4

تفسير الميزان ج4

تفسير الميزان ج4 4613
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة الطباطبائي

القسم القرآن والحديث والدعاء

المجموعة الميزان في تفسير القرآن


التوضيح

تعرّض العلامة الطباطبائي في هذا الجزء إلى تتمة تفسير سورة آل عمران، و تفسير سورة النساء إلى الآية 76
/٤۲٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تفسير الميزان ج٤

1
  •  

تفسير الميزان ج٤

2
  •  

  •  

  • الميزان في تفسير القرآن 

  • الجزء الرابع

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  •  

  • تأليف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

  •  

  •  

تفسير الميزان ج٤

3
  •  

تفسير الميزان ج٤

4
  •  

  • بقية سورة آل عمران 

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ۱٢۱ الی ۱٢٩] 

  • {وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٢١ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَ اَللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ١٢٢ وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢٣ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ ١٢٤ بَلى‌ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ١٢٥ وَ مَا جَعَلَهُ اَللَّهُ إِلاَّ بُشْرى‌ لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ ١٢٦ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ١٢٧ لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ١٢٨ وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٢٩} 

  • (بيان‌)

  • رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب، 

تفسير الميزان ج٤

5
  • و تذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان و نصر و كفاية، و تعليمهم ما يسبقون به إلى شريف مقصدهم، و هدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم و بعد مماتهم. 

  • و فيها قصة غزوة أحد، و أما الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنما هي من قبيل الضميمة المتممة و محلها محل شاهد القصة و ليست مقصودة بالأصالة على ما سيجي‌ء. 

  • قوله تعالى{وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إذ ظرف متعلق بمحذوف كاذكر و نحوه، و غدوت‌ من الغدو و هو الخروج غداة، و التبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه و إيطانه المكان، و المقاعد جمع، و أهل الرجل‌ كما ذكره الراغب من يجمعه و إياهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة، يقال: أهل الرجل لزوجته و لمن في بيته من زوجة و ولد و خادم و غيرهم، و للمنتسبين إليه من عشيرته و عترته، و يقال: أهل بلد كذا لقاطنيه، و أهل دين كذا لمنتحليه، و أهل صناعة كذا لصناعها و أساتيدها، و يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و الجمع و يختص استعماله بالإنسان فأهل الشي‌ء خاصته من الإنسان. 

  • و المراد بأهل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصته و هم جمع، و ليس المراد به هاهنا شخص واحد بدليل قوله: {غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} إذ يجوز أن يقال: خرجت من خاصتك و من جماعتك و لا يجوز أن يقال: خرجت من زوجتك و خرجت من أمك، و لذا التجأ بعض المفسرين إلى تقدير في الآية فقال: إن التقدير: خرجت من بيت أهلك، لما فسر الأهل بالمفرد، و لا دليل يدل عليه من الكلام. 

  • و سياق الآيات مبني على خطاب الجمع و هو خطاب المؤمنين على ما تدل عليه الآيات السابقة و اللاحقة ففي قوله: {وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ}، التفات من خطابهم إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان الوجه فيه ما يلوح من آيات القصة من لحن العتاب فإنها لا تخلو من شائبة اللوم و العتاب و الأسف على ما جرى و ظهر من المؤمنين من الفشل و الوهن في العزيمة و القتال، و لذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصة و عدل إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما يخص به فقال: {وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}، و قال: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ}، و قال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ}، و قال: {قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، و قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ}، و قال: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً} (الآية). 

تفسير الميزان ج٤

6
  • فغير خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد، و هي موارد تحبس المتكلم الجاري في كلامه عن الجري فيه لما تغيظه و تهيج وجده، بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: {وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ}، و قوله: {وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}، لأن العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب المفرد، و بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: {لَقَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الآية)، لأن الامتنان ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع أخذه غائبا أوقع و أشد تأثيرا في النفوس، و أبعد من الوهم و الخطور، فتدبر في الآيات تجد صحة ما ذكرناه. 

  • و معنى الآية: و اذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيئ للمؤمنين مقاعد للقتال أو تسكنهم و توقفهم فيها و الله سميع لما قيل هناك، عليم بما أضمرته قلوبهم، و المستفاد من قوله: {وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}، قرب المعركة من داره (صلى الله عليه وآله و سلم)فيتعين بذلك أن الآيتين ناظرتان إلى غزوة أحد فتتصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن أحد لانطباق المضامين على وقائع هذه الغزوة، و به يظهر ضعف ما قيل: إن الآيتين في غزوة بدر، و كذا ما قيل: إنهما في غزوة الأحزاب، و الوجه ظاهر. 

  • قوله تعالى{وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع يسمع ما قيل هناك، عليم يعلم ما كان مضمرا في قلوبكم، و فيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم، و أمور أضمروها في قلوبهم، و الظاهر أن قوله: {إِذْ هَمَّتْ}، متعلق بالوصفين. 

  • قوله تعالى{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَ اَللَّهُ وَلِيُّهُمَا} الهم‌ ما هممت به في نفسك و هو القصد، و الفشل‌ ضعف مع الجبن. 

  • و قوله {وَ اَللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، حال و العامل فيه قوله: {هَمَّتْ}، و الكلام مسوق للعتاب و اللوم، و كذا قوله: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ}، و المعنى: أنهما همتا بالفشل مع أن الله وليهما و لا ينبغي لمؤمن أن يفشل و هو يرى أن الله وليه، و مع أن المؤمنين ينبغي أن يكلوا أمرهم إلى الله و من يتوكل على الله فهو حسبه. 

  • و من ذلك يظهر ضعف ما قيل: إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لأن الله تعالى مدحهما، و أخبر أنه وليهما، و لو كان هم عزيمة و قصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم. 

  • و ما أدري ما ذا يريد بقوله: إنه هم خطرة، أ مجرد الخطور بالبال و تصور مفهوم 

تفسير الميزان ج٤

7
  • الفشل؟ فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك، و لا معنى لذكر مثل ذلك في القصة قطعا، و لا يسمى ذلك هما في اللغة، أم تصورا معه شي‌ء من التصديق، و خطورا فيه شوب قصد؟ كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما، و لو كان مجرد خطور من غير أي أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل، على أن ذكر ولاية الله لهم و وجوب التوكل على المؤمن إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور، على أن قوله: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، ليس مدحا بل لوم و عظة على ما يعطيه السياق كما مر. 

  • و لعل منشأ هذا الكلام‌ ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: فينا نزلت، و ما أحب أنها لم تكن، لقوله: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ففهم من الرواية أن جابرا فهم من الآية المدح. 

  • و لو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم و صدق كونهم مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم، و الله ولي الذين آمنوا و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} إلى آخر الآية ظاهر السياق أن تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب و تأكيده فتكون تؤدي معنى الحال كقوله: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، و المعنى: و ما كان ينبغي أن يظهر منكم الهم بالفشل و قد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة، و ليس من البعيد أن يكون كلاما مستقلا سيق مساق الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لإمدادهم و نصرهم يوم بدر. 

  • و لما ذكر تعالى نصره إياهم يوم بدر و قابل ذلك بما هم عليه من الحال و من المعلوم أن كل من اعتز فإنما يعتز بنصر الله و عونه فليس للإنسان من قبل نفسه إلا الفقر و الذلة و لذلك قال: {وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}

  • و من هنا يعلم أن قوله: {وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} لا ينافي أمثال قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ}: المنافقون: ٨ فإن عزتهم إنما هي بعزة الله، قال تعالى: {فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} النساء: ١٣٩ و ذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىَ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ} الروم: ٤٧ فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث 

تفسير الميزان ج٤

8
  • أنفسهم لم يكن لهم إلا الذلة. 

  • على أن واجهة حال المؤمنين أيضا يوم بدر كانت تقضي بكونهم أذلة قبال ما كان عليه المشركون من القوة و الشوكة و الزينة، و لا ضير في إضافة الذلة النسبية إلى الأعزة و قد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كل المدح حيث قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} (الآية) «المائدة: ٥٤». 

  • قوله تعالى{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ} الإمداد من المد و هو إيصال المدد على نعت الاتصال. 

  • قوله تعالى{بَلىَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} بلى‌ كلمة تصديق و الفور و الفوران‌: الغليان يقال: فار القدر إذا غلا و جاش، ثم أستعير للسرعة و العجلة فاستعمل في الأمر الذي لا ريث فيه و لا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه. 

  • و الظاهر أن مصداق الآية هو يوم بدر، و إنما هو وعد على الشرط و هو ما يتضمنه قوله: {إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

  • و أما ما يظهر من بعض المفسرين أنه وعد بإنزال الملائكة إن جاءوهم بعد فورهم هذا يعني يوم بدر بأن يكون المراد {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} هو يوم بدر لا في يوم بدر، و كذا ما يظهر من بعض آخر أنه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كأحد و حنين و الأحزاب فمما لا دليل عليه من لفظ الآية. 

  • أما يوم أحد فلا محل لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات و هو ظاهر، و أما يوم الأحزاب و يوم حنين فالقرآن و إن كان يصرح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصة الأحزاب: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}: «الأحزاب: ٩» و قال: {وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ}«إلى أن قال»: {وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}: «التوبة: ٢٦» إلا أن لفظ هذه الآية: {بَلىَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قاصر عن إفادة عموم الوعد. 

  • و أما نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافي قوله تعالى في سورة الأنفال: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ}: «الأنفال: ٩» لمكان قوله: {مُرْدِفِينَ} أي متبعين لآخرين و هم الألفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات. 

تفسير الميزان ج٤

9
  • قوله تعالى{وَ مَا جَعَلَهُ اَللَّهُ إِلاَّ بُشْرىَ لَكُمْ}الضمير راجع إلى الإمداد، و لفظة عند ظرف يفيد معنى الحضور، و قد كان أولا مستعملا في القرب و الحضور المكاني المختص بالأجسام ثم توسع فاستعمل في القرب الزماني ثم في مطلق القرب و الحضور المعنوي كيفما كان، و قد استعمل في القرآن في مختلف الفنون. 

  • و الذي يفيده في هذا المقام أعني قوله: {وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ} بالنظر إلى ما سبقه من قوله: {وَ مَا جَعَلَهُ اَللَّهُ إِلاَّ بُشْرى‌َ لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} هو المقام الربوبي الذي ينتهي إليه كل أمر و حكم، و لا يكفي عنه و لا يستقل دونه شي‌ء من الأسباب، فالمعنى: أن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شي‌ء بل هم أسباب ظاهرية يجلبون لكم البشرى و طمأنينة القلب، و إنما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغني عنه شي‌ء، و هو الله الذي ينتهي إليه كل أمر، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي لا يجهل. 

  • قوله تعالى{لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} إلى آخر الآيات، اللام متعلق بقوله: {وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ} و قطع الطرف كناية عن تقليل عدتهم و تضعيف قوتهم بالقتل و الأسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون و أسر سبعون، و الكبت هو الإخزاء و الإغاظة. 

  • و قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ} معترضة، و فائدتها بيان أن الأمر في القطع و الكبت لله، و ليس للنبي ص فيه صنع حتى يمدحوه و يستحسنوا تدبيره إذا ظفروا على عدوهم و نالوا منه، و يلوموه و يوبخوه إذا دارت الدائرة عليهم و يهنوا و يحزنوا كما كان ذلك منهم يوم أحد على ما حكاه الله تعالى. 

  • و قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} معطوف على قوله: {لِيَقْطَعَ}، و الكلام متصل، و قوله: {وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ}، بيان لرجوع أمر التوبة و المغفرة إلى الله تعالى، و المعنى: أن هذا التدبير المتقن منه تعالى إنما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل و الأسر أو ليخزيهم و يخيبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذبهم، أما القطع و الكبت فلأن الأمر إليه لا إليك حتى تمدح أو تذم، و أما التوبة و العذاب فلأن الله هو المالك لكل شي‌ء فيغفر لمن يشاء، و يعذب من يشاء، و مع ذلك فإن مغفرته و رحمته تسبقان عذابه و غضبه فهو الغفور الرحيم. 

تفسير الميزان ج٤

10
  • و إنما أخذنا قوله: {وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ}، في موضع التعليل للفقرتين الأخيرتين أعني قوله: {أَوْ يَتُوبَ} اه، لما في ذيله من اختصاص البيان بهما أعني قوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}

  • و قد ذكر المفسرون وجوها أخر في اتصال قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}، و في معنى العطف في قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}، و كذا في ما يعلله قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ}، و ما يعلله قوله: {وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ}، أغمضنا عن التعرض لها و البحث عنها لقلة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجاري، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.

  • (بحث روائي) 

  • في المجمع: عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر، لأنه قتل منهم سبعون و أسر سبعون - قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم تبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن و العداوة لمحمد فلما غزوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء و النوح، و خرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس و ألفي راجل و أخرجوا معهم النساء. 

  • فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ذلك جمع أصحابه و حثهم على الجهاد فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف و المرأة و العبد و الأمة على أفواه السكك و على السطوح فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا و نحن في حصوننا و دورنا، و ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا. 

  • فقام سعد بن معاذ و غيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا و أنت فينا؟ لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا، و من نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله. 

  • فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رأيه، و خرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما قال تعالى: {وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} (الآية) و قعد عنه عبد الله بن أبي بن سلول، و جماعة 

تفسير الميزان ج٤

11
  • من الخزرج اتبعوا رأيه. 

  • و وافت قريش إلى أحد و كان رسول الله عبأ أصحابه و كانوا سبعمائة رجل و وضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، و أشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان، فقال لعبد الله بن جبير و أصحابه: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، و إن رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا و الزموا مراكزكم. 

  • و وضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا، و قال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم . 

  • و عبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصحابه، و دفع الراية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) و حمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، و وضع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في سوادهم و انحط خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع، و نظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير: قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله: اتقوا الله فإن رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم، و بقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا. 

  • و كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار فقتله علي، و أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي و سقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صواب فانتهى إليه علي فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال: هل عذرت في بني عبد الدار؟ فضربه علي على رأسه فقتله، و سقط اللواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها . 

  • و انحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير و قد فر أصحابه و بقي في نفر قليل فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من أدبارهم، و نظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، و انهزم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هزيمة عظيمة، 

تفسير الميزان ج٤

12
  • و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كل وجه . 

  • فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال: إلي أنا رسول الله إلى أين تفرون عن الله و عن رسوله؟ و كانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا و مكحلة، و قالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا. 

  • و كان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له أحد، و كانت هند قد أعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا و كذا، و كان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا فقال وحشي: أما محمد فلم أقدر عليه، و أما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا فمر بي فوطئ على جرف نهر فسقط، و أخذت حربتي فهززتها و رميته بها فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنته فسقط فأتيته فشققت بطنه، و أخذت كبده، و جئت به إلى هند فقلت هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها فجعله الله في فمها مثل الداعضة و هي عظم رأس الركبة فلفظتها و رمت بها، فقال رسول الله (عليه السلام): فبعث الله ملكا فحمله و رده إلى موضعه قال: فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، و قطعت أذنيه، و قطعت يده و رجله و لم يبق مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا أبو دجانة سماك بن خرشة و علي، فكلما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم علي فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه فدفع إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سيفه ذا الفقار، و انحاز رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى ناحية أحد فوقف فلم يزل علي (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في رأسه و وجهه و بدنه و بطنه و رجليه سبعون جراحة، كذا أورده علي بن إبراهيم في تفسيره فقال جبرائيل: إن هذه لهي المواساة يا محمد، فقال محمد ص إنه مني و أنا منه فقال جبرائيل: و أنا منكما . 

  • قال أبو عبد الله: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى جبرائيل بين السماء و الأرض على كرسي من ذهب و هو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي. 

  • و في رواية القمي و بقيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نسيبة بنت كعب المازنية و كانت تخرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في غزواته تداوي الجرحى و كان ابنها معها فأراد أن ينهزم و يتراجع فحملت عليه و قالت: يا بني إلى أين تفر عن الله و عن رسوله، 

تفسير الميزان ج٤

13
  • فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): بارك الله فيك يا نسيبة، و كانت تقي رسول الله بصدرها و ثدييها حتى أصابتها جراحات كثيرة. 

  • و حمل ابن قمئة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: أروني محمدا لا نجوت إن نجا، فضربه على حبل عاتقه، و نادى: قتلت محمدا و اللات و العزى. 

  • أقول: و في القصة روايات أخر ربما تخالف هذه الرواية في بعض فقراتها. 

  • منها: ما في هذه الرواية أن عدة المشركين كانت خمسة آلاف فإن غالب الروايات أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل. 

  • و منها: ما فيها أن عليا (عليه السلام) قتل حاملي الراية و هم تسعة و يوافقها فيه روايات أخر، و رواه ابن الأثير في الكامل عن أبي رافع، و بقية الروايات تنسب قتل بعضهم إلى غيره (عليه السلام) و التدبر في القصة يؤيد ما في هذه الرواية. 

  • و منها: ما فيها أن هندا أعطت وحشيا عهدا في قتل حمزة فإن ما روته أهل السنة أن الذي أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط، و إتيانه بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيد ما في هذه الرواية. 

  • و منها: ما فيها أن جميع المسلمين تفرقوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا علي و أبو دجانة و هو الذي اتفقت عليه الروايات، و في بعضها ذكر لغيرهما حتى أنهي من ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى ثلاثين رجلا لكن هذه الروايات ينفي بعضها ما في بعض، و عليك بالتدبر في أصل القصة و القرائن التي تبين الأحوال حتى يخلص لك الحق، فإن هذه القصص و الروايات شهدت مواقف موافقة و مخالفة و مرت بأجواء نيرة و مظلمة حتى انتهت إلينا. 

  • و منها: ما فيها أن الله بعث ملكا فحمل كبد حمزة فرده إلى موضعه، و ليس في غالب الروايات، و في بعضها كما في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة و أحمد و ابن المنذر عن ابن مسعود في حديث قال: ثم قال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة و إن كانت لمن غير ملإ منا ما أمرت و لا نهيت، و لا أحببت و لا كرهت، و لا ساءني و لا سرني، 

تفسير الميزان ج٤

14
  • قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، و أخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ أكلت شيئا؟ قالوا: لا قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار، الحديث. 

  • و في روايات أصحابنا و غيرهم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصيب يومئذ بشجة في جبهته، و كسرت رباعيته: و اشتكت ثنيته رواه مغيرة. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر عن ابن شهاب، و محمد بن يحيى بن حيان، و عاصم بن عمرو بن قتادة، و الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، و غيرهم كل قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد. 

  • قالوا: لما أصيب قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش و رجع فلهم إلى مكة، و رجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة و عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم و أبناؤهم و إخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب و من كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب، ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و خرجت بجدتها و جديدها، و خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة و لئلا يفروا، و خرج أبو سفيان و هو قائد الناس فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السنجة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة. 

  • فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إني رأيت بقرا تنحر، و رأيت في ذباب سيفي ثلما، و رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا المدينة و تدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، و إن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. 

  • و نزلت قريش منزلها أحدا يوم الأربعاء فأقاموا ذلك اليوم و يوم الخميس و يوم الجمعة، و راح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث. 

  • و كان رأي عبد الله بن أبي مع رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يرى رأيه في ذلك أن لا 

تفسير الميزان ج٤

15
  • يخرج إليهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد و غيرهم ممن كان فاته يوم بدر و حضوره: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم و ضعفنا فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، و لا دخلها علينا إلا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر، و إن دخلوا قاتلهم النساء و الصبيان و الرجال بالحجارة من فوقهم، و إن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا، و لم يزل الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلبس لأمته، و ذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم و قد ندم الناس، و قالوا: استكرهنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل. 

  • فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة و أحد تحول عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، و مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان يحب الفال و لا يعتاف لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم، و مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره و عسكره إلى أحد، و تعبأ رسول الله ص للقتال و هو في سبعمائة رجل. 

  • و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الرماة عبد الله بن جبير و الرماة خمسون رجلا فقال: انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك، و ظاهر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين درعين. 

  • و في الدر المنثور أيضا عن ابن جرير عن السدي في حديث: و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أحد في ألف رجل، و قد وعدهم الفتح أن يصبروا فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه، و قالوا له: ما نعلم قتالا و لئن أطعتنا لترجعن معنا. 

  • و قال: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ}، و هم بنو سلمة و بنو حارثة هموا 

تفسير الميزان ج٤

16
  • بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي فعصمهم الله، و بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في سبعمائة. 

  • أقول: بنو سلمة و بنو حارثة حيان من الأنصار فبنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس. 

  • و في المجمع: روى ابن أبي إسحاق و السدي و الواقدي و ابن جرير و غيرهم و قالوا: كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء في شوال سنة ثلاث من الهجرة، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إليهم يوم الجمعة، و كان القتال يوم السبت النصف من الشهر، و كسرت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و شج في وجهه ثم رجع المهاجرون و الأنصار بعد الهزيمة و قد قتل من المسلمين سبعون، و شد رسول الله بمن معه حتى كشفهم، و كان المشركون مثلوا بجماعة، و كان حمزة أعظم مثلة. 

  • أقول: الروايات في قصة أحد كثيرة جدا و لم نرو من بينها فيما تقدم و يأتي إلا النزر اليسير الذي يتوقف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها، فالآيات في شأن القصة أقسام: 

  • فمنها: ما تتعرض لفشل من فشل من القوم و تنازع أو هم أن يفشل يومئذ. 

  • و منها: ما نزل و لحنه العتاب و اللوم على من انهزم و انكشف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد كان الله حرم عليهم ذلك. 

  • و منها: ما يتضمن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس، و من ثبت و لم ينهزم و قاتل حتى قتل. 

  • و منها: ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة و قاتل و لم يقتل. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٣٠الی ١٣٨]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٣٠وَ اِتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ١٣١ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٣٢ وَ سَارِعُوا إِلى‌

تفسير الميزان ج٤

17
  • مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٣ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرَّاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ وَ اَلْكَاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعَافِينَ عَنِ اَلنَّاسِ وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ١٣٤ وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‌ مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ١٣٥ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ ١٣٦ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ ١٣٧ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٨} 

  • (بيان‌) 

  • آيات داعية إلى الخير، زاجرة عن الشر و السوء، و هي مع ذلك لا تفقد الاتصال بما قبلها و لا ما بعدها من الآيات الشارحة لقصة غزوة أحد، و بيان ما كان في المؤمنين يومئذ من مساوئ الحالات و الخصال المذمومة التي لا يرتضيها الله سبحانه، و هي الموجبة لما دب فيهم من الوهن و الضعف و معصية الله و رسوله، فالآيات من تتمة الآيات النازلة في غزوة أحد. 

  • ثم هدايتهم إلى ما يأمنون به الوقوع في هذه الورطات المهلكة، و العقبات المردية و دعوتهم إلى تقوى الله و الثقة به و الثبات على طاعة الرسول، فهذه الآيات التسع خاصة فيها ترغيب و تحذير، فهي ترغب المؤمنين على المسارعة إلى الخير و هي الإنفاق في سبيل الله في السراء و الضراء، و كظم الغيظ و العفو عن الناس، و يجمعها بث الإحسان و الخير 

تفسير الميزان ج٤

18
  • في المجتمع، و الصبر على تحمل الأذى و السوء، و الصفح عن الإساءة قبالة الإساءة، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تستحفظ بها حياة المجتمع و يشد بها عظمه فيقوم على ساق، و من لوازم هذا الإنفاق و الإحسان ترك الربا و لذلك بدأ به، و هو كالتوطئة للدعوة إلى الإحسان و الإنفاق، فقد مر في آيات الإنفاق و الربا من سورة البقرة أن الإنفاق بجميع طرقه من أعظم ما يعتمد عليه بنية المجتمع، و أنه الذي ينفخ روح الوحدة في المجتمع الإنساني فتتحد به قواه المتفرقة فتنال بذلك سعادته في الحياة، و يقوى به على دفع كل آفة مهلكة أو موذية تقصده، و إن الربا من أعظم ما يضاد الإنفاق في خاصته هذه. 

  • فهذا ما يرغبهم الله فيه ثم يرغبهم في أن لا ينقطعوا عن ربهم بقواطع الذنوب و المعاصي فإن أتوا بما لا يرضاه لهم ربهم تداركوه بالتوبة و الرجوع إليه ثانيا و ثالثا من غير أن يكسلوا أو يتوانوا، و بهذين الأمرين يستقيم سيرهم في صراط الحياة السعيدة فلا يضلون و لا يقفون فيهلكوا. 

  • و هذا البيان كما ترى أحسن طريق يهدي به الإنسان إلى تكميل نفسه بعد ظهور النقص و أجود سبيل في علاج الرذائل النفسانية التي ربما دبت في النفوس المحلاة بالفضائل فأورثت السفال و السقوط و هددت بالهلكة و الردى. 

  • تعليم القرآن و قرانه العلم بالعمل‌ 

  • و هذا من دأب القرآن في تعليمه الإلهي إذ لم يزل يجعل في مدة نزولها و هي ثلاث و عشرون سنة لكليات تعاليمه مواد أولية حتى إذا عمل بشي‌ء منها أخذ صورة العمل الواقع مادة لتعليمهم ثانيا فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسد من أجزائه و تركيبه بالصحيح الباقي، و ذم الفاسد، و الثناء على الصحيح المستقيم و الوعد الجميل و الشكر الجزيل لفاعله، فكتاب الله العزيز كتاب علم و عمل لا كتاب فرض و تقدير، و لا كتاب تعمية و تقليد. 

  • فمثله مثل المعلم يلقي إلى تلامذته الكليات العلمية في أوجز بيان و أقصر لفظ و يأمرهم بالعمل بها ثم يأخذ ما عملوه ثانيا و يحلله إلى أوائل أجزائه من صحيح و فاسد فيبين لهم موارد النقص و القصور مشفعة بالعظة و الوعيد، و يمدح موارد الاستقامة و الصحة و يقارنها بالوعد و الشكر و يأمرهم بالعمل ثانيا، و هذا فعاله حتى يكملوا في 

تفسير الميزان ج٤

19
  • فنهم و يسعدوا في جدهم. 

  • و هذا الذي ذكرناه من الحقائق القرآنية اللائحة للمتدبر الدقيق في بادئ مرة فتراه سبحانه ينزل كليات الجهاد مثلا في آياته بادئ مرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتَالُ} (الآيات): «البقرة» ٢١٦ و يأمر المؤمنين به فيها ثم يأخذ قصة بدر ثانيا و يأمرهم بما يبين لهم فيها ثم قصة أحد ثم قصة أخرى و هكذا، و تراه سبحانه يقص قصص السابقين من الأنبياء و أممهم ثم يجعلها بعد إصلاحها و بيان وجه الحق فيها عبرة للاحقين و دستورا لعملهم و هكذا، و قد نزل في هذه الآيات من هذا القبيل قوله: {فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ} (الآية)، و قوله: {وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} (الآيات).

  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا} إلى آخر الآيات الثلاث قد مر سابقا وجه إطلاق الأكل و إرادة الأخذ، و قوله: {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} يشير إلى الوصف الغالب في الربا فإنه بحسب الطبع يتضاعف فيصير المال أضعافا مضاعفة بإنفاد مال الغير و ضمه إلى رأس المال الربوي. 

  • و في قوله: {وَ اِتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، إشارة إلى كفر آكل الربا كما مر في سورة البقرة في آيات الربا: {وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}: «البقرة: ٢٧٦». 

  • قوله تعالى{سَارِعُوا إِلى‌ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ}، المسارعة هي الاشتداد في السرعة و هي ممدوحة في الخيرات، و مذمومة في الشرور. 

  • و قد قورن في القرآن الكريم المغفرة بالجنة في غالب الموارد، و ليس إلا لأن الجنة دار طهارة لا يدخل فيها قذارات المعاصي و الذنوب و أدرانها، و لا من تقذر بها إلا بعد المغفرة و الإزالة. 

  • و المغفرة و الجنة المذكورتان في هذه الآية تحاذيان ما في الآيتين التاليتين، أما المغفرة فتحاذي ما في قوله: {وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}، و أما الجنة فتحاذي ما في قوله: {اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرَّاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ}

  • و أما قوله: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ}، فالمراد بالعرض السعة و هو استعمال شائع، و كان التعبير كناية عن بلوغها في السعة غايتها أو ما لا يحدها الوهم البشري، و له معنى آخر سنشير إليه في البحث الروائي الآتي. 

تفسير الميزان ج٤

20
  • و قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} كالتوطئة لذكر ما يذكره بعد من أوصاف المتقين، فإن الغرض هو بيان الأوصاف التي ترتبط بحال المؤمنين في المقام أعني عند نزول هذه الآيات و قد نزلت بعد غزوة أحد و قد جرى عليهم و منهم ما جرى من الضعف و الوهن و المخالفة، و هم مع ذلك مشرفون على غزوات أخر مثلها، و حوادث تشابهها، و بهم حاجة إلى الاتحاد و الاتفاق و التلاؤم. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرَّاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ} إلى آخر الآية السراء و الضراء ما يسر الإنسان و ما يسوؤه أو اليسر و العسر، و الكظم‌ في الأصل هو شد رأس القربة بعد ملئها فاستعير للإنسان إذا امتلأ حزنا أو غضبا، و الغيظ هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه، بخلاف الغضب‌ فهو إرادة الانتقام أو المجازاة، و لذلك يقال: غضب الله و لا يقال: اغتاظ. 

  • و في قوله: {وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ}، إشارة إلى أن ما ذكره من الأوصاف معرف لهم، و إنما هو معرف للمحسنين في جنب الناس بالإحسان إليهم، و أما في جنب الله فمعرفهم ما في قوله تعالى: {وَ بُشْرى‌َ لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (الآيات): «الأحقاف: ١٣» بل هذا الإحسان المذكور في هذه الآيات هو المحتد للمذكور في قوله: {اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرَّاءِ وَ اَلضَّرَّاءِ} (الآية)، فإن الإنفاق و نحوه إذا لم يكن لوجه الله لم يكن له منزلة عند الله سبحانه على ما يدل عليه قوله تعالى فيما سبق من الآيات: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} (الآية) و غيره. 

  • و يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ}: العنكبوت - ٦٩، فإن هذا الجهاد هو بذل الجهد و لا يكون إلا فيما يخالف هوى النفس و مقتضى الطبع، و لا يكون إلا إذا كان عندهم إيمان بأمور يقتضي الجري على مقتضاها، و الثبات عليها مقاومة بإزاء ما يحبه طبع الإنسان و تشتهيه نفسه، و لازمه بحسب القول و الاعتقاد أن يكونوا قائلين ربنا الله و هم مستقيمون عليه، و بحسب العمل أن يقيموا هذا القول بالجهاد في عبادة الله فيما بينهم و بين الله، و بالإنفاق و حسن العشرة فيما بينهم و بين الناس، فتحصل مما ذكرنا أن الإحسان إتيان الأعمال على وجه الحسن من جهة الاستقامة و الثبات على الإيمان بالله سبحانه. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {وَ نِعْمَ 

تفسير الميزان ج٤

21
  • أَجْرُ اَلْعَامِلِينَ}الفاحشة ما تتضمن الفحش و القبيح من الأفعال، و شاع استعماله في الزنا، فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة و الصغيرة، أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي و هي الكبائر، و في قوله: {ذَكَرُوا اَللَّهَ} إلخ دلالة على أن الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرد التلفظ باعتياد و نحوه، و قوله: {وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللَّهُ} تشويق و إيقاظ لقريحة اللواذ و الالتجاء في الإنسان. 

  • و قوله: {وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‌ مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}، إنما قيد به الاستغفار لأنه يورث في النفس هيئة لا ينفع معه ذكر مقام الرب تعالى و هي الاستهانة بأمر الله، و عدم المبالاة بهتك حرماته، و الاستكبار عليه تعالى، و لا تبقى معه عبودية و لا ينفع معه ذكر، و لذلك بعينه قيده بقوله: {وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}، و هذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل الصغائر أيضا، و ذلك أن الإصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله و التحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر، فقوله: {مَا فَعَلُوا} أعم من الكبيرة، و المراد بما فعلوا هو الذي ذكر في صدر الآية، و إذ ليست الصغيرة فاحشة فهو ظلم النفس لا محالة. 

  • و قوله: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ} بيان لأجرهم الجزيل، و ما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله: {وَ سَارِعُوا إِلى‌ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ} إلخ و من ذلك يعلم أن الأمر إنما كان بالمسارعة إلى الإنفاق و كظم الغيظ و العفو عن الناس و الاستغفار. 

  • قوله تعالى{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا}، السنن‌ جمع سنة و هي الطريقة المسلوكة في المجتمع، و الأمر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الأمم الغابرة، و الملوك و الفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم، و لا ذخائر كنوزهم، و لا عروشهم و لا جموعهم، و قد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون، و يتفكه بها المغفلون. 

  • و أما حفظ آثارهم و كلاءة تماثيلهم و الجهد في الكشف عن عظمتهم و مجدهم الظاهر الدنيوي الذي في أيامهم فمما لا يعتني به القرآن، فإنما هي الوثنية التي لا تزال تظهر كل حين في لباس، و سنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقل نحلل فيه معنى الوثنية. 

تفسير الميزان ج٤

22
  • قوله تعالى{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} (الآية) التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ و إبانة لبعض و هدى و موعظة لآخرين. 

  • بحث روائي‌

  • في المجمع في قوله تعالى: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ} عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه سئل إذا كانت الجنة عرضها السماوات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟ 

  • أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، عن التنوخي في كتاب جاء به من هرقل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك، و رواه أيضا بطريق آخر عن أبي هريرة:أن رجلا سأله عن ذلك فأجاب بذلك. 

  • و ما فسر كلامه (صلى الله عليه وآله و سلم) بأن المراد كون النار في علم الله تعالى كما أن الليل عند مجي‌ء النهار في علم الله تعالى فإن أريد أن النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أن هذا الجواب لا يدفع الإشكال فإن السؤال إنما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها، و إن أريد أن من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات و الأرض تكون النار متمكنة فيها فهو و إن لم يكن مستبعدا في نفسه لكن مقايسة الجنة و النار بالنهار و الليل حينئذ لا تكون في محلها، فإن الليل لا يخرج عن حيطة السماوات و الأرض عند مجي‌ء النهار فالحق أنه تفسير غير مرضي. 

  • و أظن أن الرواية ناظرة إلى معنى آخر و توضيحه: أن الآخرة بنعيمها و جحيمها و إن كانت مشابهة للدنيا و لذائذها و آلامها و كذلك الإنسان الحال فيها و إن كان هو الإنسان الذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب و السنة غير أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، فإنما الآخرة دار أبدية و بقاء، و الدنيا دار زوال و فناء، و لذلك كان الإنسان يأكل و يشرب و ينكح و يتمتع في الجنة فلا يعرضه ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا، و كذلك الإنسان يحترق بنار الجحيم، و يقاسي الآلام و المصائب في مأكله و مشربه و مسكنه و قرينه في النار و لا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها و هو في الدنيا، و يعمر عمر الأبد و لا يؤثر فيه ذلك كهولة أو شيبا أو هرما 

تفسير الميزان ج٤

23
  • و هكذا، و ليس إلا أن العوارض و الطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيوي دون مطلق النظام الأعم منه و من النظام الأخروي، فالدنيا دار التزاحم و التمانع دون الآخرة. 

  • و مما يدل عليه أن الذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنا إذا شاهدنا غيره ثانيا كحوادث الأمس و حوادث اليوم، و الليل و النهار و غير ذلك، و أما الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الذي نشاهده أولا و يغيب عنا ثانيا و لا الذي نجده بعده و لا مزاحمة بينهما، فالليل و النهار و كذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادة و الحركة، و هي بعينها لا تتزاحم و لا تتمانع بحسب نظام آخر، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلىَ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ وَ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}: «الفرقان: ٤٦». 

  • و إذا أمكن ذلك في مثل الليل و النهار و هما متزاحمان جاز في السماوات و الأرض أن تسع ما يساويهما سعة، و تسع مع ذلك شيئا آخر يساويه مقدارا كالجنة و النار مثلا لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة، و لهذا نظائر في الأخبار كما ورد: أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، و ما ورد: أن المؤمن يوسع له في قبره مد بصره. 

  • فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل؟ لظهور أن لو كان المراد أن الله سبحانه لا يجهل الليل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال، و كذا لو كان المراد أن الليل يبقى في الخارج مع مجي‌ء النهار اعترض عليه السائل بأن الليل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محل واحد من مناطق الأرض، و إن اعتبرا من حيث نفسهما فالليل بحسب الحقيقة ظل مخروط حادث من إنارة الشمس، و هو يدور حول الكرة الأرضية بحسب الحركة اليومية فالليل و النهار سائران حول الأرض دائما من غير بطلان و لا عينيه. 

  • و للرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ}: الأنفال - ٣٧ من قوله (عليه السلام): إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الأرض؟ الحديث، و سيجي‌ء البحث عنها. 

  • و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {وَ اَلْكَاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعَافِينَ عَنِ اَلنَّاسِ} (الآية): 

تفسير الميزان ج٤

24
  • أخرج البيهقي عن علي بن الحسين أن جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت: إن الله يقول: {وَ اَلْكَاظِمِينَ اَلْغَيْظَ}، قال: قد كظمت غيظي، قالت‌{وَ اَلْعَافِينَ عَنِ اَلنَّاسِ}، قال: قد عفا الله عنك، قالت {وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ}، قال: اذهبي فأنت حرة. 

  • أقول: و هو مروي من طرق الشيعة أيضا، و ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) يفسر الإحسان بما يزيد على هذه الصفات و هو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أن الصفات المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرف بها الإحسان. 

  • و اعلم أن هناك روايات كثيرة جدا في حسن الخلق و سائر الأخلاق الفاضلة كالإنفاق و الكظم و العفو و نحوها واردة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) أخرنا إيرادها إلى محل آخر أنسب لها. 

  • و في المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي:أن قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}«إلخ» نزل في بهلول النباش، و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها و كانت بيضاء جميلة فسول له الشيطان فزنى بها ثم ندم فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فرده، ثم اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبد و يتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل الله توبته و نزل فيه القرآن.

  • أقول: و الرواية مفصلة نقلناها ملخصة، و لو صحت الرواية لكانت سببا آخر لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصة. 

  • و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىَ مَا فَعَلُوا} (الآية) قال: الإصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله و لا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قال إبليس: يا رب و عزتك لا أزال أغوي بني آدم ما كانت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: و عزتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. 

  • و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار. 

  • و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال و في كتاب الله نجاة من 

تفسير الميزان ج٤

25
  • الردى، و بصيرة من العمى، و شفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار و التوبة قال الله: {وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىَ مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}، و قال: {وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، و اشترط معه التوبة و الإقلاع عما حرم الله فإنه يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، و بهذه الآية يستدل أن الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلا العمل الصالح و التوبة. 

  • أقول: قد استفاد (عليه السلام) الإقلاع و عدم العود بعد التوبة من نفي الإصرار، و كذا احتياج التوبة و الاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيب في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ} (الآية). 

  • و في المجالس عن الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية: {وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}، صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا له: يا سيدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذاك فقال: لست لها، فقال الوسواس الخناس: أنا لها قال: بما ذا؟ قال أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة. 

  • أقول: و الرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٣٩ الی ١٤٨] 

  • {وَ لاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣٩ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلظَّالِمِينَ ١٤٠وَ لِيُمَحِّصَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكَافِرِينَ ١٤١ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا

تفسير الميزان ج٤

26
  • مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصَّابِرِينَ ١٤٢ وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ١٤٣ وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىَ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ ١٤٤ وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ سَنَجْزِي اَلشَّاكِرِينَ ١٤٥ وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ مَا ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكَانُوا وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلصَّابِرِينَ ١٤٦ وَ مَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ إِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَ ثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَ اُنْصُرْنَا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ ١٤٧ فَآتَاهُمُ اَللَّهُ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا وَ حُسْنَ ثَوَابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللَّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ ١٤٨} 

  • (بيان) 

  • الآيات كما ترى تتمة للآيات السابقة المبتدئة بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا}، كما أن الآيات السابقة بأوامرها و نواهيها توطئة لهذه الآيات التي تشتمل على أصل المقصود من أمر و نهي و ثناء و توبيخ. 

  • قوله تعالى: «{وَ لاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}» الوهن‌: هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب، و المراد به هنا ضعفهم من حيث 

تفسير الميزان ج٤

27
  • العزيمة و الاهتمام على إقامة الدين و قتال أعدائه، و الحزن‌ خلاف الفرح و إنما يعرض الإنسان بفقده شيئا يملكه مما يحبه أو أمرا يقدر نفسه مالكة له. 

  • و في قوله تعالى: {وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}، دلالة على أن سبب وهنهم و حزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إياهم، و استعلاء الكفار عليهم، فإن المشركين و إن لم ينالوا كل الغلبة و الظفر على المؤمنين و لم تختتم الوقعة على الانهزام التام من المؤمنين لكن الذي أصاب المؤمنين كان أشد و أوجع و هو شهادة سبعين من سراتهم و شجعانهم، و وقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم و حزنهم، و وقوع قوله: {وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ}«إلخ» موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهيا عن وهن و حزن واقعين لا مقدرين و لا متوقعين. 

  • و قد أطلق قوله: {اَلْأَعْلَوْنَ} من غير تقييد و لكن اشترط بالإيمان فمحصل المعنى: لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم، و لا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم، و الانتصار منهم إن كان فيكم الإيمان، فإن الإيمان أمر يستصحب علاءكم البتة إذ هو يلازم التقوى و الصبر و فيهما ملاك الفتح و الظفر، و أما القرح الذي أصابكم فلستم بمتفردين فيه بل القوم و هم المشركون قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شي‌ء حتى يوجب ذلك وهنكم و حزنكم. 

  • و اشتراط علوهم بالإيمان مع كون الخطاب للذين آمنوا إنما هو للإشارة إلى أن الجماعة و إن كانوا لا يفقدون الإيمان إلا أنهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر و التقوى و إلا لأثر أثره. 

  • و هذا حال كل جماعة مختلفة الحال في الإيمان فيهم المؤمن حقا و الضعيف إيمانا و المريض قلبا، و يكون مثل هذا الكلام تنشيطا لنفس مؤمنهم، و عظة لضعيفهم و عتابا و تأنيبا لمريضهم. 

  • قوله تعالى: «{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}» القرح بفتح القاف الأثر من الجراحة من شي‌ء يصيبه من خارج، و القرح بالضم أثرها من داخل كالبثرة و نحوها قاله الراغب و كأنه كناية عما أصابهم يوم أحد بفرض مجموع المسلمين شخصا واحدا أصابه جراحة من عدوه و هو قتل من قتل منهم، و جراحة من جرح 

تفسير الميزان ج٤

28
  • منهم، و فوت النصر و الفتح بعد ما أطلا عليهم. 

  • و هذه الجملة أعني قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ} «إلخ» و ما بعدها من الجمل المتسقة إلى قوله: {وَ يَمْحَقَ اَلْكَافِرِينَ} في موضع التعليل كما مر لقوله: {وَ لاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا} اه كما أن قوله: {وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ} تعليل آخر. 

  • و الفرق بين النوعين من التعليل أن الأول أعني قوله: {وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ} إلخ، تعليل من طريق التخطئة لظنهم، فإنهم إنما وهنوا و حزنوا لما ظنوا علاء المشركين عليهم فخطاهم الله بأن ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين، و قد قال تعالى: {وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ}: «الروم: ٤٧». 

  • و أما الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين المؤمنين و المشركين أو بيان الحكم و المصالح التي ترجع إلى أصل واحد و هو السنة الإلهية الجارية بمداولة الأيام بين الناس. 

  • قوله تعالى: «{وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ}» اليوم‌ هو المقدار المعتد به من الزمان اللازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث، و قد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس و غروبها، و ربما استعمل في الملك و السلطنة و القهر و نحوها بعلاقة الظرف و المظروف، فيقال يوم جماعة كذا و يوم آل فلان أي تقدمهم و حكومتهم على غيرهم، و قد يقال لنفس الزمان الذي وقع فيه ذلك، و المراد بالأيام في الآية هو هذا المعنى. و المداولة جعل الشي‌ء يتناوله واحد بعد آخر. فالمعنى: أن السنة الإلهية جرت على مداولة الأيام بين الناس من غير أن توقف على قوم و يذب عنها قوم لمصالح عامة تتبع هذه السنة لا تحيط أفهامكم إلا ببعضها دون جميعها. 

  • قوله تعالى: «{وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}» إلخ عطف على محذوف حذف للتلويح على أنه مما لا تحيط به الأفهام و لا تدركه العقول إلا من بعض جهاتها، و الذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله: {وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} إلخ و بقوله: {وَ لِيُمَحِّصَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكَافِرِينَ}

  • أما قوله: {وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا}، فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه و خفائه، فإن علمه تعالى بالحوادث و الأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإن الأشياء 

تفسير الميزان ج٤

29
  • معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا و إدراكاتنا و هو ظاهر، و لازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشي‌ء هي إرادة تحققه و ظهوره و حيث قال: {وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا}، فأخذ وجودهم محققا أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم، و إذا كان ذلك على سنة الأسباب و المسببات لم يكن بد من وقوع أمور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك. 

  • و أما قوله: {وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}، فالشهداء شهداء الأعمال و أما الشهداء بمعنى المقتولين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن، و إنما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلامية، كما مر في قوله تعالى: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ}: البقرة - ١٤٣ على أن قوله: {وَ يَتَّخِذَ}، أيضا لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملاءمة، فلا يقال: اتخذ الله فلانا مقتولا في سبيله و شهيدا كما يقال: اتخذ الله إبراهيم خليلا، و اتخذ الله موسى كليما، و اتخذ الله النبي شهيدا يشهد على أمته يوم القيامة. 

  • و قد غير السياق فقال: و يتخذ منكم شهداء، و لم يقل: و يتخذهم شهداء لأن الشهادة و إن أضيفت إلى الأمة في قوله: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ}: البقرة - ١٤٣ إلا أنها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكل، و الشهداء بعض الأمة دون كلهم، و قد مر بيان ذلك في سورة البقرة، و يمكن أن يتأيد هذا الذي ذكرناه بقوله بعده: {وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلظَّالِمِينَ}

  • و أما قوله: {وَ لِيُمَحِّصَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكَافِرِينَ} فالتمحيص‌ هو تخليص الشي‌ء من الشوائب الخارجة، و المحق‌ إنفاد الشي‌ء تدريجا و إزالته شيئا فشيئا، و هذا التمحيص من حكم مداولة الأيام و مصالحها، و هو غير العلم بالذين آمنوا الذي هو أيضا من حكم مداولة الأيام، فإن تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر و تخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر و النفاق و الفسوق أمر آخر، و لذلك قوبل بالمحق للكافرين، فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر و نحوه من المؤمن شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا إيمانه، فيكون خالصا لله، و يبيد أجزاء الكفر و الشرك و الكيد من الكافر شيئا فشيئا حتى لا يبقى شي‌ء. 

  • فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيام بين الناس، و عدم استمرار الدولة بين قوم خاص، و لله الأمر كله يفعل ما يشاء، و لا يفعل إلا الأصلح الأنفع كما 

تفسير الميزان ج٤

30
  • قال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} رعد - ١٧ و قال الله تعالى قبيل هذه الآيات: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فنفى أن يكون لنبيه من الأمر شي‌ء، و قصر الأمر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء. 

  • و هذا الكلام أعني ما يبين أن الأيام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان و تمييز المؤمن من الكافر و تمحيص المؤمنين و محق الكافرين مع ما مر من نفي رجوع الأمر إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يكشف عن أن المؤمنين كان يظن أكثرهم أن كونهم على دين الحق سبب تام في غلبتهم أينما غزوا و ظهورهم على الباطل كيفما كانوا، فهم يملكون الأمر لا يدفعون عن ذلك، و قد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوهم و نزول ملائكة النصر، و هذا ظن فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان و التمحيص و في ذلك بطلان مصلحة الأمر و النهي و الثواب و العقاب، و يؤدي ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنما الدين دين الفطرة غير مبني على خرق العادة الجارية و السنة الإلهية القائمة في الوجود بابتناء الغلبة و الهزيمة على أسبابهما العادية. 

  • شرح سبحانه بعد بيان أن الأيام دول متداولة لغرض الامتحان و الابتلاء في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل و بيان حقيقة الحال فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ} إلى آخر الآيات. 

  • قوله تعالى{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ} إلى آخر الآيتين و هذا أعني ظنهم أن يدخلوا الجنة من غير أن يمتحنوا لازم الظن المذكور آنفا، و هو أنهم لما كانوا على الحق و الحق لا يغلب عليه فأمر الظفر و الغلبة إليهم، لن ينهزموا و لن يغلبوا أبدا، و من المعلوم أن لازم هذا الظن أن يكون كل من آمن بالنبي و لحق بجماعة المؤمنين سعيدا في دنياه بالغلبة و الغنيمة، و سعيدا في آخرته بالمغفرة و الجنة، و يبطل الفرق بين ظاهر الإيمان و حقيقته و يرتفع التمايز بين الدرجات، فإيمان المجاهد و إيمان المجاهد الصابر واحد، و من تمنى خيرا ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنى خيرا ثم تولى إذا أصابه. 

  • و على هذا فقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا} «إلخ» من قبيل وضع المسبب موضع السبب أي حسبتم أن الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنة من غير أن يتميز 

تفسير الميزان ج٤

31
  • المستحق لها منكم من غير المستحق، و صاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره؟

  • و أما قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ} (الآية) ففيه تثبيت أن ظنهم ذاك كان فاسدا فإنهم كانوا يتمنون الموت قبل حضور الغزوة حتى إذا حضرت و رأوه رأي العين لم يقدموا و لم يتناولوا ما كانوا يتمنونه، بل فشلوا و تولوا عن القتال، فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنة بمجرد هذا التمني من غير أن يمتحنوا أو يمحصوا؟ أو لم يكن من الواجب أن يختبروا. 

  • و بهذا يظهر أن في الكلام تقديرا، و المعنى: فقد رأيتموه و أنتم تنظرون فلم تقدموا عليه، و يمكن أن يكون قوله: تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرد النظر من غير إقدام، و فيه عتاب و توبيخ.

  • كلام في الامتحان و حقيقته‌ 

  • لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال: {اَلَّذِي أَعْطى‌ كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‌}: طه: ٥٠، فعمم الهداية لكل شي‌ء من ذوي الشعور و العقل و غيرهم، و أطلقها أيضا من جهة الغاية، و قال أيضا: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‌}: الأعلى -٣، و الآية من جهة الإطلاق كسابقتها. 

  • و من هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الإضلال فإن الله سبحانه نفاها و أثبت مكانها الضلال في طوائف و الهداية العامة لا تنفي عن شي‌ء من خلقه، قال تعالى: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ}: الجمعة ٥، و قال: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ}: الصف - ٥، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. 

  • و كذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن و الكافر كما في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً}: الدهر - ٣، و قوله: {وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى‌ عَلَى اَلْهُدى‌}: حم السجدة - ١٧، فإن ما في هاتين الآيتين و نظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور و العقل و قد عرفت أن ما في قوله: {ثُمَّ هَدى‌} و قوله: {وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‌} عام من حيث المورد و الغاية جميعا، 

تفسير الميزان ج٤

32
  • على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير، و الهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب و العلل لسوق الشي‌ء إلى غاية خلقته، و إن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك. 

  • و كيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شي‌ء إلى كمال وجوده، و إيصاله إلى غاية خلقته، و هي التي بها نزوع كل شي‌ء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء و استكمال و أفعال و حركات و غير ذلك، و للكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز. 

  • و الغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها و آجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ، و قد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه و هو لا يخلف الميعاد، كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدىَ وَ إِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَ اَلْأُولىَ}: الليل - ١٣، و الآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات و الهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان. 

  • فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها و هدايتها إلى كمالها المشرع لها، و قد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين و كيف يحيط به القضاء و القدر فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية و عملية فلا بد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة، جيدة أو ردية، فلا بد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر و النواهي (الشريعة) و سلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية و الفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى و يظهر ما في مكمن وجوده، و عند ذلك ينطبق على هذه الحوادث و هذا التشريع اسم المحنة و البلاء و نحوهما. 

  • توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية و استوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال، فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر و النواهي الإلهية و يخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء و إن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده، فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه 

تفسير الميزان ج٤

33
  • يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم و يخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم، قال تعالى: {وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ}: آل عمران - ٥٤، و قال: {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}: فاطر- ٤٣، و قال: {لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ}: الأنعام - ١٢٣، و قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}: الأعراف - ١٨٣، فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة و التمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: العنكبوت - ٤، و من أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى {فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً}: الرعد - ٤٢. 

  • فجميع هذه المماكرات و المخالفات و المظالم و التعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية، و كل ما يستقبلهم من حوادث الأيام و يظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم و دعتهم إلى ذلك أهواؤهم، مكر إلهي و إملاء و استدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم و خاتمته و قد فعل، و الله غالب على أمره. 

  • و هذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر و المعاصي إغواء منه لهم، و النزوع إليها دعوة و وسوسة و نزعة و وحيا و إضلالا، و الحوادث الداعية و ما يجري مجراها زينة له و وسائل و حبائل و شبكات منه على ما سيجي‌ء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى. 

  • و أما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات و العبادات و كذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك، ينطبق عليها مفهوم التوفيق و الولاية الإلهية و الهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق، قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ}: آل عمران - ١٣، و قال: {وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ}: آل عمران - ٦٨، و قال: {اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ}: البقرة - ٢٥٧، و قال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}: يونس - ٩، و قال: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ}: الأنعام - ١٢٢، هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه، و أما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا و تسديدا منهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي 

تفسير الميزان ج٤

34
  •  قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}: المجادلة -٢٢. 

  • ثم إنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى: {وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ}: الأعلى - ٣، فإن المقادير التي تحملها العلل و الأسباب المحتفة بوجود الشي‌ء هي التي تحول الشي‌ء من حال أولى إلى حال ثانية و هلم جرا فهي لا تزال تدفع الأشياء من ورائها. 

  • و كما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال (و هي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء) تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}: الأحقاف - ٣، فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها و هي الآجال، و الشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا و الآجال المسماة أمور ثابتة غير متغيرة فهي تجذب الأشياء من أمامها و هو ظاهر. 

  • فالأشياء محاطة بقوى إلهية: قوة تدفعها، و قوة تجذبها، و قوة تصاحبها و تربيها و هي القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة و الرقباء و القرناء كالملائكة و الشياطين و غير ذلك. 

  • ثم إنا نسمي نوع التصرفات في الشي‌ء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه: هل له صلوحه أو ليس له؟ بالامتحان و الاختبار، فإنك إذا جهلت حال الشي‌ء أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح؟ أو علمت باطن أمره و لكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه؟ و تسمي ذلك امتحانا و اختبارا و استعلاما لحاله، أو ما يقاربها من الألفاظ. 

  • و هذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع و الحوادث الجارية على أولي الشعور و العقل من الأشياء كالإنسان، فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية فهي امتحانات إلهية. 

  • و إنما الفرق بين الامتحان الإلهي و ما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن 

تفسير الميزان ج٤

35
  • الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا، و الله سبحانه يمتنع عليه الجهل و عنده مفاتح الغيب، فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة و السعادة امتحان لأنه يظهر و يتعين بها حال الشي‌ء أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب؟

  • و لذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهي من نفسه أعني التشريع و توجيه الحوادث بلاء و ابتلاء و فتنة فقال بوجه عام: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: الكهف - ٧، و قال: {إِنَّا خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}: الدهر- ٢، و قال: {وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً}: الأنبياء - ٣٥، و كأنه يريد به ما يفصله قوله: {فَأَمَّا اَلْإِنْسَانُ إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَ أَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}: الفجر - ١٦، و قال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}: التغابن - ١٥، و قال: {وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}: محمد - ٤، و قال: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: الأعراف ١٦٣-، و قال: {وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً}: الأنفال - ١٧، و قال: {أَ حَسِبَ اَلنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ}: العنكبوت - ٣. 

  • و قال في مثل إبراهيم: {وَ إِذِ اِبْتَلىَ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} البقرة - ١٢٤، و قال في قصة ذبح إسماعيل: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ}: الصافات - ١٠٦، و قال في موسى: {وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً}: طه -٤٠، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و الآيات كما ترى تعمم المحنة و البلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده و أجزاء وجوده كالسمع و البصر و الحياة، و الخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد و الأزواج و العشيرة و الأصدقاء و المال و الجاه و جميع ما ينتفع به نوع انتفاع، و كذا مقابلات هذه الأمور كالموت و سائر المصائب المتوجهة إليه، و بالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم و أحوالها فتنة و بلاء من الله سبحانه بالنسبة إليه. 

  • و فيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر، و صالح أو طالح، و نبي أو من دونه، فهي سنة جارية لا يستثني منها أحد. 

تفسير الميزان ج٤

36
  • فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية، و هي سنة عملية متكئة على سنة أخرى تكوينية و هي سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالإنسان و ما يتقدمها و ما يتأخر عنها أعني القدر و الأجل كما مر بيانه. 

  • و من هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين و هو محال، و يشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق، و ما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى}الأحقاف -٣، و قوله تعالى: {أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ}المؤمنون - ١١٥، و قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: الدخان - ٣٩، و قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ}: العنكبوت - ٥، إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق و ليست باطلة مقطوعة عن الغاية، و إذا كانت أمام الأشياء غايات و آجال حقة و من ورائها مقادير حقة و معها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة، و ابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال و النقص و السعادة و الشقاء إلى الفعل، و هذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان و ابتلاء فافهم ذلك. 

  • و يظهر مما ذكرناه معنى المحق و التمحيص أيضا، فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل، أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص و هو التمييز.

  • و كذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر و المنافق و في ظاهرهما صفات و أحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث، و كلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها، قال تعالى: {وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكَافِرِينَ}: آل عمران - ١٤١. 

  • و للكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر و خلوص الدين لله، قال تعالى: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ}: طه - ١٣٢، و قال: {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}: الأنبياء- ١٠٥. 

تفسير الميزان ج٤

37
  • (بيان) 

  • قوله تعالى{وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ}الموت‌ زهاق الروح و بطلان حياة البدن، و القتل‌ هو الموت إذا كان مستندا إلى سبب عمدي أو نحوه، و الموت و القتل إذا افترقا كان الموت أعم من القتل، و إذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الأنف و القتل خلافه. 

  • و انقلب على عقبيه أي رجع‌ قال الراغب: و رجع على عقبيه إذا انثنى راجعا، و انقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته، و نحو ارتدا على آثارهما قصصا، و قولهم رجع عوده إلى بدئه، انتهى. 

  • و حيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاء للشرط الذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أن المراد به الرجوع عن الدين دون التولي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار من الزحف بموت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو قتله، و إنما النسبة و الرابطة بين موته أو قتله و بين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان. 

  • و يدل على أن المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله: {وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجَاهِلِيَّةِ} إلى آخر الآيات، على أن نظير ما وقع في أحد من فرارهم من الزحف و توليهم عن القتال تحقق في غيره كغزوة حنين و خيبر و غيرهما و لم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب و لا عبر عن توليهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى: {وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}: البراءة - ٢٥، فالحق أن المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق. 

  • فمحصل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ: أن محمدا ص ليس إلا رسولا من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلا تبليغ رسالة ربه لا يملك من الأمر شيئا، و إنما الأمر لله و الدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، و رجعتم إلى أعقابكم القهقرى و اتخذتم الغواية بعد الهداية؟ 

  • و هذا السياق أقوى شاهد على أنهم ظنوا يوم أحد بعد حمي الوطيس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قد قتل فانسلوا عند ذلك و تولوا عن القتال، فيتأيد بذلك ما ورد في الرواية و التاريخ 

تفسير الميزان ج٤

38
  • كما في ما رواه ابن هشام في السيرة: أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك انتهى إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين و الأنصار و قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. 

  • و بالجملة فمعنى هذا الانسلال و الإلقاء بالأيدي: أن إيمانهم إنما كان قائما بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يبقى ببقائه و يزول بموته، و هو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان و هذا هو الذي عاتبهم الله عليه، و يؤيد هذا المعنى قوله بعده: {وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ}، فإن الله سبحانه كرر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله: {وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}، فافهم ذلك. 

  • و قوله: {وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ}، بمنزلة الاستثناء مما قبله على ما يعطيه السياق، و هو الدليل على أن القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال و التولي و هم الشاكرون. 

  • و حقيقة الشكر إظهار النعمة كما أن الكفر الذي يقابله هو إخفاؤها و الستر عليها، و إظهار النعمة هو استعمالها في محلها الذي أراده منعمها و ذكر المنعم بها لسانا و هو الثناء و قلبا من غير نسيان، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها و يوضع النعمة في الموضع الذي أراده منها و لا يتعدى ذلك، و إن من شي‌ء إلا و هو نعمة من نعمه تعالى، و لا يريد بنعمة من نعمه إلا أن تستعمل في سبيل عبادته، قال تعالى: {وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}: إبراهيم - ٣٤، فشكره على نعمته أن يطاع فيها و يذكر مقام ربوبيته عندها. 

  • و على هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكره تعالى من غير نسيان، و إطاعته من غير معصية، فمعنى قوله: {وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لاَ تَكْفُرُونِ}: البقرة - ١٥٢، اذكروني ذكرا لا يخالطه نسيان، و أطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان، و لا يصغي إلى قول من يقول: إنه أمر بما لا يطاق فإنه ناش من قلة التدبر في هذه الحقائق و البعد من ساحة العبودية. 

  • و قد عرفت فيما تقدم من الكتاب أن إطلاق الفعل لا يدل إلا على تلبس ما، 

تفسير الميزان ج٤

39
  • بخلاف الوصف فإنه يدل على استقرار التلبس و صيرورة المعنى الوصفي ملكة لا تفارق الإنسان، ففرق بين قولنا: الذين أشركوا، و الذين صبروا، و الذين ظلموا، و الذين يعتدون، و بين قولنا. المشركين، و الصابرين، و الظالمين، و المعتدين، فالشاكرون هم الذين ثبت فيهم وصف الشكر و استقرت فيهم هذه الفضيلة، و قد بان أن الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئا «و هو نعمة» إلا و ذكر الله معه، و لا يمس شيئا «و هو نعمة» إلا و يطيع الله فيه. 

  • فقد تبين أن الشكر لا يتم إلا مع الإخلاص لله سبحانه علما و عملا، فالشاكرون هم المخلصون لله، الذين لا مطمع للشيطان فيهم. 

  • و يظهر هذه الحقيقة مما حكاه الله تعالى عن إبليس، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ}: ص -٨٣، و قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} الحجر - ٤٠، فلم يستثن من إغوائه أحدا إلا المخلصين، و أمضاه الله سبحانه من غير رد، و قال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}: الأعراف - ١٧، و قوله: و لا تجد إلخ بمنزلة الاستثناء فقد بدل المخلصين بالشاكرين، و ليس إلا لأن الشاكرين هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم، و لا صنع له لديهم، و إنما صنعه و كيده إنساء مقام الربوبية و الدعوة إلى المعصية. 

  • و مما يؤيد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة أحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، مع قوله في هذه الآية التي نحن فيها: {وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ}، و قوله فيما بعدها: {وَ سَنَجْزِي اَلشَّاكِرِينَ}، و قد عرفت أنه في معنى الاستثناء. 

