزيزة لا هم لها يومئذ إلا أن تريهن يوسف حتى يعذرنها و يشتغلن عنها بأنفسهن فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن، و هي لا تعبأ بافتتانهن بيوسف و لا تخاف عليه منهن؛ لأنها على ما تزعم مولاته و صاحبته و مالكة أمره، و هو فتاها المخصوص بها، و هي تعلم أن يوسف ليس بالذي يرغب فيهن أو يصبو إليهن و هو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام و الاعتزاز عن هذه الأهواء و الأميال. 

  • ثم لما حضرن عند العزيزة و أخذن مقاعدهن، و وقع الأنس و جرت المحادثة و المفاوضة و أخذن في التفكه آتت كل واحد منهن سكينا و قد هيأت لهن و قدمت إليهن الفاكهة، عند ذلك أمرت يوسف أن يخرج إليهن و قد كان مستورا عنهن. 

تفسير الميزان ج۱۱

146
  • فلما طلع يوسف عليهن و وقعت عليه أعينهن طارت عقولهن و طاحت أحلامهن و لم يدرين دون أن قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت و الذهول، و هذه خاصة الوله و الفزع فإن نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شي‌ء مما تفرط في حبه أو تخافه و تهوله اضطربت و بهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى و الأعضاء و تنظيم الأمر، فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه و ربما نسي الفرار فبقي كالجماد الذي لا حراك به، و ربما يفعل غير ما هو قاصده و فاعله اختباطا، و نظائرها في جانب الحب كثيرة و حكايات المغرمين و المتولهين من العشاق مشهورة. 

  • و كان هذا هو الفرق بين العزيزة و بينهن فإن استغراقها في حب يوسف إنما حصل لها تدريجا، و أما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال، و غادرهن الحب ففضحهن و أطار عقلهن و أضل رأيهن فنسين الفاكهة و قطعن أيديهن و تركن كل تجلد و اصطبار، و أبدين ما في أنفسهن من وله الحب، و قلن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}

  • هذا و هن في بيت العزيز و هو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب و وقار، و كان يجب أن يتقينها و يحتشمن موقعها و هن شريفات ذوات جمال و ذوات بعولة و ذوات خدر و ستر و هذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة و التهتك، و هن لم ينسين ما كنّ بالأمس يتحدثن به و يلمن و يذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف و هما في بيت واحد منذ سنين. 

  • فكان من الواجب على كل منهنّ أن تتقي صواحبها فلا تتهتك و هنّ يعلمن ما انجر إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر و فضاحة الشهرة هذا كله و يوسف واقف أمامهن يسمع قولهن و يشاهد صنعهن. 

  • لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن و بدل مجلس الأدب و الاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا، و لا يبالي حضارها ما قيل أو يقال فيهم و لم يلبثن دون أن قلن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} و قد قلن غير بعيد: {اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}

  • و كلامهن هذا بعد قولهن ذاك إعذار منهن فمفاده أن الذي كنا نقوله قبل إنما هو 

تفسير الميزان ج۱۱

147
  • حق لو كان هذا بشرا و ليس به و إنما يذم الإنسان و يعاب لو ابتلي بهوى بشر و مراودته و كان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه و يغني عنه، و أما الجمال الذي لا يعادله جمال، و يسلب كل حزم و اختيار، فلا لوم على هواه، و لا ذم في غرامة. 

  • و لهذا انقلب المجلس دفعة، و انقطعت قيود الاحتشام فانبسطن و تظاهرن بالقول في حسن يوسف و كل تتكلم بما في ضميرها منه، و قالت امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت يوسف تجلدا و حفظا لمقامها عندهن و طمعا في مطاوعته و انقياده: {وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصَّاغِرِينَ}

  • و أما يوسف فلم يأخذه شي‌ء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتانة و لا التفت إلى شي‌ء من لطيف كلامهن و نعيم مراودتهن أو هائل تهديدها، فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كل جمال، و جلال يذل عنده كل عزة و جلال فلم يكلمهن بشي‌ء و لم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول، و إنما رجع إلى ربه فقال: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ}

  • و كلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة: {مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} دل بسياقه على أن هذا المقام كان أشق و أمرّ على يوسف (عليه السلام) إذ كان بالأمس يقاوم هم امرأة العزيز و يعالج كيدها وحدها، و قد توجهت إليه اليوم همهن و مكايدهن جميعا، و كان ما بالأمس واقعة في خلوة على تستر منها، و هي و هن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته، و جميع الأسباب و المقتضيات اليوم قاضية لهن عليه أشد مما كانت عليه بالأمس. 

  • و لذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن هاهنا، و اكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم. 

  • و لنرجع إلى البحث عن الآيات. 

  • فقوله تعالى: {وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} إلخ، النسوة اسم جمع للمرأة و تقييد بقوله: {فِي اَلْمَدِينَةِ} تفيد أنهنّ كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر 

تفسير الميزان ج۱۱

148
  • قولهن في شيوع الفضيحة. 

  • و امرأة العزيز هي التي كان يوسف في بيتها و قد راودته عن نفسه و العزيز معناه معروف، و قد كان يلقب به السيد الذي اشترى يوسف من السيارة و كان يلقب به الرؤساء بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض. 

  • و في قوله: {تُرَاوِدُ} دلالة على الاستمرار و هو أفحش المراودة، و الفتى‌ الغلام الشاب و المرأة فتاة، و قد شاع تسمية العبد فتى و كأنه بهذه العناية أضيف إلى ضميرها فقيل: {فَتَاهَا}

  • و في المفردات: {شَغَفَهَا حُبًّا} أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه. عن الحسن، و قيل: وسطه. عن أبي علي، و هما يتقاربان انتهى. و شغاف‌ القلب غلافه المحيط به. 

  • و المعنى: و قال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من أثر فيها و في حقها: امرأة تستمر في مراودة عبدها عن نفسه و لا يحري بها ذلك لأنها مرأة و من القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك إن كان من طبع الرجال، و إنها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها و عزة زوجها و مكانة نفسها، و إن الذي علقت به عبدُها، ومن الشنيع أن يتوله مثلها و هي عزيزة مصر بعبد عبراني من جملة عبيده، و أنها أحبته و تعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتى ألحت و استمرت على مراودته و ذلك أقبح و أشنع و أمعن في الضلال. 

  • و لذلك عقبن قولهن: {اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ} إلخ، بقولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} قال في المجمع: المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة. انتهى. و تسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها و هتك سترها من ناحية رقيباتها حسدا و بغيا، و إنما أرسلت إليهن لتريهن يوسف و تبتليهن بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها و يعذرنها في حبه. 

  • و على هذا إنما سمي قولهن مكرا و نسب السمع إليه لأنه صدر منهن حسدا و بغيا لغاية 

تفسير الميزان ج۱۱

149
  • فضاحتها بين الناس. 

  • و قيل: إنما كان قولهن مكرا لأنهن جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهن ليحضرن عندها فتريهن إياه ليعذرنها فيما عذلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا، و الوجه الأول أقرب إلى سياق الآيات. 

  • و قوله: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} معناه معلوم و هو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها. 

  • و قوله: {وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} الاعتاد الإعداد و التهيئة أي أعدت و هيأت، و المتكأ بضم الميم و تشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء، و المراد به ما يتكأ عليه من نمرق أو كرسي كما كان معمولا في بيوت العظماء. و فسر المتكأ بالأترج و هو نوع من الفاكهة كما قرئ في الشواذ {مُتْكَأً} بالضم فالسكون و هو الأترج و قرئ {مُتَّكَا} بضم الميم و تشديد التاء من غير همز. 

  • و قوله: {وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالأترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع و قوله: {وَ قَالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} أي أمرت يوسف أن يخرج عليهن و هن خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة و قطعها، و في اللفظ دلالة على أنه (عليه السلام) كان غائبا عنهن و كان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذي كن فيه فإنها قالت: {اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} و لو كان في خارج من البيت لقالت: «ادخل عليهن». 

  • و في السياق دلالة على أن هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به فيعذرنها فيما عذلنها و قد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فاعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا، و أخفت يوسف عن أعينهن ثم فاجأتهن بإظهاره دفعة لهن ليغبن عن عقولهن، و يندهشن بذاك الجمال البديع و يأتين بما لا يأتي به ذو شعور البتة و هو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة و الثنتين منهن بل من الجميع. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} الإكبار الإعظام و هو كناية عن اندهاشهنّ و غيبتهنّ عن شعورهنّ، 

تفسير الميزان ج۱۱

150
  • و إرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكوني العام و هو خضوع الصغير للكبير و قهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته و كبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد و الأفكار فأنساها و صار يتخبط في أعماله. 

  • و لذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها، و في صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال: قتّل القوم تقتيلا و موّتهم الجدب تمويتا. 

  • و قوله: {وَ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف و هذا كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} النور: ١٦ و هو من أدب الكلام عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه و تبرئة لأحد يبدأ فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما أردن تنزيهه (عليه السلام) بقولهن {مَا هَذَا بَشَراً} إلخ، بدأن بتنزيهه تعالى، ثم أخذن ينزهنه. 

  • و قوله: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} نفي أن يكون يوسف (عليه السلام) بشرا و إثبات أنه ملك كريم، و هذا بناء على ما يعتقده المليون و منهم الوثنيون أن الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كل خير و سعادة في العالم منهم يترشح كل حياة و علم و حسن و بهاء و سرور و سائر ما يتمنى و يؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري و معنوي، و إذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر، و يتصوره أصحاب الأصنام في صور إنسانية حسنة بهية. 

  • و لعل هذا هو السبب في قولهن: {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} حيث لم يصفنه بما يدل على حسن الوجه و جمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه و اعتدال صورته بل سمّينَه ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته و سيرته معا، و جمال خَلقه و خُلقه و ظاهره و باطنه جميعا. و الله أعلم. 

  • و تقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} يدل على أنهن لم يفهمن [يفُهْن] بهذا الكلام إعذارا لامرأة العزيز في حبها له و تيمها و غرامها به، و إنما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه و إظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن و توله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن، و لم تقل امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} إلا بعد ما فضحتهن 

تفسير الميزان ج۱۱

151
  • فعلا و قولا بتقطيع الأيدي و تنزيه الحسن فلم يبق لهن إلا أن يصدقنها فيما تقول و يعذرنها فيما تفعل. 

  • قوله تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} إلى آخر الآية، الكلام في موضع دفع الدخل؛ كأن قائلا يقول: فما ذا قالت امرأة العزيز لهن؟ فقيل: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}

  • و قد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن و فعلهن و أشارت إلى شخص الذي لمنها فيه و وصفته بأنه الذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها و عزة زوجها و عفة نفسها في حبه، و عذرا قبال لومهن إياها في مراودته، و أقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان، و من هذا الباب قوله تعالى {أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} الأنبياء: ٣٦، و قوله: {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا} الأعراف: ٣٨. 

  • ثم اعترفت بالمراودة و ذكرت لهن أنها راودته لكنه أخذ بالعفة و طلب العصمة، و إنما استرسلت و أظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن و نبهت يوسف أنها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، و هذا معنى قولها: {وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}

  • ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة و سياسته لو خالفت فقالت: {وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصَّاغِرِينَ} و قد أكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم و النون و اللام و نحوها ليدل على أنها عزمت على ذلك عزيمة جازمة، و عندها ما يجبره على ما أرادته و لو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة، و الصغار و الهوان بعد الإكرام و الاحترام، و في الكلام تجلد و نوع تعزز و تمنع بالنسبة إليهن و نوع تنبيه و تهديد بالنسبة إلى يوسف (عليه السلام). 

  • و هذا التهديد الذي يتضمنه قولها: {وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصَّاغِرِينَ} أشد و أهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

  • أما أولا: فلأنها رددت الجزاء هناك بين السجن و العذاب الأليم و جمع هاهنا بين الجزاءين 

تفسير الميزان ج۱۱

152
  • و هو السجن و الكون من الصاغرين. 

  • و أما ثانيا فلأنها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها، و كلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه و لا يرجع عما جزم به. و قد حققت أنها تملك قلب زوجها و تقدر أن تصرفه مما يريده إلى ما تريده، و تقوى على التصرف في أمره كيفما شاءت. 

  • قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} قال الراغب في المفردات: صبا فلان يصبو صبوا و صبوة إذا نزع و اشتاق و فعل فعل الصبيان، قال تعالى: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} انتهى و في المجمع: الصبوة لطافة الهوى. انتهى. 

  • تفاوضت امرأة العزيز و النسوة فقالت و قلن و استرسلن في بت [بثّ] ما في ضمائرهن و يوسف (عليه السلام) واقف أمامهن يدعونه و يراودنه عن نفسه لكن يوسف (عليه السلام) لم يلتفت إليهن و لا كلمهن و لا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلا له و لا شغل له إلا به و {قَالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} إلخ. 

  • و قوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن و أن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن، و إنما هو بيان حالٍ لربه و أنه عن تربية إلهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية و البعد منه، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به و راودته عن نفسه: {مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} ففي الكلامين معا تمنع و تعزز بالله، و إنما الفرق أنه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز و بالآخر ربه القوي العزيز و ليس شي‌ء من الكلامين دعاء البتة. 

  • و في قوله: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} إلخ، نوع توطئة لقوله {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} إلخ، الذي هو دعاء في صورة بيان الحال. 

  • فمعنى الآية: رب إني لو خيرت بين السجن و بين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره و أسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إنْ لا تصرف عني كيدهن أنتزع و أمل إليهن و أكن من الجاهلين فإني إنما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه و تصرف به عني كيدهن فإن أمسكت عن إفاضته علي صرت جاهلا و وقعت في مهلكة الصبوة و الهوى. 

تفسير الميزان ج۱۱

153
  • و قد ظهر من الآية بمعونة السياق: 

  • أولا: أن قوله: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن و الرجوع إليه، و معنى {أَحَبُّ إِلَيَّ} أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت، و ليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني و النفس الأمارة. 

  • و إن قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله: {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} إلخ، من معنى الدعاء، و يؤيده تعقيبه بقوله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}، و ليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم. 

  • و من الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} و لو كان دعاء بالسجن و استجابه الله سبحانه و قدر له السجن لم يكن التعبير بثم و فصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم. 

  • و ثانيا: أن النسوة دعونه و راودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها و راودته عن نفسه، و أما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله: {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن. 

  • و الذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك: {اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } إلى أن قال { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ} الآيات: ٥٠-٥٢ من السورة، أنهن دعينه إلى امرأة العزيز و قد أشركهن في القصة ثم قال: {لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} و لم يقل: لم أخن بالغيب و لا قال: لم أخنه و غيره فتدبر فيه. 

  • و مع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن و يدهش عقولهن و يقطعن 

تفسير الميزان ج۱۱

154
  • أيديهن ثم ينسللن انسلالا و لا يتعرض له أصلا و يذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا و هن متيمات فيه والهات لا يصبحن و لا يمسين إلا و هو همهن و فيه هواهن يفدينه بالنفس و يطمعنه بأي زينة في مقدرتهن و يعرضن له أنفسهن و يتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن. 

  • و هو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه و إحاطة المحنة و المصيبة من ناحيتهن به. 

  • و ثالثا: أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، و ليست الأمر الدفعي المفروغ عنه و إلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، و لذا عبر عنه بقوله: {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي} و لم يقل: و إن لم تصرف عني و إن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات. 

  • و لذلك أيضا قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} إلخ، فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة و صرف جديد. 

  • و رابعا: أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم و المعارف و لذا قال (عليه السلام): {وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} و لم يقل: و أكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ} أو أكن من الخائنين كما قال للملك: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ} و قد فرق في نحو الخطاب بينهما و بين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: إنه ظلم و الظالم لا يفلح، و إنه خيانة و الله لا يهدي كيد الخائن، و خاطب ربه بحقيقة الأمر و هو أن الصبوة إليهن من الجهل. 

  • و ستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين‌۱ في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال: {وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} 

    1. أي الأمر الثالث و الرابع.

تفسير الميزان ج۱۱

155
  • إنه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم. 

  •  

  • (أبحاث حول التقوى الديني و درجاته) في فصول 

  • ١ - القانون و الأخلاق الكريمة و التوحيد

  • لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة، و الأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد؛ فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية و تتفرع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع، قال تعالى: {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} إبراهيم: ٢٦، فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و أكُل تؤتيه كل حين بإذن ربها و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفة و المعرفة و الشجاعة و العدالة و الرحمة و نظائرها. 

  • و قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر: ١٠فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق و جعل العمل الذي يصلح له و يناسبه هو الذي يرفعه و يمده في صعوده. 

  • بيان ذلك: أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي و لا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا. 

  • و هذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به، ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز. 

  • و من المسلم أن هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن و قوانين أخرى جزائية 

تفسير الميزان ج۱۱

156
  • تهدد المتخلفين عن السنن و القوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوفهم بالسيئة قبال السيئة و بأخرى تشوقهم و ترغبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم و تسيطر عليهم بالعدل و الصدق. 

  • و إنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قوية على المجرم، و أما إذا جهلت و وقع الإجرام على جهل منها أو غفلة - و كم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحققه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين و فشت التخلفات و التعديات على حقوق الناس، و الإنسان - كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه و لو أضر غيره. 

  • و يشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على رده إلى العدل و تقويمه بالحق فصار ذا قوة و شوكة لا يقاوم في قوته و لا يعارض في إرادته. و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض. 

  • فالقوانين و السنن و إن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، و أحكام الجزاء و إن كانت بالغة في شدتها، لا تجري على رسلها في المجتمع و لا تسد باب الخلاف و طريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم و الفساد كملكة اتباع الحق و احترام الإنسانية و العدالة و الكرامة و الحياة و نشر الرحمة و نظائرها. 

  • و لا يغرنك ما تشاهده من القوة و الشوكة في الأمم الراقية و الانتظام و العدل الظاهر فيما بينهم و لم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة و خيرها و لا يدفع إلا ما يضر أمته، و لا همّ لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة و استدرارهم، و استعمار بلادهم، و استباحة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم فلم يورثهم هذا التقدم و الرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس، 

تفسير الميزان ج۱۱

157
  • و هجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية و الشرافة و العدالة و الفضيلة و لا يراد بها إلا الرقية و الخسة و الظلم و الرذيلة. 

  • و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلف و الضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية و استظهرت بها. 

  • ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأن للعالم و منه الإنسان إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شي‌ء، و لا يغلب في قدرته عن أحد، خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسي‌ء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين. 

  • و من المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية و التلذذ بلذائذ الحياة المادية، و أقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و إن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية. 

  • أما ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها و أما الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممن يبتغيه و يذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان على هذا بعد الموت و الفوت حتى يعود إليه شي‌ء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلا البطلان و الاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه و التفات. 

تفسير الميزان ج۱۱

158
  • فقد تبين أن شيئا من هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شَرَهاً و بغياً كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - و لا كان من الحري أن يمنعه - شي‌ء إلا العلم بمقام ربه. 

  • ٢ - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة 

  • و إن شئت فقل: إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف و الرجاء و الحب، قال تعالى: {فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ اَلْغُرُورِ} الحديد: ٢٠فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا و هي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، و أن يعلم أن له وراءها دارا و هي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، و هي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه و يخاف الله فيه، و مغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها و يرجو الله فيها، و رضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه. 

  • و طباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة و اختيارها فبعضهم و هو الغالب يغلب على نفسه الخوف، و كلما فكر فيما أوعد الله الظالمين و الذين ارتكبوا المعاصي و الذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا و لفرائصه ارتعادا و يساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه. 

  • و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنة. 

  • و طائفة ثالثة و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنما يعبدونه لأنه أهلٌ للعبادة؛ و ذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كل شي‌ء غيرهم، و يدبر الأمر 

تفسير الميزان ج۱۱

159
  • وحده و ليسوا إلا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلا أن يعبد ربه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شي‌ء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، و لا إلى ثواب يرجيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير قوله (عليه السلام): «ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

  • و هؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم، تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية و ذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، و قد سمى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكل صفة جميلة، و من خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ فَاعْبُدُوهُ} الأنعام: ١٠٢ ثم قال: {اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلَقَهُ } الم السجدة: ٧ فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن و أنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شي‌ء آية تدل عليه و إن في السماوات و الأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى و لا يحكي شيئا من جماله و جلاله. 

  • فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدل على غناه المطلق و تسبح و تنزه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } إسراء: ٤٤. 

  • فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريقٍ هداهم إليه ربهم و عرفها لهم و هو أنها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسية و الأصالة و الاستقلال إلا أنها كمرائي تجلي بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلتها و استكانتها ما فوقها من العزة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة و العظمة و يغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه و كل شي‌ء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانية عن باطنه، و يبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} البقرة: ١٦٥. 

  • و لذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا 

تفسير الميزان ج۱۱

160
  • و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدمت الرواية عن الصادق (عليه السلام): «هل الدين إلا الحب»  و قوله (عليه السلام) في حديث: «و إني أعبده حبا له و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون» (الحديث)، و إنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية و الألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.

  • ٣ - كيف يورث الحب الإخلاص؟ 

  • عبادته تعالى خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك و هو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، و عبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال و هو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة و الجنة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب و هو ترك الحرام، و الطريقان معا إنما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لرب الدين. 

  • و أما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي و سائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشي‌ء حب لآثاره. 

  • فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الذي يضي‌ء له طريق العمل، قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ} الأنعام: ١٢٢. و الروح الذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى: {وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ و هذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل و الخير و يتجنب كل مكروه و شر. 

  • و أما الموجودات الكونية و الحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شي‌ء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلا أحبه و استحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلي له 

تفسير الميزان ج۱۱

161
  • ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين و مكروه. 

  • و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه و لذة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقب للشر و المكروه، و من كان لا يرى إلا الخير و الجميل و لا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغم و الحزن و الخوف و كل ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدره و لا يحيط به إلا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقله و تكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص. 

  • و إليه يشير أمثال قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} يونس: ٦٣، و قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ} الأنعام: ٨٢. 

  • و هؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربهم شي‌ء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، و يكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ} المطففين: ٢١، و قوله تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ} التكاثر: ٦ و قد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} المائدة: ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب. 

  • و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره إذ لا يرون إلا خيرا و لا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى: {هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ} المؤمن: ٦٥. 

تفسير الميزان ج۱۱

162
  • ٤ - و أما إخلاصه تعالى عبده له 

  • فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله، و الله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه فإخلاصه دينه و إن شئت فقل: إخلاصه نفسه لله هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه. 

  • نعم هاهنا شي‌ء و هو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقادة و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة و قلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع و المزاحمات و الظاهر أن هؤلاء هم المخلصون بالفتح لله في عرف القرآن. 

  • و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمة، و قد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى: {وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الأنعام: ٨٧، و قال: {هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: ٧٨. 

  • و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي، و تمتنع معه صدور شي‌ء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة. 

  • و قد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصدق ذلك بقوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ} الصافات: ١٦٠، و إن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} ص: ٨٣. 

  • و من الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) {وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} النساء: ١١٣ و قد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء. 

  • و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): {قَالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ} يوسف: ٣٣ و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۱

163
  • و يظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي و هو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} النمل ١٤ و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى‌ عِلْمٍ} الجاثية: ٢٣، و قال: {فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} الجاثية: ١٧. 

  • و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ } الصافات: ١٦٠، و ذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمة (عليه السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، و الآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم و إن كان متعلق العلمين واحدا من وجه. 

  • و ثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادئ الاختيار، و مجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنما يضطر الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع. 

  • و يشهد على ذلك قوله: {وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام: ٨٨ تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهي مانعا من ذلك، و قوله: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} المائدة: ٦٧ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فالإنسان المعصوم إنما ينصرف عن المعصية بنفسه و اختياره و إرادته و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى. 

  • و لا ينافي ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى و يصرح به الأخبار أن ذلك من الأنبياء و الأئمة بتسديد من روح القدس فإن النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان و نسبة الضلال و الغواية إلى الشيطان و تسويله فإن شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۱

164
  • نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها و يحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه. 

  • و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنما هي في حدوثها، و أما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه، فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلا أنه لما كان أقدر و أقوى من كل شي‌ء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر. 

  • فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبدا عن شر مثلا أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغير مجرى إرادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد أن يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار. 

  • و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طولي لا عرضي و هو ظاهر. 

  • مضافا إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، و قد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة. 

  • (بحث روائي) 

  • في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق، 

تفسير الميزان ج۱۱

165
  • قال (عليه السلام): و كان يوسف من أجمل أهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال: معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون، فغلقت الأبواب عليها و عليه و قالت: لا تخف و ألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فألفيا سيدها لدى الباب {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. 

  • قال: فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: ما أردت بأهلك سوءا بل {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فسل هذا الصبي أينا راود صاحبه عن نفسه؟ قال: كان عندها من أهلها صبي زائر لها فأنطق الله الصبي لفصل القضاء فقال: أيها الملك انظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدودا من قدامه فهو الذي راودها، و إن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته. 

  • فلما سمع الملك كلام الصبي و ما اقتصه أفزعه ذلك فزعا شديدا فجي‌ء بالقميص فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}. و قال ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} و لا يسمعه منك أحد و اكتمه. 

  • قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن: اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ فبلغها ذلك فأرسلت إليهن، و هيأت لهن طعاما و مجلسا ثم أتتهن بأترنج {وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} ثم قالت ليوسف {اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} و قلن ما قلن يعني النساء فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه تعني في حبه. و خرجن النسوة من تحتها فأرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن و قال: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين و صرف الله عنه كيدهن. 

  • فلما شاع أمر يوسف و امرأة العزيز و النسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبي ليسجنن يوسف فسجنه في السجن و دخل السجن مع يوسف فتيان، و كان من قصتهما و قصة يوسف ما قصه الله في الكتاب. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليه السلام). 

  • أقول: و روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عنه (عليه السلام) باختلاف 

تفسير الميزان ج۱۱

166
  • يسير، و قوله (عليه السلام): «قال معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون» تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الآية: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} إلخ، و هو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية أن الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسرين فافهم ذلك. 

  • و قوله: فأبى عليهن و قال: {إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي} إلخ، ظاهر في أنه (عليه السلام) لم يأخذ قوله: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الآية أنه ليس بدعاء. 

  • و في العيون، بإسناده عن حمدان عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى و ذكر الحديث إلى أن قال فيه: فأخبرني عن قول الله تعالى: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‌ بُرْهَانَ رَبِّهِ} فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به و لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها لكنه كان معصوما، و المعصوم لا يهم بذنب و لا يأتيه. 

  • و لقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

  •  أقول: تقدم أن ابن الجهم هذا لا يخلو عن شي‌ء لكن صدر الحديث أعني جواب الرضا (عليه السلام) يوافق ما قدمناه في بيان الآية و أما ما نقله عن جده الصادق (عليه السلام) «أنها همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل» فلعل المراد به ما ذكره الرضا (عليه السلام) من الجواب لقبوله الانطباق عليه و لعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الآتي فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الآية. 

  • و فيه بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و من الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا و قد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا. 

  • قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال: يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ فقال: نعم. فقال له فما تقول في قوله عز و جل في يوسف: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا}؟ فقال له: أما قوله تعالى في يوسف: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا} فإنها همت بالمعصية و هم يوسف 

تفسير الميزان ج۱۱

167
  • بقتلها إن أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها و الفاحشة. و هو قوله عز و جل: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ} و السوء القتل و الفحشاء الزنا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب: في قوله: {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا} قال: طمعت فيه و طمع فيها، و كان من الطمع أن هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر و الياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها و بينه فقال: أي شي‌ء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف (عليه السلام): تستحين من صنم لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تنالينها مني أبدا. و هو البرهان الذي رأى.

  • أقول: و الرواية من الموضوعات كيف؟ و كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مشحون بذكر عصمة الأنبياء و مذهبهم في ذلك مشهور. 

  • على أن سترها الصنم و انتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان، و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) لكنها آحاد لا تعويل عليها. نعم لا يبعد أن تقوم المرأة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (عليه السلام) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه و بين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء و فحشاء كما كان له ذلك من قبل، و قد قال تعالى في حقه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ}، فإن صح شي‌ء من هذه الروايات فليكن هذا معناه. 

  • و فيه: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، و حين قال: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه. و حين قال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. 

  • أقول: و الرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر أن الله اجتباه و أخلصه لنفسه و أن الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه و كيف يستقيم لمن هم على أفحش معصية و أنساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين و جبه بالسرقة أن يعده الله صديقا من عباده المخلصين و المحسنين، و يذكر أنه آتاه الحكم و العلم و اجتباه و أتم عليه نعمته، و على هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر 

تفسير الميزان ج۱۱

168
  • المنثور، و قد تقدم نقل شطر منها عند بيان الآيات، و لا تعويل على شي‌ء منها. 

  • و فيه أخرج أحمد و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تكلم أربعة و هم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريح، و عيسى بن مريم. 

  • و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} يقول: قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره، و الحجاب هو الشغاف، و الشغاف هو حجاب القلب. 

  • و فيه في حديث جمعها النسوة و تقطيعهن أيديهن قال: فما أمسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} (الحديث). 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٣٥ الی ٤٢]

  • {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ٣٥ وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٣٦ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ٣٧ وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا 

تفسير الميزان ج۱۱

169
  • وَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ٣٨ يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ٣٩ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٠يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ٤١ وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ٤٢} 

  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات شطرا من قصته (عليه السلام) و هو دخوله السجن و مكثه فيه بضع سنين و هو مقدمة تقربه التام عند الملك و نيله عزة مصر، و فيه دعوته في السجن إلى دين التوحيد، و قد جاء ببيان عجيب، و إظهاره لأول مرة أنه من أسرة إبراهيم و إسحاق و يعقوب. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} البداء هو ظهور رأي بعد ما لم يكن يقال: بدا لي في أمر كذا أي ظهر لي فيه رأي جديد، و الضمير في قوله: {لَهُمْ} إلى العزيز و امرأته و من يتلوهما من أهل الاختصاص و أعوان الملك و العزة. 

  • و المراد بالآيات الشواهد و الأدلة الدالة على براءة يوسف (عليه السلام) و طهارة ذيله مما 

تفسير الميزان ج۱۱

170
  • اتهموه به كشهادة الصبي و قدّ القميص من خلفه و استباقهما الباب معا، و لعل منها تقطيع النسوة أيديهن برؤيته و استعصامه عن مراودتهن إياه عن نفسه، و اعتراف امرأة العزيز لهن أنها راودته عن نفسه فاستعصم. 

  • و قوله: {لَيَسْجُنُنَّهُ} اللام فيه للقسم أي أقسموا و عزموا ليسجننه البتة، و هو تفسير للرأي الذي بدا لهم، و يتعلق به قوله: {حَتَّى حِينٍ} و لا يخلو من معنى الانتظار بالنظر إلى قطع "حين" عن الإضافة، و المعنى على هذا: ليسجننه حتى ينقطع حديث المراودة الشائع في المدينة و ينساه الناس. 

  • و معنى الآية: ثم ظهر للعزيز و من يتلوه من امرأته و سائر مشاوريه رأي جديد في يوسف من بعد ما رأوا هذه الآيات الدالة على براءته و عصمته و هو أن يسجنوه حينا من الزمان حتى يُنسى حديث المراودة الذي يجلب لهم العار و الشين و أقسموا على ذلك. 

  • و يظهر بذلك أنهم إنما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز و صونا لأسرته عن هوان التهمة و العار، و لعل من غرضهم أن يتحفظوا على أمن المدينة العام و لا يخلوا الناس و خاصة النساء أن يفتتنوا به فإن هذا الحسن الذي أوله امرأة العزيز و السيدات من شرفاء المدينة و فعل بهم ما فعل من طبعه أن لا يلبث دون أن يقيم في المدينة بلوى. 

  • لكن الذي يظهر من قوله في السجن لرسول الملك: {اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} إلى آخر ما قال، ثم قول الملك لهن: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}، و قولهن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} ثم قول امرأة العزيز: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ}، كل ذلك يدل على أن المرأة ألبست الأمر بعد على زوجها و أرابته في براءة يوسف (عليه السلام) فاعتقد خلاف ما دلت عليه الآيات أو شك في ذلك، و لم يكن ذلك إلا عن سلطة تامة منها عليه و تمكن كامل من قلبه و رأيه. 

  • و على هذا فقد كان سجنه بتوسل أو بأمر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها و تؤدب يوسف لعله ينقاد لها و يرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هددته به بمحضر من النسوة بقولها: {وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصَّاغِرِينَ}

  • قوله تعالى: {وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيَانِ} إلى آخر الآية، الفتى العبد و سياق الآيات 

تفسير الميزان ج۱۱

171
  • يدل على أنهما كانا عبدين من عبيد الملك، و قد وردت به الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى. 

  • و قوله: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} فصل قوله: {قَالَ أَحَدُهُمَا} للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا و بين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله: {أَرَانِي} و خطابه له بصاحب السجن. 

  • و قوله: {أَرَانِي} لحكاية الحال الماضية كما قيل، و قوله: {أَعْصِرُ خَمْراً} أي أعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمي العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه. 

  • و المعنى: أصبح أحدهما و قال ليوسف (عليه السلام): إني رأيت فيما يرى النائم إني أعصر عنبا للخمر. 

  • و قوله: {وَ قَالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ} أي تنهشه و هي رؤيا أخرى ذكرها صاحبه. و قوله: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} أي قالا: نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله: «قال» «و قال» و هذا من لطائف تفنن القرآن، و الضمير في قوله: {بِتَأْوِيلِهِ} راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق، و في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} تعليل لسؤالهما التأويل و {نَرَاكَ} أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم، و إنما أقبلا عليه في تأويل رؤياهما لإحسانه، لما يعتقد عامة الناس أن المحسنين الأبرار ذوو قلوب طاهرة و نفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الأمور و جريان الحوادث انتقالا أحسن و أقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم. 

  • و المعنى: قال أحدهما ليوسف: إني رأيت فيما يرى النائم كذا و قال الآخر: إني رأيت كذا، و قالا له: أخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لأنا نعتقد أنك من المحسنين، و لا يخفى لهم أمثال هذه الأمور الخفية لزكاء نفوسهم و صفاء قلوبهم. 

  • قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} لما أقبل صاحبا السجن على يوسف (عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين، اغتنم (عليه السلام) الفرصة في بث ما عنده من أسرار التوحيد و الدعوة إلى ربه سبحانه الذي علمه ذلك، فأخبرهما أنه عليم بذلك بتعليم 

تفسير الميزان ج۱۱

172
  • من ربه خبير بتأويل الأحاديث و توسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد و نفي الشركاء ثم أوّل رؤياهما. 

  • فقال أولا: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} - و أنتما في السجن - { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} - أي بتأويل ذاكما الطعام و حقيقته و ما يؤول إليه أمره - فأنا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما أدعوكما إليه من دين التوحيد. 

  • هذا على تقدير عود الضمير في قوله: {بِتَأْوِيلِهِ} إلى الطعام، و يكون عليه إظهارا منه (عليه السلام) لآية نبوته نظير قول المسيح (عليه السلام) لبني إسرائيل: {وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} آل عمران: ٤٩، و يؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي في بحث روائي إن شاء الله تعالى. 

  • و أما على تقدير عود ضمير {بِتَأْوِيلِهِ} إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} إلخ، وعد منه لهما تأويل رؤياهما و وعد بتسريعه غير أن هذا المعنى لا يخلو من بعد بالنظر إلى السياق. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} ، بيّن (عليه السلام) أن العلم و التنبؤ بتأويل الأحاديث ليس من العلم العادي الاكتسابي في شي‌ء بل هو مما علمه إياه ربه ثم علل ذلك بتركه ملة المشركين و اتباعه ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب أي رفضه دين الشرك و أخذه بدين التوحيد. 

  • و المشركون من أهل الأوثان يعتقدون بالله سبحانه و يثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم أن الذي يقدر له شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله و كذا عود النفوس بعد الموت بأبدان أخرى تتنعم فيها أو تعذب ليس من المعاد في شي‌ء، و لذلك نفى (عليه السلام) عنهم الإيمان بالله و بالآخرة، و أكد كفرهم بالآخرة بتكرار الضمير حيث قال: {وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} و ذلك لأن من لا يؤمن بالله فأحرى به أن لا يؤمن برجوع العباد إليه. 

  • و هذا الذي يقصه الله سبحانه من قول يوسف (عليه السلام): {وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ 

تفسير الميزان ج۱۱

173
  • وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ} هو أول ما أنبأ في مصر نسبه و أنه من أهل بيت إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا وَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} أي لم يجعل الله سبحانه لنا أهل البيت سبيلا إلى أن نشرك به شيئا و منعنا من ذلك، ذلك المنع من فضل الله و نعمته علينا أهل البيت و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به. 

  • و أما أنه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى أن يشركوا به فليس جعل إجبار و إلجاء بل جعل تأييد و تسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة و الرسالة و الله أعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك و دانوا بالتوحيد. 

  • و أما أن ذلك من فضل الله عليهم و على الناس فلأنهم أيدوا بالحق و هو أفضل الفضل و الناس في وسعهم أن يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم و يهتدوا بهداهم. 

  • و أما أن أكثر الناس لا يشكرون فلأنهم يكفرون بهذه النعمة و هي النبوة و الرسالة فلا يعبئون بها و لا يتبعون أهلها أو لأنهم يكفرون بنعمة التوحيد و يتخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة و الجن و الإنس يعبدونهم من دون الله. 

  • هذا ما ذكره أكثر المفسرين في معنى الآية. 

  • و يبقى عليه شي‌ء و هو أن التوحيد و نفي الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة فإنه مما يستقل به العقل و تقضي به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع بل هم و الأنبياء في أمر التوحيد على مستوى واحد و شرع سواء و لو كفروا بالتوحيد فإنما كفروا لعدم إجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الأنبياء. 

  • لكن يجب أن يعلم أنه كما أن من الواجب في عناية الله سبحانه أن يجهز نوع الإنسان ـ مضافا إلى إلهامه من طريق العقل الخيرَ و الشر و التقوى و الفجور ـ بما يدرك به أحكام دينه و قوانين شرعه و هو سبيل النبوة و الوحي، و قد تكرر توضيحه في أبحاثنا السابقة، كذلك من الواجب في عنايته أن يجهز أفرادا منه بنفوس طاهرة و قلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الأصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به أصل التوحيد عصرا بعد 

تفسير الميزان ج۱۱

174
  • عصر و يحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل، و البرهان عليه هو البرهان على النبوة و الوحي فإن الواحد من الإنسان العادي لا يمتنع عليه الشرك و نسيان التوحيد، و الجائز على الواحد جائز على الجميع و في تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته و بطلان الغرض الإلهي في خلقته. 

  • فمن الواجب أن يكون في النوع رجال متلبسون بإخلاص التوحيد يقومون بأمره و يدافعون عنه و ينبهون الناس عن رقدة الغفلة و الجهالة بإلقاء حججه و بث شواهده و آياته، و بينهم و بين الناس رابطة التعليم و التعلم دون السوق و الاتباع. 

  • و هذه النفوس إن كانت فهي نفوس الأنبياء و الأئمة (عليه السلام)، و في خلقهم و بعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم، و على الناس بنصب من يذكرهم الحق الذي تقضي به فطرتهم و يدافع عن الحق تجاه غفلتهم و ضلالتهم؛ فإن اشتغال الناس بالأعمال المادية و مزاولتهم للأمور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية و تحرضهم على الإخلاد إلى الأرض فتبعدهم عن المعنويات و تنسيهم ما في فطرهم من المعارف الإلهية، و لو لا رجال متألهون متولهون في الله الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لأحيطت الأرض بالعماء، و انقطع السبب الموصول بين الأرض و السماء، و بطلت غاية الخلقة، و ساخت الأرض بأهلها. 

  • و من هنا يظهر أن الحق أن تنزل الآية على هذه الحقيقة فيكون معنى الآية: لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى أن نشرك بالله شيئا، ذلك (أي كوننا في أمن من الشرك) من فضل الله علينا لأنه الهدى الذي هو سعادة الإنسان و فوزه العظيم، و على الناس لأن في ذلك تذكيرهم إذا نسوا و تنبيههم إذا غفلوا، و تعليمهم إذا جهلوا، و تقويمهم إذا عوجوا و لكن أكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبؤون به و لا يقبلون عليه بل يعرضون عنه. هذا. 

  • و ذكر بعضهم في معنى الآية: أن المشار إليه بقوله: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا} إلخ، هو العلم بتأويل الأحاديث. و هو كما ترى بعيد من سياق الآية. 

  • قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم: خار يخار خيرة إذا انتخب و اختار أحد شيئين يتردد 

تفسير الميزان ج۱۱

175
  • بينهما من حيث الفعل أو من حيث الأخذ بوجه، فالخير منهما هو الذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبية فيتعين الأخذ به، فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذي يتعين القيام به و خير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به كخير المالين من جهة التمتع به و خير الدارين من جهة سكناها و خير الإنسانين من جهة مصاحبته، و خير الرأيين من جهة الأخذ به، و خير الإلهين من جهة عبادته، و من هنا ذكر أهل الأدب أن الخير في الأصل «أخير» أفعل تفضيل، و الحقيقة أنه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس. 