  • فتدبر فيها و اقض عجبا مما ربما يقال: إن الآية أعني قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} ناظرة إلى ما روي: أن الشيطان نادى يوم أحد: «ألا قد قتل محمد» فأوجب ذلك وهن المؤمنين و تفرقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أي مهبط أهبط كتاب الله من أوج حقائقه و مستوى معارفه العالية؟

تفسير الميزان ج٤

40
  • فالآية تدل على وجود عدة منهم يوم أحد لم يهنوا و لم يفتروا و لم يفرطوا في جنب الله سبحانه سماهم الله شاكرين، و صدق أنهم لا سبيل للشيطان إليهم و لا مطمع له فيهم، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقر معهم، و لم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلا في هاتين الآيتين أعني قوله: {وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} (الآية)، و قوله: {وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} (الآية)، و لم يذكر ما يجازيهم به في شي‌ء من الموردين إشعارا بعظمته و نفاسته. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} إلخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا} (الآية)، و قول طائفة منهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (الآية)، و هؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قعدوا عن القتال. 

  • فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله و سنة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، و لازمه بطلان الملك الإلهي و التدبير المتقن الرباني و سيجي‌ء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أول سورة الأنعام. 

  • و لما كان لازم هذا القول ممن قال به إنه آمن لظنه أن الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و للمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مر بيانه و من اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى: {وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اَلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوَابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}، و إنما قال: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} و لم يقل: نؤتها لأن الإرادة ربما لا توافق تمام الأسباب المؤدية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، و لكنها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائما فإن وافق الجميع رزق الجميع و إن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى‌َ لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}: الإسراء - ١٩ و قال تعالى: {وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى‌َ}: النجم - ٣٩. 

  • ثم خص الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال: {وَ سَنَجْزِي اَلشَّاكِرِينَ} و ليس إلا لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لا يشتغلون بدنيا و لا آخرة كما تقدم. 

تفسير الميزان ج٤

41
  • قوله تعالى{وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} إلى آخر الآيات كأين‌ كلمة تكثير و كلمة «من» بيانية و الربيون‌ جمع ربي و هو كالرباني من اختص بربه تعالى فلم يشتغل بغيره، و قيل: المراد به الألوف و الربي الألف، و الاستكانة هي التضرع. 

  • و في الآية موعظة و اعتبار مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم، و يحبهم لإحسانهم كما أحبهم لذلك. 

  • و قد حكى الله من فعلهم و قولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به و يجعلوه شعارا لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل و القول غير المرضيين لله تعالى و حتى يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة كما جمع لأولئك الربيين. 

  • و قد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها و قدرها بالنسبة إليها.

  •  

  • [ سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٤٩ الی ١٥٥]

  •  {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ١٤٩ بَلِ اَللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنَّاصِرِينَ ١٥٠سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظَّالِمِينَ ١٥١ وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيَا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ ١٥٢ إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لاَ تَلْوُونَ عَلىَ

تفسير الميزان ج٤

42
  • أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلىَ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ مَا أَصَابَكُمْ وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ١٥٣ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشى‌َ طَائِفَةً مِنْكُمْ وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلىَ مَضَاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اَللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ١٥٤ إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ١٥٥} 

  • (بيان‌) 

  • من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيها حث و ترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم و ناصرهم، و إشهاد لهم على صدق وعده و أن الهزيمة و الخذلان لم يكن يوم أحد إلا من قبل أنفسهم، و تعديهم حدود ما أمرهم الله به و دعاهم رسوله إليه و أن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنه غفور حليم. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون إلى المؤمنين في صورة النصح ما يثبطهم عن القتال: و يلقي التنازع و التفرقة 

تفسير الميزان ج٤

43
  • و تشتت الكلمة و اختلافها بينهم، و ربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله {اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}«إلى أن قال» {ذَلِكُمُ اَلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الآيات): آل عمران «١٧٣١٧٥». 

  • و ربما قيل: إن الآية إشارة إلى قول اليهود و المنافقين يوم أحد: «إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى عشائركم»، و ليس بشي‌ء. 

  • ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا و الميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله: {بَلِ اَللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنَّاصِرِينَ}

  • قوله تعالى{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}«إلخ» وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب، و لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يذكره فيما حباه الله تعالى و خصه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان. 

  • و قوله: {بِمَا أَشْرَكُوا}، معناه: اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا، و مما يكرره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، و من إثبات الشريك نفي الصانع و إسناد التأثير و التدبير إلى غيره كالدهر و المادة. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} إلى آخر الآية الحس‌ بالفتح: القتل على وجه الاستيصال. 

  • و لقد اتفقت الروايات و ضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم و ظهروا عليهم في أول الأمر و وضعوا فيهم السيوف و شرعوا في نهب أموالهم حتى إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير و من بقي معه من الرماة فقتلوهم، و حملوا على المؤمنين من ورائهم، و تراجع المشركون عن هزيمتهم و وضعوا السيوف في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قتلوا منهم سبعين ثم هزموهم أشد هزيمة. 

  • فقوله تعالى: {وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللَّهُ وَعْدَهُ}، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى و الصبر، و قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الأمر من الظهور على عدوهم يوم أحد، و قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَ تَنَازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك 

تفسير الميزان ج٤

44
  • مراكزهم و اللحوق بمن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لنيل الغنيمة ففشلوا و تنازعوا في الأمر و عصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال، و على هذا فلا بد من تفسير الفشل بضعف الرأي، و أما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبنا بل طمعا في الغنيمة، و لو كان الفشل‌ بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم و يكون على هذا {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ}، مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني. 

  • و يدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل و المعصية بل كان بعضهم يصر على الإطاعة و البقاء على الائتمار و لذا قال تعالى بعده: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيَا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ}

  • قوله تعالى{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}، أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل و التنازع و المعصية، و بالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم و يختبر إيمانكم و صبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق، و المؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون السريع الزوال، و مع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال: {وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}

  • قوله تعالى{إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لاَ تَلْوُونَ عَلىَ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} الإصعاد هو الذهاب و الإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا، و صعد في السلم أي ارتقى، و قيل: إن الإصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود. 

  • و الظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: {صَرَفَكُمْ}، أو بقوله {لِيَبْتَلِيَكُمْ}، على ما قيل و قوله: {وَ لاَ تَلْوُونَ}، من اللي‌ بمعنى الالتفات و الميل قال في المجمع: و لا يستعمل إلا في النفي لا يقال: لويت على كذا، انتهى. 

  • و قوله: {وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}، الأخرى مقابل الأولى و كون الرسول يدعو و هو في أخراهم يدل على أنهم تفرقوا عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم سواد ممتد على طوائف أولاهم مبتعدون عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخراهم بقرب منه، و هو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا أولاهم و لا أخراهم فتركوه (صلى الله عليه وآله و سلم) بين جموع المشركين و هم يصعدون فرارا من القتل. 

تفسير الميزان ج٤

45
  • نعم قوله تعالى قبيل هذا: {وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ} و قد مر تفسيره يدل على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته و لم ينهزم لا في أول الانهزام، و لا بعد شيوع خبر قتل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يدل عليه قوله: {أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ} (الآية). 

  • و مما يدل عليه قوله: {وَ لاَ تَلْوُونَ عَلىَ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} إن خبر قتل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم و إصعادهم. 

  • قوله تعالى{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلىَ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ مَا أَصَابَكُمْ} إلخ أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا، و هذا الغم الذي أثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله: {لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلىَ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ مَا أَصَابَكُمْ}، فإن الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلىَ مَا فَاتَكُمْ}: «الحديد ٢٣» فهذا الغم الذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة و موهبة فيكون هو الغم الطارئ عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم و التحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، و يكون حينئذ الغم الثاني في قوله: {بِغَمٍّ}، الغم الآتي من قبل الحزن المذكور، و الباء للبدلية، و المعنى: جازاكم غما بالندامة و الحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن على ما فاتكم و ما أصابكم. 

  • و من الجائز أن يكون قوله: {فَأَثَابَكُمْ} مضمنا معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة و الحسرة مثيبا لكم، فينعكس المعنى في الغمين بالنسبة إلى المعنى السابق. 

  • و على كل من المعنيين يكون قوله: {فَأَثَابَكُمْ}، تفريعا على قوله: {وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}، و يتصل به ما بعده أعني قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ}، أحسن اتصال، و الترتيب: أنه عفا عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذي لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا. 

  • و هاهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: {فَأَثَابَكُمْ}، على ما يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ}، و المراد بقوله: {بِغَمٍّ} هو ما أدى إليه التنازع و المعصية و هو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، و الباء للسببية و هذا معنى حسن، و على هذا يكون المراد بقوله: {لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا}«إلخ»: 

تفسير الميزان ج٤

46
  • نبين لكم حقيقة الأمر لئلا تحزنوا، كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلىَ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الآية): «الحديد ٢٣». 

  • فهذا ما يستقيم به نظم الآية و اتساق الجمل المتعاقبة، و للمفسرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: {فَأَثَابَكُمْ}، و من حيث معنى الغم الأول و الثاني و معنى الباء و معنى قوله: {لِكَيْلاَ}، ليست من الاستقامة على شي‌ء و لا جدوى في نقلها و البحث عنها. 

  • و على ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله: {لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلىَ مَا فَاتَكُمْ} هو الغلبة و الغنيمة، و مما أصاب ما أصاب القوم من القتل و الجرح. 

  • قوله تعالى{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشىَ طَائِفَةً مِنْكُمْ} الأمنة بالتحريك الأمن، و النعاس‌ ما يتقدم النوم من الفتور و هو نوم خفيف، و نعاسا بدل من أمنة للملازمة عادة، و ربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب و طلبة، و هو حينئذ حال من ضمير عليكم، و نعاسا مفعول قوله: أنزل، و الغشيان: الإحاطة. 

  • و الآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشي طائفة من القوم، و لم يعم الجميع بدليل قوله: {طَائِفَةً مِنْكُمْ}، و هؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الانهزام و الإصعاد لما ندموا و تحسروا، و حاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة و هم في حال الفرار عن الزحف و هو من كبائر المعاصي و الآثام و قد قال: {وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ}، و حاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء و المنكر حين يقترف من قبل أن يتوب و قد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مر بيانه. 

  • فهؤلاء بعض القوم و هم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المحتفون به، و كان ذلك إنما كان حين فارق (صلى الله عليه وآله و سلم) جموع المشركين و عاد إلى الشعب، و إن كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل. 

  • و أما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله: {وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}

تفسير الميزان ج٤

47
  • قوله تعالى{وَ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} هذه طائفة أخرى من المؤمنين و نعني بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله: {وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نَافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَوِ اِدْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ} (الآية) و هم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الأمر قبل القتال و انخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبئ الله بذلك. 

  • و هؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الأولى من العفو و إثابة الغم ثم الأمنة و النعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمتهم أنفسهم و نسوا كل شي‌ء دونها. 

  • و قد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين و إن كان أحدهما من لوازم الآخر و فروعه، فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم، و ليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كل ذي همة و إرادة لا يريد إلا نفسه البتة، بل المراد: أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا و عدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا و إنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب، و أن الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، و إن كانت الأسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم، و إن انقلب الأمر و لم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى. 

  • قوله تعالى{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجَاهِلِيَّةِ} إلى قوله: {بِاللَّهِ} أي ظنوا بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من الأوصاف التي كان يصفه بها أهل الجاهلية، و هذا الظن أيا ما كان هو شي‌ء يناسبه و يلازمه قولهم: {هَلْ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، و يكشف عنه ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم به، و هو قوله: {قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن بعض الأمر لهم و لذا لما غلبوا و فشا فيهم القتل تشككوا فقالوا: {هَلْ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}

  • و بذلك يظهر أن الأمر الذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور و الغلبة، و إنما كانوا يظنونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب و لا يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد و شرط و قد وعدهم به. 

تفسير الميزان ج٤

48
  • و هذا هو الظن بغير الحق، الذي هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أن الله تعالى خالق كل شي‌ء و أن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق و الحياة و الموت و العشق و الحرب و غيرها، و كذا لكل نوع من الأنواع الكونية كالإنسان و الأرض و البحار و غيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته، و كانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدروا لهم الرزق، و يجلبوا لهم السعادة، و يقوهم من الشرور و البلايا، و الله سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته و كل شطر من أشطار ملكه إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه و حوزة ولايته. 

  • و إذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو أول من يتحمله من ربه و يحمل أثقاله لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا، و جعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة و الغنيمة، مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كله و ليس لأحد من الأمر شي‌ء، و لذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}، قطع الكلام بالاعتراض فقال يخاطب نبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ} لئلا يتوهم أن له (صلى الله عليه وآله و سلم) دخلا في قطع أو كبت، و الله سبحانه هو الذي وضع سنة الأسباب و المسببات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق و الباطل، و الخير و الشر، و الهداية و الضلالة، و العدل و الظلم، و لا فرق فيه بين المؤمن و الكافر، و المحبوب و المبغوض، و محمد و أبي سفيان. 

  • نعم لله سبحانه عناية خاصة بدينه و بأوليائه يجري نظام الكون بسببها جريا ينجر إلى ظهور الدين و تمهد الأرض لأوليائه و العاقبة للمتقين. 

  • و أمر النبوة و الدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية، و لذلك كلما توافقت الأسباب العادية على تقدم هذا الدين و ظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان ذلك، و حيث لم يتوافق الأسباب كتحقق نفاق أو معصية لأمر النبي ص(صلى الله عليه وآله و سلم) أو فشل أو جزع كانت الغلبة و الظهور للمشركين على المؤمنين، و كذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإن أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، و قصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، و بسط القدرة، و تشديد القوة، و جمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية و الظهور لهم 

تفسير الميزان ج٤

49
  • على الأنبياء، فمن مقتول كزكريا، و مذبوح كيحيى، و مشرد كعيسى إلى غير ذلك. 

  • نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية و بعبارة أخرى دار أمر الحق بين الحياة و الموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين و لا يدعه تدحض حجته، و قد مر شطر من هذا البحث في القول على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب، و في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه. 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم: {هَلْ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، تشكك في حقية الدين و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مر بيانه، فأمر سبحانه نبيه ص أن يجيبهم فقال: {قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، و قد خاطب نبيه قبل ذلك بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ} فبين بذلك أن ملة الفطرة و دين التوحيد هو الذي لا يملك فيه الأمر إلا الله جل شأنه، و باقي الأشياء و منها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)ليست بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب و المسببات و السنة الإلهية التي تؤدي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان. 

  • قوله تعالى{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ}«إلخ»، و هذا توصيف لهم بما هو أشد من قولهم: {هَلْ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، فإنه كان تشكيكا في صورة السؤال، و هذا أعني قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ترجيح في هيئة الاستدلال، و لذلك أبدوا قولهم الأول للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام. 

  • فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم فقال: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى‌َ مَضَاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اَللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}، فبين لهم: 

  • أولا: أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق، و عدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأن القضاء الإلهي و هو الذي لا مناص من نفوذه و مضيه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفر من الأجل المسمى الذي 

تفسير الميزان ج٤

50
  • لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون. 

  • و ثانيا: أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء و التمحيص و هي واقعة بهم و بكم لا محالة، فلم يكن بد من خروجكم و وقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم و ينالوا درجاتهم، و تحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبي السعادة و الشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، و تخليص ما في قلوبكم من الإيمان و الشرك. 

  • و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين إن المراد بهذه الطائفة التي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين، و أما المنافقون أعني أصحاب عبد الله بن أبي المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي. 

  • اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللازم إلى إنكار الحق قلبا و الاعتراف به لسانا و هم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم مرض قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ}: الأنفال ٤٩، و قال: {وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}: التوبة ٤٧، أو يريدوا أن جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبي إلى المدينة. 

  • و أعجب منه قول بعض آخر إن هذه الطائفة كانوا مؤمنين، و أنهم كانوا يظنون أن أمر النصر و الغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح و الظفر و نزول الملائكة يوم بدر فقولهم: {هَلْ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ‌ءٍ}، و قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ} «إلخ» اعتراف منهم بأن الأمر إلى الله لا إليهم و إلا لم يستأصلهم القتل. 

  • و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ و هو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، و قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ}«إلخ»، و قد أحس بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه و قد عرفت ما هو الحق من المعنى. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة، و لم يرد ذلك منهم إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم و من أعمالهم فإن السيئات يهدي بعضها إلى بعض فإنها مبنية على متابعة هوى النفس، و هوى النفس للشي‌ء هوى لما يشاكله. 

تفسير الميزان ج٤

51
  • و أما احتمال كون الباء للآلة و كون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد من ظاهر اللفظ فإن ظاهر {مَا كَسَبُوا} تقدم الكسب على التولي و الاستزلال. 

  • و كيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب و الآثام مكن الشيطان أن أغواهم بالتولي و الفرار، و من هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم أحد بقتل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما في بعض الروايات ليس بشي‌ء إذ لا دلالة عليه من جهة اللفظ. 

  • قوله تعالى{وَ لَقَدْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} هذا العفو هو عن الذين تولوا، المذكورين في صدر الآية، و الآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم الطائفتين جميعا أعني الطائفة التي غشيهم النعاس و الطائفة التي أهمتهم أنفسهم، و الطائفتان مختلفتان بالتكرم بإكرام الله و عدمه، و لكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معا جهات الإكرام التي اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الأولى على ما تقدم بيانه.

  • و من هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله: {وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}، و من الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن ففرق واضح بين قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} حيث إنه كلام مشعر بالفضل و الرأفة و قد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا، و بين قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} حيث ذكر العفو و سكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به ثم ختم الكلام بذكر حلمه و هو أن لا يعجل في العقوبة و العفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.

  • فإن قلت: إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا.

  • قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق و إن صدق على الجميع مفهوم العفو على حد سواء، و لا دليل على كون العفو و المغفرة و ما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا، و قد بينا وجه الاختلاف.

  • معنى العفو و المغفرة في القرآن

  • العفو على ما ذكره الراغب و هو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته هو القصد لتناول الشي‌ء، يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولا ما عنده، و عفت الريح الدار 

تفسير الميزان ج٤

52
  • قصدتها متناولة آثارها، انتهى و كان قولهم: عفت الدار إذ بلت مبني على عناية لطيفة و هي أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها و ظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، و بهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب و يتركه بلا ذنب. 

  • و من هنا يظهر أن المغفرة و هو الستر متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشي‌ء كالذنب مثلا يؤخذ و يتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه و لا عند غيره، قال تعالى: {وَ اُعْفُ عَنَّا وَ اِغْفِرْ لَنَا}: «البقرة: ٢٨٦» و قال: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً}: «النساء: ٩٩». 

  • و قد تبين بذلك أن العفو و المغفرة و إن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد، و أن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكَاحِ}: «البقرة: ٢٣٧»، و قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اَللَّهِ}: «الجاثية: ١٤»، و قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ} (الآية) فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة و العتاب و الإعراض و نحو ذلك، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم و هو تعالى فاعله لا محالة فيما يرجع إليه من آثار الذنب. 

  • و قد تبين أيضا أن معنى العفو و المغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية و التشريعية و الدنيوية و الأخروية جميعا، قال تعالى: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}: «الشورى: ٣٠»، و الآية شاملة للآثار و العواقب الدنيوية قطعا، و مثله قوله تعالى: {وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ}«الشورى: ٥»، على ظاهر معناه، و كذا قول آدم و زوجته فيما حكاه الله عنهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ}: «الأعراف: ٢٣» بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهي إرشادي لا مولوي. 

  • و الآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب و الزلفى من الله، و التنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية و إزالة رين الشرك و الذنوب بتوبة و نحوها كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: «المطففين: ١٤» و قال تعالى: {وَ مَنْ 

تفسير الميزان ج٤

53
  • يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}: «التغابن: ١١». 

  • و بالجملة العفو و المغفرة من قبيل إزالة المانع و رفع المنافي المضاد، و قد عد الله سبحانه الإيمان و الدار الآخرة حياة، و آثار الإيمان و أفعال أهل الآخرة و سيرهم الحيوي نورا كما قال: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}: «الأنعام: ١٢٢»، و قال تعالى: {وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ}: «العنكبوت: ٦٤»، فالشرك موت و المعاصي ظلمات، قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}: «النور: ٤٠»، فالمغفرة إزالة الموت و الظلمة و إنما تكون بحياة و هو الإيمان، و نور و هو الرحمة الإلهية. 

  • فالكافر لا حياة له و لا نور، و المؤمن المغفور له له حياة و نور، و المؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره و إنما يتم بالمغفرة، قال تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعىَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اِغْفِرْ لَنَا}: «التحريم ٨». 

  • فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو و المغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، و في الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق و نحوه، و في مورد السعادة و الشقاوة إزالة المانع عن السعادة.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٥٦ الی ١٦٤ ] 

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١٥٦ وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ١٥٧ وَ لَئِنْ مُتُّمْ

تفسير الميزان ج٤

54
  • أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللَّهِ تُحْشَرُونَ ١٥٨ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ ١٥٩ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ١٦٠وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ١٦١ أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَ اَللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ١٦٢ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ١٦٣ لَقَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ١٦٤} 

  • (بيان‌)

  • الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد أيضا، و هي تتضمن التعرض لأمر آخر عرض لهم، و هو الأسف و الحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم و سراة قومهم، و معظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين على ما قيل إلا أربعة، و هذا يقوي الحدس أن معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار، و أن الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم. 

  • و بالجملة الآيات تبين ما في هذا الأسف و الحسرة من الخطإ و الخبط، و تعطف على 

تفسير الميزان ج٤

55
  • أمر آخر يستتبعه هذا الأسف و التحسر و هو سوء ظنهم برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أنه هو الذي أوردهم هذا المورد و ألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوح إليه هذه الآيات: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا} (الآية)، و قول المنافقين فيما سيجي‌ء: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (الآية)، أي أطاعونا و لم يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو الذي أهلكهم، فهي تبين أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس له أن يخون أحدا بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله، و يعفو عنهم و يستغفر لهم و يشاورهم في الأمر منه تعالى، و أن الله من به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا}«إلخ» المراد بهؤلاء الذين كفروا ما هو ظاهر اللفظ أعني الكافرين دون المنافقين كما قيل لأن النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول و إن كان المنافقون يقولون ذلك و إنما منشؤه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين. 

  • و الضرب في الأرض كناية عن المسافرة، و غزي جمع غاز كطالب و طلب و ضارب و ضرب، و قوله: {لِيَجْعَلَ اَللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً}، أي ليعذبهم بها فهو من قبيل وضع المغيا موضع الغاية، و قوله: {وَ اَللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ}، بيان لحقيقة الأمر التي أخطأ فيها الكافرون القائلون: لو كانوا، و هذا الموت يشمل الموت حتف الأنف و القتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدم، و قوله: {وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} في موضع التعليل للنهي في قوله: {لاَ تَكُونُوا}«إلخ». 

  • و قوله: {مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا}، قدم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللف في قوله: {إِذَا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى}، و لأن الموت أمر جار على الطبع و العادة المألوفة بخلاف القتل فإنه أمر استثنائي فقدم ما هو المألوف على غيره. 

  • و محصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه، و فيمن قتل منهم في غزاة: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا} فإن هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبي و نقمة إلهية و هو الحسرة الملقاة في قلوبهم، مع أنه من الجهل فإن القرب و البعد منهم ليس بمحيي و مميت بل الإحياء و الإماتة من الشئون المختصة بالله وحده لا شريك له فليتقوا الله و لا يكونوا مثلهم فإن الله بما يعملون بصير. 

تفسير الميزان ج٤

56
  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الظاهر أن المراد مما يجمعون هو المال و ما يلحق به الذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا. 

  • و قد قدم القتل هاهنا على الموت لأن القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت، و لذلك عاد في الآية التالية: {وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللَّهِ تُحْشَرُونَ} إلى الترتيب الطبعي بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة. 

  • قوله تعالى{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} إلى آخر الآية، الفظ هو الجافي القاسي، و غلظ القلب كناية عن عدم رقته و رأفته، و الانفضاض‌ التفرق. 

  • و في الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا، و لذلك أمرناه أن يعفو عنكم و يستغفر لكم و يشاوركم في الأمر و أن يتوكل علينا إذا عزم. 

  • و نكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب و توبيخ، و لذلك اشتمل على بعض الأعراض في ما يناسبه من الموارد و منها هذا المورد الذي يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و رميه بأنه أوردهم مورد القتل و الاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم و التفت إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)فخاطبه بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}

  • و الكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق، و التقدير: و إذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا و التحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم و إلا لانفضوا من حولك. و الله أعلم. 

  • و قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ} إنما سيق ليكون إمضاء لسيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه كذلك كان يفعل، و قد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد، و فيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر و الله سبحانه عن فعله راض. 

  • و قد أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم و هو تعالى فاعله لا محالة و اللفظ و إن كان 

تفسير الميزان ج٤

57
  • مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية و ما يناظرها و إلا لغا التشريع، على أن تعقيبه بقوله: {وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ} لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية و تدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم. 

  • و قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ}، و إذا أحبك كان وليا و ناصرا لك غير خاذلك، و لذا عقب الآية بهذا المعنى و دعا المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ} أي لإيمانهم بالله الذي لا ناصر و لا معين إلا هو. 

  • قوله تعالى{وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}، الغل‌ هو الخيانة، قد مر في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللَّهُ اَلْكِتَابَ}: آل عمران ٧٩، إن هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبي عن السوء و الفحشاء بطهارته، و المعنى: حاشا أن يغل و يخون النبي ربه أو الناس (و هو أيضا من الخيانة لله) و الحال أن الخائن يلقى ربه بخيانته ثم توفى نفسه ما كسبت. 

  • ثم ذكر أن رمي النبي بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنه متبع رضوان الله لا يعدو رضا ربه، و الخائن باء بسخط عظيم من الله و مأواه جهنم و بئس المصير، و هذا هو المراد بقوله: {أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَ اَللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللَّهِ} (الآية). 

  • و يمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأن هذه الأحوال من التعرض لسخط الله، و الله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه، و ما هما سواء. 

  • ثم ذكر أن هذه الطوائف من المتبعين لرضوان الله و البائين بسخط من الله درجات مختلفة، و الله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنه يفوته الحقير من خير أو شر فتسامحوا في اتباع رضوانه أو البوء بسخطه. 

  • قوله تعالى{لَقَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ}، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة، و قد مر الوجه العام في هذه الموارد من الالتفات و الوجه الخاص بما هاهنا أن الآية مسوقة سوق الامتنان و المن على المؤمنين لصفة إيمانهم و لذا قيل: على المؤمنين، و لا يفيده غير الوصف حتى لو قيل: الذين آمنوا، لأن المشعر 

تفسير الميزان ج٤

58
  • بالعلية على ما قيل هو الوصف أو أنه الكامل في هذا الإشعار، و المعنى ظاهر. 

  • و في الآية أبحاث أخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٦٥ الی ١٧١]

  • {أَ وَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ١٦٥ وَ مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اَللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٦٦ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نَافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَوِ اِدْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ١٦٧ اَلَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٦٨ وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ١٧٠يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٧١} 

  • (بيان‌) 

  • الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد، و فيها جواب ما 

تفسير الميزان ج٤

59
  • قالوه في المقتولين، و وصف حال المستشهدين بعد القتل و أنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم. 

  • قوله تعالى{أَ وَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم و التحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة و الموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم و بعدهم و خروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب، فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم و هو معصية الرماة بتخلية مراكزهم، و معصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك، و بالجملة سببه معصيتهم الرسول و هو قائدهم و فشلهم و تنازعهم في الأمر و ذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة و العادة. 

  • فالآية في معنى قوله: أ تدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها؟ إنما أصابتكم من عند أنفسكم و هو إفسادكم سبب الفتح و الظفر بأيديكم و مخالفتكم قائدكم و فشلكم و اختلاف كلمتكم. 

  • و قد وصفت المصيبة بقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} و هو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد، و هو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر و هو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا و أسروا سبعين رجلا. 

  • و في هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم و تحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا. 

  • و قيل: إن معنى الآية: أنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة، و ذلك أنهم اختاروا الفداء من الأسرى يوم بدر، و كان الحكم فيهم القتل، و شرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا: رضينا فإنا نأخذ الفداء و ننتفع به، و إذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء. 

  • و يؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ} إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق البتة إلا بتعسف، و سيجي‌ء روايته عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في البحث الروائي الآتي. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ} إلى آخر الآيتين، الآية الأولى 

تفسير الميزان ج٤

60
  • تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر، و شرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله، و أما الوجه الأول المذكور و هو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه و بين نسبة المصيبة إلى إذن الله و هو ظاهر. 

  • فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله: {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، و ليكون توطئة لانضمام قوله: {وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ}، و بانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين و ما تكلموا به و جوابه و بيان حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله. 

  • و قوله: أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم و أنفسكم و قوله: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح، و أما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك. 

  • و قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، ذكر الأفواه للتأكيد و للتقابل بينها و بين القلوب. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب و هم القتلى، و إنما ذكر إخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله: و قعدوا أوقع تعيير و تأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع، و قوله: قل فادرءوا جواب عن قولهم ذاك، و الدرء: الدفع. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً} (الآية)، و في الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الآيات، و يحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله: {قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

  • و المراد بالموت بطلان الشعور و الفعل، و لذا ذكرهما في قوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ}«إلخ» حيث ذكر الارتزاق و هو فعل، و الفرح الاستبشار و معهما شعور. 

  • قوله تعالى{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ} (الآية)، الفرح‌ ضد الحزن و، البشارة و البشرى‌ ما يسرك من الخبر و الاستبشار طلب السرور بالبشرى، و المعنى: أنهم فرحون بما 

تفسير الميزان ج٤

61
  • وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم، و يطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون. 

  • و من ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم و يتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا. 

  • و ثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين و هو أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و ليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الإنسان بعد الموت ما بينه و بين يوم القيامة، و قد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ} (الآية): «البقرة: ١٥٤». 

  • قوله تعالى{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ وَ فَضْلٍ} (الآية)، هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم و بحال أنفسهم و الدليل عليه قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ}، فإنه بإطلاقه شامل للجميع، و لعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار و كذا تكرار الفضل فتدبر في الآية. 

  • و قد نكر الفضل و النعمة و أبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن، و لذا أبهم الخوف و الحزن ليدل في سياق النفي على العموم. 

  • و التدبر في الآيات يعطي أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا، و أن هذا الأجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا، و أن هذا الرزق نعمة من الله و فضل ثالثا، و أن الذي يشخص هذه النعمة و الفضل هو أنهم لا خوف عليهم و لا هم يحزنون رابعا. 

  • و هذه الجملة أعني قوله: أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف و رقة و سهولة بيان، و أول ما يلوح من معناها أن الخوف و الحزن مرفوعان عنهم، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شي‌ء من سعادة الإنسان التي يقدر نفسه واجدة لها، و كذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف و عرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع و لا حزن قبله. 

  • فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه 

تفسير الميزان ج٤

62
  • النعم في معرض الزوال، و ارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء و لا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف و الحزن عن الإنسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به و يستلذه، و أن لا يكون ذلك في معرض الزوال، و هذا هو خلود السعادة للإنسان و خلوده فيها. 

  • و من هنا يتضح أن نفي الخوف و الحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله فهو سبحانه يقول: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ}: «آل عمران: ١٩٨»، و يقول: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ}: «النحل: ٩٦» فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة و لا يعرضها فناء. 

  • و يتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة و الفضل و هو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب و سيجي‌ء في قوله تعالى: {مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ}: «النساء: ٦٩»، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، و على ذلك فالمعنى: أن الله يتولى أمرهم و يخصهم بعطية منه. 

  • و أما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل، و النعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ} فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق، و قد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} و قوله: {فَرِحِينَ بِمَا} إلخ و قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ} إلخ، و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ} مآلها إلى حقيقة واحدة. 

  • و في الآيات أبحاث أخر تقدم بعضها في تفسير قوله: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ}: «البقرة: ١٥٤»، و لعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجي‌ء من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٧٢ الی ١٧٥]

  • {اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٧٢ اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ إِنَّ

تفسير الميزان ج٤

63
  • اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ ١٧٣ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اِتَّبَعُوا رِضْوَانَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ١٧٤ إِنَّمَا ذَلِكُمُ اَلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَ خَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٧٥} 

  • ( بيان‌)

  • الآيات مرتبطة بآيات غزوة أحد، و يشعر بذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ اَلْقَرْحُ} و قد قال فيها: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآية) الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد كما قيل و هي أن تسأل شيئا فتجاب بالقبول. 

  • و لعل ذكر الله و الرسول مع جواز الاكتفاء في المقام بذكر أحد اللفظين إنما هو لكونهم في وقعة أحد عصوا الله و الرسول، فأما هو تعالى فقد عصوه بالفرار و التولي و قد نهاهم الله عنه و أمر بالجهاد، و أما الرسول فقد عصوه بمخالفة أمره الذي أصدره على الرماة بلزوم مراكزهم و حين كانوا يصعدون و هو يدعوهم في أخراهم فلم يجيبوا دعوته، فلما استجابوا في هذه الوقعة وضع فيها بحذاء تلك الوقعة استجابتهم لله و الرسول. 

  • و قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}، قصر الوعد على بعض أفراد المستجيبين لأن الاستجابة فعل ظاهري لا يلازم حقيقة الإحسان و التقوى اللذين عليهما مدار الأجر العظيم، و هذا من عجيب مراقبة القرآن في بيانه حيث لا يشغله شأن عن شأن، و من هنا يتبين أن هؤلاء الجماعة ما كانوا خالصين لله في أمره بل كان فيهم من لم يكن محسنا متقيا يستحق عظيم الأجر من الله سبحانه، و ربما يقال: إن «من» في قوله: {مِنْهُمْ} بيانية كما قيل مثله في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ} إلى أن قال: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً 

تفسير الميزان ج٤

64
  • وَ أَجْراً عَظِيماً}: «الفتح: ٢٩»، و هو تأول بما يدفعه السياق. 

  • و يتبين أيضا أن ما يمدحهم به الله سبحانه في قوله: {اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ} إلى آخر الآيات من قبيل وصف البعض المنسوب إلى الكل بعناية لفظية. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (الآية)، الناس هو الأفراد من الإنسان من حيث عدم أخذ ما يتميز به بعضهم من بعض، و الناس الأول غير الثاني، فإن الثاني هو العدو الذي كان يجمع الجموع، و أما الأول فهم الخاذلون المثبطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ليخذلوا المؤمنين عن الخروج إلى قتال المشركين، فالناس الثاني أريد به المشركون، و الناس الأول أيديهم على المؤمنين و عيونهم فيهم، و ظاهر الآية كونهم عدة و جماعة لا واحدا، و هذا يؤيد كون الآيات نازلة في قصة خروج النبي ص فيمن بقي من أصحابه بعد أحد في أثر المشركين دون قصة بدر الصغرى، و سيجي‌ء القصتان في البحث الروائي الآتي. 

  • و قوله: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، أي جمعوا جموعهم لقتالكم ثانيا (و الله أعلم). 

  • و قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً}، و ذلك لما في طبع الإنسان أنه إذا نهي عما يريده و يعزم عليه، فإن لم يحسن الظن بمن ينهاه كان ذلك إغراء فأوجب انتباه قواه و اشتدت بذلك عزيمته، و كلما أصر عليه بالمنع أصر على المضي على ما يريده و يقصده، و هذا إذا كان الممنوع يرى نفسه محقا معذورا في فعاله أشد تأثيرا من غيره، و لذا كان المؤمنون كلما لامهم في أمر الله لائم أو منعهم مانع زادوا قوة في إيمانهم و شدة في عزمهم و بأسهم. 

  • و يمكن أن يكون زيادة إيمانهم لتأييد أمثال هذه الأخبار ما عندهم من خبر الوحي أنهم سيؤذون في جنب الله حتى يتم أمرهم بإذن الله و قد وعدهم النصر و لا يكون نصر إلا في نزال و قتال. 

  • و قوله: {وَ قَالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ} أي كافينا الله و أصل الحسب من الحساب لأن الكفاية بحساب الحاجة، و هذا اكتفاء بالله بحسب الإيمان دون الأسباب الخارجية الجارية في السنة الإلهية و الوكيل هو الذي يدبر الأمر عن الإنسان، فمضمون الآية يرجع إلى معنى قوله: {وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} الطلاق ٣، و لذلك عقب قوله: {وَ قَالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ} بقوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ 

تفسير الميزان ج٤

65
  •  وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}«إلخ» ليكون تصديقا لوعده تعالى، ثم حمدهم إذ اتبعوا رضوانه فقال: و اتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم. 

  • (كلام في التوكل)

  • و حقيقة الأمر أن مضي الإرادة و الظفر بالمراد في نشأة المادة يحتاج إلى أسباب طبيعية و أخرى روحية و الإنسان إذا أراد الورود في أمر يهمه و هيأ من الأسباب الطبيعية ما يحتاج إليه لم يحل بينه و بين ما يبتغيه إلا اختلال الأسباب الروحية كوهن الإرادة و الخوف و الحزن و الطيش و الشره و السفه و سوء الظن و غير ذلك و هي أمور هامة عامة، و إذا توكل على الله سبحانه و فيه اتصال بسبب غير مغلوب البتة و هو السبب الذي فوق كل سبب قويت إرادته قوة لا يغلبها شي‌ء من الأسباب الروحية المضادة المنافية فكان نيلا و سعادة. 

  • و في التوكل على الله جهة أخرى يلحقه أثرا بخوارق العادة كما هو ظاهر قوله: {وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} (الآية)، و قد تقدم شطر من البحث المتعلق بالمقام في الكلام على الإعجاز. 

  • قوله تعالى{ذَلِكُمُ اَلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} (الآية)، ظاهر الآية أن الإشارة إلى الناس الذين قالوا لهم ما قالوا، فيكون هذا من الموارد التي أطلق فيها القرآن الشيطان على الإنسان كما يظهر ذلك من قوله: {مِنْ شَرِّ اَلْوَسْوَاسِ اَلْخَنَّاسِ اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ}: الناس ٦، و يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} أي الناس القائلين لكم ما قالوا لأن ذلكم الشيطان، و سنبحث في هذا المعنى بما يكشف القناع عن وجه حقيقته إن شاء الله تعالى. 

  • (بحث روائي‌)

  • الروايات الواردة في غزوة أحد كثيرة في الغاية، و هي مختلفة اختلافا شديدا في جهات القصة ربما أدت إلى سوء الظن بها، و أكثرها اختلافا ما ورد منها في أسباب 

تفسير الميزان ج٤

66
  • نزول كثير من آيات القصة و هي تقرب من ستين آية فإن أمرها عجيب، و لا يلبث الناظر المتأمل فيها دون أن يقضي بأن المذاهب المختلفة أودعت فيها أرواحها لتنطق بلسانها بما تنتفع به، و هذا هو العذر في تركنا إيرادها في هذا البحث فمن أرادها فعليه بجوامع الحديث و مطولات التفاسير. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الضحى قال: نزلت {وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} فقتل منهم يومئذ سبعون منهم أربعة من المهاجرين منهم حمزة بن عبد المطلب، و مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، و الشماس بن عثمان المخزومي، و عبد الله بن جحش الأسدي، و سائرهم من الأنصار. 

  • أقول: و ظاهر الرواية أن أبا الضحى أخذ الشهداء في الآية بمعنى المقتولين في المعركة، و على ذلك جرى جمهور المفسرين، و قد مر في البيان السابق أن لا دليل عليه من ظاهر الكتاب بل الظاهر أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال. 

  • و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ} (الآية)، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله علم بما هو مكونه قبل أن يكونه و هم ذر و علم من يجاهد ممن لا يجاهد كما علم أنه يميت خلقه قبل أن يميتهم، و لم ير موتهم و هم أحياء.

  • أقول: إشارة إلى ما تقدم أنه فرق بين العلم قبل الإيجاد و العلم الفعلي الذي هو الفعل و أن المراد ليس هو العلم قبل الإيجاد. 

  • و في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ} (الآية): أن المؤمنين لما أخبرهم الله تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك فقالوا: اللهم أرنا قتالا نستشهد فيه فأراهم الله يوم أحد إياه فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم فذلك قوله: {وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ} (الآية): 

  • أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الحسن و السدي. 

  • و في تفسير القمي قال (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج يوم أحد، و عهد العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه: إن رسول الله قد قتل، النجا، 

تفسير الميزان ج٤

67
  • فلما رجعوا إلى المدينة أنزل الله: {وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ} إلى قوله: {اِنْقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ} يقول: إلى الكفر {وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىَ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللَّهَ شَيْئاً}

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال: ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل و القرح و تداعوا نبي الله قالوا: قد قتل و قال أناس منهم: لو كان نبيا ما قتل، و قال أناس من علية أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به، و ذكر لنا أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار و هو يتشحط في دمه فقال: يا فلان أ شعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فأنزل الله: {وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ} يقول: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم. 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن السدي قال: فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان يا قوم إن محمدا قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، و أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء فشد بسيفه فقاتل حتى قتل فأنزل الله: {وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} (الآية).

  • أقول: و روي هذه المعاني بطرق أخر كثيرة. 

  • و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) أنه أصاب عليا يوم أحد ستون جراحة و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر أم سليم و أم عطية أن تداوياه فقالتا إنا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان و قد خفنا عليه، و دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة، و جعل يمسحه بيده و يقول: إن رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى و أعذر، فكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يلتئم فقال علي: الحمد لله إذ لم أفر و لم أول الدبر فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن و هو قوله: {وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ}، و {سَنَجْزِي اَلشَّاكِرِينَ}.

  • أقول: يعني شكر الله له ثباته لا قوله: الحمد لله الذي. 

تفسير الميزان ج٤

68
  • و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) أنه قرأ: و كأين من نبي قتل معه ربيون كثير، قال: ألوف و ألوف ثم قال: إي و الله يقتلون.

  • أقول: و روي هذه القراءة و المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود و غيره، و روي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله ربيون قال: جموع. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن مجاهد {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} قال: نصر الله المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب و ذلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و فيه أخرج ابن إسحاق و ابن راهويه و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن الزبير قال لقد رأيتني مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شي‌ء ما قتلنا هاهنا فحفظتها منه، و في ذلك أنزل الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً} إلى قوله:{مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب بن قشير.

  • أقول: و قد روي هذا المعنى عن الزبير بن العوام بطرق كثيرة. 

  • و فيه أخرج ابن مندة في معرفة الصحابة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ} (الآية)، قال: نزلت في عثمان و رافع بن المعلى و حارثة بن زيد.

  • أقول: و روي ما يقرب منه في عدة طرق عن عبد الرحمن بن عوف و عكرمة و ابن إسحاق و أضيف إليهم في بعضها أبو حذيفة بن عقبة و الوليد بن عقبة و سعد بن عثمان و عقبة بن عثمان. 

  • و على أي حال ذكر عثمان و من عد منهم بأسمائهم من باب ذكر المصداق و إلا فالآية نزلت في جميع من تولى من الأصحاب و عصى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الذي يخص عثمان هو أنه و من معه فروا حتى بلغوا الجلعب (جبل بناحية المدينة مما يلي الأغوص) فأقاموا به ثلاثا ثم رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة. 

  • و أما أصحابه عامة فقد تكاثرت الروايات أنهم تولوا عن آخرهم، و لم يبق مع 

تفسير الميزان ج٤

69
  • رسول الله منهم إلا رجلان من المهاجرين و سبعة من الأنصار ثم إن المشركين هجموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقتل دون الدفاع عنه الأنصار واحدا بعد واحد حتى لم يبق معه منهم أحد. 

  • و روي أن الذين ثبتوا معه أحد عشر، و روي ثمانية عشر حتى روي ثلاثون، و هو أضعف الروايات. 

  • و لعل هذا الاختلاف بحسب اختلاف اطلاعات الرواة و غير ذلك، و الذي تدل عليه روايات دفاع نسيبة المازنية عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه لم يكن عنده ساعتئذ أحد، و كان من ثبت منهم و لم ينهزم مشغولا بالقتال، و لم يتفق كلمة الرواة في ذلك على أحد إلا علي (عليه السلام) و لعل أبا دجانة الأنصاري سماك بن خرشة كذلك إلا أنه قاتل بسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أولا ثم وقى بنفسه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين جلى عنه أصحابه يدفع عنه النبال بمجنه و بظهره حتى أثخن رضي الله عنه. 

  • و أما بقية أصحابه فمن ملحق به حين ما عرف (صلى الله عليه وآله و سلم) و علم أنه لم يقتل، و ملحق به بعد حين، و هؤلاء هم الذين أنزل الله عليهم النعاس غير أن الله تعالى عفا عن الجميع و قد عرفت فيما تقدم من البيان معنى العفو، و ذكر بعض المفسرين أن معنى العفو في هذه الآية صرفه تعالى المشركين عنهم حيث لم يبيدوهم و لم يقتلوهم عن آخرهم. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن عدي و البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ} قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أما إن الله و رسوله لغنيان عنها و لكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، و من تركها لم يعدم غيا. 

  • و فيه أخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما خاب من استخار، و لا ندم من استشار. 

  • و في نهج البلاغة: من استبد برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركها في عقولها. 

  • و فيه: الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استبد برأيه. 

  • و في الصافي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا وحدة أوحش من العجب، و لا مظاهرة أوثق من المشاورة. 

تفسير الميزان ج٤

70
  • أقول: و الروايات في المشاورة كثيرة جدا، و موردها ما يجوز للمستشير فعله و تركه بحسب المرجحات، و أما الأحكام الإلهية الثابتة فلا مورد للاستشارة فيها كما لا رخصة في تغييرها لأحد و إلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخا لكلام الله تعالى. 

  • و في المجالس عن الصادق (عليه السلام): أن رضا الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط أ لم ينسبوه يوم بدر أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء؟ حتى أظهره الله على القطيفة، و برأ نبيه من الخيانة، و أنزل في كتابه: {وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (الآية). 

  • أقول: و ذكر ذلك القمي في تفسيره، و فيه: فجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن فلانا غل قطيفة حمراء فاحفرها هنالك فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بحفر ذلك الموضع فأخرج القطيفة.

  • و قد روي هذا المعنى و ما يقرب منه في الدر المنثور بطرق كثيرة و لعل المراد بكون الآية نزلت فيها كون الآية مشيرة إليها و إلا فسياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة أحد كما تقدم بيانه. 

  • و في تفسير القمي عن الباقر (عليه السلام): من غل شيئا رآه يوم القيامة في النار ثم يكلف أن يدخل إليه فيخرجه من النار.

  • أقول: و هو استفادة لطيفة من قوله تعالى: {وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ}

  • و في تفسير العياشي في قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ} عن الصادق (عليه السلام): الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة، و هم و الله درجات عند الله للمؤمنين، و بولايتهم و مودتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم، و يرفع الله لهم الدرجات العلى، و الذين باءوا بسخط من الله هم الذين جحدوا حق علي و حق الأئمة منا أهل البيت فباءوا لذلك بسخط من الله.

  • أقول: و هو من الجري و الانطباق. 

  • و فيه عن الرضا (عليه السلام): الدرجة ما بين السماء و الأرض. 

  • و في تفسير العياشي أيضا: في قوله تعالى: {أَ وَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} عن الصادق (عليه السلام): كان المسلمون قد أصابوا ببدر مائة و أربعين رجلا: قتلوا سبعين رجلا و أسروا سبعين فلما كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا فاغتموا 

تفسير الميزان ج٤

71
  • بذلك فنزلت. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن مردويه عن علي قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى، و قد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم و بين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الناس فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله عشائرنا و أقوامنا نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدونا، و يستشهد منا بعدتهم فليس في ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.

  • أقول: و رواه في المجمع عن علي (عليه السلام)، و أورده القمي في تفسيره. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} (الآيات) عن الباقر (عليه السلام) نزلت في شهداء بدر و أحد معا.

  • أقول: و على ذلك روايات كثيرة رواها في الدر المنثور و غيره و قد عرفت أن معنى الآيات عام شامل لكل من قتل في سبيل الله حقيقة أو حكما و ربما قيل: إن الآيات نازلة في شهداء بئر معونة، و هم سبعون رجلا أو أربعون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أرسلهم لدعوة عامر بن الطفيل و قومه و كانوا على ذلك الماء فقدموا أبا ملحان الأنصاري إليهم بالرسالة فقتلوه أولا ثم تتابعوا على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقاتلوهم فقتلوهم جميعا رضي الله عنهم. 

  • و في تفسير العياشي عن الصادق قال: هم و الله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة، و استقبلوا الكرامة من الله عز و جل علموا و استيقنوا أنهم كانوا على الحق و على دين الله عز و جل فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين. 

  • أقول: و هو من الجري و معنى علمهم و استيقانهم بأنهم كانوا على الحق أنهم ينالون ذلك بعين اليقين بعد ما نالوه في الدنيا بعلم اليقين لا أنهم كانوا في الدنيا شاكين مرتابين. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و هناد و عبد بن حميد و أبو داود و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار 

تفسير الميزان ج٤

72
  • الجنة، و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. 

  • فلما وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و حسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، و في لفظ: قالوا: إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد و لا ينكلوا عن الحرب فقال الله: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء الآيات: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا} (الآية) و ما بعدها. 

  • أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة رووها عن أبي سعيد الخدري و عبد الله بن مسعود و أبي العالية و ابن عباس و غيرهم، و في بعضها: في صور طير خضر كرواية أبي العالية، و في بعضها: في طير خضر كرواية أبي سعيد، و في بعضها: كطير خضر كرواية ابن مسعود، و الألفاظ متقاربة. 

  • و قد ورد من طرق أئمة أهل البيت: أن الرواية عرضت عليهم فأنكروها عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ‌، و في بعضها: أنهم أولوها، و لا شك بالنظر إلى الأصول الثابتة المسلمة في لزوم تأويل الرواية لو لم تطرح. 

  • و الروايات مع ذلك ليست في مقام بيان حالهم في جنة الآخرة بل المراد بها جنة البرزخ و الدليل عليه ما في رواية ابن جرير عن مجاهد قال: يرزقون من ثمر الجنة و يجدون ريحها و ليسوا فيها، و ما في رواية ابن جرير عن السدي: أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر في قناديل من ذهب معلقة بالعرش فهي ترعى بكرة و عشية في الجنة، و تبيت في القناديل. 

  • و قد عرفت فيما تقدم من البحث في البرزخ أن مضمون هاتين الروايتين إنما يستقيم في جنة الدنيا و هي البرزخ لا في جنة الآخرة. 

  • و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ} (الآية) أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لحمراء الأسد و قد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه، و قالوا: رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم، فبلغه أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج في أصحاب يطلبهم فثنى ذلك أبا سفيان و أصحابه، و مر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان: بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم، 

تفسير الميزان ج٤

73
  • فلما مر الركب برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله و المؤمنون معه: حسبنا الله و نعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك‌{اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآيات). 

  • أقول: و رواه القمي في تفسيره مفصلا و فيه أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) أخرج معه إلى حمراء الأسد من أصحابه من كان به جراحة، و في بعض الروايات أنه إنما أخرج معه من كان في أحد، و المآل واحد. 

  • و فيه أخرج موسى بن عقبة في مغازيه و البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس فمشوا في الناس يخوفونهم، و قالوا: قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم فينتهبوكم فالحذر الحذر، فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله و رسوله، و خرجوا ببضائع لهم، و قالوا: إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، و إن لم نلقه ابتعنا بضائعنا، و كان بدر متجرا يوافي كل عام فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم، و أخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو و لا أصحابه، و مر عليهم ابن حمام فقال: من هؤلاء؟ قالوا: رسول الله و أصحابه ينتظرون أبا سفيان و من معه من قريش، فقدم على قريش فأخبرهم فأرعب أبو سفيان و رجع إلى مكة، و انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة بنعمة من الله و فضل، فكانت تلك الغزوة تعد غزوة جيش السويق و كانت في شعبان سنة ثلاث.

  • أقول: و رواه من غير هذا الطريق، و رواه في المجمع مفصلا عن الباقر (عليه السلام). و فيها: أن الآيات نزلت في غزوة بدر الصغرى، و المراد بجيش السويق جيش أبي سفيان فإنه خرج من مكة في جيش من قريش و قد حملوا معهم أحمالا من سويق فنزلوا خارج مكة فاقتاتوا بالسويق ثم رجعوا إلى مكة لما أخذهم الرعب من لقاء المسلمين ببدر، فسماهم الناس جيش السويق تهكما و استهزاء. 

  • و فيه أيضا أخرج النسائي و ابن أبي حاتم و الطبراني بسند صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد أو بئر أبي عتبة شك سفيان فقال المشركون نرجع قابل 

تفسير الميزان ج٤

74
  • فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فكانت تعد غزوة فأنزل الله: {اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآية)، و قد كان أبو سفيان قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، و أما الشجاع فأخذ أهبة القتال و التجارة فأتوه فلم يجدوا به أحدا و تسوقوا فأنزل الله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ وَ فَضْلٍ} (الآية). 

  • أقول: و إنما أوردنا هذه الرواية مع مخالفته للاختصار و التلخيص المؤثر في المباحث الروائية بإيراد أنموذج جامع من كل باب ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية بمعنى أنهم يروون غالبا الحوادث التاريخية ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول و ربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة أو آيات ذات سياق واحد ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل و إن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات و بطلان سياقها، و هذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول. 

  • و أضف إلى ذلك ما ذكرناه في أول هذا البحث أن لاختلاف المذاهب تأثيرا في لحن هذه الروايات و سوقها إلى ما يوجه به المذاهب الخاصة. 

  • على أن للأجواء السياسية و البيئات الحاكمة في كل زمان أثرا قويا في الحقائق من حيث إخفاؤها أو إبهامها فيجب على الباحث المتأمل أن لا يهمل أمر هذه الأسباب الدخيلة في فهم الحقائق و الله الهادي.

  • بحث تاريخي فهرس أسامي شهداء أحد

  • شهداء المسلمين يوم أحد سبعون رجلا و هاك فهرس أسمائهم: 

  • ١- حمزة بن عبد المطلب بن هاشم. 

  • ٢- عبد الله بن جحش. 

  • ٣- مصعب بن عمير. 

  • ٤- شماس بن عثمان و هؤلاء الأربعة هم الشهداء من المهاجرين. 

  • ٥- عمرو بن معاذ بن النعمان. 

  • ٦- الحارث بن أنس بن رافع. 

تفسير الميزان ج٤

75
  • ٧- عمارة بن زياد بن السكن. 

  • ٨- سلمة بن ثابت بن وقش. 

  • ٩- عمرو بن ثابت بن وقش. 

  • ١٠- ثابت بن وقش.

  • ١١- رفاعة بن وقش. 

  • ١٢- حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان. 

  • ١٣- صيفي بن قيظي. 

  • ١٤- حباب بن قيظي. 

  • ١٥- عباد بن سهل. 

  • ١٦- الحارث بن أوس بن معاذ. 

  • ١٧- إياس بن أوس. 

  • ١٨- عبيد بن التيهان. 

  • ١٩- حبيب بن يزيد بن تيم. 

  • ٢٠- يزيد بن حاطب بن أمية بن رافع. 

  • ٢١- أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد. 

  • ٢٢- حنظلة بن أبي عامر و هو غسيل الملائكة. 

  • ٢٣- أنيس بن قتادة. 

  • ٢٤- أبو حبة بن عمر بن ثابت. 

  • ٢٥- عبد الله بن جبير بن النعمان و هو أمير الرماة. 

  • ٢٦- أبو سعد خيثمة بن خيثمة. 

  • ٢٧- عبد الله بن سلمة. 

  • ٢٨- سبيع بن حاطب بن الحارث. 

  • ٢٩- عمرو بن قيس. 

  • ٣٠- قيس بن عمرو بن قيس. 

  • ٣١- ثابت بن عمرو بن يزيد. 

  • ٣٢- عامر بن مخلد. 

  • ٣٣- أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة بن عمرو. 

تفسير الميزان ج٤

76
  • ٣٤- عمرو بن مطرف بن علقمة بن عمرو. 

  • ٣٥- أوس بن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت. 

  • ٣٦- أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم رسول الله ص. 

  • ٣٧- قيس بن مخلد. 

  • ٣٨- كيسان عبد لبني النجار. 

  • ٣٩ -سليم بن الحارث. 

  • ٤٠- نعمان بن عبد عمرو. 

  • ٤١- خارجة بن زيد بن أبي زهير. 

  • ٤٢- سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير. 

  • ٤٣- أوس بن الأرقم. 

  • ٤٤- مالك بن سنان من بني خدرة و هو والد أبي سعيد الخدري. 

  • ٤٥- سعيد بن سويد. 

  • ٤٦- عتبة بن ربيع. 

  • ٤٧- ثعلبة بن سعد بن مالك. 

  • ٤٨- سقف بن فروة بن البدي. 

  • ٤٩- عبد الله بن عمرو بن وهب. 

  • ٥٠- ضمرة حليف لبني طريف. 

  • ٥١- نوفل بن عبد الله. 

  • ٥٢- عباس بن عبادة. 

  • ٥٣- نعمان بن مالك بن ثعلبة. 

  • ٥٤- المجدر بن زياد. 

  • ٥٥- عبادة بن الحسحاس و قد دفن نعمان و المجدر و عبادة في قبر واحد. 

  • ٥٦- رفاعة بن عمرو. 

  • ٥٧ -عبد الله بن عمرو من بني حرام. 

  • ٥٨- عمرو بن الجموح من بني حرام دفنا في قبر واحد. 

  • ٥٩- خلاد بن عمرو بن الجموح. 

  • ٦٠- أبو أيمن مولى عمرو بن الجموح. 

تفسير الميزان ج٤

77
  • ٦١- سليم بن عمرو بن حديدة. 

  • ٦٢- عنترة مولى سليم. 

  • ٦٣- سهل بن قيس بن أبي كعب. 

  • ٦٤- ذكوان بن عبد قيس. 

  • ٦٥- عبيد بن المعلى. 

  • ٦٦- مالك بن تميلة. 

  • ٦٧- حارث بن عدي بن خرشة. 

  • ٦٨- مالك بن إياس. 

  • ٦٩- إياس بن عدي. 

  • ٧٠- عمرو بن إياس. 

  • فهؤلاء سبعون رجلا على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

  •  

  • ‌ [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٧٦ الی ١٨٠]

  • {وَ لاَ يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اَللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٧٧ وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ١٧٨ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلىَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٧٩ وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

تفسير الميزان ج٤

78
  • هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١٨٠} 

  • (بيان) 

  • الآيات مرتبطة بما تقدم من الآيات النازلة في غزوة أحد فكأنها و خاصة الآيات الأربع الأول منها تتمة لها لأن أهم ما تتعرض لها تلك الآيات قضية الابتلاء و الامتحان الإلهي لعباده، و على ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات أحد يبين الله سبحانه فيها أن سنة الابتلاء و الامتحان سنة جارية لا مناص عنها في كافر و لا مؤمن، فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كل منهما إلى ساحة الظهور فيتمحض الكافر للنار و يتميز الخبيث من الطيب في المؤمن. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ} إلى آخر الآية تسلية و رفع للحزن ببيان حقيقة الأمر فإن مسارعتهم في الكفر و تظاهرهم على إطفاء نور الله و غلبتهم الظاهرة أحيانا ربما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحق لكنه إذا تدبر في قضية الامتحان العام استيقن أن الله هو الغالب و أنهم جميعا واقعون في سبيل الغايات يوجهون إليها ليتم لهم الهداية التكوينية و التشريعية إلى غايات أمرهم فالكافر يوجه به بواسطة إشباعه بالعافية و النعمة و القدرة و هو الاستدراج و المكر الإلهي إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان و المعصية، و المؤمن لا يزال يحك به محك الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان المشوب بغيره، فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت و أئمة الكفر. 

  • فمعنى الآية: لا يحزنك الذين يسرعون و لا يزال يشتد سرعتهم في الكفر فإنك إن تحزن فإنما تحزن لما تظن أنهم يضرون الله بذلك و ليس كذلك فهم لا يضرون الله شيئا لأنهم مسخرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة (و هو آخر حدهم في الكفر) و لهم عذاب أليم فقوله: {لاَ يَحْزُنْكَ}، أمر إرشادي، و قوله: {إِنَّهُمْ}«إلخ» تعليل للنهي، و قوله: {يُرِيدُ اَللَّهُ}«إلخ» تعليل و بيان لعدم ضررهم. 

تفسير الميزان ج٤

79
  • ثم ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعم من المسارعين في الكفر و غيرهم، و هو كالبيان الكلي بعد البيان الجزئي يصح أن يعلل به النهي (لا يحزنك) و أن يعلل به علته (أنهم لن يضروا «إلخ») لأنه أعم يعلل به الأخص، و المعنى: و إنما قلنا إن هؤلاء المسارعين لا يضرون الله شيئا لأن الكافرين جميعا لا يضرونه شيئا. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا}، لما طيب نفس نبيه في مسارعة الكفار في كفرهم إن ذلك في الحقيقة تسخير إلهي لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفار أنفسهم، فبين أنه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء و الإمهال الإلهي فإن ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم، و وراء ذلك عذاب مهيمن ليس معه إلا الهوان، كل ذلك بمقتضى سنة التكميل. 

  • قوله تعالى{مَا كَانَ اَللَّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ}«إلخ» ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضا فيخلص المؤمن الخالص من غيره، و يتميز الخبيث من الطيب. 

  • و لما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقا آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب و هو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن و البلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين و الذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحدا إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي، و ذلك قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}

  • ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء و التكميل محيد فآمنوا بالله و رسله حتى تنسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء، غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله و يحفظ طيبه، و لذلك قال أولا: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ} ثم تممه ثانيا بقوله: {وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}

  • و قد ظهر من الآية أولا: أن قضية تكميل النفوس و إيصالها إلى غايتها و مقصدها من السعادة و الشقاء مما لا محيص عنه. 

  • و ثانيا: أن الطيب و الخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران 

تفسير الميزان ج٤

80
  • مدار الإيمان و الكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم، و هذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تنشعب منها كثير من أسرار التوحيد، و يدل عليها قوله تعالى: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ}: البقرة ١٤٨، إذا انضم إلى قوله: {وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ}: المائدة ٤٨، و سيجي‌ء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‌ بَعْضٍ} (الآية) الأنفال ٣٧. 

  • و ثالثا: أن الإيمان بالله و رسله مادة لطيب الحياة و هو طيب الذات، و أما الأجر فيتوقف على التقوى و العمل الصالح، و لذلك ذكر تعالى أولا حديث الميز بين الطيب و الخبيث ثم فرع عليه قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ}، ثم لما أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإيمان فقال: {وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}

  • و بذلك يتبين في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: «النحل: ٩٧»، إن الإحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرع عليه، و الجزاء بالأجر متفرع على العمل الصالح فالإيمان روح الحياة الطيبة، و أما بقاؤها حتى يترتب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعية التي تحتاج في تكونها و تحققها إلى روح حيواني، و بقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى و الأعضاء، و لو سكنت الجميع بطلت و أبطلت الحياة. 

  • و قد كرر لفظ الجلالة مرات في الآية، و الثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر و ليس إلا للدلالة على مصدر الجلال و الجمال في أمور لا يتصف بها إلا هو بألوهيته و هو الامتحان، و الاطلاع على الغيب، و اجتباء الرسل، و أهلية الإيمان به. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (الآية)، لما بين حال إملاء الكافرين و كان الحال في البخل بالمال و عدم إنفاقه في سبيل الله مثله، فإن البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم و بين أنه شر لهم، و في التعبير عن المال بقوله: {بِمَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إشعار بوجه لومهم و ذمهم، و قوله: {سَيُطَوَّقُونَ} إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرا لهم، و قوله: {وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ اَلسَّمَاوَاتِ}، الظاهر أنه حال من يوم القيامة، و كذا قوله: {وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}

تفسير الميزان ج٤

81
  • و يحتمل على بعد أن يكون قوله: {وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ} حالا من فاعل قوله يبخلون، و قوله: {وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} حالا منه أيضا أو جملة مستأنفة.

  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟ فقال: الموت خير للمؤمن و الكافر لأن الله يقول: {وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}، و يقول: {لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} (الآية).

  • أقول: الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمة أهل البيت كل الموافقة فإن الأبرار طائفة خاصة من المؤمنين لا جميعهم إلا أن يقال: إن المراد بالأبرار جميع المؤمنين بما في كل منهم من شي‌ء من البر، و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مسعود. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٨١ الی ١٨٩ ]

  • {لَقَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ١٨١ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ١٨٢ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ اَلنَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١٨٣ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُ بِالْبَيِّنَاتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ

تفسير الميزان ج٤

82
  • ١٨٤ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنَّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ اَلْغُرُورِ ١٨٥ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ ١٨٦ وَ إِذْ أَخَذَ اَللَّهُ مِيثَاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ١٨٧ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ اَلْعَذَابِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٨٨ وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللَّهُ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ١٨٩} 

  • (بيان)

  • الآيات مرتبط بما قبلها، فقد كانت عامة الآيات السابقة في استنهاض الناس و ترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و تحذيرهم عن الوهن و الفشل و البخل فيرتبط بها قول اليهود: إن الله فقير و نحن أغنياء، و تقليبهم الأمر على المسلمين، و تكذيبهم آيات الرسالة، و كتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه، و هذه هي التي تتعرض الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة و الصبر و الثبات، و التحريض على الإنفاق في سبيل الله. 

  • قوله تعالى{لَقَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيَاءُ} القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء و غير ذلك. 

تفسير الميزان ج٤

83
  • و إنما قالوا ذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} (الآية): «البقرة: ٢٤٥» و يشهد بذلك بعض الشهادة اتصاله بالآية السابقة: {وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (الآية). 

  • أو أنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين و فاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم و أغناهم فليس إلا فقيرا و نحن أغنياء. 

  • قوله تعالى{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (الآية)، المراد بالكتابة الحفظ و التثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم، و المآل واحد، و المراد بقتل الأنبياء بغير حق القتل على العرفان و العمد دون السهو و الخطإ و الجهالة، و قد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولا عظيما، و قوله: {عَذَابَ اَلْحَرِيقِ}، الحريق‌ النار أو اللهب و قيل: هو بمعنى المحرق. 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (الآية)، أي بما قدمتم أمامكم من العمل و نسب إلى الأيدي لأنها آلة التقديم غالبا، و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} عطف على قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ}، و تعليل للكتابة و العذاب، فلو لم يكن ذلك الحفظ و الجزاء لكان إهمالا لأمر نظام الأعمال و في ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلاما لعباده تعالى عن ذلك. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} (الآية)، نعت للذين قبله و العهد هو الأمر، و القربان ما يتقرب به من النعم و غيره، و أكل النار كناية عن إحراقها، و المراد بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي}، أمثال زكريا و يحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ} (الآية)، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في تكذيبهم له، و الزبر جمع زبور و هو كتاب الحكم و المواعظ، و قد أريد بالزبر و الكتاب المنير مثل كتاب نوح و صحف إبراهيم و التوراة و الإنجيل. 

  • قوله تعالى{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} (الآية)، تتضمن الوعد للمصدق و الوعيد للمكذب و قد بدأ فيها بالحكم العام المقضي في حق كل ذي نفس، و التوفية هو الإعطاء الكامل، و قد استدل بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء 

تفسير الميزان ج٤

84
  • و أن الذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل، و هو استدلال حسن، و الزحزحة هو الإبعاد، و أصله تكرار الجذب بعجلة، و الفوز الظفر بالبغية، و الغرور مصدر غر أو هو جمع غار. 

  • قوله تعالى{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ} (الآية)، الإبلاء الاختبار، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء و الإبلاء على المؤمنين، ثم ذكر قول اليهود و هو مما من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأن هذا الإبلاء الإلهي و الأقاويل المؤذية من أهل الكتاب و المشركين ستتكرر على المؤمنين، و يكثر استقبالها إياهم و قرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا و يتقوا حتى يعصمهم ربهم من الزلل و الفشل، و يكونوا أرباب عزم و إرادة، و هذا إخبار قبل الوقوع ليستعدوا لذلك استعدادهم، و يوطنوا عليه أنفسهم. 

  • و قد وضع في قوله: {وَ لَتَسْمَعُنَّ} إلى قوله: {أَذىً كَثِيراً}، الأذى‌ الكثير موضع القول و هو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثر مجازا. قوله تعالى: {وَ إِذْ أَخَذَ اَللَّهُ مِيثَاقَ}، النبذ الطرح، و نبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك و عدم الاعتناء كما أن قولهم: جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ و اللزوم. 

  • قوله تعالى{لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} إلى آخر الآيتين، أي بما أنعم عليهم من المال و لازمه حب المال و البخل به، و المفازة النجاة و إنما هلك هؤلاء لأن قلوبهم تعلقت بالباطل فلا ولاية للحق عليهم. 

  • ثم ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات و الأرض، و قدرته على كل شي‌ء، و هذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدم من الآيات.

  • بحث روائي‌ 

  • في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة: في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اَللَّهُ} (الآية)، قال: ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزل: {مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني. 

تفسير الميزان ج٤

85
  • و في تفسير العياشي في الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: و الله ما رأوا الله حتى يعلموا أنه فقير، و لكنهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا: لو كان غنيا لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى. 

  • و في المناقب عن الباقر (عليه السلام): هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.

  • أقول: أما الروايتان الأوليان فقد تقدم انطباق مضمونهما على الآية، و أما الثالثة فهي من الجري. 

  • و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: كان بين القائلين و القاتلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.

  • أقول: ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلادي الموجود فارجع إلى ما تقدم من البحث التاريخي. 

  • و في الدر المنثور في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ} (الآية)، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و جاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه و لا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله و بركاته كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من كل هالك، و دركا من كل ما فات فبالله فثقوا، و إياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، فقال علي: هذا الخضر.

  • و فيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ثم تلا هذه الآية: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنَّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}

  • أقول: و رواه فيه ببعض طرق أخر عن غيره، و اعلم أن هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظري. 

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): الآیات ١٩٠الی ١٩٩ ]

  •  {إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ لَآيَاتٍ 

تفسير الميزان ج٤

86
  • لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ ١٩٠اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‌ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ ١٩١ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ١٩٢ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَ تَوَفَّنَا مَعَ اَلْأَبْرَارِ ١٩٣ رَبَّنَا وَ آتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلىَ رُسُلِكَ وَ لاَ تُخْزِنَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ ١٩٤ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوَابِ ١٩٥ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلاَدِ ١٩٦ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ ١٩٧ لَكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ١٩٨ وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ١٩٩} 

تفسير الميزان ج٤

87
  • (بيان‌) 

  • الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين و المشركين و أهل الكتاب في هذه السورة، بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه، و التفكر في آياته و الاستجارة بالله من عذاب النار، و سؤال المغفرة و الجنة، و أن الله استجاب لهم و سيرزقهم ما سألوه هذه عامة حالهم و أن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم، و قد استثنى منهم المتبعين للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين. 

  • قوله تعالى{إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}، كان المراد بالخلق كيفية وجودها و آثارها و أفعالها من حركة و سكون و تغير و تحول فيكون خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة و قد تقدم بيانها في سورة البقرة۱. و تقدم أيضا معنى أولي الألباب‌٢

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِيَاماً وَ قُعُوداً}«إلخ» أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام و القعود و الاضطجاع، و قد مر البحث في معنى الذكر و التفكر، و محصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال، و تفكرا في خلق السموات و الأرض يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته و يستنجزون وعده. 

  • قوله تعالى{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً}، إنما قيل {هَذَا} مع كون المشار إليه جمعا و مؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها و أسمائها، و الجميع في أنها خلق واحد، و هذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم: {فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ}: «الأنعام: ٧٨»، لعدم علمه بعد بحقيقتها و اسمها سوى أنها شي‌ء. 

  • و الباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى: {فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ}: «الرعد: ١٧» و لذلك لما نفوا البطلان عن 

    1. تفسير آية: ١٦ من سورة البقرة.
    2.  في تفسير الآية السابعة من هذه السورة.

تفسير الميزان ج٤

88
  • الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء، و أنه تعالى سيجزي هناك الظالمين جزاء خزي و هو النار، و لا راد يرد مصلحة العقاب و إلا لبطل الخلقة، و هذا معنى قولهم: فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار. 

  • قوله تعالى{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً}، المراد بالمنادي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله: {أَنْ آمِنُوا}. بيان للنداء و أن تفسيرية، و لما ذكروا إيمانهم بالمنادي و هو الرسول و هو يخبرهم بأمور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب و السيئات و الموت على الكفر و الذنب، و يرغبهم في بعضها كالمغفرة و الرحمة و تفاصيل الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين الأبرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم و يكفر عن سيئاتهم و يتوفاهم مع الأبرار و سألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة و الرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}«إلخ» فقوله تعالى: {عَلىَ رُسُلِكَ} أي حملته على رسلك و ضمنه عليك الرسل، و قوله: {وَ لاَ تُخْزِنَا}، أي بإخلاف الوعد، و لذا عقبه بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ}

  • و قد تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله و اليوم الآخر و بأن لله رسلا بالنظر في الآيات و أما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الإيمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة، و على السمع و الطاعة فيما فيه ذلك. 

  • قوله تعالى{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}«إلخ» التعبير بالرب و إضافته إليهم يدل على ثوران الرحمة الإلهية و يدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}، فلا فرق عنده تعالى بين عمل و عمل، و لا بين عامل و عامل. 

  • و على هذا فقوله تعالى في مقام التفريع: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا}«إلخ» في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها، و الواو للتفصيل دون الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط. 

  • و الآية مع ذلك لا تفصل إلا الأعمال التي تندب إليها هذه السورة و تبالغ في التحريض و الترغيب فيها، و هو إيثار الدين على الوطن و تحمل الأذى في سبيل الله و الجهاد. 

  • و الظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك و العشيرة و الوطن لإطلاق اللفظ، و لمقابلته قوله: {وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}، و هو هجرة خاصة، و لقوله 

تفسير الميزان ج٤

89
  • بعده: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب و التوبة، فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك. 

  • قوله تعالى{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ} إلخ، هذا بمنزلة دفع الدخل و التقدير: هذا حال أبرار المؤمنين و هذا أجرهم، و أما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال و ترف الحياة و در المعاش فلا يغرنك ذلك (الخطاب للنبي و المقصود به الناس) لأنه متاع قليل لا دوام له. 

  • قوله تعالى{لَكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ} إلخ، النزل‌ ما يعد للنازل من طعام و شراب و غيرهما، و المراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية، و هذا يؤيد ما ذكرناه من أن الآية السابقة دفع دخل. 

  • قوله تعالى{وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} إلخ، المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب، و الغرض منه أن السعادة الأخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب و إن آمنوا بل الأمر دائر مدار الإيمان بالله و برسله فلو آمنوا كانوا هم و المؤمنون سواء. 

  • و قد نفي عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات و هو التفريق بين رسل الله، و كتمان ما أخذ ميثاقهم لبيانه اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا.

  • بحث فلسفي و مقايسة [بين القرآن و التوراة في أمر النساء]

  • المشاهدة و التجربة تقضيان أن الرجل و المرأة فردان من نوع جوهري واحد، و هو الإنسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق، و بروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك، نعم يختلف الصنف بشدة و ضعف في بعض الآثار المشتركة و هو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد، و بذلك يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، و منها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالإيمان و الطاعات و القربات، و بذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة و أجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}

  • و إذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين 

تفسير الميزان ج٤

90
  • ففي سفر الجامعة من التوراة: «درت أنا و قلبي لأعلم و لأبحث و لأطلب حكمة و عقلا، و لأعرف الشر أنه جهالة، و الحماقة أنها جنون، فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك، و قلبها أشراك، و يداها قيود، إلى أن قال: رجلا واحدا بين ألف وجدت إما امرأة فبين كل أولئك لم أجد» و قد كانت أكثر الأمم القديمة لا ترى قبول عملها عند الله سبحانه، و كانت تسمى في اليونان رجسا من عمل الشيطان، و كانت ترى الروم و بعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجردة إنسانية، و قرر مجمع فرنسا سنة ٥٨٦ م بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل، و كانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريبا لا تعد جزء المجتمع الإنساني، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء و العقائد و آداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم.

  • (بحث روائي‌)

  • في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله.

  • أقول: و روي هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن عدة من الصحابة كعبد الله بن سلام و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و الرواية مروية من طرق الشيعة أيضا و المراد بالتفكر في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكر في كنهه و قد قال تعالى: {وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}: طه - ١١٠، و أما صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنه تعالى يعرف بها، و قد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة. 

  • و فيه أخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة.

  • أقول: و في بعض الروايات: من عبادة ليلة، و في بعضها: من عبادة سنة، و هو مروي من طرق الشيعة أيضا. 

  • و قد ورد من طرق أهل السنة: أن قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} (الآية)، نزلت في أم سلمة لما قالت للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشي‌ء فأنزل الله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} (الآية). 

تفسير الميزان ج٤

91
  • و ورد من طرق الشيعة: أن قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا} (الآية)، نزلت في علي (عليه السلام) لما هاجر و معه الفواطم: فاطمة بنت أسد، و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و فاطمة بنت الزبير، ثم لحق بهم في ضجنان أم أيمن و نفر من ضعفاء المؤمنين فساروا و هم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي ص و قد نزلت الآيات. و ورد من طرق أهل السنة: أنها نزلت في المهاجرين‌، و ورد أيضا أن قوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ} (الآيات)، نزل حين تمنى بعض المؤمنين ما عليه الكفار من حسن الحال‌ و ورد أيضا أن قوله: {وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} (الآية)، نزل في النجاشي و نفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنه يصلي على من ليس في دينه فأنزل الله: {وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ} (الآية). 

  • فهذه جميعا روايات تطبق الآيات على القصص، و ليست بأسباب للنزول حقيقة.

  •  

  • [سورة آل‌عمران (٣): آیة ٢٠٠]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٢٠٠}

  • (بيان‌) 

  • الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة، و فيه تخلص منه بأخذ النتيجة و إعطائها. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صَابِرُوا}«إلخ»، الأوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد، و الصبر في طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و على أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله. 

  • و المصابرة هي التصبر و تحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوى الحال و يشتد الوصف و يتضاعف تأثيره، و هذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد، و في حال الاجتماع و التعاون بإيصال القوى بعضها ببعض و سنبحث فيه إن شاء الله بحثا مستوفى في محله.

تفسير الميزان ج٤

92
  • قوله تعالى{وَ رَابِطُوا} أعم معنى من المصابرة و هي إيجاد الجماعة، الارتباط بين قواهم و أفعالهم في جميع شئون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة و حال الرخاء و لما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا و الآخرة و إلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا و ليست بحقيقة السعادة عقب هذه الأوامر بقوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يعني الفلاح التام الحقيقي.

  • كلام في المرابطة في المجتمع الإسلامي‌ 

  • ١ الإنسان و الاجتماع

  • كون النوع الإنساني نوعا اجتماعيا لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، و لم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ و الآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها و يحكم على هذه الأرض. 

  • و قد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىَ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الآية): «الحجرات: ١٣» و قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا}: «الزخرف: ٣٢»، و قال تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: «آل عمران: ١٩٥»، و قال تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً}: «الفرقان: ٥٤»، إلى غير ذلك.۱ 

  • ٢ الإنسان و نموه في اجتماعه

  • الاجتماع الإنساني كسائر الخواص الروحية الإنسانية و ما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاما كاملا لا يقبل النماء و الزيادة بل هو كسائر الأمور الروحية الإدراكية الإنسانية لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية و المعنوية و على الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثني هذه الخاصة من بين جميع الخواص الإنسانية فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون و أكمله بل هي كسائر الخواص الإنسانية التي لها ارتباط بقوتي العلم و الإرادة تدريجية الكمال في الإنسان.

  • و الذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه 

    1.  و ليرجع في دلالة كل واحدة من الآيات إلى المحل المختص بها من هذا التفسير

تفسير الميزان ج٤

93
  • الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي و هو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلا بخلاف مثل التغذي و غيره ثم ظهرت منه الخاصة التي سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام و هو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته و تحميل إرادته عليه ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل و رئيس العشيرة و رئيس القبيلة و رئيس الأمة و بالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولا أقواهم و أشجعهم ثم أشجعهم، و أكثرهم مالا و ولدا و هكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة و السياسة و هذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية و قيامها على ساقها حتى اليوم و سنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز. 

  • و خاصة الاجتماع بتمام أنواعها (المنزلي و غيره) و إن لم تفارق الإنسانية في هذه الأدوار و لو برهة إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلا بل كانت تعيش و تنمو بتبع الخواص الأخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام و الدفاع و نحو ذلك. 

  • و القرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الإنسان بالاجتماع تفصيلا و اعتنى بحفظه استقلالا نبهته به النبوة قال تعالى: {وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}: «يونس: ١٩»، و قال: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}: «البقرة: ٢١٣»، حيث ينبئ أن الإنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات و بانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء و أنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف، و يردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة. 

  • و قال تعالى{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسىَ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}: «الشورى: ١٣»، فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس و إيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين و عدم التفرق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح. 

  • و الآية كما ترى تحكي هذه الدعوة (دعوة الاجتماع و الاتحاد) عن نوح (عليه السلام) و هو أقدم الأنبياء أولي الشريعة و الكتاب ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى (عليه السلام) 

تفسير الميزان ج٤

94
  • و قد كان في شريعة نوح و إبراهيم النزر اليسير من الأحكام، و أوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى و تتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن و هو ظاهر الأناجيل و ليس في شريعة موسى على ما قيل إلا ستمائة حكم تقريبا. 

  • فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن، و التاريخ يصدقه على ما سيجي‌ء. 

  • ٣ الإسلام و عنايته بالاجتماع

  • لا ريب أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحا و لم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شئونه فانظر إن أردت زيادة تبصر في ذلك إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة و إلى تشعبها إلى أجناسها و أنواعها و أصنافها ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها و إحاطتها بها و بسط أحكامها عليها ترى عجبا ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ. 

  • ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتني بها القرآن و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى حتى تعاين النسبة و تعرف المنزلة. 

  • و أما ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية و الصابئة و المانوية و الثنوية و غيرها فالأمر فيها أظهر و أجلى. 

  • و أما الأمم المتمدنة و غيرها فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام، و اجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد و السلطة الملوكية فكان الاجتماع القومي و الوطني و الإقليمي يعيش تحت راية الملك و الرئاسة، و يهتدي بهداية عوامل الوراثة و المكان و غيرهما من غير أن يعتني أمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره، و تجعله موردا للبحث و العمل، حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين و أخذت في إشراقها و إنارتها أعني إمبراطورية الروم و الفرس فإنها لم تكن إلا قيصرية و كسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك و السلطنة و يتبعها الاجتماع في رشده و نموه و يمكث بمكثها. 

  • نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط 

تفسير الميزان ج٤

95
  • و أفلاطون و أرسطو و غيرهم إلا أنها كانت أوراقا و صحائف لا ترد مورد العمل، و مثلا ذهنية لا تنزل مرحلة العين و الخارج، و التاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه. 

  • فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني و دعي به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الإهمال و حكم التبعية هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة و السلام، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة و طيب العيش مجتمعين، قال تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ}: «الأنعام: ١٥٣»، و قال: {وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا} إلى أن قال: {وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ}(يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق و الانشعاب) {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ}: «آل عمران: ١٠٥»، و قال: {إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‌ءٍ}: «الأنعام: ١٥٩»، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع و الاتحاد. 

  • و قال تعالى{إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}: «الحجرات: ١٠»، و قال: {وَ لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ}: «الأنفال: ٤٦»، و قال: {وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىَ}: «المائدة: ٢»، و قال: {وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ}: «آل عمران: ١٠٤» إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتفاق و الاتحاد في حيازة منافعها و مزاياها المعنوية و المادية و الدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الإيضاح.

  • ٤ اعتبار الإسلام رابطة الفرد و المجتمع

  • الصنع و الإيجاد يجعل أولا أجزاء ابتدائية لها آثار و خواص ثم يركبها و يؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة فالإنسان مثلا له أجزاء و أبعاض و أعضاء و قوى لها فوائد متفرقة مادية و روحية ربما ائتلفت فقويت و عظمت كثقل كل واحد من الأجزاء و ثقل المجموع و التمكن و الانصراف من جهة إلى جهة و غير ذلك، و ربما لم تأتلف و بقيت على حال التباين و التفرق كالسمع و البصر و الذوق و الإرادة و الحركة إلا أنها جميعا من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة 

تفسير الميزان ج٤

96
  • الواحد الحادث الذي هو الإنسان ، و عند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه و هي فوائد جمة من قبيل الفعل و الانفعال و الفوائد الروحية و المادية، و من فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة فإن المادة الإنسانية كالنطفة مثلا إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شي‌ء من المادة من نفسها و تربيتها إنسانا تاما آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله و محتده من الأفعال المادية و الروحية فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان و هو واحد، و أفعالها كثيرة عددا واحدة نوعا و هي تجتمع و تأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد و هي ذات خواص كثيرة نوعها واحد و كلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة و عظم الأثر. 

  • و قد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع و هدايتها إلى سعادتها الحقيقة هذا المعنى الحقيقي فيها و لا مناص من اعتباره، قال تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً}: «الفرقان: ٥٤»، و قال: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‌}: «الحجرات: ١٣»، و قال: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: «آل عمران: ١٩٥». 

  • و هذه الرابطة الحقيقية بين الشخص و المجتمع لا محالة تؤدي إلى كينونة أخرى في المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم و قواهم و خواصهم و آثارهم فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود و خواص الوجود و هو ظاهر مشهود، و لذلك اعتبر القرآن للأمة وجودا و أجلا و كتابا و شعورا و فهما و عملا و طاعة و معصية فقال: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ}: «الأعراف: ٣٤»، و قال: {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‌ إِلى‌ كِتَابِهَا}: «الجاثية: ٢٨» و قال: {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}«الأنعام: ١٠٨»، و قال: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}: «المائدة: ٦٦»، و قال: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اَللَّهِ}: «آل عمران: ١١٣»، و قال: {وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}: «غافر: ٥»، و قال: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}: «يونس: ٤٧». 

  • و من هنا ما نرى أن القرآن يعتني بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك و العظماء، و لم يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم و المجتمعات إلا بعد نزول القرآن فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي و ابن خالدون حتى ظهر التحول الأخير في التاريخ النقلي 

تفسير الميزان ج٤

97
  • بتبديل الأشخاص أمما، و أول من سنه على ما يقال: «أغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة ١٨٥٧ ميلادية». 

  • و بالجملة لازم ذلك على ما مرت الإشارة إليه تكون قوى و خواص اجتماعية قوية تقهر القوى و الخواص الفردية عند التعارض و التضاد، على أن الحس و التجربة يشهدان بذلك في القوى و الخواص الفاعلة و المنفعلة معا، فهمة الجماعة و إرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات و في الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة و لا مضادة من واحد من أشخاصها و أجزائها، فلا مفر للجزء من أن يتبع كله و يجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور و الفكر من أفراده و أجزائه، و كذا الخوف العام و الدهشة العامة كما في موارد الانهزام و انسلاب الأمن و الزلزلة و القحط و الوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة و الأزياء القومية و نحوهما تضطر الفرد على الاتباع و تسلب عنه قوة الإدراك و الفكر. 

  • و هذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ذلك الاهتمام الذي لا نجد و لن نجد ما يماثله في واحد من الأديان الأخر و لا في سنن الملل المتمدنة (و لعلك لا تكاد تصدق ذلك)، فإن تربية الأخلاق و الغرائز في الفرد و هو الأصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق و الغرائز المعارضة و المضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيرا لا قدر له عند القياس و التقدير. 

  • فوضع أهم أحكامه و شرائعه كالحج و الصلاة و الجهاد و الإنفاق و بالجملة التقوي الديني على أساس الاجتماع، و حافظ على ذلك مضافا إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة و حدودها، و مضافا إلى فريضة الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر العامة لجميع الأمة بجعل غرض المجتمع الإسلامي و كل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك هي السعادة الحقيقية و القرب و المنزلة عند الله، و هذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان و سره فضلا عما في ظاهره و إن خفي على طائفة الدعاة و جماعة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هذا هو الذي ذكرنا أن الإسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن و الطرائق. 

تفسير الميزان ج٤

98
  • ٥ هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الإجراء و البقاء؟

  • و لعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناء و أتقن أساسا حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقا فما باله لم يقبل الإجراء إلا برهة يسيرة ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية و كسروية و تحول إمبراطورية أفجع و أشنع أعمالا مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء. 

  • و هذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقى و سنتهم في الاجتماع أتقن و أشد استحكاما، و قد وضعوا سنتهم الاجتماعية و قوانينهم الدائرة على أساس إرادة الأمة و اقتراح الطباع و الميول ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر و اقتراحهم، لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة، و غلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة فإنا نجد كلا من العلل المادية و الأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام، و كذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل و دون الأقل فمن الحري أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض و بحسب السنن و القوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر و أما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض و مثالا عقليا غير جائز النيل. 

  • و قد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع و سعادتها و تهذب الأفراد و طهارتهم من الرذائل و هي الأمور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب و الخيانة و الظلم و الجفاء و الجفاف و نحو ذلك. 

  • و هذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين و خاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية و النفسية غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر، و لتوضيح ذلك نقول: 

  • أما قولهم: إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة، و معناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئا فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن و ظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع و الشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه، فانتهضت و نازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة و ربما اضطهدت و انهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانيا و ثالثا 

تفسير الميزان ج٤

99
  • حتى غلبت و تمكنت و ملكت سيطرتها و ربما بادت و انقرضت إذ لم يساعدها العوامل و الشرائط بعد، و التاريخ يشهد۱ بذلك في جميع السنن الدينية و الدنيوية حتى في مثل الديمقراطية و الاشتراك، و إلى مثله يشير قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ}: آل عمران: ١٣٧، يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة. 

  • فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الإنساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه و فساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل و الانفعال و تنازع العوامل المختلفة. 

  • و الإسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي و الاجتماعي و ليس بمستثنى من هذه الكلية، فحاله من حيث التقدم و التأخر و الاستظهار بالعوامل و الشرائط حال سائر السنن و ليس حال الإسلام اليوم و قد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر و نشب في قلوبهم بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح و إبراهيم و محمد ص و قد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة و لم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد ثم انبسطت و تعرقت و عاشت و اتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم. 

  • و قد قام رسول الله ص بالدعوة و لم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل و امرأة ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد و اليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعا صالحا ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح و التقوى و مكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله ص ما كان. 

  • و هذا الأنموذج اليسير على قصر عمره و ضيق نطاقه لم يلبث حتى انبسط في أقل 

    1.  و من أوضح الشواهد أن السنة الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى (و هي اليوم السنة العالمية المرضية الوحيدة) تحولت في روسيا إلى الشيوعية و الحكومة الاشتراكية ثم لحق لها بعد الحرب العالمية الثانية ممالك أوربا الشرقية و مملكة الصين فخسرت بذلك صفقة الديمقراطية فيما يقرب من نصف المجتمع البشري. و قد أعلنت المجتمعات الشيوعية قبل سنة تقريبا أن قائدها الفقيد «ستالين» كان قد حرف مدى حكومته و هو ثلاثون سنة تقريبا بعد حكومة لينين الحكومة الاشتراكية إلى الحكومة الفردية الاستبدادية و حتى اليوم لا تزال تؤمن به طائفة بعد الكفر، و ترتد عنها طائفة بعد الإيمان، و هي تطوى و تبسط، و هناك نماذج و أمثلة أخرى كثيرة في التاريخ.

تفسير الميزان ج٤

100
  • من نصف قرن على مشارق الأرض و مغاربها، و حول التاريخ تحويلا جوهريا يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا و ستدوم ثم تدوم. 

  • و لا يستطيع أن يستنكف الأبحاث الاجتماعية و النفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف بأن المنشأ القريب و العامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الإسلامية و طلوعها و لم يهمل جل الباحثين من أوربا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الإنسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية و كيف يسع لباحث خبير لو أنصف النظر أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية و يعد المسيح (عليه السلام) قائدها و حامل لوائها و المسيح يصرح‌۱ بأنه إنما يهتم بأمر الروح و لا يشتغل بأمر الجسم و لا يتعرض لشأن الدولة و السياسة؟ و هو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع و التآلف و يتصرف في جميع شئون المجتمع الإنساني و أفراده من غير استثناء فهل هذا الصفح و الإغماض منهم إلا لإطفاء نور الإسلام {وَ يَأْبَى اَللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} و إخماد ناره عن القلوب بغيا و عدوا حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الأنسال المنشعبة. 

  • و بالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم و طيب حياتهم، و ما هذا شأنه لا يسمى فرضية غير قابلة الانطباق على الحياة الإنسانية، و لا مأيوسا من ولاية أمر الدنيا يوما (مع كون مقصده سعادة الإنسان الحقيقية) و قد تقدم في تفسير قوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}: «البقرة: ٢١٣» أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الإنساني سيبلغ غايته و ينال بغيته و هي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا و توليه التام أمر المجتمع الإنساني، و قد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}: «المائدة: ٥٤» و قال: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى‌َ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (الآية): «النور: ٥٥»، و قال: {أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}: «الأنبياء: ١٠٥»، إلى غير ذلك من الآيات. 

  •  

    1.  راجع الجزء الثالث في تفسير آية ٧٩٨٠من سورة آل عمران.

تفسير الميزان ج٤

101
  • و هنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم و هي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر و العمل، و الاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه و يريده الأكثر، و هذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها و فيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه، و هي الراحة الكبرى (و إن كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا) و لذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق، و شدد في المنع عما يفسد العقل السليم و ألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال و الأخلاق و المعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة و الولاية الإسلامية من إجراء السياسات و الحدود و غيرها، و هذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس و يدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء و الأماني الذي نشاهده من كافة المترفين و المعدمين و يسلب حريتهم في الاستلذاذ و التلهي و السبعية و الافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة و بسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة و تدرب كاف و تحفظ على ذلك مستدام. 

  • و أما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة و من الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته و غرضه. 

  • و لذلك كانت القوانين تتبع في وضعها و إجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع و ميول طباعهم، و ينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال، و أما الأخلاق و المعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها بل الناس في التلبس بها و تبعيتها و عدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ. 

  • و لازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة و الغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين، و أن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق و المعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية. 

  • و لازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي 

تفسير الميزان ج٤

102
  • العاطفي فربما كان الفجور و الفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول و الإحساسات و سمي فتوة و بشرا و حسن خلق كمعظم ما يجري في أوربا بين الشبان، و بين الرجال و النساء المحصنات أو الأبكار، و بين النساء و الكلاب، و بين الرجال و أولادهم و محارمهم، و ما يجري في الاحتفالات و مجالس الرقص و غير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين. 

  • و ربما كان عاديات الطريق الديني غرائب و عجائب مضحكة عندهم و بالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة و الإدراك باختلاف الطريق و لا يستفاد في هذه السنن الإحساسية من التعقل كما عرفت إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع و التلذذ فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شي‌ء و لا يمنع منها شي‌ء إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال «الانتحار» و «دئل» و غيرهما، فللنفس ما تريده و تهواه إلا أن يزاحم ما يريده و يهواه المجتمع!. 

  • إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة و الحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية. 

  • و لو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع، و من مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية. 

  • و الذي ذكرناه من بناء السنة الإسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىَ وَ دِينِ اَلْحَقِّ}: «التوبة: ٣٣» و قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}: «المؤمن: ٢٠» و قال في وصف المؤمنين: {وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: «العصر: ٣» و قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}: «الزخرف: ٧٨» فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين و أهواءهم، ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يئول إلى الفساد فقال: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ 

تفسير الميزان ج٤

103
  •  وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}: «المؤمنون: ٧١» و لقد صدق جريان الحوادث و تراكم الفساد يوما فيوما ما بينه تعالى في هذه الآية. و قال تعالى: {فَمَا ذَا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}: «يونس: ٣٢» و الآيات في هذا المعنى و ما يقرب منه كثيرة جدا و إن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس فقد كرر فيه ذكر الحق بضعا و عشرين مرة. 

  • و أما قولهم: إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة، فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها. 

  • توضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمور: أحدها أن الأمور الخارجية التي هي أصول عقائد الإنسان العلمية و العملية تتبع في تكونها و أقسام تحولها نظام العلية و المعلولية و هو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم و النظر و شهد به القرآن على ما مر۱، فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام و الثبات حتى أن الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة، مثلا النار التي تفعل السخونة غالبا بالقياس إلى جميع مواردها «سخونتها الغالبية» أثر دائم لها و هكذا، و هذا هو الحق. 

  • و الثاني: أن الإنسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمرا واقعيا خارجيا بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا ألقي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول. 

  • و الثالث: أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله، و أما نظر الإنسان و إدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي. 

  • إذا عرفت هذه الأمور تبين لك أن الحقية و هي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع 

    1. في الكلام على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب‌

تفسير الميزان ج٤

104
  • في الطبيعة الراجعة إلى الدوام و الثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم و الإدراك، و بعبارة أخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم، فالوقوع الدائمي و الأكثري أيضا بوجه من الحق، و أما آراء الأكثرين و أنظارهم و اعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع و ربما لم تكن إذا لم تطابق و حينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان و لا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم و إن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه، و من أحسن البيان في أن رأي الأكثر و نظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}: «المؤمنون: ٧٠» فلو كان كل ما يراه الأكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق و يعارضوه. 

  • و بهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم و الفكر و الذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته و حركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله و أعماله على الصلاح الأكثري و عليه جرى القرآن في حكم تشريعاته و مصالحها، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: «المائدة: ٦»، و قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: «البقرة: ١٨٣» إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة. 

  • و أما قولهم: إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع و هذب الأفراد طهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط و الاشتباه. 

  • و كان مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها و قوتها و تعاليها في استفادتها من المنابع المادية و قد عرفت كرارا أن الإسلام لا يعد ذلك سعادة و البحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الإنسانية أمر مؤلف من سعادة الروح و البدن و هي تنعم الإنسان من النعم المادية و تحليه بفضائل الأخلاق و المعارف الحقة الإلهية و هي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا و الحياة الأخرى و أما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء. 

تفسير الميزان ج٤

105
  • و أما استعجابهم بما يرون من الصدق و الصفاء و الأمانة و البشر و غير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه، و ذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي و إنما يتفكرون تفكرا فرديا فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطا تبطل استقلاله الوجودي (مع أن الحق خلافه) ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه و دفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه و هو التفكر الفردي، و يستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال. 

  • و هذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى و أما من يتفكر تفكرا اجتماعيا ليس نصب عينيه إلا أنه جزء غير منفك و لا مستقل عن المجتمع و أن منافعه جزء من منافع مجتمعة يرى خير المجتمع خير نفسه و شره شر نفسه و كل وصف و حال له وصفا و حالا لنفسه فهذا الإنسان يتفكر نحوا آخر من التفكر و لا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعة و أما اشتغاله بأجزاء مجتمعة فلا يهتم به و لا يقدره شيئا. 

  • و استوضح ذلك بما نورده من المثال: الإنسان مجموع مؤلف من أعضاء و قوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الإنسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتا و فعلا تحت استقلاله فالعين و الأذن و اليد و الرجل تبصر و تسمع و تبطش و تمشي للإنسان، و إنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الإنسان به، و كل واحدة من هذه الأعضاء و القوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الإنسان الواحد الارتباط به بخير أو شر فالعين أو الأذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الإحسان أو الإساءة إلى من يريد الإنسان الإحسان أو الإساءة إليه من الناس مثلا، و أما معاملة بعضها مع بعض و الجميع تحت لواء الإنسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسي‌ء بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض. 

  • فهذا حال أجزاء الإنسان و هي تسير سيرا واحدا اجتماعيا، و في حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكرا اجتماعيا فصلاحهم و تقواهم أو فسادهم و إجرامهم و إحسانهم و إساءتهم إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أخذ ذا شخصية واحدة.

  • و هكذا صنع القرآن في قضائه على الأمم و الأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية 

تفسير الميزان ج٤

106
  • أو القومية أن يتفكروا تفكرا اجتماعيا كاليهود و الأعراب و عدة من الأمم السالفة فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين، و يعاتب الحاضرين و يوبخهم بأعمال الغائبين و الماضين كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكرا اجتماعيا، و في القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها. 

  • نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد فإنهم و إن عاشوا بينهم و اختلطوا بهم إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد و المرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع، و أشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله و بنيته، و هكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء و الأبرار. 

  • و يتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح و الطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الأمم الأخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم و مخالطتهم فيما بينهم و عيشتهم الداخلية بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها و مصاكتها سائر الأمم الضعيفة و مخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم. 

  • فهذه هي التي يجب أن تراعى و تعتبر في القضاء بصلاح المجتمع و طلاحه و سعادته و شقائه و على هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاءوا فليستعجبوا و إن شاءوا فليتعجبوا. 

  • و لعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الأوربية و تعمق فيما عاملوا به غيرهم من الأمم و الأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون أنهم امتلئوا رأفة و نصحا للبشر يفدون بالدماء و الأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع و إعطاء الحرية و الأخذ بيد المظلوم المهضوم حقا و إلغاء سنة الاسترقاق و الأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الأمم الضعيفة مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلا بما وجدوا إليه من سبيل فيوما بالقهر، و يوما بالاستعمار، و يوما بالاستملاك، و يوما بالقيمومة، و يوما باسم حفظ المنافع المشتركة، و يوما باسم الإعانة على حفظ الاستقلال، و يوما باسم حفظ الصلح و دفع ما يهدده، و يوما باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة و يوما... و يوما... 

تفسير الميزان ج٤

107
  • و المجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح أو تذعن لها بالسعادة و إن أغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين و حكم الوحي و النبوة من معنى السعادة. 

  • و كيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء ثم تناقض نفسها فتعطي بعضا منهم عهدا أن يتملكوا الآخرين تملكا يبيح لهم دماءهم و أعراضهم و أموالهم، و يسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم و وجودهم و التصرف في إدراكهم و إرادتهم بما لم يلقه و لا قاساه إنسان القرون الأولى، و المعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الأمم و ما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم فإن سمي ما عندهم سعادة و صلاحا فلتكن بمعنى التحكم و إطلاق المشية. 

  • ٦ بما ذا يتكون و يعيش الاجتماع الإسلامي‌؟ 

  • لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق و يحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة و هو الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد، و هذه الغاية و الغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد لا على نحو الانفراد و هي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع. 

  • و الفرق بين التمتع الاجتماعي و الانفرادي من حيث الخاصية أن الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له و لا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضا فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء فإن الرئة لا تسعه و إن اشتهاه، و لا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله فهذا حاله بقياس بعض قواه و أعضائه إلى بعض، و أما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله فإذ كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله، و لا تحديد فعل من أفعاله و عمل من أعماله. 

  • و هذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع و ساحته فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته و أعماله لأدى ذلك إلى التمانع و التزاحم الذي فيه فساد العيش و هلاك النوع و قد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أوفى بيان. 

تفسير الميزان ج٤

108
  • و هذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر و رؤية و إنما يكون الآداب و السنن فيها المشاجرات و المنازعات المتوفرة بين أفرادها فتضطر الجميع إلى رعاية أمور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ، و لما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض و الإبطال تتغير سريعا و تنقرض، و لكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية و الحضارة فيرفعون به التضاد و التمانع الواقع بين الإرادات و أعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود و قيود لها ثم ركز القدرة و القوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون. 

  • و من هنا يظهر أولا: أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس و أعمالهم برفع التزاحم و التمانع من بينهما بتحديدها. 

  • و ثانيا: أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الإنسان بالشعور و الإرادة بعد التعديل، و لذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لأمر المعارف الإلهية و الأخلاق، و صار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان و يتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلا أو آجلا رسوما ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي، و لذلك السبب أيضا ما نشاهده من لعب السياسة بالدين فيوما تقضي عليه و تدحضه، و يوما تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته، و يوما تطوي عنه كشحا فتخليه و شأنه. 

  • و ثالثا: أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص فإن القانون و إن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة بمعنى أن منبع القدرة و السلطان لو مال عن الحق و حول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع و انقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل، و على هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا و هو زمان الثقافة و المدنية فضلا عما لا يحصى من الشواهد التاريخية، و أضف إلى هذا النقص نقصا آخر و هو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحيانا أو خروجه عن حومة قدرته، (و لنرجع إلى أول الكلام). 

  • و بالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة. 

تفسير الميزان ج٤

109
  • الدنيا و هي السعادة عندهم، لكن الإسلام لما كان يرى أن الحياة الإنسانية أوسع مدارا من الحياة الدنيا المادية بل في مدار حياته الحياة الأخروية التي هي الحياة، و يرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد، و يرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق و طهارة النفس من كل رذيلة، و يرى أن هذه الأخلاق لا تتم و لا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه و الخضوع لما تقتضيه ربوبيته و معاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ (أعني الإسلام) الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري و يتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد، و لم يكتف فيه على تعديل الإرادات و الأفعال فقط بل تممه بالعباديات و أضاف إليها المعارف الحقة و الأخلاق الفاضلة. 

  • ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلامية أولا، ثم في عهدة المجتمع ثانيا، و ذلك بالتربية الصالحة علما و عملا و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. 

  • و من أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطا يؤدي إلى الوحدة التامة بينها بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين، و روح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع، فالجميع من أجزاء الدين الإسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد، و التوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق و الأعمال، فلو نزل لكان هي و لو صعدت لكانت هو، إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه. 

  • فإن قلت: ما أورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلا وارد بعينه على الإسلام و أوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين و زوال سيطرته على المجتمع الإسلامي، و ليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوما!. 

  • قلت: حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صورا ذهنية في أذهان الناس و علوما تحفظها الصدور و إنما ترد مورد العمل و تقع موقع الحس بالإرادات الإنسانية تتعلق بها، فمن الواضح أن لو عصت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين، و إنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع 

تفسير الميزان ج٤

110
  • حتى تقوم القوانين على ساقها و القوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الأفعال بالإرادات أعني إرادة الأكثرية ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة، فمهما كانت الإرادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون و إذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس و هرم يطرأ على بنية المجتمع، أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور و الإدراك لانغمار المجتمع في الملاهي و توسعه في الإتراف و التمتع، أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية. و كذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية أو لا سبيل لها إلى بسط سيطرتها عليها كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها ففي جميع هذه الموارد لا تنال الأمة أمنيتها من جريان القانون و انحفاظ المجتمع عن التفاسد و التلاشي، و عمدة الانشعابات الواقعة في الأمم الأوربية بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى و الثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب. 

  • و ليس ذلك (أعني انتقاض القوانين و تفاسد المجتمع و تلاشيه) إلا لأن المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الأمة على قوتها و سيطرتها و هي الأخلاق العالية إذ لا تستمد الإرادة في بقائها و استدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس فلو لا استقرار السنة القائمة في المجتمع و اعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. 

  • و اعتبر في ذلك ظهور الشيوعية فليست إلا من مواليد الديمقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع و حرمان آخرين فكان بعدا شاسعا بين نقطتي القساوة و فقد النصفة، و السخط و تراكم الغيظ و الحنق، و كذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة و هي تهدد الإنسانية ثالثة و قد أفسدت الأرض و أهلكت الحرث و النسل و لا عامل لها إلا غريزة الاستكبار و الشره و الطمع، هذا. 

  • و لكن الإسلام بنى سنته الجارية و قوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق و بالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها و على عهدتها فهي مع الإنسان في سره و علانيته و خلوته و جلوته تؤدي وظيفتها و تعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم. 

  • نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة 

تفسير الميزان ج٤

111
  • و تبذل جهدها في حض الناس و ترغيبهم إليها لكن لا ينفعهم ذلك شيئا. 

  • أما أولا فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الإسراف و الإفراط في التمتع المادي و الحرمان البالغ فيه، و قد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضا و حرمت آخرين فهل الدعوة إلى فضائل الأخلاق و الترغيب عليها إلا دعوة إلى المتناقضين أو طلبا للجمع بين الضدين؟ 

  • على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكرا اجتماعيا، و لا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة و دحض حقوقهم، و التمتع بما في أيديهم، و استرقاق نفوسهم، و التوسع في التحكم عليهم ما قدروا، و الدعوة إلى الصلاح و التقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة. 

  • و أما ثانيا: فلأن الأخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها و استقرارها إلى ضامن يضمن حفظها و كلاءتها و ليس إلا التوحيد أعني القول بأن للعالم إلها واحدا ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم و سعادتهم و هو يحب الخير و الصلاح، و يبغض الشر و الفساد و سيجمع الجميع لفصل القضاء و توفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه و المسي‌ء بإساءته، و من الواضح أن لو لا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى و الكف عن حظوظ النفس الطبيعية فإنما الطبيعة الإنسانية تريد و تشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها (أحسن التأمل فيه). 

  • ففيما كان للإنسان مثلا تمتع في إماتة حق من حقوق الغير و لا رادع يردعه و لا مجازي يجازيه و لا لائم معاتب يلومه و يعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة و ارتكاب المظلمة و إن عظمت ما عظمت؟ و أما ما يتوهم و كثيرا ما يخطئ فيه الباحث من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن و حب النوع و الثناء الجميل و نحو ذلك فإنما هي عواطف قلبية و نزوعات باطنية لا سبب حافظا عليها إلا التعليم و التربية من غير استنادها إلى السبب الموجب فهي إذن أوصاف اتفاقية و أمور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها فلما ذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده و هو يرى أن الموت فناء و بطلان؟ و الثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين و لا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته. 

تفسير الميزان ج٤

112
  • و بالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الإنسان لا يقدم على حرمان لا يرجع إليه فيه جزاء و لا يعود إليه منه نفع، و الذي يعده و يمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن و الثناء الجميل الخالد و الفخر الباقي ببقاء الدهر فإنما هو غرور يغتر به و خدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته و عواطفه فيخيل إليه أنه بعد موته و بطلان ذاته حاله كحاله قبل موته فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به و ليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو و يبذل من نفسه و عرضه و ماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا و عقل، و هو سكران لا يعقل و يعد ذلك فتوة و هو سفه و جنون. 

  • فهذه العثرات و أمثالها مما لا حصن للإنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه و لذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءا من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شئونه القول بالمعاد، و لازمه أن يلتزم الإنسان بالإحسان و يجتنب الإساءة أينما كان و متى ما كان سواء علم به أو لم يعلم، و سواء حمده حامد أو لم يحمد، و سواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت و وراءه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء، و فيه تجزى كل نفس بما كسبت.

  • ٧ منطقان منطق التعقل و منطق الإحساس

  • أما منطق الإحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي و يبعث إليه فإذا قارن الفعل نفع و أحس به الإنسان فالإحساس متوقد شديد التوقان في بعثه و تحريكه، و إذا لم يحس الإنسان بالنفع فهو خامد هامد، و أما منطق التعقل فإنما يبعث إلى اتباع الحق و يرى أنه أحسن ما ينتفع به الإنسان أحس مع الفعل بنفع مادي أو لم يحس فإن ما عند الله خير و أبقى، و قس في ذلك بين قول عنترة و هو على منطق الإحساس: 

  • و قولي كلما جشأت و جاشت***مكانك تحمدي أو تستريحي‌
  • يريد أني استثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز و المواقف المهولة من القتال بقولي لها: اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات و عدم الانهزام، و إن قتلت العدو استرحت و نلت بغيتك فالثبات خير على أي حال، و بين قوله تعالى و هو على منطق التعقل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اَللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ 

تفسير الميزان ج٤

113
  • قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}: «التوبة: ٥٢»، يريد أن أمر ولايتنا و انتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شي‌ء مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الإسلام له و الالتزام لدينه كما قال تعالى: {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لاَ نَصَبٌ وَ لاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفَّارَ وَ لاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ وَ لاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً وَ لاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: «التوبة: ١٢١». 

  • و إذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شي‌ء كان لنا عظيم الأجر و العاقبة الحسنى عند ربنا و إن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئا كان لنا عظيم الثواب و العاقبة الحسنى و التمكن في الدنيا من عدونا، فنحن على أي حال سعداء مغبوطون و لا تتحفون لنا في قتالنا و لا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين فنحن على الحسنى و السعادة على أي حال و أنتم على السعادة و نيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين، و في إحدى الحالين و هو كون الدائرة لكم علينا فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم و أنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا و يسعدنا. 

  • فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات و عدم الزوال على مبني إحساسي و هو أن للثابت أحد نفعين: إما حمد الناس و أما الراحة من العدو، هذا إذا كان هناك نفع عائد إلى الإنسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة، أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد و تساوى عندهم الخدمة و الخيانة، أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي و لا الخيانة، أو لم يسترح الإحساس بفناء العدو بل إنما يستريح به الحق فليس لهذا المنطق إلا العي و اللكنة. 

  • و هذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي و خيانة و جناية يقول الخائن المساهل في أمر القانون: أن خدمته لا تقدر عند الناس بما يعدلها و إن الخادم و الخائن عندهم سواء بل الخائن أحسن حالا و أنعم عيشا، و يرى كل باغ و جان أنه سيتخلص من قهر القانون و أن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفي أمره و يلتبس 

تفسير الميزان ج٤

114
  • على الناس شخصه، و يعتذر كل من يتثبط و يتثاقل في إقامة الحق و الثورة على أعدائه و يداهنهم بأن القيام على الحق يذلله بين الناس، و يضحك منه الدنيا الحاضرة، و يعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير فإن ذكرته بشرافة النفس و طهارة الباطن رد عليك قائلا: ما أصنع بشرافة النفس إذا جرت إلى نكد العيش و ذلة الحياة هذا. 

  • و أما المنطق الآخر و هو منطق الإسلام فهو يبني أساسه على اتباع الحق و ابتغاء الأجر و الجزاء من الله سبحانه و إنما يتعلق الغرض بالغايات و المقاصد الدنيوية في المرتبة التالية و بالقصد الثاني، و من المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد، و لا يسقط كليته من العموم و الاطراد، فالعمل أعم من الفعل و الترك إنما يقع لوجهه تعالى و إسلاما له و اتباعا للحق الذي أراده و هو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة و لا نوم، و لا عاصم منه و لا يخفى عليه شي‌ء في الأرض و لا في السماء و الله بما تعملون خبير. 

  • فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت، رقيب شهيد قائم بما كسبت، سواء شهده الناس أو لا، حمدوه أو لا، قدروا فيه على شي‌ء أو لا. 

  • و قد بلغ من حسن تأثير التربية الإسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله ص فيعترفون عنده بجرائمهم و جناياتهم بالتوبة و يذوقون مر الحدود التي تقام عليهم (القتل فما دونه) ابتغاء رضوان الله و تطهيرا لأنفسهم من قذارة الذنوب و درن السيئات، و بالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الديني في نفوس الناس و تعويده لهم السماحة في ألذ الأشياء و أعزها عندهم و هي الحياة و ما في تلوها و لو لا أن البحث قرآني لأوردنا طرفا من الأمثلة التاريخية فيه.

  • ٨ ما معنى ابتغاء الأجر عند الله و الإعراض عن غيره؟ 

  • ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الأخروي و هو الغرض العام في حياة الإنسان الاجتماعية يوجب سقوط الأغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الإنسانية و فيه فساد نظام الاجتماع، و الانحطاط إلى منحط الرهبانية، و كيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الأخرى؟ و هل هذا إلا تناقض؟

  • لكنه توهم ناش من الجهل بالحكمة الإلهية و الأسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية فإن الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث 

تفسير الميزان ج٤

115
  • السابقة من هذا الكتاب، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}: الروم: ٣٠. 

  • و حاصلة: أن سلسلة الأسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الإنساني في ذيلها و توفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيئت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح و الاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه و تسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك و الشقاء و هذا (لو تفهمه المتوهم) هو الدين الإسلامي بعينه و لما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها المدبر لأمرها فيما دق و جل و هو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الإنسان الإسلام له و الخضوع لأمره و هذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلامي. 

  • و من هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد و الإسلام لله و ابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طرا و إعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك و لا غفلة فعند المرء المسلم غايات و أغراض دنيوية و أخرى أخروية و له مقاصد مادية و أخرى معنوية لكنه لا يعتنى في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء و الاهتمام و لذلك بعينه نرى أن الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه و الانقطاع إليه و الإخلاص له و الإعراض عن كل سبب دونه و مبتغي غيره و مع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة و الجري على المجاري الطبيعية. 

  • و من هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا و في الآخرة و أن غايتهم و هو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت و استوثرت. 

  • و من هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر و هو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين أن حقيقة الدين و الغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية و العباديات فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين و لو لم يتلبس بعقيدة و لا عبودية. 

  • و الباحث المتدبر في الكتاب و السنة و خاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مئونة زائدة و تكلف استدلال على أن هذا الكلام الذي 

تفسير الميزان ج٤

116
  • يتضمن إسقاط التوحيد و كرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع، و قد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الأخرى لا في أصلها و لا في فروعها و ثمراتها. 

  • ٩ ما معنى الحرية في الإسلام‌؟ 

  • كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة قرون و لعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الأوربية قبل بضعة قرون لكن معناها كان جائيا في الأذهان و أمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة. 

  • و الأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الإنسان في وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس و الشعور المنجر إلى إبطال الإنسانية. 

  • غير أن الإنسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع و إلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات و فعله في الأفعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الإرادات و الأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة و العمل هي بعينها تحدد الإرادة و العمل و تقيد ذلك الإطلاق الابتدائي و الحرية الأولية. 

  • و القوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الالتزام بها و بلوازمها، و في أمر الأخلاق و في ما وراء القوانين من كل ما يريده و يختاره الإنسان من الإرادات و الأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم. 

  • و أما الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير و خطير من الأعمال الفردية و الاجتماعية كائنة ما كانت فلا شي‌ء مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الإنسان إلا و للشرع الإسلامي فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال و لا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه. 

  • نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه و هذا و إن كان لا يزيد على كلمة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الإسلامية 

تفسير الميزان ج٤

117
  • و السيرة العملية التي تندب إليها و تقرها بين أفراد المجتمع و طبقاته ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد و السيادة و التحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها و أفرادها أنفسها و بين كل أمة قوية و ضعيفة. 

  • و أما من حيث الأحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق و مزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ} (الآية): «الأعراف: ٣٢»، و قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً}: «البقرة: ٢٩»، و قال تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}: «الجاثية: ١٣». 

  • و من عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين و المفسرين و تكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الإسلام بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي اَلدِّينِ}: «البقرة: ٢٥٦»، و ما يشابهه من الآيات الكريمة. 

  • و قد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة و الذي نضيف إليها هاهنا أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الإسلامية و مع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد؟ و هل ذلك إلا التناقض الصريح؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه. 

  • و بعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملا اختياريا للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير، و إنما الذي يقبل الحظر و الإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة و إقناع الناس بها و كتابتها و نشرها و إفساد ما عند الناس من العقيدة و العمل المخالفين لها، فهذه هي التي تقبل المنع و الجواز، و من المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها من قبل القانون و لم يتك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد و النبوة و المعاد) و هو الذي يجتمع عليه المسلمون و اليهود و النصارى و المجوس (أهل الكتاب) فليست الحرية إلا فيها و ليست فيما عداها إلا هدما لأصل الدين، نعم هاهنا حرية أخرى و هي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث و سنبحث عنها في الفصل ١٤ الآتي. 

  • ١٠ما هو الطريق إلى التحول و التكامل في المجتمع الإسلامي‌؟ 

  • ربما أمكن 

تفسير الميزان ج٤

118
  • أن يقال: هب أن السنة الإسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة، و المجتمع الإسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها و انتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع و وقوفه عن التحول و التكامل و هو من عيوب المجتمع الكامل كما قيل فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشي‌ء و تفاعلها حتى تولد بالكسر و الانكسار مولودا جديدا خاليا من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل فإذا فرض أن الإسلام يرفع الأضداد و النواقص و خاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي. 

  • أقول: و هو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) و فيه خلط عجيب فإن العقائد و المعارف الإنسانية على نوعين نوع يقبل التحول و التكامل و هو العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية و تذليل الطبيعة العاصية للإنسان كالعلوم الرياضية و الطبيعية و غيرهما، و هذه العلوم و الصناعات و ما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك. 

  • و نوع آخر لا يقبل التحول و إن كان يقبل التكامل بمعنى آخر و هو العلوم و المعارف العامة الإلهية التي تقضي في المبدإ و المعاد و السعادة و الشقاء و غير ذلك قضاء قاطعا واقفا غير متغير و لا متحول و إن قبلت الارتقاء و الكمال من حيث الدقة و التعمق و هذه العلوم و المعارف لا تؤثر في الاجتماعات و سنن الحياة إلا بنحو كلي فوقوف هذه المعارف و الآراء و ثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي كما نشاهد أن عندنا آراء كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا: إن الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته، و إن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الإنسان، و إن الإنسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع، و قولنا: إن العالم موجود حقيقة لا وهما و إن الإنسان جزء من العالم، و إن الإنسان جزء من العالم الأرضي و إن الإنسان ذو أعضاء و أدوات و قوى إلى غير ذلك من الآراء و المعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها و وقوفها وقوف الاجتماعات و ركودها و من هذا القبيل القول بأن للعالم إلها واحدا شرع للناس شرعا جامعا لطرق السعادة من طريق النبوة و سيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم، و هذه هي الكلمة الوحيدة التي بني عليها الإسلام مجتمعة و تحفظ عليها كل التحفظ و من المعلوم أنه مما لا يوجب 

تفسير الميزان ج٤

119
  • باصطكاك ثبوته و نفيه و إنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع كما بين مرارا و هذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطا و خسة. 

  • و الحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول و التكامل يوما فيوما في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة، و هذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم و تطبيق العمل على العلم دائما و الإسلام لا يمنع من ذلك شيئا. 

  • و أما تغير طريق إدارة المجتمعات و سنن الاجتماع الجارية كالاستبداد الملوكي و الديمقراطية و الكمونيزم و نحوها فليس بلازم إلا من جهة نقصها و قصورها عن إيفاء الكمال الإنساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال فالفرق بينها لو كان فإنما هو فرق الغلط و الصواب لا فرق الناقص و الكمال فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الإنسان بفطرته و هو العدالة الاجتماعية و استظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع و العمل الصالح ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم و العمل و لا يزالون يتكاملون و يزيدون تمكنا و اتساعا في السعادة فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائدا على ذلك؟ و مجرد وجوب التحول على الإنسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر و بصيرة. 

  • فإن قلت: لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات و الأخلاق الكلية و نحوها فإنها جميعا تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية و المحيطات المختلفة و مرور الأزمنة فلا يجوز أن ينكر أن الإنسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم، و كذا الإنسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالأراضي الإستوائية و القطبية و النقاط المعتدلة، و كذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم و مخدوم و بدوي و حضري و مثر و معدم و فقير و غني و نحو ذلك، فالأفكار و الآراء تختلف باختلاف العوامل و تتحول بتحول الأعصار بلا شك كائنة ما كانت. 

  • قلت: الإشكال مبني على نظرية نسبية العلوم و الآراء الإنسانية و لازمها كون الحق و الباطل و الخير و الشر أمورا نسبية إضافية فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدإ و المعاد و كذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيرا للإنسان و كون 

تفسير الميزان ج٤

120
  • العدل خيرا (حكما كليا لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاما نسبية متغيرة بتغير الأزمنة و الأوضاع و الأحوال، و قد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها. 

  • و حاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية و قسم من الآراء الكلية العملية. 

  • و كفى في بطلان كليتها أنها لو صحت (أي كانت كلية مطلقة ثابتة) أثبتت قضية مطلقة غير نسبية و هي نفسها، و لو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة فكليتها باطلة على أي حال، و بعبارة أخرى لو صح أن «كل رأي و اعتقاد يجب أن يتغير يوما» وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوما أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبدا فافهم ذلك.

  • ١١ هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟

  • ربما يقال: هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شئون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية و جميع أمانيهم في الحياة لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية فالحياة الثقافية و العيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرنا المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء و التكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متباينين فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ و كيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى. 

  • و الجواب: أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شئونها، و إنما هو من حيث المصاديق و الموارد و بعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به، و لباس يلبسه، و دار يقطن فيه و يسكنه، و وسائل تحمله و تحمل أثقاله و تنقلها من مكان إلى مكان، و مجتمع يعيش بين أفراده، و روابط تناسلية و تجارية و صناعية و عملية و غير ذلك، و هذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة و البنية و ما دام حياته هذه الحياة الإنسانية، و الإنسان الأولي و إنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء. 

  • و إنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية و من حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها و بوسائل رفعها. 

تفسير الميزان ج٤

121
  • فقد كان الإنسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه و النبات و لحم الصيد على وجه بسيط ساذج، و هو اليوم يهيئ منها ببراعته و ابتداعه ألوفا من ألوان الطعام و الشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته، و ألوان يستلذ منها بصره، و طعوم يستطيبها ذوقه، و كيفيات يتنعم بها لمسه، و أوضاع و أحوال أخرى يصعب إحصاؤها و هذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعة و إطفاء نائرة شهوته. 

  • و كما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا، كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة و استدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير و انحراف و أما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم و العصر الحديث. 

  • و أما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زمانا و زمانا و تتغير سريعا بالطبع كالأحكام المالية و الانتظامية المتعلقة بالدفاع و طرق تسهيل الارتباطات و المواصلات و الانتظامات البلدية و نحوها فهي مفوضة إلى اختيار الوالي و متصدي أمر الحكومة فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته فله أن يعزم و يجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته و فيما أمره إليه، فلولي الأمر أن يعزم على أمور من شئون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين كما قال تعالى: {وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ}: «آل عمران: ١٥٩»، كل ذلك في الأمور العامة. 

  • و هذه أحكام و عزمات جزئية تتغير بتغير المصالح و الأسباب التي لا تزال يحدث منها شي‌ء و يزول منها شي‌ء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب و السنة و لا سبيل للنسخ إليها و لبيانه التفصيلي محل آخر.

  • ١٢ من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام و ما سيرته‌؟ 

  • كان ولاية أمر المجتمع الإسلامي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و افتراض طاعته (صلى الله عليه وآله و سلم) على الناس و اتباعه صريح القرآن الكريم. 

تفسير الميزان ج٤

122
  • قال تعالى{وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}: «التغابن: ١٢»، و قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ}: «النساء: ١٠٥»، و قال تعالى: {اَلنَّبِيُّ أَوْلى‌ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: «الأحزاب: ٦»، و قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ}: «آل عمران: ٣١»، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتضمن كل منها بعض شئون ولايته العامة في المجتمع الإسلامي أو جميعها. 

  • و الوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) و يمتلئ منه نظرا ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق و القوانين المشرعة في الأحكام العبادية و المعاملات و السياسات و سائر المرابطات و المعاشرات، فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي له من اللسان الكافي و البيان الوافي ما لا يوجد في الجملة و الجملتين من الكلام البتة. 