  • و بما مر يتبين أن قوله (عليه السلام): {أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} إلخ، مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الأمر بينه و بين سائر الأرباب التي تدعى من دون الله، لا لبيان أنه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الأرباب أو أنه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءً و عودا دونها أو غير ذلك فإن الشي‌ء إنما يسمى خيرا من جهة طلبه و تعيينه بالأخذ به بنحو؛ فقوله (عليه السلام): أ هو خير أم سائر الأرباب يريد به السؤال عن تعين أحد الطرفين من جهة الأخذ به و الأخذ بالرب هو عبادته. 

  • ثم إنه (عليه السلام) سمى آلهتهم أربابا متفرقين لأنهم كانوا يعبدون الملائكة و هم عندهم صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التي تستند إليها جهات الخير و السعادة في العالم فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا و عرضا و يعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله العلم و إله القدرة و إله السماء و إله الأرض و إله الحسن و إله الحب و إله الأمن و الخصب و غير ذلك، و يعبدون الجن و هم مبادئ الشر في العالم كالموت و الفناء و الفقر و القبح و الألم و الغم و غير ذلك، و يعبدون أفرادا كالكملين من الأولياء و الجبابرة من السلاطين و الملوك و غيرهم، و هم جميعا متفرقون من حيث أعيانهم و من حيث أصنامهم و التماثيل المتخذة لهم المنصوبة للتوجه بها إليهم. 

  • و قابل الأرباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه و وصفه بالواحد القهار حيث قال: {أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله: {أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} لضرورة التقابل بين طرفي الترديد. 

  • فالله علَمٌ بالغلبة يراد به الذات المقدسة الإلهية التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه 

تفسير الميزان ج۱۱

176
  • و وجود لا يتطرق العدم و الفناء إليه، و الوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يفرض له حد محدود و لا أمد ممدود لأن كل محدود فهو معدوم وراء حده، و الممدود باطل بعد أمده فهو تعالى ذات غير محدود و وجود غير متناه بحب [بحت]، و إذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدودا غير موجود في ظرف الصفة و فاقرا لا يجد الصفة في ذاته، و لم يمكن أيضا فرض المغايرة و البينونة بين صفاته الذاتية كالحياة و العلم و القدرة لأن ذلك يؤدي إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات و الصفات و يتكثر جميعا و يحد، و هذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بأيدينا من معارفهم. 

  • فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الإله سبحانه ـ لو تفطنوا ـ أن الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره، و أن ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه و لا بعض صفات كماله صفات زائد على بعض فهو علم و قدرة و حياة بعينه. 

  • فهو تعالى أحدي الذات و الصفات أي أنه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شي‌ء إلا موجودا به لا مستقلا بالوجود و واحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية إلا أن تكون عين الذات فهو الذي يقهر كل شي‌ء لا يقهره شي‌ء. 

  • و الإشارة إلى هذا كله هي التي دعته (عليه السلام) أن يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال: {أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} أي أنه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا أضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلا و هي موجودة به لا بنفسها و لا أن يفرض قباله صفة له إلا و هي عينه و إلا صارت باطلة كل ذلك لأنه بحث [بحت] غير محدود بحد و لا منته إلى نهاية. 

  • و قد تمت الحجة على الخصم منه (عليه السلام) في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم متفرقين، و إياه تعالى بالواحد القهار لأن كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة؛ أي تفرقة مفروضة بين الذات و الصفات، فالذات عين الصفات و الصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات و الصفات و من عبد علمه فقد عبد ذاته، و إن عبد علمه و لم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه و لا ذاته و على هذا القياس. 

  • فإذا فرض تردد العبادة بين أرباب متفرقين و بين الله الواحد القهار تعالى و تقدس تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض أرباب متفرقين و لا تفرقة في العبادة. 

تفسير الميزان ج۱۱

177
  • نعم يبقى هناك شي‌ء و هو الذي يعتمد عليه عامة الوثنية من أن الله سبحانه أجل و أرفع ذاتا من أن تحيط به عقولنا أو يناله أفهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته و لا يسعنا التقرب منه بعبوديته و الخضوع له، و الذي يسعنا هو أن نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التي هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه و يشفعوا لنا عنده فأشار (عليه السلام) في الشطر الثاني من كلامه أعني قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً} إلخ، إلى دفعه. 

  • قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} إلخ، بدأ (عليه السلام) بخطاب صاحبيه في السجن أولا ثم عمم الخطاب للجميع لأن الحكم مشترك بينهما و بين غيرهما من عبدة الأوثان. 

  • و نفي العبادة إلا عن الأسماء كناية عن أنه لا مسميات وراء هذه الأسماء، فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء و إله الأرض و إله البحر و إله البر و الأب و الأم و ابن الإله و نظائر ذلك. 

  • و قد أكد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسميات بقوله: {أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ} فإنه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم بل أنتم و آباؤكم وضعتموها، ثم أكده ثانيا بقوله: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} و السلطان هو البرهان لتسلطه على العقول، أي ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على أن لها مسميات وراءها، و حينئذ كان يثبت لها الألوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها. 

  • و من الجائز أن يكون ضمير {بِهَا} عائدا إلى العبادة أي ما أنزل الله حجة على عبادتها بأن يثبت لها شفاعة و استقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها و التوجه إليها فإن الأمر إلى الله على كل حال. و إليه أشار بقوله بعده: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}

  • و هو أعني قوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في أمرٍ ما لا يستقيم إلا ممن يملك تمام التصرف، و لا مالك للتصرف و التدبير في أمور العالم و تربية العباد حقيقة إلا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى إلا له. 

تفسير الميزان ج۱۱

178
  • و هو أعني قوله: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} مفيد فيما قبله و ما بعده صالح لتعليلهما معا، أما فائدته في قوله قبل: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فقد ظهرت آنفا، و أما فائدته في قوله بعد: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} فلأنه متضمن لجانب إثبات الحكم كما أن قوله قبل: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} متضمن لجانب السلب، و حكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنه لما قيل: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} قيل: «فما ذا حكم به في أمر العبادة» فقيل: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} و لذلك جي‌ء بالفعل. 

  • و معنى الآية - و الله أعلم - ما تعبدون من دون الله إلا أسماء خالية عن المسميات لم يضعها إلا أنتم و آباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على أن لها شفاعة عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرها. 

  • و أما قوله: {ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله و نفي الشريك عنه، و القيم‌ هو القائم بالأمر القوي على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل و المتضعضع، و المعنى أن دين التوحيد وحده هو القوي على إدارة المجتمع و سوقه إلى منزل السعادة، و الدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غي و الحقية من غير بطلان، و لكن أكثر الناس لأنسهم بالحس و المحسوس و انهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب و استقامة العقل لا يعلمون ذلك، و إنما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة معرضون. 

  • أما أن التوحيد دين فيه الرشد و مطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه (عليه السلام) من البرهان، و أما أنه هو القوي على إدارة المجتمع الإنساني فلأن هذا النوع إنما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته و أحكام معاشه على مبنى حق مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبني باطل خرافي لا يعتمد على أصل ثابت. 

  • فقد بان من جميع ما تقدم أن الآيتين جميعا أعني قوله: {يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ} إلى قوله {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} برهان واحد على توحيد العبادة، محصله أن عبادة المعبود: إن كانت لألوهيته في نفسه و وجوب وجوده بذاته، فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا يتصور له ثان و لا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الآلهة، و إن كانت لكون آلهة 

تفسير الميزان ج۱۱

179
  • غير الله شركاء له شفعاء عنده، فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فإن الله حكم من طريق العقل و بلسان أنبيائه أن لا يعبد إلا هو. 

  • و بذلك يظهر فساد ما أورده البيضاوي في تفسيره تبعا للكشاف أن الآيتين تتضمنان دليلين على التوحيد فما في الأولى و هو قوله: {أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} دليل خطابي، و ما في الثانية و هو قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً} إلخ، برهان تام. 

  • قال البيضاوي: و هذا من التدرج في الدعوة و إلزام الحجة؛ بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة و يعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات و إما بالغير و كلا القسمين منتف عنهما ثم نص على ما هو الحق القويم و الدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره و لا يرتضي العلم دونه. انتهى. 

  • و لعل الذي حداه إلى ذلك ما في الآية الأولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابي، و قد فاته ما فيها من قيد {اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} و قد عرفت تقرير ما تتضمنه الآيتان من البرهان، و أن الذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب. 

  • و ربما يقرر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه: أن الله الواحد الذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرقة التي تفعل في الكون و يسوقها على تلائم آثارها المتفرقة المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف كما هو المشهود من وحدة النظام و توافق الأسباب خير من أرباب متفرقين تترشح منها لتفرقها و مضادتها أنظمة مختلفة و تدابير متضادة تؤدي إلى انفصام وحدة النظام الكوني و فساد التدبير الواحد العمومي. 

  • ثم الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل و لا من جانب النقل لأن العقل لا يدل إلا على التوحيد و الأنبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلا بأن لا يعبد إلا الله وحده. انتهى. 

  • و هذا التقرير - كما ترى - ينزل الآية الأولى على معنى قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا 

تفسير الميزان ج۱۱

180
  • آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء: ٢٢، و يعمم الآية الثانية على نفي ألوهية آلهة إلا الله بذاتها و نفي ألوهيتها من جهة إذن الله في شفاعتها. 

  • و يرد عليه أولا: أن فيه تقييدا لإطلاق قوله: {اَلْقَهَّارُ} من غير مقيد فإن الله سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها يقهر كل شي‌ء في ذاته و صفته و آثاره فلا ثاني له في وجوده و لا ثاني له في استقلاله في نفسه و في تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الإطلاق أن يفرض شي‌ء يستقل عنه في وجوده، و لا أمر يستقل عنه في أمره، و الإله الذي يفرض دونه إما مستقل عنه في ذاته و آثار ذاته جميعا و إما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب، و كلا الأمرين محال كما ظهر. 

  • و ثانيا: أن فيه تعميما لخصوص الآية الثانية من غير معمم فإن الآية كما عرفت تنيط كونها آلهة بإذن الله و حكمه كما هو ظاهر قوله: {مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} إلخ، و من الواضح أن هذه الألوهية المنوطة بإذنه تعالى و حكمه ألوهية شفاعة لا ألوهية ذاتية أي ألوهية بالغير لا ما هو أعم من الألوهية بالذات و بالغير جميعا. 

  • قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} معنى الآية ظاهر، و قرينة المناسبة قاضية بأن قوله: {أَمَّا أَحَدُكُمَا} إلخ، تأويل رؤيا من قال منهما: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} و قوله: {وَ أَمَّا اَلْآخَرُ} إلخ، تأويل لرؤيا الآخر. 

  • و قوله: {قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} لا يخلو من إشعار بأن الصاحبين أو أحدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا و لعله الثاني لما سمع تأويل رؤياه بالصلب و أكل الطير من رأسه، و يتأيد بهذا ما ورد من الرواية من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن الثاني من الصاحبين قال له: إني كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (عليه السلام): {قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي إن التأويل الذي استفتيتما فيه مقضي مقطوع لا مناص عنه. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} الضمائر في قوله: {قَالَ} و {ظَنَّ} و {فَلَبِثَ} راجعة إلى يوسف أي قال يوسف للذي ظن هو أنه سينجو منهما: اذكرني عند ربك بما يثير رحمته لعله يخرجني من السجن. 

تفسير الميزان ج۱۱

181
  • و إطلاق الظن على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنه من المقضي المقطوع به و تصريحه بأن ربه علمه تأويل الأحاديث لعله من إطلاق الظن على مطلق الاعتقاد و له نظائر في القرآن كقوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ} البقرة: ٤٦. 

  • و أما قول بعضهم: إن إطلاق الظن على اعتقاده يدل على أنه إنما أول ما أول عن اجتهاد منه، يفسده ما قدمنا الإشارة إليه أنه صرح لهما بعلمه في قوله: {قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} و الله سبحانه أيد ذلك بقوله: {وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ} و هذا ينافي الاجتهاد الظني. 

  • و قد احتمل أن يكون ضمير {ظَنَّ} راجعا إلى الموصول أي قال يوسف لصاحبه الذي ظن ذلك الصاحب أنه ناج منهما. و هذا المعنى لا بأس به إن ساعده السياق. 

  • و قوله: {فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} إلخ، الضميران راجعان إلى «الذي» أي فأنسى الشيطان صاحبه الناجي أن يذكره لربه أو عند ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين و البضع ما دون العشرة فإضافة الذكر إلى ربه من قبيل إضافة المصدر إلى معموله المعدى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة. 

  • و أما إرجاع الضميرين إلى يوسف حتى يفيد أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله سبحانه فتعلق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع سنين كما ذكره بعضهم و ربما نسب إلى الرواية. 

  • فمما يخالف نص الكتاب فإن الله سبحانه نص على كونه (عليه السلام) من المخلصين و نص على أن المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما أثنى الله عليه في هذه السورة. 

  • و الإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالأسباب فإن ذلك من أعظم الجهل لكونه طمعا فيما لا مطمع فيه بل إنما يوجب ترك الثقة بها و الاعتماد عليها و ليس في قوله: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ما يشعر بذلك البتة. 

  • على أن قوله تعالى بعد آيتين: {وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} إلخ، قرينة صالحة على أن الناسي هو الساقي دون يوسف. 

تفسير الميزان ج۱۱

182
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} فالآيات شهادة الصبي و القميص المخرق من دبر و استباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب، فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه. 

  • و دخل معه السجن فتيان يقول: عبدان للملك أحدهما خباز و الآخر صاحب الشراب، و الذي كذب و لم ير المنام هو الخباز. 

  • و ذكر الحديث علي بن إبراهيم القمي قال: و وكل الملك بيوسف رجلين يحفظانه فلما دخل السجن قالوا له: ما صناعتك؟ قال: أعبر الرؤيا. فرأى أحد الموكلين في منامه كما قال يعصر خمرا. قال يوسف: تخرج و تصير على شراب الملك و ترتفع منزلتك عنده، و قال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، و لم يكن رأى ذلك فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من رأسك، فضحك الرجل و قال: إني لم أر ذلك فقال يوسف كما حكى الله: {يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}

  • فقال أبو عبد الله (عليه السلام) في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} قال: كان يقوم على المريض، و يلتمس للمحتاج، و يوسع على المحبوس فلما أراد من يرى في نومه يعصر خمرا الخروج من الحبس قال له يوسف: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} فكان كما قال الله: {فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}

  • أقول: و في الرواية اضطراب لفظي، و ظاهرها أن صاحبيه في السجن لم يكونا مسجونين و إنما كانا موكلين عليه من قبل الملك، و لا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى: {وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} و قوله: {قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا}

تفسير الميزان ج۱۱

183
  • و في تفسير العياشي، عن سماعة :عن قول الله: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قال: هو العزيز. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى. 

  • أقول: و رواه عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لفظه: «رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث» و روي مثله عن عكرمة و الحسن و غيرهما. 

  • و روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عن طربال و عن ابن أبي يعقوب و عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و لفظ الأخير قال: قال الله ليوسف: أ لست الذي حببتك إلى أبيك و فضلتك على الناس بالحسن؟ أ و لست الذي سقت إليك السيارة فأنقذتك و أخرجتك من الجب؟ أ و لست الذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعية أو تدعو مخلوقا هو دوني؟ فالبث لما قلت بضع سنين‌، و قد تقدم أن هذه و أمثالها روايات تخالف نص الكتاب. 

  • و مثلها ما في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: قوله: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} و قوله لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} و قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فقال له جبرئيل: و لا حين هممت؟ فقال: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} و في الرواية نسبة الفرية و الكذب الصريح إلى الصديق (عليه السلام). 

  • و في بعض هذه الروايات أن عثراته الثلاث هي همه بها، و قوله: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}، و قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. و الله سبحانه يبرئه من هذه المفتريات بنص كتابه. 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٤٣ الی ٥٧]

  • {وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‌ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ

تفسير الميزان ج۱۱

184
  • وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ ٤٣ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ٤٤ وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ٤٥ يُوسُفُ أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ٤٦ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ٤٧ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ٤٨ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ٤٩ وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ اَلرَّسُولُ قَالَ اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ٥٠قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ٥١ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ ٥٢ وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥٣ وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ٥٤ قَالَ اِجْعَلْنِي عَلى‌ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ٥٥ وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ٥٦ وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ٥٧} 

تفسير الميزان ج۱۱

185
  • (بيان) 

  • تتضمن الآيات قصة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزة مصر و الأسباب المؤدية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه و ظهور براءته التام. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‌ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} إلى آخر الآية. رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله: {يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ} و قوله: {إِنِّي أَرى‌} حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ} إلخ. 

  • و السمان‌ جمع سمينة و العجاف‌ جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضم العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إن ذلك من قبيل الاتباع و الجمع القياسي عجف. 

  • و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى. 

  • و قوله: {تَعْبُرُونَ} من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمى تعبيرا، و هو على 

تفسير الميزان ج۱۱

186
  • أي حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كأن العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر التي تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له. 

  • قال في الكشاف، في قوله: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} إلخ: فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميِّز و هو بقرات دون المميَّز و هو سبع و أن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهن لا بجنسهن، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميَّز بالجنس بالسمن. 

  • فإن قلت: هلا قيل: سبعُ عجافٍ على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ. انتهى. 

  • و قال أيضا: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الآخر السبع، و يكون قوله: {وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ} بمعنى و سبعا أخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله: {وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ} على {سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافع و هو أن عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة، و لفظ الأخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجر فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام و قعود على أن بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد. انتهى، و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة. 

  • و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إني أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات أخر يابسات يا أيها الملأ بينوا 

تفسير الميزان ج۱۱

187
  •  لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} الأحلام‌ جمع حُلُم بضمتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كأن الأصل في معناه ما يتصور للإنسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس، و منه تسمية العقل حلما لأنه استقامة التفكر، و منه أيضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى. {وَ إِذَا بَلَغَ اَلْأَطْفَالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ} النور: ٥٩ أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم‌ بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضد الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنه إنما يكون عن استقامة التفكر. و ذكر الراغب: أن الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلف. 

  • و قال الراغب: الضغث‌ قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى: {وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} و به شبه الأحلام المختلفة التي لا تتبين حقائقها {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} حزم أخلاط من الأحلام انتهى. 

  • و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤى مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسُر للمعبر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى أخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدل على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى. 

  • على أن الآية أعني قوله: {وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‌} إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا أخرى. 

  • و قوله: {وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} إن كان الألف و اللام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات التي هي أضغاث أحلام بعالمين، و إن كان لغير العهد و الجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعبر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم 

تفسير الميزان ج۱۱

188
  • العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطري كلامهم يغني عن الآخر. 

  • و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعلم تأويل الرؤى الصالحة. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} الأمة الجماعة التي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدة التي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين. 

  • و المعنى: و قال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أوّل رؤياه: أنا أنبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى أخبركم بتأويل ذلك. 

  • و خطاب الجمع في قوله: {أُنَبِّئُكُمْ} و قوله {فَأَرْسِلُونِ} تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الذين يلون أمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ} كما سيأتي. 

  • قوله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} إلى آخر الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازا، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أن الناس في انتظار تأويله و هذا الأسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم. 

  • سمى يوسف صدّيقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه و منام صاحبه في السجن و أمور أخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صدّيقا بنقله ذلك من غير رد. 

  • و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرح أنه رؤيا فقال: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ} لأن قوله: {أَفْتِنَا} 

تفسير الميزان ج۱۱

189
  • و هو سؤال الحكم الذي يؤدي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدل على ذلك و يكشف عنه. 

  • و قوله: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} لعل الأول تعليل لقوله: {أَفْتِنَا} و لعل الثاني تعليل لقوله {أَرْجِعُ} و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و أخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {أَرْجِعُ} في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك. 

  • و في قوله أولا: {أَفْتِنَا} و ثانيا: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ} دلالة على أنه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له و لغيره فقال: {تَزْرَعُونَ} إلخ. 

  • و في قوله: {إِلَى اَلنَّاسِ} إشعار أو دلالة على أن الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلا أن الملأ كانوا هم أولياء أمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أن الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك و اهتمامهم برؤياه لأن الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنما يهتمون بشئون المملكة و أمور الرعية. 

  • قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} قال الراغب: الدأب‌ إدامة السير، دأب في السير دأبا قال تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} و الدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادتهم التي يستمرون عليها. انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه. 

  • ذكروا أن {تَزْرَعُونَ} خبر في معنى الإنشاء، و كثيرا ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ 

تفسير الميزان ج۱۱

190
  •  وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} الصف: ١١، و الدليل عليه قوله بعد: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}، قيل: و إنما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأن السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك. 

  • و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلا يهلك و احفظوه كذلك إلا قليلا و هو ما تأكلون في هذه السنين. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}

  • و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم. 

  • و الإحصان‌ الإحراز و الادخار، و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحرزون و تدخرون. 

  • قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} يقال: غاثه‌ الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمها أي ينصره و هو من الغوث‌ بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث‌ و هو المطر، فقوله: {فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ} إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم. 

  • و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده: {وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} و لا يصغى إلى قول من يدعي: أن المعنى الأول هو المتبادر من سياق الآية إلا على قراءة {يُعْصِرُونَ} بالبناء للمجهول و معناه يمطرون. 

  • و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنه لا ينطبق على مورد الآية فإن 

تفسير الميزان ج۱۱

191
  • خصب مصر إنما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثر فيها أثرا. 

  • رد عليه بأن الفيضان نفسه لا يكون إلا بالمطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان. 

  • على أن من الجائز أن يكون {يُغَاثُ} مأخوذا من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب: و الغيث‌ الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله: {وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ}

  • و قوله: {وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} من العصر و هو إخراج ما في الشي‌ء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسره بعضهم به. 

  • و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - و فيه يتخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم. و فيه كناية عن توفر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم. 

  • قال البيضاوي في تفسيره: و هذه بشارة بشرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بأن السنة الإلهية أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم. انتهى و ذكر غيره نحوا مما ذكره. 

  • و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أن هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز و جل لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى. 

  • و الذي أرى أنهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنا إذا تدبرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ 

تفسير الميزان ج۱۱

192
  •  فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة، و لو أنه أراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقول مثلا: يأتي عليكم سبع مخصبات ثم يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامة، قال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} إلى آخر ما قال. 

  • بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بين أن أمره بذلك توطئة و تقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا دليل على أن الذي رآه الملك من الرؤيا إنما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليته في أمر رعيته و هو أن يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوسٍ و تصفيةٍ لذلك. 

  • فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الأول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الآخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادخروه في السبع الأولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر. 

  • و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئا إلا أمورا ثلاثة: 

  • أحدها ما استثناه بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} و ليس جزء من التأويل و إنما هو إباحة و بيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله. 

  • و ثانيها: قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} و هو الذي يجب أن يدخروه للعام الذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتخذ بذرا و مددا احتياطيا، و كأنه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا: {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} حيث لم يقل: أكلتهن بل عبر عن اشتغالهن بأكلهن و لما يفنيهن بأكل كلهن و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد 

تفسير الميزان ج۱۱

193
  • لرأى أنهن أكلتهن عن آخرهن. 

  • و ثالثها: قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} و الظاهر أنه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الذي تكرر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} و إن كان إخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن أن هذا العام الذي سيستقبلهم بعد مضي السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الادخار، و لا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس. 

  • و لعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال: {فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} و لم يقل: فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أن الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصديكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة. 

  • و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدم أن هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى. 

  • فإن تبدل سني الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة. 

  • و مما ذكرنا أيضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل: {وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ} حيث عرفت أن الرؤيا لا تجلي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنما تجلي ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك. 

  • و مما تقدم يظهر أيضا أن الأنسب أن يكون المراد بقوله: {يُغَاثُ} و قوله: {يَعْصِرُونَ} الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأن ذلك هو المناسب لما رآه في 

تفسير الميزان ج۱۱

194
  • منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإن هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ اَلرَّسُولُ قَالَ اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير - على ما يدل عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال - و جاء الرسول و هو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به. 

  • و ظاهر أن الذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما، و الذي أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني بشئون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلمه و يتبصر بما يقوله مزيد تبصر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إياه بقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ} و {كَلَّمَهُ} إلخ. 

  • و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصا له بل إطلاقا من السجن و إشخاصا للتكليم ولو كان إشخاصا و إحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه إجبارا بل كان إحضارا عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحق، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانيا: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أولا: ائتوني به. 

  • و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول: {اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلا أن يقضي بينه و بينها، و إنما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، و لم يذكرهن أيضا بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما. 

  • و لم يذكرهن بشي‌ء من المكروه إلا ما في قوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} و ليس إلا نوعا من بث الشكوى لربه. 

  • و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول: {اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ} ثم يقول: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} و فيه نوع من تبليغ الحق، و ليكن فيه 

تفسير الميزان ج۱۱

195
  • تنبه لمن يزعم أن مراده من {رَبِّي} فيما قال لامرأة العزيز: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} هو زوجها، و أنه يسميه ربا لنفسه. 

  • و ما ألطف قوله: {مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} و البال‌ هو الأمر الذي يهتم به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه، و ليس إلا هواهن فيه و ولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه أن الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا، و الكف عن معاشقتهن و الامتناع من إجابتهن بما يردنه و هن يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرة و المرتين و لا الإلحاح و الإصرار يوما أو يومين و لن تتيسر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده. 

  • قوله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} الآية، قال الراغب: الخطب‌ الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ}. انتهى. 

  • و قال أيضا: حصحص‌ الحق أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حص و حصحص نحو كف و كفكف و كب و كبكب، و حصّه قطع منه إما بالمباشرة و إما بالحكم إلى أن قال و الحصة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب. انتهى. 

  • و قوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا كل ذلك يدل عليه السياق و التقدير: كأن سائلا يسأل فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء، فأحضر النسوةَ و سألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فنزهنه عن كل سوء، و شهدن أنهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه. 

  • و ذكرهن كلمة التنزيه: {حَاشَ لِلَّهِ} نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً} يدل على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفة فيما علمنه كما أنه كان بالغا في الحسن. 

تفسير الميزان ج۱۱

196
  • و الكلام في فصل قوله: {قَالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ} نظير الكلام في قوله {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} و قوله: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز و هي الأصل في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدّقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحق و هو أنه: أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذبت نفسها في اتهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة أنه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة. 

  • و اتضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كل وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} مع كلمة التنزيه: {حَاشَ لِلَّهِ} في قولهن، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} و شهادتها بصدقه مؤكدة بأن و اللام و الجملة الاسمية: {وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} و غير ذلك في قولها. و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كل سوء أعم من الفحشاء و المراودة لها و أي ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهة من حسن اختياره. 

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ} من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدل عليه السياق، و كأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء، و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته. 

  • و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: {آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} البقرة: ٢٨٥ أي قالوا لا نفرق «إلخ»، و قوله: {وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ } الصافات: ١٦٦. 

  • و على هذا فالإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في {لِيَعْلَمَ} و {لَمْ أَخُنْهُ} عائد إلى العزيز و المعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقق الأمر و يقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين. 

  • يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين: 

  • أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أي 

تفسير الميزان ج۱۱

197
  • شبهة و ريبة. 

  • و الثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته و أنه سيفتضح لا محالة، سنة الله التي قد خلت في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحق عليه ظهورا، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين. 

  • و كأن الغرض من الغاية الثانية: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ} و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شي‌ء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شي‌ء نفسا كان أو عرضا أو مالا. 

  • و بهذا الامتياز البيّن يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه و هو قوله بعد أن أشخص عند الملك: {اِجْعَلْنِي عَلى‌ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}

  • و الآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله: {وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى اَلْبَابِ} و قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}

  • و قد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية و التي بعدها تتمة قول امرأة العزيز: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} و سيأتي الكلام عليه. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} تتمة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أن قوله: {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا و لا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، و تسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام): {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} هود: ٨٨. 

تفسير الميزان ج۱۱

198
  • فقوله: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} إشارة إلى قوله: {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} و أنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، و علل ذلك بقوله {إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، و إنما تكف عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفقها لصالح العمل. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} يفيد فائدتين: 

  • إحداهما: تقييد إطلاق قوله: {إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى. 

  • و ثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه. 

  • و قد علل الحكم بقوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى: {فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الأنعام: ١٤٥ و قد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب. 

  • و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ {رَبِّي} فقد كرره ثلاثا حيث قال: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، و أما قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ} فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبر بلفظ الجلالة. 

  • و قد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إلخ، من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت: {ذَلِكَ} أي اعترافي بأني راودته عن نفسه و شهادتي بأنه من الصادقين 

تفسير الميزان ج۱۱

199
  • {لِيَعْلَمَ} إذا بلغه عني هذا الكلام {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا و أنه كان صادقا {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ} كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره {إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}

  • و هذا وجه ردي‌ء جدا أما أولا: فلأن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: و ليعلمْ أني لم أخنه بالغيب بصيغة الأمر فإن قوله {ذَلِكَ} على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله: {لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت و شهدت ليعلم أني اعترفت و شهدت له بالغيب. مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحق و بيان حقيقة الأمر. 

  • و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبته إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت و شهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها و شهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه و هو ظاهر. 

  • و أما ثانيا: فلأنه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ}

  • و أما ثالثا: فلأن قولها: «و ما أبرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن» يناقض قولها: {لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله: {إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام. 

  • و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير {لِيَعْلَمَ} و {لَمْ أَخُنْهُ} إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه 

تفسير الميزان ج۱۱

200
  • بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، و أن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برئت يوسف من الإثم فما أبرئ منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي. 

  • و فيه: أن الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيب به نفس زوجها و تزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، و أما شهادتها أنه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشك و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب. 

  • مضافا إلى أن قوله: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} إلخ، يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} و ظاهر السياق خلافه، على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} يقال: استخلصه‌ أي جعله خالصا، و المكين‌ صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} حذف للإيجاز، والتقديرُ: فلما أتي به إليه و كلمه قال إنك اليوم «إلخ» و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى أنك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كل مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله: {مَكِينٌ أَمِينٌ} فأفاد بذلك عموم الحكم. 

  • و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصة لي فلما أتي به إليه و كلمه قال له إنك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد و يأتمنك على جميع شئون الملك و في ذلك حكم صدارته. 

  • قوله تعالى: {قَالَ اِجْعَلْنِي عَلى‌ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} لما عهد الملك ليوسف أنك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر. 

تفسير الميزان ج۱۱

201
  • و لم يسأله ما سأل إلا ليتقلد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدخرها للسنين السبع الشداد التي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غيره حيف. 

  • و قد علل سؤاله ذلك بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فإن هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد أجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} التمكين‌ هو الإقدار و التبوء أخذ المكان. 

  • و الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجب و بيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته. 

  • و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرية الاختلاط و العشرة، قال تعالى: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي رفعنا عنه حرج السجن الذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشية له أن يتبوأ في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصاه امرأته: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‌ أَمْرِهِ}

  • و بهذه المقايسة يظهر أن قوله هاهنا: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} في معنى قوله هناك: {وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‌ أَمْرِهِ} و إن المراد أن الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيته و لا يسع لأي مانع مفروض أن يمنع من إصابته. و لو وسع لسبب أن يبطل مشية الله في أحد لوسع في يوسف الذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزه الله، إن الحكم إلا لله. 

تفسير الميزان ج۱۱

202
  • و قوله: {وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} إشارة إلى أن هذا التمكين أجر أوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أن الله لا يضيع أجرهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل أخروي لأوليائه تعالى خاصة و كان يوسف (عليه السلام) منهم. 

  • و الدليل على أنه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية: {وَ كَانُوا يَتَّقُونَ} الدالة على أن هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي و هذا التقوى لا يتحقق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْرى‌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} يونس: ٦٤. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي: ثم إن الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه إني رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و أخر يابسات و قال‌۱ أبو عبد الله (عليه السلام): سبع سنابل ثم قال: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك. 

  • فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} فجاء إلى يوسف فقال: {أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ}

  • قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فإنه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد 

    1. و قرأ خ ل‌

تفسير الميزان ج۱۱

203
  • ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون. 

  • و قال أبو عبد الله (عليه السلام): قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ} - على البناء للفاعل – فقال: ويحك أي شي‌ء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنما نزلت: و فيه يُعصَرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على ذلك قوله: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً}

  • فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. 

  • فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثم قالت: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي}

  • فقال الملك: {اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } فلما نظر إلى يوسف قال: {إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } فاسأل حاجتك قال: {اِجْعَلْنِي عَلى‌ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله: {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}

  • أقول: قوله: وقرأ الصادق (عليه السلام): «سبع سنابل» في رواية العياشي عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنه قرأ: {سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ} ۱و قوله (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن أي إن التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، و قوله (عليه السلام): إنما نزلت: {وَ فِيهِ يُعْصَرُونَ} ‌أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون 

    1. على ما أخرجه في البرهان و أما في نسخة العياشي المطبوعة «سبع سنابل» أيضا.

تفسير الميزان ج۱۱

204
  • الغوث و روى هذا المعنى أيضا العياشي في تفسيره عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و قوله: «أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل» ظاهر في أخذ قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم. 

  • و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنه أحب أن يكون له العذر. 

  • أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق أخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العياشي عن أبان عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك ۱حتى أظهر الله عذره.

  •  أقول: و هذا النبوي لا يخلو من شي‌ء فإن فيه أحد المحذورين: إما الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه و لا هم لامرأة العزيز و نسوة مصر إلا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهن و هو القائل: {رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}، و إنما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة. 

  • و لذا أنبأ و هو في السجن أولا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامة و ادخارها فتوصل به إلى قول الملك {اِئْتُونِي بِهِ} ثم لما أمر بإخراجه أبى إلا أن 

    1. هي امرأة العزيز دون الملك و لعل إطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث «منه».

تفسير الميزان ج۱۱

205
  • يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله: {اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} و هذا أحسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض. مضافا إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الأمور و تحمله الأذى في جنب الحق و علمه الغزير و حكمه القويم. 

  • و إما الطعن في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حاشاه أن يقول: إنه لو كان مكان يوسف طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأن الحق كان معه في صبره، و هو اعتراف بأن من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمر الناس بشي‌ء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتى أثنى الله عليه بمثل قوله: {وَ إِنَّكَ لَعَلى‌ خُلُقٍ عَظِيمٍ}

  • و في الدر المنثور: أيضا أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلمي عن أنس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال: لما قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همك. قال: {وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}

  • أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عباس: لما قالها يوسف «فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟» و في رواية عن حكيم بن جابر: «فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟» و نحو من ذلك في روايات أخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحاك و ابن زيد و السدي و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم. 

  • و قد تقدم في البيان السابق أن هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنص الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصديق (عليه السلام) أن يكذب بقوله: {لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ثم يصلح ما أفسده بغمز من جبريل. قال في الكشاف: و لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أن يوسف حين قال: {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله. انتهى. 

  • و في تفسير العياشي، عن سماعة قال: سألته عن قول الله: {اِرْجِعْ إِلى‌ رَبِّكَ} الآية يعني العزيز. 

تفسير الميزان ج۱۱

206
  • أقول: و في تفسير البرهان، عن الطبرسي في كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في ملك يوسف. 

  • و باعهم في السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبق بمصر و ما حولها حلي و لا جواهر إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابة و لا ماشية إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتى لم يبق. بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حر إلا صار عبدا ليوسف. 

  • فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا، ثم قال يوسف للملك: ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، و لم أنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكن الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك. 

  • قال يوسف: إني أشهد الله و أشهدك أيها الملك إني قد أعتقت أهل مصر كلهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي و لا تحكم إلا بحكمي. 

  • قال له الملك: إن ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلا بسيرتك و لا أحكم إلا بحكمك و لولاك ما توليت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين. 

  • أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات 

تفسير الميزان ج۱۱

207
  • و لذلك تركنا نقلها. 

  • و في تفسير العياشي، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟ قال نعم إذا اضطر إليه أ ما سمعت قول يوسف: {اِجْعَلْنِي عَلى‌ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} و قول العبد الصالح: إني لكم ناصح أمين.

  •  أقول: الظاهر أن المراد بالعبد الصالح هو هود، إذ يقول لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} الأعراف: ٦٨. 

  • و في العيون، بإسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): أيما أفضل النبي أو الوصي: فقال: لا بل النبي. قال: فأيما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم. 

  • قال: فإن عزيز۱ مصر كان مشركا و كان يوسف نبيا، و إن المأمون مسلم و أنا وصي و يوسف سأل العزيز أن يوليه حتى قال: استعملني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله: {حَفِيظٌ عَلِيمٌ} قال: حافظ على ما في يدي عالم بكل لسان. 

  • أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العياشي في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضا عن فضل بن أبي قرة عن الصادق (عليه السلام). 

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٥٨ الی ٦٢]

  • {وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٥٨ وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لاَ تَرَوْنَ 

    1. المراد به ملك مصر و لعل إطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي. 

تفسير الميزان ج۱۱

208
  • أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ ٥٩ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاَ تَقْرَبُونِ ٦٠قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ ٦١ وَ قَالَ لِفِتْيَانِهِ اِجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى‌ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٦٢} 

  • بيان 

  • فصل آخر مختار من قصة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجي‌ء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدمة لضم يوسف (عليه السلام) أخاه من أمه و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة {لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ } إليه ثم تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر. 

  • و إنما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنه أراد أن يلحق أخاه من أمه إلى نفسه و يري إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و منّ الله عليهما إثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثم يشخصهم جميعا، و الآيات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبلهم ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} في الكلام حذف كثير و إنما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به، و إنما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من أمه به و إشراكه معه في النعمة و المن الإلهي ثم معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته و ما جرى عليه بعد عزة مصر. 

  • و الذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من أمه فإن يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلي بينه و بينهم بعد ما كان من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كله ما سيأتي من الآيات. 

تفسير الميزان ج۱۱

209
  • و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنهم إنما جاءوا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم أخرج من الجب و هو صبي و قد مر عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زي عزيز مصر لا يظن به أنه رجل عبري من غير القبط، و هذا كله صرفهم عن أن يظنوا به أنه أخوهم و يعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: {وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ} قال الراغب في المفردات: الجهاز ما يعد من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه. انتهى. فالمعنى و لما حملهم ما أعد لهم من الجهاز و الطعام الذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال {اِئْتُونِي }«إلخ». 

  • و قوله: {أَ لاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ } أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتكاء على قدرتي و عزتي { وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ} أكرم النازلين بي و أحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانيا و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أن قوله في الآية التالية: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاَ تَقْرَبُونِ} تهديد لهم لئلا يعصوا أمره، و كما أن قولهم في الآية الآتية: {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ} تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام). 

  • ثم من المعلوم أن قوله (عليه السلام) أوان خروجهم: {اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره، و هو ظاهر. و قد أورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم و تكليمه إياهم أمورا كثيرة لا دليل على شي‌ء منها من كلامه تعالى في سياق القصة و لا أثر يطمأن إليه في أمثال المقام. 

  • و كلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، و إنما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم 

تفسير الميزان ج۱۱

210
  • فأخبروه و هم عشرة أنهم إخوة و أن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه. 

  • قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاَ تَقْرَبُونِ} الكيل‌ بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام. و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ} المراودة كما تقدم هي الرجوع في أمر مرة بعد مرة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام) {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} دليل على أنهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، و في قولهم: {أَبَاهُ} و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك. 

  • و قولهم: {وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحمله معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدم. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ لِفِتْيَانِهِ اِجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى‌ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الفتيان‌ جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} و قال تعالى: {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} و الأصل في هذه الكلمة البضع بفتح الباء و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع قال و فلان بضعة مني أي جار مجرى بعض جسدي لقربه مني قال و البضع‌ بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة. انتهى، و الرحال‌ جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب‌ الرجوع. 

  • و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم التي قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم و فتحوا الأوعية لعلهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإن ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتع من الإكرام و الإحسان. 

تفسير الميزان ج۱۱

211
  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٦٣ الی ٨٢]

  • {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‌ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٦٣ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلى‌ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ٦٤ وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَ نَحْفَظُ أَخَانَا وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ٦٥ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلى‌ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ٦٦ وَ قَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٦٨ وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‌ يُوسُفَ آوى‌ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٦٩ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ 

تفسير الميزان ج۱۱

212
  • اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ٧٠قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ ٧١ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ٧٢ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ ٧٣ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ٧٤ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ ٧٥ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ٧٦ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ٧٧ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٧٨ قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ ٧٩ فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ 

تفسير الميزان ج۱۱

213
  • اَلْحَاكِمِينَ ٨٠اِرْجِعُوا إِلى‌ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ وَ مَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ٨١ وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ ٨٢} 

  • (بيان) 

  • الآيات تقتص رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من أمه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‌ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الاكتيال‌ أخذ الطعام كيلا إن كان مما يكال، قال الراغب: الكيل‌ كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا توليت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتَالُوا عَلَى اَلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذَا كَالُوهُمْ}

  • و قوله: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ} أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل إن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا. 

  • و قولهم: {أَخَانَا} إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم: {وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} بما فيه من التأكيد البالغ. 

  • قوله تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلى‌ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} قال في المجمع: الأمن‌ اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه 

تفسير الميزان ج۱۱

214
  • يأمنه أمنا انتهى فقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} إلخ، أي هل أطمأن إليكم في ابني هذا إلا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان. 

  • و محصله أنكم تتوقعون مني أن أثق فيه بكم و تطمئن نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم: {وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم: {وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} و قد أمنتكم بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عني شيئا و جئتم بقميصه الملطخ بالدم أن الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئا و لا بيده حفظ ما سلم إليه و اؤتمن له. 

  • و قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} تفريع على سابق كلامه: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لغا لا أثر له و لا يغني شيئا فخير الاطمئنان و الاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردد الأمر بين التوكل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين. 

  • و قوله: {وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} في موضع التعليل لقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} أي إن غيره تعالى ربما أمن في أمر و اؤتمن عليه في أمانة سلم له فلم يرحم المؤتمن و ضيع الأمانة لكنه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة و يترحم العاجز الضعيف الذي فوض إليه أمرا و توكل عليه، و من يتوكل على الله فهو حسبه. 

  • و من هنا يظهر أن مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق: ٣ كيف و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء، و قد نص تعالى على أن يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنه من الأئمة الهداة المهديين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله: {إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلى‌ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} أنه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة، على أنه أمنهم على أخي يوسف أيضا بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية. 

  • بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنه تعالى 

تفسير الميزان ج۱۱

215
  • متصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له أمورهم فإنه رءوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنه أرحم الراحمين على أنه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيته، و أما الناس إذا أمنوا على أمر و اطمأن إليهم في شي‌ء فإنهم أسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانية ربما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربما خانوا و لم يحفظوا، على أنهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوة و إرادة. 

  • و بالجملة مراده (عليه السلام) أن الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمأن فيه إليه بخلاف الناس فإنهم ربما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه، و لذلك لما كلف بنيه ثانيا أن يؤتوه موثقا من الله قال: {أن تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا أحيط بهم فإنه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسئولين عنه، و إنما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك. 

  • و مما تقدم يظهر أن في قوله (عليه السلام): {وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلا - في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه. 

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} إلى آخر الآية. البغي‌ هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشر و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع: الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا. انتهى. 

  • و قوله: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} استفهام أي لما فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنه غير قاصد بهم سوءا و قد سلم إليهم الطعام و رد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و درا راجعوا أباهم و قالوا: يا أبانا ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد أوفى لنا الكيل و رد إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا. 

تفسير الميزان ج۱۱

216
  • فقولهم: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه و لذلك عقبوه بقولهم: {وَ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَ نَحْفَظُ أَخَانَا وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي سهل. 

  • و ربما قيل: إن «ما» في قوله: {مَا نَبْغِي} للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت إلينا، و كذا قيل: إن اليسير بمعنى القليل أي إن الذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا. 

  • قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلى‌ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} الموثق‌ - بكسر الثاء - ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهي و إعطاؤه هو أن يسلط الإنسان على أمر إلهي يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلن كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة. 

  • و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكل شي‌ء أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج و لا شي‌ء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: أحيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى: {وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‌ مَا أَنْفَقَ فِيهَا} الكهف: ٤٢، و قال: {وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ } يونس: ٢٢ و منه قوله في الآية: {إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إلي. 

  • و الوكالة نوع تسلط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكل عليه في الأمور ليس بعناية أنه خالق كل شي‌ء و مالكه و مدبره بل 

تفسير الميزان ج۱۱

217
  • بعناية أنه أذن في نسبة الأمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملكها إياها بنحو من التمليك و هي فاقدة للإصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمرا و توصل إليه بالأسباب العادية التي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه. فليس التوكل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه و إلى الأسباب

  • و لذلك نرى أن يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم أولا بنيه في أخيهم ثم أخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله و كذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى. 

  • فالله سبحانه على كل شي‌ء وكيل من جهة الأمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوة، و أنه رب كل شي‌ء من جهة أنه المالك المدبر لها. 

  • و معنى الآية: {قَالَ} يعقوب لبنيه: {لَنْ أُرْسِلَهُ} أي أخاكم من أم يوسف {مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ} و تعطوني {مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ} أثق به و أعتمد عليه من عهد أو يمين {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} و اللام للقسم و لما كان إيتاؤهم موثقا من الله إنما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال {إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} و تسلبوا الاستطاعة و القدرة {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} من الله {قَالَ} يعقوب {اَللَّهُ عَلى‌ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي إنا قاولنا جميعا فقلت و قلتم و توسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشي‌ء فليأت به كما التزم و إن تخلف فليجازه الله و ينتصف منه. 

  • قوله تعالى: {وَ قَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهزوا 

تفسير الميزان ج۱۱

218
  • و استعدوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصة أنه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لأنه كان من المعلوم أنه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا و هم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى. 

  • و قوله بعده: {وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (عليه السلام) - و الله أعلم - أحس حينما تجهزوا للسفر و اصطفوا أمامه للوداع إحساس إلهام أن جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم. 

  • ثم رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلا مستقلا - و لا مؤثر في الوجود بالحقيقة إلا الله سبحانه - فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم: {وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} ثم علله بقوله {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} أي لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتقون به نزول النازلة و تتوسلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإن هذه الأسباب لا تغني من الله شيئا و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا إلا لله بل هذه أسباب ظاهرية إنما تؤثر إذا أراد الله لها أن تؤثر. 

  • و لذلك عقب كلامه هذا بقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ} أي إن هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب التي أخذتها في أموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كل رشيد غير غوي يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإدارة أموره و لا أن الأسباب العادية باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجئ في أموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شي‌ء، الغالب الذي لا يغلبه شي‌ء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. 

تفسير الميزان ج۱۱

219
  • و قد تبين بالآية أولا معنى التوكل و أنه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل و الموكل. 

  • و ثانيا: أن هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها و لا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنه من الغي و الجهل. 

  • و ثالثا: أن ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الأمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنه الله لا إله إلا هو رب كل شي‌ء و هذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله: {و على الله فليتوكل المتوكلون}. 

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} إلى آخر الآية. الذي يعطيه سياق الآيات السابقة و اللاحقة و التدبر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل، و إنما اتخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم و تنقص من عددهم كما أشير إليه في الآية السابقة، لكن اتخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدى ذلك إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‌ء. 

  • لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنه جعل هذا السبب الذي تخلف عن أمره و أدى إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإن يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلا كبيرهم إلى أبيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذللون لعزته فعرفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتصلوا به. 

تفسير الميزان ج۱۱

220
  • فقوله: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئا البتة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل أخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم. 

  • و قوله: {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} قيل: إن {إِلاَّ} بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده و هو يوسف. 

  • و لا يبعد أن يكون {إِلاَّ} استثنائية فإن قوله: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‌ءٍ} في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا و لم يقض الله لهم جميعا به حاجة إلا حاجة في نفس يعقوب، و قوله: {قَضَاهَا} استئناف و جواب سؤال كان سائلا يسأل فيقول: ما ذا فعل بها؟ فأجيب بقوله: {قَضَاهَا}

  • و قوله: {وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} الضمير ليعقوب أي إن يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إياه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنه علم موهبي غير اكتسابي و قد تقدم أن إخلاص التوحيد يؤدي إلى مثل هذه العناية الإلهية، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى بعده: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} إذ لو كان من العلم الاكتسابي الذي يحكم بالأسباب الظاهرية و يتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه. 

  • و الجملة: {وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبي لا يضل في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله: {وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} إلخ، تصديقا ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه. 

  • هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات و للمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ } - إلى قوله - {قَضَاهَا} إنه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئا أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين 

تفسير الميزان ج۱۱

221
  • و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأن الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه. 

  • و قول بعضهم: إن المعنى أن الله لو قدر أن تصيبهم العين لإصابتهم و هم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين. 

  • و قول بعضهم: إن معنى قوله: {وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} إلخ، إنه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إياه و لكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته. 

  • و قول بعضهم: إن اللام في {لِمَا عَلَّمْنَاهُ} للتقوية و المعنى أنه يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئا و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‌ يُوسُفَ آوى‌ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الإيواء إليه ضمه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس‌ اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة. 

  • و معنى الآية: {وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‌ يُوسُفَ} بعد دخولهم مصر {آوى‌} و قرب {إِلَيْهِ أَخَاهُ} الذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و أمه {قَالَ} له {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} أي يوسف الذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر {فَلاَ تَبْتَئِسْ} و لا تغتم {بِمَا كَانُوا} أي الإخوة {يَعْمَلُونَ} من أنواع الأذى و المظالم التي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من أم أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنه كيد لحبسك عندي. 

  • و ظاهر السياق أنه عرفه نفسه بإسرار القول إليه و سلاه على ما عمله الإخوة و طيب نفسه؛ فلا يعبأ بقول بعضهم إن معنى قوله: إني أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنه كان له أخ من أمه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من أمه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنه أراد أن يطيب نفسه. 

  • و ذلك أنه ينافيه ما في قوله: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} من وجوه التأكيد و ذلك إنما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنه هو يوسف. على أنه ينافي أيضا ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه: {أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا} فإنه إنما يناسب ما إذا علم 

تفسير الميزان ج۱۱

222
  • أخوه أنه أخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} السقاية الظرف الذي يشرب فيه، و الرحل‌ ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كل واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته. 

  • و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّه و فصله الله تعالى و جعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه و هما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته. 

  • و قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لأمه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‌ء كثير، و هذا الأمر الذي سمي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم و هو أخو يوسف لأمه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فإن معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أن السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممن لا يتعين إلا بعد الفحص و التفتيش. 

  • و من المعلوم من السياق أن أخا يوسف لأمه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه و لذلك لم يتكلم من أول الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرفه يوسف أنه أخاه و سلاه و طيب نفسه فليس إلا أن يوسف (عليه السلام) كان عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنه إنما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنما كان اتهاما في نظر الإخوة و أما بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدية و تهمة حقيقة بل توصيفا صوريا فحسب لمصلحة لازمة جازمة. 

  • فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرم شرعا، على أن القائل هو المؤذن الذي أذن بذلك. 

  • و ذكر بعض المفسرين: أن القائل: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره و لم يعلم أن يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم. 

تفسير الميزان ج۱۱

223
  • و قال بعضهم: إن يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنما عنى به أنكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجب، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسر. 

  • و قال بعضهم: إن الجملة استفهامية، و التقدير: أ إنكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ} الفقد كما قيل غيبة الشي‌ء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله: {قَالُوا} للإخوة و هم العير، و قوله: {مَا ذَا تَفْقِدُونَ} مقول القول و الضمير في قوله: {عَلَيْهِمْ} ليوسف و فتيانه كما يدل عليه السياق. 

  • و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أن المنادي إنما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ} الصواع بالضم السقاية و قيل: إن الصواع هو الصاع الذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمي تارة سقاية و أخرى صواعا، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال: {وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ} و قال: {ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا}

  • و الحمل‌ ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أن الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‌ء المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء. 

  • و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين‌ نظائر و الزعيم أيضا القائم بأمر القوم و هو الرئيس. 

  • و لعل القائل: {نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ} هو فتيان يوسف و القائل: {وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ} يوسف (عليه السلام) نفسه لأنه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أما فتيانه فقالوا: {نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ}، و أما يوسف فقال: {وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ 

تفسير الميزان ج۱۱

224
  •  حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ}، و هذه جعالة. 

  • و ظاهر بعض المفسرين: أن قوله: {وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ} تتمة قول المؤذن: {أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} و على هذا فقوله: {قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ } - إلى قوله - {صُوَاعَ اَلْمَلِكِ} معترض. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ} المراد بالأرض أرض مصر و هي التي جاءوها و معنى الآية ظاهر. 

  • و في قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ} دلالة على أنهم فتشوا و حقق في أمرهم أول ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة أخرى فسألوا عن شأنهم و محلهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيد ما ورد في بعض الروايات أن يوسف أظهر لهم أنه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أن لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. 

  • و قولهم: {وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ} نفي أن يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم. 

  • و الكلام في قولهم‌{إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} و قد تقدم. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ} مرادهم أن جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أن من سرق مالا يصير عبدا لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنة يعقوب (عليه السلام) كما يدل عليه قولهم: {كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ} أي هؤلاء الظالمين و هم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} للدلالة على أن السرقة إنما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة إلا السارق بعينه 

تفسير الميزان ج۱۱

225
  • من غير أن يتعدى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثم للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء. 

  • قوله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} فيه تفريع على ما تقدم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذرا من أن يتنبهوا و يتفطنوا أنه هو الذي وضعها في رحل أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله. 

  • قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لأمه من عصبة إخوته، و قد كان كيدا لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علمه به طريق التوصل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}

  • و ليس كل كيد بمنفي عنه تعالى و إنما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها. 

  • و قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في أرض مصر طريق يؤدي إلى أخذه، و لا أن السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف بأمر من الله بجعل السقاية في رحله ثم إعلام أنهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أن جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم. 

  • و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم. 

تفسير الميزان ج۱۱

226
  • و من هنا يظهر أن الاستثناء يفيد أنه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشق، و كان ذلك متداولا في كثير من السنن القومية و سياسات الملوك. 

  • و قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} و كان امتنانا عليه. 

  • و في قوله: {وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} بيان أن العلم من الأمور التي لا يقف على حد ينتهي إليه بل كل ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه. 

  • و ينبغي أن يعلم أن ظاهر قوله: {ذِي عِلْمٍ} هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة {ذِي} من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أن وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام. 

  • على أن الجملة {وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} إنما تصدق فيما أمكن هناك فرض {فَوْقَ} و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حد لذاته و لا نهاية. 

  • و لا يبعد أن يكون قوله: {وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} إشارة إلى كونه تعالى فوق كل ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه أورد في هيئة النكرة صونا للسان عن تعريفه للتعظيم. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتهم بالسرقة لأنهما كانا من أم واحدة، و المعنى أنهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنه كان له أخ و قد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية أمهما و نحن مفارقوهما في الأم. 

  • و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفا: {وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ} لأنهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلا لم يكن ينفعهم البتة فقولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يناقضه و هو ظاهر. على أنهم أظهروا 

تفسير الميزان ج۱۱

227
  • بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن أمور مؤسفة كثيرة فيما بينهم. 

  • و بهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} كما أن الظاهر أن قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} إلى آخر الآية كالبيان لقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} و كما أن قوله: {وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} عطف تفسير لقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ}

  • و المعنى - و الله أعلم - {فَأَسَرَّهَا} أي أخفى هذه الكلمة التي قالوها أي لم يتعرض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبين حقيقة الحال بل {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} و كأن هناك قائلا يقول: كيف أسرها في نفسه فأجيب أنه {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كله {وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} إنه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم و لم ينفه. 

  • و ذكر بعض المفسرين أن معنى قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} إلخ: أنكم أسوأ حالا منه لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أ سرق أخ له من قبل أم لا. 

  • و فيه: أن من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} لكن الكلام فيما تلقاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف، هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلا بما تقدم. 

  • و ربما ذكر بعضهم أن التي أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله: {وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} و هذا بعيد غير مستفاد من السياق. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} سياق الآيات يدل على أنهم إنما قالوا هذا القول لما شاهدوا أنه استحق الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل 

تفسير الميزان ج۱۱

228
  • العزيز، و كلموا العزيز في ذلك أن يأخذ أي من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتهم ليرجعوه إلى أبيه. 

  • و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوة و الإحسان من العزيز. 

  • قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} رد منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس‌ قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب. 

  • و النجي القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه: {وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} و إنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به، و المناجاة المسارة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسما و مصدرا قال سبحانه: {وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‌} أي يتناجون، و قال في المصدر: {إِنَّمَا اَلنَّجْوى‌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ} و جمع النجي أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحى عن موضعه. انتهى. 

  • و الضمير في قوله: {فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى {فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا} أي إخوة يوسف {مِنْهُ} أي من يوسف أن يخلي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه {خَلَصُوا} و خرجوا من بين الناس إلى فراغ {نَجِيًّا} يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟ 

  • {قَالَ كَبِيرُهُمْ} مخاطبا لسائرهم: {أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ} ألا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلا بأخيكم، {وَ مِنْ قَبْلُ} هذه الواقعة {مَا فَرَّطْتُمْ} أي تفريطكم و تقصيركم {فِي} أمر {يُوسُفَ} عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردوه إليه سالما فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم أخبرتم أباكم أنه أكله الذئب. 

  • {فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ} أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحى و لن أفارق أرض 

تفسير الميزان ج۱۱

229
  • مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به {أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ} فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدت لي كل باب و ذلك إما بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!. 

  • أما أنا فاختار البقاء هاهنا و أما أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين. 

  • قوله تعالى: {اِرْجِعُوا إِلى‌ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ وَ مَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قيل المراد بقوله: {وَ مَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} إنا لم نشهد في شهادتنا هذه: {إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ} إلا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق إلا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق؟ و إنما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أولهما. 

  • و قوله: {وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترق و إنما كنا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق. 

  • و الحق أن المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها و معنى الآية إن ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلا بما علمنا و ما كنا نعلم أنه سرق السقاية و أنه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ} أي و اسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك أدنى ريب في أنا لم نفرط في أمره بل أنه سرق فاسترق. 

  • فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير التي أقبلوا فيها القافلة التي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثم أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم: {وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ} أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلفك السؤال لإزالة الريب من نفسك. 

تفسير الميزان ج۱۱

230
  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٨٣ الی ٩٢]

  • {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ٨٣ وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا أَسَفى‌عَلى‌ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ٨٤ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهَالِكِينَ ٨٥ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨٦ يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ ٨٧ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ ٨٨ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ٨٩ قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ٩٠قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ٩١ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ 

تفسير الميزان ج۱۱

231
  • وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ٩٢} 

  • (بيان) 

  • الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر و إخبارهم إياه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثا إلى مصر و تحسسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرفهم يوسف (عليه السلام) نفسه. 

  • قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} في المقام حذف كثير يدل عليه قوله: {اِرْجِعُوا إِلى‌ أَبِيكُمْ فَقُولُوا} إلى آخر الآيتين و التقدير و لما رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا «إلخ». 

  • و قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيبا لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبرا يحتف بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} رميا بالمظنة بل ليس إلا أنه وجد بفراسة إلهية أن هذه الواقعة ترتبط و تتفرع على تسويل نفساني منهم إجمالا و كذلك كان الأمر فإن الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفساني منهم. 

  • و من هنا يظهر أنه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله: {عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أن ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبني على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمرا. 

  • فالمعنى - و الله أعلم - أن هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في 

تفسير الميزان ج۱۱

232
  • واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعا. 

  • و من هنا يظهر أن قولهم: إن المعنى: ما عندي أن الأمر على ما تصفونه بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن، ليس في محله. 

  • و قوله: {عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} ترج مجرد لرجوعهم جميعا مع ما فيه من الإشارة إلى أن يوسف حي لم يمت على ما يراه و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله: {إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} بل بمثل قولنا: إنه هو السميع العليم أو الرءوف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم. 

  • بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إن واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة التي أخذت مني ابنين آخرين إنما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعا و يتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة، حكيمٌ في فعله يقدر الأمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته. 

  • و الاسمان: العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأول مرة أول رؤياه فقال: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانيا حيث رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا فقال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ} - إلى أن قال - {هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ}

  • قوله تعالى: {وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا أَسَفى‌ عَلى‌ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} قال الراغب في المفردات: الأسف‌ الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكل واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا إلى أن قال و قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي أغضبونا. قال أبو عبد الله‌۱ الرضا: إن الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون فجعل رضاهم رضاه و غضبهم 

    1. كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبو الحسن.

تفسير الميزان ج۱۱

233
  • غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى

  • و قال: الكظم‌ مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم‌ احتباس النفس و يعبر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى: {إِذْ نَادى‌ وَ هُوَ مَكْظُومٌ} و كظم الغيظ حبسه قال تعالى: {وَ اَلْكَاظِمِينَ اَلْغَيْظَ}، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شده بعد ملئه مانعا لنفسه. انتهى. 

  • و قوله: {وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ} ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي: {اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‌ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر. 

  • و معنى الآية: «ثم تولى» و أعرض يعقوب (عليه السلام) {عَنْهُمْ} أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً }{وَ قَالَ يَا أَسَفى‌} و يا حزني {عَلى‌ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} و ذهب بصره {مِنَ اَلْحُزْنِ} على يوسف {فَهُوَ كَظِيمٌ} حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشي‌ء. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهَالِكِينَ} الحرض و الحارض‌ المشرف على الهلاك و قيل: هو الذي لا ميت فينسى و لا حي فيرجي، و المعنى الأول أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنى و لا يجمع لأنه مصدر. 

  • و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنهم إنما قالوه رقة بحاله و رأفة به، و لعلهم إنما تفوهوا به تبرما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصة من جهة أنه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسفه أنه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله: {إِنَّمَا أَشْكُوا} إلخ. 

  • قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال في المجمع: البث‌ الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه، و كل شي‌ء فرقته فقد بثثته و منه قوله: {وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث. 

تفسير الميزان ج۱۱

234
  • و الحصر الذي في قوله: {إِنَّمَا أَشْكُوا} إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أني لست أشكو بثي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقل زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثهم و حزنهم عند المصائب، و إنما أشكو بثي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته. 

  • و في قوله: ‌{وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} إشارة إجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه. 

  • قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ} قال في المجمع: التحسس بالحاء طلب الشي‌ء بالحاسة و التجسس بالجيم نظيره‌ و في الحديث: لا تحسسوا و لا تجسسوا، و قيل إن معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر «متى ادن منه ينأى عنه و يبعد». 

  • و قيل: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير و التجسس في الشر. انتهى. 

  • و قوله: {وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ} الروح‌ بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب و يكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب و هي الراحة و ذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصور اختناقا و كظما للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفسا و روحا لقولهم يفرج الهم و ينفس الكرب فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله و مشيته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيته و لا معقب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام): {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ} و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام): {وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ} الحجر: ٥٦، و قد عد اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة. 

تفسير الميزان ج۱۱

235
  • و معنى الآية - ثم قال يعقوب لبنيه آمرا لهم - {يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ} الذي أخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما {وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ} و الفرج‌ الذي يرزقه الله بعد الشدة {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ} الذين لا يؤمنون بأن الله يقدر أن يكشف كل غمة و ينفس عن كل كربة. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير: فساروا بني يعقوب إلى مصر و لما دخلوا على يوسف قالوا «إلخ». 

  • كانت لهم - على ما يدل عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما. 

  • إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنهم عرفوا بالكذب و سجل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى. 

  • و ثانيتهما: أن يخلي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه. 

  • و لذلك لما حضروا عند يوسف العزيز و كلموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلل و الخضوع و بالغوا في رقة الكلام استرحاما و استعطافا فذكروا أولا ما مسهم و أهلهم من الضر و سوء الحال ثم ذكروا قلة ما أتوا به من البضاعة ثم سألوه إيفاء الكيل، و أما حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدق عليهم و إنما يتصدق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترق مال العزيز ظاهرا ثم حرضوه بقولهم: {إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ} و هو في معنى الدعاء. 

  • فمعنى الآية: {يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ} و أحاط بنا جميعا المضيقة و سوء الحال {وَ جِئْنَا} إليك {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنه نهاية ما في وسعنا {فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا} و كأنهم يريدون به أخاهم أو إياه و الطعام {إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ} خيرا. 

تفسير الميزان ج۱۱

236
  • و قد بدؤوا القول بخطاب {يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ} و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفوا أمام عزيز مصر. 

  • و عند ذلك تمت الكلمة الإلهية أنه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ} و عرفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنه بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلة و المسكنة و هو متك على أريكة العزة. 

  • قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} إنما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أتدري و أرأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} و فيه تلقين عذر. 

  • فقوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ} مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ و مؤاخذة ليعرفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فُتوة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوة. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا} إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أن الشواهد القطعية قامت على تحقق مضمونها و إنما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب. 

  • و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم: {أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} مؤكدا بإن و اللام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله: {أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي} و إنما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال: {قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا}

  • ثم أخبر عن سبب المن الإلهي بحسب ظاهر الأسباب فقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنه يتحقق بالتقوى 

تفسير الميزان ج۱۱

237
  • و الصبر. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضد الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأ و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطإ و تفضيل الله يوسف عليهم. 

  • قوله تعالى: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} التثريب‌ التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنما قيد نفي التثريب باليوم ليدل على مكانة صفحه و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف؛ هو عزيز مصر أوتي النبوة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أول يوم: {لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‌ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}

  • ثم دعا لهم و استغفر بقوله: {يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ} و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الذين ظلموه جميعا و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الآتي: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ} و سيجي‌ء إن شاء الله تعالى. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث: قال: لما فقد يعقوب يوسف (عليه السلام) اشتد حزنه عليه و بكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن و احتاج حاجة شديدة و تغيرت حالته، و كان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين: للشتاء و الصيف، و إنه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت. 

  • فلما دخلوا على يوسف و ذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف و لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزته فقال لهم: هلموا بضاعتكم قبل الرفاق، و قال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل و أوفهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم و لا تعلموهم بذلك ففعلوا ثم قال لهم يوسف: قد بلغني أنه قد كان لكم أخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا: أما 

تفسير الميزان ج۱۱

238
  • الكبير منهما فإن الذئب أكله، و أما الصغير فخلفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق. قال: فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون قالوا: سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون. 

  • فلما رجعوا إلى أبيهم و فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا: يا أبانا ما نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا و كيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل و إنا له لحافظون قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل. 

  • فلما احتاجوا بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب و بعث معهم بضاعة يسيرة و بعث معهم ابن يامين و أخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال: هل معكم ابن يامين؟ قالوا: نعم هو في الرحل قال لهم: فأتوني به و هو في دار الملك قد خلا وحده فأدخلوه عليه فضمه إليه و بكى و قال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني أعمل و اكتم ما أخبرتك به و لا تحزن و لا تخف. 

  • ثم أخرجه إليهم و أمر فتيانه أن يأخذوا بضاعتهم و يعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك و ارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف و فتيته فنادوا فيهم قال: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا و أقبلوا عليهم: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه. 

  • قال: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فقال لهم يوسف: ارتحلوا عن بلادنا. قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا و قد أخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين إن فعلت، قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم: إني لست أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي. 

  • و مضى إخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم: فأين ابن يامين؟ قالوا: ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية و العير حتى يخبروك بذلك فاسترجع و استعبر و اشتد حزنه حتى تقوس ظهره. 

تفسير الميزان ج۱۱

239
  • و فيه عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: صواع الملك الطاس الذي يشرب فيه. 

  • أقول: و في بعض الروايات أنه كان قدحا من ذهب و كان يكتال به يوسف (عليه السلام). 

  • و فيه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في نسخة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له و أنا عنده إن سالم بن حفصة روى عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج. قال: ما يريد سالم مني؟ أ يريد أن أجي‌ء بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيون، و لقد قال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} و و الله ما كان سقيما و ما كذب، و لقد قال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} و ما فعله كبيرهم و ما كذب، و لقد قال يوسف: {أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } و الله ما كانوا سرقوا و ما كذب. 

  • و فيه عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله في يوسف: {أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنه قال لهم حين قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنما عنى أنكم سرقتم يوسف من أبيه. 

  • و في الكافي بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف {أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} فقال: و الله ما سرقوا و ما كذب، و قال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فقال: و الله ما فعل و ما كذب. 

  • قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم. قال: فقال: إن الله أحب اثنين و أبغض اثنين أحب الخطو فيما بين الصفين و أحب الكذب في الإصلاح، و أبغض الخطو في الطرقات و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إن إبراهيم إنما قال: بل فعله كبيرهم إرادة الإصلاح و دلالة على أنهم لا يفعلون، و قال يوسف إرادة الإصلاح. 

  • أقول: قوله (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة أنه أراد به سرقهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريدا به معنى صحيحا في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب، و الدليل على ذلك قوله 

تفسير الميزان ج۱۱

240
  • (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح و دل على أنهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين و للفظ بحسب أحدهما - و هو الثاني - مطابق دون الآخر فافهمه و ارجع إلى ما قدمناه في البيان. 

  • و في معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة أخبار أخر مروية في الكافي، و المعاني، و تفسيري العياشي، و القمي. 

  • و في تفسير العياشي، عن إسماعيل بن همام قال: قال الرضا (عليه السلام) في قول الله تعالى: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} قال: كان لإسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمة يوسف، و كان يوسف عندها و كانت تحبه فبعث إليه أبوه أن ابعثه إلي و أرده إليك فبعثت إليه أن دعه عندي الليلة لأشمه ثم أرسله إليك غدوة فلما أصبحت أخذت المنطقة فربطها في حقوه و ألبسته قميصا فبعثت به إليه و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فأخذته فكان عندها. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} قال: سرق يوسف (عليه السلام) صنما لجده أبي أمه من ذهب و فضة فكسره و ألقاه في الطريق فعيره بذلك إخوته. 

  • أقول: و الرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد، و قد رويت بطرق أخرى عن الأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و يؤيدها ما روي بغير واحد من طرق أهل البيت و طرق غيرهم: أن السجان قال ليوسف: إني لأحبك فقال: لا تحبني فإن عمتي أحبتني فنسبت إلي السرقة و أبي أحبني فحسدني إخوتي و ألقوني في الجب، و امرأة العزيز أحبتني فألقوني في السجن.

  • و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} قال: كان يوسف يوسع المجلس و يستقرض المحتاج و يعين الضعيف. 

  • و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من 

تفسير الميزان ج۱۱

241
  • الناس إن إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة، فلما رآه الراهب حسبه إبراهيم - فوثب إليه فاعتنقه ثم قال: مرحبا بخليل الرحمن فقال له يعقوب: لست بخليل الرحمن و لكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال له الراهب: فما الذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال: الهم و الحزن و السقم. 

  • قال: فما جاز عتبة الباب حتى أوحى الله إليه: يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجدا عند عتبة الباب يقول: رب لا أعود فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئا مما أصابه من نوائب الدنيا إلا أنه قال يوما: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}

  • و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من بث لم يصبر ثم قرأ: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ}

  • أقول: و رواه أيضا عن ابن عدي و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في الكافي، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول يعقوب لبنيه: {اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ} إنه كان يعلم أنه حي و قد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. قلت: كيف علم؟ قال: إنه دعا في السحَر و قد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال و هو ملك الموت فقال له تربال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال: بل أقبضها متفرقة روحا روحا. قال: فمر بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده: {اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ}

  • أقول: و رواه في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام) و فيه: قال (يعني يعقوب لملك الموت): أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال: يقبضها أعواني متفرقة و تعرض علي مجتمعة قال: فأسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي. 

  • و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره و ابن أبي الدنيا في كتاب 

تفسير الميزان ج۱۱

242
  • الفرج بعد الشدة و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و فيه: أتى جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام و يقول لك: أبشر و ليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء و المساكين. و تدري لم أذهبت بصرك و قوست ظهرك و صنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين و هو صائم فلم تطعموه منه شيئا. 

  • فكان يعقوب (عليه السلام) إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب و إذا كان صائما أمر مناديا فنادى ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} (الآية) ورد في الخبر: أن الله سبحانه قال: فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي.

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ٩٣ الی ١٠٢] 

  • {اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‌ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ٩٣ وَ لَمَّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ ٩٤ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ ٩٥ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى‌ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٩٦ قَالُوا يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ٩٧ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ٩٨ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى‌ يُوسُفَ آوى‌ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ 

تفسير الميزان ج۱۱

243
  • إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ ٩٩ وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ١٠٠رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ١٠١ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ ١٠٢} 

  • (بيان) 

  • ختام قصة يوسف (عليه السلام) و تتضمن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه و إتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر و لقاؤه أبويه. 

  • قوله تعالى: {اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‌ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} تتمة كلام يوسف (عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه و يأتي بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن و البكاء ضريرا لا يبصر. 

تفسير الميزان ج۱۱

244
  • و هذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف (عليه السلام) على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسبابَ، فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجري إليها؛ حسده إخوته فاستذلوه و غربوه عن مستقره بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم أقره في أريكة عزة تضرع إليه أمامها إخوته بقولهم {يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ}

  • ثم أحبته امرأة العزيز و نسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله و جعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته و كمال عفته، ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزته و ملكه. 

  • و جاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فأخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه و بكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه و ذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه و بالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه و أراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله دون الذي توجهت إليه الأسباب و الله غالب على أمره. 

  • و قوله: {وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب و أهله و بنيه و ذراريه جميعا من البدو إلى مصر و نزولهم بها. 

  • قوله تعالى: {وَ لَمَّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} الفصل‌ القطع و الانقطاع و التفنيد تفعيل من الفند بفتحتين و هو ضعف الرأي، و المعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر و انقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لولا أن ترموني بضعف الرأي أي إني لأحس بريحه و أرى أن اللقاء قريب و من حقه أن تذعنوا بما أجده لولا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ} القديم‌ مقابل الجديد و المراد به المتقدم وجودا، و هذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، و هو من سي‌ء حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} و في ختمها و هو قولهم هذا: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ}

  • و الظاهر أن مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك و هو المبالغة في حب 

تفسير الميزان ج۱۱

245
  • يوسف و ذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف و هم عصبة، إليهم تدبير بيته و الدفاع عنه، لكن أباهم قد ضل عن مستوي طريق الحكمة و قدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فأقبل بكله إليهما و نسيهم، ثم لما فقد يوسف جزع له و لم يزل يجزع و يبكي حتى ذهبت عيناه و تقوس ظهره. 

  • فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين: 

  • أما أولا: فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام). 

  • و أما ثانيا: فلأن المقام هاهنا و كذا في بدء القصة حين قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه، و إنما يمس أمرا عمليا حيويا و هو حب أب لبعض أولاده و تقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعني بالضلال. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى‌ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البشير حامل البشارة و كان حامل القميص و قوله {أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ} يشير (عليه السلام) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم: {يَا أَبَانَا} و يريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف و أخيه، و أما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل. 

  • قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ} أخر (عليه السلام) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} و لعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف و تطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم، و في بعض الأخبار: أنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء و سيجي‌ء إن شاء الله. 

  • قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى‌ يُوسُفَ آوى‌ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} في الكلام حذف و التقدير فخرج يعقوب و آله من أرضهم و ساروا إلى مصر 

تفسير الميزان ج۱۱

246
  • و لما دخلوا إلخ. 

  • و قوله: {آوى‌ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} فسروه بضمهما إليه، و قوله: {وَ قَالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ} إلخ. ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما و ضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر إكراما و تأدبا و قد أبدع (عليه السلام) في قوله: {إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} حيث أعطاهم الأمن و أصدر لهم حكمه على سنة الملوك و قيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على أن المشية الإنسانية لا تؤثر أثرها كسائر الأسباب إلا إذا وافقت المشية الإلهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص، و ظاهر هذا السياق أنه لم يكن لهم الدخول و الاستقرار في مصر إلا بجواز من ناحية الملك، و لذا أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر. 

  • و قد ذكر سبحانه {أَبَوَيْهِ} و المفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه و أمه حقيقة أو أنهما يعقوب و زوجه؛ خالة يوسف بالبناء على أن أمه ماتت و هو صغير، و لا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان. 

  • و معنى الآية {فَلَمَّا دَخَلُوا} أي أبواه و إخوته و أهلهم {عَلى‌ يُوسُفَ} و ذلك في خارج مصر {آوى‌} و ضم {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ} لهم مؤمنا لهم {اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ}

  • قوله تعالى: {وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ} إلى آخر الآية، العرش‌ هو السرير العالي و يكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك و يختص به، و الخرور السقوط على الأرض و البدو البادية فإن يعقوب كان يسكن البادية. 

  • و قوله: {وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ} أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه و مقتضى الاعتبار و ظاهر السياق أنهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله: {وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً} فإن الظاهر أن السجدة إنما وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت و اطمأن بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهي المتلألئ من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خروا له سجدا. 

  • و قوله: {وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً} الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له، و قول بعضهم: إن الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ، و قد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم و الملائكة قال تعالى: 

تفسير الميزان ج۱۱

247
  • {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} طه: ١١٦. 

  • و الدليل على أنها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أن بين هؤلاء الساجدين يعقوب (عليه السلام) و هو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلَصا – بالفتح - لله لا يشرك به شيئا، و يوسف (عليه السلام) و هو المسجود له منهم بنص القرآن و هو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شي‌ء و لم يردعهم. 

  • فليس إلا أنهم إنما أخذوا يوسف آيةً لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم و عبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلى إليها فيعبد بها الله دون الكعبة، و من المعلوم أن الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها إلا الله سبحانه و تعالى، و قد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من أجزاء الكتاب. 

  • و من هنا يظهر أن ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم: إن تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنها في الإسلام السلام، و قول بعضهم: إن سنة العظيم كانت إذ ذاك السجدة و لم ينه عنها لغير الله بعد كما في الإسلام، و قول بعضهم: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه. 

  • قوله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} إلى آخر الآية، لما شاهد (عليه السلام) سجدة أبويه و إخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و أخبر بها أباه و هو صغير فأولها له، فأشار إلى سجودهم له و قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا } أي الرؤيا {رَبِّي حَقًّا}

  • ثم أثنى على ربه شاكرا له فقال: {وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ} فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن و هو ضراء و بلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء و نعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة و الملك. 

  • و لم يذكر إخراجه من الجب قبل ذلك لحضور إخوته عنده و كان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما و فتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه من غير أن يتضمن طعنا فيهم و شنآنا فقال: {وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي} و النزغ‌ هو الدخول في أمر لإفساده. 

تفسير الميزان ج۱۱

248
  • و المراد: و قد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني و بين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني و بينكم، فساقني ربي إلى مصر فأقرني في أرغد عيش و أرفع عزة و ملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية و الحضارة. 

  • يعني أنه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني و بين إخوتي و مما أخصه بالذكر من بينها فراق بيني و بينكم ثم رزية السجن فأحسن بي ربي و دفعها عني واحدة بعد أخرى و لم يكن من المحن و الحوادث العادية بل رزايا صماء و عقودا لا تنحل لكن ربي نفذ فيها بلطفه و نفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة و نعمة بعد ما كانت أسباب هلاك و شقاء و لهذه الثلاثة الأخيرة عقب قوله: {وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي} إلخ، بقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}

  • فقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} تعليل لإخراجه من السجن و مجيئهم من البدو، و يشير به إلى ما خصه الله به من العناية و المنة و أن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها، لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء و راحة و أسباب الذلة و الرِقّية وسائل عزة و ملك. 

  • و اللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره و إحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه و الإحاطة به من باطن الأشياء و هو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة و العلم قال تعالى: {أَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ} الملك: ١٤ و الأصل في معناه الصغر و الدقة و النفوذ يقال: لطُف الشي‌ء بالضم يلطُف لطافة إذا صغر و دق حتى نفذ في المجاري و الثقب الصغار، و يكنى به عن الإرفاق و الملاءمة و الاسم اللطف. 

  • و قوله: {هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} تعليل لجميع ما تقدم من قوله: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} إلخ، و قد علل (عليه السلام) الكلام و ختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه و قال: {وَ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } إلى أن قال { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} و ليس يبعد أن يفيد اللام في قوله: {اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ} معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه (عليه السلام) و المعنى: و هو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي يوم أولت رؤياي. 

  • قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ} إلى آخر 

تفسير الميزان ج۱۱

249
  • (الآية) لما أثنى (عليه السلام) على ربه و عدّ ما دفع عنه من الشدائد و النوائب أراد أن يذكر ما خصه به من النعم المثبتة و قد هاجت به المحبة الإلهية و انقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه و انصرف عنه و عن غيره ملتفتا إلى ربه و خاطب ربه عز اسمه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ}

  • و قوله: {فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} إضراب و ترق في الثناء، و رجوع منه (عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجلية كإخراجه من السجن و المجي‌ء بأهله من البدو و إيتائه من الملك و تعليمه من تأويل الأحاديث فإن الله سبحانه رب فيما دق و جل معا، ولي في الدنيا و الآخرة جميعا. 

  • و ولايته تعالى - أعني كونه قائما [على] كل شي‌ء في ذاته و صفاته و أفعاله - منشؤها إيجاده تعالى إياها جميعا و إظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات و الأرض و لذا يتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه و المخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى لذاته و إيجاده لغيره قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ } إبراهيم: ١٠. 

  • و لذا بدأ به يوسف (عليه السلام) و هو من المخلصين في ذكر ولايته فقال: {فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ} أي إني تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي و استقلال في ذاتي و صفاتي و أفعالي أو أملك لنفسي شيئا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور. 