  • و هاهنا نكتة أخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها، و هو أن عامة الآيات المتضمنة لإقامة العبادات و القيام بأمر الجهاد و إجراء الحدود و القصاص و غير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة، كقوله تعالى: {وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ}: «النساء: ٧٧»، و قوله: {وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}: «البقرة: ١٩٥»، و قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ}: «البقرة: ١٨٣»، و قوله: {وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ}: «آل عمران: ١٠٤»، و قوله: {وَ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ}: «المائدة: ٣٥»، و قوله: {وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}: «الحج: ٧٨»، و قوله: {اَلزَّانِيَةُ وَ اَلزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}: «النور: ٢»، و قوله: {وَ اَلسَّارِقُ وَ اَلسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}: «المائدة: ٣٨»، و قوله: {وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ}: «البقرة: ١٧٩»، و قوله: {وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ}: «الطلاق: ٢»، و قوله: {وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا}: «آل عمران: ١٠٣» و قوله: {أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}: «الشورى: ١٣»، و قوله: {وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‌ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللَّهُ اَلشَّاكِرِينَ}: «آل عمران: ١٤٤» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. 

  • و يستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس و لا يرضى لعباده الكفر، و لم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم أمره إليهم من غير 

تفسير الميزان ج٤

123
  • مزية في ذلك لبعضهم و لا اختصاص منهم ببعضهم، و النبي و من دونه في ذلك سواء، قال تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}«آل عمران: ١٩٥»، فإطلاق الآية يدل على أن التأثير الطبيعي الذي لأجزاء المجتمع الإسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعا كما راعاه تكوينا و أنه تعالى لا يضيعه، و قال تعالى: {إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: «الأعراف: ١٢٨». 

  • نعم لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الدعوة و الهداية و التربية، قال تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ}: «الجمعة: ٢»، فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة و ولاية أمورهم في الدنيا و الآخرة و للإمامة لهم ما دام حيا. 

  • لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئا لصاحب العرش و عباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء و يحكم فيهم ما يريد و ليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديمقراطية و غيرها فإن بينها و بين الإسلام فروقا بينة مانعة من التشابه و التماثل. 

  • و من أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام و الاستثمار و هو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شي‌ء تحت إرادة الإنسان و عمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان، و يبيح له طريق الوصول إليه و التسلط على ما يهواه و يأمله منه لنفسه، و هذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة و قد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية و إجحافاتهم و تحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة و على ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ. 

  • فقد كان الواحد من الفراعنة و القياصرة و الأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكمه و لعبه كل ما يريده و يهواه. و يعتذر لو اعتذر إن ذلك من شئون السلطنة و لصلاح المملكة و تحكيم أساس الدولة، و يعتقد أن ذلك حق نبوغه و سيادته، و يستدل عليه بسيفه، كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء 

تفسير الميزان ج٤

124
  • الأمم و ضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ و حوادثه كرت علينا و لن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي و الروح هي الروح و الهوى هو الهوى و أما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء و دليله السيرة النبوية في فتوحاته و عهوده. 

  • و منها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود و مضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه و المقام المؤدي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الإسلامي مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض و لا تفاضل و لا تفاخر و لا كرامة و إنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية و لا تسكت عنه إنما هو في التقوى و أمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‌ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}«الحجرات: ١٣»، و قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ}: «البقرة: ١٤٨» فالحاكم و المحكوم و الأمير و المأمور و الرئيس و المرؤوس و الحر و العبد و الرجل و المرأة و الغني و الفقير و الصغير و الكبير في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم و من حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشئون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام و التحية. 

  • و منها أن القوة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و هناك فروق أخر لا يخفى على الباحث المتتبع. 

  • هذا كله في حياة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و أما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين و الشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله و رسوله و هم اثنا عشر إماما على التفصيل المودوع في كتب الكلام. 

  • و لكن على أي حال أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال، و الذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هي سنة الإمامة دون الملوكية و الإمبراطورية و السير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير، 

تفسير الميزان ج٤

125
  • و التولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت و المحل كما تقدم و الدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مضافة إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}: «الأحزاب: ٢١».

  • ١٣ ثغر المملكة الإسلامية هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية 

  • ألغى الإسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية و العيش بعيشة القبائل و البطون أو اختلاف منطقة الحياة و الوطن الأرضي، و هذان أعني البدوية و اختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة و برودة و جدب و خصب و غيرهما هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الإنساني شعوبا و قبائل و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم على ما بين في محله. 

  • ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة و بأسهم و شدتهم و تخصيصها بأنفسهم و تسميتها وطنا يألفونه و يذبون عنه بكل مساعيهم. 

  • و هذا و إن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي تدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد، فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة و تألفها و تقويها بالتراكم و التوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم و أصلح، و هذا أمر مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصرا ثم... ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا. 

  • و الانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الأخرى فيصير واحدا منفصل الروح و الجسم عن الآحاد الوطنية الأخرى فتنعزل الإنسانية عن التوحد و التجمع و تبتلي من التفرق و التشتت بما كانت تفر منه و يأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة (أعني الآحاد الاجتماعية) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام و استثمار و غير ذلك، و التجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك و ما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم. 

  • و هذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات و التشتتات و التميزات، 

تفسير الميزان ج٤

126
  • و بنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية و القومية و الوطن و نحو ذلك، حتى في مثل الزوجية و القرابة في الاستمتاع و الميراث، فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل و الوطن مثلا. 

  • و من أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الأحوال، فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته و اهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين و لا يتفرقوا فيه، و عليه عند الاضطهاد و المغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين و إعلاء كلمته و على هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به و يعمل منه ما يستطيعه و لو كان بعقد القلب في الاعتقاديات و الإشارة في الأعمال المفروضة عليه. 

  • و من هنا يظهر أن المجتمع الإسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال و على كل التقادير من حاكمية و محكومية و غالبية و مغلوبية و تقدم و تأخر و ظهور و خفاء و قوة و ضعف. و يدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى: 

  • {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (الآية): «النحل: ١٠٦» و قوله: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: «آل عمران: ٢٨» و قوله: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ}۱ و قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: «آل عمران: ١٠٢». 

  • ١٤ الإسلام اجتماعي بجميع شئونه

  • يدل على ذلك قوله تعالى: {وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الآية) على ما مر بيانه و آيات أخر كثيرة. 

  • و صفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس و الأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع و بحسب ما يمكن فيه من الأمر و الحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معا في بحثه: 

  • فالجهة الأولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيما في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع و هذا نوع، و شرع وجوب الصوم و الحج مثلا للمستطيع غير المعذور و لازمه اجتماع الناس للصيام و الحج و تمم ذلك بالعيدين: الفطر و الأضحى، 

    1. سورة التغابن: ١٦

تفسير الميزان ج٤

127
  • و الصلاة المشروعة فيهما، و شرع وجوب الصلوات اليومية عينيا لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة و تدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ. و هذا نوع آخر. 

  • و الجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت و ألزم على الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيما كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على أدائها جماعة و على الناس أن يقيموا السنة۱. و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم. و هذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم و بأي قيمة حصلت. 

  • و هذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب و السنة و المتصدي لبيانها الفقه الإسلامي. 

  • و أهم ما يجب هاهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة أخرى و هي اجتماعية الإسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الأعمال (العبادية و المعاملية و السياسية) و من الأخلاق الكريمة و من المعارف الأصلية. 

  • نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه و الآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد، و هذا أول التآلف و التآنس مع مختلف الأفهام فإن الأفهام على اختلافها و تعلقها بقيود الأخلاق و الغرائز لا تختلف في أن «الحق يجب اتباعه». 

  • ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة و لم تتضح له المحجة و إن قرعت سمعه الحجة قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‌َ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}: «الأنفال: ٤٢» و قال تعالى: {إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً}: «النساء: ٩٩» انظر إلى إطلاق الآية و مكان قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}، و هذا يعطي الحرية 

    1.  باب كراهة ترك حضور الجماعة من كتاب الصلاة من الوسائل‌

تفسير الميزان ج٤

128
  • التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث و التنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين و يتعمق في تفهمها و النظر فيها. على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث و الترغيب في التفكر و التعقل و التذكر. 

  • و من المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية و الخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام من حيث تصورها و تصديقها و نيلها و قضائها و هذا يؤدي إلى الاختلاف في الأصول التي بني على أساسها المجتمع الإسلامي كما تقدم. 

  • إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس و فن الأخلاق و فن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور إما إلى اختلاف الأخلاق النفسانية و الصفات الباطنة من الملكات الفاضلة و الردية فإن لها تأثيرا وافرا في العلوم و المعارف الإنسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف و قضاؤه الذهني كإدراك الشموس المتعسف، و لا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول و المتعصب و صاحب الهوى و الهمجي الذي يتبع كل ناعق و الغوي الذي لا يدري أين يريد؟ و لا أنى يراد به، و التربية الدينية تكفي مئونة هذا الاختلاف فإنها موضوعة على نحو يلائم الأصول الدينية من المعارف و العلوم، و تستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول و هي مكارم الأخلاق قال تعالى: {كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلى‌َ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}: «الأحقاف: ٣٠» و قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اَللَّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ اَلسَّلاَمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: «المائدة: ١٦» و قال تعالى: {وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ}: «العنكبوت: ٦٩» و انطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر. 

  • و إما أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي و أقسام التهوسات الإنسانية و من هذا القبيل أقسام الإغواء و الوساوس يلقن الإنسان و خاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة و يعد ذهنه لدبيب الشبهات و تسرب الآراء الباطلة فيه و تختلف إذ ذاك الأفهام و تتخلف عن اتباع الحق! و قد كفى مئونة هذا أيضا الإسلام حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائما أولا، و كلف المجتمع بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثانيا، و أمر بهجرة أرباب الزيغ و الشبهات ثالثا. قال تعالى: 

تفسير الميزان ج٤

129
  • {وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ} (الآية): «آل عمران: ١٠٤» فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق و تقرها في القلوب بالتلقين و التذكير، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس، و قال تعالى: {وَ إِذَا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى‌ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ وَ مَا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ وَ لَكِنْ ذِكْرى‌َ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} (الآيات): «الأنعام: ٧٠»، ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شي‌ء من المعارف الإلهية و الحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء و لو بنحو الاستلزام أو التلويح، و يذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في معارفه، و أخذه بالهزل و اللعب و اللهو، و أن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا، و أن علاجه التربية الصالحة و التذكير بمقامه تعالى. 

  • و إما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار و عدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلا صحيحا كالجربزة و البلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج و علاجه تعميم التبليغ و الإرفاق في الدعوة و التربية، و هذان من خصائص السلوك التبليغي في الإسلام، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي}: «يوسف: ١٠٨»، و من المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب و أنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين و المستمعين فلا يبذل أحد إلا مقدار ما يعيه منه، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما رواه الفريقان: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم‌، و قال تعالى: {فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}: «التوبة: ١٢٢»، فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع. 

  • و قد قرر الإسلام لمجتمعه دستورا اجتماعيا فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد و الانحلال فقد قال تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ 

تفسير الميزان ج٤

130
  • تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: «الأنعام: ١٥٣» فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم و تحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم عن التفرق و يحفظ لهم الاتحاد و الاتفاق، ثم قال: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا}: «آل عمران: ١٠٣» و قد مر أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين، أو هو و الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يظهر من قوله تعالى قبله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‌ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اَللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى‌ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: «آل عمران: ١٠١». 

  • تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين و يرابطوا أفكارهم و يمتزجوا في التعليم و التعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم و التدبر فيها لحسم مادة الاختلاف و قد قال تعالى: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً}: «النساء: ٨٢»، و قال: {وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ}: «العنكبوت: ٤٣» و قال: {فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}: «النحل: ٤٣» فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين. 

  • و تدل على أن الإرجاع إلى الرسول و هو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف و يبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه، قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}: «النحل: ٤٤»، و قريب منه قوله تعالى: {وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى‌ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}: «النساء: ٨٣»، و قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً}: «النساء: ٥٩»، فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الإسلام. 

  • و منه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر، و يرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين و يجتهدوا في معارفه تفكرا و اجتهادا بالاجتماع و المرابطة، و إن حصلت لهم شبهة في شي‌ء من حقائقه و معارفه أو لاح لهم ما يخالفها 

تفسير الميزان ج٤

131
  • فلا بأس به و إنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلا، قال تعالى {اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}: «الزمر: ١٨». 

  • و الحرية في العقيدة و الفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر و إشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم. 

  • هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية، و أما تحميل الاعتقاد على النفوس و الختم على القلوب و إماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوة و قهرا و التوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير و الهجرة و ترك المخالطة فحاشا ساحة الحق و الدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده، و إنما هو خصيصة نصرانية و قد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها و تحكماتها في هذا الباب و خاصة فيما بين القرن الخامس و بين القرن السادس عشر الميلاديين بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة و الطواغيت و أقساه. 

  • و لكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة و ما لزمها (الاجتماع الفكري و حرية العقيدة) كما سلبنا كثيرا من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرطنا في جنب الله (و {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فحكمت فينا سيرة الكنيسة و استتبع ذلك أن تفرقت القلوب و ظهر الفتور و تشتت المذاهب و المسالك يغفر الله لنا و يوفقنا لمرضاته و يهدينا إلى صراطه المستقيم. 

  • ١٥ الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة 

  • و العاقبة للتقوى فإن النوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية و هو استواؤه على عرش حياته الروحية و الجسمية معا حياة اجتماعية بإعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي و الأخروي و قد عرفت أن هذا هو الإسلام و دين التوحيد. 

  • و أما الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته و في ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطإ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة، و الغاية التي يعقبها 

تفسير الميزان ج٤

132
  • الصنع و الإيجاد لا بد أن تقع يوما معجلا أو على مهل، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(يريد أنهم لا يعلمون ذلك علما تفصيليا و إن علمته فطرتهم إجمالا)، «إلى أن قال»: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}،» إلى أن قال»: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: «الروم: ٣٠٤١»، و قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}: «المائدة: ٥٤»، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}: «الأنبياء: ١٠٥» و قال تعالى: {وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوى‌}: «طه: ١٣٢» فهذه و أمثالها آيات تخبرنا أن الإسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة. 

  • و لا تصغ إلى قول من يقول: إن الإسلام و إن ظهر ظهورا ما و كانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية و اعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها و صورها و غاياتها مما لا يقبله طبع النوع الإنساني و لن يقبله أبدا و لم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجا و حكومته على النوع تامة. 

  • و ذلك أنك عرفت أن الإسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنساني و كماله الذي هو بغريزته متوجه إليه شعر به تفصيلا أو لم يشعر و التجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة، و الإنسان غير مستثنى من هذه الكلية. 

  • على أن شيئا من السنن و الطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية لم يتك في حدوثه و بقائه و حكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس، و كذا ما أتى به برهما و بوذا و ماني و غيرهم، و تلك سنن المدنية المادية كالديمقراطية و الكمونيسم و غيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الإنسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة. 

  • و إنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها و رسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة و همم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عي و لا نصب، و لا 

تفسير الميزان ج٤

133
  • تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد و المسعى قد يخيب، و لا فرق في ذلك بين الغايات و المآرب الرحمانية و الشيطانية.

  • (بحث روائي‌) 

  • في المعاني عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا} (الآية): اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة، و رابطوا على من تقتدون به. 

  • و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام): اصبروا على دينكم، و صابروا عدوكم، و رابطوا إمامكم.

  • أقول: و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في الكافي عنه (عليه السلام): اصبروا على الفرائض، و صابروا على المصائب و رابطوا على الأئمة. 

  • و في المجمع عن علي (عليه السلام): رابطوا الصلوات قال أي انتظروها لأن المرابطة لم تكن حينئذ. 

  • أقول: اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الأوامر. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن حيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ لا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، و يكفر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطى إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط.

  • أقول: و رواه بطرق أخرى عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى 

تفسير الميزان ج٤

134
  • (٤)سورة النساء مدنية و هي مائة و ست و سبعون آية (١٧٦) 

  • [سورة النساء (٤): آیة ۱]

  • {بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ}{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ١} 

  • (بيان‌) 

  • غرض السورة كما يلوح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات و محرمات النكاح و غير ذلك، و أحكام المواريث، و فيها أمور أخرى من أحكام الصلاة و الجهاد و الشهادات و التجارة و غيرها، و تعرض لحال أهل الكتاب. 

  • و مضامين آياتها تشهد أنها مدنية نزلت بعد الهجرة، و ظاهرها أنها نزلت نجوما لا دفعة واحدة و إن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها. 

  • و أما هذه الآية في نفسها فهي و عدة من الآيات التالية لها المتعرضة لحال اليتامى و النساء كالتوطئة لما سيبين من أمر المواريث و المحارم و أما عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنه و إن كان من مهمات السورة إلا أنه ذكر في صورة التطفل بالاستفادة من الكلام المقدمي الذي وقع في الآية كما سيجي‌ء بيانه. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ} إلى قوله: {وَ نِسَاءً} يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم و هم ناس متحدون في الحقيقة الإنسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم و المرأة و الصغير و الكبير و العاجز و القوي حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة و لا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم و الأحكام و القوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم، و حفظ 

تفسير الميزان ج٤

135
  • وجودهم و بقائهم فرادى و مجتمعين. 

  • و من هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة و كذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال: {اِتَّقُوا اَللَّهَ} و نحوه فإن الوصف الذي ذكروا به أعني قوله: {اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}«إلخ» يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين، و هو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير و التكميل لا من شئون الألوهية. 

  • و أما قوله تعالى: {اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}«إلخ» فالنفس‌ على ما يستفاد من اللغة عين الشي‌ء يقال: جاءني فلان نفسه و عينه و إن كان منشأ تعين الكلمتين النفس و العين لهذا المعنى (ما به الشي‌ء شي‌ء) مختلفا، و نفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان، و هو مجموع روح الإنسان و جسمه في هذه الحياة الدنيا و الروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ} (الآية): «البقرة: ١٥٤». 

  • و ظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم (عليه السلام)، و من زوجها زوجته، و هما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه و إليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: «الزمر: ٦» و قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ}: «الأعراف: ٢٧»، و قوله تعالى: حكاية عن إبليس: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}: «إسراء: ٦٢». 

  • و أما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة و زوجها في الآية مطلق الذكور و الإناث من الإنسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيئول المعنى إلى نحو قولنا: خلق كل واحد منكم من أب و أم بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىَ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: «الحجرات: ١٣»، حيث إن ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه: ذكر و أنثى. 

  • ففيه فساد ظاهر و قد فاته أن بين الآيتين أعني آية النساء و آية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانية، 

تفسير الميزان ج٤

136
  • و نفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب و أم إنسانين فلا ينبغي أن يتكبر أحدهم على الآخرين و لا يتكرم إلا بالتقوى، و أما آية النساء فهي في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة، و أنهم على كثرتهم رجالا و نساء إنما اشتقوا من أصل واحد و تشعبوا من منشإ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله: {وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً}، و هذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة و زوجها مطلق الذكر و الأنثى الناسلين من الإنسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه. 

  • و أما قوله: {وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فقد قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج‌، و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخف و النعل، و لكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، إلى أن قال: و زوجه لغة رديئة، انتهى. 

  • و ظاهر الجملة أعني قوله: {وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل و أن هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية و الآية في مساق قوله تعالى: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً}: الروم ٢١، و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً}: النحل- ٧٢، و قوله تعالى: {فَاطِرُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ مِنَ اَلْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}: الشورى- ١١، و نظيرها قوله: {وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}: الذاريات -٤٩، فما في بعض التفاسير: أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها و خلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الأخبار: أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية. 

  • و أما قوله: {وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً}، البث‌ هو التفريق بالإثارة و نحوها قال تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}: الواقعة -٦، و منه بث الغم و لذلك ربما يطلق البث و يراد به الغم لأنه مبثوث يبثه الإنسان بالطبع، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ}: يوسف- ٨٦، أي غمي و حزني. 

  • و ظاهر الآية أن النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم و زوجته من غير 

تفسير الميزان ج٤

137
  • أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال: و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و لم يقل: منهما و من غيرهما، و يتفرع عليه أمران: 

  • أحدهما: أن المراد بقوله: {رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً} أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل: و بثكم منهما أيها الناس. 

  • و ثانيهما: أن الازدواج في الطبقة الأولى بعد آدم و زوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الإخوة و الأخوات (ازدواج البنين بالبنات) إذ الذكور و الإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ، و لا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما و يحرمه آخر، قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}: الرعد -٤١، و قال: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}: يوسف- ٤٠، و قال: {وَ لاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}: الكهف- ٢٦، و قال: {وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: القصص- ٧٠. 

  • قوله تعالى{وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ} المراد بالتساؤل‌ سؤال بعض الناس بعضا بالله، يقول أحدهم لصاحبه: أسألك بالله أن تفعل كذا و كذا هو إقسام به تعالى، و التساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الإنسان إنما يقسم بشي‌ء يعظمه و يحبه. 

  • و أما قوله: {وَ اَلْأَرْحَامَ} فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة، و المعنى: و اتقوا الأرحام، و ربما قيل: إنه معطوف على محل الضمير في قوله: به و هو النصب يقال: مررت بزيد و عمرا، و ربما أيدته قراءة حمزة: و الأرحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور و إن ضعفه النحاة فيصير المعنى: و اتقوا الله الذي تساءلون به و بالأرحام يقول أحدكم لصاحبه: أسألك بالله و أسألك بالرحم، هذا ما قيل، لكن السياق و دأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله: {وَ اَلْأَرْحَامَ} إن جعل صلة مستقلة للذي، و كان تقدير الكلام: و اتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام كان خاليا من الضمير و هو غير جائز، و إن كان المجموع منه و مما قبله صلة واحدة للذي كان فيه تسوية بين الله عز اسمه و بين الأرحام في أمر العظمة و العزة و هي تنافي أدب القرآن. 

  • و أما نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء 

تفسير الميزان ج٤

138
  • الأرحام إلى صنعه و خلقه تعالى، و قد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ}: «البقرة: ٢٨١»، و قوله: {وَ اِتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}: «آل عمران: ١٣١»، و قوله: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}: «الأنفال: ٢٥». 

  • و كيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق و التضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا} إلى قوله: {وَ نِسَاءً}، فإن محصل معنى الشطر الأول: أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم، و من جهة خلقه و جعله إياكم معاشر أفراد الإنسان من سنخ واحد محفوظ فيكم و مادة محفوظة متكثرة بتكثركم، و ذلك هو النوعية الجوهرية الإنسانية، و محصل معنى هذا الشطر: أن اتقوا الله من جهة عظمته و عزته عندكم (و ذلك من شئون الربوبية و فروعها) و اتقوا الوحدة الرحمية التي خلقها بينكم (و الرحم شعبة من شعب الوحدة و السنخية السارية بين أفراد الإنسان). 

  • و من هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى و إعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الأولى مع زيادة فائدة و هي إفادة الاهتمام التام بأمر الأرحام. 

  • و الرحم‌ في الأصل رحم المرأة و هي العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا، ثم أستعير للقرابة بعلاقة الظرف و المظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة، فالرحم هو القريب و الأرحام الأقرباء، و قد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم و الأمة، فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير، و قد اعتنى القرآن بأمر المجتمع و عده حقيقة ذات خواص و آثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان و عده حقيقة ذات خواص و آثار تستمد من الوجود، قال تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}: «الفرقان: ٥٤» و قال تعالى: {وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}: «الحجرات: ١٣»، و قال تعالى: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ}: «الأحزاب: ٦»، و قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}: «سورة محمد: ٢٢»، 

تفسير الميزان ج٤

139
  • و قال تعالى: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} (الآية): «النساء: ٩»، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}الرقيب‌ الحفيظ و المراقبة المحافظة، و كأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم، أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته و مد عنقه، و ليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته و سكناته لإصلاح موارد الخلل و الفساد أو ضبطها، فكأنه حفظ الشي‌ء مع العناية به علما و شهودا و لذا يستعمل بمعنى الحراسة و الانتظار و المحاذرة و الرصد، و الله سبحانه رقيب لأنه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها، قال تعالى: {وَ رَبُّكَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَفِيظٌ}: «سبأ: ٢١»، و قال: {اَللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}: «الشورى: ٦»، و قال: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}: «الفجر: ١٤». 

  • و في تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانية السارية بين أفراده و حفظ آثارها اللازمة لها، بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير و التخويف بالمخالفة، و بالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لأمر البغي و الظلم و الفساد في الأرض و الطغيان و غير ذلك، و ما وقع فيها من التهديد و الإنذار، بهذا الغرض الإلهي و هو وقاية الوحدة الإنسانية من الفساد و السقوط.

  • كلام في عمر النوع الإنساني و الإنسان الأولي 

  • يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة و الاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكرا و أنثى زوجين اثنين من هذا النوع و فرضناهما عائشين زمانا متوسطا من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الأمن و الخصب و الرفاهية و مساعدة سائر العوامل و الشرائط المؤثرة في حياة الإنسان ثم فرضناهما و قد تزوجا و تناسلا و توالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطردا فيما أولدا من البنين و البنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولا و هو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد (رأس المائة) الألف أي إن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة. 

تفسير الميزان ج٤

140
  • ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الإنسان من العوامل المضادة له في الوجود و البلايا العامة لنوعه من الحر و البرد و الطوفان و الزلزلة و الجدب و الوباء و الطاعون و الخسف و الهدم و المقاتل الذريعة و المصائب الأخرى غير العامة، و أعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ، و بالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الأفراد بنسبة تسعمائة و تسعة و تسعين إلى الألف، و أنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد و هو واحد من ألف. 

  • ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولا بهذا الميزان إلى مدة سبعة آلاف سنة (٧٠قرنا) وجدناه تجاوز بليونين و نصفا، و هو عدد النفوس الإنسانية اليوم على ما يذكره الإحصاء العالمي. 

  • فهذه الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي (علم طبقات الأرض) ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين، و قد وجدوا من الفسيلات الإنسانية و الأجساد و الآثار ما يتقدم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه، فهذا ما عندهم، غير أنه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضي النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية و الأمم الماضية من غير انقطاع، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر و نما و عاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور و الانقراض و دار الأمر على ذلك عدة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار. 

  • و أما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحا لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدوارا متعددة نحن في آخرها؟ و إن كان ربما يستشم من قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ} (الآية): «البقرة: ٣٠»، سبق دورة إنسانية أخرى على هذه الدورة الحاضرة، و قد تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآية. 

  • نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ما يثبت للإنسانية أدوارا كثيرة قبل هذه الدورة و سيجي‌ء في البحث الروائي. 

تفسير الميزان ج٤

141
  • كلام في أن النسل الحاضر ينتهي إلى آدم و زوجته 

  • ربما قيل: إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان و عمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا و أوربا، و السواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية، و الصفرة كلون أهل الصين و اليابان، و الحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء و على هذا فالمبادي الأول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة. 

  • و ربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت و لها أهل و هم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعا لا يرجى و لا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتهائهما إلى أب واحد و أم واحدة، و الدليلان كما ترى مدخولان: 

  • أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع، و مع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع و قد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس و الغنم و الفيل و غيرها، و قد ظفر البحث و الفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء۱

  • و أما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنساني على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين، و الذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة، و إذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات، و هناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر و بالعكس، و سهل إلى جبل و بالعكس، و ما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين و المنطقة على ما يشرحه علوم 

    1.  و قد ورد في الجرائد في هذه الأيام: أن جمعا من الأطباء قد اكتشفوا فورمول طبي يغير به لون بشرة الإنسان كالسواد إلى البياض مثلا.

تفسير الميزان ج٤

142
  • طبقات الأرض و الهيئة و الجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستبعاد فقط هذا. 

  • و أما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر و أنثى هما الأب و الأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم، و أما زوجته فلم يسمها في كتابه و لكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة الموجودة، قال تعالى: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}: «الم السجدة: ٨» و قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: «آل عمران: ٥٩» و قال تعالى: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (الآية): «البقرة: ٣١» و قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الآيات): «ص: ٧٢» فإن الآيات كما ترى تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب إليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، و أن آدم خلق من تراب و أن الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم و زوجته مما لا ريب فيه و إن لم تمتنع من التأويل. 

  • و ربما قيل: إن المراد بآدم في آيات الخلقة و السجدة آدم النوعي دون الشخصي كان مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض و من حيث قيامه بأمر النسل و الإيلاد سمي بآدم، و ربما استظهر ذلك من قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ}: «الأعراف: ١١» فإنه لا يخلو عن إشعار بأن الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق و التصوير و قد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، و هكذا قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}«إلى أن قال»: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}«إلى أن قال»: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ}: «ص: ٨٣» حيث أبدل ما ذكره مفردا أولا من الجمع ثانيا. 

  • و يرده مضافا إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى بعد سرد قصة آدم و سجدة الملائكة و إباء إبليس في سورة الأعراف‌{يَا بَنِي آدَمَ 

تفسير الميزان ج٤

143
  • لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}: «الأعراف: ٢٧» فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه. 

  • و كذا قوله تعالى: {وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‌َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}: «إسراء: ٦٢»، و كذا الآية المبحوث عنها{يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً} (الآية)، بالتقريب الذي مر بيانه. 

  • فالآيات كما ترى تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار و ابن آدم باعتبار آخر، و كذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار و إلى النطفة باعتبار آخر و خاصة في مثل قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (الآية)، و إلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعي في حد التفريط، و الإفراط الذي يقابله قول بعضهم: إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة.

  • كلام في أن الإنسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر 

  • الآيات السابقة تكفي مئونة هذا البحث فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم و زوجته و تبين أنهما خلقا من تراب فالإنسانية تنتهي إليهما و هما لا يتصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما و إنما حدثا حدوثا. 

  • و الشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنسانا و هذه الفرضية بخصوصها و إن لم يتسلمها الجميع تسلما يقطع الكلام و اعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن أصل الفرضية و هي «أن الإنسان حيوان تحول إنسانا» مما تسلموه و بنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان. 

  • فإنهم فرضوا أن الأرض و هي أحد الكواكب السيارة قطعة من الشمس 

تفسير الميزان ج٤

144
  • مشتقة منها و قد كانت في حال الاشتعال و الذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة، و كانت تنزل عليها أمطار غزيرة و تجري عليها السيول و تتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية و أرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات و اشتمالها على جراثيم الحياة السمك و سائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا. 

  • كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال و لما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور. 

  • و هذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواص و الآثار من غير قيام دليل عليها بالخصوص و نفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتصال بينها بالتطور و قصر التطور على حالات هذه الأنواع دون ذواتها و هي التي جرى فيها التجارب فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان و إنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها و لوازمها و أعراضها. 

  • و استقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع، و إنما المقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة بشي‌ء علمي. 

  • كلام في تناسل الطبقة الثانية من الإنسان‌ 

  • الطبقة الأولى من الإنسان و هي آدم و زوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين و بنات (إخوة و أخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم و هم إخوة و أخوات أو بطريق غير ذلك؟ ظاهر إطلاق قوله تعالى: {وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً} (الآية) على ما تقدم من التقريب أن النسل الموجود من الإنسان إنما ينتهي إلى آدم و زوجته من 

تفسير الميزان ج٤

145
  • غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى و لم يذكر القرآن للبث إلا إياهما، و لو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال: {وَ بَثَّ مِنْهُمَا} و من غيرهما، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللفظ، و من المعلوم أن انحصار مبدإ النسل في آدم و زوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما. 

  • و أما الحكم بحرمته في الإسلام و كذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح و المفاسد لا تكويني غير قابل للتغيير، و زمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوما لاستدعاء الضرورة ذلك ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة و استيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع. 

  • و القول بأنه على خلاف الفطرة و ما شرعه الله لأنبيائه دين فطري، قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}«الروم: ٣٠»، فاسد فإن الفطرة لا تنفيه و لا تدعو إلى خلافه من جهة تنفرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ الأخت) و إنما تبغضه و تنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء و المنكر و بطلان غريزة العفة بذلك و ارتفاعها عن المجتمع الإنساني، و من المعلوم أن هذا النوع من التماس و المباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور و الفحشاء في المجتمع العالمي اليوم، و أما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الإخوة و الأخوات و المشية الإلهية متعلقه بتكثرهم و انبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان. 

  • و الدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية تداوله بين المجوس أعصارا طويلة (على ما يقصه التاريخ) و شيوعه قانونيا في روسيا (على ما يحكى) و كذا شيوعه سفاحا من غير طريق الازدواج القانوني في أوربا۱

  • و ربما يقال: إنه مخالف للقوانين الطبيعية و هي التي تجري في الإنسان قبل عقده 

    1.  من العادات الرائجة في هذه الأزمنة في الملل المتمدنة من أوربا و أمريكا: أن الفتيات يزلن بكارتهن قبل الازدواج القانوني و البلوغ إلى سنه و قد أنتج الإحصاء أن بعضها إنما هو من ناحية آبائهن أو إخوانهن.

تفسير الميزان ج٤

146
  • المجتمع الصالح لإسعاده فإن الاختلاط و الاستيناس في المجتمع المنزلي يبطل غريزة التعشق و الميل الغريزي بين الإخوة و الأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق‌۱

  • و فيه أنه ممنوع كما تقدم أولا، و مقصور في صورة عدم الحاجة الضرورية ثانيا، و مخصوص بما لا تكون القوانين الوضعية غير الطبيعية حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع، و متكفلة لسعادة المجتمعين و إلا فمعظم القوانين المعمولة و الأصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعية. 

  • (بحث روائي)

  • في التوحيد عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى و الله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين. 

  • أقول: و نقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر (عليه السلام) ما في معناه، و رواه الصدوق في الخصال أيضا. 

  • و في الخصال عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تعالى خلق اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أن الله عز و جل عالما غيرهم. 

  • و فيه عن أبي جعفر (عليه السلام): لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه، الحديث. 

  • و في نهج البيان للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام): من أي شي‌ء خلق الله حواء؟ فقال (عليه السلام): أي شي‌ء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال: كذبوا أ كان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك من أي شي‌ء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله تبارك و تعالى قبض قبضة من طين فخلطها 

    1. مونتسكيو في كتابه روح القوانين.

تفسير الميزان ج٤

147
  • بيمينه و كلتا يديه يمين فخلق منها آدم، و فضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء.

  • أقول: و رواه الصدوق عن عمرو مثله‌، و هناك روايات أخر تدل على أنها خلقت من خلف آدم و هو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، و كذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، و هذا المعنى و إن لم يستلزم في نفسه محالا إلا أن الآيات القرآنية خالية عن الدلالة عليها كما تقدم. 

  • و في الإحتجاج عن السجاد (عليه السلام) في حديث له مع قرشي يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل و تزويج قابيل بإقليما أخت هابيل، قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: نعم، فقال له القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم، قال: فقال: إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثم قال له: لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت، أ ليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك، الحديث. 

  • أقول: و هذا الذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب و الاعتبار، و هناك روايات أخر تعارضها و هي تدل على أنهم تزوجوا بمن نزل إليهم من الحور و الجان و قد عرفت الحق في ذلك. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ}، عن الباقر (عليه السلام): و اتقوا الأرحام أن تقطعوها.

  • أقول: و بناؤه على قراءة النصب. 

  • و في الكافي و تفسير العياشي: هي أرحام الناس إن الله عز و جل أمر بصلتها و عظمها، أ لا ترى أنه جعلها معه؟

  • أقول: قوله: أ لا ترى «إلخ» بيان لوجه التعظيم، و المراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ}

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: {اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ} قال: قال ابن عباس: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يقول الله تعالى: صلوا أرحامكم فإنه أبقى لكم في الحياة الدنيا و خير لكم في آخرتكم. 

تفسير الميزان ج٤

148
  • أقول: قوله: فإنه أبقى لكم «إلخ»، إشارة إلى ما ورد مستفيضا: أن صلة الرحم تزيد في العمر و قطعها بالعكس من ذلك، و يمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} (الآية): «النساء: ٩». 

  • و يمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإن الصلة تحكم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوى بذلك الإنسان قبال العوامل المخالفة لحياته المضادة لرفاهية عيشه من البلايا و المصائب و الأعداء. 

  • و في تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل النار، فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت، و إنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد فتنادي: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني و ذلك قول الله في كتابه: {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}، و أيما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض من فوره فإنه يذهب رجز الشيطان.

  • أقول: و الرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتصال مادة وجودهم في الولادة من أب و أم أو أحدهما، و هي جهة حقيقية سائرة بين أولي الأرحام لها آثار حقيقية خلقية و خلقية، و روحية و جسمية غير قابلة الإنكار و إن كان ربما توجد معها عوامل مخالفة تضعف أثرها أو تبطله بعض الإبطال حتى يلحق بالعدم و لن يبطل من رأس. 

  • و كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة، مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد، و لذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى و أشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب، و كذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثرا منها في مورد الأجانب. 

  • و بذلك يظهر معنى قوله (عليه السلام): فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه «إلخ»، فإن الدنو من ذي الرحم رعاية لحكمها و تقوية لجانبها فتتنبه بسببه و تحرك لحكمها و يتجدد أثرها بظهور الرأفة و المحبة. 

تفسير الميزان ج٤

149
  • و كذلك قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: و أيما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض «إلخ»، فإن الغضب إذا كان عن طيش النفس و نزقها كان في ظهوره و غليانه مستندا إلى هواها و إغفال الشيطان إياها و صرفها إلى أسباب واهية وهمية، و في تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأن نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة منها إلى الغضب و لذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب كما في المجالس عن الصادق عن أبيه (عليه السلام): أنه ذكر الغضب فقال: إن الرجل ليغضب حتى ما يرضى أبدا، و يدخل بذلك النار، فأيما رجل غضب و هو قائم فليجلس فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، و إن كان جالسا فليقم، و أيما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه و ليدن منه و ليمسه فإن الرحم إذا مست الرحم سكنت‌.

  • أقول: و تأثيره محسوس مجرب. 

  • قوله (عليه السلام): و إنها متعلقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد «إلخ» أي تحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، و في الصحاح: الإنقاض‌ صويت مثل النقر، و قد تقدم في الكلام على الكرسي إشارة إجمالية سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش: أن المراد بالعرش مقام العلم الإجمالي الفعلي بالحوادث و هو من الوجود المرحلة التي تجتمع عندها شتات أزمة الحوادث و متفرقات الأسباب و العلل الكونية فهي تحرك وحدها سلاسل العلل و الأسباب المختلفة المتفرقة أي تتعلق بروحها الساري فيها المحرك لها كما أن أزمة المملكة على اختلاف جهاتها و شئونها و أشكالها تجتمع في عرش الملك و الكلمة الواحدة الصادرة منه تحرك سلاسل القوى و المقامات الفعالة في المملكة و تظهر في كل مورد بما يناسبه من الشكل و الأثر. 

  • و الرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلقات العرش فإذا ظلمت و اضطهدت لاذت بما تعلقت به و استنصرت، و هو قوله (عليه السلام): تنقضه انتقاض الحديد، و هو من أبدع التمثيلات شبه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الذي يحدث فيه رنينا يستوعب بالارتعاش و الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس و الجامات و غيرها. 

تفسير الميزان ج٤

150
  • قوله (عليه السلام): فتنادي اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، حكاية لفحوى التجائها و استنصارها، و في الروايات الكثيرة أن صلة الرحم تزيد في العمر و أن قطعها يقطعه و قد مر في البحث عن ارتباط الأعمال و الحوادث الخارجية من أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب أن مدير هذا النظام الكوني يسوقه نحو الأغراض و الغايات الصالحة، و لن يهمل في ذلك، و إذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك إما بإصلاح أو بالحذف و الإزالة، و قاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتر الله عمره و قطع دابره، و أما أن الإنسان اليوم لا يحس بهذه الحقيقة و أمثالها فلا غرو لأن الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانية فاختلطت و تشابهت و أزمنت فالحس لا يجد فراغا يقوى به على إدراك الألم و العذاب. 

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٢ الی ٦ ]

  • {وَ آتُوا اَلْيَتَامى‌ أَمْوَالَهُمْ وَ لاَ تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلى‌ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ٢ وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامى‌ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنى‌ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنى‌ أَلاَّ تَعُولُوا ٣ وَ آتُوا اَلنِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ٤ وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ٥ وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتَامى‌ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا اَلنِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَ لاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَ بِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ

تفسير الميزان ج٤

151
  • فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى‌ بِاللَّهِ حَسِيباً ٦}

  • (بيان‌) 

  • الآيات تتمة التمهيد و التوطئة التي وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث و عمدة أحكام التزويج كعدد النساء و تعيين المحارم و هذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني و أعظمها، و لهما أعظم التأثير في تكون المجتمع و بقائه فإن النكاح يتعين به وضع المواليد من الإنسان الذين هم أجزاء المجتمع و العوامل التي تكونه، و الإرث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتني عليها بنية المجتمع في عيشته و بقائه. 

  • و قد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى و السفاح و النهي عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض و عند ذلك تأسس أساسان قيمان لأمر المجتمع في أهم ما يشكله و هو أمر المواليد و أمر المال. 

  • و من هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت بالاجتماع الإنساني و نشبت في أصوله و جذوره. و صرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم، و التحمت عليه أفكارهم، و نبتت عليه لحومهم، و مات عليه أسلافهم، و نشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر. 

  • و هذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الإنساني يومئذ بالعموم و في وضع العالم العربي و (دارهم دار نزول القرآن و ظهور الإسلام) بالخصوص، و في كيفية تدرج القرآن في نزوله و ظهور الأحكام الإسلامية في تشريعها.

  • كلام في الجاهلية الأولى‌ 

  • القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، و ليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كل شي‌ء الباطل 

تفسير الميزان ج٤

152
  •  و سفر الرأي دون الحق، و كذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شئونهم، قال تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجَاهِلِيَّةِ}: آل عمران- ١٥٤، و قال: {أَ فَحُكْمَ اَلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}: المائدة -٥٠، و قال: {إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجَاهِلِيَّةِ}: الفتح- ٢٦، و قال: {وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولىَ}: الأحزاب- ٣٣. 

  • كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانية، و في مغربها إمبراطورية الروم و هي نصرانية، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية و النصرانية و المجوسية و هم سكارى جهالتهم، قال تعالى: {وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}: الأنعام- ١١٦. 

  • و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون بالغزوات و شن الغارات و اختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده. 

  • أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحمية الجاهلية و الكبر و الغرور و اتباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر. 

  • و أما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهن عملا و لا يملكن ميراثا و يتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود و بعض الوثنية و مع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهن و فشا فيهن الزنا و السفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن، و من عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات. 

  • و أما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفى، و يحرم الصغار ذكورا و إناثا و النساء. 

  • غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم و يأكلون 

تفسير الميزان ج٤

153
  • ماله، و لو كان اليتيم بنتا تزوجوها و أكلوا مالها ثم طلقوها و خلوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم. 

  • و كان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق «الأنعام آية- ١٥١»، و كانوا يئدون البنات «التكويرآية- ٨»، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثى «الزخرف آية- ١٧». 

  • و أما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربما تبدل الوضع بالسلطنة. 

  • فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، و يظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الأمية و فقدان التعليم و التعلم في بلادهم فضلا عن العشائر و القبائل. 

  • و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية و الخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات و البيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام و قوته بالمدينة ثانيا، و في الأوصاف التي تصفهم بها، و الأمور التي تذمها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجهة إليهم في شدتها و ضعفها، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك. على أن التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه. و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم. 

تفسير الميزان ج٤

154
  • و أما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم و الفرس و الحبشة و الهند و غيرهم فالقرآن يجمل القول فيه. أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود و النصارى و من يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية و التحكمات الفردية من الملوك و الرؤساء و الحكام و العمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس و العرض و المال، و طبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال و عرض و نفس، و لا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها، و قد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين و حملة الشرع و أتلفت بهم، و أخذت مجامع قلوب العامة و أفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس و دنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء و أقلامهم و في دنياهم بالسوط و السيف. 

  • و قد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة و الجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الأول (و الناس على دين ملوكهم) إلى طبقتي الأغنياء المترفين و الضعفاء و العجزة و العبيد، و كذا إلى رب البيت و مربوبيه من النساء و الأولاد، و كذا إلى الرجال المالكين لحرية الإرادة و العمل في جميع شئون الحياة و النساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال و لو يسيرا. 

  • و جوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى‌َ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: «آل عمران: ٦٤» و قد أدرجها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، و قد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر و عظيم الحبشة و ملك الفرس و إلى نجران. 

  • و كذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىَ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: «الحجرات: ١٣»، و قوله في ما وصى به التزوج بالإماء و الفتيات: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}: «النساء: ٢٥، و قوله في النساء: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: «آل عمران: ١٩٥»، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و أما غير أهل الكتاب و هم يومئذ الوثنية و من يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ و أشأم من وضع أهل الكتاب، و الآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن 

تفسير الميزان ج٤

155
  • خيبة سعيهم و خسران صفقتهم في جميع شئون الحياة و ضروب السعادة، قال تعالى: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّمَا يُوحى‌َ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلىَ سَوَاءٍ}: «الأنبياء: ١٠٩»، و قال تعالى: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ}: «الأنعام: ١٩».

  • كيف ظهرت الدعوة الإسلامية؟ 

  • كان وضع المجتمع الإنساني يومئذ (عهد الجاهلية) ما سمعته من إكباب الناس على الباطل و سلطة الفساد و الظلم عليهم في جميع شئون الحياة، و هو ذا دين التوحيد و هو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق و يوليه عليهم تولية مطلقة، و يطهر قلوبهم من ألواث الشرك، و يزكي أعمالهم و يصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره و أغصانه و باطنه و ظاهره. 

  • و بالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح، و ما يريد ليجعل عليهم من حرج و لكن يريد ليطهرهم و ليتم نعمته عليهم، فما هم عليه من الباطل و ما يريد منهم كلمة الحق في نقطتين متقابلتين و قطبين متخالفين، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض و يصلح بهم الباقين من أهل الباطل، ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان و بأي وسيلة تيسر كما قيل: إن أهمية الغاية تبيح المقدمة و لو كانت محظورة، و هذا هو السلوك السياسي الذي يستعمله أهل السياسة. 

  • و هذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الإيصال إلى المقاصد في أي باب جرى غير أنه لا يجري في باب الحق الصريح و هو الذي تؤمه الدعوة الإسلامية فإن الغاية وليدة مقدماتها و وسائلها و كيف يمكن أن يلد الباطل حقا و ينتج السقيم صحيحا و الوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه؟ 

  • و بغية السياسة و هواها أن تبلغ السلطة و السيطرة، و تحوز السبق و التصدر و التعين و التمتع بأي نحو اتفق، و على أي وصف من أوصاف الخير و الشر و الحق و الباطل انطبق، و لا هوى لها في الحق، و لكن الدعوة الحقة لا تبتغي إلا الغرض 

تفسير الميزان ج٤

156
  • الحق، و لو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاء و إنفاذا للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقة. 

  • و لهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله ص و الطاهرين من آله (عليه السلام). 

  • و بذلك أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه و نزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة (و لو يسيرا) في أمر الدين، قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ}: «سورة الكافرون: ٦١» و قال تعالى و فيه لحن التهديد{وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ}: «الإسراء: ٧٥» و قال تعالى: {وَ مَا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً}: «الكهف: ٥١» و قال تعالى و هو مثل وسيع المعنى {وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً}: «الأعراف: ٥٨». 

  • و إذا كان الحق لا يمازج الباطل و لا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعبأه ثقل الدعوة بالرفق و التدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة و المدعو و المدعو إليه من ثلاث جهات. 

  • الأولى: من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة و القوانين المشرعة التي من شأنها إصلاح شئون المجتمع الإنساني، و قطع منابت الفساد فإن من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس و لا سيما إذا كانت ناشبة في الأخلاق و الأعمال و قد استقرت عليها العادات، و دارت عليها القرون، و سارت عليها الأسلاف، و نشأت عليها الأخلاف و لا سيما إذا عمت كلمة الدين و دعوته جميع شئون الحياة، و استوعبت جميع الحركات الإنسانية و سكناتها في ظاهرها و باطنها في جميع أزمنتها و لجميع أشخاصها و أفرادها و مجتمعاتها من غير استثناء (كما أنه شأن الإسلام) فإن ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادي. 

  • و صعوبة هذا الأمر و مشقته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس الإنسان و اعتياده و مساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد، و هو أظهر لحسه و آثر عند 

تفسير الميزان ج٤

157
  • شهواته و أهوائه، و لذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن القوانين و الشرائع الإلهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما. 

  • و بالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها الطباع و لا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض، و هذا الذي ذكرناه ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فإنه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف الإلهية و القوانين المشرعة في مكيتها و مدنيتها. الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل فيها القول، و المدنية و نعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت تفصل القول و تأتي بالتفاصيل من الأحكام التي سبقت في المكية كلياتها و مجملاتها، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغى‌َ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنى‌َ إِنَّ إِلى‌َ رَبِّكَ اَلرُّجْعى‌َ أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى‌َ عَبْداً إِذَا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى اَلْهُدى‌َ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‌َ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرى‌َ}: «العلق: ١٤» و الآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني، و فيها إجمال التوحيد و المعاد، و إجمال أمر التقوى و العبادة. 

  • و قال تعالى{يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ}: «المدثر: ٣» و هي أيضا من الآيات النازلة في أول البعثة، و قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}: «الشمس: ١٠»، و قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اِسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}: «الأعلى: ١٥» و قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىَ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}: «حم السجدة: ٨» و هذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة. 

  • و قال تعالى{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى‌َ وَ بِعَهْدِ اَللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: «الأنعام: ١٥٣» 

تفسير الميزان ج٤

158
  • فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف أجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا، و في الأوامر الشرعية ثانيا، و إنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها و لزوم اجتنابها و الكف عنها ذو مسكة، و كذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق و الضعف و الوقوع في الهلكة و الردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين، و لذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين و الإساءة إليهما، و قتل الأولاد من إملاق، و قتل النفس المحترمة، و أكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإن العواطف الغريزية من الإنسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادي عن ارتكاب هذه الجرائم و المعاصي، و هناك آيات أخر يعثر عليها المتدبر و يرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات. 

  • و كيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية، و مع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الأحكام و القوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا و نجوما. 

  • و يكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الإشارة إليها و هي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى: {وَ مِنْ ثَمَرَاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً}: «النحل: ٦٧»، و الآية مكية ذكر فيها أمر الخمر و سكت عنه إلا ما في قوله: {وَ رِزْقاً حَسَناً} من الإيماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ}: «الأعراف: ٣٣» و الآية أيضا مكية تحرم الإثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم و نبتت عليها لحومهم و شدت عظامهم، ثم قال: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: البقرة - ٢١٩، و الآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الإثم الذي حرمته آية الأعراف، و لسان الآية كما ترى لسان رفق و نصح، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةَ وَ اَلْبَغْضَاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}: «المائدة: ٩١»، و الآية مدنية ختم بها أمر التحريم. 

تفسير الميزان ج٤

159
  • و نظيرها الإرث فقد آخى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أولا بين أصحابه و ورث أحد الأخوين الآخر في أول الأمر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة، ثم نزل قوله تعالى: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ}: «الأحزاب: ٦» و على هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة و الناسخة. 

  • ففي جميع هذه الموارد و أشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الأحكام و إجرائها أخذا بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل و حسن التلقي بالقبول، قال تعالى: {وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلىَ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}: «الإسراء: ١٠٦» و لو كان القرآن نزل عليه (صلى الله عليه وآله و سلم) دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: «النحل: ٤٤»، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقادية و الأخلاقية و كليات الأحكام العبادية و القوانين الجارية في المعاملات و السياسات و هكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصورها و حملها فضلا عن قبول الناس لها و عملهم بها و حكومتها على قلوبهم في إرادتها، و على جوارحهم و أبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذي هيأ للدين إمكان القبول و الوقوع في القلوب و قال تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}: «الفرقان: ٣٢» و في الآية دلالة على أنه سبحانه كان يرفق برسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بأمته فتدبر في ذلك و تأمله و في ذيل الآية قوله: و رتلناه ترتيلا. 

  • و من الواجب أن يتذكر أن السلوك من الإجمال إلى التفصيل و التدرج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق و حسن التربية و رعاية المصلحة غير المداهنة و المساهلة و هو ظاهر. 

  • الثانية: السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين و أخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم، و لا بمكان دون مكان، و لا بزمان دون زمان (و مرجع الأخيرين إلى الأول في الحقيقة) البتة قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}: «الأعراف: ١٥٨» و قال تعالى: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ}: «الأنعام: ١٩» و قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}: «الأنبياء: ١٠٧». 

تفسير الميزان ج٤

160
  • على أن التاريخ يحكي دعوته (صلى الله عليه وآله و سلم) اليهود و هم من بني إسرائيل، و الروم و العجم و الحبشة و مصر و ليسوا من العرب، و قد آمن به من المشاهير سلمان و هو من العجم و مؤذنه بلال و هو من الحبشة و صهيب و هو من الروم، فعموم نبوته (صلى الله عليه وآله و سلم) في زمانه لا ريب فيه، و الآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان و الأمكنة أيضا. 

  • على أن قوله تعالى: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}: «حم السجدة: ٤٢» و قوله تعالى: {وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ}: «الأحزاب: ٤٠» تدلان على عموم النبوة و شمولها للأمكنة و الأزمنة أيضا، و البحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها. 

  • و كيف كان فالنبوة عامة، و المتأمل في سعة المعارف و القوانين الإسلامية و ما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل و قذارة الفساد و البغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا و مكافحة الشرك و الفساد حينئذ دفعة. 

  • بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض و أن يكون ذلك البعض هو قوم رسول الله ص ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم و هكذا كان، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}: «إبراهيم: ٤» و قال: {وَ لَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلىَ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}: «الشعراء: ١٩٩» و الآيات التي تدل على ارتباط الدعوة و الإنذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم الدعوة و الإنذار، و كذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالإعجاز، و لا دليل في ذلك على كون الأمة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مر من قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (الآية)، و قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا اَلْقُرْآنَ}: «يوسف: ٣» و قوله: {وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}: «الشعراء: ١٩٥» فاللسان العربي هو المظهر للمعاني و المقاصد الذهنية أتم إظهار، و لذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن و قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: «الزخرف: ٣». 

  • و بالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال: {وَ أَنْذِرْ 

تفسير الميزان ج٤

161
  •  عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ}: «الشعراء: ٢١٤» فامتثل أمره و جمع عشيرته و دعاهم إلى ما بعث له و وعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك علي (عليه السلام) فشكر له ذلك و استهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات‌۱ و كتب التاريخ و السير، ثم لحق به أناس من أهله كخديجة زوجته و عمه حمزة بن عبد المطلب و عبيد و عمه أبي طالب على ما روته الشيعة و في أشعاره تصريحات و تلويحات بذلك ٢(و إنما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكن من حمايته (صلى الله عليه وآله و سلم)). 

  • ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىَ وَ مَنْ حَوْلَهَا}: «الشورى: ٧» و قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}: «الم السجدة: ٣» و قوله: {وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ}، و هذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير مقصورة عليهم، و إنما بدأ بهم حكمة و مصلحة. 

  • ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين و غيرهم كما يدل عليه الآيات السابقة كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} و قوله: {وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ} و غيرهما مما تقدم. 

  • الثالثة: الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة و الإرشاد و الإجراء، و هي الدعوة بالقول و الدعوة السلبية و الجهاد. 

  • أما الدعوة بالقول فهي مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة، و قد أمره الله سبحانه برعاية الكرامات الإنسانية و الأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىَ إِلَيَّ}: «الكهف: ١١٠» و قال: {وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}: «الحجر: ٨٨» و قال: {وَ لاَ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}: «حم السجدة: ٣٤» و قال: {وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}: «المدثر: ٦» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. 

  •  

    1.  راجع سادس البحار، و سيرة ابن هشام و غيرهما.
    2.  راجع ديوان أبي طالب.

تفسير الميزان ج٤

162
  • و أمره (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام و استعدادات الأشخاص، قال تعالى: {اُدْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: «النحل: ١٢٥». 

  • و أما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم و أعمالهم و تكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه و لا أعمال غير المسلمين من المعاصي و سائر الرذائل الأخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ}: «الكافرون: ٦» و قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ}: «هود: ١١٣» و قال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللَّهُ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اَللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ}: «الشورى: ١٥» و قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ}«إلى أن قال»: {لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلىَ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ}: «الممتحنة: ٩» و الآيات في معنى التبري و الاعتزال عن أعداء الدين كثيرة، و هي كما ترى تشرح معنى هذا التبري و كيفيته و خصوصيته. 

  • و أما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة و هذه المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلامي و مفاخره و المرتبة الأولى لازمة في الأخيرتين و كذا الثانية في الثالثة، فقد كانت من سيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) الدعوة و الموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلىَ سَوَاءٍ}

  • و من أخنى القول ما نبذوا به الإسلام: أنه دين السيف دون الدعوة مع أن الكتاب و السيرة و التاريخ تشهد به و تنوره و لكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. 

  • و هؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة التي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الإلهية يوم القيامة 

تفسير الميزان ج٤

163
  • فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة و لو بالأقوال الحديثة في الطبيعيات و الرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكية التي كانت الكنيسة تروجها. 

  • فليت شعري هل بسط التوحيد و قطع منابت الوثنية و تطهير الدنيا من قذارة الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطلميوسي و رد أنفاسه إلى صدره، و الكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا و خربت البلاد و أفنت الملايين من النفوس و أباحت الأعراض. 

  • و بعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن و الحرية!! و هؤلاء هم الذين يوقدون نار الحروب العالمية و يقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا و انحطاط الأخلاق و موت الفضائل و إحاطة الشؤم و الفساد على الأرض و من فيها أضر أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم‌ إن الإنسان لربه لكنود. 

  • و يعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الأعاظم‌۱ في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله: الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعي و تحقيق العدل و تمزيق الظلم و مقاومة الشر و الفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع: 

  • ١ وسائل الدعوة و الإرشاد بالخطب و المقالات و المؤلفات و النشرات، و هذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله: {اُدْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، و قوله: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} و هذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة، إلى أن قال: 

  • ٢ وسائل المقاومة السلمية و السلبية كالمظاهرات و الإضرابات و المقاطعة الاقتصادية و عدم التعاون مع الظالمين، و عدم الاشتراك في أعمالهم و حكومتهم، 

    1. الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون.

تفسير الميزان ج٤

164
  • و أصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب و القتل و العنف، و هي المشار إليها بقوله تعالى: {وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ}، و {لاَ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصَارىَ أَوْلِيَاءَ} و في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة، و أشهر من دعا إلى هذه الطريقة و أكد عليها النبي الهندي بوذا، و المسيح (عليه السلام)، و الأديب الروسي «تولستوي» و الزعيم الهندي الروحي «غاندي». 

  • ٣ الحرب و الثورة و القتال. 

  • و الإسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة: «الأولى» الموعظة الحسنة و الدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين و درء فسادهم و استبدادهم «فالثانية» المقاطعة السلمية أو السلبية و عدم التعاون و المشاركة معهم فإن لم تجد و تنفع «فالثالثة» الثورة المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل و الراضي الساكت شريك الظالم. 

  • الإسلام عقيدة، و قد غلط و ركب الشطط من قال: إن الإسلام نشر دعوته بالسيف و القتال فإن الإسلام إيمان و عقيدة، و العقيدة لا تحصل بالجبر و الإكراه و إنما تخضع للحجة و البرهان، و القرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها {لاَ إِكْرَاهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ}

  • و الإسلام إنما استعمل السيف و شهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات و البراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق، أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جل شأنه: {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين و العقيدة. 

  • فالإسلام لا يقاتل عبطة و اختيارا و إنما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطرارا و لا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب و السلم التخريب و الإحراق و السم و قطع الماء عن الأعداء كما يحرم قتل النساء و الأطفال و قتل الأسرى و يوصي بالرفق بهم و الإحسان إليهم مهما كانوا من العداء و البغضاء للمسلمين و يحرم الاغتيال في الحرب و السلم و يحرم قتل الشيوخ و العجزة و من لم يبدأ بالحرب و يحرم الهجوم على العدو ليلا «فانبذ إليهم على سواء» و يحرم القتل على الظنة و التهمة و العقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال التي يأباها الشرف و المروءة و التي تنبعث من الخسة و القسوة و الدناءة و الوحشية. 

تفسير الميزان ج٤

165
  • كل تلك الأعمال التي أبى شرف الإسلام ارتكاب شي‌ء منها مع الأعداء في كل ما كان له من المعارك و الحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها و أهول أنواعها الدول المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و التبييت ليلا و الهجوم ليلا بالسلاح و القنابل على العزل و المدنيين الآمنين، و أباح القتل بالجملة. 

  • أ لم يرسل الألمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت المباني و قتلت النساء و الأطفال و السكان الآمنين؟! أ لم يقتل الألمان ألوف الأسرى؟! أ لم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية ألوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها؟! أ لم يرم الأمريكان القنابل الذرية على المدن اليابانية؟!.

  • و بعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ و القنابل الذرية و الهيدروجينية لا يعلم إلا الله ما ذا يحل بالأرض من عذاب و خراب و مآسي و آلام إذا حدثت حرب عالمية ثالثة و لجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب و هداه الصراط المستقيم، انتهى. 

  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى{وَ آتُوا اَلْيَتَامى‌ أَمْوَالَهُمْ} إلى آخر الآية، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم و هو توطئة للجملتين اللاحقتين: {وَ لاَ تَتَبَدَّلُوا}«إلخ» أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيد أن الجملة الأولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين. 

  • و أصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة و تمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث، و لما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج. 

  • و أما قوله تعالى: {وَ لاَ تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي لا تتبدلوا الخبيث من أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لأنفسكم و تردوا إليهم ما يعادله من ردي أموالكم. و يمكن أن يكون المراد: لا تتبدلوا أكل الحرام من أكل الحلال كما قيل لكن المعنى الأول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين أعني قوله: {وَ لاَ تَتَبَدَّلُوا} إلخ و قوله: {وَ لاَ تَأْكُلُوا} إلخ بيان لنوع خاص من التصرف غير الجائز و قوله: {وَ آتُوا اَلْيَتَامى‌} إلخ تمهيد لبيانهما معا، و أما قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} 

تفسير الميزان ج٤

166
  • الحوب‌ الإثم مصدر و اسم مصدر. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامىَ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ} قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب و كانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب و المقاتل و الغيلة و الغارة و كان يكثر فيهم حوادث القتل كان يكثر فيهم الأيتام، و كانت الصناديد و الأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهن‌ فيتزوجون بهن و يأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن و ربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به و لا راغب فيهن فيتزوج بهن و ينفق عليهن، و قد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث و الظلم الفاحش، و أكد النهي عن ظلم اليتامى و أكل أموالهم كقوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامىَ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}: «النساء: ١٠»، و قوله تعالى: {وَ آتُوا اَلْيَتَامىَ أَمْوَالَهُمْ وَ لاَ تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلىَ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} (الآية): «النساء: ٢» فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم كما قيل و خافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم و التفريط في حقهم، و من أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام و الشراب و كان إذا فضل من غذائهم شي‌ء لم يدنوا منه حتى يبقى و يفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك و سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن ذلك و شكوا إليه فنزل: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتَامىَ قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: «البقرة: ٢٢٠»، فأجاز لهم أن يأووهم و يمسكوهم إصلاحا لشأنهم و أن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم و فرج همهم. 

  • إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى: {وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامىَ فَانْكِحُوا}«إلخ» و هو واقع عقيب قوله: {وَ آتُوا اَلْيَتَامىَ أَمْوَالَهُمْ} (الآية) اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة و المعنى و الله أعلم: اتقوا أمر اليتامى، و لا تتبدلوا خبيث أموالكم من طيب أموالهم، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى إنكم إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات منهم و لم تطب نفوسكم أن تنكحوهن و تتزوجوا بهن فدعوهن و انكحوا نساء غيرهن ما 

تفسير الميزان ج٤

167
  • طاب لكم مثنى و ثلاث و رباع. 

  • فالشرطية أعني قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامىَ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ}، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن و انكحوا نساء غيرهن فقوله: فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي، و قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ}، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن، و قد قيل: {مَا طَابَ لَكُمْ} و لم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله: {مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ} إلخ و وضع قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا} موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ}، هذا. 

  • و قد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير و هي كثيرة، منها: أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع و الخمس و أكثر و يقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما. 

  • و منها: أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى و لا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا و لا يعدلون بينهن، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع. 

  • و منها: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى و أكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ}

  • و منها: أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ} مما أحل لكم من يتامى قرباتكم {مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ}

  • و منها: أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء و أن لا تعدلوا بينهن و لا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه. 

  • قوله تعالى{مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} بناء مفعل و فعال‌ في الأعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى و ثلاث و رباع اثنتين اثنتين و ثلاثا ثلاثا و أربعا أربعا، و لما 

تفسير الميزان ج٤

168
  • كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس و قد جي‌ء بواو التفصيل بين {مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى و ثلاث و رباع. 

  • و بذلك و بقرينة قوله بعده: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} و كذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا و هكذا، و كذا في الثلاث و الأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية. 

  • على أن الضرورة قاضية أن الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة. 

  • و كذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لأن مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فإن من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأن لهذا العدد لفظا موضوعا و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العي جل كلامه عن ذلك و تقدس . 

  • قوله تعالى{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أي فانكحوا واحدة لا أزيد، و قد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأن العلم في هذه الأمور و لتسويل النفس فيها أثر بين لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة. 

  • قوله تعالى{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} و هي الإماء فمن خاف ألا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء. 

  • و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدي عليهن فإن الله لا يحب الظالمين و ليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن و إتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإن مسألة نكاحهن 

تفسير الميزان ج٤

169
  • سيتعرض لها في ما سيجي‌ء من قوله: {وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ} (الآية): «النساء: ٢٥». 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ أَدْنىَ أَلاَّ تَعُولُوا} العول‌ هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من ألا تميلوا عن العدل‌ و لا تتعدوا عليهن في حقوقهن، و ربما قيل: إن العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظا و معنى. 

  • و في ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق. 

  • قوله تعالى{وَ آتُوا اَلنِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} الصدقة بضم الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطية من غير مثامنة. 

  • و في إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الإيتاء مبني على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شي‌ء من المال أو أي شي‌ء له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالي، و هو الخطبة كما أن المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس. 

  • و لعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي. 

  • و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الري‌ و هو في الشراب كالهني‌ء في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معا، فإذا قيل: هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام و الري بالشراب. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}السفه‌ خفة العقل، و كان الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي ردي‌ء النسج ثم غلب في خفة النفس و اختلف 

تفسير الميزان ج٤

170
  • باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا. 

  • و ظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق، غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها و إنمائها الأولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أن المراد بقوله: {أَمْوَالَكُمُ}، في الحقيقة أموالهم أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد: {وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اُكْسُوهُمْ}، و إن كان و لا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم و غير اليتيم لكن الأول أرجح. 

  • و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: {أَمْوَالَكُمُ}، أموال اليتامى و إنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العام الذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنهم مجتمع واحد و المال كله لمجتمعهم، و على كل واحد منهم أن يكلأه و يتحفظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى: {وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ}: «النساء: ٢٥»، و من المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح. 

  • ففي الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع و هو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتجار و الاسترباح و يرزقوا أولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته. 

تفسير الميزان ج٤

171
  • و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اُكْسُوهُمْ}، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله: {فِيهَا} دون أن يقول: «منها» كما ذكره الزمخشري. 

  • و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلامي تولي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجد فعليه التولي و المباشرة، و إلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

  • كلام في أن جميع المال لجميع الناس 

  • هذه حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام و قوانين هامة في الإسلام‌ أعني ما تفيده هذه الآية: أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما و معاشا للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير و لا يتبدل و هبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرفهم أمورا كالعقل و البلوغ و نحو ذلك. 

  • و الأصل الثابت الذي يراعى حاله و يتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أما مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد. 

  • و يتفرع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً}: «البقرة: ٢٩»، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك. 

  • (بيان) 

  • قوله تعالى{وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى: {وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: «آل عمران: ٢٧». 

  • و قوله: {وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَ اُكْسُوهُمْ}، كقوله: {وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ}

تفسير الميزان ج٤

172
  • «البقرة: ٢٣٣» فالمراد بالرزق‌ هو الغذاء الذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر و البرد (غير أن لفظ الرزق‌ و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا) كالكناية يكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أن الأكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} (الآية). 

  • و أما قوله: {وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فإن هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان. 

  • و من هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله: {وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}. كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}: «البقرة: ٨٣». 

  • قوله تعالى{وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتَامىَ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا اَلنِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ} إلى قوله: {أَمْوَالَهُمْ} الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الألفة فإن مادته الأنس، و الرشد خلاف الغي‌ و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه و إقباضه له كأن الولي يدفعه إليه و يبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة. 

  • و قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا اَلنِّكَاحَ}، متعلق بقوله: {وَ اِبْتَلُوا}، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولي في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبي في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح. 

  • و قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ} إلخ تفريع على قوله: {وَ اِبْتَلُوا} و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع 

تفسير الميزان ج٤

173
  • المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرف، و قد فصل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرد السن الشرعي الذي هو سن النكاح و اشترط في نفوذ التصرفات المالية و الأقارير و نحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرفات المالية و نحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرفاتهم و أقاريرهم مفضيا إلى غرور الأفراد الفاسدة إياهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغررية إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الأمور، و أما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإن إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَ بِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} اه ، الإسراف‌ هو التعدي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشي‌ء و قوله {وَ بِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى: {يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}: «النساء: ١٧٦» أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا. 

  • و التقابل الواقع بين الأكل إسرافا و الأكل بدارا أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة و الأكل بدارا أن يأكل الولي منها مثل ما يعد أجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم‌ لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولي فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعة أو يعمل لليتيم و يسد حاجته الضرورية من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الذي ذكره بقوله: {مَنْ كَانَ غَنِيًّا} أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم {فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي ليطلب طريق العفة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم {وَ مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ} منها {بِالْمَعْرُوفِ}، و ذكر بعض المفسرين أن المعنى: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} من مال نفسه لا من 

تفسير الميزان ج٤

174
  • أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغني و الفقير. 

  • و أما قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للأمر و رفعا لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الولي عليه، ثم ذيل الجميع بقوله تعالى: {وَ كَفى‌َ بِاللَّهِ حَسِيباً} ربطا للحكم بمنشئه الأصلي الأولي أعني محتد كل حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميما للتربية الدينية الإسلامية فإن الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعا غالبا للخلاف و النزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوي هو تقوى الله الذي كفى به حسيبا فلو جعل الولي و الشهود و اليتيم الذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتة. 

  • فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رؤوس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهماتها: من كيفية الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرف و الرد و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله و هو أن المال لله جعله قياما للإنسان على ما تقدم بيانه. 

  • و ثانيا الأصل الأخلاقي الذي يربي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الذي ذكره تعالى بقوله: {وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}

  • و ثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العملية و الأخلاقية و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العملية و الدستورات الأخلاقية من حيث الأثر، و هو الذي ذكره بقوله: {وَ كَفىَ بِاللَّهِ حَسِيباً}.

  • بحث روائي‌ 

  • في الدر المنثور، في قوله تعالى: {وَ آتُوا اَلْيَتَامىَ أَمْوَالَهُمْ} (الآية) أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصمه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلت الآية: {وَ آتُوا اَلْيَتَامىَ 

تفسير الميزان ج٤

175
  • أَمْوَالَهُمْ}، الحديث. 

  • و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر. 

  • و في الكافي عنه (عليه السلام): إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق.

  • أقول: و الروايات في الباب كثيرة. 

  • و في العلل، بإسناده عن محمد بن سنان: أن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمد بن سنان: و من علل النساء الحرائر۱و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال فلما نظر و الله أعلم يقول الله عز و جل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنى‌َ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ}، فذلك تقدير قدره الله تعالى ليتسع فيه الغني و الفقير فيتزوج الرجل على قدر طاقته، الحديث. 

  • و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرم على المرأة إلا زوجها و أحل للرجل أربعا فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة و يحل للرجل معها ثلاثا.

  • أقول: و يوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغير الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهي من فطريات الإنسان، و الإسلام دين مبني على الفطرة تؤخذ فيه الأمور التي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك. 

  •  

    1. كذا في النسخ.

تفسير الميزان ج٤

176
  • فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا أخر و الدين مبني على رعاية حكم الفطرة كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة و سيتضح مزيد اتضاح في البحث الآتي عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضي طار عليهن لا غريزي فطري. 

  • و في الكافي بإسناده عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: {وَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}؟ و قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة. 

  • و في تفسير العياشي عن عبد الله بن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله يقول في كتابه: {وَ نَزَّلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً}، و قال: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}، و قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

  • أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه (عليه السلام) و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) سنورد بعضها في الموارد المناسبة له. 

  • و في الكافي عن الباقر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشي‌ء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ}، و قال: {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ اَلَّتِي‌ جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}، و قال: {لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

تفسير الميزان ج٤

177
  • و في تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}، قال: من لا تثق به. 

  • و فيه عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال: كل من يشرب الخمر فهو سفيه.

  • و فيه عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: {وَ لاَ تُؤْتُوا اَلسُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

  • و في تفسير القمي عن الباقر (عليه السلام): في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما يقول: معاشا الحديث.

  • أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبي قبل أن يرشد و المرأة المتلهية المتهوسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه‌ المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة «أموالكم» و عليك بالتطبيق و الاعتبار. 

  • و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه أن المال كله للمجتمع بحسب الأصل ثم لكل من الأشخاص ثانيا و للمصالح الخاصة فإن اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر. 

  •  و في الفقيه عن الصادق (عليه السلام): انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشده، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله. 

  • و فيه عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتَامىَ} (الآية) قال: إيناس الرشد حفظ المال.

  • أقول: و قد تقدم وجه دلالة الآية عليه. 

  • و في التهذيب عنه (عليه السلام): في قول الله: {وَ مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و ابن أبي حاتم 

تفسير الميزان ج٤

178
  • و النحاس في ناسخه عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثل مالا و من غير أن تقي مالك بماله. أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت (عليه السلام) و غيرهم، و هناك مباحث فقهية و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه. 

  • و في تفسير العياشي عن رفاعة عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، قال (عليه السلام): كان أبي يقول: إنها منسوخة. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو داود و النحاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس: {وَ مَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: نسختها: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامىَ ظُلْماً} (الآية). 

  • أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أما قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامىَ ظُلْماً} (الآية) فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الأكل في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف، و في تلك الآية المحرمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلما، فالحق أن الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف. 

  • و في تفسير العياشي عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد (عليه السلام): في قول الله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة. 

  • أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم. 

  • بحث علمي في فصول ثلاثة 

  • ١ النكاح من مقاصد الطبيعة

  • أصل التواصل بين الرجل و المرأة مما تبينه 

تفسير الميزان ج٤

179
  • الطبيعة الإنسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة. 

  • و أمر الإيلاد و الإفراخ الذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة. 

  • و من هنا يظهر أن الحرية و الاسترسال من الزوجين بأن‌ يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم و كذا الزنا و خاصة زنا المحصنة منه. 

  • و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما. 

  • و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع و التربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة و قد جهز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه. 

  • نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الأم إياه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج و المصاحبة 

تفسير الميزان ج٤

180
  • و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل. 

  • و إياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الروية مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعم، فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التي منها البنية الإنسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج و انحراف‌ سقط الأثر. 

  • فالإنسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية و خواص روحية تستعقب أفعالا و أعمالا فإذا حول بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا و تغيرا في صفاته و خواصه الروحية و انحرف بذلك جميع الخواص و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي و الغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة. 

  • و إذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الإنسانية و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدد الإنسانية بالسقوط و الانهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكن الخرق و القسوة و الشدة و الشره من نفوس الجوامع البشرية و أعظم أسبابه و علله الحرية و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية و تربية الأولاد فإن سنة الاجتماع المنزلي و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفة و الحياة و التواضع من الإنسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش. 

  • و أما تدارك هذه النواقص بالفكر و الروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها، و لو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شئون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر 

تفسير الميزان ج٤

181
  • الوسائل، و لذلك ترى أن الإنسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدة من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعا و شمولا. 

  • نعم ربما قال القائل من هؤلاء: إن الصفات الروحية التي تسمى‌ فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الأساطير و التوحش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذل السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليومية، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه. 

  • و لم يدر هذا القائل إن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة. 

  • فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه. 

  • فينبغي لهذا القائل إن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقر الناس في مستقر أمن و راحة و سعادة. 

  • و لنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح و حرم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما 

تفسير الميزان ج٤

182
  • سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوية المشهورة قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

  • ٢ استيلاء الذكور على الإناث

  • ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطي أن للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الأنثى، و لذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللذة، و أما نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة. 

  • و هذا المعنى أعني لزوم الشدة و البأس لقبيل الذكور و اللين و الانفعال لقبيل الإناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمي كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كل لين سهل الانفعال بالأنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا. 

  • و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الأمم المتنوعة في الجملة و إن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة. 

  • و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ}: «النساء: ٣٤» فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

  • ٣ تعدد الزوجات

  • و أمر الوحدة و التعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الإناث و تختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من 

تفسير الميزان ج٤

183
  • أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها. 

  • و أما الإنسان فاتخاذ الزوجات المتعددة كانت سنة جارية في غالب الأمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الأمم‌ لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء. 

  • و أغلب ما كان يقع تعدد الزوجات إنما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكان القرى و الجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس و السؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة. 

  • و ما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم، و ما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الإنسان البدوي أولا و بالذات كما أن شيوع الادعاء و التبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض. 

  • على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم و هو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات هذا. 

  • و الإسلام شرع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى: {وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: «البقرة: ٢٢٨». 

تفسير الميزان ج٤

184
  • و قد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات: 

  • أولا: أنه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن و يخيب آمالهن و يسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساءوا إليهن فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت. 

  • و ثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الإحصاء في الأمم و الأجيال يفيد أن قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة. 

  • و ثالثا: أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوة في المجتمع. 

  • و رابعا: أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه و هذه الإشكالات مما اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع. 

  • و الجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الإسلام وضع بنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهية و الغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كما و كيفا باختلاف التربية و العادة، كما أن كثيرا من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين و بالعكس، و كل أمة تختلف مع غيرها في بعضها. 

تفسير الميزان ج٤

185
  • و التربية الدينية في الإسلام تقيم المرأة الإسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد. و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال و النساء في الأمم المتمدنة! اليوم. 

  • أ ليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيب و من ذات بعل أو غيرها، حتى أن الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الأمر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية، و أما النساء و خاصة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهن أغرب و أفظع. 

  • فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرجن و لا تنكسر قلوبهن و لا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟ و كيف‌ لا تتألم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الأقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم و نزعة الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها. 

  • و أما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت و تثاقلهن في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس. 

  • على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلامي و سائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء و رغبة منهن و هن من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهن الرجال من مجتمعات 

تفسير الميزان ج٤

186
  • أخرى، و لا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا و إنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات، و لا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شي‌ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها و على بيتها أخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألم فيما كان إنما منشؤه حالة عرضية (التوحد بالبعل) لا غريزة طبيعية. 

  • و الجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختل من وجوه. 

  • منها أن أمر الازدواج لا يتكي على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل و شرائط أخرى لهذا الأمر فأولا الرشد الفكري و التهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيئون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين (و هو الذي اعتبره الإسلام للنكاح). 

  • و من الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الأمم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك. 

  • و لازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم (و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الأولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الأولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة. 

  • و ثانيا أن الإحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال و لازمه أن 

تفسير الميزان ج٤

187
  • تهيئ سنة الوفاة و الموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال‌۱

  • و ثالثا: أن خاصة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين و يمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، و ربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي و هي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد و هو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة و هو أربعون تقريبا، و إذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة و الخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد و المنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل و الأسباب الجارية. 

  • و رابعا: أن الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب و المقاتل و غيرهما تحل بالرجال و تفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل و النساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن و بطلانها. 

  • و مما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة و سألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الإسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة و يرتفع بذلك غائلة الحرمان‌، غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك و امتنعت الكنيسة من قبوله و رضيت بفشو الزنا و شيوعه و فساد النسل به. 

  • و منها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال و النساء في العدد مع 

    1.  و مما يؤيد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيام (جريدة الاطلاعات المنتشرة في طهران المؤرخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنه يولد في فرنسا حذاء كل «١٠٠» مولودة من البنات «١٠٥» من البنين، و مع ذلك فإن الإناث يربو عدتهم على عدة الذكور بما يعادل «١٧٦٥٠٠٠» نسمة، و نفوس المملكة «٤٠مليونا تقريبا» و السبب فيه أن البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض و يهلك بها «٥ در صد» الزائد منهم إلي سنة «١٩» من الولادة. 
      ثم يأخذ عدة الذكور في النقص ما بين ٢٥٣٠من السنين حتى إذا بلغوا سني ٦٠٦٥ لم يبق تجاه كل «١٥٠٠٠٠٠» من الإناث إلى «٧٥٠٠٠٠» من الذكور

تفسير الميزان ج٤

188
  • الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك و لا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم و الإسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض و الوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم، و من أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا و لا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين و كذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء و إعوازهن على الرجال. بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الأزواج و الاجتماع المنزلي و اكتفين بالزنا. 

  • و منها أن الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم و لم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف و في القسم و الفراش و فرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن و لا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلا و من يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة و غير ذلك إلا لبعض أولي الطول و السعة من الناس لا لجميعهم. 

  • على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها و الإغماض عن التكثير. 

  • و الجواب عن الثالث: أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الإسلامية و مقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر و العفاف و الحياء و عدم الخرق تنمي المرأة و شهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل (على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد و أكثر و استدل عليه بتولعها المفرط بالزينة و الجمال طبعا) و هذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل و المرأتين و الثلاث. 

  • و من جهة أخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع و مشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل و لا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور و الفحشاء و المرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث 

تفسير الميزان ج٤

189
  • أوقات المعاشرة و المصاحبة كأيام العادة و بعض أيام الحمل و الوضع و الرضاع و نحو ذلك و الإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء و الخواطر السوء كحال التعزب و نحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام. 

  • و من جهة أخرى من أهم المقاصد عند شارع الإسلام تكثر نسل المسلمين و عمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك و الفساد. 

  • فهذه الجهات و أمثالها هي التي اهتم بها الإسلام في‌ تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة و ترغيب الناس إلى الانكباب عليها و لو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولى بالرمي بترويج الفحشاء و الترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية. 

  • على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص، و لا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع و الحبس، فالمسلم و إن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن و طيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه، و هذا نوع تسكين لطيش النفس، و إحصان لها عن الميل إلى الفحشاء و هتك الأعراض المحرمة. 

  • و قد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا و الفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات‌۱

  • و الجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق‌٢. المرأة في الإسلام: أنه لم يحترم النساء و لم يراع حقوقهن كل المراعاة أي 

    1.  رسالة المسترجان ديون بورت الإنجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمد و القرآن ترجمة الفاضل: 
      السعيدي بالفارسية.
    2. البحث العلمي من الجزء الثاني ص ٢٦٠

تفسير الميزان ج٤

190
  • سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها و حديثها بمثل ما احترمهن الإسلام و سنزيد في ذلك وضوحا. 

  • و أما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي و إماتة حقوقهن و الاستخفاف بموقفهن في الحياة و إنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها. 

  • و قد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلامي و ما في منعه من المفاسد الاجتماعية و المحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال و النساء من أراده فليراجع إلى مظانه. 

  • و أقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب و زوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة و لا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر، و عندئذ تنقلب جميع العواطف و الإحساسات الرقيقة التي جبلت عليها النساء من الحب و لين الجانب و الرقة و الرأفة و الشفقة و النصح و حفظ الغيب و الوفاء و المودة و الرحمة و الإخلاص بالنسبة إلى الزوج و أولاده من غير الزوجة و بيته و جميع ما يتعلق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي و تألم الروح و الجسم من مشاق الأعمال و الجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس و العرض و المال و الجاه، لا يؤمن فيه من شي‌ء لشي‌ء، و يتكدر فيه صفو العيش و ترتحل لذة الحياة، و يحل محلها الضرب و الشتم و السب و اللعن و السعاية و النميمة و الرقابة و المكر و المكيدة، و اختلاف الأولاد و تشاجرهم، و ربما انجر الأمر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج، و قتل بعض الأولاد بعضا أو أباهم، و تتبدل القرابة بينهم إلى‌ الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء و هلاك النسل و فساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء و فساد الأخلاق و القسوة و الظلم و البغي و الفحشاء و انسلاب الأمن و الوثوق و خاصة إذا أضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات و الطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات و الحرص و التولع على أخذ هذه و ترك تلك، و رفع واحدة و وضع أخرى، و ليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع و إشقاؤه و هو قبيل النساء، و بذلك 

تفسير الميزان ج٤

191
  • يفسد النصف الآخر. 

  • هذا محصل ما ذكروه، و هو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الإسلام و تعاليمه، و متى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ و قد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين و نقض قوانينه و إبطال حدوده هي طبقة الحكام و الولاة على المسلمين، و الناس على دين ملوكهم، و لو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك و الفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام و ولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك و السلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا، و بالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم و نحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، و الذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء و الأولاد و إن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم، و ذلك أن سيرة هؤلاء الرجال و تفديتهم سعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و صفاء جو مجتمعهم في سبيل شرهم و جهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد و المنبت لكل هذه الشقوة المبيدة. 

  • و أما الإسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب و الفرض على كل رجل، و إنما نظر في طبيعة الأفراد و ما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة، و اعتبر الصلاح القاطع في ذلك (كما مر تفصيله) ثم استقصى مفاسد التكثير و محاذيره و أحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الإنساني، و قيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة و هو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن و يعدل فمن وثق من نفسه بذلك و وفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات، و أما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و لا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم و فروجهم، و لا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل و لذته فلا شأن للإسلام فيهم، و لا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك و الحال هذه. 

  • على أن في أصل الإشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الإسلام، و هما جهتا التشريع و الولاية. 

  • توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح و الفساد في القوانين الموضوعة و السنن 

تفسير الميزان ج٤

192
  • الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار و النتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع و قبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة و عدم قبولها، و ما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن و عادات و عوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه و أنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره؟ و ما ذا يبقى من الأثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده و يستدعيه المجتمع بحاضر إرادته و ظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم و مستدعياتهم فهو القانون الصالح و ما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح. 

  • و لذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغي فاسدين في معاشهم و معادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب و الخيانة و الخنا و هضم الحقوق و فشو البغي و فساد البيوت و اختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الإسلامية في جريانها بين الناس و تأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم، و يستنتجون من ذلك أن الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية و منه ينشأ هذا البغي و الفساد (و فيهم أبغى البغي و أخنى الخنا، و كل الصيد في جوف الفراء) و لو كان دينا واقعيا و كانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس و سعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة، و لم ينقلب وبالا عليهم!

  • و لكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة، و بين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، و الإسلام مجموع معارف أصلية و أخلاقية و قوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع و انحرافها في التأثير كالأدوية و المعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها و إلى محل معد مهيأ لورودها و عملها، و لو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، و ربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها. 

  • هب أن السنة الإسلامية لم تقو على إصلاح الناس و محق الذمائم و الرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في 

تفسير الميزان ج٤

193
  • البلاد الأوربية؟ و ما بالنا كلما أمعنا في السير و الكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى و لا يشك شاك أن الذمائم و الرذائل اليوم أشد تصلبا و تعرقا فينا و نحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن و نحن همجيون، و ليس لنا حظ من العدل الاجتماعي و حياة الحقوق البشرية و المعارف العامة العالية و كل سعادة اجتماعية إلا أسماء نسميها و ألفاظا نسمعها. 

  • فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم لا تعملون بها، و لا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها و ينجع و لا يجري في الإسلام و لا ينجع؟

  • و هب أن الإسلام لوهن أساسها (و العياذ بالله) عجز عن التمكن في قلوب الناس و النفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته و لم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديمقراطية و كانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا و انمحت آثارها و خلفتها السنة الشيوعية؟ و ما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين و لتوني و إستوني و ليتواني و رومانيا و المجر و يوغوسلاوي و غيرها، و هي تهدد سائر الممالك و قد نفذت فيها نفوذا؟

  • و ما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة، و انبسطت و حكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني و لم يزل دعاتها و أولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد و لا استثمار الديمقراطية و أن البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة و الأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد (ستالين) الذي كان يتولى إمامتها و قيادتها منذ ثلاثين سنة، و أوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم و استبداد و استعباد في صورة الشيوعية، و لا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة و إجرائها و سائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شي‌ء من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة و حكومة فردية تحيي ألوفا و تميت ألوفا و تسعد أقواما و تشقي 

تفسير الميزان ج٤

194
  • آخرين. و الله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء و يقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم. 

  • و السنن و الآداب و الرسوم الدائرة في المجتمعات (أعم من الصحيحة و الفاسدة) ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها و ضعف إرادة الأفراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ. 

  • فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنها سنة اجتماعية و بين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث‌٤٢٠٠يقبل العذر فيها و لا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية و جهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها و لا أرض تقلها و على أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس و عدمه و كذا بقاؤها بين الناس و ارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها و فسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل و الأسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار و العهود إلا و هي تنتج يوما و تعقم آخر و تقيم بين الناس برهة من الزمان و ترتحل عنهم في أخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء. 

  • و بالجملة القوانين الإسلامية و الأحكام التي فيها، تخالف بحسب المبنى و المشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار و تتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف و التبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها و كل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها و يتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد و الوالي نفسه المتفكرة المريدة. 

  • فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدد الزوجات و غير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته، و إنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه. 

تفسير الميزان ج٤

195
  • بحث علمي آخر ملحق به في تعدد أزواج النبي 

  • و مما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي(صلى الله عليه وآله و سلم) قالوا: إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة: و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يقنع بما شرعه لأمته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة. 

  • و المسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن، و البحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفي عند الكلام على الآية المربوطة بها و لذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له و إنما نشير هاهنا إلى ذلك إشارة إجمالية. 

  • فنقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليست على هذه السذاجة (أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة) بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو (صلى الله عليه وآله و سلم) كان تزوج أول ما تزوج بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصرا عليها نيفا و عشرين سنة (و هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوج بعدها من النساء منهن البكر و منهن الثيب و منهن الشابة و منهن العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء و الولوع بهن و الوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك. 

  • على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن و الخلاء بهن و الصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب و نضارة السن و طراوة الخلقة، و هذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه بنى بالثيب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة و هي مسنة، و بنى بزينب بنت جحش و سنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و أم حبيبة و هكذا. 

تفسير الميزان ج٤

196
  • و قد خير (صلى الله عليه وآله و سلم) نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كن يردن الدنيا و زينتها و بين الزهد في الدنيا و ترك التزيين و التجمل إن كن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}: الأحزاب ٢٩، و هذا المعنى أيضا كما ترى لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن. 

  • فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما بين أول أمره و آخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره و الشبق و التلهي. 

  • فقد تزوج (صلى الله عليه وآله و سلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة و ازديادا للعضد و العشيرة، و ببعض هؤلاء استمالة للقلوب و توقيا من بعض الشرور، و ببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة و الضيعة، و ببعضها لتثبيت حكم مشروع و إجرائه عملا لكسر السنن المنحطة و البدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش و قد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد، و قد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني و كانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزل فيها الآيات. 

  • و كان (صلى الله عليه وآله و سلم) تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، و كانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة و لو رجعت إلى أهلها و هم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين و المؤمنات بالزجر و القتل و الإكراه على الكفر. 

  • و تزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد و كانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء و المساكين و عطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها. 

  • و تزوج بأم سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة 

تفسير الميزان ج٤

197
  • النبي و أخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و تزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر و قتل أبوها مع بني قريظة، و كانت في سبي خيبر فاصطفاها و أعتقها و تزوج بها فوقاها بذلك من الذل و وصل سببه ببني إسرائيل. 

  • و تزوج بجويرية و اسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق و قد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء و الذراري، فتزوج (صلى الله عليه وآله و سلم) بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم و أعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك، و لحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جما غفيرا و أثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب. 

  • و تزوج بميمونة و اسمها برة بنت الحارث الهلالية و هي التي وهبت نفسها للنبي ص بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تزوج بها و قد نزل فيها القرآن. 

  • و تزوج بأم حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان و كانت زوجة عبيد الله بن جحش و هاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أحصنها. 

  • و تزوج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر. 

  • فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه (صلى الله عليه وآله و سلم) بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعه (صلى الله عليه وآله و سلم) في النساء، و إحياء ما كانت قرون الجاهلية و أعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة، و أخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به (صلى الله عليه وآله و سلم) هو توصيتهن لجامعة الرجال قال (صلى الله عليه وآله و سلم): «الصلاة الصلاة، و ما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله 

تفسير الميزان ج٤

198
  • في النساء فإنهن عوان في أيديكم» الحديث. 

  • و كانت سيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهن و رعاية جانبهن مما يختص به (صلى الله عليه وآله و سلم) (على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله) و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به.

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٧ الی ١٠] 

  • {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ٧ وَ إِذَا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْيَتَامى‌ وَ اَلْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ٨ وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ٩ إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامى‌ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ١٠} 

  • (بيان‌)

  • شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهدت من المقدمات، و قد قدم بيان جملي لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لإيذان أن لا حرمان في الإرث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرمانا ثابتا لبعض الأرحام و القرابات كتحريم صغار الورثة و النساء، و زيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلما و قد شدد الله في النهي عنه. و قد ذكر مع ذلك مسألة رزق 

تفسير الميزان ج٤

199
  • أولي القربى و اليتامى و المساكين إذا حضروا قسمة التركة و لم يكونوا ممن يرث تطفلا. 

  • قوله تعالى{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ} (الآية)، النصيب‌ هو الحظ و السهم، و أصله من النصب بمعنى الإقامة لأن كل سهم عند القسمة ينصب على حدته حتى لا يختلط بغيره، و التركة ما بقي من مال الميت بعده كأنه يتركه و يرتحل فاستعماله الأصلي استعمال استعاري ثم ابتذل، و الأقربون‌ هم القرابة الأدنون، و اختيار هذا اللفظ على مثل الأقرباء و أولي القربى و نحوهما لا يخلو من دلالة على أن الملاك في الإرث أقربية الميت من الوارث على ما سيجي‌ء البحث عنه في قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً}: «النساء: ١١»، و الفرض‌ قطع الشي‌ء الصلب و إفراز بعضه من بعض، و لذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه و امتثال‌ الأمر به مقطوعا معينا من غير تردد، و النصيب المفروض هو المقطوع المعين. 

  • و في الآية إعطاء للحكم الكلي و تشريع لسنة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلفين، فإن حكم الوراثة على النحو المشروع في الإسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقا بالمثل و قد كانت العادات و الرسوم على تحريم عدة من الوراث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس و تحرك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم. 

  • و قد مهد له في الإسلام أولا بتحكيم الحب في الله و الإيثار الديني بين المؤمنين فعقد الإخوة بين المؤمنين ثم جعل التوارث بين الأخوين، و انتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث، و انقلع المؤمنون من الأنفة و العصبية القديمة ثم لما اشتد عظم الدين، و قام صلبه شرع التوارث بين أولي الأرحام في حين كان هناك عدة كافية من المؤمنين يلبون لهذا التشريع أحسن التلبية. 

  • و بهذه المقدمة يظهر أن المقام مقام التصريح و رفع كل لبس متوهم بضرب القاعدة الكلية بقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ}، فالحكم مطلق غير مقيد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلا، كما أن موضوعه أعني الرجال عام غير مخصص بشي‌ء متصل فالصغار ذوو نصيب كالكبار. 

  • ثم قال: {وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ} و هو كسابقه عام من غير شائبة تخصيص فيعم جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد، و قد أظهر في قوله {مِمَّا تَرَكَ 

تفسير الميزان ج٤

200
  • اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ} مع أن المقام مقام الإضمار إيفاء لحق التصريح و التنصيص، ثم قال: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} زيادة في التوضيح و أن لا مجال للمسامحة في شي‌ء منه لقلة و حقارة، ثم قال: {نَصِيباً}«إلخ»، و هو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدري، و هو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد و زيادة في التنصيص على أن السهام مقطوعة معينة لا تقبل الاختلاط و الإبهام. 

  • و قد استدل بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غيره، و على بطلان التعصيب في الفرائض. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى‌َ}«إلخ» ظاهر الآية أن المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أن المراد حضورهم عند الميت حينما يوصي و نحو ذلك، و هو ظاهر. 

  • و على هذا فالمراد من أولي القربى الفقراء منهم، و يشهد بذلك أيضا ذكرهم مع اليتامى و المساكين، و لحن قوله: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}، الظاهر في الاسترحام و الاسترفاق، و يكون الخطاب حينئذ لأولياء الميت و الورثة. 

  • و قد اختلف في أن الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب، و هو بحث فقهي خارج عن وضع هذا الكتاب، كما اختلف في أن الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث؟ مع أن النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لأن آية المواريث تعين فرائض الورثة، و هذه الآية تدل على غيرهم وجوبا أو ندبا في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ و خاصة بناء على كون الرزق مندوبا كما أن الآية لا تخلو من ظهور فيه. 

  • قوله تعالى{وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} (الآية) الخشية التأثر القلبي مما يخاف نزوله مع شائبة تعظيم و إكبار، و سداد القول‌ و سدده كونه صوابا مستقيما. 

  • و لا يبعد أن تكون الآية متعلقة نحو تعلق بقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} (الآية) لاشتماله على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الإرث، و يكون حينئذ قوله: {وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} كناية عن اتخاذ 

تفسير الميزان ج٤

201
  • طريقة التحريم و العمل بها و هضم حقوق الأيتام الصغار، و الكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى: {وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (الآية): البقرة ٨٣، و يؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف و اللين و نحوهما فإن ظاهر السداد في القول كونه قابلا للاعتقاد و العمل به لا قابلا لأن يحفظ به كرامة الناس و حرمتهم. 

  • و كيف كان فظاهر قوله: {اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} إنه تمثيل للرحمة و الرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولي لهم يتكفل أمرهم و يذود عنهم الذل و الهوان، و ليس التخويف و التهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله‌{لَوْ تَرَكُوا}، و لم يقل: لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصد به بيان الحال، و المراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة إنسانية و رأفة و شفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم و هم الأيتام و الذين من صفتهم كذا هم الناس و خاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا: و ليخش الناس و ليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف‌ يجب أن يخاف عليهم و يعتنى بشأنهم و لا يضطهدوا و لا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا: من خاف الذل و الامتهان فليشتغل بالكسب و كل يخاف ذلك. 

  • و لم يؤمر الناس في الآية بالترحم و الترؤف و نحو ذلك بل بالخشية و اتقاء الله و ليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم و أكل مالهم ظلما بأيتام أنفسهم بعدهم، و ارتداد المصائب التي أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم. 

  • و أما قوله: {فَلْيَتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} فقد تقدم أن الظاهر أن المراد بالقول هو الجري العملي و من الممكن أن يراد به الرأي.

  • كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه 

  • من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه، و هذا من الحقائق العجيبة القرآنية، و هو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الأعمال الحسنة و السيئة و بين الحوادث الخارجية ارتباطا، و قد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن 

تفسير الميزان ج٤

202
  • أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب. 

  • الناس يتسلمون في الجملة أن الإنسان إنما يجني ثمر عمله و أن المحسن الخير من الناس يسعد في حياته، و الظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله، و في القرآن الكريم آيات تدل على ذلك بإطلاقها كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}: حم السجدة ٤٦، و قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}: الزلزال: ، و كذا قوله تعالى: {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ}: يوسف: ٩٠، و قوله: {لَهُ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ}: الحج: ٩، و قوله {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الآية): الشورى: ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير و الشر من العمل له نوع انعكاس و ارتداد إلى عامله في الدنيا. 

  • و السابق إلى أذهاننا المأنوسة بالأفكار التجربية الدائرة في المجتمع من هذه الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الإنسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على أن الأمر أوسع من ذلك، و أن عمل الإنسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته و أعقابه قال تعالى: {وَ أَمَّا اَلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَ يَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}: الكهف: ٨٢، فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما، و قال تعالى {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} (الآية). 

  • و على هذا فأمر انعكاس العمل أوسع و أعم، و النعمة أو المصيبة ربما تحلان بالإنسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه. 

  • و التدبر في كلامه تعالى يهدي إلى حقيقة السبب‌ في ذلك فقد تقدم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى: {وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}: البقرة: ١٨٦، دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الإنسان من جانبه تعالى إنما هو لمسألة سألها ربه، و أن ما مهده من مقدمة و داخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهي إليه من الحوادث و المسببات قال تعالى: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}: الرحمن: ٢٩، و قال تعالى: {وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ 

تفسير الميزان ج٤

203
  • اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}: إبراهيم: ٣٤، و لم يقل: و إن تعدوه لا تحصوه لأن فيما سألوه ما ليس بنعمة، و المقام مقام الامتنان بالنعم و اللوم على كفرها و لذا ذكر بعض ما سألوه و هو النعمة. 

  • ثم إن ما يفعله الإنسان لنفسه و يوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع عليه و هو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه و يسأله لشخصه فليس هناك إلا الإنسانية و من هاهنا يتضح للإنسان أنه إن أحسن لأحد فإنما سأل الله ذلك الإحسان لنفسه دعاء مستجابا و سؤالا غير مردود، و إن أساء على أحد أو ظلمه فإنما طلب ذلك لنفسه و ارتضاه لها و ما يرتضيه لأولاد الناس و يتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه و يسأله لهم من خير أو شر، قال تعالى: {وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ}: البقرة: ١٤٨، فإن معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا. 

  • و الاشتراك في الدم و وحدة الرحم يجعل عمود النسب و هو العترة شيئا واحدا فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد، و أي نازلة نزلت في طرف من أطرافها فإنما عرضت و نزلت على متنه و هو في حساب جميع الأطراف، و قد مر شطر من الكلام في الرحم في أول هذه السورة. 

  • فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الإنسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله، و إنما استثنينا لأن في الوجود عوامل و جهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الإنسان، و من الممكن أن تجري هناك عوامل و أسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى: {وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}: «الشورى: ٣٠». 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامىَ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} (الآية) يقال: أكله و أكله في بطنه و هما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح و الآية كسابقتها متعلقه للمضمون بقوله‌{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} (الآية) و هي تخويف و ردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الإرث. 

  • و الآية مما يدل على تجسم الأعمال على ما مر في الجزء الأول من هذا الكتاب في 

تفسير الميزان ج٤

204
  • قوله تعالى{إِنَ‌ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا}: «البقرة: ٢٦» و لعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله‌{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}، كلام على الحقيقة دون المجاز و على هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين: أن قوله: {يَأْكُلُونَ} أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله: {وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} عليه و هو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الأكل و وقته يوم القيامة لكان من اللازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم نارا و يصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازي، و أنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا و هو غفلة عن معنى تجسم الأعمال. 

  • و أما قوله: {وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} فهو إشارة إلى العذاب الأخروي، و السعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى و صليا أي احترق بها و قاسى عذابها.

  • بحث روائي 

  • في المجمع: في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ} (الآية): اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها محكمة غير منسوخة، و هو المروي عن الباقر (عليه السلام). 

  • أقول: و عن تفسير علي بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} (الآية)، و لا وجه له، و قد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلي لحكم المواريث و لا تنافي بينها و بين سائر آيات الإرث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عكرمة: في الآية قال: نزلت في أم كلثوم و ابنة أم كحلة أو أم كحلة و ثعلبة بن أوس و سويد و هم من الأنصار كان أحدهم زوجها و الآخر عم ولدها فقالت: يا رسول الله توفي زوجي و تركني و ابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسا و لا تنكي عدوا و يكسب عليها و لا تكتسب، فنزلت: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} (الآية). 

  • أقول: و في بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الأنصار مات و ترك ابنتين فجاء ابنا عمه و هما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما و كان بهما دمامة 

تفسير الميزان ج٤

205
  • فأبيا فرفعت الأمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلت آيات المواريث. الرواية. و لا بأس بتعدد هذه الأسباب كما مر مرارا. 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {وَ إِذَا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبىَ} (الآية): اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنها محكمة غير منسوخة قال: و هو المروي عن الباقر (عليه السلام).

  • و في نهج البيان، للشيباني: أنه مروي عن الباقر و الصادق (عليه السلام). 

  • أقول: و في بعض الروايات أنها منسوخة بآية المواريث، و قد تقدم في البيان المتقدم أنها غير صالحة للنسخ. 

  • و في تفسير العياشي عن أبي عبد الله و أبي الحسن (عليه السلام): أن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين: أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار، و أما الأخرى فعقوبة الدنيا قوله: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}، قال: يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

  • أقول: و روي مثله في الكافي عن الصادق (عليه السلام)، و في المعاني عن الباقر (عليه السلام).

  • و فيه عن عبد الأعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله (عليه السلام) مبتدئا: من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، قال: فذكرت في نفسي فقلت: يظلم هو فيسلط على عقبه و عقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم: إن الله يقول: {وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم و المرأة ايتمه ثم أوصى به، و ابتلاه و ابتلى به.

  • أقول: و الأخبار في أكل مال اليتيم و أنها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة.

  •  {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ} 

تفسير الميزان ج٤

206
  • [سورة النساء (٤): الآیات ١١ الی ١٤] 

  • {نِسَاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ١١ وَ لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى‌ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ١٢ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ١٣ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَ لَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ١٤} 

تفسير الميزان ج٤

207
  • (بيان‌)

  • قوله تعالى{يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} الإيصاء و التوصية هو العهد و الأمر، و قال الراغب في مفردات القرآن: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ، انتهى. 

  • و في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم و السهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة، و أما أولاد الأولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان و لابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الإخوة و الأخوات حكم من يتصلون به، و أما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد. 

  • و أما قوله تعالى في ذيل الآية: {آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} فسيجي‌ء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد. 

  • و أما قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا و أخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه كما ترى هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء و إن صرحت بشي‌ء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية و الآية التي في آخر السورة. 

  • و بالجملة قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} في محل التفسير لقوله: {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}، و اللام في الذكر و الأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين، و هذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر و أنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى سهما و لم يقل: للذكر مثل حظي الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجي‌ء. 

تفسير الميزان ج٤

208
  • و على أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور و الإناث كان لكل ذكر سهمان و لكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} إنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل: هذا إذا كانوا نساء و رجالا فإن كن نساء «إلخ» و هو شائع في الاستعمال و منه قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ}: «البقرة: ١٩٦» و قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ‌ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: «البقرة: ١٨٤». 

  • و الضمير في كن راجع إلى الأولاد في قوله: {فِي أَوْلاَدِكُمْ} و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر، و الضمير في قوله: {تَرَكَ} راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ} الضمير إلى الولد المفهوم من السياق و تأنيثه باعتبار الخبر و المراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه. 

  • و لم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} فإن ذكرا و أنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية و سهم الذكر الثلثين و هو حظ الأنثيين فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا و ليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: و إن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم و التصريح الذي في قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين، فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين. 

  • على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و جرى العمل عليه منذ عهده (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى عهدنا بين علماء الأمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس. 

  • و هذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين، قال الكليني رحمه الله في الكافي: إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ}، و ذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا و ابنا فللذكر مثل حظ الأنثيين و هو الثلثان فحظ الأنثيين الثلثان، و اكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين، انتهى، و نقل مثله عن 

تفسير الميزان ج٤

209
  • أبي مسلم المفسر: أنه يستفاد من قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} و ذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين، انتهى و إن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه. 

  • و هناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ}، الاثنتان و ما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الأنثيين، و النساء فوق اثنتين جميعا. و مثل قول بعضهم: إن حكم البنتين هاهنا معلوم بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى. 

  • قوله تعالى: {وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ} إلى قوله: {فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ} في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، و قوله: و ورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما، و في قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}«إلخ» بعد قوله: {فَإِنْ‌ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، دلالة على أن الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء و البنات لا ترث مع وجودهم غير أن الإخوة تحجب الأم عن الثلث. 

  • قوله تعالى{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أما الوصية فهي التي تندب إليها قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ} (الآية): «البقرة: ١٨٠» و لا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لأن الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم لأن الأهم لمكانته و قوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد و التشديد، و منه التقديم، و على هذا فقوله: {أَوْ دَيْنٍ} في مقام الإضراب و الترقي طبعا. 

  • و بذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله: يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد، و لا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميت و مراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} (الآية): «البقرة: ١٨١». 

  • قوله تعالى{آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} الخطاب للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم، و هو كلام ملقى للإيماء 

تفسير الميزان ج٤

210
  • إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء و الأبناء و نوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان «لا تدرون» و أمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان. 

  • على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس‌ من جهة أنهم سيموتون و يورثون آباءهم و أبناءهم لم يكن وجه لقوله: {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث و هو إنما يعود إلى الورثة دون الميت. 

  • و تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الأبناء، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ}: «البقرة: ١٥٨» و قد مرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: أبدأ بما بدأ الله الحديث. و الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم و اعتبار العواطف الإنسانية فإن الإنسان أرأف بولده منه بوالديه و هو يرى بقاء ولده بقاء لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطا و أمس وجودا به من أبنائه، و إذا بني الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا و إن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الأمر بالعكس. 

  • و هذه الآية أعني قوله: {آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكويني خارجي كسائر الأحكام الفطرية الإسلامية. 

  • على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}: «الروم: ٣٠» تدل على ذلك، و كيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية و فرائض غير متغيرة و ليس لها أصل في التكوين في الجملة. 

  • و ربما يمكن أن يستشم من الآية أعني قوله: {آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ} إلخ، تقدم أولاد الأولاد على الأجداد و الجدات فإن الأجداد و الجدات لا يرثون مع وجود الأولاد و أولاد الأولاد. 

  • قوله تعالى{فَرِيضَةً مِنَ اَللَّهِ} إلخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر و التقدير خذوا أو الزموا و نحو ذلك و تأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم و هي مفرزة 

تفسير الميزان ج٤

211
  • معينة لا تتغير عما وضعت عليه. 

  • و هذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى و هي الأولاد و الأب و الأم على جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الأب و الأم و هو السدس لكل واحد منهما مع وجود الأولاد، و الثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في الآية و كسهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم البنات إذا تفردن و هو الثلثان، و سهم البنين و البنات إذا اجتمعوا و هو للذكر مثل حظ الأنثيين، و يحلق بها سهم البنتين و هو الثلثان كما تقدم. 

  • و إما تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ} و قوله في البنت: {وَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ}، و كذا الأبناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ}، أن الأبناء متساوون في السهام، و أمر الآية في إيجازها عجيب. 

  • و اعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال و و إمتاع الورثة بين النبي ص و بين سائر الناس و قد تقدم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}. (الآية)، و ما ربما قيل: إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي ص لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغي أن يصغي إليه. 

  • نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة و الشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة و منشؤه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب و لذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له. 

  • قوله تعالى{وَ لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلى قوله: {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} المعنى ظاهر، و قد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، و الربع بالقطع فقيل: و لهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدرة، و من هذه تفيد معنى الأخذ و الشروع من الشي‌ء و هذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشي‌ء المبتدأ منه و كالمستهلك فيه، و هذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس و الربع 

تفسير الميزان ج٤

212
  • و الثلث من المجموع دون مثل النصف و الثلثين، و لذا قال تعالى: {اَلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ}، و قال: {فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ}، و قال: {فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ} بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، و قال: {وَ لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ}، و قال: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} بالإضافة، و قال: {فَلَهَا اَلنِّصْفُ} أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ} إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكل بضم الكاف لإحاطته بالأجزاء، و منه الكل بفتح الكاف لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة، قال: و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن الكلالة فقال: من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله اسما للميت‌، و كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث و الموروث جميعا، انتهى. 

  • أقول: و على هذا فلا مانع من كون كان ناقصة و رجل اسمها و يورث وصفا للرجل و كلالة خبرها و المعنى: و إن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له و لا ابنا. و يمكن أن يكون كان تامة و رجل يورث فاعله و كلالة مصدرا وضع موضع الحال، و يئول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة، و قال الزجاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث بكسر الراء فكلالة مفعول، و من قرأ يورث بفتح الراء فكلالة منصوب على الحال. 

  • و قوله: غير مضار منصوب على الحال، و المضارة هو الإضرار و ظاهره أن المراد به الإضرار بالدين من قبل الميت كان يعتمل بالدين للإضرار بالورثة و تحريمهم الإرث، أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال. 

  • قوله تعالى{تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ} إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و ارتفاع التمايز بينهما كحد الدار و البستان، و المراد بها أحكام الإرث و الفرائض المبينة، و قد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته و إطاعة رسوله فيها و العذاب الخالد المهين على المعصية. 

  • كلام في الإرث على وجه كلي‌ 

  • هاتان الآيتان أعني قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} إلى آخر الآيتين، و الآية 

تفسير الميزان ج٤

213
  • التي في آخر السورة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاَلَةِ} إلى آخر الآية، مع قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ} (الآية)، و مع قوله تعالى: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ}: «الأحزاب: ٦، الأنفال: ٧»، خمس آيات أو ست هي الأصل القرآني للإرث في الإسلام و السنة تفسرها أوضح تفسير و تفصيل. 

  • و الكليات المنتزعة المستفادة منها التي هي الأصل في تفاصيل الأحكام أمور: منها: ما تقدم في قوله: {آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً}، و يظهر منها أن للقرب و البعد من الميت تأثيرا في باب الإرث، و إذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم و قلته و عظمه و صغره، و إذا ضمت إلى قوله تعالى: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ} أفادت أن الأقرب نسبا في باب الإرث يمنع الأبعد. 

  • فأقرب الأقارب إلى الميت الأب و الأم و الابن و البنت إذ لا واسطة بينهم و بين الميت، و الابن و البنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها. 

  • و تتلوها المرتبة الثانية و هم إخوة الميت و أخواته و جده و جدته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة و هي الأب أو الأم، و أولاد الأخ و الأخت يقومون مقام أبيهم و أمهم، و كل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر. 

  • و تتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت و أخواله و عماته و خالاته فإن بينهم و بين الميت واسطتين و هما الجد أو الجدة و الأب أو الأم، و الأمر على قيام ما مر. 

  • و يظهر من مسألة القرب و البعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذي السبب الواحد، و من ذلك تقدم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها، و أما كلالة الأم فلا تزاحمها كلالة الأبوين. 

  • و منها: أنه قد اعتبر في الوراث تقدم و تأخر من جهة أخرى فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه و مثله الزوجة في ربعها و ثمنها 

تفسير الميزان ج٤

214
  • و كالأم تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس و الأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد و عدمه; و منهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه و لم يذكر له سهم بعينه كالبنت و البنات و الأخت و الأخوات يذهبن بالنصف و الثلثين و قد سكت عن سهامهم عند الزحام، و يستفاد منه أن أولئك المقدمين لا يزاحمون و لا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل و إنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام. 

  • و منها: أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج و أخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف و ثلثان و هو زائد على مخرج المال، و كذا لو فرض أبوان و بنتان و زوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان و ثلثان و ربع. 

  • و كذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط و هكذا، و السنة المأثورة التي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم و هو الأم و الزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض و كذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من‌ يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت و أب فللأب السدس و للبنت نصف المال بالفريضة و الباقي بالرد. 

  • و قد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول و عمل الناس في الصدر الأول في صورة زيادة التركة بالتعصيب و سيجي‌ء الكلام فيهما في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى. 

  • و منها: أن التأمل في سهام الرجال و النساء في الإرث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الأبوين فإن سهم الأم قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة و لعل تغليب جانب الأم على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمس رحما بولدها و مقاساتها كل شديدة في حمله و وضعه و حضانته و تربيته، قال تعالى: {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً}: «الأحقاف: ١٥» و خروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا. 

تفسير الميزان ج٤

215
  • و أما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا و كون الإنفاق اللازم على عهدته، قال تعالى: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ‌ بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: «النساء: ٣٤» و القوام‌ من القيام و هو إدارة المعاش، و المراد بالفضل‌ هو الزيادة في التعقل فإن حياته حياة تعقلية و حياة المرأة إحساسية عاطفية، و إعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي و هذا الإعطاء. و التخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال و تدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على تدبير الإحساس و العواطف فيصلح أمر المجتمع و تسعد الحياة. 

  • و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، و عندها الثلث الذي تتملكه و بيدها أمر ملكه و مصرفه. 

  • و حاصل هذا الوضع و التشريع العجيب أن الرجل و المرأة متعاكسان في الملك و المصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا و له مصرف ثلثها، و للمرأة ملك ثلث الثروة و لها مصرف ثلثيها، و قد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الإحساس و العواطف في الرجل، و التدبير المالي بالحفظ و التبديل و الإنتاج و الاسترباح أنسب و أمس بروح التعقل، و غلبة العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة، و ذلك بالمصرف أمس و ألصق فهذا هو السر في الفرق الذي اعتبره الإسلام في باب الإرث و النفقات بين الرجال و النساء. 

  • و ينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل و مزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ} (الآية)، دون الزيادة في البأس و الشدة و الصلابة فإن الغلظة و الخشونة في قبيل الرجال و إن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة و تترتب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع و الحفظ و الأعمال الشاقة و تحمل الشدائد و المحن و الثبات و السكينة في الهزاهز و الأهوال، و هذه شئون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع. 

تفسير الميزان ج٤

216
  • لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة و العواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، و لها آثار هامة في أبواب الأنس و المحبة و السكن و الرحمة و الرأفة و تحمل أثقال التناسل و الحمل و الوضع و الحضانة و التربية و التمريض و خدمة البيوت، و لا يصلح شأن الإنسان بالخشونة و الغلظة لو لا اللينة و الرقة، و لا بالغضب لو لا الشهوة، و لا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب. 

  • و بالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل و المرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين، و حاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم‌۱، و لا يظلم ربك أحدا٢ و هو القائل: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: «آل عمران: ١٩٥» و قد أشار إلى هذا الالتيام و البعضية بقوله في الآية: {بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ}

  • و قال أيضا: {وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: «الروم: ٢١» فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإنسان (و هو الرجل بقرينة المقابلة) بالانتشار و هو السعي في طلب المعاش، و إليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة و الشدة حتى ما في المغالبات و الغزوات و الغارات و لو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر و آخر يفر. 

  • لكن الله سبحانه خلق النساء و جهزهن بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال و جعل بينهم مودة و رحمة فاجتذبن الرجال بالجمال و الدلال و المودة و الرحمة، فالنساء هن الركن الأول و العامل الجوهري للاجتماع الإنساني. 

  • و من هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزلي و هو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىَ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: «الحجرات: ١٣»، فبدأ بأمر ازدواج الذكر و الأنثى 

    1.  سورة النور: ٥٠
    2.  سورة الكهف: ٤٩.

تفسير الميزان ج٤

217
  • و ظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب و القبائل. 

  • و من ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ} (الآية)، إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعني المعاش أحسن تنظيم، و يصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا، و ليس المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقية في الإسلام و هي القربى و الزلفى من الله سبحانه فإن الإسلام لا يعبأ بشي‌ء من الزيادات الجسمانية التي لا يستفاد منها إلا للحياة المادية و إنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله. 

  • فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذي أوجب تفاوتا في أمر الإرث و ما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة و أما الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت. 

  • (بحث روائي‌)

  • في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه من طرق جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ}

  • أقول: قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد و تجتمع عدة منها في آية، و لا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها و لا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت «إلخ»، مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية، و أعجب منه‌ ما رواه أيضا عن عبد بن حميد و الحاكم عن جابر قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يعودني و أنا مريض فقلت: كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا و نزلت: {يُوصِيكُمُ اَللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}

تفسير الميزان ج٤

218
  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، و لا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، و ترك امرأة له يقال لها: أم كحة و ترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله هذه الآية: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ} ثم قال في أم كحة: {وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ}

  • و فيه أيضا عنهما عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الأنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر.

  • أقول: و كان منه التعصيب‌ و هو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميت ابنا كبيرا يطيق القتال، و قد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة، و ربما وجد شي‌ء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت (عليه السلام) بنفي التعصيب، و أن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص و هم الأولاد و الإخوة من الأبوين أو الأب، و إلى الأب في بعض الصور، و الذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر. 

  • و فيه أخرج الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال: أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و الله ما أدري كيف أصنع بكم؟ و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيكم أخر؟ و ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص! ثم قال ابن عباس: و أيم الله لو قدم من قدم الله و أخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقيل له: و أيها قدم الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله، و كل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالذي قدم كالزوجين و الأم، و الذي أخر كالأخوات و البنات فإذا اجتمع من قدم الله و أخر بدئ بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شي‌ء كان 

تفسير الميزان ج٤

219
  • لهن، و إن لم يبق شي‌ء فلا شي‌ء لهن. 

  • و فيه أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن‌عباس قال: أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في المال نصفا و ثلثا و ربعا؟ إنما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و أربعة أرباع. 

  • و فيه أيضا عنه عن عطاء قال: قلت لابن عباس: إن الناس لا يأخذون بقولي و لا بقولك و لو مت أنا و أنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا. 

  • أقول: و هذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي. 

  • في الكافي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا و نصفا و ثلثا؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضا قال: و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيكم أخر؟ و ما أجد شيئا أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص و أدخل على كل ذي حق حقه فأدخل عليه من عول الفرائض.

  • و أيم الله لو قدم من قدم الله و أخر من أخر الله ما عالت الفريضة، فقال له زفر بن أوس: و أيها قدم و أيها أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله‌، و أما ما أخر الله فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر، فأما التي قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي‌ء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي‌ء، و الأم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي‌ء فهذه الفرائض التي قدم الله عز و جل، و أما التي أخر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر الله، فإذا اجتمع ما قدم الله و ما أخر بدئ بما قدم الله فأعطي حقه كاملا فإن بقي شي‌ء كان لمن أخر و إن لم يبق شي‌ء فلا شي‌ء له، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته. 

تفسير الميزان ج٤

220
  • أقول: و هذا القول من ابن عباس مسبوق بقول علي (عليه السلام) بنفي العول، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليه السلام) كما يأتي. 

  • في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة.

  • أقول: في الصحاح: أن عالج‌ موضع بالبادية به رمل، و قوله (عليه السلام): إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها، و الستة هي السهام المصرح بها في الكتاب و هي: النصف و الثلث و الثلثان و الربع و السدس و الثمن. 

  • و فيه عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لا مقدم لما أخر، و لا مؤخر لما قدم، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدمتم من قدم الله و أخرتم من أخر الله، و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله، و لا عال سهم من فرائض الله، و لا اختلف اثنان في حكم الله، و لا تنازعت الأمة في شي‌ء من أمر الله إلا و عند علي علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم و ما فرطتم فيما قدمت أيديكم، و ما الله بظلام للعبيد، و سيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.

  • أقول: و توضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست: النصف، و الثلثان، و الثلث، و السدس، و الربع، و الثمن، و هذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف و السدسان و الربع في الطبقة الأولى كبنت و أب و أم و زوج فتزيد السهام على الأصل، و كذا الثلثان و السدسان و الربع كبنتين و أبوين و زوج فتتزاحم، و كذلك يجتمع النصف و الثلث و الربع و السدس في الطبقة الثانية كأخت و جدين للأب و الأم و زوجة، و كذا الثلثان و الثلث و الربع و السدس كأختين و جدين و زوج. 

  • فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول، و إن حفظنا فريضة الأبوين و الزوجين و كلالة الأم و هي الثلث و السدس و النصف و الربع و الثمن عن ورود النقص عليها لأن الله عين هذه السهام و لم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت و الأخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت و بخلاف سهام الذكر و الأنثى عند 

تفسير الميزان ج٤

221
  • الوحدة و الكثرة ورد النقص دائما على الأولاد و الإخوة و الأخوات لما مر. 

  • و أما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث و كتب الفقه. 

  • و في الدر المنثور أخرج الحاكم و البيهقي في سننه عن زيد بن ثابت: أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله‌ يقول: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} و أنت تحجبها بأخوين؟ فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة. 

  • أقول: و هو المروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) و إن كان المعروف أن الإخوة جمع الأخ و لا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة. 

  • و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: لا يحجب الأم عن الثلث إلا أخوان أو أربع أخوات لأب و أم أو لأب.

  • أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و أما الإخوة لأم فإنهم يتقربون بالأم و هي بوجودها تمنعهم، و في أخبار الفريقين أن الإخوة يحجبون الأم و لا يرثون لوجود من يتقدم عليهم في الميراث و هو الأبوان فحجب الإخوة الأم مع عدم إرثهم إنما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه، و منه يعلم وجه عدم حجب الإخوة للأم فإنهم ليسوا عالة للأب. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنكم تقرؤن في هذه الآية الوصية قبل الدين، و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قضى بالدين قبل الوصية.

  • أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع و التفاسير. 

  • و في الكافي في معنى الكلالة عن الصادق (عليه السلام): من ليس بوالد و لا ولد

  • و فيه عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} (الآية)، إنما عنى بذلك الإخوة و الأخوات من الأم خاصة

  • أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و قد رواها أهل السنة، و قد استفاضت الروايات بذلك و أن حكم كلالة الأب و الأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاَلَةِ} (الآية). 

تفسير الميزان ج٤

222
  • و من الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد، و من المستفاد من سياق الآيات و ذكر الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن، و الكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الأم و الأب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب و الأم يسري إليهم فيترجح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الأم و يكشف بذلك أن القليل لكلالة الأم و الكثير لغيره. 

  • و في المعاني بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأن المرأة إذا تزوجت أخذت و الرجل يعطي فلذلك وفر على الرجال و علة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك، و ذلك قول الله عز و جل: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

  • و في الكافي بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا و يأخذ الرجال سهمين؟ 

  • فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد، و لا نفقة، و لا معقلة، فإنما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهما واحدا، و للرجل سهمين. 

  • أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و قد مر دلالة الكتاب أيضا على ذلك. 

  • بحث علمي في فصول‌ 

  • ١ ظهور الإرث

  • كان الإرث أعني تملك بعض الأحياء المال الذي تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنساني، و قد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الأمم و الملل الحصول على مبدإ حصوله، و من طبيعة الأمر أيضا ذلك فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الإنسان الاجتماعية أن المال و خاصة لو كان مما لا يد عليه يحن 

تفسير الميزان ج٤

223
  • إليه الإنسان و يتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه، و حيازته و خاصة فيما لا مانع عنه من دءوبه الأولية القديمة، و الإنسان في ما كونه من مجتمعة همجيا أو مدنيا لا يستغني عن اعتبار القرب و الولاية (المنتجين للأقربية و الأولوية) بين أفراد المجتمع الاعتبار الذي عليه المدار في تشكل البيت و البطن و العشيرة و القبيلة و نحو ذلك، فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه و الرحم برحمه، و الصديق بصديقه، و المولى بعبده، و أحد الزوجين بالآخر، و الرئيس بمرؤوسه حتى القوي بالضعيف، و إن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله يد الضبط. 