  • و قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} لما استغرق (عليه السلام) في مقام الذلة قبال رب العزة و شهد بولايته له في الدنيا و الآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا و الآخرة و هو الإسلام ما دام حيا في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا و لا يظهر منه ما يكرهه و لا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية و أن يكون صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد و اختياره، و هو سؤاله (عليه السلام) الإسلام في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة و هو الذي منحه الله سبحانه لجده إبراهيم (عليه السلام): {وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ 

تفسير الميزان ج۱۱

250
  • إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ} البقرة: ١٣١. 

  • و هذا الإسلام الذي سأله (عليه السلام) أقصى درجات الإسلام و أعلى مراتبه، و هو التسليم المحض لله سبحانه، و هو أن لا يرى العبد لنفسه و لا لآثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى لا يشغله شي‌ء من نفسه و لا صفاتها و لا أعمالها من ربه، و إذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه. 

  • و مما تقدم يظهر أن قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} سؤال منه لبقاء الإخلاص و استمرار الإسلام ما دام حيا و بعبارة أخرى أن يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإسلام حتى يموت، و ليس يراد به أن يموت في حال الإسلام و لو لم يكن قبل ذلك مسلما، و لا سؤالا للموت و هو مسلم حتى يكون المعنى أني مسلم فتوفني. 

  • و يتبين بذلك فساد ما روي عن عدة من قدماء المفسرين أن قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم: لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله و لا تمناه إلا يوسف (عليه السلام). 

  • قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ} الإشارة إلى نبإ يوسف (عليه السلام)، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ضمير الجمع لإخوة يوسف و الإجماع العزم و الإرادة. 

  • و قوله: {وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} إلخ، حال من ضمير الخطاب من {إِلَيْكَ} و قوله: {نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ} إلى آخر الآية بيان لقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ} و المعنى أن نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنا نوحيه إليك و الحال أنك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم و هم يمكرون في أمر يوسف. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ }{اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} الذي 

تفسير الميزان ج۱۱

251
  • بلته دموع عيني {فَأَلْقُوهُ عَلى‌ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} لو قد نشر ريحي {وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} و ردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون. 

  • قال: و أقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا و سرورا بما رأوا من حال يوسف و الملك الذي آتاه الله و العز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف، و كان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام - فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا، و قال لهم: ما فعل ابن يامين؟ قالوا: خلفناه عند أخيه صالحا. 

  • قال: فحمد الله يعقوب عند ذلك، و سجد لربه سجدة الشكر و رجع إليه بصره و تقوم له ظهره، و قال لولده: تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف و معهم يعقوب و خالة يوسف «ياميل» فأحثوا السير فرحا و سرورا فساروا تسعة أيام إلى مصر. 

  • أقول: كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر و هي أم بنيامين خالة يوسف لا أمه الحقيقية وقعت في عدة الروايات و ظاهر الكتاب و بعض الروايات أنها كانت أم يوسف و أنه و بنيامين كانا أخوين لأم و إن لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات. 

  • و في المجمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {وَ لَمَّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال: وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر و هو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.

  •  أقول: و قد ورد في عدة روايات من طرق العامة و الخاصة أن القميص الذي أرسله يوسف إلى يعقوب (عليه السلام) كان نازلا من الجنة، و أنه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين ألقي في النار فألبسه إياه فكانت عليه بردا و سلاما ثم أورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة و علقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب، و هذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الأسناد. 

  • و مثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف و هو يحسبه 

تفسير الميزان ج۱۱

252
  • عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم. و قد تقدم في الجزء السابق من الكتاب أن الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق. 

  • و في تفسير العياشي، عن نشيط بن ناصح البجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أ كان إخوة يوسف أنبياء؟ قال: لا و لا بررة أتقياء و كيف؟ و هم يقولون لأبيهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ}.

  •  أقول: و في الروايات من طرق أهل السنة و في بعض الضعاف من روايات الشيعة أنهم كانوا أنبياء، و هذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب و السنة و العقل من عصمة الأنبياء (عليه السلام)، و ما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى: {وَ أَوْحَيْنَا إِلى‌ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ} النساء: ١٦٣ غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف، و الأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذين ينتهي نسبهم إلى يعقوب (عليه السلام) قال تعالى: {وَ قَطَّعْنَاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} الأعراف: ١٦٠. 

  • و في الفقيه، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول يعقوب لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قال: أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة. 

  • أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر.

  • و في الدر المنثور، عن ابن جرير و أبي الشيخ عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قول أخي يعقوب لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} يقول: حتى يأتي ليلة الجمعة.

  • و في الكافي، بإسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار، و تلا هذه الآية في قول يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} أخرهم إلى السحر. 

  • أقول: و روي نظيره في الدر المنثور، عن أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب. 

تفسير الميزان ج۱۱

253
  • و قد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير و لقد أقبل يوسف (عليه السلام) على إخوته حين عرفوه بالفتوة و الكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم و لازم ذلك أن يعفو عنهم و يستغفر لهم بلا مهل و لم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بإلقاء القميص عليه ذاك الموقف. 

  • و في تفسير القمي، حدثني محمد بن عيسى: أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن، و كان أحدها: أخبرني عن قول الله: {وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أ سجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟. 

  • فأجاب أبو الحسن (عليه السلام): أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف و إنما كان ذلك من يعقوب و ولده طاعة لله و تحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم و لم يكن لآدم و إنما كان ذلك منهم طاعة لله و تحية لآدم فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. الحديث. 

  • أقول: و قد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات، و ظاهر الحديث أن يوسف أيضا سجد معهم كما سجدوا و قد استدل عليه بقول يوسف في شكره: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ }«إلخ» و في دلالته على ذلك إبهام. 

  • و قد روى الحديث العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا (عليه السلام): قال لأخيه: إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني عن قول الله: {وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أ سجد يعقوب و ولده ليوسف؟. 

  • قال: فسألت أخي عن ذلك فقال: أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فشكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ} (الآية).

  • و ما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية و أسلم من الإشكال مما رواه القمي. 

  • و في تفسير العياشي، عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) في 

تفسير الميزان ج۱۱

254
  •  قول الله: {وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ} قال: العرش السرير، و في قوله: {وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً} قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله. 

  • و فيه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فسار تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله و بكى، و رفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله فادهن و اكتحل و لبس ثياب العز و الملك ثم رجع إليهم و في نسخة ثم خرج إليهم فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما و شكرا لله فعند ذلك قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ } - إلى قوله - { بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي}

  • قال: و لم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن و لا يكتحل و لا يتطيب و لا يضحك و لا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله، و جمع بينه و بين يعقوب و إخوته». 

  • و في الكافي، بإسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن (عليه السلام) عنه قال: قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يخشع. فقال: أ ما علمت أن يوسف نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه و إنما احتاجوا إلى قسطه. و إنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق، و إذا وعد أنجز، و إذا حكم عدل لأن الله لا يحرم طعاما و لا شرابا من حلال و حرم الحرام قل أو كثر و قد قال الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ}

  • و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله، و أراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجة و كان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة. 

  • أقول: و الروايات في قصته (عليه السلام) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن و ضعف في السند. 

  • و مما ورد في بعضها أن الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي و هو 

تفسير الميزان ج۱۱

255
  • الذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال: {لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ} (الآية) و هو القائل لإخوته حين أخذ يوسف أخاه باتهام السرقة: {فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ} فشكر الله له ذلك. 

  • و مما ورد في عدة منها أن يوسف (عليه السلام) تزوج بامرأة العزيز و هي التي راودته عن نفسه، و ذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة، و لا يبعد أن يكون ذلك شكرا منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} لو صح الحديث. 

  • (كلام في قصة يوسف في فصول) 

  • ١ - قصته في القرآن

  • هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر و أصغر إخوته غير أخيه بنيامين، أراد الله سبحانه أن يتم عليه نعمته بالعلم و الحكم و العزة و الملك و يرفع به قدر آل يعقوب، فبشره و هو صغير برؤيا رآها كأن أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدة له، فذكر ذلك لأبيه فوصاه أبوه أن لا يقص رؤياه على إخوته فيحسدوه، ثم أول رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم و إسحاق. 

  • كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه، و لا يزال تنزع نفسه إلى حب ربه و التوله إليه على ما به من علو النفس و صفاء الروح و الخصائص الحميدة، و كان ذا جمال بديع يبهر العقول و يدهش الألباب. 

  • و كان يعقوب يحبه حبا شديدا لما يشاهد فيه من الجمال البديع و يتفرس فيه من صفاء السريرة، و لا يفارقه و لا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار و اشتد حسدهم له حتى اجتمعوا و تآمروا في أمره، فمن مشير على قتله، و من قائل: اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين، ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم و هو أن يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة و عقدوا على ذلك. 

تفسير الميزان ج۱۱

256
  • فلقوا أباهم و كلموه أن يرسل يوسف معهم غدا يرتع و يلعب و هم له حافظون فلم يرض به يعقوب و اعتذر أنه يخاف أن يأكله الذئب، فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه و أخذوه منه و ذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبر فألقوه في جب هناك و قد نزعوا قميصه. 

  • ثم جاءوا بقميصه ملطخا بدم كذب إلى أبيهم و هم يبكون، فأخبروه أنهم ذهبوا اليوم للاستباق و تركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بدمه. 

  • فبكى يعقوب و قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‌ مَا تَصِفُونَ}، و لم يقل ذلك إلا بتفرس إلهي ألقي في روعه، و لم يزل يعقوب يذكر يوسف و يبكي عليه و لا يتسلى عنه بشي‌ء حتى ابيضت عيناه من الحزن و هو كظيم. 

  • و مضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به، فدنى منهم بنو يعقوب و ادعوا أنه عبد لهم ثم ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة. 

  • و سارت به السيارة إلى مصر و عرضوه للبيع، فاشتراه عزيز مصر و أدخله بيته و قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و ذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال و صفاء الروح على ما له من الجمال البديع، فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة و أهنإ عيش، و هذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف و عزيز ولايته له حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة إلى إماتة ذكره و تحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه؛ أما إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط، و أما مزية الحياة فإن الله سبحانه بدّل له بيت الشعر و عيشة البدوية قصرا ملكيا و حياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه و يضعوه، و على ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث. 

  • و عاش يوسف في بيت العزيز في أهنأ عيش حتى كبر و بلغ أشده و لم يزل تزكو نفسه و يصفو قلبه و يشتغل بربه حتى توله في حبه و أخلص له فصار لا همّ له إلا فيه، فاجتباه الله و أخلصه لنفسه و آتاه حكما و علما و كذلك يفعل بالمحسنين. 

  • و عشقته امرأة العزيز و شغفها حبه حتى راودته عن نفسه و غلقت الأبواب و دعته 

تفسير الميزان ج۱۱

257
  • إلى نفسها و: {قَالَتْ هَيْتَ لَك}، فامتنع يوسف و اعتصم بعصمة إلهية و {قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ}، و استبقا الباب و اجتذبته و قدّت قميصه من خلف و ألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءًا، و أنكر يوسف ذلك غير أن العناية الإلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله. 

  • ثم ابتلي بحب نساء مصر و مراودتهن و شاع أمر امرأة العزيز حتى آل الأمر إلى دخوله السجن، و قد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد، و العزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامة بيته و تشوه جميل ذكره. 

  • فدخل يوسف السجن، و دخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنه رأى في منامه أنه يعصر خمرا و الآخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، و سألاه أن يؤوّل منامهما فأوّل رؤيا الأول أنه سيخرج فيصير ساقيا للملك، و رؤيا الثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال: و قال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما: {اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}

  • و بعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملئه و قال: {إِنِّي أَرى‌ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}، و عند ذلك ادكر الساقي يوسف و تعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك و استأذنه أن يراجع السجن و يستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك و أرسله إليه. 

  • و لما جاءه و استفتاه في أمر الرؤيا و ذكر أن الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ}

  • فلما سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك و أمر بإطلاقه و إحضاره و لما جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج و الحضور إلا أن يحقق الملك ما جرى بينه و بين 

تفسير الميزان ج۱۱

258
  • النسوة و يحكم بينه و بينهن و لما أحضرهن و كلمهن في أمره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، و قالت امرأة العزيز: {اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ} فاستعظم الملك أمره في علمه و حكمه و استقامته و أمانته فأمر بإطلاقه و إحضاره معززا و قال: {اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا} حضر و {كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} و قد محصت أحسن التمحيص و اختبرت أدق الاختبار. 

  • قال يوسف: {اِجْعَلْنِي عَلى‌ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ} أرض مصر {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} حتى أهيئ الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجري على الناس لإنجائهم مما يهددهم من السنين السبع المجدبة، فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر و أمر بإجادة الزرع و إكثاره و جمع الطعام و الميرة و حفظه في المخازن بالحزم و التدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق و قسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة، و في هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزة مصر، و استولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به إلى أريكة العزة و الملك بإذن الله، و قد كانوا تسببوا به إلى إخماد ذكره، و إنسائه من قلوب الناس، و إخفائه من أعينهم. 

  • و في بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم و هم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم و عن أنفسهم فذكروا له أنهم أبناء يعقوب و أنهم أحد عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به و لا يدعه يفارقه قط، فأظهر يوسف أنه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانيا للامتيار، و زاد في إكرامهم و إيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك، و أمر فتيانه أن يدسوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون. 

  • و لما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم و بين عزيز مصر و أنه منع منهم الكيل إلا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم و ذكروا له ذلك و أصروا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر و هو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم. 

تفسير الميزان ج۱۱

259
  • ثم تجهزوا ثانيا و سافروا إلى مصر و معهم بنيامين و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه و عرفه نفسه و قال: إني أنا أخوك و أخبره أنه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهد من الكيد. 

  • {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} كذلك نجزي السارق فيما بيننا {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ثم أمر بالقبض عليه و استرقه بذلك. 

  • فراجعه إخوته في إطلاقه حتى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أن كبيرهم قال لهم: {أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ} فبقي بمصر و ساروا. 

  • فلما رجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} ثم تولى عنهم {وَ قَالَ يَا أَسَفى‌ عَلى‌ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} فلما لاموه على حزنه الطويل و وجده ليوسف قال: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ثم قال لهم: {يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ} فإني أرجو أن تظفروا بهما. 

  • فسار نفر منهم إلى مصر و استأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه و استرحموه في أنفسهم و أهلهم و أخيهم الذي استرقه قائلين: {يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ} بالجدب و السنة {وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا} بأخينا الذي تملكته بالاسترقاق  {إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ}

  • و عند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزنّ يوسف بالرغم من استذلالهم له و ليرفعنّ قدره و قدر أخيه و ليضعنّ الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرّفهم نفسه و قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا 

تفسير الميزان ج۱۱

260
  • يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فاعترفوا بذنبهم و شهدوا أن الأمر إلى الله يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء و أن العاقبة للمتقين و أن الله مع الصابرين، فقابلهم يوسف بالعفو و الاستغفار و قال: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ} و قربهم إليه و زاد في إكرامهم. 

  • ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم و يذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرًا، فتجهزوا للسير و لما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال من عنده من بنيه: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ}، و لما جاءه البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به و هو القميص قال يعقوب لبنيه: {أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُوا: يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ}

  • ثم تجهزوا للمسير إلى يوسف و استقبلهم يوسف و ضم إليه أبويه و أعطاهم الأمن و أدخلهم دار الملك و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا يعقوب و امرأته و أحد عشر من ولده، {قَالَ} يوسف {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} ثم شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه و إيتائه الملك و العلم. 

  • و بقي آل يعقوب بمصر، و كان أهل مصر يحبون يوسف حباً شديداً لفضل نعمته عليهم و حسن بلائه فيهم، و كان يدعوهم إلى دين التوحيد و ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السلام (كما ورد في قصة السجن و في سورة المؤمن). 

  • ٢ - ما أثنى الله عليه و منزلته المعنوية 

  • كان (عليه السلام) من المخلصين و كان صديقا و كان من المحسنين، و قد آتاه الله حكما و علما و علمه من تأويل الأحاديث و قد اجتباه الله و أتم نعمته عليه و ألحقه بالصالحين (سورة يوسف) و أثنى عليه بما أثنى على آل نوح و إبراهيم (عليهما السلام) من الأنبياء و قد ذكره فيهم (سورة الأنعام). 

  • ٣ - قصته في التوراة الحاضرة

  • قالت التوراة: و كان۱ بنو يعقوب اثني 

    1. الإصحاح ٣٥ من سفر التكوين. تذكر التوراة أن ليئة و راحيل امرأتي يعقوب بنتا لابان الأرامي و أن راحيل أم يوسف ماتت حين وضعت بنيامين. 

تفسير الميزان ج۱۱

261
  • عشر: بنو ليئة رأوبين بِكر يعقوب و شمعون و لاوي و يهودا و يساكر و زنولون، و ابنا راحيل يوسف، و بنيامين، و ابنا بلهة جارية راحيل دان، و نفتالي، و ابنا زلفة جارية ليئة جاد، و أشير. هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام. 

  • قالت [التوراة]۱: يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم و هو غلام عند بني بلهة و بني زلفة امرأتي أبيه، و أتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم، و أما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه و لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام. 

  • و حلم يوسف حلما فأخبر إخوته فازدادوا أيضا بغضا له فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت: فها نحن حازمون حزما في الحفل و إذا حزمتي قامت و انتصبت فاحتاطت حزمكم و سجدت لحزمتي. فقال له إخوته أ لعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا، و ازدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه و من أجل كلامه. 

  • ثم حلم أيضا حلما آخر و قصه على إخوته فقال: إني قد حلمت حلما أيضا و إذا الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي، و قصه على أبيه و على إخوته فانتهره أبوه و قال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي أنا و أمك و إخوتك لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته و أما أبوه فحفظ الأمر. 

  • و مضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف: أ ليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم، فقال له: ها أنا ذا فقال له: اذهب انظر سلامة إخوتك و سلامة الغنم و رد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل و إذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلا: ماذا تطلب؟ فقال: أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل: قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان. 

  • فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هو 

    1. الإصحاح ٣٧ من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۱

262
  • ذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله و نطرحه في إحدى هذه الآبار و نقول: وحش ردي أكله فنرى ما ذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين و أنقذه من أيديهم و قال: لا نقتله و قال لهم رأوبين: لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية و لا تمدوا إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه و أخذوه و طرحوه في البئر و أما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء. 

  • ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم و نظروا و إذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، و جمالهم حاملة كتيراء و بلسانا و لادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا و نخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين و لا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا و لحمنا فسمع له إخوته. 

  • و اجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف و أصعدوه من البئر و باعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر، و رجع رأوبين إلى البئر و إذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته و قال: الولد ليس موجودا، و أنا إلى أين أذهب؟ 

  • فأخذوا قميص يوسف و ذبحوا تيسا من المعزى و غمسوا القميص في الدم، و أرسلوا القميص الملون و أحضروه إلى أبيهم و قالوا: وجدنا هذا، حقق أ قميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه و قال: قميص ابني وحش ردي أكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه و ناح على ابنه أياما كثيرة فقام جميع بنيه و جميع بناته ليعزوه فأبى أن يتعزى و قال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية و بكى عليه أبوه. 

  • قالت‌۱ التوراة: و أما يوسف فأنزل إلى مصر و اشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك، و كان الرب مع يوسف فكان رجلا ناجحا و كان في بيت سيده المصري. 

  • و رأى سيده أن الرب معه، و أن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده فوجد يوسف 

    1. الإصحاح ٣٩ من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۱

263
  • نعمة في عينيه و خدمه فوكله إلى بيته و دفع إلى يده كل ما كان له، و كان من حين وكله على بيته و على كل ما كان له أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، و كانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت و في الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف و لم يكن معه يعرف شيئا إلا الخبز الذي يأكل، و كان يوسف حسن الصورة و حسن المنظر. 

  • و حدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف و قالت: اضطجع معي فأبى و قال لامرأة سيده: هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت و كل ماله قد دفعه إلي ليس هو في هذا البيت، و لم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم؟ و أخطئ إلى الله؟ و كان إذ كلمت يوسف يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها. 

  • ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله و لم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي فترك ثوبه في يدها و هرب و خرج إلى خارج، و كان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها و هرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها و كلمتهم قائلة: انظروا! قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا. دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم، و كان لما سمع أني رفعت صوتي و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب و خرج إلى خارج. 

  • فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني و كان لما رفعت صوتي و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب إلى خارج. 

  • فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمي فأخذ يوسف سيده و وضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، و كان هناك في بيت السجن. 

  • و لكن الرب كان مع يوسف و بسط إليه لطفا و جعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن، و كل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، و لم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده لأن الرب كان معه، و مهما صنع كان الرب ينجحه. 

تفسير الميزان ج۱۱

264
  • ثم‌۱ ساقت التوراة قصة صاحبي السجن و رؤياهما و رؤيا فرعون مصر و ملخصه أنهما كانا رئيس سقاة فرعون و رئيس الخبازين أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف فرأى رئيس السقاة في منامه أنه يعصر خمرا، و الآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول برجوعه إلى سقي فرعون شغله السابق، و الثاني بصلبه و أكل الطير من لحمه، و سأل الساقي أن يذكره عند فرعون لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك. 

  • ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر و سبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطئ فأكلت المهازيلُ السمان فاستيقظ فرعون ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة و سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك و جمع سحرة مصر و حكماءها و قص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره. 

  • و عند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسفَ فذكره لفرعون و ذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام فأمر فرعون بإحضاره فلما أدخل عليه كلمه و استفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد أخرى فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد قد أخبر الله فرعون بما هو صانع: البقرات السبع الحسنة في سبع سنين وسنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، و البقرات السبع الرقيقة القبيحة التي طلعت وراءها هي سبع سنين و السنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية يكون سبع سنين جوعا. 

  • هو الأمر الذي كلمت به فرعون قد أظهر الله لفرعون و ما هو صانع، هو ذا سبع سنين قادمة شبعاً عظيما في كل أرض مصر ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا فينسى كل السبع في أرض مصر و يتلف الجوع الأرض، و لا يعرف السبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده لأنه يكون شديدا جدا، و أما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين فلأن الأمر مقرر من عند الله و الله مسرع لصنعه. 

  • فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا و حكيما و يجعله على أرض مصر يفعل فرعون 

    1. الإصحاح ٤١ من سفر التكوين.

تفسير الميزان ج۱۱

265
  • فيوكل نظارا على الأرض و يأخذ خمس غلة أرض مصر في سبع سني الشبع فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة - و يخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن و يحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر فلا تنقرض الأرض بالجوع. 

  • قالت التوراة ما ملخصه أن فرعون استحسن كلام يوسف و تعبيره و أكرمه و أعطاه إمارة المملكة في جميع شئونها - و خلع عليه بخاتمه و ألبسه ثياب بوص و وضع طوق ذهب في عنقه و أركبه في مركبته الخاصة و نودي أمامه: أن اركعوا، و أخذ يوسف يدبر الأمور في سني الخصب ثم في سني الجدب أحسن إدارة. 

  • ثم‌۱ قالت التوراة ما ملخصه أنه لما عمت السنة أرض كنعان أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاما فساروا و دخلوا على يوسف فعرفهم و تنكر لهم و كلمهم بجفاء و سألهم من أين جئتم؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما قال يوسف: بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها قالوا: نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان - كنا اثني عشر أخا فقد منا واحد و بقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا، و الباقون بحضرتك و نحن جميعا أمناء لا نعرف الفساد و الشر. 

  • قال يوسف: لا و حياة فرعون نحن نراكم جواسيس و لا نخلي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصغير حتى نصدقكم فيما تدعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيام ثم أحضرهم و أخذ من بينهم شمعون و قيده أمام عيونهم و أذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان و يجيئوا بأخيهم الصغير. 

  • ثم أمر أن يملأ أوعيتهم قمحا و ترد فضة كل واحد منهم إلى عدله ففعل فرجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص - فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم و قال: أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود و شمعون مفقود و بنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبدا و قال: قد أسأتم في قولكم للرجل: إن لكم أخا تركتموه عندي قالوا: إنه سأل عنا و عن عشيرتنا قائلا: هل أبوكم حي بعد؟ و هل لكم أخ آخر فأخبرناه كما سألنا و ما كنا نعلم أنه سيقول: جيئوا إلي بأخيكم. 

    1. الإصحاح ٤٢-٤٣ من سفر التكوين. 

تفسير الميزان ج۱۱

266
  • فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهوذا الموثق أن يرد إليه بنيامين فأذن في ذهابهم به معهم، و أمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل و أن يأخذوا معهم أصرة الفضة التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا. 

  • و لما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره و أخبروه بحاجتهم و أن بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم و عرضوا له هديتهم فرحب بهم و أكرمهم و أخبرهم أن فضتهم لهم و أخرج إليهم شمعون الرهين ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له و قدموا إليه هديتهم فرحب بهم و استفسرهم عن حالهم و عن سلامة أبيهم و عرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه و دعا له ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده، و لهم وحدهم و لمن عنده من المصريين وحدهم. 

  • ثم أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاما و أن يدس فيها هديتهم و أن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير و انصرفوا. 

  • فلما خرجوا من المدينة و لما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم و قل لهم: بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالإساءة سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه و يتفأل به فتبهتوا من استماع هذا القول، و قالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا، من وجد الطاس في رحله يقتل و نحن جميعا عبيد سيدك فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم، و أنزل كل واحد منهم عدله و فتحه فأخذ يفتشها و ابتدأ من الكبير حتى انتهى إلى الصغير و أخرج الطاس من عدله. 

  • فلما رأى ذلك إخوته مزقوا ثيابهم و رجعوا إلى المدينة و دخلوا على يوسف و أعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب و عليهم سيماء الصغار و الهوان و الخجل فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، و أما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم. 

  • فتقدم إليه يهوذا و تضرع إليه و استرحمه و ذكر له قصتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الإباء حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين إليه و ذكر أنهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم و ليس معهم بنيامين، و أن أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه و يطلق بنيامين لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمه يوسف. 

تفسير الميزان ج۱۱

267
  • قالت التوراة: فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده فصرخ أخرجوا كل إنسان عني فلم يقف أحد عنده حين عرف يوسف إخوته بنفسه فأطلق صوته بالبكاء فسمع المصريون و سمع بيت فرعون، و قال يوسف لإخوته: أنا يوسف أ حي أبي بعد؟ فلما يستطيع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه. 

  • و قال يوسف لإخوته: تقدموا إلي، فتقدموا فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر و الآن لا تتأسفوا و لا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم لأن للجوع في الأرض الآن سنتين و خمس سنين أيضا لا يكون فيها فلاحة و لا حصاد فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض و ليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله و هو قد جعلني أبا لفرعون و سيدا لكل بيته و متسلط على كل أرض مصر. 

  • أسرعوا و أصعدوا إلى أبي و قولوا له هكذا يقول ابنك يوسف: أنزل إلي لا تقف فتسكن في أرض جاسان و تكون قريبا مني أنت و بنوك و بنو بيتك و غنمك و بقرك و كل ما لك، و أعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا لئلا تفتقر أنت و بيتك و كل ما لك، و هو ذا عيونكم ترى و عينا أخي بنيامين أن فمي هو الذي يكلمكم، و تخبرون أني بكل مجدي في مصر و بكل ما رأيتم و تستعجلون و تنزلون بأبي إلى هنا ثم وقع على عين بنيامين أخيه و بكى، و بكى بنيامين على عنقه و قبل جميع إخوته و بكى عليهم. 

  • ثم قالت التوراة: ما ملخصه أنه جهزهم أحسن التجهيز و سيرهم إلى كنعان فجاءوا أباهم و بشروه بحياة يوسف و قصوا عليه القصص فسر بذلك و سار بأهله جميعا إلى مصر و هم جميعا سبعون نسمة و وردوا أرض جاسان من مصر و ركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه و لقيه قادما فتعانقا و بكى طويلا ثم أنزله و بنيه و أقرهم هناك و أكرمهم فرعون إكراما بالغا و آمنهم و أعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر و عالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة و عاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة. 

  • هذا ما قصّته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصه إلا في بعض فقراتها لمسيس الحاجة. 

تفسير الميزان ج۱۱

268
  • (كلام في الرؤيا في فصول) 

  • ١ - الاعتناء بشأنها 

  • كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى و المنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي، و عند كل قوم قوانين و موازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات و يعبرونها بها و يكشفون رموزها، و يحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم. 

  • و قد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه (عليه السلام) قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‌ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى‌ قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } - إلى أن قال - {وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا } الصافات: ١٠٥. 

  • و منها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف (عليه السلام): {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يوسف: ٤. 

  • و منها رؤيا صاحبي يوسف في السجن: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ} يوسف: ٣٦. 

  • و منها رؤيا الملك: {وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‌ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ} يوسف: ٤٣. 

  • و منها رؤيا أم موسى قال تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى‌ أُمِّكَ مَا يُوحى‌ أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ} طه: ٣٩ على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا. 

  • و منها ما ذكر من رؤى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنَازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ} الأنفال: ٤٣، و قال: {لَقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} الفتح: ٢٧ و قال: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ } الإسراء: ٦٠. 

تفسير الميزان ج۱۱

269
  • و قد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تصدق ذلك و تؤيده. 

  • لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة و لا للبحث عن شأنها و ارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها، و احتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق و الصدفة، و هي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم. 

  • ٢ - و للرؤيا حقيقة 

  • ما منا واحد إلا و قد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى و المنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل، و لا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق و انتفاء أي رابطة بينها و بين ما ينطبق عليها من التأويل، و خاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير. 

  • نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي و للخيال فيها عمل، و المتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس و السمع، و ربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور و المعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس و يد و رجل و غير ذلك و تركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه و أعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج و ربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رؤوس. 

  • و بالجملة للأسباب و العوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر و البرد و نحوها و الداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض و العاهات و انحرافات المزاج و امتلاء المعدة و التعب و غيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا. 

  • فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء و الجمد و نزول الثلوج، و أن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام و بركان الماء و نزول الأمطار و نحو ذلك، و أن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل. 

تفسير الميزان ج۱۱

270
  • و كذلك الأخلاق و السجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك يتخيله في يقظته و يراه في نومته و الضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية، و كذلك البغض و العداوة و العجب و الكبر و الطمع و نظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه و تلائمه، و قل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه. 

  • و لذلك كان أغلب الرؤى و المنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شي‌ء من الأسباب الخارجية و الداخلية الطبيعية و الخلقية و نحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب و أثرها فيها فحسب، لا حقيقة لها وراء ذلك. 

  • و هذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان. 

  • و من المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة و هو غير المدعى و هو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة و رؤيا صادقة تكشف عن حقائق و لا سبيل إلى إنكارها و نفي الرابطة بينها و بين الحوادث الخارجية و الأمور المستكشفة كما تقدم. 

  • فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام و هي المسماة بالرؤى لها أصول و أسباب تستدعي وجودها للنفس و ظهورها للخيال و هي على اختلافها تحكي و تمثل بأصولها و أسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل و تعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، و تأويل بعضها السبب الخلقي و بعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم و هو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له. 

  • و إنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات، و هي الرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية، أو مزاجية أو اتفاقية و لا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك، و لها ارتباط بالحوادث الخارجية و الحقائق الكونية. 

  • ٣ - المنامات الحقة 

  • المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية و خاصة المستقبلة 

تفسير الميزان ج۱۱

271
  • منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى، و لا معنى للارتباط الوجودي بين موجود و معدوم، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شي‌ء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا و من الفضة كذا في وعاء صفته كذا و كذا ثم مضى إليه و حفر كما دل عليه فوجده كما رأى، و لا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس و بين ما هو غائب عنها لم ينله شي‌ء من الحواس. 

  • و لذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها و بين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة و من طريق سببها بنفسها. 

  • توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة و هو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه و الأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة و السكون و التغير و التبدل. 

  • و ثانيها: عالم المثال و هو فوق عالم الطبيعة وجودا، و فيه صور الأشياء بلا مادة، منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة و إليها تعود، و له مقام العلية و نسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة. 

  • و ثالثها: عالم العقل و هو فوق عالم المثال وجودا و فيه حقائق الأشياء و كلياتها من غير مادة طبيعية و لا صورة، و له نسبة السببية لما في عالم المثال. 

  • و النفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال و عالم العقل فإذا نام الإنسان و تعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية و رجعت إلى عالمها المسانخ لها و شاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد و الإمكان. 

  • فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها و استحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية و النورية، و إلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور و الأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة، و نحكي مفهوم العظمة بالجبل، و مفهوم الرفعة و العلو بالسماء و ما فيها من الأجرام السماوية و نحكي الكائد المكار بالثعلب و الحسود بالذئب 

تفسير الميزان ج۱۱

272
  • و الشجاع بالأسد إلى غير ذلك. 

  • و إن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها و الارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها و أسبابها من غير أن تتصرف فيها بشي‌ء من التغيير، و يتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق و الصفاء، و هذه هي المنامات الصريحة. 

  • و ربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء و التلبس، و الفخار بالتاج و العلم بالنور و الجهل بالظلمة و خمود الذكر بالموت، و ربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى و انتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد و من تصور الحياة إلى تصور الموت و هكذا، و من أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس و فروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك. 

  • و قد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة، و منامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال و الانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، و هذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار، و رد الموت إلى الحياة و الحياة إلى الفرج بعد الشدة و رد الظلمة إلى الجهل و الحيرة أو الشقاء. 

  • ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشي‌ء إلى ما يناسبه أو يضاده و وقفت في المرة و المرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. و ثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كأن تنتقل مثلا من الشي‌ء إلى ضده و من الضد إلى مثله و من مثل الضد إلى ضد المثل و هكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، و هذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام و لا تعبير لها لتعسره أو تعذره. 

  • و قد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: و هي المنامات الصريحة و لا 

تفسير الميزان ج۱۱

273
  • تعبير لها لعدم الحاجة إليه، و أضغاث الأحلام و لا تعبير فيها لتعذره أو تعسره و المنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية و التمثيل و هي التي تقبل التعبير. 

  • هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا و استقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن. 

  • ٤ - و في القرآن ما يؤيد ذلك 

  • قال تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ } الأنعام: ٦٠، و قال: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى‌عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى‌} الزمر: ٤٢ و ظاهره أن النفوس متوفاة و مأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت. 

  • و قد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و رؤيا أم موسى و بعض رؤي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و من القسم الثاني ما في قوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} الآية: يوسف: ٤٤ و من القسم الثالث رؤيا يوسف و مناما صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف. 

  • ***

  • [سورة يوسف (١٢): الآیات ١٠٣ الی ١١١]

  • {وَ مَا أَكْثَرُ اَلنَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ١٠٣ وَ مَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ١٠٤ وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ١٠٥ وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ١٠٦ أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١٠٧ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي 

تفسير الميزان ج۱۱

274
  • أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٠٨ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‌ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٠٩ حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ ١١٠لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرى‌ وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١١١} 

  • (بيان) 

  • الآيات خاتمة السورة يذكر فيها أن الإيمان الكامل و هو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله إلا أقل قليل من الناس و أما الأكثرون فليسوا بمؤمنين و لو حرصت بإيمانهم و اجتهدت في ذلك جهدك، و الأقلون و هم المؤمنون ما لهم إلا إيمان مشوب بالشرك فلا يبقى للإيمان المحض و التوحيد الخالص إلا أقل قليل. 

  • و هذا التوحيد الخالص هو سبيل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي يدعو إليه على بصيرة هو و من اتبعه، و أن الله ناصره و منجي من اتبعه من المؤمنين من المهالك التي تهدد توحيدهم و إيمانهم و عذاب الاستئصال الذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم. 

تفسير الميزان ج۱۱

275
  • و في قصصهم عبرة و بيان للحقائق و هدى و رحمة للمؤمنين. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا أَكْثَرُ اَلنَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} أي ليس من شأن أكثر الناس لانكبابهم على الدنيا و انجذاب نفوسهم إلى زينتها و سهوهم عما أودع في فطرهم من العلم بالله و آياته أن يؤمنوا به، و لو حرصت و أحببت إيمانهم، و الدليل على هذا المعنى الآيات التالية. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} الواو حالية أي ما هم بمؤمنين و الحال أنك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الذي ننزله عليك و تتلوه عليهم من أجر حتى يصدهم الغرامة المالية و إنفاق ما يحبونه من المال عن قبول دعوته و الإيمان به. 

  • و قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بيان لشأن القرآن الواقعي و هو أنه ممحض في أنه ذكر للعالمين يذكرون به ما أودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به و بآياته فما هو إلا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة و الإعراض و ليس من الأمتعة التي يكتسب بها الأموال أو ينال بها عزة أو جاه أو غير ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} الواو حالية و يحتمل الاستئناف و المرور على الشي‌ء هو موافاته ثم تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماوية و الأرضية مشاهدتها واحدة بعد أخرى. 

  • و المعنى أن هناك آيات كثيرة سماوية و أرضية تدل بوجودها و النظام البديع الجاري فيها على توحيد ربهم و هم يشاهدونها واحدة بعد أخرى فتتكرر عليهم و الحال أنهم معرضون عنها لا يتنبهون. 

  • و لو حمل قوله: {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتني عليه الهيأة الحديثة من حركة الأرض وضعا و انتقالا فإنا نحن المارون على الأجرام السماوية بحركة الأرض الانتقالية و الوضعية لا بالعكس على ما يخيل إلينا في ظاهر الحس. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} الضمير في {أَكْثَرُهُمْ} راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين و إن لم تسألهم عليه أجرا 

تفسير الميزان ج۱۱

276
  • و إن كانوا يمرون على الآيات السماوية و الأرضية على كثرتها و الذين آمنوا منهم - و هم الأقلون - ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم متلبسون بالشرك. 

  • و تلبس الإنسان بالإيمان و الشرك معا مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محل واحد نظير تلبسه بسائر الاعتقادات المتناقضة و الأخلاق المتضادة إنما يكون من جهة كونها من المعاني التي تقبل في نفسها القوة و الضعف، فتختلف بالنسبة و الإضافة كالقرب و البعد فإن القرب و البعد المطلقين لا يجتمعان إلا أنهما إذا كانا نسبيين لا يمتنعان الاجتماع و التصادق كمكة فإنها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام، و كذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد. 

  • و الإيمان بالله و الشرك به و حقيقتهما تعلق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية و تعلق القلب بغيره تعالى مما لا يملك شيئا إلا بإذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة و الإضافة فإن من الجائز أن يتعلق الإنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية و زينتها الباطلة و ينسى مع ذلك كل حق و حقيقة، و من الجائز أن ينقطع عن كل ما يصد النفس و يشغلها عن الله سبحانه و يتوجه بكله إليه و يذكره و لا يغفل عنه فلا يركن في ذاته و صفاته إلا إليه و لا يريد إلا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى. 

  • و بين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين و البعد منه و هي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع، و من الدليل على ذلك الأخلاق و الصفات المتمكنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حق أو باطل، و الأعمال الصادرة منها كذلك؛ ترى من يدعي الإيمان بالله يخاف و ترتعد فرائصه من أي نائبة أو مصيبة تهدده و هو يذكر أن لا قوة إلا بالله، و يلتمس العزة و الجاه من غيره و هو يتلو قوله تعالى: {إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} و يقرع كل باب يبتغي الرزق و قد ضمنه الله، و يعصي الله و لا يستحيي و هو يرى أن ربه عليم بما في نفسه، سميع لما يقول، بصير بما يعمل، و لا يخفى عليه شي‌ء في الأرض و لا في السماء، و على هذا القياس. 

  • و المراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الإيمان و هو المسمى باصطلاح فن الأخلاق بالشرك الخفي. 

  • فما قيل: إن المراد بالمشركين في الآية مشركو مكة في غير محله، و كذا ما قيل: 

تفسير الميزان ج۱۱

277
  • إنهم المنافقون، و هو تقييد لإطلاق الآية من غير مقيد. 

  • قوله تعالى: {أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الغاشية صفة سادّة مسدّ الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه، و التقدير عقوبة غاشية تغشاهم و تحيط بهم. 

  • و البغتة الفجأة. و قوله: {وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في إتيانها و الحال أنهم لا يشعرون بإتيانها لعدم مسبوقيتها بعلامات تعين وقتها و تشخص قيامها و الاستفهام للتعجيب، و المعنى أن أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء و الأرض و عدم إخلاصهم الإيمان لله و تماديهم في الغفلة عجيب أ فأمنوا عذابا من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم و تبهتهم؟! 

  • قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} لما ذكر سبحانه أن محض الإيمان به و إخلاص التوحيد له عزيز المنال و هو الحق الصريح الذي تدل عليه آيات السماوات و الأرض أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبين لهم أن سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة. 

  • فقوله: {هَذِهِ سَبِيلِي} إعلان لسبيله، و قوله: {أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ} بيان للسبيل، و قوله: {وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ} اعتراض للتنزيه، و قوله: {وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله و بيان أن هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا. 

  • و أما قوله: {أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي} فتوسعة و تعميم لحمل الدعوة و أن السبيل و إن كانت سبيل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مختصة به لكن حمل الدعوة و القيام به لا يختص به بل من اتبعه (صلى الله عليه وآله و سلم) يقوم بها لنفسه. 

  • لكن السياق يدل على أن الإشراك ليس بذاك العموم الذي يتراءى من لفظ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} فإن السبيل التي تعرفها الآية هي الدعوة عن بصيرة و يقين إلى إيمان محض و توحيد خالص و إنما يشاركه (صلى الله عليه وآله و سلم) فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربه ذا بصيرة و يقين و ليس كل من صدق عليه أنه اتبعه على هذا النعت، و لا أن الاستواء على هذا المستوى 

تفسير الميزان ج۱۱

278
  • مبذول لكل مؤمن حتى الذين عدهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين و ذمهم بأنهم غافلون عن ربهم آمنون من مكره معرضون عن آياته، و كيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته و ذكره؟! و قد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب هذه النعوت بالضلال و العمى و الخسران و لا تجتمع هذه الخصال بالهداية و الإرشاد البتة. 

  • قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‌} إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثم حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعوته إياهم عن رسالة إلهية من غير أن يسألهم فيها أجرا أو يجر لنفسه نفعا بيّن أن ذلك ليس ببدع من الأمر بل ممّا جرت عليه السنة الإلهية في الدعوة الدينية، فلم يكن الرسل الماضون ملائكة و إنما بعثوا من بين هؤلاء الناس و كانوا رجالا من أهل القرى يخالطون الناس و يعرفون عندهم، أوحى الله إليهم و أرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أن النبي كذلك، و من الممكن أن يسير هؤلاء المدعوون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم فبلادهم الخربة و مساكنهم الخالية تفصح عما آل إليه أمرهم، و تنبئ عن عاقبة كفرهم و جحودهم و تكذيبهم لآيات الله. 

  • فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يدعوهم إلا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله، و ليس يدعوهم إلا إلى ما فيه خيرهم و صلاح حالهم و هو أن يتقوا الله فيفلحوا و يفوزوا بسعادة خالدة و نعيم مقيم في دار باقية و لدار الآخرة خير للذين اتقوا أ فلا تعقلون. 

  • فقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‌} تطبيق لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على دعوة من قبله من الرسل، و لعل توصيفهم بأنهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم و معروفين عندهم بالمعاشرة و المخالطة و لم يكونوا ملائكة و لا من غير أنفسهم، و يؤيد ذلك توصيفهم بأنهم كانوا رجالا فإن الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر. 

  • و قوله: {أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إنذار لأمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمثل ما أنذر به الأمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم. 

  • و قوله: {وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ} بيان النصح و أن ما يدعون إليه و هو التقوى ليس وراءه إلا ما فيه كل خيرهم و جماع سعادتهم. 

تفسير الميزان ج۱۱

279
  •  قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} إلى آخر الآية، ذكروا أن يأس و استيئس بمعنى، و لا يبعد أن يقال: إن الاستيئاس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال و هو مما يعد يأسا عرفا و ليس باليأس القاطع حقيقة. 

  • و قوله: {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ} إلخ،متعلق الغاية بما يتحصل من الآية السابقة، و المعنى: تلك الرسل الذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى و تلك قراهم البائدة، دعوهم فلم يستجيبوا و أنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتى إذا استيأس الرسل من إيمان أولئك الناس، و ظن الناس أن الرسل قد كذبوا أي أخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا {فنجي‌} بذلك {من نشاء} و هم المؤمنون {و لا يرد بأسنا} أي شدتنا {عن القوم المجرمين}

  • أما استیئاس الرسل من إيمان قومهم فكما أخبر في قصة نوح: {وَ أُوحِيَ إِلى‌ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} هود: ٣٦ {وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} نوح: ٢٧ و يوجد نظيره في قصص هود و صالح و شعيب و موسى و عيسى (عليه السلام). 

  • و أما ظن أممهم أنهم قد كذبوا فكما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} هود: ٢٧، و كذا في قصة هود و صالح و قوله: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى‌ مَسْحُوراً} أسرى ١٠١. 

  • و أما تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ:} الروم: ٤٧ و قد أخبر به في هلاك بعض الأمم أيضا كقوله: {نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} هود: ٥٨ {نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} هود: ٦٦ {نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} هود: ٤، إلى غير ذلك. 

  • و أما أن بأس الله لا يرد عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموما و خصوصا كقوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يونس: ٤٧، و قوله: {وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} الرعد: ١١ إلى غير ذلك من الآيات. 

تفسير الميزان ج۱۱

280
  • هذا أحسن ما أوردوه في الآية من المعاني، و الدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما تتضمنه سابقتها كما قدمناه، و قد أوردوا لها معاني أخرى لا يخلو شي‌ء منها من السقم و الإضراب عنها أوجه. 

  • قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ} إلى آخر الآية قال الراغب أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فأما العبور فيختص بتجاوز الماء، إلى أن قال: و الاعتبار و العبرة بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً}. انتهى. 

  • و الضمير في قصصهم للأنبياء و منهم يوسف صاحب القصة في السورة، و احتمل رجوعه إلى يوسف و إخوته و المعنى أقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف و إخوته عبرة لأصحاب العقول، ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفترى و لكن تصديق الذي بين يدي القرآن، و هو التوراة المذكور فيها القصة يعني توراة موسى (عليه السلام). 

  • و قوله: {وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} إلخ، أي بيانا و تمييزا لكل شي‌ء مما يحتاج إليه الناس في دينهم الذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و هدى إلى السعادة و الفلاح و رحمة خاصة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط مستقيم. 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير القمي، بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} قال: شرك طاعة و ليس شرك عبادة، و المعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره و ليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله. 

  • و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: شرك لا يبلغ به الكفر. 

تفسير الميزان ج۱۱

281
  • و فيه عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا و لضاع عيالي أ لا ترى أنه جعل لله شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لو لا أن من الله علي بفلان لهلكت قال: نعم لا بأس بهذا.

  • و فيه عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} قال: من ذلك قول الرجل لا و حياتك. 

  • أقول: يعني القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يستحقه بذاته و الأخبار في هذه المعاني كثيرة. 

  • و في الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي} قال: ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين و الأوصياء من بعدهما.

  • و فيه بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: يعني علي أول من اتبعه على الإيمان و التصديق له و بما جاء به من عند الله عز و جل من الأمة التي بعث فيها و منها و إليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط و لم يلبس إيمانه بظلم و هو الشرك. 

  • أقول: و الروايتان تؤيدان ما قدمناه في بيان الآية و في معناهما روايات، و لعل ذكر المصداق من باب التطبيق. 

  • و فيه بإسناده عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ} ما يعني به؟ قال: أنفة لله.

  • و فيه بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز و جل: {سُبْحَانَ اَللَّهِ} قال: تنزيه. 

  • و في المعاني، بإسناده عن السيار عن الحسن بن علي عن آبائه عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال فيه مخاطبا: أولست تعلم أن الله تعالى لم يخل الدنيا قط من نبي أو إمام من البشر؟ أوليس الله تعالى يقول: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يعني إلى الخلق {إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‌} فأخبر أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض فيكونوا أئمة و حكاما 

تفسير الميزان ج۱۱

282
  • و إنما أرسلوا إلى الأنبياء. 

  • و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى و ذكر الحديث إلى أن قال فيه قال المأمون لأبي الحسن: فأخبرني عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} قال الرضا: يقول الله: حتى إذا استيئس الرسل من قومهم فظن قومهم أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

  •  أقول: و هو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية، و ما في بعض الروايات أن الرسل ظنوا أن الشيطان تمثل لهم في صورة الملائكة لا يعتمد عليه. 

  • و في تفسير العياشي، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة و الوقار و كان الذي يأتيه من الله مثل الذي يراه بعينه. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري قال: صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم سعيد بن جبير و الضحاك بن مزاحم، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف؟ فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة: {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قال: نعم حتى إذا استيئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم و ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فقال الضحاك: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا. 

تفسير الميزان ج۱۱

283
  • (١٣) سورة الرعد مكية و هي ثلاث و أربعون آية (٤٣) 

  • [سورة الرعد (١٣): الآیات ١ الی ٤]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ، المر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ١ اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ٢ وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٣ وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى‌ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‌ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٤} 

تفسير الميزان ج۱۱

284
  • (بيان) 

  • غرض السورة بيان حقيّة ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الكتاب و أنه آية الرسالة و أن قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} و هم يعرّضون به للقرآن و لا يعدونه آيةً كلامٌ مردود إليهم و لا ينبغي للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصغي إليه و لا لهم أن يتفوهوا به. 

  • و يدل على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله: {وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} و اختتامها بقوله: {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} الآية، و تكرار حكاية قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}

  • و محصل البيان على خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن هذا القرآن النازل عليك حق لا يخالطه باطل فإن الذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الذي تدل عليه آيات الكون مِنْ رفع السماوات و مد الأرض و تسخير الشمس و القمر و سائر ما يجري عليه عجائب تدبيره و غرائب تقديره تعالى. 

  • و تدل على حقية دعوته أيضا أخبار الماضين و آثارهم جاءتهم الرسل بالبينات فكفروا و كذبوا فأخذهم الله بذنوبهم؛ فهذا ما يتضمنه هذا الكتاب و هو آية دالة على رسالتك. 

  • و قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم أولا بأنك لست إلا منذرا و ليس لك من الأمر شي‌ء حتى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة، و ثانيا أن الهداية و الإضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتى يرجوا الهداية من آية يقترحونها و إنما ذلك إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء على نظام حكيم، و أما قولهم: لست مرسلا فيكفيك من الحجة شهادة الله في كلامه على رسالتك و دلالة ما فيه من المعارف الحقة على ذلك. 

  • و من الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمنه قوله: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً} (الآية)، و قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ}، و قوله: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ}، و قوله: {فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً}

تفسير الميزان ج۱۱

285
  • و السورة مكية كلها على ما يدل عليه سياق آياتها و ما تشتمل عليه من المضامين، و نقل عن بعضهم أنها مكية إلا آخر آية منها فإنها نزلت بالمدينة في عبد الله بن سلام، و عزي ذلك إلى الكلبي و مقاتل، و يدفعه أنها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله: {وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ}

  • و قيل: إن السورة مدنية كلها إلا آيتين منها و هما قوله: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ} الآية و الآية التي بعدها، و نسب ذلك إلى الحسن و عكرمة و قتادة، و يدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة و بعد الهجرة. 

  • و قيل: إن المدني منها قوله تعالى: {وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} الآية و الباقي مكي و كأنّ القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل حال الإسلام بعد الهجرة إلى الفتح و سيأتي في بيان معنى الآية ما يتضح به اندفاعه. 

  • قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ} إلخ، الحروف المصدرة بها السورة هي مجموع الحروف التي صدرت بها سور {الم} و سور {الر} كما أن المعارف المبينة في السورة كأنها المجموع من المعارف المعنية في ذينك الصنفين من السور، و في الرجاء أن نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز. 

  • و قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ} ظاهر سياق الآية و ما يتلوها من الآيات الثلاث على ما بها من الاتصال و هي تعد الآيات الكونية من رفع السماوات و مد الأرض و تسخير الشمس و القمر و غير ذلك الدالة على توحيد الله سبحانه الذي يفصح عنه القرآن الكريم و تندب إليه الدعوة الحقة، و هي تذكر أن التدبر في تفصيلها و التفكر فيها يورث اليقين بالمبدإ و المعاد و العلم بأن الذي أنزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حق. 

  • فظاهر ذلك كله أن يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ} الموجودات الكونية و الأشياء الخارجية المسخرة في النظام العام الإلهي، و المراد بالكتاب هو مجموع الكون الذي هو بوجه اللوح المحفوظ، أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على الآيات الكونية بنوع من العناية و المجاز. 

  • و على هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة و هما الدلالة الطبيعية التي تتلبس 

تفسير الميزان ج۱۱

286
  • بها الآيات الكونية من السماء و الأرض و ما بينهما، و الدلالة اللفظية التي تتلبس بها الآيات القرآنية المنزلة من عنده تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و يكون قوله: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} استدراكا متعلق بالجملتين معا أعني بقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ} و قوله: {وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ} لا بالجملة الأخيرة فحسب. 

  • و المعنى - و الله أعلم - تلك الأمور الكونية - و قد أشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع مكانتها - آيات الكتاب العام الكوني دالة على أن الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته، و القرآنُ الذي أنزل إليك من ربك حق ليس بباطل و اللام في قوله: {اَلْحَقُّ} للحصر فتفيد المحوضة - فتلك آيات قاطعة في دلالتها و هذا حق في نزوله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون، لا بتلك الآيات العينية و لا بهذا الحق النازل، و في لحن الكلام شي‌ء من اللوم و العتاب. 

  • و قد بان مما مر أن اللام في قوله: {اَلْحَقُّ} للحصر، و مفاده أن الذي أنزل إليه حق فحسب و ليس بباطل و لا مختلطا من حق و باطل. 

  • و للمفسرين في تركيب الآية و معنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة و المراد بالآيات و بالكتاب و معنى الحصر في قوله: {اَلْحَقُّ} و المراد بأكثر الناس أقوال متنوعة مختلفة و الأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدمناه و على من أراد الاطلاع على تفصيل أقوالهم أن يراجع المطولات. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: العمود ما تعتمد عليه الخيمة و جمعه عُمُد بضمتين و عَمَد بفتحتين قال: في عمد ممددة، و قرئ في عمد، و قال: بغير عمد ترونها انتهى. و قيل: إن العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع. 

  • و المراد بالآية التذكير بدليل ربوبيته تعالى وحده لا شريك له و أن السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم و هناك نظام جار و هناك شمس و قمر مسخران يجريان إلى أجل مسمى، و لا بد ممن يقوم على هذه الأمور فيرفع السماء و ينظم النظام و يسخر الشمس و القمر و يدبر الأمر و يفصل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلا فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات 

تفسير الميزان ج۱۱

287
  • و تنظيم النظام و تسخير الشمس و القمر و تدبير الأمر و تفصيل الآيات فهو تعالى رب الكل لا رب غيره. 

  • فقوله: {اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلط به على الأرض بإلقاء أشعتها و إنزال أمطارها و صواعقها عليها و غير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطن أن لها رافعا حافظا لها أن تتحول من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرها. 

  • و ذلك أن استقرار السماوات في رفيع مستقرها من غير عمد و إن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرها و هما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته و إرادته ذلك من طريق أسباب مختصة بهما بإذنه تعالى، و لو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى و الافتقار إلى قدرته و إرادته فالأشياء كلها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا و لا في حال. 

  • لكن الإنسان - في عين أنه يرى قانون العلية الكلي و يذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، و في فطرته البحث عن علل الحوادث و الأمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله و تكرر ذلك على حسه أقنعه ذلك و لم يتعجب من مشاهدته على حاله و لا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثم وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجب و بحث عن ذلك حتى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف و عند ذلك مع ما فيه من التكرر على الحس تقف نفسه عن البحث في كل مورد يشاهد فيه شيئا رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان. 

  • أما إذا وجد أمرا يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلوية القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه و الطير الصافات و يقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبه من رقدته. 

  • فقوله تعالى: {رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} إنما وصف السماوات فيه بقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله: {تَرَوْنَهَا} وصفا توضيحيا لا مفهوم له، أو الدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنها لما لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، و لو كانت لها 

تفسير الميزان ج۱۱

288
  • أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربما يذهب إليه أوهام العامة أن الذي يستند إلى الله من الأمور هو ما يجهل سببه كالأمور السماوية و الحوادث الجوية و الروح و أمثال ذلك. 

  • فإن كلامه تعالى ينص أولاً على أن كل ما يصدق عليه الشي‌ء ما خلا الله فهو مخلوق لله و كل خلق و أمر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى: {اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} الرعد: ١٦، و قال: {أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ} الأعراف: ٥٤. 

  • و ثانيا: على أن سنة الأسباب جارية مطردة و أنه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الأمور الجسمانية غير جار في بعض، و استناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضية إليه تعالى بواسطة الأسباب، و استناد بعضها الآخر كالأمور السماوية مثلا إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاص به بإذن الله، و إن قام جرم سماوي من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضا بسبب خاص به كطبيعته الخاصة أو التجاذب العام مثلا بإذن الله. 

  • بل إنما قيد رفع السماوات بقوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} لتنبيه فطرة الناس و إيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب و ينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، و قد سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية: {وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً} على ما سنوضحه. 

  • و لما كان المطلوب في المقام - على ما يهدي إليه سياق الآيات - هو توحيد الربوبية و بيان أن الله سبحانه رب كل شي‌ء لا رب سواه، لا أصل إثبات الصانع عقب قوله: {رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ،بقوله: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ} إلخ، الدال على التدبير العام المتحد باتصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أن رب الجميع و مالكها المدبر لأمرها واحد. 

  • و ذلك أن الوثنية الذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أن خالق الكل و موجده واحد لا شريك له في إيجاده و إبداعه، و هو الله سبحانه، و إنما يرون أنه فوض تدبير كل شأن من شئون الكون و نوع من أنواعه كالأرض و السماء و الإنسان و الحيوان و البر و الحرب و السلم و الحياة و الموت إلى واحد من الموجودات القوية فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره 

تفسير الميزان ج۱۱

289
  • و يتقى بها شره فلا ينفع في ردهم إلا قصر الربوبية في الله سبحانه و إثبات أنه رب لا رب سواه، و أما توحيد الألوهية بمعنى إثبات أن الواجب الوجود واحد لا واجب غيره و إليه ينتهي كل وجود فهو أمر لا تنكره الوثنية و لا يضرهم شيئا. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} موضوع في صدر الآية توطئة و تمهيدا لقوله: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ} إلخ،من غير أن يكون مقصودا بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الذيل في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ} (الآية) الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، و ما يشابهها من الآيات. 

  • و يظهر أيضا: أن قوله: {بِغَيْرِ عَمَدٍ} متعلق برفع و {تَرَوْنَهَا} وصف للعمد و المراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئية، و أما قول من يجعل: {تَرَوْنَهَا} جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأن السامع لما سمع قوله: {رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} قال: ما الدليل على ذلك؟ فأجيب و قيل: {تَرَوْنَهَا} أي الدليل على ذلك أنها مرئية لكم، فبعيد، إلا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من أجرام النجوم و الكواكب و الهواء المتراكم فوق الأرض و السحب و الغمام فإنها جميعا مرفوعة من غير عمد و مرئية للإنسان. 

  • و قوله: {ثُمَّ اِسْتَوى‌ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ} تقدم الكلام في معنى العرش و الاستواء و التسخير في تفسير سورة الأعراف الآية ٥٤. 

  • و قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي كل منهما يجري إلى أجل معين يقف عنده و لا يتعداه كذا قيل و من الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع و المعنى كل من السماوات و الشمس و القمر يجري إلى أجل مسمى فإن حكم الجري و الحركة عام مطرد في جميع هذه الأجسام. 

  • و قد تقدم الكلام في معنى الأجل المسمى في تفسير سورة الأنعام الآية ١ فراجع. 

  • و قوله: {يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ} التدبير هو الإتيان بالشي‌ء عقيب الشي‌ء و يراد به ترتيب الأشياء المتعددة المختلفة و نظمها بوضع كل شي‌ء في موضعه الخاص به بحيث يلحق بكل 

تفسير الميزان ج۱۱

290
  • منها ما يقصد به من الغرض و الفائدة و لا يختل الحال بتلاشي الأصل و تفاسد الأجزاء و تزاحمها يقال: دبر أمر البيت أي نظم أموره و التصرفات العائدة إليه بحيث أدى إلى صلاح شأنه و تمتع أهله بالمطلوب من فوائده. 

  • فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظما جيدا متقنا بحيث يتوجه به كل شي‌ء إلى غايته المقصودة منه و هي آخر ما يمكنه من الكمال الخاص به و منتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمى، و تدبير الكل إجراء النظام العام العالمي بحيث يتوجه إلى غايته الكلية و هي الرجوع إلى الله و ظهور الآخرة بعد الدنيا. 

  • و قوله: {يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} ظاهر السياق أن المراد بالآيات هي الآيات الكونية فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض و فتقها بعد رتقها، و هذا من سنته تعالى يفصل الأشياء و يميز كل شي‌ء من كل شي‌ء و يخرج من كل شي‌ء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة و الحق من الباطل و الخير من الشر و الصالح من الطالح و المثيب من المجرم. 

  • و لذا عقبه بقوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} فإن يوم اللقاء هو الساعة التي سماها الله بيوم الفصل و وعد فيه تمييز المتقين من المجرمين و الفجار قال: {إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} الدخان ٤٠، و قال: {وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ} يس: ٥٩، و قال: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‌ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ} الأنفال: ٣٧. 

  • و الأشهر عند المفسرين أن المراد بالآيات آيات الكتب المنزلة من عند الله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها و كشفها بالبيان في الكتب المنزلة على أنبياء الله ليتدبر فيها الناس و يتفكروا و يفقهوا فإن في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى و الرجوع إليه و ما قدمناه من المعنى أوضح لزوما و أمسّ بالسياق. 

  • و في قوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ} و لم يقل: لعلكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر و الوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبية و التأكيد له و الإشارة إلى أن الذي خلق العالم و دبر أمره فصار ربا له هو رب لكم أيضا فلا رب إلا رب واحد لا شريك له. 

  • قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً} إلى آخر الآية 

تفسير الميزان ج۱۱

291
  • الرواسي‌ جمع راسية من رسا إذا ثبت و قرّ، و المراد بها الجبال لثباتها في مقرها، و الزوج‌ خلاف الفرد و يطلق على مجموع الأمرين و على أحدهما فهما زوج و هما زوجان، و ربما يقيد الزوجان باثنين تأكيدا للدلالة على أن المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية. 

  • و قوله: {هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ} أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان و ينبت فيه الزرع و الشجر، و الكلام في نسبة مد الأرض إليه تعالى و كونه كالتوطئة و التمهيد لما يلحق به من قوله: {وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً} إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة: {اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}

  • و قوله: {وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً} الضمير للأرض و الكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا و الغرض - و الله أعلم - بيان تدبيره تعالى أمر سكنة الأرض من إنسان و حيوان في حركته لطلب الرزق و سكونه للارتياح فقد مد الله سبحانه الأرض و لو لا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان و الحيوان و لو كانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع و انخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع و البساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي و ادخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء و شق من أطرافها أنهارا و فجر منها عيونا مطلة على السهل تسقي الزروع و الجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة و مرة صيفية و شتوية برية و أهلية، و سلط على وجه الأرض الليل و النهار و هما عاملان قويان في رشد الأثمار و الفواكه بتسليط الحرارة و البرودة المؤثرتين في النضج و النمو و الانبساط و الانقباض، و تسليط الضوء و الظلمة النظامين لحركة الدواب و الإنسان و سعيهما في طلب الرزق و سكونهما للنوم و الرقدة. 

  • فمد الأرض يسهل الطريق لجعل الجبال الرواسي و ذلك لشق الأنهار و ذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة، و بالليل و النهار يتم المطلوب و في ذلك كله تدبير متصل متحد يكشف عن مدبر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيته، و إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. 

  • و قوله: {وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ} أي و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفي و الشتوي 

تفسير الميزان ج۱۱

292
  • و الحلو و غيره و الرطب و اليابس. 

  • هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى: {ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} الملك: ٤ أريد به الرجوع كرة بعد كرة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ. 

  • و قال في تفسير الجواهر في قوله تعالى: {زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ} جعل فيها من كل أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر و أنثى في أزهارها عند تكونها فقد أظهر الكشف الحديث أن كل شجر و زرع لا يتولد ثمره و حبه إلا من بين اثنين ذكر و أنثى. 

  • فعضو الذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة أخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة، و إما أن يكون كل منهما في زهرة وحده، و الثاني كالقرع و الأول كشجرة القطن فإن عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرة واحدة. انتهى. 

  • و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها إلا أن ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإن ظاهرها أن نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنها مخلوقة من زوجين اثنين و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: و كل الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين. 

  • نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: {سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ} يس: ٣٦ و قوله: {وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} لقمان: ١٠و قوله: {وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } الذاريات: ٤٩. 

  • و ذكر بعضهم أن زوجين اثنين الذكر و الأنثى و الحلو و الحامض و سائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر و الأنثى و كل منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلو و غيره و الصيفي و خلافه. و هو كما ترى. 

تفسير الميزان ج۱۱

293
  • و قوله: {يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ} أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، و ذكر بعضهم أن المراد به إغشاء كل من الليل و النهار غيره و تعقيب الليل النهار و النهار الليل، و لا قرينة تدل على ذلك. 

  • ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن التفكر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتصال بعضها ببعض و تلاؤم بعضها مع بعض المؤدي إلى توجه المجموع و كل جزء من أجزائها إلى غايات تخصها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقلي في غاية الإتقان و الإحكام فيدل على أن لها ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته عليما لا يعتريه جهل، قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية بكل شي‌ء و خاصة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة. 

  • قوله تعالى: {وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ} إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة و فلان صنو أبيه و التثنية صنوان و جمعه صنوان قال تعالى: {صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ}. انتهى، و قال: و الأكل‌ لما يؤكل بضم الكاف و سكونه قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} و الأكلة للمرة و الأكلة كاللقمة. انتهى. 

  • و المعنى أن من الدليل على أن هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء أن في الأرض قطعا متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها و فيها جنات من أعناب و العنب من الثمرات التي تختلف اختلافا عظيما في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك، و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه و غير صنوان أي متفرقة تسقي الجميع من ماء واحد و نفضل بعضها على بعض بما فيه من المزية المطلوبة في شي‌ء من صفاته. 

  • فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصة بكل منها أو العوامل الخارجية التي تعمل فيها فتتصرف في أشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تفصل الأبحاث العلمية المتعرضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصها، و العوامل التي تؤثر في كيفية تكونها و تتصرف في صفاتها. 

تفسير الميزان ج۱۱

294
  •  قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخلية و العوامل فما هي العلة في اختلافها المؤدية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخرة إلى المادة المشتركة بين الكل المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلا أن هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة، ثم أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء، و بعبارة أخرى هناك سبب واحد ذي شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة و لولاه لم يتميز شي‌ء من شي‌ء و لا اختلف في شي‌ء هذا. 

  • و من الواجب على الباحث المتدبر في هذه الآيات أن يتنبه أن استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالا لقانون العلة و المعلول كما ربما يتوهم فإن إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتى تتغير ذاته بتغير الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتى يوافيك توضيحه في محل يناسبه إن شاء الله. 

  • و لما كانت الحجة مبنية على مقدمات عقلية لا تتم بدونها عقبها بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

  • و قد ظهر من البيان المتقدم أن نسبة اختلاف الأكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئية و مد الأرض و جعل الجبال و الأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، و المراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات و تنتهي بالآخرة إلى الله عز من سبب. 

  • و في الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلم بالغير و هو ما في قوله تعالى: {وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‌ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ} و لعل النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنه قيل: و يفضل بعضها على بعض في الأكل و ليس المفضل إلا الله سبحانه ثم عرف المتكلم نفسه و أظهر بلفظ التعظيم أنه هو السبب الذي يبحث عنه الباحثون و إلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثم أوجز هذا التفضيل فقيل: {وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‌ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ} و لا يخلو التعبير بلفظ المتكلم مع الغير عن إشعار بأن هناك أسبابا إلهية دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهية إليه سبحانه. 

تفسير الميزان ج۱۱

295
  • و قد ظهر مما تقدم أن الآية إنما سيقت حجة لتوحيد الربوبية لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخصها أن اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتحدة و انتظامها عن مشيته و تدبيره فالمدبر لها هو الله سبحانه و هو ربها لا رب غيره، فما يتراءى من المفسرين أن الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محله. 

  • على أن الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيين و هم إنما ينكرون وحدة الربوبية و يثبتون أربابا شتى و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحق عز اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أن للعالم صانعا، و قد تنبه به بعضهم فذكر أن الآية احتجاج على دهرية العرب المنكرين لوجود الصانع و هو مردود بأنه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدل على ما ادعاه. 

  • و ظهر أيضا أن الفرق بين الحجتين أعني ما في قوله: {وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ} إلخ،و ما في قوله: {وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} إلخ، أن الأولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة و الارتباط و الاتصال في التدبير المتعلق بهذه الأشياء المختلفة و ذلك يؤدي إلى وحدة مدبرها، و الثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة و اختلاف الآثار و الخواص في الأشياء التي لها أصل واحد و ذلك يكشف عن أن المبدئ المفيض لهذه الآثار و الخواص المختلفة المتفرقة أمر وراء طبائعها و سبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد و هو رب الجميع لا رب غيره. 

  • و أما الحجة الأولى المذكورة قبل الحجتين أعني ما في قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ} إلخ، فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنها تذكر التدبير و فيه توحيد الكثير و جمع متفرقات الأمور، و التفصيل و فيه تكثير الواحد و تفريق المجتمعات. و محصلها أن أمر العالم على تشتته و تفرقه تحت تدبير واحد فله رب واحد هو الله سبحانه، و أنه تعالى يفصل الآيات فيميز كل شي‌ء من كل شي‌ء فيفصل السعيد من الشقي و الحق من الباطل و هو المعاد، و لذلك استنتج منها الربوبية و المعاد معا إذ قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}

تفسير الميزان ج۱۱

296
  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن الخطاب الأعور رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: {وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} يعني هذه الأرض الطيبة تجاور مجاورة هذه الأرض المالحة و ليست منها كما يجاور القوم القوم و ليسوا منهم.

  • و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن الخركوشي في شرف المصطفى و الثعلبي في الكشف و البيان و الفضل بن شاذان في الأمالي و اللفظ له بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول لعلي (عليه السلام): الناس من شجرة شتى و أنا و أنت من شجرة واحدة ثم قرأ: {جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى‌ بِمَاءٍ وَاحِدٍ} بالنبي و بك. قال: و رواه النطنزي في الخصائص عن سلمان، و في رواية: أنا و علي من شجرة و الناس من أشجار شتى.

  • قال صاحب البرهان: و روي حديث جابر بن عبد الله الطبرسي، و علي بن عيسى في كشف الغمة. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: يا علي الناس من شجر شتى و أنا و أنت يا علي من شجرة واحدة ثم قرأ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ}

  • و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و البزاز و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله تعالى: {وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‌ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ} قال‌۱الدقل و الفارسي و الحلو و الحامض. 

    1. الدقل بفتحتين أسود التمر و كأن الفارسي نوع منه طيب. 

تفسير الميزان ج۱۱

297
  • [سورة الرعد (١٣): الآیات ٥ الی ٦]

  • {وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولَئِكَ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٥ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاَتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‌ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٦} 

  • (بيان) 

  • عطف على بعض ما كان يتفوه به المشركون في الرد على الدعوة و الرسالة كقولهم: أنى يمكن بعث الإنسان بعد موته و صيرورته ترابا؟ و قولهم: لو لا أنزل علينا العذاب الذي ينذرنا به و متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ و الجواب عن ذلك بما يناسب المقام. 

  • قوله تعالى: {وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى آخر الآية قال في المجمع: العجب و التعجب‌ هجوم ما لا يعرف سببه على النفس و الغل‌ طوق تشد به اليد إلى العنق انتهى. 

  • أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقية ما أنزله إلى نبيه من معارف الدين في كتابه ملوحا إلى أن آيات التكوين تهدي إليه و تدل عليه و أصولها التوحيد و الرسالة و البعث ثم فصل القول في دلالة الآيات التكوينية على ذلك و استنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبية و البعث بالتصريح، و يستلزم ذلك حقية الرسالة و الكتاب المنزل الذي هو آيتها، 

تفسير الميزان ج۱۱

298
  • فلما اتضح ذلك و استنار تمهدت الطريق لذكر شُبه الكفار فيما يرجع إلى الأصول الثلاثة، فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم في البعث و سيتعرض لشبههم و أقاويلهم في الرسالة و التوحيد في الآيات التالية. 

  • و شبهتهم في ذلك قولهم: {أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أورده بعنوان أنه عجب أحرى به أن يتعجب منه لظهور بطلانه و فساده ظهورا لا مسوغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلو تفوه به إنسان لكان من موارد العجب فقال: {وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} إلخ. 

  • و معنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلق {تَعْجَبْ} إن تحقق منك تعجب و لا محالة يتحقق لأن الإنسان لا يخلو منه فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلق به تعجبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذو لب و حجى. 

  • و قولهم: {أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب و ينعدم عند ذلك الإنسان الذي هو الهيكل اللحمي الخاص المركب من أعضاء خاصة المجهز بقوى مادية على زعمهم و كيف يشمل الخلقةُ أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديدا؟! 

  • و لشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كل واحدة منها بما يناسبها و يحسم مادتها: 

  • فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنسانا سويا، و قد أجيب عنه بأن إمكان استحالة المواد الأرضية منيا ثم المني علقة ثم العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سوي و وقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنسانا سويا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (الآية) الحج: ٥. 

  • و منها: استبعاد إيجاد الشي‌ء بعد عدمه. و أجيب بأنه مثل الخلق الأول فليجز كما جاز قال تعالى: {وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا 

تفسير الميزان ج۱۱

299
  • اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} يس: ٧٩. 

  • و منها: أن الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتى تتلبس بالخلق الجديد و لا إنسان بعد الموت و الفوت إلا في تصور المتصور دون الخارج بنحو. 

  • و قد أجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أن الإنسان ليس هو البدن المركب من عدة أعضاء مادية حتى ينعدم من أصله ببطلان التركيب و انحلاله، بل حقيقته روح علوية و إن شئت قلت: نفس متعلق بهذا المركب المادي تستعمله في أغراضه و مقاصده و بها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصية و إن تغير بدنه و تبدل بمرور السنين و مضي العمر، ثم الموت هو أن يأخذها الله من البدن و تقطع علقتها به ثم البعث هو أن يجدد الله خلق البدن و تعليقها به و هو القيام لله لفصل القضاء. 

  • قال تعالى: {وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‌ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} الم السجدة: ١١ يقول إنكم بالموت لا تضلون في الأرض و لا تنعدمون بل الملك الموكل بالموت يأخذ الأمر الذي تدل عليه لفظة «كم» و «نا» و هي النفوس فتبقى في قبضته و لا تضل ثم إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم و أنتم أنتم. 

  • فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية و له عيشة في دار أخرى باقية ببقاء الله و لا يتمتع في حياته الثانية إلا بما يكتسبه في حياته الأولى من الإيمان بالله و الأعمال الصالحة و يُعِدّه في يومه لغده؛ من مواد السعادة فإن اتبع الحق و آمن بآيات الله سعد في أخراه بكرامة القرب و الزلفى و ملك لا يبلى، و إن أخلد إلى الأرض و انكب على الدنيا و أعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء و البوار و غل بأغلال الخيبة و الخسران في مهبط اللعن و حضيض البعد و كان من أصحاب النار. 

  • و إذا عرفت هذا الذي قدمناه و تأملته تأملا كافيا بان لك أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} إلى آخر الآية ليس بمجرد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين: {أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} على ما يتخيل في بادئ النظر بل جواب بلازم القول. 

  • و توضيح ذلك أن لازم قولهم: إن الإنسان إذا مات و صار ترابا بطلت الإنسانية 

تفسير الميزان ج۱۱

300
  • و انعدمت الشخصية أن يكون الإنسان صورة مادية قائمة بهذا الهيكل البدني المادي العائش بحياة مادية من غير أن تكون له حياة أخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الرب تعالى و يسعد بقربه و يفوز عنده، و بعبارة أخرى تكون حياته محدودة بهذه الحياة المادية غير أن تنبسط على ما بعد الموت و تدوم أبدا، و هذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبي إذ لا معنى لرب لا معاد إليه. 

  • و لازم ذلك أن يقصر الإنسان همه في المقاصد الدنيوية و الغايات المادية من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم و الملك العظيم فيسعى لقربه تعالى و يعمل في يومه لغده كالمغلول الذي لا يستطيع حراكا و لا يقدر على السعي لواجب أمره. 

  • و لازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم و عذاب دائم فإنه أفسد استعداد السعادة و قطع الطريق و هذه اللوازم الثلاث هي التي أشار تعالى إليه بقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ. 

  • فقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} إشارة إلى اللازم الأول و هو إعراض منكري المعاد عن العالم الربوبي و الحياة الباقية و الستر على ما عند الله من النعيم المقيم و الكفر به. 

  • و قوله: {وَ أُولَئِكَ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} إشارة إلى اللازم الثاني و هو الإخلاد إلى الأرض و الركون إلى الهوى و التقيد بقيود الجهل و أغلال الجحد و الإنكار، و قد مر في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} (الآية) البقرة: ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنية حقائق أو مجازات فراجع إليه. 

  • و قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إشارة إلى اللازم الثالث و هو مكثهم في العذاب و الشقاء. 

  • قوله تعالى: {وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاَتُ} إلى آخر الآية. قال في المجمع: الاستعجال‌ طلب التعجيل بالأمر و التعجيل‌ تقديم الأمر قبل وقته، و السيئة خصلة تسوء النفس و نقيضها الحسنة و هي خصلة تسر النفس، و المثلات‌ العقوبات واحدها مَثُلة بفتح الميم و ضم الثاء، و من قال في الواحد: مُثْلة بضم الميم و سكون الثاء قال في الجمع: مُثُلات بضمتين نحو غرفة و غرُفات، و قيل في الجمع: مثلات و مثلات - أي بسكون الثاء و فتحها - انتهى. 

تفسير الميزان ج۱۱

301
  • و قال الراغب في المفردات: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره و ذلك كالنكال و جمعه مثلات و مثلات أي بضم الميم أو فتحها و ضم الثاء و قد قرئ: من قبلهم المثلات، و المثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد و عضد. انتهى. 

  • و قوله: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ} ضمير الجمع للذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، و المراد باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاءً بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل سؤال الرحمة و العافية، و الدليل عليه قوله: {وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاَتُ} - و الجملة في موضع الحال - فإن المراد به العقوبات النازلة على الأمم الماضين القاطعة لدابرهم. 

  • و المعنى: يسألك الذين كفروا أن تنزل عليهم العقوبة الإلهية قبل الرحمة و العافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاءً و هم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الأمم الماضين الذين كفروا برسلهم و الآية في مقام التعجيب. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‌ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقَابِ} استئناف أو في موضع الحال، و يفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمرا عجيبا أي إن ربك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتى حال ظلمهم و ذو غضب شديد و قد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته و مغفرته و يسألون شديد عقابه و هم مستعجلون؟ إن ذلك لعجيب. 

  • و يظهر من هذا المعنى الذي يعطيه السياق: 

  • أولا: أن التعبير عنه تعالى بقوله: {رَبَّكَ} إنما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيين لا يأخذونه تعالى ربا بل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الذي يأخذه ربا من بين قومه. 

  • و ثانيا: أن المراد بالمغفرة و العقاب هو الأعم من المغفرة و العقوبة الدنيويتين فإن المشركين إنما كانوا يستعجلون بالسيئة و العقوبة الدنيويتين، و المثلات التي يذكر الله تعالى أنها خلت من قبلهم إنما هي العقوبات الدنيوية النازلة عليهم. 

  • على أن العفو و المغفرة لا يختصان بما بعد الموت أو بيوم القيامة و لا أن آثارهما تختص بذلك، و قد تقدم ذلك مرارا فله تعالى أن يبسط مغفرته على كل من شاء حتى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، و له أن يعاقب قال تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ 

تفسير الميزان ج۱۱

302
  •  عِبَادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} المائدة: ١١٨. 

  • و لهذه النكتة عبر تعالى عن مورد المغفرة بقوله: {لِلنَّاسِ} و لم يقل للمؤمنين أو للتائبين و نحو ذلك فلو التجأ أي واحد من الناس إلى رحمته و سأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر و المؤمن و المعاصي الكبيرة و الصغيرة غير أن المشرك لو سأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، و الله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } النساء: ٤٨. 

  • فكان على هؤلاء الذين كفروا أن يسألوه تعالى و يستعجلوا به أن يغفر لهم شركهم أو ما يتفرع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به و برسوله أو أن يسألوه العافية و البركة و خير المال و الولد على كونهم ظالمين فإنه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتى بمن لا يؤمن به و لا ينقاد له، و أما الظلم حال ما يتلبس به الظالم فإن المغفرة لا تجامعه و قد قال تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} الجمعة: ٥. 

  • و ثالثا: أن قوله: {لَذُو مَغْفِرَةٍ} و لم يقل: لغفور أو غافرة كأنه للتحرز من أن يدل على فعلية المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شي‌ء. 

  • و يمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر و هو أنه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، و لا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، و هذا يوجب تغيرا في بعض ما تقدم من نكت الآية غير أنه غير ظاهر من السياق. 

  • و في الآية مشاجرات بين المعتزلة و غيرهم من أهل السنة و هي مطلقة لا دليل على تقييدها بشي‌ء إلا بما في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (الآية) النساء: ٤٨. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: {وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‌ 

تفسير الميزان ج۱۱

303
  •  ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقَابِ} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لو لا عفو الله و تجاوزه ما هنأ لأحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لاتكل كل أحد. 