  • و لازم هذين الأمرين كون الإرث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية. 

  • ٢ تحول الإرث تدريجيا

  • لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية تتحول من حال إلى حال و تلعب بها يد التطور و التكامل منذ أول ظهورها غير أن الأمم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولا يفيد وثوقا به. 

  • و القدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء و الضعفاء الإرث، و إنما كان يختص بالأقوياء و ليس إلا لأنهم كانوا يعاملون مع النساء و الضعفاء من العبيد و الصغار معاملة الحيوان المسخر و السلع و الأمتعة التي ليس لها إلا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان‌ و ما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التي لا تتجاوز النوع الإنساني. 

  • و مع ذلك كان يختلف مصداق القوي في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، و تارة رئيس البيت، و تارة أخرى أشجع القوم و أشدهم بأسا، و كان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الإرث تغيرا جوهريا. 

  • و لكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير و التبدل حتى أن الملل المتمدنة التي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم و اليونان، و ما عمر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الأمم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الإرث الإسلامية فقد حكمت في الأمم الإسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرنا. 

تفسير الميزان ج٤

224
  • ٣ الوراثة بين الأمم المتمدنة

  • من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام و يصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية، فكان يستقل في الأمر و النهي و الجزاء و السياسة و نحو ذلك. 

  • و كان رب البيت هو معبودا لأهله من زوجة و أولاد و عبيد، و كان هو المالك من بينهم و لا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت، و كان هو الولي عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم، و كان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه. 

  • و إذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا و أذن لها رب البيت أو بعض الأقارب فإنما كان يرثه‌ رب البيت لأنه مقتضى ربوبيته و ملكه المطلق للبيت و أهله. 

  • و إذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك و ورثه الأبناء فإن انفصلوا و أسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها و إن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد (أخيهم مثلا) هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته و ولايته المطلقة. 

  • و كذا كان يرثه الأدعياء لأن الادعاء و التبني كان دائرا عندهم كما بين العرب في الجاهلية. 

  • و أما النساء كالزوجة و البنت و الأم فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت أخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر، و هذا هو الذي ربما ذكره بعضهم فقال: إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية و أظن أن مأخذه شي‌ء آخر غير الملك الاشتراكي فإن الأقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعي و الأراضي الخصبة و حموه لأنفسهم و كانوا يحاربون عليه و يدفعون عن محمياتهم و هذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذي مالكه هيئة المجتمع الإنساني دون أفراده، و هو مع ذلك لا ينفي أن يملك كل فرد من المجتمع شيئا من هذا الملك العام اختصاصا. 

تفسير الميزان ج٤

225
  • و هذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره و الاستدرار منه، و قد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدم، قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً}: «البقرة: ٢٩» فالمجتمع الإنساني و هو المجتمع الإسلامي و من هو تحت ذمته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثم المجتمع الإسلامي هو المالك لما في يده من الثروة و لذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم. 

  • و لهذا النظر آثار و نماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الأجانب شيئا من الأراضي و الأموال غير المنقولة من أوطانهم و نحو ذلك. 

  • و لما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال و تمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف و الممالك المستقلة. 

  • و كان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة الطبيعية و هي الاشتراك في الدم، و كان لازمها منع الازدواج في المحارم و جوازه في غيرهم، و الثاني القرابة الرسمية و هي القانونية و لازمها الإرث و عدمه و النفقة و الولاية و غير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعية و رسمية معا بالنسبة إلى رب البيت و رئيسه و في ما بينهم، أنفسهم و كانت النساء جميعا ذوات قرابة طبيعية لا رسمية فكانت المرأة لا ترث والدها و لا ولدها و لا أخاها و لا بعلها و لا غيرهم. هذه سنة الروم القديم. 

  • و أما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم القديم، و كان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور، و يحرم النساء جميعا من زوجة و بنت و أخت، و يحرم صغار الأولاد و غيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون لإيراث الصغار من أبنائهم و من أحبوها و أشفقوا عليها من زوجاتهم و بناتهم و أخواتهم بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشي‌ء من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها و سيجي‌ء الكلام في أمر الوصية. 

  • و أما الهند و مصر و الصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا 

تفسير الميزان ج٤

226
  • و حرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية و القيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم و اليونان. 

  • و أما الفرس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم و تعدد الزوجات كما تقدم و يرون التبني، و كانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء و ترث كما يرث الابن و الدعي بالسوية و كانت تحرم بقية الزوجات، و البنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت، و التي لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن، فكانت الزوجات غير الكبيرة و البنت المزوجة محرومات، و كانت الزوجة الكبيرة و الابن و الدعي و البنت غير المزوجة بعد مرزوقين. 

  • و أما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا و الصغار من البنين و يمتعون أرشد الأولاد ممن يركب الفرس و يدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة. 

  • هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها و تعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل و رسومهم و الرحلات و كتب الحقوق و أمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها. 

  • و قد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة، و على حرمان الصغار و الأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية و القيمومة الدائمة غير المنقطعة.

  • ٤ ما ذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف؟

  • قد تقدم مرارا أن الإسلام يرى أن الأساس الحق للأحكام و القوانين الإنسانية هو الفطرة التي فطر الناس عليها و لا تبديل لخلق الله، و قد بنى الإرث على أساس الرحم التي هي من الفطرة و الخلقة الثابتة، و قد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول تعالى: {وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ}: «الأحزاب: ٥». 

  • ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث و أفردها عنوانا مستقلا يعطى به و يؤخذ و إن كانوا يسمون التملك من جهة الإيصاء إرثا، و ليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية 

تفسير الميزان ج٤

227
  • فإن لكل من الوصية و الإرث ملاكا آخر و أصلا فطريا مستقلا، فملاك الإرث هو الرحم و لا نفوذ لإرادة المتوفى فيها أصلا، و ملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته (و إن شئت قل: حين ما يوصي) في ما يملكه في حياته و احترام مشيته، فلو أدخلت الوصية في الإرث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية. 

  • و أما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الإرث أحد الأمرين‌، إما الرحم و إما احترام إرادة الميت بل حقيقة الأمر أنهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة و هي إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذي كان فيه تحت يد رئيس البيت و ربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت و يشفق عليه فكان الإرث على أي حال يبتني على احترام الإرادة و لو كان مبتنيا على أصل الرحم و اشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه، و حرم كثير من المرزوقين. 

  • ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الإرث و عنده في ذلك أصلان جوهريان: 

  • أصل الرحم و هو العنصر المشترك بين الإنسان و أقربائه لا يختلف فيه الذكور و الإناث و الكبار و الصغار حتى الأجنة في بطون أمهاتهم و إن كان مختلف الأثر في التقدم و التأخر، و منع البعض للبعض من جهة قوته و ضعفه بالقرب من الإنسان و البعد منه، و انتفاء الوسائط و تحققها قليلا أو كثيرا كالولد و الأخ و العم، و هذا الأصل يقضي باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدمة و المتأخرة. 

  • و أصل اختلاف الذكر و الأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقل و الإحساسات، فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر العواطف و الإحساسات اللطيفة الرقيقة، و هذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك، و صرفه في الحوائج، و هذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل و المرأة و إن وقعا في طبقة واحدة كالابن و البنت، و الأخ و الأخت في الجملة على ما سنبينه. 

  • و استنتج من الأصل الأول ترتب الطبقات بحسب القرب و البعد من الميت‌ لفقدان الوسائط و قلتها و كثرتها فالطبقة الأولى هي التي تتقرب من الميت بلا واسطة و هي الابن و البنت و الأب و الأم، و الثانية الأخ و الأخت و الجد و الجدة و هي تتقرب من 

تفسير الميزان ج٤

228
  • الميت بواسطة واحدة و هي الأب أو الأم أو هما معا، و الثالثة العم و العمة و الخال و الخالة، و هي تتقرب إلى الميت بواسطتين. 

  • و هما أب الميت أو أمه و جده أو جدته، و على هذا القياس، و الأولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم و يمنعون الطبقة اللاحقة و روعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة و لا يمنعان طبقة. 

  • ثم استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر و الأنثى في غير الأم و الكلالة المتقربة بالأم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين. 

  • و السهام الستة المفروضة في الإسلام (النصف و الثلثان و الثلث و الربع و السدس و الثمن) و إن اختلفت، و كذا المال الذي ينتهي إلى أحد الوراث و إن تخلف عن فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد و كذا الأب و الأم و كلالة الأم و إن تخلفت فرائضهم عن قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» و لذلك يعسر البحث الكلي الجامع في باب الإرث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر و استخلاف الطبقة المولدة و هم الآباء و الأمهات للطبقة المتولدة و هم الأولاد، و الفريضة الإسلامية في كل من القبيلين أعني الأزواج و الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. 

  • و ينتج هذا النظر الكلي أن الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث و الثلثين فللأنثى ثلث و للذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج و يأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف و يعطي للمرأة استقلال الإرادة و العمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه، و هذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثي ثروة الدنيا (الثلث الذي تملكها و نصف الثلثين الذين يملكهما الرجل) و ليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث.

  • ٥ علام استقر حال النساء و اليتامى في الإسلام

  • أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الأقوياء، و يربون و ينمي أموالهم تحت ولاية الأولياء كالأب و الجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الإسلامية حتى إذا بلغوا النكاح و أونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم و استووا على مستوى الحياة المستقلة، و هذا أعدل السنن المتصورة في حقهم. 

تفسير الميزان ج٤

229
  • و أما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا و يتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان، و هن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة و لا موقتة و لا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف. 

  • فالمرأة في الإسلام ذات شخصية تساوي شخصية الرجل في حرية الإرادة و العمل من جميع الجهات، و لا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية و هي أن لها حياة إحساسية و حياة الرجل‌ تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الإحساس و العاطفة، و تدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف، و شرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة و تدورك ذلك بالصداق، و حرمت القضاء و الحكومة و المباشرة للقتال لكونها أمورا يجب بناؤها على التعقل دون الإحساس، و تدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن و الدفاع عن حريمهن على الرجال، و وضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق و الإنفاق عليها و على الأولاد و على الوالدين و لها حق حضانة الأولاد من غير إيجاب، و قد عدل جميع هذه الأحكام بأمور أخرى دعين إليها كالتحجب و قلة مخالطة الرجال و تدبير المنزل و تربية الأولاد. 

  • و قد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع و القضاء و الحكومة للعاطفة و الإحساس و وضع زمامها في يدها، النتائج المرة التي يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الإحساس على التعقل في عصرنا الحاضر، و أنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التي هي من هدايا المدنية الحاضرة، و في الأوضاع العامة الحاكمة على الدنيا، و عرض هذه الحوادث على العقل و الإحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الإغراء و ما إليه النصح و الله الهادي. 

  • على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا و لم يقصروا حرصا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صف واحد، و إخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل، و أنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة و رجال القضاء و التقنين و زعماء الحروب و قوادها (و هي الخلال الثلاث المذكورة: الحكومة، القضاء القتال) لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء و لا عددا يقبل المقايسة إلى المئات و الألوف من الرجال، و هذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد 

تفسير الميزان ج٤

230
  • و النماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل و كلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة و خسرانا. 

  • و هذا و أمثاله من أقطع الأجوبة للنظرية المشهورة القائلة إن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الإنساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الإنسانية، و لو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الإحساسات و العواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال. 

  • و هذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الأمور إلى قوة التعقل و تسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة و القضاء، و تقدم من يزيد عليهن في ذلك و هم الرجال فإن التجارب القطعية تفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد و المآرب، و لازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة و القضاء و يمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها، و أن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة و يرتبط بها من الأمور كبعض شعب صناعة الطب و التصوير و الموسيقى و النسج و الطبخ و تربية الأطفال و تمريض المرضى و أبواب الزينة و نحو ذلك، و يتساوى القبيلان فيما سوى ذلك. 

  • على أن تأخرهن فيما ذكر من الأمور لو كان مستندا إلى الاتفاق و الصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة التي عاش فيها المجتمع الإنساني و قد خمنوها بملايين من السنين‌ كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الأمور المختصة بالنساء كذلك و لو صح لنا أن نعد الأمور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم و خاصة إذا ناسبت أمورا داخلية في البنية الإنسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الإنسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية و الحضارة، و حبه للعلم، و بحثه عن أسرار الحوادث و نحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع و في بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الأمور الكمالية المستظرفة و تأخرهن في الأمور التعقلية و الأمور الهائلة و الصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن، و كذلك تقدم الرجال و تأخرهم في عكس ذلك. 

  • فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال و كمال 

تفسير الميزان ج٤

231
  • الإحساس و التعطف إليهن، و ليس في محله فإن التعقل و الإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الإنسان لمآرب إلهية حقة في حياته لا مزية لإحداهما على الأخرى و لا كرامة إلا للتقوى، و أما الكمالات الأخر كائنة ما كانت فإنما تنمو و تربو إذا وقعت في صراطه و إلا لم تعد إلا أوزارا سيئة.

  • ٦ قوانين الإرث الحديثة

  • هذه القوانين و السنن و إن خالفت قانون الإرث الإسلامي كما و كيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها و استقرارها بالسنة الإسلامية في الإرث فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا و بين موقفهن من الفرق. 

  • فقد كان الإسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه و لا قرعت أسماع الناس بمثله، و لا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين و آبائهم الأولين، و أما هذه القوانين فإنها أبديت و كلف بها أمم حينما كانت استقرت سنة الإسلام في الإرث بين الأمم الإسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون، و من البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الأمور في الخارج ثم ثبوتها و استقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها و كل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الأولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدمها من الإرث الإسلامي و تحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا. 

  • و من أغرب الكلام ما ربما يقال قاتل الله عصبية الجاهلية الأولى: أن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة، و أنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الإرث، و ما قدمته السنة الإسلامية إلى المجتمع البشري و أن السنة الإسلامية متوسطة في الظهور و الجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة و بين القوانين الغربية الحديثة و كانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين و مئات الملايين من النفوس الإنسانية قرونا متوالية متطاولة، و من المحال أن تبقى سدى و على جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين. 

  • و أغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الإرث الإسلامي مأخوذ من الإرث الرومي القديم!

تفسير الميزان ج٤

232
  • و بالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية و إن اختلفت في بعض الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالبنات و البنون سواء، و الأمهات و الآباء سواء في السهام و هكذا. 

  • و قد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو: (١) البنون و البنات (٢) الآباء و الأمهات و الإخوة و الأخوات (٣) الأجداد و الجدات (٤) الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات، و قد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات و بنوها على أساس المحبة و العلقة القلبية و لا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك و تفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها. 

  • و الذي يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية و هي اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذي تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالي في شي‌ء من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها، و عاد بذلك المال منصفا بين الرجل و المرأة ملكا، و تحت ولاية الرجل تدبيرا و إدارة! و هناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال و إخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن و لو وفقوا لما يريدون كانت الرجال و النساء متساويين من حيث الملك و من حيث ولاية التدبير و التصرف. 

  • ٧ مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض

  • و نحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الأمم الماضية و قرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض و القضاء على كل منها بالتمام و النقص و نفعه للمجتمع الإنساني و ضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الإسلام إليها و القضاء بما يجب أن يقضى به. 

  • و الفرق الجوهري بين السنة الإسلامية و السنن غيرها في الغاية و الغرض، فغرض الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها، و غرض غيره أن تنال ما تشتهيها، و على هذين الأصلين يتفرع ما يتفرع من الروع قال تعالى: {وَ عَسى‌ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‌ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}: «البقرة: ٢١٦»٨٢٠٠، و قال تعالى: {وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‌ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}: «النساء: ١٩». 

تفسير الميزان ج٤

233
  • ٨ الوصية

  • قد تقدم أن الإسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة و أفردها عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل و هو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته، و قد كانت الوصية بين الأمم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصي ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالأب و رئيس البيت و لذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها و يسد بنحو هذا الطريق المؤدي إلى إبطال حكم الإرث و لا يزال يجري الأمر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم. 

  • و قد حدها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهي غير نافذة في الزائد عليه، و قد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان، و لذلك كان الإسلام يحث عليها و القوانين تردع عنها أو هي ساكتة. 

  • و الذي يفيده التدبر في آيات الوصية و الصدقات و الزكاة و الخمس و مطلق الإنفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال و الثلثان من منافعها للخيرات و المبرات و حوائج طبقة الفقراء و المساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع، و يرتفع الفواصل البعيدة من بينهم، و تقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين، و لتفصيل هذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى‌.

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ١٥ الی ١٦]

  • {وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ١٥ وَ اَلَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اَللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً ١٦} 

  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى{وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ} إلى قوله: {مِنْكُمْ} يقال‌: أتاه و أتى به‌ 

تفسير الميزان ج٤

234
  • أي فعله، و الفاحشة من الفحش و هو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة، و قد شاع استعمالها في الزنا، و قد أطلقت في القرآن على‌ اللواط أو عليه و على السحق معا في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعَالَمِينَ}: «العنكبوت: ٢٨». 

  • و الظاهر أن المراد بها هاهنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين، و رووا: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكر عند نزول آية الجلد أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين‌، و يشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}، و لم ينقل إن السحق نسخ حده بشي‌ء آخر، و لا أن هذا الحد أجري على أحد من اللاتي يأتينه و قوله: {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}، يشهد بأن العدد من الرجال. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ} إلى آخر الآية رتب الإمساك‌ و هو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة و إن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود و هو من منن الله سبحانه على الأمة من حيث السماحة و الإغماض. 

  • و الحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ}، غير أنه لم يعبر عنه بالحبس و السجن بل بالإمساك لهن في البيوت، و هذا أيضا من واضح التسهيل و السماحة بالإغماض، و قوله: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}، أي طريقا إلى التخلص من الإمساك الدائم و النجاة منه. 

  • و في الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم، و هكذا كان فإن‌١٤٠٠حكم الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي ص و المعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الإمساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد و السبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}، الآيتان متناسبتان مضمونا و الضمير في قوله: {يَأْتِيَانِهَا}، راجع إلى الفاحشة قطعا، و هذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا، و على ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الأولى فإن الأولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم، و الثانية تبين الحكم فيهما معا و هو الإيذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني و الزانية معا و هو إيذاؤهما و إمساك النساء في البيوت. 

تفسير الميزان ج٤

235
  • لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد: {فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}، فإنه لا يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال: إن المراد بالإعراض الإعراض عن الإيذاء دون الحبس فهو بحاله. 

  • و لهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات (و سننقلها) إن الآية الأولى لبيان حكم الزنا في الثيب، و الثانية مسوقة لحكم الأبكار و أن المراد بالإيذاء هو الحبس في الأبكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة و الإصلاح، لكن يبقى أولا الوجه في تخصيص الأولى بالثيبات و الثانية بالأبكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ، و ثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الأولى، و ذكرهما معا في الآية الثانية: {وَ اَلَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ}

  • و قد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الأولى لبيان حكم السحق بين النساء، و الآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال، و الآيتان غير منسوختين. 

  • و فساده ظاهر: أما في الآية الأولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله: {وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}، و أما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد في اللواط القتل، و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول‌، و هذا إما حكم ابتدائي غير منسوخ، و إما حكم ناسخ لحكم الآية، و على أي حال يبطل قوله. 

  • و من الممكن: أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين، و القرائن المحفوف بها الكلام، و ما تقدم من الإشكال فيما ذكروه من المعنى و الله أعلم: إن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج، و يدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال، و إطلاق النساء على الأزواج شائع في اللسان و خاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله: نسائكم، قال تعالى: {وَ آتُوا اَلنِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}: «النساء: ٤» و قال تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اَللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}: «النساء: ٢٣». 

  • و على هذا فقد كان الحكم الأولي المؤجل لهن الإمساك في البيوت ثم شرع لهن الرجم، و ليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائي فإن السنخ إنما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد، و هذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل 

تفسير الميزان ج٤

236
  • سينقطع بانقطاعه و هو قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اَللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} لظهوره في أن هناك حكما سيطلع عليهن، و لو سمي هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مبين لمرادات القرآن الكريم. 

  • و الآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان و هو الإيذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك، و الآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور، و أما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الأبكار فمن الآحاد و هي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالإرسال، و الله أعلم هذا و لا يخلو مع ذلك من وهن‌۱

  • قوله تعالى{فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}«إلخ» تقييد التوبة بالإصلاح لتحقيق حقيقة التوبة، و تبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة. 

  • بحث روائي 

  • في الصافي عن تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ اَللاَّتِي يَأْتِينَ اَلْفَاحِشَةَ} (الآية) هي منسوخة، و السبيل هي الحدود. 

  • و فيه عن الباقر (عليه السلام): سئل عن هذه الآية فقال: هي منسوخة، قيل: كيف كانت؟ قال: كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتا و لم تحدث، و لم تكلم، و لم تجالس، و أوتيت بطعامها و شرابها حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا، قال: جعل السبيل الجلد و الرجم. قيل: قوله: و اللذان يأتيانها منكم؟ قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب، فآذوهما؟ قال تحبس. الحديث.

  • أقول: القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الإسلام الإمساك في البيوت حتى الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و غيرهم، و نقل عن السدي أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات، و الإيذاء الواقع في الآية الثانية كان حكما للجواري و الفتيان الذين لم ينكحوا، و قد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام‌ 

    1.  فإن إشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ (منه) 

تفسير الميزان ج٤

237
  • [سورة النساء (٤): الآیات ١٧ الی ١٨] 

  • {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ١٧ وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ١٨} 

  • (بيان) 

  • مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنه ما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك، و هاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه، و هو إحدى الحقائق العالية الإسلامية و التعاليم الراقية القرآنية، و هي حقيقة التوبة و شأنها و حكمها. 

  • قوله تعالى{إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} التوبة هي الرجوع، و هي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة و الانصراف عن الإعراض عن العبودية، و رجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه، و قد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم. 

  • و ذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة و الحسنات من الله، و القوة لله جميعا فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة و يتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد و الرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة و الرجوع احتاج في التطهر من هذه الألواث، و زوال هذه القذارات، و الورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة و الحنان و العفو و المغفرة. 

تفسير الميزان ج٤

238
  • و هذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد و رجوعه قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}: «التوبة: ١١٨» و هذه هي التوبة الأولى، و قال تعالى: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}: «البقرة: ١٦٠» و هذه هي التوبة الثانية، و بين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت. 

  • و أما قوله: {عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ}، لفظة على و اللام تفيدان معنى النفع و الضرر كما في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو، و كان السباق لفلان على فلان، و وجه إفادة على و اللام‌ معنى الضرر و النفع أن على تفيد معنى الاستعلاء، و اللام معنى الملك و الاستحقاق، و لازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما و يتضرر بها الآخر كالحرب و القتال و النزاع و نحوها فيكون أحدهما الغالب و الآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك و على المغلوب معنى الاستعلاء، و كذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر و المؤثر، و معنى العهد و الوعد بين المتعهد و المتعهد له، و الواعد و الموعود له و هكذا، فظهر أن كون على و اللام لمعنى الضرر و النفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ. 

  • و لما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال هاهنا: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ} فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر، تعالى عن ذلك و تقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم و هو لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب، و هو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل. 

  • و ظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد و إن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد، و هذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح. 

  • و ثانيا: أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك و الكفر بالإيمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإن القرآن يسمي الأمرين جميعا بالتوبة قال 

تفسير الميزان ج٤

239
  • تعالى: {اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}: «المؤمن: ٧» يريد: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بقرينة أول الكلام فسمى الإيمان توبة، و قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ}: «التوبة: ١١٨». 

  • و الدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية: و ليست التوبة «إلخ» فإنها تتعرض لحال الكافر و المؤمن معا، و على هذا فالمراد بقوله: {يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ} ما يعم حال المؤمن و الكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لأن الكفر من عمل القلب، و العمل أعم من عمل القلب و الجوارح، أو لأن الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين {يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الكافر و الفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية. 

  • و أما قوله تعالى: {بِجَهَالَةٍ}فالجهل‌ يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم و إرادة، و أن الإرادة إنما تكون عن حب ما و شوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاءفأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني و داعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم، و غاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن و القبيح و الممدوح و المذموم، و ظهر عليه الهوى و عندئذ يسمى حاله في علمه و إرادته «جهالة» في عرفهم و إن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل و ذمه في ردعه عن الوقوع في القبح و الشناعة ألحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى إنهم يسمون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى و ظهور العواطف و الإحساسات النيئة على نفسه، و لذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى و العاطفة جهالة بل يسمونها عنادا و عمدا و غير ذلك. 

  • فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و الغضب من غير عناد مع الحق، و من خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو 

تفسير الميزان ج٤

240
  • بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شي‌ء من القوى و العواطف و الأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. 

  • نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده و لجاجه و استعلائه على الحق فيتواضع للحق و يدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة، و في الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان، و على هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة و العافية. 

  • و من هنا يظهر معنى قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى و العمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب و هو قبل ظهور آيات الآخرة و قدوم الموت. 

  • و كل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله و وبال فعله ألزمته نفسه على الندامة و التبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه و هداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل، و الدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الأعمال قال تعالى: {وَ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: «الأنعام: ٢٨». 

  • و الدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية: {وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ} إلى قوله: {قَالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ}

  • و على هذا يكون قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} كناية عن‌ المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة. 

  • و يتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله: {بِجَهَالَةٍ}، و قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد و استعلاء على الله، و بالثاني منهما 

تفسير الميزان ج٤

241
  • أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلا و توانيا و مماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع، و لا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار و موطن الطاعة و المعصية، و مع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية، قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}«الأنعام ١٥٨» و قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْكَافِرُونَ}: «المؤمن: ٨٥» إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و بالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع و التذلل لله، و لم يتساهل و يتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت. 

  • و يمكن أن يكون قوله: {بِجَهَالَةٍ} قيدا توضيحيا، و يكون المعنى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ} و لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس و تعرض لعذاب أليم، أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية و ما يترتب عليها من المحذور، و لازمه كون قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من‌ يأتي بالمعصية استكبارا و لا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} لا بقوله: {بِجَهَالَةٍ} و على هذا لا يمكن الكناية بقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ} عن التساهل و التواني فافهم ذلك، و لعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية. 

  • و قد ذكر بعضهم: أن المراد بقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر. 

  • و هو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ} إلخ و الآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة، و لم يذكر في 

تفسير الميزان ج٤

242
  • الآية إلا موردان هما التوبة للمسي‌ء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت، و التوبة للكافر بعد الموت، و لو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم تذكر في الآية. 

  • قوله تعالى{فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم و تعظيم أمرهم كما يدل قوله: {يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ} على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية لثانية: {وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} إلخ. 

  • و قد اختير لختم الكلام قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} دون أن يقال: و كان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد و ما يؤديهم إليه ضعفهم و جهالتهم، و لحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام و إصلاح الأمور و هو تعالى لعلمه و حكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب، و لا يستزله مكر و لا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة. 

  • قوله تعالى{وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} إلخ في عدم إعادة قوله: {عَلَى اَللَّهِ} مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة و العناية الإلهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم و حفظها عليهم كما تقدمت الإشارة إليه. 

  • و تقييد قوله: {يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ} بقوله: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ} المفيد لاستمرار الفعل إما لأن المساهلة في المبادرة إلى التوبة و تسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة، أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل، أو لأن المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها. 

  • و في قوله: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ} دون أن يقال: حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالأمر و الاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه و يختاروا ما يشاءونه و لا يبالون و كلما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب و مهلكة 

تفسير الميزان ج٤

243
  • مخالفة الأمر الإلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر. 

  • و من هنا يظهر معنى تقييد قوله: {قَالَ إِنِّي تُبْتُ} بقوله: {اَلْآنَ} فإنه يفيد أن حضور الموت و مشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى: إني تائب لما شاهدت الموت الحق و الجزاء الحق، و قد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة: {وَ لَوْ تَرى‌َ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}: «السجدة: ١٢». 

  • فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأن اليأس من الحياة الدنيا و هول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله و يعزم على الرجوع إلى ربه و لات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية و لا خيرة عملية. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ} هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة و هو الإنسان يتمادى في الكفر ثم يموت و هو كافر فإن الله لا يتوب عليه فإن إيمانه و هو توبته لا ينفعه يومئذ، و قد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت، و أنهم لا يجابون و إن سألوا، قال تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذَابُ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} البقرة: ١٦٢، و قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ‌ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ اِفْتَدى‌َ بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: آل عمران: ٩١، و نفي‌ الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب. 

  • و تقييد الجملة بقوله: {وَ هُمْ كُفَّارٌ} يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار و لا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة و الرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين، و هذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع. 

تفسير الميزان ج٤

244
  • قوله تعالى{أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} اسم الإشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب و التشريف، و

  • الاعتاد: و الإعداد أو الوعد.

  • كلام في التوبة [و فيه أبحاث]

  • التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى و عيسى (عليه السلام) لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان. 

  • حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب و الفداء، و قد تقدم نقله فيالكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب. 

  • هذا و قد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه و تعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال و الكرامة و السعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}: فاطر: ١٥، و قال: {وَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاَ نَفْعاً وَ لاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاَ حَيَاةً وَ لاَ نُشُوراً}: الفرقان: ٣. 

  • فهو واقع في مهبط الشقاء و منحط البعد و منعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: التين: ٥، و قوله: {وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلى‌ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}: مريم: ٧٢، و قوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقى‌}: طه ١١٧. 

  • و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء و منحط البعد و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربه، 

تفسير الميزان ج٤

245
  • و هو توبته إليه في أصل السعادة و هو الإيمان، و في كل سعادة فرعية و هي كل عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء و هو الشرك بالله سبحانه، و عن فروعات الشقاء و هي سيئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله و الانخلاع عن ألواث البعد و الشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان، و التنعم بأقسام نعم الطاعات و القربات، و بعبارة أخرى يتوقف القرب من الله و دار كرامته على التوبة من الشرك و من كل معصية، قال تعالى: {وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: النور: ٣١، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما و غيرهما على ما سيجي‌ء إن شاء الله. 

  • ثم إن الإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا و لا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره، و إعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية و المسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق و الإعانة، و هو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}: التوبة: ١١٨، و كذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد، و هذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} (الآية). 

  • و إذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، و إلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها و بعدها، و ربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله: {وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ}، و أن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة و من هذا الباب قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً}۱

  • و كذلك القرب و البعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه و مراحله إلى بعض، و يصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}: البقرة: ٣٧، و قوله تعالى: {وَ إِذْ يَرْفَعُ

  •  

    1. سورة النساء: آية ٢٧ 

تفسير الميزان ج٤

246
  • إِبْرَاهِيمُ اَلْقَوَاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمَاعِيلُ} إلى قوله: {وَ تُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ}: البقرة: ١٢٨، و قوله تعالى: حكاية عن موسى (عليه السلام): {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ}: الأعراف: ١٤٣، و قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكَارِ} المؤمن: ٥٥، و قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اَللَّهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اَلْعُسْرَةِ}: التوبة: ١١٧. 

  • و هذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: {غَافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قَابِلِ اَلتَّوْبِ}: المؤمن: ٣، و قوله تعالى: {يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}: الشورى: ٢٥، إلى غير ذلك. 

  • فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، و إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه سواء في ذلك الشرك و ما دونه توبة منه تعالى لعبده و أن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه سواء في ذلك الشرك و غيره توبة منه إلى ربه. 

  • و يتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، و تندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك و التوبة عن المعاصي. 

  • و ثانيا: أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة و اللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره، و ليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى: {وَ قَابِلِ اَلتَّوْبِ}«غافر: ٣» و قوله: {وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ}: «النور: ٣١» و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلتَّوَّابِينَ} (الآية): «البقرة: ٢٢٢» و قوله: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ} (الآية) من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، و النادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار و الإنابة و غيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و الله سبحانه لا يخلف الميعاد. 

  • و من هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد و يرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: 

تفسير الميزان ج٤

247
  • «آل عمران: ٩٠» و يمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}: «النساء: ١٣٧». 

  • و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون و توبته‌ {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ}: «يونس: ٩١». 

  • قال ما محصله: أن الآية لا تدل على رد توبته، و ليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الأبدي، و أنه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله و سبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذللا مستكينا بالخيبة و اليأس، و الواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم و الجود و الرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين. 

  • و هو مدفوع بقوله تعالى: {وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ} (الآية)، و قد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب و نزول البلاء. 

  • و لو كان كل ندم توبة و كل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة: {وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ}: «سبأ: ٣٣» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا و سؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، و الرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون. 

  • و إياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق، و ذلك أن البحث في باب السعادة و الشقاء و الصلاح و الطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الإنسان العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم و التربية في الإنسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح و الطلاح الاجتماعيين قابلا للأمرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح، و يتلبس بلباس التقوى‌ الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من 

تفسير الميزان ج٤

248
  • الحال الذي فيه، و ذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه و انصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال و قيد التثبط و الإهمال و هو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد و وصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال و نور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح و الطلاح معا، و هذا يحاذي قبول التوبة و المغفرة فيما نحن فيه و كذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام و الآثار جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. 

  • و ثالثا: أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة و غيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها و إعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة أخرى التوبة إنما تنفع إذا نفعت في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى و الأخرى و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، و أما الأحكام الشرعية و القوانين الدينية فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية. 

  • نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، و هذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى: {وَ اَلَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَ أَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اَللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً}: «النساء: ١٦»، و قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ اَلَّذِينَ يُحَارِبُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: «المائدة: ٣٤» إلى غير ذلك. 

  • و رابعا: أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى: {وَ تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: «النور: ٣١»، و من فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد و الركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف و الرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ 

تفسير الميزان ج٤

249
  • لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‌َ رَبِّكُمْ}: «الزمر: ٥٤»، و لا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته‌ على نشاط من الروح الفعالة و جد في العزيمة و السعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيب سعيه و يبطل أمنيته استولى عليه اليأس و انسلت به أركان عمله و ربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى. 

  • و من هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراء بالمعصية، و تحريصا على ترك الطاعة، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب. 

  • وجه سقوطه: أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الذي يأتي به، و الدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية، و لا معنى للندامة (أعني التوبة) قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل و التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا و خديعة يخدع بها رب العالمين‌، و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. 

  • و خامسا: أن المعصية و هي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيئ في حياته لا يتاب منها و لا يرجع عنها إلا مع العلم و الإيقان بمساءتها، و لا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا، و الندم‌ تأثر خاص باطني من فعل السيئ. و يتوقف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع و التوبة ثانيا. 

  • و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم و الاستغفار و التلبس بالعمل الصالح، و الانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار، و تعرض له كتب الأخلاق. 

تفسير الميزان ج٤

250
  • و سادسا: أن التوبة و هي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة و العبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار و هو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار، و أما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح و الطلاح و السعادة و الشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، و قد تقدم ما يتضح به ذلك. 

  • و من هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه، و أما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عد التعدي إلى أحدهم في شي‌ء من ذلك ظلما و عدوانا، و حاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك، و قد قال عز من قائل: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً}: «يونس: ٤٤». 

  • إلا أن الإسلام و هو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة و تبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه‌ قوله (عليه السلام): الإسلام يجب ما قبله‌، و به تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‌َ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ}: الزمر: ٥٤. 

  • و من هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق و قد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لأن العاصي أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها، و لا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربه عز اسمه. 

  • و سابعا: أن التوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى‌َ فَلَهُ‌ مَا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللَّهِ}: البقرة: ٢٧٥ على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اَللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تَابَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللَّهِ مَتَاباً}: الفرقان: ٧١، و خاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان و العمل الصالح توجب تبدل السيئات 

تفسير الميزان ج٤

251
  • حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي و عثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الآيات): الحجر: ٤٢، و قال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة: {وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}: الأعراف: ١٧. 

  • فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.

  • (بحث روائي‌) 

  • في الفقيه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: إن السنة لكثيرة و من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: و إن الشهر لكثير و من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: و إن اليوم لكثير و من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: و إن الساعة لكثيرة من تاب و قد بلغت نفسه هذه و أهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه. 

  • و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل {وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ} قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة.

  • أقول: الرواية الأولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق (عليه السلام)، و هي مروية من طرق أهل السنة و في معناها روايات أخر. 

  • و الرواية الثانية تفسر الآية و تفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به و مشاهدة آيات الآخرة و لا توبة عندئذ، و أما الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته، و نظيرها بعض ما يأتي من الروايات. 

  • و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا بلغت النفس هذه 

تفسير الميزان ج٤

252
  • و أهوى بيده إلى حنجرته لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و البخاري في التاريخ و الحاكم و ابن مردويه عن أبي ذر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله‌ يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل و ما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس و هي مشركة. 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: و عزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح فقال الله تبارك و تعالى: و عزتي لا أحول بينه و بين التوبة ما دام الروح فيه. 

  • و في الكافي عن علي الأحمسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و الله ما ينجو من الذنوب إلا من أقر بها، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام): كفى بالندم توبة. 

  • و فيه بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه فقلت: و كيف يستر عليه؟ قال، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ثم يوحي الله إلى جوارحه و إلى بقاع الأرض: أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه و ليس شي‌ء يشهد عليه بشي‌ء من الذنوب. 

  • و فيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أما و الله إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه و يتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل‌ ذلك مرارا يذنب ثم يتوب و يستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، و إن الله غفور رحيم يقبل التوبة، و يعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله. 

  • و في تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى‌َ} قال: لهذه الآية تفسير يدل على ذلك التفسير أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين و قال: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ} يعني كل ذنب عمله العبد و إن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، و قد قال في ذلك 

تفسير الميزان ج٤

253
  • يحكي قول يوسف لإخوته {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

  • أقول: و الرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن و الظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفى به العبد و لم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية على الذنب و لو حينا. و قوله: و قال: {إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ}«إلخ» كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله: {بِجَهَالَةٍ} قيد توضيحي، و أن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم، و قد روي هذا الذيل في المجمع أيضا عنه (عليه السلام).

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ١٩ الی ٢٢ ] 

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسَاءَ كَرْهاً وَ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‌ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ١٩ وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ٢٠وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضىَ بَعْضُكُمْ إِلى‌ بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ٢١ وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ سَاءَ سَبِيلاً ٢٢

  • (بيان‌)

  • رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن و الآيات مع ذلك مشتملة على قوله: {وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسىَ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ 

تفسير الميزان ج٤

254
  • فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية. 

  • قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} إلى قوله: {كَرْهاً} كان أهل الجاهلية على ما في التاريخ و الرواية يعدون نساء الموتى من التركة إذا لم تكن المرأة أما للوارث فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على زوجة الميت و يرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة و إن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرها، و إن شاء عضلها و منعها النكاح و حبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال. 

  • و الآية و إن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم، و هي التي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين إلا أن قوله في ذيل الجملة: {كَرْهاً} لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو احترازيا. 

  • فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء و ليس كذلك، و هو ظاهر، و لو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن، و ليس كذلك. 

  • نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا بعد القبض عليهن بالإرث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره و أما نكاحهن بالإرث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ} (الآية) و أما تزويجهن من الغير و الذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل قوله تعالى: {وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ}: «النساء: ٣٢» و يدل على الجميع قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: «البقرة: ٢٣٤». 

  • و أما قوله بعد: {وَ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا}«إلخ» فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} من الدلالة على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي امتلكته من غير طريق هذا المهر. و بالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة الإرث إلى النساء إنما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازا عقليا. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا} إلى قوله: {مُبَيِّنَةٍ} إما معطوف على 

تفسير الميزان ج٤

255
  • قوله: {تَرِثُوا} و التقدير: و لا أن تعضلوهن و إما نهي معطوف على قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} لكونه في معنى النهي‌. و العضل‌ هو المنع و التضييق و التشديد. و الفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا. و المبينة المتبينة، و قد نقل عن سيبويه أن أبان و استبان و بين و تبين بمعنى واحد، تتعدى و لا تتعدى يقال: أبان الشي‌ء و استبان و بين و تبين و يقال: أبنت الشي‌ء و استبنته و بينته و تبينته. 

  • و الآية تنهى عن التضييق عليهن بشي‌ء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شي‌ء من الصداق لفك عقدة النكاح و التخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها و يضيق عليها لتفارقه بالبذل، و الآية لا تنافي الآية الأخرى في باب البذل: {وَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اَللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اَللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ}: «البقرة: ٢٢٩» و إنما هو التخصيص. تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، و أما البذل الذي في آية البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية. 

  • قوله تعالى{وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} إلى آخر الآية المعروف‌ هو الأمر الذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه و يجهلوه، و حيث قيد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين. 

  • و المعاشرة التي يعرفها الرجال و يتعارفونها بينهم أن‌٠الواحد منهم جزء مقوم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنساني لغرض التعاون و التعاضد العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه و يأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة و ليس إلا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به و لا ينتفع هو بشي‌ء يحاذيه، و هذا هو الاستثناء. 

  • و قد بين الله تعالى في كتابه إن الناس جميعا رجالا و نساء فروع أصل واحد إنساني، و أجزاء و أبعاض لطبيعة واحدة بشرية، و المجتمع في تكونه محتاج 

تفسير الميزان ج٤

256
  • إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى أولئك على حد سواء كما قال تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: النساء: ٢٥». 

  • و لا ينافي ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة و القوة نوعا، و اختصاص النساء بالرقة و العاطفة طبعا فإن الطبيعة الإنسانية في حياتها التكوينية و الاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة و ظهور القوة كما تحتاج إلى سريان المودة و الرحمة، و الخصلتان جميعا مظهرا الجذب و الدفع العامين في المجتمع الإنساني. 

  • فالطائفتان متعادلتان وزنا و أثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن و التأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شئونهم الطبيعية و الاجتماعية من قوة و ضعف، و علم و جهل، و كياسة و بلادة، و صغر و كبر، و رئاسة و مرؤوسية، و مخدومية و خادمية، و شرف و خسة و غير ذلك. 

  • فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير انحراف، و قد قوم الإسلام أود الاجتماع الإنساني و أقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة و هو الذي نعبر عنه بالحرية الاجتماعية، و حرية النساء كالرجال، و حقيقتها أن الإنسان بما هو إنسان ذو فكر و إرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنساني مستقلا في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار. 

  • و هذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء و الحكومة و الجهاد و وجوب نفقتهن على الرجال و غير ذلك، و كحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار و المعاملات و عدم توجه التكاليف إليهم و نحو ذلك فجميع ذلك خصوصيات أحكام تعرض الطبقات و أشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الإنساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع إنسان ذو فكر و إرادة. 

  • و لا تختص هذه المختصات بشريعة الإسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين 

تفسير الميزان ج٤

257
  • المدنية بل في جميع السنن الإنسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها، و الكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى: {وَ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} على ما تبين. 

  • و أما قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‌َ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من تيقظ غريزة التعصب في‌ المخاطب نظير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلىَ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ قُلْ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: «سبأ: ٢٥». 

  • فقد كان المجتمع الإنساني يومئذ (عصر نزول القرآن) لا يوقف النساء في موقفها الإنساني الواقعي، و يكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، و ما يعدهن إنسانا ناقصا في الإنسانية كالصبيان و المجانين إلا أنهن لا يبلغن الإنسانية أبدا فيجب أن يعشن تحت الإتباع و الاستيلاء دائما، و لعل قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ}، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك. 

  • قوله تعالى{وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} إلى آخر الآية، الاستبدال‌ استفعال بمعنى طلب البدل، و كأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال، و لذلك جمع بين قوله‌{أَرَدْتُمُ} و بين قوله: {اِسْتِبْدَالَ} إلخ مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الإرادة و الطلب، و على هذا فالمعنى: {وَ إِنْ أَرَدْتُمُ} أن تقيموا زوجا مقام أخرى بالاستبدال. 

  • و البهتان‌ ما بهت الإنسان أي جعله متحيرا، و يغلب استعماله في الكذب من القول و هو في الأصل مصدر، و قد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الأخذ من المهر، و هو في الآية حال من الأخذ و كذا قوله: {إِثْماً}، و الاستفهام إنكاري. 

  • و المعنى: إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم و تتزوجوا بأخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الذي آتيتموها شيئا و إن كان ما آتيتموها مالا كثيرا، و ما تأخذونه قليلا جدا. 

تفسير الميزان ج٤

258
  • قوله تعالى{وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‌َ بَعْضُكُمْ إِلى‌َ بَعْضٍ} إلى آخر الآية، الاستفهام للتعجيب، و الإفضاء هو الاتصال بالمماسة، و أصله الفضاء بمعنى السعة. 

  • و لما كان هذا الأخذ إنما هو بالبغي و الظلم، و مورده مورد الاتصال و الاتحاد أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الإفضاء و الاقتراب كشخص واحد، و من العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه و يؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضا. 

  • و أما قوله: {وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة التي أبرمها الرجل بالعقد و نحوه، و من لوازمها الصداق الذي يسمى عند النكاح و تستحقه المرأة من الرجل. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح‌ بإحسان على ما ذكره الله تعالى، و ربما قيل: إن المراد به حكم الحلية المجعول شرعا في النكاح، و لا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ الآية.

  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير العياشي عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال: سألته عن قوله: {وَ لاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} قال: فحكى كلاما ثم قال: كما يقول النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره، و كان هذا في الجاهلية. 

  •  و في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسَاءَ كَرْهاً}، فإنه كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل و له امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله، فلما مات أبو قيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه، و هي كبيشة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها، ثم تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها، فأتت رسول الله ص فقالت: يا رسول الله مات أبو قيس بن الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي فلا يدخل علي، و لا ينفق علي، و لا يخلي سبيلي فألحق بأهلي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ارجعي 

تفسير الميزان ج٤

259
  • إلى بيتك فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك فنزل: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ‌ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ سَاءَ سَبِيلاً}، فلحقت بأهلها، و كانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الأبناء فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسَاءَ كَرْهاً}

  • أقول: آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى و قد وردت هذه القصة و نزول الآيات فيها في عدة من روايات أهل السنة أيضا، غير أن الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا} (الآية) في القصة، و قد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك. 

  • و مع ذلك فتحقق القصة و ارتباط الآيات بوجه بها و بالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه، فالمعول في ذلك ما قدمناه في البيان السابق. 

  • و في المجمع: في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (الآية) قال: الأولى حمل الآية على كل معصية، قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). 

  • و في تفسير البرهان عن الشيباني: الفاحشة يعني الزنا، و ذلك إذا اطلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، و استحللتم فروجهن بكلمة الله، و إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، و لهن عليكم‌ رزقهن و كسوتهن بالمعروف. 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يا أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله، و استحللتم فروجهن بكلمة الله، و لكم عليهن حق، و من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، و لا يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف.

  • أقول: و قد تقدم ما يتبين به معنى هذه الروايات. 

  • و في الكافي و تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} قال: الميثاق الكلمة التي عقد بها النكاح الرواية. 

  • و في المجمع قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج٤

260
  • أقول: و هذا المعنى منقول عن عدة من مفسري السلف كابن عباس و قتادة و أبي مليكة، و الآية لا تأباه بالنظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء، و إن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج. 

  • و في الدر المنثور أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال: قال عمر :لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك قال: و لم؟ قالت: لأن الله يقول: {وَ آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} (الآية)، فقال عمر: امرأة أصابت و رجل أخطأ.

  • أقول: و رواه أيضا عن عبد الرزاق و ابن المنذر عن عبد الرحمن السلمي، و أيضا عن سعيد بن منصور و أبي يعلى بسند جيد عن مسروق‌، و فيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية، و أيضا عن سعيد بن منصور و عبد بن حميد عن بكر بن عبد الله المزني، و الروايات متقاربة المعنى. 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن عكرمة: في قوله: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ}، قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة كانت تحت الأسلت أبيه، و في الأسود بن خلف و كان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية، و في منظور بن رباب و كان خلف على مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيار. 

  • و فيه أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأة كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورثها من المال شيئا فأتت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ} (الآية)، و نزلت: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسَاءَ كَرْهاً}.

  • أقول: و قد تقدم ما يدل على ذلك من روايات الشيعة. 

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب و الجمع بين الأختين فأنزل الله: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ 

تفسير الميزان ج٤

261
  • مِنَ اَلنِّسَاءِ} و {أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ}.

  • أقول: و في معناه أخبار أخر. 

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٢٣ الی ٢٨]

  • {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خَالاَتُكُمْ وَ بَنَاتُ اَلْأَخِ وَ بَنَاتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهَاتُكُمُ اَللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ مِنَ اَلرَّضَاعَةِ وَ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَ رَبَائِبُكُمُ اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اَللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ٢٣ وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ٢٤ وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَ لاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى اَلْمُحْصَنَاتِ مِنَ اَلْعَذَابِ} 

تفسير الميزان ج٤

262
  • {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٥ يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٢٦ وَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ٢٧ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ٢٨} 

  • (بيان‌) 

  • آيات محكمة تعد محرمات النكاح و ما أحل من نكاح النساء، و الآية السابقة عليها المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء و إن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها. 

  • و بالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد، و هو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (الآية)، و لذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن و البنت و أم الأب أو الأم و كذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} (الآية)، و به يستفاد نظر القرآن في تشخيص الأبناء و البنات بحسب التشريع على ما سيجي‌ء إن شاء الله. 

  • قوله تعالى{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خَالاَتُكُمْ وَ بَنَاتُ اَلْأَخِ وَ بَنَاتُ اَلْأُخْتِ} هؤلاء هن المحرمات بحسب النسب و هي سبعة أصناف، و الأم‌ من اتصل إليها نسب الإنسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة، كوالدة الأب أو الأم فصاعدة، و البنت‌ من اتصل نسبها بالإنسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة، و كبنت الابن و البنت فنازلة و الأخت‌ من اتصل نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معا من الأب أو الأم أو منهما جميعا بلا واسطة، و العمة أخت 

تفسير الميزان ج٤

263
  • الأب و كذا أخت الجد من جهة الأب أو الأم، و الخالة أخت الأم، و كذا أخت الجدة من جهة الأب أو الأم. 

  • و المراد بتحريم الأمهات و ما يتلوها من الأصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده الإطلاق من مناسبة الحكم و الموضوع، كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ}: «المائدة: ٣» أي أكلهما، و قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}: «المائدة: ٢٦» أي سكنى الأرض، و هذا مجاز عقلي شائع، هذا. 

  • و لكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فإنه استثناء من الوطء دون علقة النكاح على ما سيجي‌ء، و كذا قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} على ما سيجي‌ء، فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطء دون علقة النكاح، و إنما لم يصرح تأدبا و صونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى. 

  • و اختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال: حرم عليهن أبناؤهن «إلخ»، أو يقال مثلا: لا نكاح بين المرأة و ولدها «إلخ»، لما أن الطلب و الخطبة بحسب الطبع إنما يقع من جانب الرجال فحسب. 

  • و توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات و البنات «إلخ»، تفيد الاستغراق في التوزيع، أي حرمت على كل رجل منكم أمه و بنته، إذ لا معنى لتحريم المجموع على المجموع، و لا لتحريم كل أم و بنت لكل رجل مثلا على كل رجل لأوله إلى تحريم أصل النكاح‌، فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح أمه و بنته و أخته «إلخ». 

  • قوله تعالى{وَ أُمَّهَاتُكُمُ اَللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ مِنَ اَلرَّضَاعَةِ} شروع في بيان المحرمات بالسبب، و هي سبع ست منها ما في هذه الآية، و سابعتها ما يتضمنه قوله: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ} (الآية). 

  • و الآية بسياقها تدل على جعل الأمومة و البنوة بين المرأة و من أرضعته و كذا الإخوة بين الرجل و أخته من الرضاعة حيث أرسل الكلام فيها إرسال المسلم فالرضاعة تكون الروابط النسبية بحسب التشريع، و هذا مما يختص بالشريعة الإسلامية على ما ستجي‌ء الإشارة إليه. 

تفسير الميزان ج٤

264
  • و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما رواه الفريقان أنه قال: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب‌ و لازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرمات النسب من الأصناف، و هي الأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة و بنت الأخ و بنت الأخت، سبعة أصناف. 

  • و أما ما به يتحقق الرضاع و ما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم و الكيف و المدة و ما يلحق بها من الأحكام فهو مما يتبين في الفقه، و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب، و أما قوله: {وَ أَخَوَاتُكُمْ مِنَ اَلرَّضَاعَةِ} فالمراد به الأخوات الملحقة بالرجل من جهة إرضاع أمه إياها بلبن أبيه و هكذا. 

  • قوله تعالى{وَ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} سواء كانت النساء أي الأزواج مدخولا بهن أو غير مدخول بهن فإن النساء إذا أضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الأزواج، و الدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اَللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (الآية). 

  • قوله تعالى{وَ رَبَائِبُكُمُ اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} إلى قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الربائب‌ جمع الربيبة و هي بنت زوجة الرجل من غيره لأن تدبير أمر من مع المرأة من الولد إلى زوجها فهو الذي يربها و يربيها في العادة الغالبة و إن لم يكن كذلك دائما. 

  • و كذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب و إن لم يجر الأمر عليه دائما، و لذلك قيل: إن قوله: {اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} قيد مبني على الغالب فالربيبة محرمة سواء كانت في حجر زوج أمها أو لم يكن، فالقيد توضيحي لا احترازي. 

  • و من الممكن أن يقال: إن قوله: {اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ}، إشارة إلى ما يستفاد من حكمة تشريع الحرمة في محرمات النسب و السبب على ما سيجي‌ء البحث عنه، و هو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل و بين هؤلاء الأصناف من النساء و المصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل و البيوت فلو لا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنا (على ما سيجي‌ء بيانه). 

  • فيكون قوله: {اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في حجوركم و في صحابتكم تشارك سائر الأصناف في الاشتمال على ملاك التحريم و حكمته. 

تفسير الميزان ج٤

265
  • و كيفما كان ليس قوله: {اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بأمها، و الدليل على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم، و لو كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره، و هو ظاهر. 

  • و قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة السياق عليه. 

  • قوله تعالى{وَ حَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} الحلائل جمع حليلة قال في المجمع: و الحلائل‌ جمع الحليلة، و هي بمعنى محللة مشتقة من الحلال و الذكر حليل، و جمعه أحلة كعزيز و أعزة سميا بذلك لأن كل واحدة منهما يحل له مباشرة صاحبه، و قيل هو من الحلول لأن كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش، انتهى. 

  • و المراد بالأبناء من اتصل بالإنسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة ابن أو بنت، و تقييده بقوله: {اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} احتراز عن حليلة من يدعى ابنا بالتبني دون الولادة. 

  • قوله تعالى{وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} المراد به بيان تحريم نكاح أخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة و أحسنها في تأدية المراد، و إطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد، فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الأختين ثم يتزوج بالأخرى بعد طلاق الأولي أو موتها و من الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان النبي ص. 

  • و أما قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فهو كنظيره المتقدم في قوله: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية من الجمع بين الأختين، و المراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين الأختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شي‌ء من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإن الآية تدل على منعه لأنه جمع بين الأختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما تقدم نقله من أسباب نزول قوله: {وَ لاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} (الآية) حيث فرق النبي ص بعد نزول 

تفسير الميزان ج٤

266
  • الآية بين الأبناء و بين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية. 

  • و رفع التحريم و هو الجواز عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل، و العفو عنه من حيث نفس العمل المنقضي و إن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من حيث آثار العمل الباقية بعده‌ كطهارة المولد و اعتبار القرابة مع الاستيلاد و نحو ذلك. 

  • و بعبارة أخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الإباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين الأختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحداهما أو حل الطلاق بهما أو بإحداهما لكن يصح رفع الإلغاء و التحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الأولاد من حيث الحكم بطهارة مولدهم، و وجود القرابة بينهم و بين آبائهم المولدين لهم و سائر قرابات الآباء، المؤثر ذلك في الإرث و النكاح و غير ذلك. 

  • و على هذا فقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية لا باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع و من هنا يظهر أن الاستثناء متصل لا منقطع كما ذكره المفسرون. 

  • و يمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله: {وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ} فإن العرب و إن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الأختين، و لم تكن تقترف نكاح الأمهات و البنات و سائر ما ذكرت في الآية إلا أن هناك أمما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس و الروم و سائر الأمم المتمدنة و غير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه، و الإسلام يعتبر صحة نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم، و يعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق، هذا، لكن الوجه الأول أظهر. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} تعليل راجع إلى الاستثناء، و هو من الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الأعمال في الخارج دون الذنوب و المعاصي. 

  • قوله تعالى{وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}المحصنات‌ بفتح الصاد اسم مفعول من‌ الإحصان و هو المنع، و منه الحصن الحصين أي المنيع يقال: أحصنت المرأة إذا عفت فحفظت نفسها و امتنعت عن الفجور، قال تعالى: {اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}: «التحريم: ١٢» أي عفت و يقال: أحصنت المرأة بالبناء للفاعل و المفعول 

تفسير الميزان ج٤

267
  • إذا تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها، و يقال: أحصنت المرأة إذا كانت حرة فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لأن ذلك كان فاشيا في الإماء. 

  • و الظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوجات دون الأول و الثالث لأن الممنوع المحرم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها، و سواء كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لأن يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج، أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الإماء أيضا مثلهن ثم ارتكاب التقييد بالتزويج فإن ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم. 

  • فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات و هي التي تحت حبالة التزويج، و هو عطف على موضع أمهاتكم، و المعنى: و حرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت مزوجة ذات بعل. 

  • و على هذا يكون قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} رفعا لحكم المنع عن محصنات الإماء على ما ورد في السنة أن لمولى الأمة المزوجة أن يحول بين مملوكته و زوجها ثم ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها. 

  • و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع و التسلط على المباشرة ففيه أولا أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون المزوجات و قد عرفت ما فيه، و ثانيا أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى، و هو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع و نحوه. 

  • و كذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الأيمان الجواري المسبيات إذا كن ذوات أزواج من الكفار، و أيد ذلك‌ بما روي عن‌ أبي سعيد الخدري: أن الآية نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين، و كانت لهن أزواج في دار الحرب فلما نزلت نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن و لا غير الحبالى حتى يستبرأن. 

تفسير الميزان ج٤

268
  • و فيه مضافا إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص، فالمصير إلى ما ذكرناه. 

  • قوله تعالى{كِتَابَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي الزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم و قد ذكر المفسرون أن قوله: {كِتَابَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} منصوب مفعولا مطلقا لفعل مقدر، و التقدير: كتب الله كتابا عليكم ثم حذف الفعل و أضيف المصدر إلى فاعله و أقيم مقامه، و لم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل لا يتقدم معموله عليه، هذا. 

  • قوله تعالى{وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير أولي العقل‌، و كذا الإشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر، و كذا قوله بعده: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}، أن يكون المراد بالموصول و اسم الإشارة هو المقدر في قوله: حرمت عليكم أمهاتكم، المتعلق به التحريم من الوطء و النيل أو ما هو من هذا القبيل، و المعنى: و أحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم، و هو النيل بالنكاح في غير من عد من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين، و حينئذ يستقيم بدلية قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}، من قوله: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} كل الاستقامة. 

  • و قد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم: إن معنى قوله: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: أحل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم، و قول بعض آخر: إن المراد: أحل لكم ما دون الخمس و هي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح، و قول بعض آخر: إن المعنى أحل لكم ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم، و قول بعض آخر: معناها أحل لكم ما وراء ذات المحارم و الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين. 

  • و هذه وجوه سخيفة لا دليل على شي‌ء منها من قبل اللفظ في الآية، على أنها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على أولي العقل، و لا موجب له كما عرفت آنفا، على أن الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد الأزواج فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية، فالحق أن الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء فيما سوى الأصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين. 

  • قوله تعالى{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} بدل أو عطف بيان 

تفسير الميزان ج٤

269
  • من قوله: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء و مباشرتهن، و ذلك أن الذي يشمله قوله: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} من المصداق ثلاثة: النكاح و ملك اليمين و السفاح و هو الزنا فبين بقوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} إلخ، المنع عن السفاح و قصر الحل‌ في النكاح و ملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالأموال و هو في النكاح المهر و الأجرة ركن من أركانه و في ملك اليمين الثمن و هو الطريق الغالب في تملك الإماء فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: أحل لكم فيما سوى الأصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء و نيلهن بإنفاق أموالكم في أجرة المنكوحات من النساء نكاحا من غير سفاح أو إنفاقها في ثمن الجواري و الإماء. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالإحصان في قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} إحصان العفة دون إحصان التزوج و إحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الأموال في الآية أعم مما يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين و لا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الإحصان على إحصان التزوج، و ليس المراد بإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر النفس في ما أحل الله، و كفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع المباشري الذي أودع النزوع إليه في جبلة الإنسان و فطرته. 

  • و بما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}، بتقدير لام الغاية أو ما يؤدي معناها، و التقدير لتبتغوا، أو إرادة أن تبتغوا. 

  • و ذلك أن مضمون قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا}، بوجه عين ما أريد بقوله: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} لا أنه أمر مترتب عليه مقصود لأجله، و هو ظاهر. 

  • و كذا ما يظهر من كلام بعضهم: أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء و صبه من غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الإنسان لأجلها، و هي غرض تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، و بالمقابلة يكون الإحصان هو الازدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد و التناسل، هذا. 

  • و إني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به من اللوازم. 

تفسير الميزان ج٤

270
  • و أحد الباحثين و هو البحث عن الملاك عقلي، و الآخر و هو البحث عن الحكم الشرعي و ما له من الموضوع و المتعلق و الشرائط و الموانع لفظي يتبع في السعة و الضيق البيان اللفظي من الشارع، و إنا لا نشك أن جميع الأحكام المشرعة تتبع مصالح و ملاكات حقيقية، و حكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية و ملاكا حقيقيا، و هو التوالد و التناسل، و نعلم أن نظام الصنع و الإيجاد أراد من النوع الإنساني البقاء النوعي ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثم احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الإنسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه و يكونه إنسانا جديدا يخلف الإنسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع، و احتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل و الإنتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين الذكر و الأنثى من الأفراد إلى الآخر، و ينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع عليه و النيل، ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقة. 

  • و في عين أن نظام الخلقة بالغ أمره و واجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر و الأنثى و لا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية، فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد، و لا كل عمل تناسلي كذلك، و لا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الأثر، و لا كل رجل أو كل امرأة، و لا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد، فالجميع أمور غالبية. 

  • فالتجهز التكويني يدعو الإنسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة، و العقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز و حفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش، الهادم لأساس البيوت، القاطع للنسل. 

  • و هذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد و الأمن من دبيب الفحشاء هي الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الإسلام غير أن الأغلبية من أحكام الملاك، و أما الأحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام. 