  • [سورة الرعد (١٣): الآیات ٧ الی ١٦]

  • {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ٧ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ٨ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ ٩ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ ١٠لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ١١ هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحَابَ اَلثِّقَالَ ١٢ وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ هُمْ يُجَادِلُونَ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ ١٣ لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‌ءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ١٤ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً 

تفسير الميزان ج۱۱

304
  • وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ ١٥ قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمَاتُ وَ اَلنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ١٦} 

  • (بيان) 

  • تتعرض الآيات لقولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} و ترده عليهم أن الرسول ليس له إلا أنه منذر أرسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه. 

  • قوله تعالى: {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحق و الباطل المهلكة للأمة و هي المذكورة في الآية السابقة بقوله: {وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ} بأن يكون تكرارا لها و ذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، و لو أريد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و يقولون لو لا «إلخ». 

  • بل المراد أنهم يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية أخرى غير القرآن تدل على صدقه في دعوى الرسالة و كانوا يحقرون أمر القرآن الكريم و لا يعبئون به و يسألون آية أخرى معجزة كما أوتي موسى و عيسى و غيرهما (عليه السلام) فكان في قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} تعريض منهم للقرآن. 

  • و أما قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فإعطاء جواب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في توجيه الخطاب إليه دونهم و عدم أمره أن يبلغ الجواب إياهم تعريض لهم أنهم لا يستحقون 

تفسير الميزان ج۱۱

305
  • جوابا لعدم فقههم به و فقدهم القدر اللازم من العقل و الفهم و ذلك أن اقتراحهم الآية مبني على زعمهم - كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب - على أن من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله أن يوجد ما أراد و عليه أن يوجد ما أريد منه. 

  • و الحال أن الرسول ليس إلا بشرا مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله و يحذرهم أن يستكبروا عن عبادته و يفسدوا في الأرض بناء على السنة الإلهية الجارية في خلقه أنه يهدي كل شي‌ء إلى كماله المطلوب و يدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم و معادهم. 

  • فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و ليس عليه إلا تبليغ رسالة رب، و أما الآيات فأمرها إلى الله ينزلها إن شاء و كيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض. 

  • فالمعنى: أنهم يقترحون عليك آية - و عندهم القرآن أفضل آية - و ليس إليك شي‌ء من ذلك و إنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار و قد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم. 

  • و الآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق إما نبي منذر و إما هاد غيره يهدي بأمر الله و قد مر بعض ما يتعلق بالمقام في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في أبحاث الإمامة في الجزء الأول من الكتاب. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} قال في المفردات: غاض الشي‌ء و غاضه غيره‌ نحو نقص و نقصه غيره قال تعالى: {وَ غِيضَ اَلْمَاءُ} {وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ} أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض و الغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه و ليلة غائضة أي مظلمة انتهى. 

  • و على هذا فالأنسب أن تكون الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله: {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌} و {مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ} و {مَا تَزْدَادُ} إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيام الحمل فما تحمله كل أنثى هو الجنين الذي تعيه و تحفظه و ما تغيضه الأرحام هو دم 

تفسير الميزان ج۱۱

306
  • الحيض تنصب فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، و ما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى خارج كدم النفاس و الدم أو الحمرة التي تراها أيام الحمل أحيانا و هو الذي يظهر من بعض ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و ربما ينسب إلى ابن عباس. 

  • و أكثر المفسرين على أن المراد بما تغيض الأرحام الوقت الذي تنقصه الأرحام من مدة الحمل و هي تسعة أشهر، و المراد بما تزداد ما تزيد على ذلك. 

  • و فيه خلوّه عن شاهد يشهد عليه فإن الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة التي لا غنى لها عن القرينة. 

  • و يروى عن بعضهم أن المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقل مدة الحمل و هي ستة أشهر و هو السقط و بما تزداد ما يولد لأقصى مدة الحمل، و عن بعض آخر أن الغيض النقصان من الأجل و الإزدياد الإزدياد فيه. 

  • و يرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، و قد عرفت أن الأنسب بسياق الآية النقص و الزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم. 

  • و قوله: {وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} المقدار هو الحد الذي يحد به الشي‌ء و يتعين و يمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشي‌ء الموجود عن تعين في نفسه و امتياز من غيره و لو لا ذلك لم يكن موجودا البتة. 

  • و هذا المعنى أعني كون كل شي‌ء مصاحبا لمقدار و قرينا لحد لا يتعداه حقيقة قرآنية تكرر ذكرها في كلامه تعالى كقوله: {قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدْراً} الطلاق: ٣، و قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١ و غير ذلك من الآيات. 

  • فإذا كان الشي‌ء محدودا بحد لا يتعداه و هو مضروب عليه ذلك الحد عند الله و بأمره و لن يخرج من عنده و إحاطته و لا يغيب عن علمه شي‌ء كما قال: {إِنَّ اَللَّهَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيدٌ} الحج: ١٧ و قال: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ مُحِيطٌ} حم السجدة: ٥٤، و قال: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} السبأ: ٣ فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد. 

  • فذيل الآية أعني قوله: {وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} تعليل لصدرها أعني قوله: 

تفسير الميزان ج۱۱

307
  • {اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌} إلخ، و الآية و ما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أن الله يعلم بكل شي‌ء و يقدر على كل شي‌ء و يجيب الدعوة و يخضع له كل شي‌ء فهو أحق بالربوبية فإليه أمر الآيات لا إليك و إنما أنت منذر. 

  • قوله تعالى: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ} الغيب و الشهادة كما سمعت مرارا معنيان إضافيان فالشي‌ء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شي‌ء و شهادة بالنسبة إلى آخر و ذلك أن الأشياء - كما تقدم - لا تخلو من حدود تلزمها و لا تنفك عنها فما كان من الأشياء داخلا في حد الشي‌ء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه و ما كان خارجا عن حد الشي‌ء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه. 

  • و من هنا يظهر أن الغيب لا يعلم به إلا الله سبحانه؛ أما أنه لا يصير معلوما لشي‌ء فلأن العلم نوع إحاطة و لا معنى لإحاطة الشي‌ء بما هو خارج عن حد وجوده أجنبي عن إحاطته، و أما أنه تعالى يعلم الغيب فلأنه تعالى غير محدود الوجود بحد و هو بكل شي‌ء محيط فلا يمتنع شي‌ء عنه بحده فلا يكون غيبا بالنسبة إليه و إن فرض أنه غيب بالنسبة إلى غيره. 

  • فيرجع معنى علمه بالغيب و الشهادة بالحقيقة إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب و الشهادة اللذان يتحققان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، و يصير معنى قوله: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ} أن الذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم و هو الذي لا يخرج عن حد وجودهم و الذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكل شي‌ء. 

  • و قوله {اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ} اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، و الكبر و يقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإن الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر و زيادة كان كبيرا و ما لم يكن كذلك كان صغيرا، ثم توسعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، و الذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنه تعالى يملك كل كمال لشي‌ء و يحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال و زيادة. 

تفسير الميزان ج۱۱

308
  • و المتعال‌ صفة من التعالي و هو المبالغة في العلو كما يدل عليه قوله: {تَعَالى‌ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً} أسرى: ٤٣ فإن قوله: {عُلُوًّا كَبِيراً} مفعول مطلق لقوله: {تَعَالى‌} و موضوع في محل قولنا: «تعاليا» فهو سبحانه علي و متعال أما أنه علي فلأنه علا كل شي‌ء و تسلط عليه و العلو هو التسلط، و أما أنه متعال فلأن له غاية العلو لأن علوه كبير بالنسبة إلى كل علو فهو العالي المتسلط على كان عال من كل جهة. 

  • و من هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ} بقوله: {اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ} لأن مفاد مجموع الاسمين أنه سبحانه محيط بكل شي‌ء متسلط عليه و لا يتسلط عليه و لا يغلبه شي‌ء من جهة البتة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة و لا يتسلط عليه و لا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلط عليه شهادة فهو عالم الغيب و الشهادة لأنه كبير متعال. 

  • قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ} السَرَب‌ بفتحتين و السروب: الذهاب في حدور و سيلان الدمع و الذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا و سروبا نحو مر مرا و مرورا. كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه. 

  • و الآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالما بالغيب و الشهادة على سواء فسواء منكم من أسر القول و من جهر به أي بالقول و الله سبحانه يعلم بقولهما و يسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسر بقوله، و سواء منكم من هو مستخف بالليل يستمد بظلمة الليل و إرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين و من هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته. 

  • قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} إلخ، ظاهر السياق أن الضمائر الأربع: {لَهُ} {يَدَيْهِ} {خَلْفِهِ} {يَحْفَظُونَهُ} مرجعها واحد و لا مرجع يصلح لها جميعا إلا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله: {مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ} إلخ، فهذا الإنسان الذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الذي له معقبات من بين يديه و من خلفه. 

تفسير الميزان ج۱۱

309
  • و تعقيب الشي‌ء إنما يكون بالمجي‌ء بعده و الإتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} إنما يتصور إذا كان سائرا في طريق، ثم طاف عليه المعقبات حوله و قد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى‌ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} الانشقاق: ٦ و في معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله: {وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يس: ٨٣ {وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} العنكبوت: ٢١ فللإنسان و هو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه و من خلفه. 

  • ثم من المعلوم من مشرب القرآن أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني و البدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس و بدن و العمدة فيما يرجع إليه من الشئون هي نفسه فلها الشعور و الإرادة و إليها يتوجه الأمر و النهي و بها يقوم الثواب و العقاب و الراحة و الألم و السعادة و الشقاء، و عنها يصدر صالح الأعمال و طالحها، و إليها ينسب الإيمان و الكفر و إن كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها و مآربها. 

  • و على هذا يتسع معنى ما بين يدي الإنسان و ما خلفه فيعم الأمور الجسمانية و الروحية جميعا فجميع الأجسام و الجسمانيات التي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه و بين يديه و بعضها واقعة خلفه، و كذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه و الحالات الروحية التي يعتورها و يتقلب فيها من قرب و بعد و غير ذلك و السعادة و الشقاء و الأعمال الصالحة و الطالحة و ما ادخر لها من الثواب و العقاب كل ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه و لهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أن لها تعلقا بالإنسان. 

  • و الإنسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا لا يقدر على حفظ شي‌ء من نفسه و لا آثار نفسه الحاضرة عنده و الغائبة عنه، و إنما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: {اَللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} الشورى: ٦ و قال: {وَ رَبُّكَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ} السبأ: ٢١ و قال يذكر الوسائط في هذا الأمر {وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } الانفطار: ١٠. 

  • فلولا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة و معقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها و أسرع إليها الهلاك من بين أيديها و من خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شأنه كذلك فناؤها و هلاكها و فسادها بأمر من الله لأن الملك لله لا يدبر أمره و لا 

تفسير الميزان ج۱۱

310
  • يتصرف فيه إلا هو سبحانه فهو الذي يهدي إليه التعليم القرآني، و الآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها. 

  • و الملائكة أيضا إنما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} النحل: ٢، و قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الأنبياء: ٢٧. 

  • و من هنا يظهر أن هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإن جانب الفناء و الهلاك و الضيعة و الفساد بأمر الله كما أن جانب البقاء و الاستقامة و الصحة بأمر الله فلا يدوم مركب جسماني إلا بأمر الله كما لا ينحل تركيبه إلا بأمر الله، و لا تثبت حالة روحية أو عمل أو أثر عمل إلا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط و لا يطرأ عليه الزوال إلا بأمر من الله فالأمر كله لله و إليه يرجع الأمر كله. 

  • و على هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله في الآية المبحوث عنها: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ}

  • و بما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} و أنه في موضع التعليل لقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} و المعنى أنه تعالى إنما جعل هذه المعقبات و وكلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغير في شي‌ء مما هو عليه لأن سنته جرت أن لا يغير ما بقوم من الأحوال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا. 

  • و الآية أعني قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ} إلخ، يدل بالجملة على أن الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسية الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحا أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‌ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا} الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيروا حالهم في أنفسهم غير الله سبحانه حالهم الخارجية بتغيير النعم نقما. 

تفسير الميزان ج۱۱

311
  • و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أن بين حالات الإنسان النفسية و بين الأوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتى يغيروا فيكفروا و يفسقوا فيغير الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتى يغيروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغير الله نقمه نعما و هكذا. هذا. 

  • و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصة ما تعقبه من قوله {وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فإنه أصدق شاهد على أنه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتى يغيروا فالتغيير لما كان إلى السيئة كان الأصل أعني {مَا بِقَوْمٍ} لا يراد به إلا الحسنة فافهم ذلك. 

  • على أن الله سبحانه يقول: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: ٣٠فيذكر أنه يعفو عن كثير من السيئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجية في جانب الشر بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى‌ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الأنفال: ٥٣. 

  • و أما قوله تعالى: {وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فإنما دخل في الحديث لا بالقصد الأولي لكنه تعالى لما ذكر أن كل شي‌ء عنده بمقدار و أن لكل إنسان معقبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغير أو يضطرب في وجوده و النعم التي أوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيرها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ وجب أن يذكر أن هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضا من الأمور المحكمة المحتومة التي ليس لمانع أن يمنع من تحققها، و إنما أمره إلى الله لا حظّ فيه لغيره، و بذلك يتم أن الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشر و هم مأخوذ عليهم و في قبضته. 

  • فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوءً و لا يريد ذلك إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من سمات معبودية و مقتضيات الفطرة فلا مرد لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال. 

  • ثم قوله: {وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} عطف تفسيري على قوله: {إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} و يفيد معنى التعليل له فإنه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم 

تفسير الميزان ج۱۱

312
  • إلا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من السوء. 

  • فقد بان من جميع ما تقدم أن معنى الآية على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أن لكل من الناس على أي حال كان معقبات يعقبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغير حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الذي يغير الحال إنما يؤثر أثره إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له لأنهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتى يرد ما أراد الله بهم من سوء. 

  • و قد تبين بذلك أمور: 

  • أحدها: أن الآية كالبيان التفصيلي لما تقدم في الآيات السابقة من قوله: {وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} فإن الجملة تفيد أن للأشياء حدودا ثابتة لا تتعداها و لا تتخلف عنها عند الله حتى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصل القول في الإنسان أن له معقبات من بين يديه و من خلفه موكلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلق به من أن يهلك أو يتغير عما هو عليه، و لا يهلك و لا يتغير إلا بأمر آخر من الله. 

  • الثاني: أنه ما من شي‌ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلا و عليه ملك موكل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتى يغير فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنية. 

  • الثالث: أن هناك أمرا آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنه يؤثر فيما إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‌ء الأجل المسمى الذي لا يختلف و لا يتخلف، قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} الأحقاف: ٣ و قال: {إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ} نوح: ٤. 

  • الرابع: أن أمره تعالى هو المهيمن المتسلط على متون الأشياء و حواشيها على أي حال و أن كل شي‌ء حين ثباته و حين تغيره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أن الأمر الإلهي ـ و إن كان مختلفا بقياس بعضه إلى بعض منقسما إلى أمر حافظ و أمر مغير ـ ذو 

تفسير الميزان ج۱۱

313
  • نظام واحد لا يتغير و قد قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هود ٥٦، و قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ} يس: ٨٣. 

  • الخامس: أن من القضاء المحتوم و السنة الجارية الإلهية التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كل قوم، و بين توارد النعم و البركات الظاهرية و الباطنية و نزولها من عند الله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيروا كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‌ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأعراف: ٩٦ و قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم: ٧ و قال: {هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ} الرحمن: ٦٠. 

  • هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أما شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله: {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا} جواز تغييره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليته، و لذلك غيّر السياق فقال: {وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مرد له. 

  • و يؤيد هذا المعنى قوله: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: ٣٠؛ حيث يدل صريحا على أن بعض التغيير عند التغيير معفوٌ عنه. 

  • و أما الفرد من النوع فالكلام الإلهي يدل على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنوية و على التغير عند التغير دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانية. 

  • و الحكمة في ذلك كله ظاهرة فإن التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإن الله جعل للأنواع غايات و جهزها بما يسوقها إلى غاياتها ثم بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كأن المجموع شيئا واحدا لا معاندة و لا مضادة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كل نوع في عافية و نعمة و كرامة حتى يبلغ غايته؛ فإذا لم ينحرف النوع الإنساني عن مقتضى فطرته الأصلية و لا منحرف من الأنواع ظاهرا غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشدا، و أما إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البر و البحر بما كسبت 

تفسير الميزان ج۱۱

314
  • أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلهم يرجعون. 

  • و هذا المعنى كما لا يخفى إنما يتم في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامة المفاضة عليهم، و لا يجري في الأشخاص لأن الأشخاص ربما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإن بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} الدخان: ٣٨ و قد تقدم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب

  • و بما تقدم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنها تفيد بظاهرها أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من عدم جواز أخذ العامة بذنوب الخاصة هذا فإنه أجنبي عن مفاد الآية بالكلية. 

  • هذا بعض ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتى: 

  • من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} فمن قائل: إن الضمير راجع إلى {مَنْ} في قوله: {مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ} إلخ، كما قدمناه، و من قائل: إنه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه؛ و فيه أنه يستلزم اختلاف الضمائر، على أنه يوجب وقوع الالتفات في قوله: {مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إن الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآية تذكر أن الملائكة يحفظونه، و فيه أنه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه، على أنه يوجب عدم اتصال الآية بسوابقها و لم يتقدم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكر. 

  • و من قائل: إن الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار، و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه. 

  • و من ذلك اختلافهم في معنى المعقبات فقيل: إن أصله المعتقبات صار معقبات بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و رد بأنه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنه يطأ عقبه أي مؤخر قدمه فقيل: إن المعقبات ملائكة يعقبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه 

تفسير الميزان ج۱۱

315
  • و يحفظونه كما تقدم، و قيل: المعقبات كتّاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقب بعضهم بعضا فملائكة الليل تعقب ملائكة النهار و هم يعقبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنه خلاف ظاهر قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} على أن فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه. 

  • و قيل: المراد بالمعقبات الأحراس و الشُرط و المواكب الذين يعقبون الملوك و الأمراء و المعنى: أن لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الأمراء معقبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى. 

  • و من ذلك اختلافهم في قوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} فقيل: إنه متعلق بمعقبات أي يعقبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أن التعقيب لا يتحقق إلا من خلف، و قيل: متعلق بقوله: {يَحْفَظُونَهُ} و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدم. 

  • و من جهة أخرى قيل: إن المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدم من أعماله و ما تأخر يحفظها عليه الملائكة الحفظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشئون الجسمية و الروحية مما له في حاضر حاله و ما خلفه وراءه و هو الذي قدمناه. 

  • و من ذلك اختلافهم في معنى قوله: {يَحْفَظُونَهُ} فقيل هو بمعنى يحفظون عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضار. 

  • و من ذلك اختلافهم في قوله: {مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} فقيل: هو متعلق بقوله: {مُعَقِّبَاتٌ} و إن قوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} و قوله: {يَحْفَظُونَهُ} و قوله: {مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} ثلاث صفات لمعقبات. و فيه أنه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلق بقوله: {يَحْفَظُونَهُ} و {مِنْ} بمعنى الباء للسببية أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلق بيحفظونه و {مِنْ} للابتداء أو للنشو أي يحفظونه مبتدأ ذلك أو ناشئا ذلك 

تفسير الميزان ج۱۱

316
  • من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن {مِنْ} بمعنى «عن» أي يحفظونه عن أمر الله أن يحل به و يغشاه و فسروا الحفظ من أمر الله بأن الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعله يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غني عن البيان. 

  • و من ذلك اختلافهم في اتصال قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} إلخ، فقيل: متصل بقوله: {سَارِبٌ بِالنَّهَارِ} و قد تقدم معناه، و قيل: متصل بقوله: {اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌} أو قوله: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ} أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متصل بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} الآية يعني أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) محفوظ بالملائكة. و الحق أنه متصل بقوله: {وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} و نوع بيان له، و قد تقدم ذكره. 

  • و من ذلك اختلافهم في اتصال قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} إلخ، فقيل: إنه متصل بقوله: {وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الآية أي أنه لا ينزل العذاب إلا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتى لو علم أن فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متصل بقوله: {سَارِبٌ بِالنَّهَارِ} يعني أنه إذا اقترف المعاصي فقد غير ما به من سمة العبودية و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان كما ترى بعيدان من السياق و الحق أن قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} إلخ، تعليل لما تقدمه من قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} و قد مر بيانه. 

  • قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحَابَ اَلثِّقَالَ} السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال. 

  • و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله: {يُرِيكُمُ} و قوله: {يُنْشِئُ} يؤيد المعنى الأول. 

  • و قوله: {خَوْفاً وَ طَمَعاً} مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير {يُرِيكُمُ} أي خائفين و طامعين. 

تفسير الميزان ج۱۱

317
  • و المعنى: هو الذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أن المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البر يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات التي تثقل بالمياه التي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر. 

  • قوله تعالى: {وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} إلخ، الصواعق‌ جمع صاعقة و هو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل‌ المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال‌ بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبين أيهما أشد و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله: {وَ هُمْ يُجَادِلُونَ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ} معناه و الله أعلم أن الوثنيين و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية أربابهم كالتمسك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم. 

  • قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‌ءٍ} إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي و يتأتى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعو على الداعي عن دعائه، و أما اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما. 

  • نعم: الدعاء إنما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن أن يوجه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أما دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء و إن كان في صورته. 

  • و لما كانت الآية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله {لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ} و بين قوله: {وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} إلخ، الذي يذكر أن دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف دعاء الكافرين بأنه في ضلال علمنا بذلك أن المراد بقوله: {دَعْوَةُ اَلْحَقِّ} الدعوة الحقة غير الباطلة و هي الدعوة التي يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة، و هذا من صفاته تعالى و تقدس فإنه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغني ذو الرحمة و قد قال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ 

تفسير الميزان ج۱۱

318
  • اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة: ١٨٦ و قال: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} المؤمن: ٦٠فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلا أن تتحقق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلق ذلك الدعاء به تعالى لا غير. 

  • فلفظة دعوة الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقة بعناية أن الحق و الباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق و هو الذي لا يتخلف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة. 

  • فهو تعالى لما ذكر في الآيات السابقة أنه عليم بكل شي‌ء و أن له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أن له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حق الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره. 

  • أما الأول فقوله: {لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ} و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيده ما بعده من نفيه عن غيره، و أما الثاني فقوله: {وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‌ءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ} و قد أخبر فيه أن الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‌ء و قد بين ذلك في مواضع من كلامه فإن هؤلاء المدعوين إما أصنام يدعوهم عامتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إما أرباب الأصنام من الملائكة أو الجن و روحانيات الكواكب و البشر كما ربما يتنبه له خاصتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكيف بغيرهم و لله الملك كله و له القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى. 

  • ثم استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ}

  • فإن الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثم يبسط كفيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أما الظمآن البعيد من الماء يريد الري لكن لا يأتي من أسبابه بشي‌ء غير أنه يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه و ليس له من طلبه إلا صورته فقط. 

  • و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له 

تفسير الميزان ج۱۱

319
  • من الدعاء إلا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشي‌ء و لا يقضون حاجتهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلا صورة الطلب ببسط الكفين. 

  • و من هنا يعلم أن هذا الاستثناء {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمن إلا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإن مفاده أن الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة أخرى لن ينالوا بدعائهم إلا أن لا ينالوا شيئا أي لن ينالوا شيئا البتة. 

  • و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي: {قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا} و آكد منه كما سيجي‌ء إن شاء الله. 

  • و قد تبين بما تقدم: 

  • أولا: أن قوله: {دَعْوَةُ اَلْحَقِّ} المراد به حق الدعاء و هو الذي يستجاب و لا يرد البتة، و أما قول بعضهم: إن المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق. 

  • و ثانيا: أن تقدير قوله {وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ} إلخ، بإظهار الضمائر: الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب أولئك المدعوون للمشركين بشي‌ء. 

  • و ثالثا: أن الاستثناء من قوله: {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‌ءٍ} و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‌ء و لا ينيلونهم شيئا إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعل الاستجابة مضمن معنى النيل و نحوه. 

  • ثم أكد سبحانه الكلام بقوله: {وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة أخرى و هي أنه لا غرض لدعاء إلا الله سبحانه فإنه العليم القدير و الغني ذو الرحمة فلا طريق له إلا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقدَ الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق، فضلّ دعاؤه فإن الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب. 

تفسير الميزان ج۱۱

320
  •  قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ} السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى: {وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً} يوسف: ١٠٠، و قال: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة. 

  • و الكُره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشقة، فإن حُمل عليه من خارج فهو الكَره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكُره بضمها و الطوع يقابل الكره مطلقا. 

  • و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أول النهار، و قوبل في القرآن الغدو بالآصال نحو قوله: {بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ} و قوبل الغداة بالعشي قال: {بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ} انتهى و الغدو جمع غداة كقنى و قناة و قال في المجمع: الآصال‌ جمع أُصُل بضمتين و أُصُل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنه أصل الليل الذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى. 

  • و الأعمال الاجتماعية التي يؤتى بها لأغراض معنوية كالتصدر الذي يمثل به الرئاسة و التقدم الذي يمثل به السيادة و الركوع الذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الذي يظهر به نهاية تذلل الساجد و ضعته قبال تعزز المسجود له و اعتلائه، تسمى غاياتها بأساميها كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما و كما أن الانحناء الخاص ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاص ركوع و كما أن الخرور على الأرض سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية أن الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل. 

  • و هذه النظرة هي التي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء، كقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } البقرة: ١١٦ و قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أسرى: ٤٤ و قوله: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} الرحمن: ٢٩ و قوله: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} النحل: ٤٩. 

  • و الفرق بين هذه الأمور المنسوبة إلى الأشياء الكونية و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنساني أن الغايات موجودة في القسم الأول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني 

تفسير الميزان ج۱۱

321
  • فإنها إنما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلة المكونات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلة و ضعة حقيقية بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنه ذلة و ضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربما يتخلف. 

  • فقوله تعالى: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} أخذ بما تقدم من النظر و لعله إنما خص أولي العقل بالذكر حيث قال: {مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} مع شمول هذه الذلة و الضعة جميع الموجودات ـ كما في آية النحل المتقدمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال: {وَ ظِلاَلُهُمْ} إلخ ـ لأنّ الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكان في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتى أن ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه. 

  • ثم إن هذا التذلل و التواضع، الذي هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز و علا، خضوع ذاتي لا ينفك عنها و لا يتخلف فهو بالطوع البتة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‌ء حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} حم السجدة: ١١. 

  • فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم البتة غير أن هناك عناية أخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أن بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم، مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب أخر و هي الأشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التي ربما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة و لا شك أن مخالف الطبع مكروه كما أن ما يلائمه مطلوب. 

  • فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشئون الراجعة إليها غير أنها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون. 

تفسير الميزان ج۱۱

322
  • و مما تقدم يظهر فساد قول بعضهم إن المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير أن المؤمن يسجد طوعا و الكافر يسجد خوفا من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن. 

  • و كذا قول بعض: إن المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل إلا أن ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحل به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائي. 

  • و كذا قول آخرين: إن المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من أولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخص أولي العقل للتغليب. 

  • و أما قوله: {وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ} ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإن الظل و إن كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلا أن له آثارا خارجية و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له. 

  • و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنما خص الغدو و الآصال بالذكر لا لما قيل: إن المراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو أريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله: {وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى‌} طه: ١٣٠. 

  • بل النكتة فيه - و الله أعلم - أن الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثلان للحس السقوط على الأرض و ذلة السجود، و أما وقت الظهيرة و أوساط النهار فربما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور. 

  • و لا شك في أن سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيؤها، و ليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‌ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ} النحل: ٤٨ فإن العناية بذلك ظاهرة فيه. 

تفسير الميزان ج۱۱

323
  • و ليس ذلك قولا شعريا و تصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نص أنه ليس بشعر، بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحس نوع ظهور و يتمثل لها بوجه كان من الحري أن يستمد به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحس و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنه من الحس و الخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه. 

  • و من هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الظلال المتفيئة من الأجسام المنتصبة بالغدو و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من أولي العقل. 

  • و من هذا الباب أيضا ما تقدم من قوله: {وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الذي يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح و السحاب و البرق، مع أن الأشياء قاطبة مسبحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتي منهم و دلالته دلالة ذاتية عقلية غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكن الرعد بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذي يقوم بذات كل شي‌ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع. 

  • و يقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى: {رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} و قوله: {وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} الآية إن التمسك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالأمور المجهول أسبابها عند الحس ليس لأن سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الأمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإن القرآن الكريم ينص على عموم قانون السببية و أنه تعالى فوق الجميع بل لأن الأمور التي لا تظهر أسبابها على الحس لبادئ نظرة تنبه الأفهام البسيطة و تمثل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أول هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‌ء كثير. 

تفسير الميزان ج۱۱

324
  • و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدو و الآصال على الأرض سجودا منها لله سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التي لها في ذواتها بمثال حسي ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقلية. 

  • هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، و أما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنها توجد كما شاء أو القول بأن المراد بالظل هو الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه فإن هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها. 

  • قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا} الآية بما تشتمل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة. 

  • و ذلك أن الآيات السابقة تبين بأوضح البيان أن تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‌ء إلى الله سبحانه كما أن خلقها منه و أنه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أن كل من دونه مخلوق مدبر لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و ينتج ذلك أنه الرب دون غيره. 

  • فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسجل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحق لهم بقوله: {مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} أي من هو الذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبر أمرها؟ ثم أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول: {اَللَّهُ} لأنهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبية و في ذلك تلويح إلى أنهم لا يعقلون حجة و لا يفقهون حديثا. 

  • ثم استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أن مقتضى ربوبيته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنه هو المالك للنفع و الضرر فكل من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا فكيف لغيره؟ فاتخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟! 

تفسير الميزان ج۱۱

325
  • و هذا هو المراد بقوله مفرعا على السؤال السابق: {قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا} أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك؛ أي إذا كان الله سبحانه هو رب السماوات و الأرض فقد قلتم ـ باتخاذكم أولياء آلهة من دونه ـ قولا يكذبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبية لهم. 

  • و بالتأمل فيما قدمناه أن الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبين ما تقدم فمن رب السماوات و الأرض إلا الله؟ أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعا و لا ضرا؟! فالعدول عن التفريع إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرة بعد مرة إنما هو للتنزّه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن. 

  • قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمَاتُ وَ اَلنُّورُ} مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجة و إتمامها عليهم و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يضربهما لهم يبين بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجة الحقة و الآيات البينات غير المسلم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوي بينهما ببديهة عقله، و يبين بالثاني أن الكفر بالحق ظلمات كما أن الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحق نور كما أن المؤمن الآخذ به بصير و لا يستويان البتة؛ فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلموا للحق و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده. 

  • قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ } - إلى قوله - {وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} في التعبير بقوله: {جَعَلُوا} و {عَلَيْهِمْ} دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أن الكلام مصروف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم. 

  • ثم العود في جواب هذا الاحتمال الذي يتضمنه قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله: {قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} دليل على أن السؤال إنما هو عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائي لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلا لأنهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ} 

تفسير الميزان ج۱۱

326
  • لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرر تعالى نقل ذلك عنهم. 

  • فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكا في الخلق و الإيجاد و إنما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبية لا في توحيد الألوهية بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبية و تتم الحجة عليهم؛ لأن اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبية مع انتفاء هذه النعوت الكمالية. 

  • و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبية شركائهم مع الله سبحانه إلا أن ينكروا توحده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم. 

  • فكأنه تعالى إذ يقول: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): هؤلاء تمت عليهم الحجة في توحيد الربوبية من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلا أن يقولوا بشركة شركائهم في الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأن شركائهم خلقوا خلقا كخلقه ثم تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيتهم إجمالا مع الله. 

  • ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال: {قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ} و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها؛ أي أنه تعالى واحد في خالقيته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كل عدد و كثرة، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ:} يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهار، و تبين هناك أن مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحدية. 

  • و قد بان مما ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمل في ذلك و اعلم أن أكثر المفسرين اشتبه عليهم الحال في الحجج التي تقيمها الآيات القرآنية لإثبات ربوبيته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما أقيمت لإثبات الصانع فتنبه لذلك. 

تفسير الميزان ج۱۱

327
  • (بحث روائي) 

  • في الكافي بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك و تعالى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا المنذر و علي الهادي‌ الحديث. 

  • أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفار في البصائر، و العياشي و القمي في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة. 

  • و معنى قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «أنا المنذر و علي الهادي» أني مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و علي مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام، لا أن المراد بالمنذر هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد بالهادي هو علي (عليه السلام) فإن ذلك مناف لظاهر الآية البتة. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلمي و ابن عساكر و ابن النجار قال: لما نزلت: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي. 

  • أقول: و رواه الثعلبي في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

  • و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلمي قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالطهور و عنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: «إنما أنت منذر» و يعني نفسه ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: «و لكل قوم هاد» ثم قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القراء أشهد على ذلك أنك كذلك. 

  • أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزباني في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين. 

تفسير الميزان ج۱۱

328
  • و في الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و ابن عساكر عن علي بن أبي طالب: في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه. 

  • أقول: و من طرق أهل السنة في هذا المعنى روايات أخرى كثيرة. 

  • و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: كل إمام هادٍ لكل قوم في زمانهم.

  • و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم. 

  • و فيه بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنا المنذر و علي الهادي. يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتى رفعت إليك، فقال: رحمك الله يا أبا محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب و لكنه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى. 

  • أقول: و الرواية تشهد على ما قدمناه أن شمول الآية لعلي (عليه السلام) من الجري و كذلك يجري في باقي الأئمة، و هذا الجري هو المراد مما ورد أنها نزلت في علي (عليه السلام). 

  • و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ} قال: ما لم يكن حملا. {وَ مَا تَزْدَادُ} قال: الذكر و الأنثى جميعا. 

  • أقول: و قوله: الذكر و الأنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية. 

  • و فيه عن محمد بن مسلم و غيره عنهما (عليهما السلام) قال: {مَا تَحْمِلُ} كل من أنثى أو ذكر {وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ} قال: ما لم يكن حملا {وَ مَا تَزْدَادُ} عن أنثى أو ذكر. 

تفسير الميزان ج۱۱

329
  • و في الكافي، بإسناده عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله عز و جل: {اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ} قال: الغيض كل حمل دون تسعة أشهر {وَ مَا تَزْدَادُ} كل شي‌ء تزداد على تسعة أشهر فكلما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم.

  • أقول: و هذا معنى آخر و نقل عن بعض قدماء المفسرين. 

  • و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: {عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ} قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

  • أقول: ليس المراد من «ما لم يكن» المعدوم الذي ليس بشي‌ء بل الأمر الذي بالقوة ما لم يدخل في ظرف الفعلية، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و هو ظاهر. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن أربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فانتهيا إليه و هو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر: ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم قال: أ تجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك و لا لقومك و لكن لك أعنة الخيل. قال: فاجعل لي الوبر و لك المدر فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا. فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلا و رجالا، قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): يمنعك الله. 

  • فلما خرج أربد و عامر قال عامر: يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث، فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية و يكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام منه فخليا إلى الجدار و وقف معه عامر يكلمه، و سلّ أربد السيف فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سل سيفه و أبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرأى أربد و ما يصنع فانصرف عنهما، و قال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست. 

  • فلما خرج عامر و أربد من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى إذا كانا بحرة رقم نزلا فخرج 

تفسير الميزان ج۱۱

330
  • إليهما سعد بن معاذ و أسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوي الله لعنكما الله و وقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا أسيد بن حضير الكتائب. فقال: أما و الله إن كان حضير صديقا لي. 

  • حتى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، و خرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله: {اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‌} - إلى قوله - {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • ثم ذكر أربد و ما قتله فقال: {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ } إلى قوله {وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ}

  • أقول: و روي ما في معناه عن الطبري و أبي الشيخ عن ابن زيد و في آخره: و قال لبيد في أخيه أربد و هو يبكيه. 

  • أخشى على أربد الحتوف و لا***أرهب نوء السماء و الأسد 
  • فجعني الرعد و الصواعق***بالفارس يوم الكريهة النجد 
  • و ما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكية بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضا على ما مر من معناها. 

  • و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن علي: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} قال: ليس من عبد إلا و معه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلوا بينه و بين القدر.

  • أقول: و روي أيضا ما في معناه عن أبي داود في القدر و ابن أبي الدنيا و ابن عساكر عنه. و روي ما في معناه عن الصادقين (عليه السلام). 

  • و في تفسير العياشي، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال حدثنا هذه الآية: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ} (الآية) قال: من المقدمات المؤخرات المعقبات الباقيات الصالحات.

  • أقول: ظاهره أن الباقيات الصالحات من مصاديق المعقبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء و لا تحفظه إلا بالملائكة الموكلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدمناه 

تفسير الميزان ج۱۱

331
  • في بيان الآية، و يمكن أن تكون المقدمات المؤخرات نفس الباقيات الصالحات و رجوعه إلى ما قدمناه ظاهر. 

  • و فيه عن أبي عمرو المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبي كان يقول: إن الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة و ذلك قول الله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}

  • و فيه عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فصار الأمر إلى الله تعالى.

  •  أقول: إشارة إلى ما قدمناه من معنى الآية. 

  • و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن الفضل عن أبيه قال: سمعت أبا خالد الكابلي يقول: سمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس و الزوال عن العادة في الخير و اصطناع المعروف و كفران النعم و ترك الشكر، قال الله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

  • و فيه بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام) في قوله: {هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً} قال: خوفا للمسافر و طمعا للمقيم. 

  • و في تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ} يريد المكر. 

  • و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث رجلا إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عز و جل فقال للرسول: أخبرني عن هذا الذي تدعوني إليه أ من فضة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره بقوله فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ارجع إليه فادعه قال: يا نبي الله إنه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جل ثناؤه: {وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ هُمْ 

تفسير الميزان ج۱۱

332
  •  يُجَادِلُونَ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ}.

  • أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مر من قصة عامر و أربد و يزيد هذا الخبر أن قوله: {وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ} إلخ، بعض من آية و لا وجه لتقطيع الآيات في النزول. 

  • و في التفسير القمي قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} (الآية) أما من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة يسجدون لله طوعا، و أما من يسجد من أهل الأرض ممن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعا، و أما من يسجد له كرها فمن جبر على الإسلام و أما من لم يسجد فظله يسجد له بالغدو و الآصال.

  • أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإن الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته و علوه من في السماوات و الأرض أنفسهم و أظلالهم و هي تنبئ عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، و ظاهر الرواية أن السجدة بمعنى الخرور و وضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامة موجودة إما فيهم و إما في ظلالهم فإن سجدوا حقيقة طوعا أو كرها فهي و إلا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة و هذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال. 

  • على أنه لا يوافق العموم المتراءى من قوله: {وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ} و أوضح منه العموم الذي في قوله: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‌ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} النحل: ٤٩. 

  •  

  • [سورة الرعد (١٣): الآیات ١٧ الی ٢٦]

  • {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا 

تفسير الميزان ج۱۱

333
  • يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ ١٧ لِلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى‌ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسَابِ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ ١٨ أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ١٩ اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ ٢٠وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ ٢١ وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ ٢٢ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ٢٣ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ ٢٤ وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ ٢٥ اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ٢٦ } 

تفسير الميزان ج۱۱

334
  • (بيان) 

  • لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم أبان لهم الفرق الجلي بين الحق و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمَاتُ وَ اَلنُّورُ} أخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الطريقين طريق الحق الذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الذي هو الشرك و العمل السيئ و أهلهما الذين هم المؤمنون و المشركون، و أن للأولين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كله بمثل يبين به حال الحق و الباطل و أثر كل منهما الخاص به، ثم بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين. 

  • قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً} إلى آخر الآية قال في مجمع البيان: الوادي‌ سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، و القدر اقتران الشي‌ء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدْرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدَر شبر و قدْر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير. 

  • قال: و الاحتمال‌ رفع الشي‌ء على الظهر بقوة الحامل له، و يقال: علا صوته على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل. 

  • و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفراء: كل شي‌ء ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجي‌ء على فُعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء. 

  • و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتقدت و توقدت، و المتاع‌ ما تمتعت به، و المكث‌ السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكَث و مكُث - بفتح الكاف و ضمها - و تمكث أي تلبث. انتهى. 

  • و قال الراغب: الباطل‌ نقيض الحق و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال 

تفسير الميزان ج۱۱

335
  • تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ} و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عز و جل: {وَ بَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} و قال: {لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}. انتهى موضع الحاجة. 

  • فبطلان الشي‌ء هو أن يُقدر للشي‌ء نوعٌ من الوجود ثم إذا طبق على الخارج لم يثبت على ما قدر و لم يطابقه الخارج، و الحق بخلافه فالحق و الباطل يتصف بهما أولا الاعتقاد ثم غيره بعناية ما. 

  • فالقول نحو: "السماء فوقنا و الأرض تحتنا" يكون حقا لمطابقة الواقع إياه إذا فحص عنه و طبق عليه، و لقولنا: "السماء تحتنا و الأرض فوقنا" كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدر له من الثبات، و الفعل يكون حقا إذا وقع على ما قدر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحة مثلا إذا أثر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلا إذا لم يقع على ما قدر عليه من الغاية أو الأمر، و الشي‌ء الموجود في الخارج حق من جهة أنه موجود كما اعتقد كوجود الحق تعالى، و الشي‌ء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان موجودا لكن قدر له من خواص الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدر له و إن كان حقا من جهة أصل الوجود قال: 

  • ألا كل شي‌ء ما خلا الله باطل***و كل نعيم لا محالة زائل‌
  •  

  • و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية تبحث عن طبيعة الحق و الباطل فتصف بدء تكونهما و كيفية ظهورهما و الآثار الخاصة بكل منهما و سنة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا. 

  • بيّن تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنما هو مثل واحد ينحل إلى أمثال فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} و قوله: {أَنْزَلَ} فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير {مَاءً} للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشي‌ء أو يشوبه تغير، و تنكير {أَوْدِيَةٌ} 

تفسير الميزان ج۱۱

336
  • للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازية نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو السيل دائما و هذا كله بدلالة السياق، و إنما مثل بالسيل لأن احتمال الزبد الرابي فيه أظهر. 

  • و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محل الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كل بقدره الخاص به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كل واحد من الأودية المختلفة زبدا طافيا عاليا هو الظاهر على الحس يستر الماء سترا. 

  • ثم قال تعالى: {وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} مِن نشوية و ما يوقدون عليه أنواع الفلزات و المواد الأرضية القابلة للإذابة المصوغة منها آلات الزينة و أمتعة الحياة التي يتمتع بها و المعنى و يخرج من الفلزات و المواد الأرضية التي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الذي يربو السيل، يطفو على المادة المذابة و يعلوه. 

  • ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ} أي يثبت الله الحق و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده. 

  • فالمراد بالضرب - و الله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلة و المسكنة أي أوقعت و أثبتت و ضرب بينهم بسور أي أوجد و بُني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبت، و إلى هذا المعنى أيضا يعود ضرب المثل لأنه تثبيت و نصب لما يماثل الممثل حتى يتبين به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإن الضرب و هو إيقاع شي‌ء على شي‌ء بقوة و عنف لا ينفك عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد أطلق الضرب و هو الملزوم و أريد التثبيت و هو الأمر اللازم. 

  • و من هنا يظهر أن قول المفسرين إن في الجملة حذفا أو مجازا و التقدير: كذلك يضرب الله مَثَل الحق و الباطل أو مثل الحق و مثل الباطل على اختلاف تفسيرهم، في غير محله فإنه تكلف من 

تفسير الميزان ج۱۱

337
  • غير موجب و لا دليل يدل عليه. 

  • على أنه لو أريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ} و هو يغني عنه. 

  • على أن ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإن كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحق و الباطل يوجب كون ثبوت الحق نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه. 

  • ثم قال تعالى: {فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصة و هو أنه يذهب جفاء، و لذا قدمنا آنفا أن الآية تتضمن مثلا واحدا و إن انحل إلى غير واحد من الأمثال. 

  • و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله: {وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ} للدلالة على خاصة يختص بها الحق و هو أن الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم. 

  • و المعنى: فأما الزبد الذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج مما يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلا متلاشيا، و أما الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس. 

  • ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ} و ختم به القول أي إن الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنها تميز الحق من الباطل و تبين للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم. 

  • و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد المواد الأرضية و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجية و التكونات العينية لا القول؛ فيدل على أن هذه الوقائع الكونية و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي أولي النهي 

تفسير الميزان ج۱۱

338
  • و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أن ما في عالم الشهادة آيات دالة على ما في عالم الغيب على ما تكرر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة أو آيات دالة و هو ظاهر. 

  • و قد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية: 

  • أحدها: أن الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر و الصورة، و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور، فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية. 

  • و هذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الحجر: ٢١ و قوله: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر: ٦ و من الدليل عليه جميع آيات القدر. 

  • ثم إن هذه الأمور المسماة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى، {إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ} هود: ١٢٣، و قال: {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} الآية: ٣١ من السورة، و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى و أوسع مصداقا. 

  • و ثانيها: أن تفرق هذه الرحمة السماوية في أودية العالم و تقدرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفك عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها، غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالأقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة، و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حق و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت. 

  • و الحق من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} آل عمران: ٦٠و قال: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} ص: ٢٧ فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى } الأحقاف: ٣ و قال: {وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يونس: ٨٢ و قال: {إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ 

تفسير الميزان ج۱۱

339
  •  زَهُوقاً} أسرى: ٨١ و قال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } الأنبياء: ١٨. 

  • و ثالثها: أن من حكم الحق أنه لا يعارض حقا غيره و لا يزاحمه بل يمده و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدل على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس. 

  • و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع، بل المراد أن هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهية و يتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا، و مثل كفتي الميزان فإنهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق و يخيب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضر من غير نفع. 

  • و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: {وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} الجاثية: ١٣ فكل شي‌ء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر. 

  • و هذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا. 

  • و اعلم أن هذه الأصول كما تجري في الأمور العينية و الحقائق الخارجية كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات؛ فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ} إبراهيم: ٢٧. 

تفسير الميزان ج۱۱

340
  •  قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى‌ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} إلى آخر الآية، المهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهد الموطأ و سميت جهنم مهادا لأنها مهدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيئة. 

  • و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرعة على المثل المضروب في الآية السابقة كما تقدمت الإشارة إليه، يبين الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحق و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإن الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أن العاقبة المحمودة التي للإيمان لا يقوم مقامها شي‌ء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة. 

  • و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أن المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنة و إن كان حقا بحسب المآل فإن عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهية الحسنى و هي الجنة لكن المثوبة أو الجنة غير مقصودة في المقام بما أنها مثوبة أو جنة بل بما أنها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم. 

  • و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصة بهم: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} (الآية). 

  • و على هذا أيضا فقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ} موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشر و الشقوة بما لا يذكر. 

  • و المعنى: و الذين لم يستجيبوا لربهم يحل بهم أمر - أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى - من صفته أنه لو أن لهم ما في الأرض من نعمة تلتذ بها النفس الإنسانية و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمناه ثم أضيف إليه مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الذي يملكونه فرضا عما يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام) في وصفه: «غير موصوف ما نزل بهم». ثم أخبر تعالى عن هذا الذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال: {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ 

تفسير الميزان ج۱۱

341
  •  اَلْحِسَابِ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} و سوء الحساب الحساب الذي يسوؤهم و لا يسرهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثم ذم تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله: {وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ} أي بئس المهاد مهادهم الذي مهد لهم و يستقرون فيه، و مجموع قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسَابِ} إلخ، في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الذي من صفته كذا و كذا. 

  • و معنى الآية - و الله أعلم - : للذين استجابوا لدعوة ربهم الحقةِ العاقبةُ الحسنى، و الذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنوه لأن الذي يحل بهم من العاقبة السيئة يتضمن أو يقارن سوء الحساب و القرار في [جهنم] و بئس المهاد مهادهم. 

  • و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كل بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة. 

  • قوله تعالى: {أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} استفهام إنكاري و هو في موضع التعليل لما تتضمنه الآية السابقة، و بيان تفصيلي لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحق و عدمها. 

  • و ملخص البيان: أن الحق يستقر في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربهم فتصير قلوبهم ألبابا و قلوبا حقيقية لها آثارها و بركاتها و هو التذكر و التبصر، و من خواص هذه القلوب التي يُعرف بها صاحبوها: أن أولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربهم، و يثبتون على احترام ما وصلهم الله به و هي الرحم التي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجه إلى ربهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيئات بالحسنات. 

  • فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب مسلمين عليهم بما صبروا كما 

تفسير الميزان ج۱۱

342
  • فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحق. 

  • و قوله: {أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌} الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدم - و فيه نفي التساوي بين من استقر في قلبه العلم بالحق، و من جهل الحق. و في توصيف الجاهل بالحق بالأعمى إيماء إلى أن العالم به بصير و قد سماه بالأعمى و البصير في قوله آنفا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‌ وَ اَلْبَصِيرُ} الآية، فالعلم بالحق بصيرة و الجهل به عمى و التبصر يفيد التذكر و لذا عده من خواص أولي العلم بقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ}

  • و قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله: {أَ فَمَنْ يَعْلَمُ} إلخ، أي أنهما لا يستويان لأن لأولي العلم تذكر ليس لأولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب فدل على دعوى أخرى تفيد فائدة التعليل كأنه قيل: لا يستويان لأن لأحد الفريقين تذكرا ليس للآخر، و إنما اختص التذكر بهم لأن لهم ألبابا و قلوبا و ليس ذلك لغيرهم. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ} ظاهر السياق أن الجملة الثانية عطف تفسيري على الجملة الأولى فالمراد بالميثاق الذي لا ينقضونه هو عهد الله الذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكرهم هو ما عاهدوا به ربهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحدوه و يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإن الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته. 

  • و أما العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكل ذلك من فروع الميثاق الفطري فإن الدين فطري. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر هو الأمر التشريعي النازل بشهادة ذيل الآية {وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ} فإن الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهرا و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإن المستضعف الذي لم يبلغه الحكم الإلهي و لم يقصر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الحجة لا تتم على الإنسان بمجرد الإدراك الفطري لو لا انضمام طريق الوحي إليه؛ قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ } النساء: ١٦٥. 

تفسير الميزان ج۱۱

343
  • و الآية مطلقة فالمراد به كل صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم التي أمر الله بها و أكد القول في وجوبها، قال تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ } النساء: ١. 

  • و قد أكد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله: {وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ} فأشار إلى أن في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملا سيئا مكتوبا في صحيفة العمل محفوظا على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيئ. 

  • و الظاهر أن الفرق بين الخشية و الخوف أن الخشية تأثر القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه، و الخوف‌ هو التأثر عملا بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور و إن لم يتأثر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه: {وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} الأحزاب: ٣٩. فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‌} طه: ٦٧ و قوله: {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} الأنفال: ٥٨. 

  • و لعله إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أن الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم. و لذا خص العلماء بها في قوله. {إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ} و كذا قول بعضهم: إن الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة. و كذا قول بعضهم: إن الخوف يتعلق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله. 

  • و لو لا رجوعها إلى ما قدمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أن الفرق أغلبي لا كلي، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلا و هو مردود بما قدمناه من الآيات. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا} إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدل على اتصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنه مع ذلك مقيد بقوله: {اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي طلبا لوجه ربهم فصفتهم التي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأن الكلام في 

تفسير الميزان ج۱۱

344
  • صفاتهم التي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربهم و علمهم بحقية ما اُنزل إليهم من ربهم لا كل صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديتهم و إيمانهم بربهم كالصبر عند الكريهة تمنعا و عجبا بالنفس أو طلبا لجميل الثناء و نحوه كما قيل: 

  • و قولي كلما جشأت و جاشت***مكانك تحمدي أو تستريحي‌
  • و المراد بوجه الرب تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه، و هي الجهة التي عليها يظهر و يستقر العمل عنده تعالى أعني المثوبة التي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى: {وَ اَللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوَابِ} آل عمران: ١٩٥، و قال: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} النحل: ٩٦ و قال: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} القصص: ٨٨. 

  • و قوله: {وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ} أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره، كما قيل. 

  • و قوله: {وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً} المراد به مطلق الإنفاق أعم من الواجب و غيره، و الآية مكية لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله: {سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً} للدلالة على استيفائهم حقه فإن من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحق أن يستوفي من كل حقه، فيسر بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو إهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البر و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك. 

  • و قوله: {وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيئة جاءوا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيئة، و هذا أعم من أن يكون ذلك في سيئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاءوا بها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو دفعوها بتوبة إلى ربهم فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو في سيئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا: سلاما، أو أتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا به. 

تفسير الميزان ج۱۱

345
  • فذلك كله من درء السيئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتة. 

  • و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لأولي الألباب: «الذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرءون» فأتي في بعضها - و هي ستة بلفظ المضارع، و في بعضها و هي ثلاثة - بلفظ الماضي. 

  • و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أن التعبير في قوله: {وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} إلخ، بلفظ الماضي و فيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني {اَلَّذِينَ} و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطية نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه. 

  • و لذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي و أن يراد به الاستقبال فمن الأول {اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ} و من الثاني {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}

  • و فيه: أن إلغاء خصوصية زمان الفعل من المضي و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإن في الماضي مثلا عناية بالتحقق و إن كان ملغى الزمان فصحة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محله بعد. 

  • و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أن المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكن الصبر لما كان مما يتوقف على تحققه التلبس بتلك الأوصاف اعتنى بشأنه فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما. 

  • و فيه: أن بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمية عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الذي أريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق. 

تفسير الميزان ج۱۱

346
  • و الذي أحسب - و الله أعلم - أن مجموع قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ} مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة. 

  • فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: «و الذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم و يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة» فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعية لكن قيل: {وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} فأخذ جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل: {وَ يَدْرَؤُنَ} إلخ، ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه. 

  • و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ} (الآية)، حيث يدل على تفرع تنزل الملائكة على تحقق قولهم: {رَبُّنَا اَللَّهُ} و استقامتهم دون الاستمرار عليه. 

  • و قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ} أي عاقبتها المحمودة فإنها هي العاقبة حقيقة لأن الشي‌ء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أما العاقبة المذمومة السيئة ففيها بطلان عاقبة الشي‌ء لخلل واقع فيه، و إنما تسمى عاقبة بنحو من التوسع، و لذلك أطلق في الآية عقبى الدار و أريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله: {وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ}، و من هنا يظهر أن المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها. 

  • قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ} العدن‌ الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر فيه و منه المعدن لمستقر الجواهر الأرضية و جنات عدن أي جنات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كل جهة. 

  • و {جَنَّاتُ عَدْنٍ } «إلخ» بدل أو عطف بيان من قوله: {عُقْبَى اَلدَّارِ} أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها الله 

تفسير الميزان ج۱۱

347
  • عليه إلا حياة واحدة متصلة أوّلها عناءٌ و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنة بقوله: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} الزمر: ٧٤. 

  • و الآية - كما سمعت - تحاذي قوله: {يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} و بيان لعاقبة هذا الحق الذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الأمهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله : {آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ} لأن الأمهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء، و الآباء من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرياتهم ففي الآية إيجاز لطيف. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ} و هذا عقبى أعمالهم الصالحة التي داموا عليها في كل باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف. 

  • و قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ} قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذم و سوء أبدا. 

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله: {وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ} بقية ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أن الأعمال الصالحة هي التي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدي إلى سعادة النوع الإنساني و رشد المجتمع البشري، و قد تقدم بيانه في دليل النبوة العامة. 

  • و قد بيّن تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} و اللعن‌ الإبعاد من الرحمة و الطرد من كل كرامة، و ليس ذلك إلا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحق النازل من الله، و ليس للباطل إلا البوار. 

  • قوله تعالى: {اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ} إلى آخر الآية بيان أن ما أوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام. 

تفسير الميزان ج۱۱

348
  • و قد بين أن فعله تعالى يستمر على وفق ما جعله من نظام الحق و الباطل؛ فالاعتقاد الحق و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش. 

  • و قوله: {وَ فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} يريد به - على ما يفيده السياق - أن الرزق هو رزق الأخرى لكنهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطئوا فإنها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتع به في غيره و لغيره، غير مطلوب لنفسه؛ فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنما تكون من الحق إذا أخذت مقدمة لها يكتسب بها رزقها و أما إذا أخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلا من الباطل الذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شي‌ء، قال تعالى: 

  • {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } العنكبوت: ٦٤.

  • (بحث روائي) 

  • في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يذكر فيه أحوال الكفار قوله: {فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محل العلم و قراره.

  • أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقي من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعم مدلولا كما مر. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن قتادة: في قوله : {اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ} عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإن الله قد نهى عنه و قدم فيه أشد التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدمة 

تفسير الميزان ج۱۱

349
  • إليكم و حجة عليكم، و إنما يعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له

  • أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أن ظاهر السياق خلافه. 

  • و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال: قرابتك.

  • و فيه أيضا بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال: نزلت في رحم آل محمد و قد يكون في قرابتك. ثم قال: و لا تكونن ممن يقول في الشي‌ء أنه في شي‌ء واحد.

  • أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإن للقرآن ظهرا و بطنا، و قد جعل الله مودة ذي القربى و هي من الصلة أجر الرسالة في قوله: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى‌} الشورى: ٢٣ و يدل على ما ذكرنا الرواية الآتية. 

  • و في تفسير العياشي، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيانا. 

  • و فيه عن محمد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول: {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قال هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كل رحم.

  • أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و قد تقدم معنى تعلق الرحم بالعرش في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب. 

  • و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: و مما فرض الله عز و جل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز و جل: {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ 

تفسير الميزان ج۱۱

350
  • أَنْ يُوصَلَ}.

  •  أقول: و رواه العياشي في تفسيره. 

  • و في تفسير العياشي، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي. قال أبو عبد الله (عليه السلام): أخبرني عن قول الله: {وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ} أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم: لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقة. 

  • أقول: و رواه في المعاني و تفسير القمي. 

  • و فيه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ} قال: الاستقصاء و المداقة، و قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات.

  • أقول: و ذيل الحديث مروي بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنما هو لمكان المداقة و الحصول على وجوه الخلل الخفية كما تدل عليه الرواية التالية. 

  • و فيه عن هشام عنه (عليه السلام) في الآية قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء. 

  • و فيه عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): بر الوالدين و صلة الرحم يهون الحساب، ثم تلا هذه الآية: {اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ}

  • و في الدر المنثور: في قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له: كن فكان. 

  • و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب 

تفسير الميزان ج۱۱

351
  • الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

  • [سورة الرعد (١٣): الآیات ٢٧ الی ٣٥ ]

  • {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ٢٧ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ ٢٨ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ طُوبى‌ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ٢٩ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ ٣٠وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‌ بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ ٣١ وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ٣٢ أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‌ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ 

تفسير الميزان ج۱۱

352
  • بِظَاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ٣٣ لَهُمْ عَذَابٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ ٣٤ مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَ ظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكَافِرِينَ اَلنَّارُ ٣٥} 

  • (بيان) 

  • عود ثان إلى قول الكفار: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان، و يجيب تعالى عنه بأن الهدى و الضلال ليس شي‌ء منهما إلى ما ينزل من آية بل إن ذلك إليه تعالى يضل من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنة الإلهية على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئن إلى ذكره و أولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار، و إضلالِ من كفر بآياته الواضحة و أولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من دون الله من واق. 

  • و أن الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشية الله لكانت به لكن الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد. 

  • قوله تعالى: {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} عود إلى قول الكفار {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} و إنما أرادوا به أنه لو أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية من ربه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدون القرآن النازل إليه آية. 

  • و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} إلخ، 

تفسير الميزان ج۱۱

353
  • و قوله بعد: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ } إلى قوله {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} و قوله بعد: {وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ} إلى آخر الآية. 

  • فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمرا نبيه أن يلقيه إليهم: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} فأفاد أن الأمر ليس إلى الآية حتى يهتدوا بنزولها و يضلوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء. 

  • و لما لم يؤمن أن يتوهموا منه أن الأمر يدور مدار مشية جزافية غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله: {وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} فبيّن أن الأمر إلى مشية الله تعالى جاريةً على سنة دائمة و نظام متقن مستمر و ذلك أنه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه، و يضلّ من أعرض و لم ينب فمن تلبس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحق و لم يتقيد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقة و من كان دون ذلك ضل عن الطريق و إن كان مستقيما، و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ} إلخ، على تقدير: أن الله يضل بمشيته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيته من أناب إليه. 

  • و يظهر أيضا أن الضمير {إِلَيْهِ} في {يَهْدِي إِلَيْهِ} راجع إليه تعالى و أن ما ذكره بعضهم أنه راجع إلى القرآن، و آخرون أنه راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير وجيه. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} الاطمئنان‌ السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشي‌ء السكون إليه. 

  • و ظاهر السياق أن صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة: {مَنْ أَنَابَ} فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيؤ و استعداد يستعقب عطية الهداية الإلهية كما أن الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ} البقرة: ٢٦ و قال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} الصف: ٥. 

تفسير الميزان ج۱۱

354
  • و ليس الإيمان بالله تعالى مثلا مجرد إدراك أنه حق فإن مجرد الإدراك ربما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى: {وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} النمل: ١٤ مع أن الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشي‌ء مجرد إدراك أنه حق مثلا بل مطاوعة و قبول خاص من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار، و آيتُه مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته، فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنه لا يكف عنه لأن نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربما طاوعته و سلمت له بعد ما أدركته و كفت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان. 

  • و هذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ} الأنعام: ١٢٥ فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمرا نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقر هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه. 

  • و من ذلك يظهر أن قوله: {وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ} عطف تفسيري على قوله: {آمَنُوا} فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى. 

  • و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الأنفال: ٢ فإن الوجل المذكور فيه حالة قلبية متقدمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى: {اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‌ ذِكْرِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} الزمر: ٢٣ و ذلك أن النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أما النقمة أيا ما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيا صادرا منه تعالى على ما يفيده قوله: {مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} فاطر: ٢. 

تفسير الميزان ج۱۱

355
  • و إذا كان الخوف و الخشية إنما هو من شر متوقع و لا شر عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيئة التي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانية إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أولا إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثم التفتت ثانيا إلى ربه الذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنت بذكره. 

  • و قال في مجمع البيان: و قد وصف الله المؤمن هاهنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه التي لا تحصى و أياديه التي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه. انتهى، و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سماه الله تعالى ذكرا في مواضع كثيرة من كلامه كقوله: {وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} الأنبياء: ٥٠و قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ} الحجر: ٩ و غير ذلك. 

  • لكن الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} فإنه كضرب القاعدة يشمل كل ذكر سواء كان لفظيا أو غيره، و سواء كان قرآنا أو غيره. 

  • و قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} فيه تنبيه للناس أن يتوجهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنه لا همّ للإنسان في حياته إلا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كله، و هو القاهر فوق عباده و الفعال لما يريد و هو ولي عباده المؤمنين به اللاجئين إليه، فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنى يراد بها، كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحة و العافية آنا بعد آن. 

  • فكل قلب - على ما يفيده الجمع المحلى باللام من العموم - يطمئن بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنما ذلك في القلب الذي يستحق أن يسمى قلبا و هو 

تفسير الميزان ج۱۱

356
  • القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أما المنحرف عن أصله الذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ} الحج: ٤٦، و قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا } الأعراف: ١٧٩ و قال: {نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} التوبة: ٦٧. 

  • و في لفظ الآية ما يدل على الحصر حيث قدم متعلق الفعل أعني قوله: {بِذِكْرِ اَللَّهِ} عليه فيفيد أن القلوب لا تطمئن بشي‌ء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدمناه من الإيضاح ينور هذا الحصر إذ لا هم لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلا و هو غالب في جهة و مغلوب من أخرى إلا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئن القلوب و لا يطمئن القلب إلى شي‌ء غيره إلا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكر بها أخذته الرعدة و القلق. 

  • و مما قيل في الآية الكريمة أعني قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ} إلخ، إنها استئناف، و قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ خبره قوله في الآية التالية: {طُوبى‌ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ} و قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} بدل من المبتدإ و قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} اعتراض بين المبتدإ و خبره، و هو تكلف بعيد من السياق. 

  • قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ طُوبى‌ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ} طوبى‌ على وزن فُعلى بضم الفاء مؤنث أطيب فهي صفة لمحذوف - و هو على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة و ذلك أن النعمة كائنة ما كانت إنما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلا إذا اطمأن القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلا لمن آمن بالله و عمل عملا صالحا فهو الذي يطمئن منه القلب و يطيب له العيش فإنه في أمن من الشر و الخسران و سلام مما يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقر في ولاية الله لا يوجه إليه ربه إلا ما فيه سعادته إن أعطي شيئا فهو خير له و إن مُنع فهو خير له. 

  • و قد قال في وصف طيب هذه الحياة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل: ٩٧ و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله: {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى‌} طه: ١٢٤، و لعل وصف الحياة أو المعيشة في الآية 

تفسير الميزان ج۱۱

357
  • التي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحا إلى أنها نعمة لا تخلو من طيب على أي حال إلا أنها فيمن اطمأن قلبه بذكر الله أكثر طيبا لخلوصها من شوائب المنغصات. 

  • فقوله: {طُوبى‌ لَهُمْ} في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و «لهم» خبره و إنما قدم المبتدأ المنكر على الظرف لأن الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدم ما به التهنئة استعجالا بذكر ما يسر السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك. 

  • و بالجملة في الآية تهنئة الذين آمنوا و عملوا الصالحات - و هم الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله اطمئنانا مستمرا - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتصالها بما قبلها فإن طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدم. 

  • و قال في مجمع البيان: {طُوبى‌ لَهُمْ} و فيه أقوال: 

  • أحدها: أن معناه فرح لهم و قرة عين. عن ابن عباس. 

  • و الثاني: غبطة لهم. عن الضحاك. 

  • و الثالث: خير لهم و كرامة. عن إبراهيم النخعي. 

  • و الرابع: الجنة لهم. عن مجاهد. 

  • و الخامس: معناه العيش المطيب لهم. عن الزجاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباري لأنه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنة. عن الجبائي. 

  • و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم. 

  • و السابع: حسنى لهم. عن قتادة. 

  • و الثامن: نعم ما لهم. عن عكرمة. 

  • التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم. 

  • العاشر: أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في دار كل مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. انتهى موضع الحاجة. 

تفسير الميزان ج۱۱

358
  • و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ. 

  • قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} إلى آخر الآية متاب‌ مصدر ميمي للتوبة و هي الرجوع، و الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} إلى ما ذكره تعالى من سنته الجارية من دعوة الأمم إلى دين التوحيد ثم إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه. 

  • و المعنى: و أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالا يماثل هذه السنة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك و تبلغهم ما يتضمنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنما قيل بالرحمن، دون أن يقال: «بنا» على ما يقتضيه ظاهر السياق؛ إيماءً إلى أنهم في ردهم هذا الوحي الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يكفرون برحمة إلهية عامة تضمن لهم سعادة دنياهم و أخراهم لو أخذوه و عملوا به. 

  • ثم أمر تعالى: أن يصرح لهم القول في التوحيد فقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ} أي هو وحده ربي من غير شريك كما تقولون و لربوبيته لي وحده أتخذه القائم على جميع أموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أن قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ} من آثار الربوبية المتفرعة عليها فإن الرب هو المالك المدبر فمحصل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع. 

  • و قيل: إن المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأول من لزوم كون «إليه متاب» تأكيدا لقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} و هو خلاف ظاهر. 

  • و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثم منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر. 

  • و ذكر بعضهم: أن المعنى إليه متابي و متابكم. و فيه أنه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك. 

  • قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‌ بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} المراد بتسيير الجبال قلعها من أصولها و إذهابها من مكان إلى مكان 

تفسير الميزان ج۱۱

359
  • و بتقطيع الأرض شقها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عما جرى عليهم بعد الموت ليستدل على حقية الدار الآخرة فإن هذا هو الذي كانوا يقترحونه. 

  • فهذه أمور عظيمة خارقة للعادة فُرضت آثارا لقرآنٍ فرضه الله سبحانه بقوله: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً} إلخ، و جزاء لو محذوفٌ لدلالة الكلام عليه فإن الكلام معقب بقوله: {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} و الآيات كما عرفت مسوقة لبيان أن أمر الهداية ليس براجع إلى الآية التي يقترحونها بقولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} بل الأمر إلى الله يضل من يشاء كما أضلهم و يهدي إليه من أناب. 

  • و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} الآية، و قوله: {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة. 

  • فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أن قرآنا من شأنه أنه تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلم ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله بل الأمر كله لله ليس شي‌ء منه لغيره حتى يتوهم متوهم أنه لو أنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيته. 

  • و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى‌ وَ حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‌ءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ} الأنعام: ١١١. 

  • و ما قيل: إن جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره، و المعنى: أن القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ـ "أو" في الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع ـ لكان ذلك هذا القرآن، لكن الله لم ينزل قرآنا كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى‌ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ} الحشر: ٢١. 

تفسير الميزان ج۱۱

360
  • و فيه أن سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده: {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} و كذا قوله بعده: {أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً} كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلفوا في قوله: {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} بما لا يخلو عن تكلف. 

  • فقيل: إن المعنى لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده. 

  • و قيل: إن حاصل الإضراب أنه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره مما أراده الله فإن جميع الأمر له تعالى وحده. 

  • و قيل: إن الأحسن أن يكون قوله: {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} معطوفا على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شي‌ء بل الأمر لله جميعا. 

  • و أنت ترى أن السياق لا يساعد على شي‌ء من هذه المعاني، و أن حق المعنى الذي يساعد عليه السياق أن يكون إضرابا عن نفس الشرطية السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله. 

  • قوله تعالى: {أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً} تفريع على سابقه. 

  • ذكر بعضهم أن اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حي من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي: 

  • أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني***أ لم تيأسوا أني ابن فارس زهدم‌ 
  • و قول رباح بن عدي: 

  • أ لم ييأس الأقوام أني أنا ابنه***و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا
  • و محصل التفريع على هذا أنه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئا حتى قرآن سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى و أن الأمر لله جميعا فمن الواجب أن يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هداية الذين كفروا، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا؛ 

تفسير الميزان ج۱۱

361
  • الذين آمنوا و الذين كفروا لكنه لم يهد الذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا. 

  • و ذكر بعضهم أن اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أن قوله: {أَ فَلَمْ يَيْأَسِ} مضمن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأن الله لم يشأ هدايتهم و لو شاء ذلك لهدى الناس جميعا و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم. 

  • فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثم ضمن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلق العلم الجملة الشرطية فقط أعني قوله: {لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً} إيجازا و إيثارا للاختصار. 

  • و ذكر بعضهم: أن قوله {أَ فَلَمْ يَيْأَسِ} على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ} إلخ، متعلق بقوله: {آمَنُوا} بتقدير الباء و متعلق {يَيْأَسِ} محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من إيمانهم و ذلك أن الذين آمنوا يرون أن الأمر لله جميعا و يؤمنون بأنه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعا و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنه لم يشأ و ليس في مقدرة سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم. 

  • و هذه وجوه ثلاثة لعل أعدلها أوسطها، و الآية على أي حال لا تخلو من إشارة إلى أن المؤمنين كانوا يودون أن يؤمن الكفار و لعلهم لمودتهم ذلك لما سمعوا قول الكفار: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية أخرى غير القرآن فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات أخرى من كلامه مكية و مدنية كقوله في سورة يس و هي مكية: {وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} آية ١٠، و قوله في سورة البقرة و هي مدنية: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} آية ٦. 

  • قوله تعالى: {وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ} سياق الآيات يشهد أن المراد بقوله: {بِمَا صَنَعُوا} كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنها تؤذنه بأشد من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعي للذين كفروا بعذاب غير 

تفسير الميزان ج۱۱

362
  • مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم مرة بعد مرة حتى يأتيهم العذاب الموعود. 

  • و المعنى: و لا يزال هؤلاء الذين كفروا بدعوتك الحقة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبةٌ قارعةٌ أو تحل تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأن الله لا يخلف ميعاده و لا يبدل قوله. 

  • و التأمل في كون السورة مكية على ما يشهد به مضامين آياتها ثم في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكة يعطي أن المراد بالذين كفروا هم كفار العرب من أهل مكة و غيرهم الذين ردوا أول الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحوا على الفتنة و الفساد. 

  • و المراد بالذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شن الغارات، و بالذين تحل القارعة قريبا من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرتها و تنالهم وحشتها و همها و سائر آثارها السيئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها. 

  • و اعلم أن هذا العذاب الموعود للذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدم في سورة يونس في قوله تعالى: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } - إلى قوله ثانيا - {وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يونس: ٤٧-٥٤ فإن الذي في سورة يونس وعيد عام للأمة، و الذي في هذه الآيات وعيد خاص بالذين كفروا في أول الدعوة النبوية من قريش و غيرهم، و قد تقدم في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} البقرة: ٦ في الجزء الأول من الكتاب أن المراد بقوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} في القرآن إذا أطلق إطلاقا المعاندون من مشركي العرب في أول الدعوة كما أن المراد بالذين آمنوا إذا أطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أول الدعوة. 

  • و اعلم أيضا أن للمفسرين في الآية أقوالا شتى تركنا إيرادها إذ لا طائل تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائي التالي إن شاء الله. 

تفسير الميزان ج۱۱

363
  •  قوله تعالى: {وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعي ببيان نظائر له تدل على إمكان وقوعه أي لا يتوهمن متوهم أن هذا الذي نهددهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ} النمل: ٦٨. 

  • و ذلك أنه قد استهزئ برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثم اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للذين كفروا ثم أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيدا خاليا لا شي‌ء وراءه؟ أم كان أمرا يمكنهم أن يتقوه أو يدفعوه أو يتحملوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم. 

  • و من ذلك يظهر أن قولهم: إن الآية تسلية و تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في غير محله. 

  • و قد بدل الاستهزاء في الآية ثانيا من الكفر إذ قيل: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} و لم يقل "للذين استهزؤوا" للدلالة على أن استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أن كفرهم كان كفر استهزاء، فهم الكافرون المستهزءون بآيات الله كالذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}

  • قوله تعالى: {أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‌ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} القائم‌ على شي‌ء هو المهيمن المتسلط عليه و القائم بشي‌ء من الأمر هو الذي يدبره نوعا من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت أما قيامه عليها فلأنه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أما قيامه بما كسبت فلأنه يدبر أمر أعمالها فيحولها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثم يحولها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنة و نار. 

  • و الآية متفرعة على ما تقدمها أي إذا كان الله سبحانه يهدي من يشاء فيجازيه بأحسن الثواب و يضل من يشاء فيجازيه بأشد العقاب و له الأمر جميعا فهو قائم على كل نفس بما كسبت و مهيمن مدبر لنظام الأعمال فهل يعدله غيره حتى يشاركه في ألوهيته؟! 

تفسير الميزان ج۱۱

364
  • و من ذلك يظهر أن الخبر في قوله: {أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} إلخ، محذوف يدل عليه قوله: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} و من سخيف القول ما نسب إلى الضحاك أن المراد بقوله: {أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‌ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الملائكة لكونهم موكلين على الأعمال و المعنى أ فيكون الملائكة الموكلون على الأعمال بأمره شركاء له سبحانه؟ و هو معنى بعيد من السياق غايته. 

  • قوله تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ} لما ذكر سبحانه قوله: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} عاد إليهم ببيان يبطل به قولهم ذلك مأخوذ من البيان السابق بوجه. 

  • فأمر نبيه بأن يحاجهم بنوع من الحجاج عجيب في بابه فقال: {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي صفوهم فإن صفات الأشياء هي التي تتعين بها شئونها و آثارها فلو كانت هذه الأصنام شركاء لله شفعاء عنده وجب أن يكون لها من الصفات ما يسوي لها الطريق لهذا الشأن كما يقال فيه تعالى إنه حي عليم قدير خالق مالك مدبر فهو رب كل شي‌ء لكن الأصنام إذا ذكرت فقيل: هبل أو اللات أو العزى لم يوجد لها من الصفات ما يظهر به أنها شريكة لله شفيعة عنده. 

  • ثم قال: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ} و أم منقطعة أي بل أ تنبئونه بكذا و المعنى أن اتخاذكم الأصنام شركاء له إنباء له في الحقيقة بما لا يعلم فلو كان له شريك في الأرض لعلم به لأن الشريك في التدبير يمتنع أن يخفى تأثيره في التدبير على شريكه و الله سبحانه يدبر الأمر كله و لا يرى لغيره أثرا في ذلك لا موافقا و لا مخالفا، و الدليل على أنه لا يرى لنفسه شريكا في الأمر أنه تعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت، و بعبارة أخرى أن له الخلق و الأمر و هو على كل شي‌ء شهيد بالبرهان الذي لا سبيل للشك إليه، و الآية بالجملة كقوله في موضع آخر: {قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ} يونس: ١٨. 

  • ثم قال: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ} أي بل أ تنبئونه بأن له شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة و هذا كقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ} النجم: ٢٣. 

  • و عن بعضهم أن المراد بظاهر من القول ظاهر كتاب نازل من الله تسمى فيه الأصنام 

تفسير الميزان ج۱۱

365
  • آلهة حقة و حاصل الآية نفي الدليل العقلي و السمعي معا على ألوهيتها و كونها شركاء لله سبحانه و هو بعيد من اللفظ. 

  • و وجه الارتباط بين هذه الحجج الثلاث أنهم في عبادتهم الأصنام و جعلهم لله شركاء مترددون بين محاذير ثلاثة إما أن يقولوا بشركتها من غير حجة إذ ليس لها من الأوصاف ما يعلم به أنها شركاء لله، و إما أن يدعوا أن لها أوصافا كذلك هم يعلمونها و لا يعلم بها الله سبحانه، و إما أن يكونوا متظاهرين بالقول بشركتها من غير حقيقة و هم يغرون الله بذلك تعالى عن ذلك علوا كبيرا. 

  • قال الزمخشري في الكشاف: و هذا الاحتجاج و أساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر لمن عرف و أنصف على نفسه انتهى كلامه. 

  • قوله تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} إضراب عن الحجج المذكورة و لوازمها و المعنى: دع هذه الحجج فإنهم لا يجعلون له شركاء لشي‌ء من هذه الوجوه بل مكر زينه لهم الشيطان و صدهم بذلك عن سبيل الله تعالى و ذلك أنهم على علم بأنه لا حجة على شركتها و أن مجرد الدعوى لا ينفعهم لكنهم يريدون بترويج القول بألوهيتها و توجيه قلوب العامة إليها عرض الدنيا و زينتها، و دعوتك إلى سبيل الله مانعة دون ذلك فهم في تصلبهم في عبادتها و دعوة الناس إليها و الحث على الأخذ بها يمكرون بك من وجه و بالناس من وجه آخر و قد زُين لهم هذا المكر و هو السبب في جعلهم إياها شركاء لا غير ذلك من حجة أو غيرها و صدوا بذلك عن السبيل. 

  • فهم زين لهم المكر و صدوا به عن السبيل و الذي زين لهم و صدهم هو الشيطان بإغوائهم، و اُضلوا و الذي أضلهم هو الله سبحانه بإمساك نعمة الهدى منهم و من يضلل الله فما له من هاد. 

  • قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أشق‌ أفعل من المشقة و واق‌ اسم فاعل من الوقاية بمعنى الحفظ. 

  • و في الآية إيجاز القول فيما وعد الله الذين كفروا من العذاب في الآيات السابقة، و في 

تفسير الميزان ج۱۱

366
  • قوله: {وَ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ} نفي الشفاعة و تأثيرها في حقهم أصلا، و معنى الآية ظاهر. 

  • قوله تعالى: {مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَ ظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكَافِرِينَ اَلنَّارُ} المثل‌ هو الوصف يمثل الشي‌ء. 

  • و في قوله: {مَثَلُ اَلْجَنَّةِ} إلخ، بيان ما خص الله به المتقين من الوعد الجميل مقابلة لما أوعد به الذين كفروا و ليكون تمهيدا لما يختم به القول من الإشارة إلى محصل سعي الفريقين في مسيرهم إلى ربهم و رجوعهم إليه و قد قابل الذين كفروا بالمتقين إشارة إلى أن الذين ينالون هذه العاقبة الحسنى هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات دون المؤمنين من غير عمل صالح فإنهم مؤمنون بالله كافرون بآياته. 

  • و من لطيف الإشارة في الكلام المقابلة بين المؤمنين و المشركين أولا بتعبير «المتقون و الذين كفروا» و أخيرا بقوله «الذين اتقوا و الكافرون» و لعل فيه تلويحا إلى أن الفعل الماضي و الصفة هاهنا واحد مدلولا و مجموع أعمالهم في الدنيا مأخوذ عملا واحدا، و لازم ذلك أن يكون تحقق العمل و صدور الفعل مرة واحدة عين اتصافهم به مستمرا، و يفيد حينئذ قولنا: «الكافرون و المتقون» الدالان على ثبوت الاتصاف و قولنا: «الذين كفروا و الذين اتقوا» الدالان على تحقق ما للفعل مفادا واحدا، و هو قصر الموصوف على صفته، و أما من تبدل عليه العمل كأن تحقق منه كفر أو تقوى ثم تبدل بغيره و لم يختتم له العمل بعد فهو خارج عن مساق الكلام فافهم ذلك. 

  • و اعلم أن في الآيات السابقة وجوها مختلفة من الالتفات كقوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} ثم قوله: {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ} ثم قوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ثم قوله {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} و الوجه فيه غير خفي فالتعبير بمثل {أَرْسَلْنَاكَ} للدلالة على أن هناك وسائط كملائكة الوحي مثلا، و التعبير بمثل {بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً} للدلالة على رجوع كل أمر ذي وسط أو غير ذي وسط إلى مقام الألوهية القيوم على كل شي‌ء، و التعبير بمثل {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} للدلالة على أنه لا واسطة في الحقيقة يكون شريكا أو شفيعا كما يدعيه المشركون. 

  • ثم قوله تعالى: {تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكَافِرِينَ اَلنَّارُ} إشارة إلى خاتمة أمر 

تفسير الميزان ج۱۱

367
  • الفريقين و عقباهما كما تقدم و به يختتم البحث في المؤمنين و المشركين من حيث آثار الحق و الباطل في عقيدتهما و أعمالهما، فقد عرفت أن هذه الآيات التسع التي نحن فيها من تمام الآيات العشر السابقة المبتدئة بقوله: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً} (الآية). 

  • (بحث روائي) 

  • في تفسير العياشي، عن خالد بن نجيح عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في قوله: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} فقال: بمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ‌تطمئن القلوب و هو ذكر الله و حجابه.

  •  أقول: و في كلامه تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً}

  • و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأصحابه حين نزلت هذه الآية: {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} أ تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: من أحب الله و رسوله و أحب أصحابي. 

  • و في تفسير العياشي، عن ابن عباس: أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} ثم قال لي: أ تدري يا بن أم سليم من هم؟ قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: نحن أهل البيت و شيعتنا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما نزلت هذه الآية {أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ} قال: ذاك من أحب الله و رسوله و أحب أهل بيتي صادقا غير كاذب و أحب المؤمنين شاهدا و غائبا ألا بذكر الله يتحابون.

  • أقول: و الروايات جميعا من باب الانطباق و الجري فإن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الطاهرون من أهل بيته و الخيار من الصحابة و المؤمنين من مصاديق ذكر الله لأن الله يذكر بهم، و الآية الكريمة أعم دلالة. 

  • و في تفسير القمي عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث الإسراء بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: فإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة و ليس في الجنة منزل إلا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ 

تفسير الميزان ج۱۱

368
  • فقال: هذه شجرة طوبى قال الله تعالى: {طُوبى‌ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ}. 

  • أقول: و هذا المعنى مروي في روايات كثيرة و في عدة منها: أن جبرئيل ناولني منها ثمرة فأكلتها فحول الله ذلك إلى ظهري فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلت فاطمة إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها.

  • و في كتاب الخرائج أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يا فاطمة إن بشارة أتتني من ربي في أخي و ابن عمي أن الله عز و جل زوج عليا بفاطمة و أمر رضوان خازن الجنة فهز شجرة طوبى فحملت رقاعا بعدد محبي أهل بيتي فأنشأ ملائكة من نور و دفع إلى كل ملك خطا فإذا استوت القيامة بأهلها فلا تلقى الملائكة محبا لنا إلا دفعت إليه صكا فيه براءة من النار. 

  • أقول: و في تفسير البرهان، عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب بإسناده عن بلال بن حمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مثله و روي هذا المعنى أيضا عن أم سلمة و سلمان الفارسي و علي بن أبي طالب: و فيها أن الله لما أن أشهد على تزوج فاطمة من علي بن أبي طالب ملائكته أمر شجرة طوبى أن ينثر حملها و ما فيها من الحلي و الحلل فنثرت الشجرة ما فيها و التقطته الملائكة و الحور العين لتهادينه و تفتخرن به إلى يوم القيامة و روي أيضا ما يقرب منه عن الرضا (عليه السلام). 

  • و في المجمع روى الثعلبي بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: طوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة و في دار كل مؤمن منها غصن. قال: و رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • و في تفسير البرهان عن تفسير الثعلبي يرفع الإسناد إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن طوبى فقال: شجرة في الجنة أصلها في دار علي و فرعها على أهل الجنة فقالوا: يا رسول الله سألناك فقلت: أصلها في داري و فرعها على أهل الجنة فقال: داري و دار علي واحدة في الجنة بمكان واحد. 

  • أقول: و رواه أيضا في المجمع، بإسناده عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مثله. 

تفسير الميزان ج۱۱

369
  • أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و الظاهر أن الروايات غير ناظرة إلى تفسير الآية، و إنما هي ناظرة إلى بطنها دون ظهرها فإن حقيقة المعيشة الطوبى هي ولاية الله سبحانه و علي (عليه السلام) صاحبها و أول فاتح لبابها من هذه الأمة و المؤمنون من أهل الولاية أتباعه و أشياعه، و داره (عليه السلام) في جنة النعيم و هي جنة الولاية و دار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) واحدة لا اختلاف بينهما و لا تزاحم فافهم ذلك. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله: {وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} قال: هذا لما كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا نكتب الرحمن و ما ندري ما الرحمن؟ و ما نكتب إلا باسمك اللهم فأنزل الله: {وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}

  • أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن قتادة و أنت تعلم أن الآيات على ما يعطيه سياقها مكية و صلح الحديبية من حوادث ما بعد الهجرة. على أن سياق الآية وحدها أيضا لا يساعد على نزول جزء من أجزائها في قصة و تقطعه عن الباقي. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم): لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان (عليه السلام) يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ} (الآية) إلى قوله: {أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا} قال: أ فلم يتبين الذين آمنوا. 

  • قالوا: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال: عن سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • أقول: و فيما يقرب من هذا المضمون روايات أخرى. 

  • و في تفسير القمي قال: لو كان شي‌ء من القرآن كذلك لكان هذا. 

  • و في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن أبي زاهر أو غيره عن محمد بن حماد عن 

تفسير الميزان ج۱۱

370
  • أخيه أحمد بن حماد عن إبراهيم عن أبيه عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في حديث: و إن الله يقول في كتابه: {وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‌} و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال و تقطع به البلدان و يحيى به الموتى. (الحديث). 

  • أقول: و الحديثان ضعيفان سندا. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي: أنه قرأ: «أ فلم يتبين الذين آمنوا». 

  • أقول: و روي هذه القراءة أيضا عن ابن عباس. 

  • و في المجمع: قرأ علي (عليه السلام) و ابن عباس و علي بن الحسين (عليه السلام) و زيد بن علي و جعفر بن محمد (عليه السلام) و ابن أبي مليكة و الجحدري و أبو يزيد المدني: أ فلم يتبين و القراءة المشهورة: أ فلم ييأس.

  • و في تفسير القمي قال و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} و هي النقمة {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} فتحل بقوم غيرهم فيرون ذلك و يسمعون به و الذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم و لا يتعظ بعضهم ببعض و لا يزالون كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر، و يخزي الله الكافرين. 

  • [سورة الرعد (١٣): الآیات ٣٦ الی ٤٢]

  • {وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ اَلْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ وَ لاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ ٣٦ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ وَاقٍ ٣٧ وَ لَقَدْ 

تفسير الميزان ج۱۱

371
  • أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ٣٨ يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ ٣٩ وَ إِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ وَ عَلَيْنَا اَلْحِسَابُ ٤٠أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٤١ وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدَّارِ ٤٢} 

  •  

  • (بيان) 

  • تتمة الآيات السابقة و تعقب قولهم: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}

  • قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية. 

  • الظاهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود و النصارى أو هم و المجوس فإن هذا هو المعهود من إطلاقات القرآن و السورة مكية. و قد أثبت التاريخ أن اليهود ما كانوا يعاندون النبوة العربية في أوائل البعثة و قبلها ذاك العناد الذي ساقتهم إليه حوادث ما بعد الهجرة و قد دخل جمع منهم في الإسلام أوائل الهجرة و شهدوا على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كونه مبشرا به في كتبهم كما قال تعالى: {وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلى‌ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ } الأحقاف: ١٠. 

  • و أنه كان من النصارى يومئذ قوم على الحق من غير أن يعاندوا دعوة الإسلام كقوم من نصارى الحبشة على ما نقل من قصة هجرة الحبشة و جمع من غيرهم، و قد قال تعالى في 

تفسير الميزان ج۱۱

372
  • أمثالهم: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} القصص: ٥٢ و قال: {وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‌ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ} الأعراف: ١٥٩ و كذا كانت المجوس ينتظرون الفرج بظهور منج ينشر الحق و العدل و كانوا لا يعاندون الحق كما يعانده المشركون. 

  • فالظاهر أن يكونوا هم المعنيون بالآية و خاصة المحقون من النصارى و هم القائلون بكون المسيح بشرا رسولا كالنجاشي و أصحابه، و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ وَ لاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا} فإنه أنسب أن يخاطب به النصارى. 

  • و قوله: {وَ مِنَ اَلْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} اللام للعهد أي و من أحزاب أهل الكتاب من ينكر بعض ما أنزل إليك و هو ما دل منه على التوحيد و نفي التثليث و سائر ما يخالف ما عند أهل الكتاب من المعارف و الأحكام المحرفة. 

  • و قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ وَ لاَ أُشْرِكَ بِهِ} دليل على أن المراد من البعض الذي ينكرونه ما يرجع إلى التوحيد في العبادة أو الطاعة و قد أمره الله أن يخاطبهم بالموافقة عليه بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى‌ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ} آل عمران: ٦٤. 

  • ثم تمم الكلام بقوله: {إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ} أي مرجعي فكان أول الكلام مفصحا عن بغيته في نفسه و لغيره، و آخره عن سيرته أي أمرت لأعبد الله وحده في عملي و دعوتي، و على ذلك أسير بين الناس فلا أدعو إلا إليه و لا أرجع في أمر من أموري إلا إليه فذيل الآية في معنى قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} يوسف: ١٠٨. 

  • و يمكن أن يكون المراد بقوله: {وَ إِلَيْهِ مَآبِ} المعاد و يفيد حينئذ فائدة التعليل أي إليه أدعوه وحده لأن مآبي إليه وحده. 

  • و قد فسر بعضهم الكتاب في الآية بالقرآن و الذين أوتوا الكتاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأحزاب بالأعراب الذين تحزبوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أداروا عليه الدوائر من قريش و سائر القبائل. 

تفسير الميزان ج۱۱

373
  • و فيه أنه خلاف المعهود من إطلاق القرآن لفظة: {اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} على أن ذلك يؤدي إلى كون الآية مشتملة على معنى مكرر. 

  • و ربما ذكر بعضهم أن المراد بهم اليهود خاصة و الكتاب هو التوراة و المراد بإنكار بعض أحزابهم بعض القرآن و هو ما لا يوافق أحكامهم المحرفة مع أن الجميع ينكرون ما لا يوافق ما عندهم إنكاره من غير فرح و أما الباقون فكانوا فرحين و منكرين و قد أطالوا البحث عن ذلك. 

  • و عن بعضهم: أن المراد بالموصول عامة المسلمين، و بالأحزاب اليهود و النصارى و المجوس، و عن بعضهم أن تقدير قوله: {وَ إِلَيْهِ مَآبِ} و إليه مآبي و مآبكم. و هذه أقوال لا دليل من اللفظ على شي‌ء منها و لا جدوى في إطالة البحث عنها. 

  • قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ وَاقٍ} الإشارة بقوله: {كَذَلِكَ} إلى الكتاب المذكور في الآية السابقة و هو جنس الكتاب النازل على الأنبياء الماضين كالتوراة و الإنجيل. 

  • و المراد بالحكم هو القضاء و العزيمة فإن ذلك هو شأن الكتاب النازل من السماء المشتمل على الشريعة كما قال: {وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ} البقرة: ٢١٢ فالكتاب حكم إلهي بوجه و حاكم بين الناس بوجه فهذا هو المراد بالحكم دون الحكمة كما قيل. 

  • و قوله: {عَرَبِيًّا} صفة لحكم و إشارة إلى كون الكتاب بلسان عربي و هو لسانه (صلى الله عليه وآله و سلم) سنة الله التي قد خلت في عباده، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إبراهيم: ٤ و هذا كما لا يخفى من الشاهد على أن المراد بالمذكورين في الآية السابقة اليهود و النصارى، و أن هذه الآيات متعرضة لشأنهم كما كانت الآيات السابقة عليها متعرضة لشأن المشركين. 

  • و على هذا فالمراد بقوله: {وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} إلخ، النهي عن اتباع أهواء أهل الكتاب، و قد ذكر في القرآن من ذلك شي‌ء كثير، و عمدة ذلك أنهم كانوا يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية غير القرآن كما كان المشركون يقترحونها، و كانوا يطمعون أن يتبعهم فيما عندهم من الأحكام لإحالتهم النسخ في الأحكام، و هذان الأمران و لا سيما 

تفسير الميزان ج۱۱

374
  • أولهما عمدة ما تتعرض له هذه الآيات. 

  • و المعنى: و كما أنزلنا على الذين أوتوا الكتاب كتابهم أنزلنا هذا القرآن عليك بلسانك مشتملا على حكم أو حاكما بين الناس و لئن اتبعت أهواء أهل الكتاب فتمنيت أن ينزل عليك آية غير القرآن كما يقترحون أو داهنتهم و ملت إلى اتباع بعض ما عندهم من الأحكام المنسوخة أو المحرفة أخذناك بالعقوبة، و ليس لك ولي يلي أمرك من دون الله و لا واق يقيك منه فالخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو المراد به دون الأمة كما ذكره بعضهم. 

  • قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لما نهى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن اتباع أهوائهم فيما اقترحوا عليه من إنزال آية غير القرآن ذكّره بحقيقة الحال التي تؤيسه من الطمع في ذلك و يعزم عليه أن يتوكل على الله و يرجع إليه الأمور. 

  • و هو أن سنة الله الجارية في الرسل أن يكونوا بشرا جارين على السنة المألوفة بين الناس من غير أن يتعدوها فيملكوا شيئا مما يختص بالغيب كأن يكونوا ذا قوة غيبية فعالة لما تشاء قديرة على كل ما أرادت أو أريد منها حتى تأتي بكل آية شاءت إلا أن يأذن الله له فليس للرسول و هو بشر كسائرهم من الأمر شي‌ء بل لله الأمر جميعا. 

  • فهو الذي ينزل الآية إن شاء غير أنه سبحانه إنما ينزل من الآيات إذا اقتضته الحكمة الإلهية و ليست الأوقات مشتركة متساوية في الحكم و المصالح و إلا لبطلت الحكمة و اختل نظام الخليقة بل لكل وقت حكمة تناسبه و حكم يناسبه فلكل وقت آية تخصه. 

  • و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً} إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية، و قوله: {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} إشارة إلى حرمانهم من القدرة الغيبية المستقلة بكل ما أرادت إلا أن يمدهم الإذن الإلهي. 

  • و قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ} أي وقت محدود {كِتَابٌ} أي حكم مقضي مكتوب يخصه؛ إشارة إلى ما يلوح إليه استثناء الإذن و سنة الله الجارية فيه، و التقدير فالله سبحانه هو الذي ينزل ما شاء و يأذن فيما شاء لكنه لا ينزل و لا يأذن في كل آية في كل وقت فإن لكل وقت كتابا كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه. 

تفسير الميزان ج۱۱

375
  • و مما تقدم يظهر أن ما ذكره بعضهم أن قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} من باب القلب و أصله: لكل كتاب أجل أي إن لكل كتاب منزل من عند الله وقتا مخصوصا ينزل فيه و يعمل عليه فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و للقرآن وقت: وجه لا يعبأ به. 

  • قوله تعالى: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} محو الشي‌ء هو إذهاب رسمه و أثره يقال: محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط و الرسوم قال تعالى: {وَ يَمْحُ اَللَّهُ اَلْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الشورى: ٢٤ أي يذهب بآثار الباطل كما قال: {فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} و قال: {وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً} أسرى: ١٢ أي أذهبنا أثر الإبصار من الليل فالمحو قريب المعنى من النسخ‌ يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت بأثره و رسمه. 

  • و قد قوبل المحو في الآية بالإثبات و هو إقرار الشي‌ء في مستقره بحيث لا يتحرك و لا يضطرب يقال: أثبت الوتد في الأرض إذا ركزته فيها بحيث لا يتحرك و لا يخرج من مركزه فالمحو هو إزالة الشي‌ء بعد ثبوته برسمه و يكثر استعماله في الكتاب. 

  • و وقوع قوله: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} بعد قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} و اتصاله به من جانب و بقوله: {وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} من جانب ظاهر في أن المراد محو الكتب و إثباتها في الأوقات و الآجال فالكتاب الذي أثبته الله في الأجل الأول إن شاء محاه في الأجل الثاني و أثبت كتابا آخر فلا يزال يمحى كتاب و يثبت كتاب آخر. 

  • و إذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية و كل شي‌ء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية و يثبت آية كما يشير إليه قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } البقرة: ١٠٦، و قوله: {وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} الآية: النحل: ١٠١. 

  • فقوله: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} على ما فيه من الإطلاق يفيد فائدة التعليل لقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} و المعنى أن لكل وقت كتابا يخصه فيختلف، فاختلاف الكتب باختلاف الأوقات و الآجال إنما ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيته لا من جهة اختلافها 

تفسير الميزان ج۱۱

376
  • في أنفسها و من ذواتها بأن يتعين لكل أجل كتاب في نفسه لا يتغير عن وجهه بل الله سبحانه هو الذي يعين ذلك بتبديل كتاب مكان كتاب و محو كتاب و إثبات آخر. 

  • و قوله: {وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} أي أصله فإن الأم‌ هي الأصل الذي ينشأ منه الشي‌ء و يرجع إليه، و هو دفع للدخل و إبانة لحقيقة الأمر فإن اختلاف حال الكتاب المكتوب لأجل بالمحو و الإثبات أي تغير الحكم المكتوب و القول المقضي به حينا بعد حين ربما أوهم أن الأمور و القضايا ليس لها عند الله سبحانه صورة ثابتة و إنما يتبع حكمه العلل و العوامل الموجبة له من خارج كأحكامنا و قضايانا معاشر ذوي الشعور من الخلق أو أن حكمه جزافي لا تعين له في نفسه و لا مؤثر في تعينه من خارج كما ربما يتوهم أرباب العقول البسيطة أن الذي له ملك بكسر اللام مطلق و سلطنة مطلقة له أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد على حرية مطلقة من رعاية أي قيد و شرط و سلوك أي نظام أو لا نظام في عمله فلا صورة ثابتة لشي‌ء من أفعاله و قضاياه عنده، و قد قال تعالى: {مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ} ق: ٢٩، و قال: {وَ كُلُّ شَيْ‌ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} الرعد: ٨ إلى غير ذلك من الآيات. 

  • فدفع هذا الدخل بقوله: {وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ} أي أصل جنس الكتاب و الأمر الثابت الذي يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى و تثبت بحسب الأوقات و الآجال و لو كان هو نفسه تقبل المحو و الإثبات لكان مثلها لا أصلا لها و لو لم يكن من أصله كان المحو و الإثبات في أفعاله تعالى إما تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل و الأسباب الخارجية مثلنا و الله يحكم لا معقب لحكمه. 

  • و إما غير تابع لشي‌ء أصلا و هو الجزاف الذي يختل به نظام الخلقة و التدبير العام الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض جلت عنه ساحته، قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} الدخان: ٣٩. 

  • فالملخص من مضمون الآية أن لله سبحانه في كل وقت و أجل كتابا أي حكما و قضاء و أنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الأحكام و الأقضية و يثبت ما يشاء أي يغير القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير و لا يقبل المحو و الإثبات و هو الأصل الذي يرجع إليه الأقضية الأخر و تنشأ منه فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو. 

تفسير الميزان ج۱۱

377
  • و يتبين بالآية أولا: أن حكم المحو و الإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال و الأوقات و هو جميع ما في السماوات و الأرض و ما بينهما، قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى} الأحقاف: ٣. 

  • و ذلك لإطلاق قوله: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} و اختصاص المورد بآيات النبوة لا يوجب تخصيص الآية لأن المورد لا يخصِّص. 

  • و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن ذلك في الأحكام و هو النسخ و قول ثان: إن ذلك في المباحات المثبتة في صحائف الأعمال يمحوها الله و يثبت مكانها طاعة أو معصية مما فيه الجزاء، و قول ثالث: إنه محو ذنوب المؤمنين فضلا و إثبات ذنوب للكفار عقوبة، و قول رابع: إنه في موارد يؤثر فيها الدعاء و الصدقة في المحن و المصائب و ضيق المعيشة و نحوها، و قول خامس: إن المحو إزالة الذنوب بالتوبة و الإثبات تبديل السيئات حسنات، و قول سادس: إنه محو ما شاء الله من القرون و الإثبات إنشاء قرون آخرين بعدهم، و قول سابع: إنه محو القمر و إثبات الشمس و هو محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة، و قول ثامن: إنه محو الدنيا و إثبات الآخرة، و قول تاسع: إن ذلك في الأرواح حالة النوم يقبضها الله فيرسل من يشاء منهم و يمسك من يشاء، و قول عاشر: إن ذلك في الآجال المكتوبة في ليلة القدر يمحو الله ما يشاء منها و يثبت ما يشاء. 

  • فهذه و أمثالها أقوال لا دليل على تخصيص الآية الكريمة بها من جهة اللفظ البتة و للآية إطلاق لا ريب فيه ثم المشاهدة الضرورية تطابقه فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود، و ما من شي‌ء قيس إلى زمانين في وجوده إلا لاح التغير في ذاته و صفاته و أعماله، و في عين الحال إذا اعتبرت في نفسها و بحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة فإن الشي‌ء لا يتغير عما وقع عليه. 

  • فللأشياء المشهودة جهتان جهة تغير يستتبع الموت و الحياة و الزوال و البقاء و أنواع الحيلولة و التبدل، و جهة ثبات لا تتغير عما هي عليها و هما إما نفس كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب، و إما أمران مترتبان على الكتابين و على أي حال تقبل الآية الصدق على هاتين الجهتين. 

تفسير الميزان ج۱۱

378
  • و ثانيا: أن لله سبحانه في كل شي‌ء قضاء ثابتا لا يتغير و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغيير و استدل عليه بمتفرقات الروايات و الأدعية الدالة۱ على ذلك و الآيات و الأخبار الدالة على أن الدعاء و الصدقة يدفعان سوء القضاء، و فيه أن ذلك في القضاء غير المحتوم. 

  • و ثالثا: أن القضاء ينقسم إلى قضاء متغير و غير متغير و ستستوفي تتمة البحث في الآية عن قريب إن شاء الله تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ إِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ وَ عَلَيْنَا اَلْحِسَابُ} {إِمّا} هو إن الشرطية و ما الزائدة للتأكيد و الدليل عليه دخول نون التأكيد في الفعل بعده. 

  • و في الآية إيضاح لما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الوظيفة و هو الاشتغال بأمر الإنذار و التبليغ فحسب فلا ينبغي له أن يتبع أهواءهم في نزول آية عليه كما اقترحوا حتى أنه لا ينبغي له أن ينتظر نتيجة بلاغه أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم. 

  • و في الآية دلالة على أن الحساب الإلهي يجري في الدنيا كما يجري في الآخرة. 

  • قوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} إلخ، كلام مسوق للعبرة بعد ما قدم إليهم الوعيد بالهلاك، و منه يعلم أن إتيان الأرض و نقصها من أطرافها كناية عن نقص أهلها بالإماتة و الإهلاك فالآية نظيرة قوله: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَ فَهُمُ اَلْغَالِبُونَ} الأنبياء: ٤٤. 

  • و قول بعضهم: "إن المراد به أ و لم ير أهل مكة أنا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بفتح القرى واحدة بعد واحدة للمسلمين فليخافوا أن نفتح بلدتهم و ننتقم منهم"، يدفعه أن السورة مكية و تلك الفتوحات إنما كانت تقع بعد الهجرة، على أن الآيات بوعيدها ناظرة إلى هلاكهم بغزوة بدر و غيرها لا إلى فتح مكة. 

    1. و في الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام و كذا عن بعض الصحابة «اللهم إن كنت كتبت اسمي في الأشقياء فامحني من الأشقياء و اكتبني في السعداء» أو ما يقرب منه.

تفسير الميزان ج۱۱

379
  • و قوله: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} يريد به أن الغلبة لله سبحانه فإنه يحكم و ليس قبال حكمه أحد يعقبه ليغلبه بالمنع و الرد و هو سبحانه يحاسب كل عمل بمجرد وقوعه بلا مهلة حتى يتصرف فيه غيره بالإخلال فقوله: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ} إلخ، في معنى قوله في ذيل آية سورة الأنبياء المتقدمة: {أَ فَهُمُ اَلْغَالِبُونَ}

  • قوله تعالى: {وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً} إلى آخر الآية؛ أي و قد مكر الذين من قبلهم فلم ينفعهم مكرهم و لم يقدروا على صدنا من أن نأتي الأرض فننقصها من أطرافها فالله سبحانه يملك المكر كله و يبطله و يرده إلى أهله فليعتبروا. 

  • و قوله: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} في مقام التعليل لملكه تعالى كل مكر فإن المكر إنما يتم مع جهل الممكور به و أما إذا علم به فعنده بطلانه. 

  • و قوله: {وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدَّارِ} قطع للحجاج بدعوى أن مسألة انتهاء الأمور إلى عواقبها من الأمور الضرورية العينية لا تتخلف عن الوقوع و سيشهدونها شهود عيان فلا حاجة إلى الإطالة و الإطناب في إعلامهم ذلك فسيعلمون. 

  • (بحث روائي) 

  • في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: {وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} ما نراك يا محمد تملك من شي‌ء و لقد فرغ من الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم و وعيدا لهم {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا. 

  • أقول: و الآية كما تقدم بيانه أجنبية عن هذا المعنى، و في ذيل هذا الحديث و يحدث الله في كل رمضان فيمحو الله ما يشاء و يثبت من أرزاق الناس و مصائبهم و ما يعطيهم و ما يقسم لهم، و في رواية أخرى عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الآية: قال: يمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يزيد فيه. و هذا من قبيل التمثيل و الآية أعم. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قوله: {يَمْحُوا اَللَّهُ 

تفسير الميزان ج۱۱

380
  •  مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} قال: ذلك كل ليلة القدر؛ يرفع و يخفض و يرزق غير الحياة و الموت و الشقاوة و السعادة فإن ذلك لا يزول. 

  • أقول: و الرواية على معارضتها الروايات الكثيرة جدا المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و الصحابة تخالف إطلاق الآية و حجة العقل، و مثلها ما عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يمحو الله ما يشاء و يثبت إلا الشقوة و السعادة و الحياة و الموت‌ .

  • و فيه أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن علي: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن هذه الآية فقال له: لأقرن عينيك بتفسيرها و لأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها. الصدقة على وجهها و بر الوالدين و اصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر و يقي مصارع السوء. 

  • أقول: و الرواية لا تزيد على ذكر بعض مصاديق الآية. 

  • و في الكافي بإسناده عن هشام بن سالم و حفص بن البختري و غيرهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) في هذه الآية: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} قال: فقال: و هل يمحى إلا ما كان ثابتا؟ و هل يثبت إلا ما لم يكن؟

  • أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن جميل عنه (عليه السلام). 

  • و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة و من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته.

  •  أقول: و روي بطريق آخر، و كذا في الكافي بإسناده عن الفضيل عنه (عليه السلام) ما في معناه. 

  • و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان و بما يكون إلى يوم القيامة فقلت له: أية آية؟ فقال: قال الله: {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ}

  • أقول: معناه أن اللائح من الآية أن الله سبحانه لا يريد من خلقه إلا أن يعيشوا على 

تفسير الميزان ج۱۱

381
  • جهل بالحوادث المستقبلة ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية و سياقة من الخوف و الرجاء، و ظهور الحوادث المستقبلة تمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية فهو سبب الكف عن التحديث لا الخوف من أن يكذبه الله بالبداء فإنه مأمون منه فلا تعارض بين الرواية و ما قبلها. 

  • و فيه عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى كتب كتابا فيه ما كان و ما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدم و ما شاء منه أخر و ما شاء منه محى و ما شاء منه كان و ما لم يشأ لم يكن. 

  • و فيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء و عنده أم الكتاب، و قال: كل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه، و ليس شي‌ء يبدو له إلا و قد كان في علمه؛ إن الله لا يبدو له من جهل.

  • أقول: و الروايات في البداء عنهم (عليه السلام) متكاثرة مستفيضة فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه خبر واحد. 

  • و الرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا تعالى عن ذلك، و إنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعد ما كان الظاهر منه خلافه أولا فهو محو الأول و إثبات الثاني و الله سبحانه عالم بهما جميعا. 

  • و هذا مما لا يسع لذي لب إنكاره فإن للأمور و الحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه، و وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها و عللها التامة و هو ثابت غير موقوف و لا متخلف، و الكتابان أعني كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب إما أن يكونا أمرين تتبعهما هاتان المرحلتان من وجود الأشياء اللتان إحداهما تقبل المحو و الإثبات و الأخرى لا تقبل إلا الثبات. و إما أن يكونا عين تينك المرحلتين، و على أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه. 

  • و الذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت 

تفسير الميزان ج۱۱

382
  • (عليهم السلام) و نفيه كما يظهر من غيرهم نزاع لفظي و لهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما هو دأب الكتاب و من الدليل على كون النزاع لفظيا استدلالهم على نفي البداء عنه تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا لا البداء بالمعنى الذي يفسره به الأخبار فيه تعالى. 

  • و في الدر المنثور أخرج الحاكم عن أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ {يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ} مخففة. 

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: ذهاب العلماء. 

  • و في المجمع عن أبي عبد الله (عليه السلام): ننقصها بذهاب علمائها و فقهائها و أخيارها. 

  • و في الكافي بإسناده عن محمد بن علي عمن ذكره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: إنه ليسخي نفسي في سرعة الموت أو القتل فينا قول الله عز و جل: {أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فقال: فقد العلماء. 

  • أقول: كأن المراد أنه يسخي نفسي أن الله تعالى نسب توفي العلماء إلى نفسه لا إلى غيره فيهنأ لي الموت أو القتل. 

  • [سورة الرعد (١٣): آیة ٤٣]

  • {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ ٤٣} 

تفسير الميزان ج۱۱

383
  • (بيان) 

  • الآية خاتمة السورة و تعطف الكلام على ما في مفتتحها من قوله: {وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} و هي كرة ثالثة على منكري حقية كتاب الله يستشهد فيها بأن الله يشهد على الرسالة و من حصل له العلم بهذا الكتاب يشهد بها. 

  • قوله تعالى: {وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} إلخ، بناء الكلام في السورة على إنكارهم حقية الكتاب و عدم عدهم إياه آية إلهية للرسالة و لذا كانوا يقترحون آية غيره كما حكاه الله تعالى في خلال الآيات مرة بعد مرة و أجاب عنه بما يرد عليهم قولهم فكأنهم لما يئسوا مما اقترحوا أنكروا أصل الرسالة لعدم إذعانهم بما أنزل الله من آية و عدم إجابتهم فيما اقترحوه من آية فكانوا يقولون: {لَسْتَ مُرْسَلاً}

  • فلقن الله نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة عليهم لرسالته بقوله: {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} و هو حجة قاطعة و ليس بكلام خطابي و لا إحالة إلى ما لا طريق إلى حصول العلم به. 

  • فقوله: {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} استشهاد بالله سبحانه و هو ولي أمر الإرسال و إنما هي شهادة تأدية لا شهادة تحمل فقط فإن أمثال قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ عَلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} من آيات القرآن و كونه آية معجزة من الله ضروري، و كونه قولا و كلاما له سبحانه ضروري و اشتماله على تصديق الرسالة بدلالة المطابقة المعتمدة على علم ضروري أيضا ضروري، و لا نعني بشهادة التأدية إلا ذلك. 

  • و من فسر شهادته تعالى من المفسرين بأنه تعالى قد أظهر على رسالتي من الأدلة و الحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ثم قال: و تسمية ذلك شهادة مع أنه فعل و هي قول من المجاز حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها. انتهى. فقد قصد المطلوب من غير طريقه. 

  • و ذلك أن الأدلة و الحجج الدالة على حقية رسالته (صلى الله عليه وآله و سلم) إما القرآن و هو الآية 

تفسير الميزان ج۱۱

384
  • المعجزة الخالدة، و إما غيره من الخوارق و المعجزات و آيات السورة كما ترى لا تجيب الكفار على ما اقترحوه من هذا القسم الثاني و لا معنى حينئذٍ للاستشهاد بما لم يجابوا عليه، و أما القرآن فمن البين أن الاستناد إليه من جهة أنه معجزة تصدق الرسالة بدلالتها عليها أي كلام له تعالى يشهد بالرسالة، و إذا كان كذلك فما معنى العدول عن كونه كلاما له تعالى يدل على حقية الرسالة أي شهادة لفظية منه تعالى على ذلك بحقيقة معنى الشهادة إلى كونه دليلا فعليا منه عليها سمي مجازا بالشهادة؟! 

  • على أن كون فعله تعالى أقوى دلالة على ذلك من قوله ممنوع. 

  • فقد تحصل أن معنى قوله: {اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ} أن ما وقع في القرآن من تصديق الرسالة شهادة إلهية بذلك. 

  • و أما جعل الشهادة شهادة تحمل ففيه إفساد المعنى من أصله و أي معنى لإرجاع أمر متنازع فيه إلى علم الله و اتخاذ ذلك حجة على الخصم و لا سبيل له إلى ما في علم الله في أمره؟! أ هو كما يقول أو فرية يفتريها على الله؟ 

  • و قوله: {وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} أي و كفى بمن عنده علم الكتاب شهيدا بيني و بينكم، و قد ذكر بعضهم أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ و يتعين على هذا أن يكون المراد بالموصول هو الله سبحانه فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا إلخ. 

  • و فيه أولا أنه خلاف ظاهر العطف، و ثانيا أنه من عطف الذات مع صفته إلى نفس الذات و هو قبيح غير جائز في الفصيح و لذلك ترى الزمخشري لما نقل في الكشاف هذا القول عن الحسن بقوله: و عن الحسن: «لا و الله ما يعني إلا الله» قال بعده: و المعنى كفى بالذي يستحق العبادة و بالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني و بينكم. انتهى فاحتال إلى تصحيحه بتبديل لفظة الجلالة {بِاللَّهِ} من «الذي يستحق العبادة» و تبديل {مَنْ} من «الذي» ليعود المعطوف و المعطوف عليه وصفين فيكون في معنى عطف أحد وصفي الذات على الآخر و إناطة الحكم بالذات بما له من الوصفين كدخالتهما فيه فافهم ذلك. 

  • لكن من المعلوم أن تبديل لفظ من لفظ يستقيم إفادته لمعنى لا يوجب استقامة ذلك 

تفسير الميزان ج۱۱

385
  • في اللفظ الأول و إلا لبطلت أحكام الألفاظ. 

  • على أن التأمل فيما تقدم في معنى هذه الشهادة و أن المراد به تصديق القرآن لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يعطي أن وضع لفظة الجلالة في هذا الموضع لا للتلميح إلى معناه الوصفي بل لإسناده الشهادة إلى الذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال لأن شهادته أكبر الشهادات قال سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْ‌ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ}

  • و ذكر آخرون: أن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل أو خصوص التوراة و المعنى و كفى بعلماء الكتاب شهداء بيني و بينكم لأنهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء فيّ و يقرؤون نعتي في الكتاب. 

  • و فيه أن الذي أخذ في الآية هو الشهادة دون مجرد العلم، و السورة مكية و لم يؤمن أحد من علماء أهل الكتاب يومئذ كما قيل و لا شهد للرسالة بشي‌ء فلا معنى للاحتجاج بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحد بعد. 

  • و قيل: المراد القوم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و سلمان الفارسي، و قيل هو عبد الله بن سلام، و رد بأن السورة مكية و هؤلاء إنما أسلموا بالمدينة. 

  • و للقائلين بأنه عبد الله بن سلام جهد بليغ في الدفاع عنه فقال بعضهم: إن مكية السورة لا تنافي كون بعض آياتها مدنية فلم لا يجوز أن تكون هذه الآية مدنية مع كون السورة مكية. 

  • و فيه أولا: أن مجرد الجواز لا يثبت ذلك ما لم يكن هناك نقل صحيح قابل للتعويل عليه. على أن الجمهور نصوا على أنها مكية كما نقل عن البحر. 

  • و ثانيا: أن ذلك إنما هو في بعض الآيات الموضوعة في خلال آيات السور النازلة و أما في مثل هذه الآية التي هي ختام ناظرة إلى ما افتتحت به السورة فلا إذ لا معنى لإرجاء 

تفسير الميزان ج۱۱

386
  • بعض الكلام المرتبط الأجزاء إلى أمد غير محدود. 

  • و قال بعضهم: إن كون الآية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به. 

  • و فيه أن ذلك يوجب رداءة الحجة و سقوطها فأي معنى لأن يحتج على قوم يقولون: {لَسْتَ مُرْسَلاً} فيقال: صدقوا به اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون به. 

  • و قال بعضهم: إن هذه الشهادة شهادة تحمل لا يستلزم إيمان الشهيد حين الشهادة فيجوز أن تكون الآية مكية و المراد بها عبد الله بن سلام أو غيره من علماء اليهود و النصارى و إن لم يؤمنوا حين نزول الآية. 

  • و فيه أن المعنى حينئذ يعود إلى الاحتجاج بعلم علماء أهل الكتاب و إن لم يعترفوا به و لم يؤمنوا، و لو كان كذلك لكان المتعين أن يستشهد بعلم الذين كفروا أنفسهم فإن الحجة كانت قد تمت عليهم بكون القرآن كلام الله و لا يكون ذلك إلا عن علمهم به فما الموجب للعدول عنهم إلى غيرهم و هم مشتركون في الكفر بالرسالة و نفيها على أنه تقدم أن الشهادة في الآية ليست إلا شهادة أداء دون التحمل. 

  • و قال بعضهم: - و هو ابن تيمية و قد أغرب - أن الآية مدنية بالاتفاق. و هو كما ترى. 

  • و ذكر بعضهم: أن المراد بالكتاب القرآن الكريم، و المعنى أن من تحمل هذا الكتاب و تحقق بعلمه و اختص به فإنه يشهد على أنه من عند الله و أني مرسل به فيعود مختتم السورة إلى مفتتحها من قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} و ينعطف آخرها على أولها و على ما في أواسطها من قوله: {أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}

  • و هذا في الحقيقة انتصار و تأييد منه تعالى لكتابه قبال ما أزرى به و استهانه الذين كفروا حيث قالوا: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} مرة بعد مرة و {لَسْتَ مُرْسَلاً} فلم يعبئوا بأمره و لم يبالوا به و أجاب الله عن قولهم مرة بعد مرة و لم يتعرض لأمر القرآن و لم يذكر أنه أعظم آية للرسالة و كان من الواجب ذلك فقوله: {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي 

تفسير الميزان ج۱۱

387
  • وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} استيفاء لهذا الغرض الواجب الذي لا يتم البيان دونه و هذا من أحسن الشواهد على ما تقدم أن الآية كسائر السورة مكية. 

  • و بهذا يتأيد ما ذكره جمع و وردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الآية نزلت في علي (عليه السلام) فلو انطبق قوله: {وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} على أحد ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ لكان هو فقد كان أعلم الأمة بكتاب الله و تكاثرت الروايات الصحيحة على ذلك و لو لم يرد فيه إلا قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث‌۱ الثقلين المتواتر من طرق الفريق: «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» لكان فيه كفاية. 

  • (بحث روائي) 

  • في البصائر، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) يقول في الآية: علي (عليه السلام). 

  • أقول: و رواه أيضا بأسانيد عن جابر و بريد بن معاوية و فضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن عبد الله بن بكير و عبد الله بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و بإسناده عن سلمان الفارسي عن علي (عليه السلام). 

  • و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية في الآية قال: إيانا عنى و علي أولنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • و في المعاني، بإسناده عن خلف بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت 

    1. و هو الحديث المعروف الذي رواه الفريقان عن جم غفير من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)لى الله عليه و آله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا». الحديث.

تفسير الميزان ج۱۱

388
  • رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله جل ثناؤه: {قَالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتَابِ} قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود فقلت له: يا رسول الله فقول الله: {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} قال ذاك أخي علي بن أبي طالب. 

  • و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): هذا ابن عبد الله بن سلام بن عمران يزعم أن أباه الذي يقول الله: {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} قال: كذب، هو علي بن أبي طالب. 

  • و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب قال: عن محمد بن مسلم و أبي حمزة الثمالي و جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام) و علي بن فضال و فضيل بن داود عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و أحمد بن محمد الكلبي و محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) و قد روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و عن زيد بن علي و عن محمد بن الحنفية و عن سلمان الفارسي و عن أبي سعيد الخدري و إسماعيل السدي أنهم قالوا: في قوله تعالى: {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} هو علي بن أبي طالب (عليه السلام). 

  • و في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس و روي عن عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر: أنه قيل له: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال: لا؛ ذلك علي بن أبي طالب. 

  • و روي: أنه سئل سعيد بن جبير {وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ} عبد الله بن سلام؟ قال: لا و كيف؟ و هذه السورة مكية. 

  • أقول: و رواه في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه عن ابن جبير. 

  • و في تفسير البرهان، أيضا عن الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن علي بن عابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال يا أبا مريم حدث عليا بالحديث الذي حدثتني عن أبي جعفر. قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام. قلت: جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب. قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز و جل: {وَ مَنْ عِنْدَهُ 

تفسير الميزان ج۱۱

389
  •  عِلْمُ اَلْكِتَابِ} {أَ فَمَنْ كَانَ عَلى‌ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ} (الآية).

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سلام: قد أنزل الله في القرآن {قُلْ كَفى‌ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ}

  • أقول: و روي ما في معناه عن ابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه و عن جندب، و قد عرفت حال الرواية فيما تقدم، و قد روي عن ابن المنذر عن الشعبي :ما نزل في عبد الله بن سلام شي‌ء من القرآن. 

  •  

  • تم و الحمد لله. 

تفسير الميزان ج۱۱

390
  • فهرس ما في هذا الجزء من أمهات المطالب