  • فليس من الجائز أن يقال: إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض و الملاك المذكور وجودا و عدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد، و لا يجوز نكاح العقيم 

تفسير الميزان ج٤

271
  • و لا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة، و لا يجوز نكاح الصغيرة، و لا يجوز نكاح الزاني و لا يجوز مباشرة الحامل، و لا مباشرة من غير إنزال، و لا نكاح من غير تأسيس بيت، و لا يجوز... و لا يجوز.... 

  • بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر و الأنثى لها أحكام دائمية، و قد أريد بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجودا و عدما، و المنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده أو أحكامه. 

  • قوله تعالى{فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} كان الضمير في قوله: {بِهِ} راجع إلى ما يدل عليه قوله: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}«و هو النيل أو ما يؤدي معناه، فيكون {مَا} للتوقيت، و قوله {مِنْهُنَّ} متعلقا بقوله: {اِسْتَمْتَعْتُمْ} و المعنى: مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن أجورهن فريضة. 

  • و يمكن أن يكون ما موصولة، و استمتعتم صلة لها، و ضمير به راجعا إلى الموصول و قوله {مِنْهُنَّ} بيانا للموصول، و المعنى: و من استمتعتم به من النساء «إلخ». 

  • و الجملة أعني قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ}«إلخ» تفريع لما تقدمها من الكلام لمكان الفاء تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من الكلام أعني قوله {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} كما تقدم بيانه شامل لما في النكاح و ملك اليمين، فتفريع قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على المقسم الكلي. 

  • و هذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ} (الآية): «البقرة: ١٨٤» و قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ} (الآية): «البقرة: ١٩٦» و قوله {لاَ إِكْرَاهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} (الآية) «البقرة: ٢٥٦» إلى غير ذلك. 

  • و المراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة 

تفسير الميزان ج٤

272
  • في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها، و هذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك و قد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي و مسمع منه لا شك فيه، و كان اسمه هذا الاسم و لا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} محمولا عليه مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن و العادات و الرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشي‌ء من تلك الأسماء بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية. 

  • و ذلك كالحج و البيع و الربا و الربح و الغنيمة و سائر ما هو من هذا القبيل فلم يمكن لأحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده، و هكذا، و كذلك ما أتى به النبي ص من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية كالصلاة و الصوم و الزكاة و حج التمتع و غير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها. 

  • فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة أو لم نقل فإنما هو أمر آخر. 

  • و جملة الأمر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، و هو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة و التابعين كابن عباس و ابن مسعود و أبي بن كعب و قتادة و مجاهد و السدي و ابن جبير و الحسن و غيرهم‌، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليه السلام). 

  • و منه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا، و ربما ذكر بعضهم أن السين و التاء في استمتعتم للتأكيد، و المعنى: تمتعتم. 

تفسير الميزان ج٤

273
  • و ذلك لأن تداول نكاح المتعة (بهذا الاسم) و معروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين. 

  • على أن هذا المعنى على تقدير صحته و انطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم، لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فإن المهر يجب بمجرد العقد، و لا يتوقف على نفس التمتع و لا على طلب التمتع الصادق على الخطبة و إجراء العقد و الملاعبة و المباشرة و غير ذلك، بل يجب نصفه بالعقد و نصفه الآخر بالدخول. 

  • على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب، و ذلك كقوله تعالى: {وَ آتُوا اَلنِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (الآية): «النساء ٤»، و قوله تعالى: {وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (الآيتان): «النساء: ٢٠» و قوله تعالى {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} إلى أن قال: {وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (الآيتان): «البقرة: ٢٣٧». 

  • و ما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات و خاصة سياق ذيل قوله: {وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدَالَ} الآيتين أشد و آكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك. 

  • و أما النسخ فقد قيل: إن الآية منسوخة بآية المؤمنون: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ اِبْتَغى‌َ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ}: «المؤمنون: ٧»، و قيل منسوخة بآية العدة: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}: «الطلاق: ١» {وَ اَلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (الآية): «البقرة: ٢٢٨»، حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق و عدة و ليسا في نكاح المتعة، و قيل: منسوخة بآيات الميراث: {وَ لَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} 

تفسير الميزان ج٤

274
  • (الآية): «النساء: ١٢»، حيث لا إرث في نكاح المتعة، و قيل منسوخة بآية التحريم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ} (الآية)، فإنها في النكاح، و قيل: منسوخة بآية العدد: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} (الآية): «النساء: ٣»، و قيل: منسوخة بالسنة نسخها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عام خيبر، و قيل: عام الفتح، و قيل: في حجة الوداع، و قيل: أبيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثا، و آخر ما وقع و استقر عليه من الحكم الحرمة. 

  • أما النسخ بآية المؤمنون، ففيه أنها لا تصلح للنسخ، فإنها مكية و آية المتعة مدنية، و لا تصلح المكية لنسخ المدنية، على أن عدم كون المتعة نكاحا و المتمتع بها زوجة ممنوع، و ناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوية، و في كلمات السلف من الصحابة و التابعين من تسميتها نكاحا، و الإشكال عليه بلزوم التوارث و الطلاق و غير ذلك سيأتي الجواب عنه. 

  • و أما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث و آية الطلاق و آية العدد ففيه أن النسبة بينها و بين آية المتعة ليست نسبة الناسخ و المنسوخ، بل نسبة العام و المخصص أو المطلق و المقيد، فإن آية الميراث مثلا تعم الأزواج جميعا من كل دائم و منقطع و السنة تخصصها بإخراج بعض أفرادها، و هو المنقطع من تحت عمومها، و كذلك القول في آية الطلاق و آية العدد، و هو ظاهر، و لعل القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين. 

  • نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات و النفي إلى أن العام ناسخ للخاص. لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام، و ذلك لوقوع آيات الطلاق (و هي العام) في سورة البقرة، و هي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة، و كذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة، و كذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال. 

  • و أما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة و إن اختلفتا مدة فيئول إلى التخصيص أيضا دون النسخ. 

  • و أما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب‌ ما قيل في هذا المقام أما أولا فلأن مجموع 

تفسير الميزان ج٤

275
  • الكلام الدال على التحريم و الدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق الأجزاء متصل الأبعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في صدر الكلام لذيله؟، و أما ثانيا فلأن الآية غير صريحة و لا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه، و إنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين، و نكاح المتعة نكاح على ما تقدم، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتى يئول إلى النسخ. 

  • نعم ربما قيل: إن قوله تعالى: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} حيث قيد حلية النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا إحصان في النكاح المنقطع و لذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا يدفع كون المتعة مراده بالآية. 

  • لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالإحصان في قوله {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله النكاح، و لو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان التزوج عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله. 

  • و أما النسخ بالسنة ففيه مضافا إلى‌ بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفا للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب و طرح ما خالفه، و الرجوع إلى الكتاب ما سيأتي في البحث الروائي. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ}، الطول‌ الغنى و الزيادة في القدرة، و كلا المعنيين يلائمان الآية، و المراد بالمحصنات الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات، و هذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف، و إلا لم تقابل بالفتيات بل بها و بغير العفائف، و ليس المراد بها ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها العقد و لا المسلمات و إلا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات. 

  • و المراد بقوله {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الازدواج و إلا فتزوج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع، و قد نسب ملك 

تفسير الميزان ج٤

276
  • اليمين إلى المؤمنين و فيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم في الدين، و اتحاد مصالحهم و منافعهم كأنهم شخص واحد. 

  • و في تقييد المحصنات و كذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية و مشركة، و لهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في أوائل سورة المائدة. 

  • و محصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمل أثقال المهر و النفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر، و يعرض نفسه على خطرات الفحشاء و معترض الشقاء. 

  • فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم، و الآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا، و إنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعين بالطبع في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت و إيجاد النسل و تخليف الولد، و نكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق الفحشاء، و قطع منابت الفساد. 

  • و سوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن و خاصة في مقام تشريع الأحكام و القوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: «البقرة: ١٨٥»، مع أن العذر لا ينحصر في المرض و السفر، و قوله تعالى: {وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‌َ أَوْ عَلىَ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}: «النساء: ٤٣»، و الأعذار و قيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم‌، و لا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزل و التوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم، و كون قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}، غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم، لأن هذا التنزل و التوسعة واقع بطرفيه (المنزل عنه و المنزل إليه) في نفس هذه الآية أعني قوله: 

تفسير الميزان ج٤

277
  • {وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}«إلخ». 

  • على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم و المنقطع كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها. 

  • قوله تعالى{وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} لما كان الإيمان المأخوذ في متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب، و ربما أوهم تعليقا بالمتعذر أو المتعسر، و أوجب تحرج المكلفين منه، بين تعالى أنه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين و هو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجري على الأسباب الظاهرية الدالة على الإيمان كالشهادتين و الدخول في جماعة المسلمين و الإتيان بالوظائف العامة الدينية، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه. 

  • و في هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص و قصور آخر في الوقوع موقع التأثير و القبول، و هو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد و الإماء هوانا في الأمر و خسة في الشأن و نوع ذلة و انكسار فيوجب ذلك انقباضهم و جماح نفوسهم من الاختلاط بهم و المعاشرة معهم و خاصة بالازدواج الذي هو اشتراك حيوي و امتزاج باللحم و الدم. 

  • فأشار سبحانه بقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير الإنسان واجدا لشئون الإنسانية، و إنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الإنساني في إنتاجه سعادة الناس، و لا عبرة بهذه التميزات عند الله، و الذي به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله، فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التي تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم و فلاحهم، فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم، و إن كان حقيرا في بادي أمره لكنه لا يزال يبعد الإنسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة. 

  • و من هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط و التنزل، أعني قوله: {وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع و العادة، و ليس إلزاما للمؤمنين 

تفسير الميزان ج٤

278
  • على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض، و نبه مع ذلك على أن الحر و الرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض. 

  • و من هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية: {وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أن المعنى و صبركم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن لما فيه من الذل و المهانة و الابتذال، هذا، فإن قوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ينافي ذلك قطعا. 

  • قوله تعالى{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} إلى قوله: {أَخْدَانٍ} المراد بالمحصنات‌ العفائف فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح، و المراد بالمسافحات ما يقابل متخذات الأخدان، الأخدان‌ جمع خدن بكسر الخاء و هو الصديق، يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و الجمع، و إنما أتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصا، فمن يأخذ صديقا للفحشاء لا يقنع بالواحد و الاثنين فيه لأن النفس لا تقف على حد إذا أطيعت فيما تهواه. 

  • و بالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال: إن المراد بالسفاح الزنا جهرا و باتخاذ الخدن الزنا سرا، و قد كان اتخاذ الخدن متداولا عند العرب حتى عند الأحرار و الحرائر لا يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الإماء. 

  • فقوله {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطا بأن يكون بإذن مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالي لا غير، و إنما عبر عنهم بقوله {أَهْلِهِنَّ} جريا على ما يقتضيه قوله قبل: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فالفتاة واحدة من أهل بيت مولاها و مولاها أهلها. 

  • و المراد بإتيانهن أجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن و إتيان الأجور إياهن إعطاؤها مواليهن، و قد أرشد إلى الإعطاء بالمعروف عن غير بخس و مماطلة و إيذاء. 

  • قوله تعالى{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى اَلْمُحْصَنَاتِ مِنَ اَلْعَذَابِ} قرئ أحصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول و بفتح الهمزة بالبناء للفاعل، و هو الأرجح. 

  • الإحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد 

تفسير الميزان ج٤

279
  • كون مورد الكلام في ما تقدم ازدواجهن، و ذلك أن الأمة تعذب نصف عذاب الحرة إذا زنت سواء كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثر الإحصان فيها شيئا زائدا. 

  • و أما إذا كان إحصان الإسلام كما قيل و يؤيده قراءة فتح الهمزة تم المعنى من غير مئونة زائدة، و كان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات بعولة أو لا. 

  • و المراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لأن الرجم لا يقبل الانتصاف و هو الشاهد على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية. و اللام للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة و هو الزنا فعليهن نصف حد المحصنات غير ذوات الأزواج، و هو جلد خمسين سوطا. 

  • و من الممكن أن يكون المراد بالإحصان إحصان العفة، و تقريره أن الجواري يومئذ لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الأعمال بما لهن من اتباع أوامر مواليهن و خاصة في الفاحشة و الفجور و كانت الفاحشة فيهن لو اتفقت بأمر من مواليهن في سبيل الاستغلال بهن و الاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهي الوارد في قوله تعالى: {وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}: «النور: ٣٣» فالتماسهن الفجور و اشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة و مكسبا كان فيما كان بأمر مواليهن من دون أن يسع لهن الاستنكاف و التمرد، و إذا لم يكرههن الموالي على الفجور فالمؤمنات منهن على ظاهر تقوى الإسلام، و عفة الإيمان، و حينئذ إن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، و هو قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ}«إلخ». 

  • و من هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى و ذلك أنهن إذا لم يحصن و لم يعففن كن مكرهات من قبل مواليهن مؤتمرات لأمرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى: {وَ لاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}: «النور: ٣٣» حيث إنهن إن لم يردن التحصن لم يكن موضوع لإكراههن من قبل الموالي لرضاهن بذلك فافهم. 

تفسير الميزان ج٤

280
  • قوله تعالى{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ}العنت‌ الجهد و الشدة و الهلاك، و كان المراد به الزنا الذي هو نتيجة وقوع الإنسان في مشقة الشبق و جهد شهوة النكاح و فيه هلاك الإنسان. و الإشارة على ما قيل: إلى نكاح الجواري المذكور في الآية، و عليه فمعنى قوله {وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أن تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا خير لكم. و يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الإماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شي‌ء منهما من سابق سياق الآية و الله أعلم. 

  • و كيف كان فكون الصبر خيرا إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء إنما هو لما فيه من حقوق مواليهن و في أولادهن على ما فصل في الفقه، و إن كان المراد الصبر عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس و تهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه، و الله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء عن نفوس المتقين من عباده و يرحمهم برحمته. 

  • قوله تعالى{يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} إلى آخر الآية، بيان و إشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الأحكام في الآيات الثلاث و المصالح التي تترتب عليها إذا عمل بها فقوله: {يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم و عقباكم، و ما في ذلك من المعارف و الحكم و على هذا فمعمول قوله: {لِيُبَيِّنَ} محذوف للدلالة على فخامة أمره و عظم شأنه، و يمكن أن يكون قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، و قوله: {وَ يَهْدِيَكُمْ} متنازعين في قوله، {سُنَنَ اَلَّذِينَ}

  • قوله تعالى{وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي طرق حياة السابقين من الأنبياء و الأمم الصالحة، الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله، الحائزين به سعادة الدنيا و الآخرة، و المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها و جميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج الإخوة بالأخوات في سنة آدم، و الجمع بين الأختين: في سنة يعقوب (عليه السلام)، و قد جمع (عليه السلام) بين الأختين ليا أم يهودا و راحيل أم يوسف على ما في بعض الأخبار، هذا. 

  • و هنا معنى آخر قيل به، و هو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على الحق أو على الباطل، يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق و باطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها و تدعوا الباطل. 

تفسير الميزان ج٤

281
  • و هذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعملة في هذا المعنى، و إنما استعمل فيما استعمل في الإيصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}: «القصص: ٥٦» و قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً}: «الإنسان: ٣» و الأوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال هذه المعاني بلفظ التبيين و القصص و نحو ذلك. 

  • نعم لو جعل قوله يبين و قوله: {وَ يَهْدِيَكُمْ} متنازعين في قوله: {سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} و قوله: {وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أيضا راجعا إليه، و آل المعنى إلى أن الله يبين لكم سنن الذين من قبلكم، و يهديكم إلى الحق منها، و يتوب عليكم فيما ابتليتم به من باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين و الحق و الباطل منها، و التوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة. 

  • قوله تعالى{وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}التوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنعمة و الرحمة، و تشريع الشريعة، و بيان الحقيقة، و الهداية إلى طريق الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد و رفع آثار المعصية توبة. و تذييل الكلام بقوله: {وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ليكون راجعا إلى جميع فقرات الآية، و لو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الأنسب ظاهرا أن يقال: {وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

  • قوله تعالى{وَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ} إلخ، كان تكرار ذكر توبته للمؤمنين للدلالة على أن قوله: {وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} إنما يقابل من الفقرات الثلاث في الآية السابقة الفقرة الأخيرة فقط، إذ لو ضم قوله: {وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ}«إلخ» إلى الآية السابقة من غير تكرار قوله: {وَ اَللَّهُ يُرِيدُ}«إلخ» أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات و لغا المعنى قطعا. 

  • و المراد بالميل العظيم هتك هذه الحدود الإلهية المذكورة في الآيات بإتيان المحارم، و إلغاء تأثير الأنساب و الأسباب، و استباحة الزنا و المنع عن الأخذ بما سنة الله من السنة القويمة. 

  • قوله تعالى{يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} كون الإنسان 

تفسير الميزان ج٤

282
  • ضعيفا لما ركب الله فيه القوى الشهوية التي لا تزال تنازعه في ما تتعلق به من المشتهيات، و تبعثه إلى غشيانها فمن الله عليهم بتشريع حلية ما تنكسر به سورة شهوتهم بتجويز النكاح بما يرتفع به غائلة الحرج حيث قال: {وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} و هو النكاح و ملك اليمين فهداهم بذلك سنن الذين من قبلهم، و زادهم تخفيفا منه لهم لتشريع نكاح المتعة إذ ليس معه كلفة النكاح و ما يستتبعه من أثقال الوظائف من صداق و نفقة و غير ذلك. 

  • و ربما قيل: إن المراد به إباحة نكاح الإماء عند الضرورة تخفيفا. و فيه: أن نكاح الإماء عند الضرورة كان معمولا به بينهم قبل الإسلام على كراهة و ذم، و الذي ابتدعته هذه الآيات هو التسبب إلى نفي هذه الكراهة و النفرة ببيان أن الأمة كالحرة إنسان لا تفاوت بينهما، و أن الرقية لا توجب سقوط صاحبها عن لياقة المصاحبة و المعاشرة. 

  • و ظاهر الآيات بما لا ينكر أن الخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين من هذه الأمة فالتخفيف المذكور في الآية تخفيف على هذه الأمة، و المراد به ما ذكرناه. 

  • و على هذا فتعليل التخفيف بقوله: {وَ خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} مع كونه وصفا مشتركا بين جميع الأمم هذه الأمة و الذين من قبلهم و كون التخفيف مخصوصا بهذه الأمة إنما هو من قبيل ذكر المقتضي العام و السكوت عما يتم به في تأثيره فكأنه قيل: إنا خففنا عنكم لكون الضعف العام في نوع الإنسان سببا مقتضيا للتخفيف لو لا المانع لكن لم تزل الموانع تمنع عن فعلية التخفيف و انبساط الرحمة في سائر الأمم حتى وصلت النوبة إليكم فعمتكم الرحمة، و ظهرت فيكم آثاره فبرز حكم السبب المذكور و شرع فيكم حكم التخفيف و قد حرمت الأمم السابقة من ذلك كما يدل عليه قوله: {رَبَّنَا وَ لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}«البقرة: ٢٨٦»، و قوله: {هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}: «الحج: ٧٨». 

  • و من هنا يظهر أن النكتة في هذا التعليل العام بيان ظهور تمام النعم الإنسانية في هذه الأمة. 

تفسير الميزان ج٤

283
  • (بحث روائي‌) 

  • عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب‌، و عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): الرضاع لحمة كلحمة النسب.

  • و في الدر المنثور أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هن فيما يقرأ من القرآن. 

  • أقول: و روي فيه عنها ما يقرب منه بطرق أخرى، و هي من روايات التحريف مطروحة بمخالفة الكتاب. 

  • و فيه أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له‌ أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل، و إذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة. 

  • أقول: و هذا المعنى مروي من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و هو مذهبهم و هو المستفاد من الكتاب كما مر في البيان المتقدم و قد روي من طرق أهل السنة عن علي (عليه السلام): أن أم الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت، و أنها بمنزلة الربيبة، و أن الربيبة إذا لم تكن في حجر زوج أمها لم يحرم عليه نكاحها، و هذه أمور يدفعها المروي عنهم (عليه السلام) من طرق الشيعة. 

  • و في الكافي بإسناده عن منصور بن حازم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوج بأمها؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا، فقلت جعلت فداك ما تفتخر الشيعة إلا بقضاء علي (عليه السلام) في هذا في المشيخة۱ التي أفتاه ابن مسعود أنه لا بأس به بذلك. 

  •  

    1. لعل الصحيح: الشمخي لما في بعض أخبار أهل السنة أنه كان رجلا من بني شمخ، أو الصحيح في الشمخية التي أفتى ابن مسعود.

تفسير الميزان ج٤

284
  • ثم أتى عليا (عليه السلام) فسأله فقال له علي (عليه السلام): من أين يأخذها؟۱ فقال من قول الله عز و جل: {وَ رَبَائِبُكُمُ اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اَللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، فقال علي (عليه السلام): إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للرجل: أما تسمع ما يروي هذا عن علي (عليه السلام)؟

  • فلما قمت ندمت و قلت: أي شي‌ء صنعت؟ يقول: قد فعله رجل منا و لم ير به بأسا، و أقول أنا: قضى علي (عليه السلام) فيها! فلقيته بعد ذلك و قلت: جعلت فداك مسألة الرجل إنما كان الذي قلت كان زلة مني فما تقول فيها؟ فقال: يا شيخ تخبرني أن عليا (عليه السلام) قضى فيها، و تسألني ما تقول فيها؟ 

  • أقول: و قصة قضائه (عليه السلام) في فتوى ابن مسعود على‌ ما رواه في الدر المنثور، عن سنن البيهقي و غيره: أن رجلا من بني شمخ تزوج امرأة و لم يدخل بها ثم رأى أمها فأعجبته فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم يتزوج أمها ففعل و ولدت له أولادا، ثم أتى ابن مسعود المدينة فقيل له لا تصلح فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: أنها عليك حرام ففارقها. لكن لم ينسب القول فيه إلى علي (عليه السلام) بل ذكر: أنه سأل عنه أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و في لفظ: أنه سأل عنه عمر و في بعض الروايات: فأخبر أنه ليس كما قال، و أن الشرط في الربائب. 

  • و في الإستبصار بإسناده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: أن عليا (عليه السلام) كان يقول: الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي‌ دخلتم بهن في الحجور و غير الحجور سواء، و الأمهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل، فحرموا و أبهموا ما أبهم الله.

  • أقول: و قد عزي إليه (عليه السلام) في بعض الروايات من طرق أهل السنة اشتراط الحجور في حرمة الربائب لكن الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) تدفعه، و هو الموافق لما يستفاد من الآية كما تقدم. 

  • و المبهمات‌ من البهمة و هي كون الشي‌ء ذا لون واحد لا يختلط به لون آخر و لا 

    1.  نسخة الوافي: من أين أخذ بها.

تفسير الميزان ج٤

285
  • يختلف في لونه سمي به من طبقات النساء المحرمة من كانت حرمة نكاحها مرسلة غير مشروطة، و هي الأمهات و البنات و الأخوات و العمات و الخالات و بنات الأخ و بنات الأخت و ما كان من الرضاعة، و أمهات النساء، و حلائل الأبناء. 

  • و فيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الجارية فيصيب منها، أ له أن ينكح ابنتها؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى: {وَ رَبَائِبُكُمُ اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ}

  • و في تفسير العياشي عن أبي عون قال سمعت أبا صالح الحنفي قال: قال علي (عليه السلام) ذات يوم: سلوني، فقال ابن الكوا أخبرني عن بنت الأخت من الرضاعة، و عن المملوكتين الأختين، فقال: إنك لذاهب في التيه سل عما يعنيك أو ينفعك، فقال ابن الكوا إنما نسألك عما لا نعلم و أما ما نعلم فلا نسألك عنه، ثم قال: أما الأختان المملوكتان أحلتهما آية و حرمتهما آية، و لا أحله و لا أحرمه، و لا أفعله أنا و لا واحد من أهل بيتي. 

  • و في التهذيب بإسناده عن معمر بن يحيى بن سالم قال: سألنا أبا جعفر (عليه السلام) عما يروي الناس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أشياء لم يكن يأمر بها و لا ينهى إلا نفسه و ولده فقلت: كيف يكون ذلك؟ قال: قد أحلتها آية و حرمتها آية أخرى، فقلنا: الأول أن يكون إحداهما نسخت الأخرى أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال: قد بين لهم إذ نهى نفسه و ولده، قلنا: ما منعه أن يبين ذلك للناس؟ قال: خشي أن لا يطاع، فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله و الحق كله. 

  • أقول: و الرواية المنقولة عنه (عليه السلام) هي التي نقلت عنه (عليه السلام) من طرق أهل السنة كما رواه في الدر المنثور، عن البيهقي و غيره عن علي بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين، أحلتهما آية، و حرمتهما آية، و لا آمر و لا أنهى، و لا أحل و لا أحرم، و لا أفعله أنا و لا أهل بيتي. 

  • و روي فيه أيضا عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا سأله (عليه السلام) عن ذلك فقال: لو كان إلي من الأمر شي‌ء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. 

  • و في التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: 

تفسير الميزان ج٤

286
  • إذا كانت عند الإنسان الأختان المملوكتان فنكح إحداهما ثم بدا له في الثانية فليس ينبغي له أن ينكح الأخرى حتى تخرج الأولى من ملكه يهبها أو يبيعها، فإن وهبها لولده يجزيه. 

  • و في الكافي و تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله عز و جل: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: هو أن يأمر الرجل عبده و تحته أمته فيقول له: اعتزل امرأتك و لا تقربها ثم يحبسها عنه حتى تحيض ثم يمسها فإذا حاضت بعد مسه إياها ردها عليه بغير نكاح. 

  • و في تفسير العياشي عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام): في قول الله: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: هن ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت، فقلت أ رأيت إن زوج غير غلامه؟ قال ليس له أن ينزع حتى تباع، فإن باعها صار بضعها في يد غيره فإن شاء المشتري فرق، و إن شاء أقر. 

  • و في الدر المنثور أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه و ابن ماجة عن فيروز الديلمي: أنه أدركه الإسلام و تحته أختان، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): طلق أيتهما شئت

  • و فيه أخرج ابن عبد البر في الاستذكار عن إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية و ولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى. 

  • ثم قال: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد أو قال: إلا الأربع، و يحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب.

  • أقول: و رواه بطرق أخر غير هذا الطريق عنه. 

  • و في صحيحي البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يجمع بين المرأة و عمتها، و لا بين المرأة و خالتها. 

تفسير الميزان ج٤

287
  • أقول: و هذا المعنى مروي بغير الطريقين من طرق أهل السنة، لكن المروي من طرق أئمة أهل البيت خلاف ذلك، و الكتاب يساعده. 

  • و في الدر المنثور أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و الفريابي و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطحاوي و ابن حيان و البيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم و أصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بذلك فروجهن.

  • أقول: و روي ذلك عن الطبراني عن ابن عباس. 

  • و فيه أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: أن هذه الآية التي في سورة النساء: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} نزلت في امرأة يقال لها معاذة، و كانت تحت شيخ من بني سدوس يقال له: شجاع بن الحارث، و كان معها ضرة لها قد ولدت لشجاع أولادا رجالا، و أن شجاعا انطلق يمير أهله من هجر، فمر بمعاذة ابن عم لها فقالت له: احملني إلى أهلي فإنه ليس عند هذا الشيخ خير، فاحتملها فانطلق بها فوافق ذلك جيئة الشيخ، فانطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله و أفضل العرب، إني خرجت أبغيها الطعام في رجب، فتولت و ألطت بالذنب، و هي شر غالب لمن غلب، رأت غلاما واركا على قتب، لها و له أرب، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): علي علي، فإن كان الرجل كشف بها ثوبا فارجموها، و إلا فردوا إلى الشيخ امرأته، فانطلق مالك بن شجاع و ابن ضرتها فطلبها فجاء بها، و نزلت بيتها

  • أقول: و قد مر مرارا أن أمثال هذه الأسباب المروية للنزول و خاصة فيما كانت متعلقة بأبعاض الآيات و أجزائها تطبيقات من الرواة و ليست بأسباب حقيقية. 

  • في الفقيه سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ} قال: هن ذوات الأزواج‌، فقيل: {وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، قال هن العفائف.

تفسير الميزان ج٤

288
  • أقول: و رواه العياشي أيضا عنه (عليه السلام). 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} أي من لم يجد منكم غنى قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

  • و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: لا ينبغي أن يتزوج الحر المملوكة اليوم، إنما كان ذلك حيث قال الله عز و جل: {وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}، و الطول‌ المهر، و مهر الحرة اليوم مهر الأمة أو أقل.

  • أقول: الغنى أحد مصاديق الطول كما تقدم، و الرواية لا تدل على أزيد من الكراهة. 

  • و في التهذيب بإسناده عن أبي العباس البقباق قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يتزوج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنا، إن الله تعالى يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن. 

  • و فيه بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا (عليه السلام) يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال: نعم إن الله عز و جل يقول{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}

  • و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ما إحصانهن؟ قال: يدخل بهن، قلت: فإن لم يدخل بهن ما عليهن حد؟ قال: بلى.

  • و فيه عن حريز قال: سألته عن المحصن فقال: الذي عنده ما يغنيه. 

  • و في الكافي بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في العبيد و الإماء إذا زنا أحدهم أن يجلد خمسين جلدة إن كان مسلما أو كافرا أو نصرانيا، و لا يرجم و لا ينفى. 

  • و فيه بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن عبد مملوك قذف حرا قال: يجلد ثمانين، هذا من حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عز و جل فإنه يضرب نصف الحد. 

  • قلت: الذي من حقوق الله عز و جل ما هو؟ قال: إذا زنا أو شرب خمرا، 

تفسير الميزان ج٤

289
  • فهذا من الحقوق التي يضرب عليها نصف الحد. 

  • و في التهذيب بإسناده عن بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام): في الأمة تزني قال: تجلد نصف الحد كان لها زوج أو لم يكن. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا و يستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، و أما ما خفي فلا بأس بذلك، فأنزل الله: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ}

  • أقول: و الروايات فيما تقدم من المعاني كثيرة اقتصرنا منها على أنموذج يسير.

  • (بحث آخر روائي‌) 

  • في الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المتعة، فقال: نزلت في القرآن: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ}

  • و فيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إنما نزلت: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة.

  • أقول: و روى هذه القراءة العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام)، و رواها الجمهور بطرق عديدة عن أبي بن كعب و عبد الله بن عباس‌ كما سيأتي: و لعل المراد بأمثال هذه الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظي. 

  • و فيه بإسناده عن زرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلها الله في كتابه و على لسان نبيه فهي حلال إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا و قد حرمها عمر و نهى عنها؟ فقال: و إن كان فعل. فقال: إني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئا حرمه عمر. 

  • قال: فقال له: فأنت على قول صاحبك، و أنا على قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، 

تفسير الميزان ج٤

290
  • فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أن الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد الله بن عمير فقال: أ يسرك أن نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمك يفعلن؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر (عليه السلام) حين ذكر نساءه و بنات عمه. 

  • و فيه بإسناده عن أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المتعة نزل بها القرآن و جرت بها السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتعة. فقال: أي المتعتين تسأل؟ قال: سألتك عن متعة الحج فأنبئني عن متعة النساء أ حق هي؟ فقال: سبحان الله أ ما قرأت كتاب الله عز و جل: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} فقال: و الله كأنها آية لم أقرأها قط. 

  • و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال جابر بن عبد الله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنهم غزوا معه فأحل لهم المتعة و لم يحرمها، و كان علي يقول: لو لا ما سبقني به ابن الخطاب يعني عمر ما زنى إلا شقي۱. و كان ابن عباس يقول: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة، و هؤلاء يكفرون بها، و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أحلها و لم يحرمها. 

  • و فيه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في المتعة قال: نزلت هذه الآية: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ}قال: لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، يقول: استحللتك بأجل آخر برضى منها. و لا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها، و عدتها حيضتان. 

  • و عن الشيباني في قوله تعالى: {وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ}: عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: هو أن يزيدها في الأجرة، و تزيده في الأجل. 

    1.  و في نسخة: إلا الأشقى‌

تفسير الميزان ج٤

291
  • أقول: و الروايات في المعاني السابقة مستفيضة أو متواترة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و إنما أوردنا طرفا منها، و على من يريد الاطلاع عليها جميعا أن يراجع جوامع الحديث. 

  • ۱ و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :كان متعة النساء في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته، و لا يحفظ متاعه فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه، و تصلح له ضيعته، و كان يقرأ: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى» نسختها: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}، و كان الإحصان بيد الرجل يمسك متى شاء، و يطلق متى شاء. 

  • و في مستدرك الحاكم بإسناده عن أبي نضرة قال:قرأت على ابن عباس: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}، قال ابن عباس: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، فقلت: ما نقرؤها كذلك فقال ابن عباس: و الله‌ لأنزلها الله كذلك.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عنه و عن عبد بن حميد و ابن جرير و ابن الأنباري في المصاحف. 

  • و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال:في قراءة أبي بن كعب: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. 

  • و في صحيح الترمذي عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال:إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية: {إِلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو حرام. 

  • أقول: و لازم الخبر أنها نسخت بمكة لأن الآية مكية. 

  • و في مستدرك الحاكم عن عبد الله بن أبي مليكة :سألت عائشة رضي الله عنها عن متعة النساء فقالت: بيني و بينكم كتاب الله. قال: و قرأت هذه الآية: {وَ اَلَّذِينَ

  •  

    1.  أخبار في قراءة: إلى أجل مسمى. 

تفسير الميزان ج٤

292
  • هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا. 

  • و في الدر المنثور۱ أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس من طريق عطاء عن ابن عباس: في قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} قال: نسختها: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} و {اَلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} و {اَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ}

  • و فيه أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس و البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: نسخت آية الميراث المتعة. 

  • و فيه أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و البيهقي عن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق و الصدقة و العدة و الميراث. 

  • و فيه أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن علي قال: نسخ رمضان كل صوم، و نسخت الزكاة كل صدقة، و نسخ المتعة الطلاق و العدة و الميراث، و نسخت الضحية كل ذبيحة. 

  • و فيه أخرج عبد الرزاق و أحمد و مسلم عن سبرة الجهني٢ قال: أذن لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا و رجل من قومي، و لي عليه فضل في الجمال، و هو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد، إما بردي فخلق، و إما برد ابن عمي فبرد جديد غض حتى إذا كنا بأعلى مكة تلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت: و ما تبذلان؟ فنشر كل واحد منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين، فإذا رآها صاحبي قال: إن برد هذا خلق، و بردي جديد غض فتقول: و برد هذا لا بأس به، ثم استمتعت منها، فلم نخرج حتى حرمها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و فيه أخرج مالك و عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و الترمذي 

    1.  جملة من الأخبار الدالة على نسخ آية المتعة بالكتاب.
    2.  جملة من الأخبار الدالة على نسخ المتعة بالنسبة.

تفسير الميزان ج٤

293
  • و النسائي و ابن ماجة عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن متعة النساء يوم خيبر، و عن أكل لحوم الحمر الإنسية. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سلمة بن الأكوع قال رخص لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها بعدها. 

  • و في شرح ابن العربي، لصحيح الترمذي، عن إسماعيل عن أبيه عن الزهري : أن سبرة روى أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عنها في حجة الوداع‌، أخرجه أبو داود قال: و قد رواه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه: فذكر فيه: أنه كان في حجة الوداع بعد الإحلال، و أنه كان بأجل معلوم، و قد قال الحسن: إنها في عمرة القضاء. 

  • و فيه عن الزهري: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جمع المتعة في غزوة تبوك. 

  • أقول: و الروايات كما ترى تختلف في تشخيص زمان نهيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بين قائلة أنه كان قبل الهجرة، و قائلة بأنه بعد الهجرة بنزول آيات النكاح و الطلاق و العدة و الميراث أو بنهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عام خيبر أو زمن عمرة القضاء أو عام أوطاس أو عام الفتح أو عام تبوك أو بعد حجة الوداع، و لذا حمل على تكرر النهي عنها مرات عديدة، و إن كلا من الروايات تحدث عن مرة منها لكن جلالة بعض رواتها كعلي و جابر و ابن مسعود مع ملازمتهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و خبرتهم بالخطير و اليسير من سيرته تأبى أن يخفى عليهم نواهيه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في الدر المنثور أخرج البيهقي عن علي قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن المتعة و إنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح و الطلاق و العدة و الميراث بين الزوج و المرأة نسخت. 

  • و فيه أخرج النحاس عن علي بن أبي طالب: أنه قال لابن عباس: إنك رجل تائه إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى عن المتعة.

  • و فيه أخرج البيهقي عن أبي ذر قال: إنما أحلت لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و في صحيح البخاري عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخص فيها فقال له مولى له: إنما كان ذلك و في النساء قلة و الحال شديد، فقال ابن عباس نعم. 

تفسير الميزان ج٤

294
  • و في الدر المنثور أخرج البيهقي عن عمر: أنه خطب فقال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، و قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها لا أوتي بأحد نكحها إلا رجمته. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سبرة قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)ائما بين الركن و الباب و هو يقول: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع ألا و إن الله حرمها إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شي‌ء فليخل سبيلها، و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. 

  • و فيه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: و الله ما كانت المتعة إلا ثلاثة أيام أذن لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)فيها، ما كانت قبل ذلك و لا بعد.۱ 

  • و في تفسير الطبري عن مجاهد: فما استمتعتم به منهن قال: يعني نكاح المتعة. 

  • و فيه عن السدي: في الآية قال: هذه المتعة، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، و هي منه بريئة، و عليها أن تستبرئ ما في رحمها، و ليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه. 

  • و في صحيحي البخاري و مسلم و رواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق و ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال:كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و ليس معنا نساؤنا، فقلنا: أ لا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، و رخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكُمْ}.

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن نافع :أن ابن عمر سئل عن المتعة فقال: حرام فقيل له: إن ابن عباس يفتي بها، قال فهلا ترمرم بها في زمان عمر. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و الطبراني و البيهقي من طريق سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس: ما ذا صنعت؟ ذهب الركاب بفتياك، و قالت فيه الشعراء، قال: و ما قالوا: قلت: قالوا: 

  • أقول للشيخ لما طال مجلسه***يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟
  • هل لك في رخصة الأطراف آنسة***تكون مثواك حتى مصدر الناس؟
    1.  جملة من الأخبار الدالة على قول بعض الصحابة و التابعين عن المفسرين بجواز المتعة. 

تفسير الميزان ج٤

295
  • فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، لا و الله ما بهذا أفتيت، و لا هذا أردت، و لا أحللتها إلا للمضطر، و لا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة و الدم و لحم الخنزير. 

  • و فيه أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أ سفاح هي أم نكاح؟ فقال: لا سفاح و لا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي المتعة كما قال الله، قلت: هل لها من عدة؟ قال: عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان قال: لا. 

  • و فيه أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر، من طريق عطاء عن ابن عباس قال: يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد، و لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي، قال: و هي التي في سورة النساء: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} إلى كذا و كذا من الأجل على كذا و كذا، قال: و ليس بينهما وراثة، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم، و إن تفرقا فنعم و ليس بينهما نكاح، و أخبر: أنه سمع ابن عباس: أنه يراها الآن حلالا. 

  • و في تفسير الطبري و رواه في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و أبي داود في ناسخه عن الحكم: أنه سئل عن هذه الآية أ منسوخة؟ قال: لا، و قال علي: لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي.

  • ۱ و في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول الله ص و أبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث.

  • أقول: و نقل عن جامع الأصول، لابن الأثير و زاد المعاد لابن القيم و فتح الباري لابن حجر و كنز العمال. 

  • و في الدر المنثور أخرج مالك و عبد الرزاق عن عروة بن الزبير أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب، فقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه، فخرج عمر بن الخطاب يجر رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة، و لو كنت تقدمت فيها لرجمت.

  • أقول: و نقل عن الشافعي في كتاب الأم و البيهقي في السنن الكبرى. 

    1.  جملة من الأخبار الدالة على نهي عمر عن المتعة. 

تفسير الميزان ج٤

296
  • و عن كنز العمال، عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة: أن رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها و أشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أ حق ما حدثت؟ قلت: نعم قال: فإذا قدم فآذنيني، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله ص ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: أما و الذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح. 

  • و في صحيح مسلم و مسند أحمد، عن عطاء : قدم جابر بن عبد الله‌ معتمرا فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال: استمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبي بكر و عمر، و في لفظ أحمد: حتى إذا كان في آخر خلافة عمر رضي الله عنه. 

  • و عن سنن البيهقي عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن متعة النساء فقال: حرام أما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أخذ فيها أحدا لرجمه بالحجارة. 

  • و عن مرآة الزمان، لابن الجوزي :كان عمر رضي الله عنه يقول: و الله لا أوتي برجل أباح المتعة إلا رجمته. و في بداية المجتهد، لابن رشد عن جابر بن عبد الله: تمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبي بكر و نصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس. 

  • و في الإصابة أخرج ابن الكلبي: أن سلمة بن أمية بن خلف الجمحي استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة.

  • و عن زاد المعاد عن أيوب: قال عروة لابن عباس: أ لا تتقي الله ترخص في المتعة؟ فقال ابن عباس: سل أمك يا عرية فقال عروة: أما أبو بكر و عمر فلم يفعلا، فقال ابن عباس: و الله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و تحدثونا عن أبي بكر و عمر. 

تفسير الميزان ج٤

297
  • أقول: و أم عروة أسماء بنت أبي بكر تمتع منها الزبير بن العوام فولدت له عبد الله بن الزبير، و عروة. 

  • و في المحاضرات، للراغب : عير عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة فقال له: سل أمك كيف سطعت المجامر بينها و بين أبيك؟ فسألها فقالت: ما ولدتك إلا في المتعة. 

  • و في صحيح مسلم، عن مسلم القري قال: سألت ابن عباس عن المتعة فرخص فيها، و كان ابن الزبير ينهى عنها، فقال: هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله رخص فيها فادخلوا عليها فاسألوها، قال: فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء فقالت: قد رخص رسول الله فيها. 

  • أقول: و شاهد الحال المحكي يشهد أن السؤال عنها كان في متعة النساء و تفسره الروايات الأخر أيضا. 

  • و في صحيح مسلم، عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.

  • أقول: و رواه البيهقي في السنن، على ما نقل‌، و روي هذا المعنى في صحيح مسلم، في مواضع ثلاث بألفاظ مختلفة. في بعضها (قال جابر): فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموا الحج و العمرة كما أمر الله، و انتهوا عن نكاح هذه النساء، لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته. 

  • و روى هذا المعنى البيهقي في سننه و في أحكام القرآن، للجصاص و في كنز العمال، و في الدر المنثور، و في تفسير الرازي، و مسند الطيالسي.

  • و في تفسير القرطبي عن عمر: أنه قال في خطبة: متعتان كانتا على عهد رسول الله (عليه السلام)، و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: متعة الحج و متعة النساء. 

  • أقول: و خطبته هذه مما تسالم عليه أهل النقل، و أرسلوه إرسال المسلمات كما عن تفسير الرازي، و البيان و التبيين، و زاد المعاد، و أحكام القرآن، و الطبري، و ابن عساكر و غيرهم. 

تفسير الميزان ج٤

298
  • و عن المستبين، للطبري عن عمر: أنه قال: ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنا محرمهن و معاقب عليهن: متعة الحج، و متعة النساء، و حي على خير العمل في الأذان. 

  • و في تاريخ الطبري، عن عمران بن سوادة قال: صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان و سورة معها، ثم انصرف و قمت معه، فقال: أ حاجة؟ قلت: حاجة، قال: فالحق، قال: فلحقت فلما دخل أذن لي فإذا هو على سرير ليس فوقه شي‌ء، فقلت: نصيحة، فقال: مرحبا بالناصح غدوا و عشيا، قلت، عابت أمتك أربعا، قال: فوضع رأس درته في ذقنه، و وضع أسفلها في فخذه، ثم قال: هات، قلت: ذكروا أنك حرمت العمرة في أشهر الحج و لم يفعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لا أبو بكر رضي الله عنه، و هي حلال، قال: هي حلال؟ لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجهم فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم، و هو بهاء من بهاء الله، و قد أصبت. 

  • قلت: و ذكروا أنك حرمت متعة النساء، و قد كانت رخصة من الله، نستمتع بقبضة و نفارق عن ثلاث، قال: إن رسول الله ص أحلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى السعة، ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها و لا عاد إليها فالآن من شاء نكح بقبضة، و فارق عن ثلاث بطلاق. و قد أصبت. 

  • قال: قلت: و أعتقت الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها، قال: ألحقت حرمة بحرمة، و ما أردت إلا الخير، و أستغفر الله، قلت: و تشكو منك نهر الرعية، و عنف السياق، قال: فشرع الدرة ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد و كان زامله في غزوة قرقرة الكدر فوالله إني لأرتع‌ فأشبع، و أسقي فأروي، و أنهز اللفوث، و أزجر العروض، و أذب قدري، و أسوق خطوي، و أضم العنود، و ألحق القطوف، و أكثر الزجر، و أقل الضرب، و أشهر العصا، و أدفع باليد لو لا ذلك لأعذرت. 

  • قال: فبلغ ذلك معاوية فقال: كان و الله عالما برعيتهم.

  • أقول: و نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، عن ابن قتيبة. 

  • هذه عدة من الروايات الواردة في أمر متعة النساء، و الناظر المتأمل الباحث يرى ما فيها من التباين و التضارب، و لا يتحصل للباحث في مضامينها غير أن عمر بن ـ 

تفسير الميزان ج٤

299
  • الخطاب أيام خلافته حرمها و نهى عنها لرأي رآه في قصص عمرو بن حريث، و ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي، و أما حديث النسخ بالكتاب أو السنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى محصل، على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها المجري للمنع، المقرر حرمة العمل و حد الرجم لمن فعل هذا أولا . 

  • و أنها كانت سنة معمولا بها في زمن النبي في الجملة بتجويز منه (صلى الله عليه وآله و سلم): إما إمضاء و إما تأسيسا، و قد عمل بها من أصحابه من لا يتوهم في حقه السفاح كجابر بن عبد الله، و عبد الله بن مسعود، و الزبير بن العوام، و أسماء بنت أبي بكر، و قد ولدت بها عبد الله بن الزبير و هذا ثانيا . 

  • و إن في الصحابة و التابعين من كان يرى إباحتها كابن مسعود و جابر و عمرو بن حريث و غيرهم، و مجاهد و السدي و سعيد بن جبير و غيرهم و هذا ثالثا . 

  • و هذا الاختلاف الفاحش بين الروايات هو المفضي للعلماء من الجمهور بعد الخلاف فيها من حيث أصل الجواز و الحرمة أولا، إلى الخلاف في نحو حرمتها و كيفية منعها ثانيا و ذهابهم فيها إلى أقوال مختلفة عجيبة ربما أنهي إلى خمسة عشر قولا. 

  • و إن للمسألة جهات من البحث لا يهمنا إلا الورود من بعضها، فهناك بحث كلامي دائر بين الطائفتين: أهل السنة و الشيعة، و بحث آخر فقهي فرعي ينظر فيها إلى حكم المسألة من حيث الجواز و الحرمة، و بحث آخر تفسيري من حيث النظر في قوله تعالى: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (الآية): هل مفاده تشريع نكاح المتعة؟ و هل هو بعد الفراغ عن دلالته على ذلك منسوخ بشي‌ء من الآيات كآية المؤمنون أو آيات النكاح و التحريم و الطلاق و العدة و الميراث؟ و هل هو منسوخ بسنة نبوية؟ و هل هو على تقدير تشريعه يشرع حكما ابتدائيا أو حكما إمضائيا؟ إلى غير ذلك. 

  • و هذا النحو الثالث من البحث هو الذي نعقبه في هذا الكتاب، و قد تقدم خلاصة القول في ذلك فيما تقدم من البيان، و نزيده الآن توضيحا بإلفات النظر إلى بعض ما قيل في المقام على دلالة الآية على نكاح المتعة و تسنينها، ذلك بما ينافي ما مر في البيان المتقدم. 

تفسير الميزان ج٤

300
  • قال بعضهم بعد إصراره على أن الآية إنما سيقت لبيان إيفاء المهر في النكاح الدائم: و ذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة، و هو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا، و استدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبي و ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهم، و بالأخبار و الآثار التي رويت في المتعة. 

  • قال: فأما القراءة فهي شاذة لم تثبت قرآنا، و قد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من مثل هذا آحادا فالزيادة فيه من قبيل التفسير، و هو فهم‌ لصاحبه، و فهم الصحابي ليس حجة في الدين لا سيما إذا كان النظم و الأسلوب يأباه كما هنا، فإن المتمتع بالنكاح الموقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده الأول المسافحة، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه و منعها من التنقل في زمن الزنا، فإنه لا يكون فيه شي‌ء ما من إحصان المرأة التي توجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل: 

  • كرة حذفت بصوالجة #***فتلقاها رجل رجل‌ 
  • أقول: أما قوله: إنهم استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود و غيره فكل مراجع يراجع كلامهم يرى أنهم لم يستدلوا بها استدلالهم بحجة معتبرة قاطعة كيف و هم لا يرون حجية القراءات الشاذة حتى الشواذ المنقولة عن أئمتهم، فكيف يمكن أن يستدلوا بما لا يرونه حجة على من لا يراه حجة؟ فهل هذا إلا أضحوكة؟

  • بل إنما هو استدلال بقول من قرأ بها من الصحابة بما أنه قول منهم بكون المراد بالآية ذلك، سواء كان ذلك منهم قراءة مصطلحة، أو تفسيرا دالا على أنهم فهموا من لفظ الآية ذلك. 

  • و ذلك ينفعهم من جهتين: إحداهما: أن عدة من الصحابة قالوا بما قال به هؤلاء المستدلون، و قد قال به على ما نقل جم غفير من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و التابعين، و يمكن المراجع في الحصول على صحة ذلك أن يراجع مظانه. 

  • و الثانية: أن الآية دالة على ذلك و يدل على ذلك قراءة هؤلاء من الصحابة كما يدل ما ورد عنهم في نسخ الآية أيضا أنهم تسلموا دلالتها على نكاح المتعة حتى رأوا نسخها أو رووا نسخها، و هي روايات كثيرة تقدمت عدة منها، فالشيعة يستفيدون من روايات النسخ كما يستفيدون من القراءة الشاذة المذكورة على حد سواء من دون أن 

تفسير الميزان ج٤

301
  • يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ، و إنما يستفيدون من الجميع من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء و الرواة كانوا يرون دلالة الآية على نكاح المتعة. 

  • و أما قوله: لا سيما إذا كان النظم و الأسلوب يأباه كما هنا، فكلامه يعطي أنه جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء و صبه أخذا بالأصل اللغوي المشتق منه ثم جعله أمرا منوطا بالقصد، و لزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة و صب الماء سفاح لا نكاح، و قد غفل عن أن الأصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع، ففي لسان العرب: قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب الوطء و لازم ما سلكه أن يكون النكاح أيضا سفاحا، و يختل به المقابلة بين النكاح و السفاح. 

  • على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة و صب الماء سفاحا، و هل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك؟ فإن قال: بين النكاح الدائم و المؤجل في ذلك فرق، فإن النكاح الدائم موضوع بطبعه على قصد الإحصان بالازدواج و إيجاد النسل، و تشكيل البيت بخلاف النكاح المؤجل. فهذا منه مكابرة، فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس عن الزنا، و التوقي عن اختلال الأنساب، و إيجاد النسل و الولد، و تأسيس البيت يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل، و يختص بأن فيه نوع تسهيل و تخفيف على هذه الأمة، يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة الزوجة، أو لغربة، أو لعوامل مختلفة أخر تمنعه عن النكاح الدائم. 

  • و كذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل مما عده ملاكا للسفاح كقصد صب الماء و قضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم، و دعوى أن النكاح الدائم بالطبع موضوع للفوائد السابقة، و نكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة على أن تكون مضارا دعوى واضحة الفساد. 

  • و إن قال: إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه: بأن السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا، و ربما شمل النكاح الدائم و لا سيما إذا كان بقصد صب الماء. 

  • و أما قوله: فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه إلخ، فمن عجيب الكلام، 

تفسير الميزان ج٤

302
  • و ليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل و المرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا، و تكون المرأة لا يصح منها هذا القصد؟ و هل هذا إلا مجازفة. 

  • و أما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق الدينية التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية و أخروية لا يستهان بها سواء كان نكاح المتعة محرما أو مباحا . 

  • فما ذا ينفع الشعر و هو نسيج خيالي، الباطل أعرف عنده من الحق، و الغواية أمس به من الهداية. 

  • و هلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات، و لا سيما في ذيل قول عمر في رواية الطبري المتقدم: «فالآن من شاء نكح بقبضة و فارق عن ثلاث بطلاق». 

  • و هل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله و رسوله في أصل‌ تشريع هذا النوع من النكاح تأسيسا أو إمضاء و قد كان دائرا بين المسلمين في أول الإسلام بمرأى من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و مسمع بلا شك؟ 

  • فإن قال: إنه (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر و إكباب الفاقة على عامة المسلمين، و عروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة. 

  • قلنا: مع فرض تداوله في أول الإسلام بين الناس و شهرته باسم نكاح المتعة و الاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها، و عدم صلاحية شي‌ء من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في دلالة الآية من غير دليل. 

  • سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لمصلحة الضرورة لكنا نسأل أن هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أشد و أعظم منها بعده، و لا سيما في زمن الراشدين، و قد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الأرض و مغاربها بالألوف بعد الألوف من الغزاة؟ و أي فرق بين أوائل خلافة عمر و أواخرها من حيث تحول هذه الضرورة من فقر و غزوة و اغتراب في الأرض و غير ذلك؟ و ما هو الفرق بين الضرورة و الضرورة؟

  • و هل الضرورة المبيحة اليوم و في جو الإسلام الحاضر أشد و أعظم أو في زمن ـ 

تفسير الميزان ج٤

303
  • النبي ص و النصف الأول من عهد الراشدين؟ و قد أظل الفقر العام على بلاد المسلمين، و قد مصت حكومات الاستعمار و الدول القاهرة المستعلية و الفراعنة من أولياء أمور المسلمين كل لبن في ضرعهم، و حصدوا الرطب من زرعهم و اليابس. 

  • و قد ظهرت الشهوات في مظاهرها، و ازينت بأحسن زينتها و أجملها، و دعت إلى اقترافها بأبلغ دعوتها و لا يزال الأمر يشتد، و البلية تعم البلاد و النفوس، و شاعت الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين و الجنديين و عملة المعامل، و هم الذين يكونون المعظم من سواد الإنسانية، و نفوس المعمورة. 

  • و لا يشك شاك و لن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا و اللواط و كل انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت، و المشاغل الموقتة المؤجلة المانعة من اتخاذ المنزل و النكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة و نحو ذلك. فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الإسلام و هي أقل و أهون عند القياس نكاح المتعة لكنها لا تقوم للإباحة في غير ذلك العهد و قد أحاطت البلية و عظمت الفتنة؟

  • ثم قال: ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عز و جل في صفة المؤمنين: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ اِبْتَغى‌َ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ}: «المؤمنون: ٧» أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، و هذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها يعني قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} (الآية)، بل هي بمعناها فلا نسخ، و المرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف، كما قال الله تعالى: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها، فلا يعدونها من الأربع اللواتي يحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء، و لا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا، و ذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} و هذا تناقض صريح منهم. 

  • و نقل عنهم بعض المفسرين: أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث و لا نفقة و لا طلاق و لا عدة، و الحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول، و لا دليل في هذه الآية و لا شبه دليل عليه البتة. 

تفسير الميزان ج٤

304
  • أقول: أما قوله: ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا «إلخ»، محصله: أن آيات المؤمنون: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (الآيات) تقصر الحل في الأزواج، و المتمتع بها ليست زوجة، فالآيات مانعة من حلية المتعة، أولا و مانعة من شمول قوله: {فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} (الآية) لها ثانيا. 

  • فأما أن الآيات تحرم المتعة، فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية، و المتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة، فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يبيح ما حرمه القرآن بإجازته المتعة؟ و قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن، أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ} (الآيات)، ثم منع عنها القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فحييت بذلك الآيات بعد موتها، و استحكمت بعد نسخها؟ و هذا أمر لا يقول به، و لا قال به أحد من المسلمين، و لا يمكن أن يقال به. 

  • و هذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة، و أن المتعة نكاح، و أن هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا، و إلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته. 

  • و بتقرير آخر: آيات المؤمنون و المعارج: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ} (الآيات)، أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات، فمن المتفق عليه بينهم أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة و هي مكية، و من الضروري بحسب النقل أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رخص في المتعة، و لو لا كون المتمتع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة ناسخا للآيات و هي غير منسوخة، فالتمتع زوجية مشرعة فإذا تمت دلالة الآيات على تشريعه فما يدعى من نهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات، و استلزامه نسخها، و قد عرفت أنها غير منسوخة بالاتفاق. 

  • و كيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة و المتعة نكاح، و ناهيك في ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة و التابعين بنكاح المتعة حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقي عن عمر في خطبته، و رواية مسلم عن أبي نضرة، حتى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمال عن سليمان بن يسار: «بينوا حتى‌ يعرف النكاح من السفاح» فإن معناه أن المتعة نكاح 

تفسير الميزان ج٤

305
  • لا يتبين من السفاح، و أنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا بنكاح يبين و يتميز منه، و الدليل على ذلك قوله: بينوا. 

  • و بالجملة كون المتعة نكاحا و كون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن و لسان السلف من الصحابة و من تلاهم من التابعين مما لا ينبغي الارتياب فيه، و إنما تعين اللفظان (النكاح و التزويج) في النكاح الدائم بعد نهي عمر، و انتساخ العمل به بين الناس فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم، فصار هو المتبادر من اللفظ إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرعة. 

  • و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها «إلخ»، يسأل عنه فيه: ما هو المراد بالزوجة؟ أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء، و أما الزوجة في عرف المتشرعة كما ذكر المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها و لا محذور. 

  • و أما قوله: و ذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزاني المتمتع قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} و هذا تناقض صريح منهم، ففيه أنا ذكرنا في ذيل الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالإحصان إحصان التعفف دون الازدواج، و لو سلم أن المراد بالإحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة لنكاح المتعة، و أما عدم رجم الزاني المتمتع (مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا) فإنما هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث و النفقة و الطلاق و العدد. 

  • و توضيح ذلك أن آيات الأحكام إن كانت مسوقة على الإهمال لكونها واردة مورد أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص و لا تقييد، و إن كانت عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير محذور التناقض و المرجع في ذلك علم أصول الفقه. 

  • و هذه الآيات أعني آيات الإرث و الطلاق و النفقة كسائر الآيات لا تخلو من التخصيص و التقييد كالإرث و الطلاق في المرتدة و الطلاق عند ظهور العيوب المجوزة 

تفسير الميزان ج٤

306
  • لفسخ العقد و النفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة، فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم الميراث و الطلاق و النفقة مخصصات أو مقيدات، و تعين ألفاظ التزويج و النكاح و الإحصان و نحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون الحقيقة الشرعية فلا محذور أصلا كما توهمه فإذا قال الفقيه مثلا: الزاني المحصن يجب رجمه، و لا رجم في الزاني المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح بالإحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائية، و لا ينافي ذلك كون الإحصان في عرف القرآن موجودا في الدائمة و المنقطعة معا، و له في كل منهما آثار خاصة. 

  • و أما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع الشيعة، و هذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان، و قد تقدم بعض الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام). 

  • ثم قال: و أما الأحاديث و الآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي ص كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات‌ ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا. 

  • و أن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا، و أقام معها ذلك الزمن الذي عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها. 

  • أقول: ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم النهي ثم الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهي المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات على ما فيها من التدافع و التطارد فعليك بالرجوع إليها (و قد تقدم أكثرها) حتى ترى أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا. 

  • ثم قال: و يرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر، و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية، و لكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر. 

  • أقول: أما قوله: إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن المتعة كانت عندهم من أنواع‌ الزنا، و قد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية فتدرج 

تفسير الميزان ج٤

307
  • النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه، و أبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات فمنعه منعا مؤبدا. 

  • و لعمري أنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التي لم يرد الله بها إلا تطهير هذه الأمة، و إتمام النعمة عليهم. 

  • ففيه أولا: ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج و المؤمنون: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (الآيات) و هي مكية على حرمة المتعة على ما أصر عليه هذا القائل ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ و أحكام الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها و هكذا، و هل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله إليه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و ثانيا: أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الإسراء: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى‌َ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً}: «الإسراء: ٣٢» و أي لسان أصرح من هذا اللسان، و الآية مكية واقعة بين آيات المناهي، و كذا قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى أن قال: {وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ}: «الأنعام: ١٥١»، كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهي مفيدة لاستغراق النهي كل فاحشة و زنا، و الآية مكية، و كذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ}: الأعراف: ٣٣»، و الآية أيضا مكية، و كذا قوله: {وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ اِبْتَغى‌َ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ}: المؤمنون: ٧، المعارج: ٣١، و السورتان مكيتان، و الآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا. 

  • فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة، و جميعها مكية صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم و المنع؟ أو أنه يقول كما هو اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة: إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا، ثم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الإيقاع موقع القبول، و قد شدد الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)في هذه الخلة بعينها، قال تعالى: {وَ إِنْ كَادُوا 

تفسير الميزان ج٤

308
  •  لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَ لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}: «الإسراء: ٧٥». 

  • و ثالثا: أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مرة بعد مرة إن كان ترخيصا من غير تشريع للحل، و الفرض كون المتعة زنا و فاحشة كان ذلك مخالفة صريحة منه (صلى الله عليه وآله و سلم) لربه لو كان من عند نفسه، و هو معصوم بعصمة الله تعالى، و لو كان من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء، و قد رده تعالى بصريح قوله خطابا لنبيه: {قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الآية): «الأعراف: ٢٨». 

  • و إن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا و فاحشة فإنها سنة مشروعة محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم و معها فريضة المهر كالنكاح الدائم، و العدة المانعة عن اختلاط المياه و اختلال الأنساب، و معها ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة و ليست الفاحشة إلا العمل المنكر الذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود و إخلاله بالمصلحة العامة و منعه عن القيام بحاجة المجتمع الضرورية في حياتهم. 

  • و رابعا: أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في التاريخ، و اصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي، إذ لا عين منه في كتب التاريخ و لا أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية و تسهيل من الله تعالى على هذه الأمة لإقامة أودهم، و وقايتهم من انتشار الزنا و سائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لإقامة هذه السنة و إذا لم تكن الحكومات الإسلامية تغمض في أمر الزنا و سائر الفواحش هذا الإغماض الذي ألحقها تدريجا بالسنن القانونية، و امتلأت بها الدنيا فسادا و وبالا. 

  • و أما قوله: «و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية، و لكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر» ظاهرة أن مراده بالفاحشتين الزنا و شرب الخمر، و هو كذلك إلا أن كون الزنا فاشيا في الإماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالأشعار التي قيلت في ذلك، و قد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علينا. 

تفسير الميزان ج٤

309
  • و يدل عليه أيضا مسألة الادعاء و التبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن بينهم مجرد تسمية و نسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدة و القوة بالإلحاق، و يستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات الأزواج منهن، و أما الإماء فهم و لا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن، و المعاشقة و المغازلة معهن، و إنما كانت شأن الإماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام اكتسابا و استرباحا. 

  • و من الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الإلحاق في السير و الآثار كقصة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان، و ما شهد به شاهد الأمر عند ذلك، و غيرها من القصص المنقولة. 

  • نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي ص عند البيعة: و هل الحرة تزني؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان، و التأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتي بدر و أحد يرفع اللبس و يكشف ما هو حقيقة الأمر. 

  • ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث، و رفعه التدافع الواقع بينها على زعمه: و العمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه: أولها: ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح و الطلاق و العدة إن لم نقل لنصوصه، و ثانيها: الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة إلى أن قال: و ثالثها: نهي عمر عنها و إشارته بتحريمها على المنبر، و إقرار الصحابة له على ذلك و قد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر، و أنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ. 

  • ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه، و إنما كان استنادا إلى التحريم الثابت بنهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و إنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال: حرم الشافعي النبيذ و أحله أبو حنيفة. 

  • أقول: أما الوجه الأول و الثاني فقد عرفت آنفا و في البيان المتقدم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه، و أما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يدعيه هذا القائل، و سواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له و خوفا من تهديده، أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره، أو لعدم 

تفسير الميزان ج٤

310
  • وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن علي و جابر و ابن مسعود و ابن عباس فتحريمه و حلفه على رجم مستحلها و فاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها، و عدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات و أحكامها مما لا غبار عليه. 

  • و قد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الإسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه و في نسخها إلى كتاب أو سنة و ما كان يعرفها المسلمون و لا وقعت إلا في كتب الشيعة. 

  • أقول: و هذا الكلام المبني على الصفح عما يدل عليه الكتاب و الحديث و الإجماع و التاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم نهي عنها في عهد عمر و نفذ النهي عند عامة الناس، و وجه النهي بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي عنها و خالف في ذلك عدة من الأصحاب۱ و جم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز و اليمن و غيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث «و كان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة٢» و مثل مالك أحد أئمة الفقه الأربعة٣، هذا، ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة، و راموا تفسيرها بالنكاح الدائم، و ذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي ص ثم نسخت بالحديث، ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي ص رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة، ثم ذكر هذا القائل الأخير: أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الإسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة، و الله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان. 

    1.  و من عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية: أن هذه آية غلط فيها قوم غلطا عظيما لجهلهم باللغة، و ذلك أنهم ذكروا أن قوله: «فما استمتعتم به منهن» من المتعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام، ثم ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح، و ليتني أدري أن أي فصل من كلامه يقبل الإصلاح؟ أرميه أمثال ابن عباس و أبي و غيره بالجهل باللغة؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة؟ أم دعواه الخبرة باللغة و قد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح؟
    2.  راجع ترجمة ابن جريح في تهذيب التهذيب و ميزان الاعتدال.
    3.  راجع للحصول على هذه الأقوال الكتب الفقهية، و في تفصيل أبحاثها الفقهية و الكلامية ما ألفه أساتذة الفن من القدماء و المتأخرين و خاصة أعلام العصر الحاضر من نظار باحثي الحجج. 

تفسير الميزان ج٤

311
  • بحث علمي كلام في معنى الابن شرعا

  • رابطة النسب و هي الرابطة التي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة الولادة و جامع الرحم هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب و القبائل، و تحمل الخصال المنبعثة عن الدم‌ فتسريها حسب تسرية الدم، و هي المبدأ للآداب و الرسوم و السنن القومية بما تختلط و تمتزج بسائر الأسباب و العلل المؤثرة. 

  • و للمجتمعات الإنسانية المترقية و غير المترقية نوع اعتناء بها في السنن و القوانين الاجتماعية في الجملة: في نكاح و إرث و غير ذلك، و هم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة و تضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما و كانوا يرون قرابة الدعي و بنوته، و كما أن الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب و المسلم، و يلحق الولد للفراش و غير ذلك. 

  • و لما اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال، و الحرية التامة في الإرادة و العمل على ما سمعت في المباحث السابقة، و صار بذلك الابن و البنت في درجة واحدة من القرابة و الرحم الرسمي، و كذلك الأب و الأم، و الأخ و الأخت، و الجد و الجدة، و العم و العمة، و الخال و الخالة، صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين، فصار ابن البنت ابنا للإنسان كبنوة ابن الابن و هكذا ما نزل، و كذا صار بنت الابن و بنت البنت بنتين للإنسان على حد سواء، و على ذلك جرت الأحكام في المناكح و المواريث، و قد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ} (الآية) دالة على ذلك. 

  • و قد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة و أشباهها (و هي مسألة اجتماعية و حقوقية) فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة، فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا، فمن معمم و من مخصص، و كل ذلك من الخطإ. 

  • و قد ذكر بعضهم: أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجري من ناحية الابن، و أما ابن البنت و كل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي 

تفسير الميزان ج٤

312
  • لا يعدهم العرب أبناء للإنسان، و أما قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) للحسنين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا و غير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفي، و أنشد في ذلك قول القائل: 

  • بنونا بنو أبنائنا و بناتنا***بنوهن أبناء الرجال الأباعد 
  • و نظيره قول الآخر: 

  • و إنما أمهات الناس أوعية***مستودعات و للأنساب آباء
  • أقول: و قد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث، و هو غفلة عن أن الآثار و الأحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة و البنوة و نحوهما لا تتبع اللغات، و إنما تتبع نوع بنية المجتمع و السنن الدائرة فيها، و ربما تغيرت هذه الأحكام و الآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها، و هذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا. 

  • و أما ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئا و ليس إلا زخرفة خيالية و تزويقا وهميا حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ و لا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل و ليس بالهزل. 

  • و أما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن و البنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأم، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق، و تربية الأولاد و نحوها. 

  • و بالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب، و من آثاره البارزة في الإسلام الميراث و حرمة النكاح، نعم هناك أحكام و مسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد و النفقة و مسألة سهم أولي القربى من السادات و كل تتبع ملاكها الخاص بها. 

  • بحث علمي آخر في حكمة تحريم محرمات النكاح

  • النكاح و الازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الإنسانية 

تفسير الميزان ج٤

313
  • أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، و هو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية. 

  • على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر و الأنثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل و التوالد كما ذكرناه مرارا، و الطائفتان (الذكر و الأنثى) في ابتغاء ذلك شرع سواء و إن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع و العواطف الفطرية الملائمة لتربية الأولاد. 

  • ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد، و تقبل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقيا ببقاء نسله، و تذعن بكون المرأة سكنا للرجل و بالعكس، و تحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك و الاختصاص، و تحترم لزوم تأسيس البيت. 

  • و المجتمعات التي تحترم هذه الأصول و الأحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الإذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال و النساء على نحو يبطل الأنساب و إن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة و قوة التوالد الذي يوجبه شيوع الزنا و الفحشاء. 

  • هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد، أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة و مصاحبة بين الزوجين. 

  • فالفحشاء و السفاح الذي يقطع النسل و يفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة الإنسانية القاضية بالنكاح، و لا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم المختلفة و المجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في الرجال و النساء في المواصلات و المخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة، و تراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه. 

  • و الإنسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع، و لا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا، و لا يجتنب الذكر من الإنسان أما و لا أختا و لا بنتا و لا 

تفسير الميزان ج٤

314
  • غيرهن، و لا الأنثى منه أبا و لا أخا و لا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ و النقل يثبت نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و غيرهن في الأمم العظيمة الراقية و المنحطة، و الأخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين الإخوة و الأخوات، و الآباء و البنات و غيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شي‌ء، و ما كان بين هذه الأمم من اجتناب نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و ما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب و الرسوم القومية. 

  • و إنك إذا قايست القوانين المشرعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين و السنن الدائرة في الدنيا و تأملت فيها منصفا وجدتها أدق و أضمن لجميع شئون الاحتياط في حفظ الأنساب و سائر المصالح الإنسانية الفطرية، و جميع ما شرعه من الأحكام في أمر النكاح و ما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب و سد سبيل الزنا. 

  • فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء، و بذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه. 

  • و أما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها و هي أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الإنسان و هو في المجتمع المنزلي أكثر ما يعاشر و يختلط و يسترسل و يديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الأصناف الأربعة عشر، و دوام المصاحبة و مساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس و ركوز الفكر فيهن بما يهدي إلى تنبه الميول و العواطف الحيوانية و هيجان دواعي الشهوة، و بعثها الإنسان إلى ما يستلذه طبعه، و تتوق له نفسه، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه. 

  • فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة، و تكرر هجوم الوساوس النفسانية و ورود الهم بعد الهم لا يدع للإنسان مجال التحفظ على نهي واحد من الزنا. 

  • بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا، و تقع عليه التربية الدينية حتى 

تفسير الميزان ج٤

315
  • يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن و النيل منهن، و يميت ذلك تعلق الشهوة بهن و يقطع منبتها و يقلعها من أصلها، و هذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم، و هتك ستر الأمهات و البنات، و لو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا و نحوه. 

  • و هذا كما أن الإسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، و المنع عن اختلاط الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و لو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا في الحجز بين الإنسان و بين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين: إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة، و إما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الإنسان حتى يستوي على هذه العقيدة، لا يبصر مثاله فيما يبصر، و لا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا. 

  • و تصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا، و تعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث‌ حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا الداء، و لا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه، ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات و البنات و الأمهات، ثم إلى ما بين الرجال و الغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... و ثم... آل الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر، و نعمة يقيم بها صلب الإنسانية، و يطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي و اقتصادي و اجتماعي و وسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع و الفرد، و عادت الحياة الإنسانية أمنية تخيلية، و لعبا و لهوا بتمام معنى الكلمة، و قد اتسع الخرق على الراتق. 

  • هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات و غيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت. 

  • و تأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا و تسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا و سريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت. 

  • و قد تقدم أن قوله تعالى: {وَ رَبَائِبُكُمُ اَللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} (الآية)، لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة، و يمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم: 

تفسير الميزان ج٤

316
  • {يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ ضَعِيفاً}: «النساء: ٢٨» فإن تحريم هذه الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الإنسان ثقل الصبر على هواهن و الميل إليهن و النيل منهن على إمكان من الأمر، و قد خلق الإنسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية، و الدواعي الشهوانية، و قد قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}: «يوسف: ٢٨» فإن من‌ أمر الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيات، و يصاحبهن في الخلوة و الجلوة، و يتصل بهن ليلا و نهارا و يمتلئ سمعه و بصره من لطيف إشاراتهن و حلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن و لا يجيبها في ما تتوق إليه، و الحاجة إحدى الحاجتين الغذاء و النكاح، و ما سواهما فضل يعود إليهما، و كأنه هو الذي‌ أشار إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: «من تزوج أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر»۱

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٢٩ الی ٣٠]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ٢٩ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً ٣٠} 

  • (بيان)

  • في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهي عن أكل المال بالباطل و كانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل و التعدي ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى قوله: {مِنْكُمْ} 

    1. مروية في نكاح الوسائل.

تفسير الميزان ج٤

317
  • الأكل‌ معروف و هو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه و بلعه مثلا، و لما فيه من معنى التسلط و الإنفاد يقال: أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول و البلع، و يقال أيضا: أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه، و ذلك بعناية أن العمدة في تصرف الإنسان في الأشياء هو التغذي بها لأنه أشد ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه و أمسه منه، و لذلك سمي التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك و نحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه و التصرف فيه كما ينفد الأكل الغذاء بالأكل. 

  • و الباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي، و التجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى، فتنطبق على المعاملة بالبيع و الشري. 

  • و في تقييد قوله: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} بقوله: {بَيْنَكُمْ} الدال على نوع تجمع منهم على المال و وقوعه في وسطهم إشعار أو دلالة بكون الأكل المنهي عنه بنحو إدارته فيما بينهم و نقله من واحد إلى آخر بالتعاور و التداول، فتفيد الجملة أعني قوله: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}، بعد تقييدها بقوله: {بِالْبَاطِلِ} النهي عن المعاملات الناقلة التي لا تسوق المجتمع إلى سعادته و نجاحه بل تضرها و تجرها إلى الفساد و الهلاك، و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك. 

  • و على هذا فالاستثناء الواقع في قوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، استثناء منقطع جي‌ء به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل و نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل و الانتقال المالي كالربويات و الغرريات و القمار و أضرابها باطلة بنظر الشرع كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع و تلاشي أجزائها و فيه هلاك الناس فأجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع، و تقيم صلبه، و تحفظه على استقامته، و هي التجارة عن تراض و معاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع، و ذلك نظير قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: «الشعراء: ٨٩» فإنه لما نفي النفع عن المال و البنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ و لا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الإنسان إنما هو المال و البنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس و الخيبة فأجيب أن هناك 

تفسير الميزان ج٤

318
  • أمرا آخر نافعا كل النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين و هو القلب السليم. 

  • و هذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية و كون قوله: {بِالْبَاطِلِ} قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى: {وَ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى اَلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ اَلنَّاسِ} (الآية): «البقرة: ١٨٨» و على هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة و الأمور المشروعة غير التجارة مما يوجب التملك و يبيح التصرف في المال كالهبة و الصلح و الجعالة و كالأمهار و الإرث و نحوها. 

  • و ربما يقال: إن الاستثناء متصل و قوله: {بِالْبَاطِلِ} قيد توضيحي جي‌ء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلق النهي، و التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك: لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا، و هذا النحو من الاستعمال و إن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الأوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله، و بالتجارة صرفه فيما يرضاه. و ربما قيل: إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و أنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: {وَ لاَ عَلىَ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}: «النور: ٦١» و قد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني. 

  • و من غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله: {بِالْبَاطِلِ} قيدا احترازيا فقال ما حاصله: أن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجملة المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل و من غير عوض ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا. 

  • فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر، و ما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته و ترويجها بزخرف القول من غير ـ 

تفسير الميزان ج٤

319
  • غش و لا خداع و لا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الأسباب. 

  • و كل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة و تسهيلا لأهلها، و لو لم يجز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة و اختل نظام المجتمع الديني. انتهى ملخصا. 

  • و فساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه أثره المطلوب منه، و أثر البيع و التجارة تبدل المالين و تغير محل الملكين لرفع حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه و ينال إربه بالمعادلة، و ذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شي‌ء من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة أخرى يعادل بانضمامها الكثير، و الكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين، و مع وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة. 

  • على أن المستأنس بأسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن يعد القرآن أمرا من الأمور باطلا ثم يأمر به و يهدي إليه و قد قال تعالى في وصفه: {يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلى‌َ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}: الأحقاف: ٣٠، و كيف يهدي إلى الحق ما يهدي إلى الباطل؟

  • على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الإنسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى المبادلة في الأموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شي‌ء من الباطل و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها، و لا يفي إلا ببعض شأنها؟ و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل و هل الفارق بين الحق و الباطل في الأعمال إلا اهتداء الفطرة و عدم اهتدائها؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله: {بِالْبَاطِلِ} قيدا توضيحيا. 

  • و أعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة و ما في معناها من قبيل الباطل لأنه لا ثبات له و لا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي خير و أبقى انتهى. 

تفسير الميزان ج٤

320
  • و هو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع، على أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ}: العنكبوت: ٦٤» و قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ}: النحل: ٩٦، و قوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجَارَةِ}: الجمعة: ١١، و أما ما نحن فيه فجريان هذه النكتة توجب تشريع الباطل، و يجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ظاهر الجملة أنها نهي عن قتل الإنسان نفسه لكن مقارنتها قوله: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}، حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت أو دلت على أن المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة نفس كل بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه و نفس غيره أيضا نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه، و بهذه العناية تكون الجملة أعني قوله: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} مطلقة تشمل الانتحار الذي هو قتل الإنسان نفسه و قتل الإنسان غيره من المؤمنين. 

  • و ربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أن المراد من قتل النفس المنهي عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل و التسبيب إلى هلاك نفسه المؤدي إلى قتله، و ذلك أن تعليل النهي عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق و أنسب كما لا يخفى، و يزيد على هذا معنى الآية عموما و اتساعا، و هذه الملاءمة بعينها تؤيد كون قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} تعليلا لقوله: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فقط. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَ ظُلْماً} (الآية) العدوان مطلق التجاوز سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى اَلظَّالِمِينَ}: البقرة: ١٩٣، و قال تعالى: {وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىَ وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ}: المائدة: ٢، فهو أعم موردا من الظلم، و معناه في الآية تعدي الحدود التي حدها الله تعالى، و الإصلاء بالنار الإحراق بها. 

  • و في الآية من حيث اشتمالها على قوله: {ذَلِكَ} التفات عن خطاب المؤمنين إلى 

تفسير الميزان ج٤

321
  • خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم و هم نفس واحدة و النفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها فليس من المؤمنين، فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون، و إنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين و غيرهم، و لذلك بني الكلام على العموم فقيل: و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما فسوف نصليه، و لم يقل: و من يفعل ذلك منكم. 

  • و ذيل الآية أعني قوله. {وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً} يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله: ذلك هو النهي عن قتل الأنفس بناء على كون قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ناظرا إلى تعليل النهي عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين، فإن الظاهر أن المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم و رأفة، و إلا فمجازاته لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير، و مع ذلك فعود التعليل و كذا التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الأولى أعني النهي عن أكل المال بالباطل و النهي عن قتل النفس لا ضير فيه. 

  • و أما قول بعضهم: إن التعليل و التهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من المناهي من أول السورة إلى هذه الآية، و كذا قول آخرين: إن ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر من المناهي من قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسَاءَ كَرْهاً} (الآية) (مريم ١٩) إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهي الواقعة في هذه الآيات فمما لا دليل على اعتباره. 

  • و تغيير السياق في قوله: فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في قوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله: {ذَلِكَ} عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول، ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله: {وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً} إشعار بالتعليل، أي و ذلك عليه يسير لأنه هو الله عز اسمه. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في المجمع في قوله تعالى: {بِالْبَاطِلِ} قولان: أحدهما أنه الربا و القمار و البخس و الظلم، قال: و هو المروي عن الباقر (عليه السلام). 

تفسير الميزان ج٤

322
  • و في نهج البيان عن الباقر و الصادق (عليه السلام): أنه القمار و السحت و الربا و الأيمان. 

  • و في تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاءه رجل فقال له: أخبرني عن قول الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، قال: عنى بذلك القمار، و أما قوله: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} عنى بذلك الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده يجي‌ء في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك.

  • أقول: الآية عامة في الأكل بالباطل، و ذكر القمار و ما أشبهه من قبيل عد المصاديق و كذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر. 

  • و فيه عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال: حدثني الحسن بن زيد عن أبيه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ و كيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}

  • و في الفقيه قال الصادق (عليه السلام): من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها، قال الله تعالى: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً}

  • أقول: و الروايات كما ترى تعمم معنى قوله: {وَ لاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (الآية) كما استفدناه فيما تقدم، و في معنى ما تقدم روايات أخر. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن ماجة و ابن المنذر عن ابن سعيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما البيع عن تراض. 

  • و فيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باع رجلا ثم قال له: اختر فقال: قد اخترت فقال: هكذا البيع. 

  • و فيه أخرج البخاري و الترمذي و النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما للآخر: اختر.

  • أقول: قوله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروي من طرق الشيعة أيضا، و قوله: أو يقول أحدهما للآخر: اختر لتحقيق معنى التراضي.

تفسير الميزان ج٤

323
  • [سورة النساء (٤): آیة ٣۱]

  • {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ٣١} 

  • (بيان‌)

  • الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة. 

  • قوله تعالى{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} إلى قوله: {سَيِّئَاتِكُمْ} الاجتناب أصله من الجنب و هو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة، فإن الإنسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه و مقاديم بدنه، و إذا أعرض عنه و تركه وليه بجنبه فاجتنبه، فالاجتناب‌ هو الترك، قال الراغب: و هو أبلغ من الترك، انتهى، و ليس إلا لأنه مبني على الاستعارة، و من هذا الباب الجانب و الجنيبة و الأجنبي. 

  • و التكفير من الكفر و هو الستر و قد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات و الكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي و نحوها، و الكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر، و من هنا كان المستفاد من قوله: {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أن هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة، فيتبين من الآية: أولا: أن المعاصي قسمان: صغيرة و كبيرة، و ثانيا: أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك. 

  • نعم العصيان و التمرد كيفما كان كبير و أمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الإنسان و ربه لا بين معصية و معصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار و بين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر. 

  • و كبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلق بغيرها و لا يخلو قوله تعالى: {مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}، من إشعار أو دلالة على ذلك، و الدليل على أهمية النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار و نحو ذلك. 

تفسير الميزان ج٤

324
  • قوله تعالى{وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} المدخل‌ بضم الميم و فتح الخاء اسم مكان و المراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه و إن كان مرجعهما واحدا.

  • كلام في الكبائر و الصغائر و تكفير السيئات‌ 

  • لا ريب في دلالة قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الآية)، على انقسام المعاصي إلى كبائر و صغائر سميت في الآية بالسيئات، و نظيرها في الدلالة قوله تعالى: {وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (الآية): «الكهف: ٤٩»، إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة و الكبيرة صغائر الذنوب و كبائرها. 

  • و أما السيئة فهي بحسب ما تعطيه مادة اللفظ و هيئته هي الحادثة أو العمل الذي يحمل المساءة، و لذلك ربما يطلق لفظها على الأمور و المصائب التي يسوء الإنسان وقوعها كقوله تعالى: {وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (الآية): «النساء: ٧٩»، و قوله تعالى: {وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ} (الآية): «الرعد: ٦»، و ربما أطلق على نتائج المعاصي و آثارها الخارجية الدنيوية و الأخروية كقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} (الآية): «النحل: ٣٤»، و قوله تعالى: {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}: «الزمر: ٥١»، و هذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق، و ربما أطلق على نفس المعصية كقوله تعالى: {وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الآية): «الشورى: ٤٠»، و السيئة بمعنى المعصية ربما أطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر و الكبائر كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ‌ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: «الجاثية: ٢١»، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و ربما أطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الآية)، إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر. 

  • و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي أن يرتاب فيه. 

  • و كذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان، و هي تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة 

تفسير الميزان ج٤

325
  • إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر، فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار، فإن ذلك لا معنى له لأن الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك، و ارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها و يتهاون في أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان و الاستهانة بأمر الله سبحانه، و هذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الإنسان المخلوق على الضعف المبني على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل و الهوى عليه، فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي تعد غفران الذنوب كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‌َ رَبِّكُمْ} (الآية): «الزمر: ٥٤» فكما لا يصح أن يقال هناك: أن الآية تغري إلى المعصية بفتح باب التوبة و تطييب النفوس بذلك فكذا هاهنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآيسة بالرجاء. 

  • و من هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر و الابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر و يميزون هؤلاء الموبقات من النهي المتعلق بها، و لا أقل من أن يقال: إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة. 

  • و ذلك أن الإنسان إذا عرف الكبائر و ميزها و شخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة و توبة نصوح و نفس هذا العلم مما يوجب تنبه الإنسان و انصرافه عن ارتكابها. 

  • و أما الشفاعة فإنها و إن كانت حقة إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه و استهزأ بالتوبة و الندامة. و اقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل و تهاون في أمر الله سبحانه و هو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا. 

  • و من هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهي الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم.

تفسير الميزان ج٤

326
  • و مما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل‌ في معنى الكبائر، و هي كثيرة: منها ما قيل: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا و وضع له في الدنيا حدا. و فيه أن الإصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار. رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا، و كذا ولاية الكفار و أكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن. 

  • و منها قول بعضهم: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن، و ربما أضاف إليه بعضهم السنة. و فيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا. 

  • و منها قول بعضهم: إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين و استحسنه الرازي. و فيه أنه عنوان الطغيان و الاعتداء و هي إحدى الكبائر و هناك ذنوب كبيرة موبقة و إن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم و زنا المحارم و قتل النفس المؤمنة من غير حق. 

  • و منها قول بعضهم: إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض، و هذا كالمقابل للقول السابق. و فيه أن الطغيان و الاستهانة و نحو ذلك من أكبر الكبائر و هي عناوين‌ طارية، و بطروها على معصية و عروضها لها تصير من الكبائر الموبقة. 

  • و منها قول بعضهم: إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية، و كان المراد أن قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (الآية) إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم و أكل مال اليتيم و الزنا و نحو ذلك. و فيه أنه ينافي إطلاق الآية. 

  • و منها قول بعضهم (و ينسب إلى ابن عباس): كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، و لعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما، و فيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة و الصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض، و هذا الذي ذكره مبني على قياس حال الإنسان في مخالفته و هو عبد إلى الله سبحانه و هو رب كل شي‌ء و من الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى: {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}، بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا: إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم و لا سيئة مع اجتناب المعاصي، و إن أريد تكفير 

تفسير الميزان ج٤

327
  • سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول، و هو خلاف ظاهر الآية من العموم، و لو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي و اجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه، و هذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأن نوع الإنسان لا يخلو عن السيئة و اللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك. 

  • و منها: أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه، و الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه، نسب إلى المعتزلة و فيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية و لا غيرها من آيات القرآن، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه، و قد مر البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب. 

  • و قالوا أيضا: يجب تكفير السيئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر و لا تحسن المؤاخذة عليها، و هذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة. 

  • و منها: أن الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكل معصية، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية و استهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة، و هي بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر. 

  • و لما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد و الاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهي عنها في الدين إن أتي بها عنادا و اعتداء فهي كبيرة و إلا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد و الاعتداء. 

  • قال بعضهم: إن في كل سيئة و في كل نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر و صغيرة أو صغائر، و أكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي و الأمر و احترام التكليف، و منه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما و لا مباليا بالأمر و النهي فالله تعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} أي الكبائر التي يتضمنها كل شي‌ء تنهون عنه {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي نكفر عنكم صغيره‌ فلا نؤاخذكم عليه. 

  • و فيه: أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا و استعلاء 

تفسير الميزان ج٤

328
  • على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شي‌ء من هذه العناوين عليه، فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و قتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض، نعم كلما عرض شي‌ء من هذه العناوين المهلكة اشتد النهي بحسبه و كبرت المعصية و عظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس و غلبة الشهوة و الجهالة كالزنا بالاستباحة. 

  • على أن هذا المعنى (أن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها) معنى ردي‌ء لا يحتمله قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الآية) بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام. 

  • و منها: ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه‌۱ من الجمع بين الأقوال و هو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة و صغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و إن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالإصرار على الصغائر، فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن. 

  • فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة و كبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض بالنظر إلى نفس العمل و جرم الفعل، ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب و وباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعه مقامها و تخلصها من قذارة البعد و ظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها و سقوطها في هاوية البعد و ظلمة الجهل. 

  • فإذا اقترف الإنسان شيئا من المعاصي و قد هيأ لنفسه شيئا من النور و الصفاء بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية و نور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية و وبال الذنب نور الطاعة و ظهرت عليه أحبطته، و هذه هي المعصية الكبيرة، و إن غلبت الطاعة بما لها من النور و الصفاء أزالت ظلمة الجهل و قذارة الذنب ببطلان مقدار 

    1.  نقله الفخر الرازي في تفسيره عن الغزالي في منتخبات كتاب الإحياء.

تفسير الميزان ج٤

329
  • يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة، و يبقى الباقي من نورها و صفائها تتنور و تصفو به النفس، و هذا معنى التحابط، و هو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة و تكفير السيئات، و هذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. 

  • و أما تكافؤ السيئة و الحسنة بما لهما من العقاب و الثواب فهو و إن كان مما يحتمله العقل في بادي النظر، و لازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له و لا معصية، و لا نور لنفسه و لا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ}. انتهى ملخصا. 

  • و قد رده الرازي بأنه يبتني على أصول المعتزلة الباطلة عندنا، و شدد النكير على الرازي في المنار قائلا: 

  • و إذا كان هذا (يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة و الكبيرة في نفسها) صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، و روى ابن جبير: أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب، و إنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر و كبائر إلى الأشعرية. 

  • و كأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة و لو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية و قال: معاصي الله كلها كبائر، و إنما يقال لبعضها: صغيرة و كبيرة بإضافة۱، و قالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر و كبائر، و هذا ليس بصحيح انتهى، و أول الآية تأويلا بعيدا. 

  • و هل يئول الآيات و الأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة و لو فيما أصابوا فيه؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأزكياء عن إفادة أنفسهم و أمتهم بفطنتهم، و جعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين، و سترى ما ينقله الرازي عن الغزالي، و يرده لأجل ذلك، و أين الرازي من الغزالي، و أين معاوية من علي. انتهى. و يشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي و الرازي. 

  •  

    1.  أي الإضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا إضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.

تفسير الميزان ج٤

330
  • و كيف كان فما ذكره الغزالي و إن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات. 

  • الأولى: أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب تحابط الثواب و العقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي و متون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها و كذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها و أنقص، و بذلك يختلف الصغيرة و الكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب التقسيم الثاني، و منها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين. 

  • و الثانية: أن التصادم بين آثار المعاصي و الطاعات و إن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب و السنة أبدا. و أي دليل من طريق الكتاب و السنة يدل على تحقق التزايل و التحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي و ثواب الطاعات؟

  • و الذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية و الحالات الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا، فإنها و إن كانت تتصادم بحسب الغالب و تتزايل و تتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلي دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة و الرذيلة في مقامها و تتصالح على البقاء، و تقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة، و شيئا منها للرذيلة خاصة، فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا و لا يلوي عن ابتلاع أموال الناس، و لا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم، و يجتهد في الصلوات المفروضة، و يبالغ في خضوعه و خشوعه، أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء و هتك الأعراض و الإفساد في الأرض و يخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات و القربات، و هذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها و تنازعها، و هو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية و تثور بعضها على بعض بالتزاحم و التعارض، و لا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان و تتصالحان و يغيب كل عند ظهور الأخرى و انتهاضها و إمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا. 

تفسير الميزان ج٤

331
  • و الثالثة: أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من لا يأتي بالكبائر لا لأنه يكف نفسه عنها مع القدرة و التمايل النفساني عليها بل لعدم قدرته عليها و عدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب و هو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضي. 

  • قال الغزالي في الإحياء: اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة و الإرادة كمن يتمكن من امرأة و من مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا و لكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا، و كل من لا يشتهي الخمر بطبعه و لو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي و الأوتار نعم من يشتهي الخمر و سماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر و يطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية، انتهى. 

  • و قال أيضا في محل آخر: كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، و المتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكي تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة و البرودة و هذا التدريج و التحقيق من التلطف في طريقة المحو، فالرجاء فيه أصدق و الثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات و إن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو، انتهى كلامه. 

  • و كلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذي هو الكف مع أنه غير لازم على هذا القول. 

  • و الكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن الحسنات و السيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة و بالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه، و يدل عليه اعتبار حال الأخلاق و الحالات النفسانية التي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب و العقاب. 

  • و أما الكبائر و الصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس 

تفسير الميزان ج٤

332
  • بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الأجنبية و شرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة و بعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الإحباط و التكفير بالكلية. 

  • ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته جميعا ما تقدم منها و ما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية، و من المعلوم أن الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر و ما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها و يقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم، و تنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم. 

  • فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر و تتوق نفسه إليه منها و هي الكبائر التي يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها. 

  • و أما إن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الإنسان إذا لم يقترف الكبائرخلي ما بينه و بين الصغائر و الطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته، و قد قال الله تعالى: {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئَاتِ}: «هود: ١١٤»، ظاهر الآية {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الآية) أن للاجتناب دخلا في التكفير، و إلا كان الأنسب بيان أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله: {إِنَّ اَلْحَسَنَاتِ} (الآية)، أو إن الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية. 

  • و الدليل على كبر المعصية هو شدة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.

  • (بحث روائي‌) 

  • في الكافي عن الصادق (عليه السلام): الكبائر، التي أوجب الله عليها النار. 

  • و في الفقيه و تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) في الكبائر قال: كل ما أوعد الله عليها النار. 

تفسير الميزان ج٤

333
  • و في ثواب الأعمال عن الصادق (عليه السلام): من اجتنب ما أوعد الله عليه النار إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته و يدخله مدخلا كريما، و الكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف.

  • أقول: و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك بعضها و قد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية و لعله (عليه السلام) أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر و يشير إليه قوله: إذا كان مؤمنا. 

  • و في المجمع: روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، فلما سلم و جلس تلا هذه الآية: {اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوَاحِشَ} ثم أمسك، فقال أبو عبد الله: ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله، قال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله لقول الله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، و قال: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ اَلنَّارُ}، و بعده اليأس من روح الله لأن الله يقول: {لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ}، ثم الأمن من مكر الله لأن الله يقول: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخَاسِرُونَ}، و منها عقوق الوالدين لأن الله تعالى‌ جعل العاق جبارا شقيا في قوله: {وَ بَرًّا بِوَالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا}، و منها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول: {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (الآية)، و قذف المحصنات لأن الله يقول: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ اَلْغَافِلاَتِ اَلْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، و أكل مال اليتيم لقوله: {اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامىَ ظُلْماً} (الآية)، و الفرار من الزحف لأن الله يقول: {وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‌َ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ}، و أكل الربا لأن الله يقول: {اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطَانُ مِنَ اَلْمَسِّ}، و يقول: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ}، و السحر لأن الله يقول: {وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}، و الزنا لأن الله يقول: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ اَلْعَذَابُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}، و اليمين الغموس لأن الله يقول: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ أَيْمَانِهِمْ 

تفسير الميزان ج٤

334
  • ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ} (الآية)، و الغلول قال الله: {وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ}، و منع الزكاة المفروضة لأن الله يقول: {يَوْمَ يُحْمى‌َ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‌َ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ} (الآية)، و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأن الله يقول: {وَ مَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، و شرب الخمر لأن الله عدل بها عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمدا و شيئا مما فرض الله تعالى لأن رسول الله‌ (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: من ترك الصلاة متعمدا فقد برى‌ء من ذمة الله و ذمة رسوله، و نقض العهد و قطيعة الرحم لأن الله يقول: {أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ}

  • قال: فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم. 

  • أقول: و قد روي من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس، و يتبين بالرواية أمران. 

  • الأول: أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهي عنها إما بالإصرار و البلوغ في النهي أو بالإيعاد بالنار، من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله (عليه السلام)، و منه يظهر معنى ما مر في (حديث الكافي: أن الكبيرة ما أوجب الله عليها النار)، و ما مر في (حديث الفقيه، و تفسير العياشي: أن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار)، فالمراد بإيجابها و إيعادها أعم من التصريح و التلويح في كلام الله أو حديث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و أظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالإيعاد بالنار أعم من التصريح و التلويح في قرآن أو حديث، و يشهد بذلك ما في (تفسير الطبري، عن ابن عباس قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب)، و يتبين بذلك أن ما نقل عنه أيضا في (تفسير الطبري، و غيره: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة) ليس خلافا في معنى الكبيرة و إنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الإنسان إلى عظمة ربه كما مر. 

  • و الثاني: أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم و ما يأتي من الروايات، أو في ثمانية، أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة، أو في عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات أخرى كل ذلك باعتبار اختلاف 

تفسير الميزان ج٤

335
  • مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر: و أكبر الكبائر الشرك بالله. 

  • و في الدر المنثور أخرج البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: و ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، و السحر، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات. 

  • و فيه أخرج ابن حيان و ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض و السنن و الديات، و بعث به مع عمرو بن حزم. 

  • قال: و كان في الكتاب أن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله و قتل النفس المؤمنة بغير حق، و الفرار يوم الزحف، و عقوق الوالدين، و رمي المحصنة، و تعلم السحر، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم. 

  • و فيه أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، عن أنس: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، ثم تلا هذه الآية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الآية).

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٣٢ الی ٣٥] 

  • {وَ لاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اَللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‌ بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً ٣٢ وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلى‌ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيداً ٣٣ اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} 

تفسير الميزان ج٤

336
  • {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اَللَّهُ وَ اَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضَاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيراً ٣٤ وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اَللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ٣٥} 

  • (بيان‌) 

  • الآيات مرتبطة بما تقدم من أحكام المواريث و أحكام النكاح يؤكد بها أمر الأحكام السابقة، و يستنتج منها بعض الأحكام الكلية التي تصلح بعض الخلال العارضة في المعاشرة بين الرجال و النساء. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اَللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‌ بَعْضٍ}التمني‌ قول الإنسان: ليت كذا كان كذا، و الظاهر أن التسمية القول بذلك من باب توصيف اللفظ بصفة المعنى، و إنما التمني إنشاء نحو تعلق من النفس نظير تعلق الحب بما تراه متعذرا أو كالمتعذر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر. 

  • و ظاهر الآية أنها مسوقة للنهي عن تمني فضل و زيادة موجودة ثابتة بين الناس، و أنه ناش عن تلبس بعض طائفتي الرجال‌ و النساء بهذا الفضل، و أنه ينبغي الإعراض عن التعلق بمن له الفضل، و التعلق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده تعالى، و بهذا يتعين أن المراد بالفضل هو المزية التي رزقها الله تعالى كلا من طائفتي الرجال و النساء بتشريع الأحكام التي شرعت في خصوص ما يتعلق بالطائفتين كلتيهما كمزية الرجال على النساء في عدد الزوجات، و زيادة السهم في الميراث، و مزية النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهن، و وجوب نفقتهن على الرجال. 

  • فالنهي عن تمني هذه المزية التي اختص بها صاحبها إنما هو لقطع شجرة الشر و الفساد من أصلها فإن هذه المزايا مما تتعلق به النفس الإنسانية لما أودعه الله في النفوس 

تفسير الميزان ج٤

337
  • من حبها و السعي لها لعمارة هذه الدار، فيظهر الأمر أولا في صورة التمني فإذا تكرر تبدل حسدا مستبطنا فإذا أديم عليه فاستقر في القلب سرى إلى مقام العمل و الفعل الخارجي ثم إذا انضمت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى يفسد الأرض، و يهلك الحرث و النسل. 

  • و من هنا يظهر أن النهي عن التمني نهي إرشادي يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ الأحكام المشرعة المذكورة، و ليس بنهي مولوي. 

  • و في نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه، و التعبير بقوله: {بَعْضَكُمْ عَلىَ بَعْضٍ} إيقاظ لصفة الخضوع لأمر الله بإيمانهم به، و غريزة الحب المثارة بالتنبه حتى يتنبه المفضل عليه أن المفضل بعض منه غير مبان. 

  • قوله تعالى{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ} ذكر الراغب: أن الاكتساب‌ إنما يستعمل فيما استفاده الإنسان لنفسه، و الكسب‌ أعم مما كان لنفسه أو لغيره، و البيان المتقدم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينة للنهي السابق عن التمني و بمنزلة التعليل له أي لا تتمنوا ذلك فإن هذه المزية إنما وجدت عند من يختص بها لأنه اكتسبها بالنفسية التي له أو بعمل بدنه فإن الرجال إنما اختصوا بجواز اتخاذ أربع نسوة مثلا و حرم ذلك على النساء لأن موقعهم في المجتمع الإنساني موقع يستدعي ذلك دون موقع النساء، و خصوا في الميراث بمثل حظ الأنثيين لذلك أيضا، و كذلك النساء خصصن بنصف سهم الرجال و جعل نفقتهن على الرجال و خصصن بالمهر لاستدعاء موقعهن ذلك، و كذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص، و ما الله يريد ظلما للعباد. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة و الاختصاص أعم من أن يكون بعمل اختياري كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنه ينتهي إلى تلبس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبس الإنسان بذكورية أو أنوثية توجب له سهما و نصيبا كذا. 

  • و أئمة اللغة و إن ذكروا في الكسب و الاكتساب أنهما يختصان بما يحوزه الإنسان 

تفسير الميزان ج٤

338
  • بعمل اختياري كالطلب و نحوه لكنهم ذكروا أن الأصل في معنى الكسب‌ هو الجمع، و ربما جاز أن يقال: اكتسب فلان بجماله الشهرة و نحو ذلك، و فسر الاكتساب في الآية بذلك بعض المفسرين، و ليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملا فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه و الاستعارة. 

  • و أما كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحراه الإنسان بعمله، و يكون المعنى: للرجال نصيب مما استفادوه لأنفسهم من المال بعملهم و كذا النساء و يكون النهي عن التمني نهيا عن تمني ما بيد الناس من المال الذي استفادوه بصنعة أو حرفة فهو و إن كان معنى صحيحا في نفسه لكنه يوجب تضييق دائرة معنى الآية، و انقطاع رابطتها مع ما تقدم من آيات الإرث و النكاح. 

  • و كيف كان فمعنى الآية على ما تقدم من المعنى: و لا تتمنوا الفضل و المزية المالي و غير المالي الذي خص الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال و النساء ففضل به بعضكم على بعض فإن ذلك الفضل أمر خص به من خص به لأنه أحرزه بنفسيته في المجتمع الإنساني أو بعمل يده بتجارة و نحوها، و له منه نصيب، و إنما ينال كل نصيبه مما اكتسبه. 

  • قوله تعالى{وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، الإنعام على الغير بشي‌ء مما عند المنعم لما كان غالبا بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمي فضلا، و لما صرف الله تعالى وجوه الناس عن العناية بما أوتي أرباب الفضل من الفضل و الرغبة فيه، و كان حب المزايا الحيوية بل التفرد بها و التقدم فيها و الاستعلاء من فطريات الإنسان لا يسلب عنه حينا صرفهم تعالى إلى نفسه، و وجه وجوههم نحو فضله، و أمرهم أن يعرضوا عما في أيدي الناس، و يقبلوا إلى جنابه، و يسألوا من فضله فإن الفضل بيد الله، و هو الذي‌ أعطى كل ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به و تفضلون بذلك على غيركم ممن ترغبون فيما عنده، و تتمنون ما أعطيه. 

  • و قد أبهم هذا الفضل الذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة {مِنْ} عليه، و فيه من الفائدة أولا التعليم بأدب الدعاء و المسألة من جنابه تعالى فإن الأليق بالإنسان المبني على الجهل بما ينفعه و يضره بحسب الواقع إذا سأل ربه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه و ما يضرهم، القادر على كل شي‌ء أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه، و لا يطنب في تشخيص ما يسأله منه و تعيين الطريق إلى وصوله، فكثيرا ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصة كمال أو ولد أو جاه و منزلة أو صحة و عافية و كان 

تفسير الميزان ج٤

339
  • يلح في الدعاء و المسألة لأجلها لا يريد سواها ثم لما استجيب دعاؤه، و أعطي مسألته كان في ذلك هلاكه و خيبة سعيه في الحياة. 

  • و ثانيا: الإشارة إلى أن يكون المسئول ما لا يبطل به الحكمة الإلهية في هذا الفضل الذي قرره الله تعالى بتشريع أو تكوين، فمن الواجب أن يسألوا شيئا من فضل الله الذي اختص به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثم أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة و فسدت الأحكام و القوانين المشرعة فافهم. 

  • فينبغي للإنسان إذا دعا الله سبحانه عند ما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في أيدي الناس مما يرفع حاجته بل يسأله مما عنده و إذا سأله مما عنده أن لا يعلم لربه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيرا من عنده. 

  • و أما قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيماً} فتعليل للنهي في صدر الآية أي لا تتمنوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إن الله بكل شي‌ء عليم لا يجهل طريق المصلحة و لا يخطئ في حكمه. 

  • كلام في حقيقة قرآنية 

  • اختلاف القرائح و الاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الإنسان مما ينتهي إلى أصول طبيعية تكوينية لا مناص عن تأثيرها في فعلية اختلاف درجات الحياة و على ذلك جرى الحال في المجتمعات الإنسانية من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم. 

  • فقد كانت الأفراد القوية من الإنسان يستعبدون الضعفاء و يستخدمونهم في سبيل مشتهياتهم و هوى نفوسهم من غير قيد أو شرط، و كان لا يسع لأولئك الضعفاء المساكين إلا الانقياد لأوامرهم، و لا يهتدون إلا إلى إجابتهم بما يشتهونه و يريدونه منهم لكن القلوب ممتلئة غيظا و حنقا و النفوس متربصة و لا يزال الناس على هذه السنة التي ابتدأت سنة شيوخية و انتهت إلى طريقة ملوكية و إمبراطورية. 

  • حتى إذا وفق النوع الإنساني بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلبة و إلزام أولياء الحكومة و الملك على اتباع الدساتير و القوانين الموضوعة لصلاح المجتمع و سعادته فارتحلت بذلك حكومة الإرادات الجزافية، و سيطرة السنن الاستبدادية ظاهرا و ارتفع 

تفسير الميزان ج٤

340
  • اختلاف طبقات الناس و انقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان و مملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أن شجرة الفساد أخذت في النمو في أرض غير الأرض، و منظر غير منظره السابق، و الثمرة هي الثمرة، و هو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض، و صفارة الكف عند آخر، و بعد ما بين القبيلين بعدا لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلا أن ينفذ بثروته في جميع شئون حياة المجتمع، و لا المسكين المعدم إلا أن ينهض للبراز و يقاوم الاضطهاد. 

  • فاستتبع ذلك سنة الشيوعية القائلة بالاشتراك في مواد الحياة و إلغاء المالكية، و إبطال رؤوس الأموال، و أن لكل فرد من المجتمع أن يتمتع بما عملته يداه و هيأه كماله النفساني الذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة و الجدة غير أنه أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنة السابقة و هو بطلان حرية إرادة الفرد، و انسلاب اختياره، و الطبيعة تدفع ذلك، و الخلقة لا توافقه، و هيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة و يضطهد الخلقة. 

  • على أن أصل الفساد مع ذلك مستقر على قراره فإن الطبيعة الإنسانية لا تنشط إلا لعمل فيه إمكان التميز و السبق، و رجاء التقدم و الفخر و مع إلغاء التمايزات تبطل الأعمال، و فيه هلاك الإنسانية، و قد احتالوا لذلك بصرف هذه التميزات إلى الغايات و المقاصد الافتخارية التشريفية غير المادية، و عاد بذلك المحذور جذعا فإن الإنسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها، و إن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادي. 

  • و قد احتالت الديمقراطية لدفع ما تسرب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنة بتوسعة التبليغ و بضرب الضرائب الثقيلة التي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب و المتاجر، و لما ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنة مخالفيهم لا يسد طريق هجوم الشر على سنتهم أنفسهم‌ و لا ذهاب جل الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن إترافهم و مظالمهم، و هم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملك المال إلى التسلط و تداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلط و وضع اليد عليه و إدارته ما يستفاد من ملكه. 

  • فلا هؤلاء عالجوا الداء و لا أولئك، و لا دواء بعد الكي، و ليس إلا لأن الذي جعله البشر غاية و بغية لمجتمعه، و هو التمتع بالحياة المادية بوصلة تهدي إلى قطب الفساد، و لن تنقلب عن شأنها أينما حولت، و مهما نصبت. 

تفسير الميزان ج٤

341
  • و الذي يراه الإسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرر الناس في جميع ما يهديهم إليه الفطرة الإنسانية، ثم قرب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع من الضرائب المالية و نحوها، و خفض مستوى حياة الأغنياء بالمنع عن الإسراف و التبذير و التظاهر بما يبعدهم من حاق الوسط، و تعديل ذلك بالتوحيد و الأخلاق، و صرف الوجوه عن المزايا المادية إلى كرامة التقوى و ابتغاء ما عند الله من الفضل. 

  • و هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (الآية)، و قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ}: «الحجرات: ١٣»، و قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اَللَّهِ}: «الذاريات: ٥٠»، و قد بينا فيما تقدم أن صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الأسباب الحقيقية الواقعية في تحري مقاصدهم الحيوية من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل: إن الإسلام دين البطالة و الخمود عن ابتغاء المقاصد الحيوية الإنسانية إلا رمية من غير مرمى جهلا، هذا ملخص القول في هذا المقصد، و قد تكرر الكلام في أطرافه تفصيلا فيما تقدم من مختلف المباحث من هذا الكتاب.

  • (بيان‌) 

  • قوله تعالى{وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ} (الآية)، الموالي‌ جمع مولى، و هو الولي و إن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيد العبد لولايته عليه، و المولى للناصر لولايته على أمر المنصور، و المولى لابن العم لولايته على نكاح بنت عمه، و لا يبعد أن يكون في الأصل مصدرا ميميا أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة و المحكمة و نريد بهما الحاكم. 

  • و العقد مقابل الحل، و اليمين مقابل اليسار، و اليمين اليد اليمنى، و اليمين الحلف و له غير ذلك من المعاني. 

  • و وقوع الآية مع قوله قبل: {وَ لاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اَللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‌ بَعْضٍ}، في سياق واحد، و اشتمالها على التوصية بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه، و أن الله جعل لكل موالي مما ترك الوالدان و الأقربون يؤيد أن تكون الآية أعني قوله: {وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا} إلخ بضميمة الآية السابقة تلخيصا للأحكام و الأوامر التي في آيات الإرث، و وصية إجمالية لما فيها من الشرائع التفصيلية كما كان قوله قبل آيات الإرث: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ} (الآية) تشريعا إجماليا كضرب القاعدة في باب الإرث تعود إليه تفاصيل أحكام الإرث. 

تفسير الميزان ج٤

342
  • و لازم ذلك أن ينطبق من أجمل ذكره من الوراث و المورثين على من ذكر منهم تفصيلا في آيات الإرث، فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثا فيها من الأولاد و الأبوين و الإخوة و الأخوات و غيرهم. 

  • و المراد بالأصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله: {اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الأصناف المذكورة في آيات الإرث، و هم ثلاثة: الوالدان و الأقربون و الزوجان فينطبق قوله: {اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} على الزوج و الزوجة. 

  • فقوله: {وَ لِكُلٍّ} أي و لكل واحد منكم ذكرا أو أنثى، جعلنا موالي أي أولياء في الوراثة يرثون ما تركتم من المال، و قوله {مِمَّا تَرَكَ}، من فيه للابتداء متعلق بالموالي كأن الولاية نشأت من المال، أو متعلق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون مما ترك، و ما ترك هو المال الذي تركه الميت المورث الذي هو الوالدان و الأقربون نسبا و الزوج و الزوجة. 

  • و إطلاق {اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} على الزوج و الزوجة إطلاق كنائي فقد كان دأبهم في المعاقدات و المعاهدات أن يصافحوا فكأن أيمانهم التي يصافحون بها هي التي عقدت العقود، و أبرمت العهود فالمراد: الذين أوجدتم بالعقد سببية الازدواج بينكم و بينهم. 

  • و قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الضمير للموالي، و المراد بالنصيب ما بين في آيات الإرث، و الفاء للتفريع، و الجملة متفرعة على قوله تعالى: {وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، ثم أكد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيداً}

  • و هذا الذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني التي ذكروها في تفسيرها، و ربما ذكروا أن المراد بالموالي العصبة دون الورثة الذين هم أولى بالميراث، و لا دليل عليه من جهة اللفظ بخلاف الورثة. 

  • و ربما قيل: إن «من» في قوله {مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ}، بيانية و المراد بما الورثة الأولياء، و المعنى: و لكل منكم جعلنا أولياء، يرثونه و هم الذين تركهم و خلفهم الوالدان و الأقربون. 

  • و ربما قيل: إن المراد بـ {اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الحلفاء، فقد كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و حربي حربك، و سلمي سلمك، و ترثني و أرثك، و تعقل عني و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف. 

تفسير الميزان ج٤

343
  • و على هذا فالجملة مقطوعة عما قبلها، و المعنى: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌َ بِبَعْضٍ}. و قيل: إن المراد: آتوهم نصيبهم من النصر و العقل و الرفد، و لا ميراث، و على هذه فلا نسخ في الآية. 

  • و ربما قيل: إن المراد بهم الذين آخى بينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في المدينة، و كانوا يتوارثون بذلك بينهم ثم نسخ ذلك بآية الميراث. 

  • و ربما قيل: أريد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم بوصية، و ذلك قوله تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}

  • و هذه معان لا يساعدها سياق الآية و لا لفظها على ما لا يخفى للباحث المتأمل، و لذلك أضربنا عن الإطناب في البحث عما يرد عليها. 

  • قوله تعالى{اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اَللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ وَ بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}القيم‌ هو الذي يقوم بأمر غيره، و القوام و القيام مبالغة منه. 

  • و المراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل و يزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، و هو زيادة قوة التعقل فيهم، و ما يتفرع عليه من شدة البأس و القوة و الطاقة على الشدائد من الأعمال و نحوها فإن حياة النساء حياة إحساسية عاطفية مبنية على الرقة و اللطافة، و المراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهن و نفقاتهن. 

  • و عموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ} غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعا فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة و القضاء مثلا اللتين يتوقف عليهما حياة المجتمع، إنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، و كذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة و قوة التعقل كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء. 

  • و على هذا فقوله: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ} ذو إطلاق تام، و أما قوله بعد: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}«إلخ» الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل و زوجته على ما سيأتي‌ فهو 

تفسير الميزان ج٤

344
  • فرع من فروع هذا الحكم المطلق و جزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه. 

  • قوله تعالى{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اَللَّهُ} المراد بالصلاح معناه اللغوي، و هو ما يعبر عنه بلياقة النفس. و القنوت‌ هو دوام الطاعة و الخضوع. و مقابلتها لقوله: {وَ اَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إلخ، تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات الصالحات، و أن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقا، و أن قوله: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ} الذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن و ليحفظن حكم مربوط بشئون الزوجية و المعاشرة المنزلية، و هذا مع ذلك حكم يتبع في سعته و ضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت له و تحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شئون الزوجية. 

  • و بعبارة أخرى كما أن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل و شدته في البأس و هي جهات الحكومة و القضاء و الحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفردية و عمل نفسها بأن تريد ما أحبت و تفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شي‌ء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة و لا تصرف، و لا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية و الاجتماعية، و الدفاع عنها، و التوسل إليها بالمقدمات الموصلة إليها بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه و تطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع و المباشرة عند الحضور، و أن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره، و أن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك، و لا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال، و سلطها عليه في ظرف الازدواج و الاشتراك في الحياة المنزلية. 

  • فقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} أي ينبغي أن يتخذن لأنفسهن وصف الصلاح، و إذا كن صالحات فهن لا محالة قانتات، أي يجب أن يقنتن و يطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع، و يجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا. 

تفسير الميزان ج٤

345
  • و أما قوله: {بِمَا حَفِظَ اَللَّهُ} فالظاهر أن ما مصدرية، و الباء للآلة و المعنى: أنهن قانتات لأزواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم القيمومة، و أوجب عليهن الإطاعة و حفظ الغيب لهم. 

  • و يمكن أن يكون الباء للمقابلة، و المعنى حينئذ: أنه يجب عليهن القنوت و حفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري، و أوجب على الرجال لهن المهر و النفقة، و المعنى الأول أظهر. 

  • و هناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد على شي‌ء منها. 

  • قوله تعالى{وَ اَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ}، النشوز العصيان و الاستكبار عن الطاعة، و المراد بخوف النشوز ظهور آياته و علائمه، و لعل التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإن الوعظ كما أن له محلا مع تحقق العصيان كذلك له محل مع بدو آثار العصيان و علائمه. 

  • و الأمور الثلاثة أعني ما يدل عليه قوله: {فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضَاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ} و إن ذكرت معا و عطف بعضها على بعض بالواو فهي أمور مترتبة تدريجية: فالموعظة، فإن لم تنجح فالهجرة، فإن لم تنفع فالضرب، و يدل على كون المراد بها التدرج فيها أنها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذة من الضعف إلى الشدة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام، فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو. 

  • و ظاهر قوله: {وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضَاجِعِ} أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار و ترك الملاعبة و نحوها، و إن أمكن أن يراد من مثل الكلام ترك المضاجعة لكنه بعيد، و ربما تأيد المعنى الأول بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإن المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرا. 

  • قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}«إلخ» أي لا تتخذوا عليهن علة تعتلون بها في إيذائهن مع إطاعتهن لكم، ثم علل هذا النهي بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيراً} ، و هو إيذان لهم أن مقام ربهم علي كبير فلا يغرنهم ما يجدونه من القوة و الشدة في أنفسهم فيظلموهن بالاستعلاء و الاستكبار عليهن. 

تفسير الميزان ج٤

346
  • قوله تعالى: {وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا}، الشقاق‌ البينونة و العداوة، و قد قرر الله سبحانه‌ بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور و التحكم، و قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اَللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي إن يرد الزوجان نوعا من الإصلاح من غير عناد و لجاج في الاختلاف، فإن سلب الاختيار من أنفسهما و إلقاء زمام الأمر إلى الحكمين المرضيين يوجب وفاق البين. 

  • و أسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العادي الذي هو إرادتهما الإصلاح، و المطاوعة لما حكم به الحكمان لأنه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الأسباب بالمسببات و هو المعطي لكل ذي حق حقه، ثم تمم الكلام بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}، و مناسبته ظاهرة. 

  • كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء 

  • تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الإنساني السليم، و ترجيحه إياه على الهوى و اتباع الشهوات، و الخضوع لحكم العواطف و الإحساسات الحادة و حضه و ترغيبه في اتباعه، و توصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهية عن الضيعة مما لا ستر عليه، و لا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على ذلك تصريحا و تلويحا و بكل لسان و بيان. 

  • و لم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة، و مهام آثارها الجميلة التي يتربى بها الفرد، و يقوم بها صلب المجتمع كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}: الفتح ٢٩، و قوله: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً}: الروم ٢١، و قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ} الأعراف ٣٢، لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف و الميول اتباعا لحكم العقل. 

  • و قد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الإسلام لجانب العقل و بنائه أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الأعمال و الأحوال و الأخلاق التي تبطل استقامة العقل في حكمه و توجب خبطه في قضائه و تقويمه لشئون المجتمع كشرب الخمر و القمار و أقسام المعاملات الغررية و الكذب و البهتان و الافتراء و الغيبة كل ذلك محرمة في الدين. 

تفسير الميزان ج٤

347
  • و الباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الأمور الكلية و الجهات العامة الاجتماعية التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل و يجتنب فيها من حكومة العواطف و الميول النفسانية كجهات الحكومة و القضاء و الحرب إلى من يمتاز بمزيد العقل و يضعف فيه حكم العواطف، و هو قبيل الرجال دون النساء. 

  • و هو كذلك، قال الله تعالى: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ} و السنة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك، و سيرته (صلى الله عليه وآله و سلم) جرت على ذلك أيام حياته‌ فلم يول امرأة على قوم و لا أعطى امرأة منصب القضاء و لا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن. 

  • و أما غيرها من الجهات كجهات التعليم و التعلم و المكاسب و التمريض و العلاج و غيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك، و السيرة النبوية تمضي كثيرا منها، و الكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة و العمل في كثير من شئون الحياة إذ لا معنى لإخراجهن من تحت ولاية الرجال، و جعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الإصلاح، و كذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي و هكذا. 

  • اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، و الحفظ في الغيبة، و لا يمضي لها من شئونها الجائزة ما يزاحم ذلك. 

  • (بحث روائي‌) 

  • في المجمع في قوله تعالى: {وَ لاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اَللَّهُ} (الآية): أي لا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلان من النعمة و المرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسدا، و لكن يجوز أن يقول: اللهم أعطني مثله، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). 

  • أقول: و روى العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) مثله. 

  • في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، و في قوله: {وَ لاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اَللَّهُ بِهِ 

تفسير الميزان ج٤

348
  •  بَعْضَكُمْ عَلىَ بَعْضٍ} أنهما نزلتا في علي (عليه السلام). 

  • أقول: و الرواية من باب الجري و التطبيق. 

  • و في الكافي و تفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ليس من نفس إلا و قد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئا من الحرام قاصها به من الحلال الذي فرض لها و عند الله سواهما فضل كثير، و هو قول الله عز و جل: {وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}.

  • أقول: و رواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)‌، و روي هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق (عليه السلام)، و روى قريبا منه أيضا القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر (عليه السلام). 

  • و قد تقدم كلام في حقيقة الرزق و فرضه و انقسامه إلى الرزق الحلال و الحرام في ذيل قوله: {وَ اَللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: «البقرة: ٢١٢»، في الجزء الثاني فراجعه. 

  • و في صحيح الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل

  • و في الدر المنثور أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، و إن من أفضل العبادة انتظار الفرج

  • و في التهذيب بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: {وَ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ اَلْوَالِدَانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ}، قال: عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها. 

  • و فيه أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر (عليه السلام) رجل و أنا عنده قال: فقال رجل لامرأته: أمرك بيدك، قال: أنى يكون هذا و الله يقول: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ}؟ ليس هذا بشي‌ء. 

  • و في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): 

تفسير الميزان ج٤

349
  • القصاص، فأنزل الله: {اَلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى اَلنِّسَاءِ} (الآية) فرجعت بغير قصاص.

  • أقول: و رواه بطرق أخرى عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و في بعضها: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أردت أمرا و أراد الله غيره‌، و لعل المورد كان من موارد النشوز، و إلا فذيل الآية: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} ينفي ذلك. 

  • و في ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى، و لازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حكمه و تشريعه و هو ينافي عصمته، و ليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به، و الله سبحانه و إن تصرف في بعض أحكام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وضعا أو رفعا لكن ذلك إنما هو في حكمه و رأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لأمته فإن ذلك تخطئة باطلة. 

  • و في تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {قَانِتَاتٌ} يقول: مطيعات. 

  • و في المجمع في قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضَاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ} (الآية): عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يحول ظهره إليها.

  • و في معنى الضرب عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه الضرب بالسواك. 

  • و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} قال: الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا، و إن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز، و إن جمعا فجائز.

  • أقول: و روي هذا المعنى و ما يقرب منه بعدة طرق أخر فيه و في تفسير العياشي. 

  • و في تفسير العياشي عن ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة تزوجها رجل، و شرط عليها و على أهلها إن تزوج عليها امرأة و هجرها أو أتى عليها سرية فإنها طالق، فقال: شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه، و إن شاء أمسك امرأته و نكح عليها و تسرى عليها و هجرها إن أتت سبيل ذلك، قال الله في كتابه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ مَثْنى‌ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ} و قال: «أحل لكم مما ملكت أيمانكم» و قال: {وَ اَللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضَاجِعِ 

تفسير الميزان ج٤

350
  • وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيراً}

  • و في الدر المنثور أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت و أمي إني وافدة النساء إليك، و أعلم نفسي لك الفداء أنه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا و هي‌ على مثل رأيي. 

  • إن الله بعثك بالحق إلى الرجال و النساء فآمنا بك و بإلهك الذي أرسلك، و إنا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم، و مقضي شهواتكم، و حاملات أولادكم، و إنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة و الجماعات، و عيادة المرضى، و شهود الجنائز، و الحج بعد الحج، و أفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، و إن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، و غزلنا لكم أثوابكم، و ربينا لكم أموالكم‌۱، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة و أعلمي من خلفك من النساء: أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، و طلبها مرضاته، و اتباعها موافقته يعدل ذلك كله، فأدبرت المرأة و هي تهلل و تكبر استبشارا. 

  • أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة و أهل السنة، و من أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام): «جهاد المرأة حسن التبعل»، و من أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على أس ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة، و رواه أيضا في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن كثير عن الصادق (عليه السلام) عن علي عليه أفضل السلام، و بإسناده أيضا عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام) في رسالته إلى ابنه: إن المرأة ريحانة، و ليست بقهرمانة. 

  • و ما روي في ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها» و قد كان يتعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها.

  • ففي الكافي أيضا بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): «أ يضرب 

    1.  أولادكم ظ.

تفسير الميزان ج٤

351
  • أحدكم المرأة ثم يظل معانقها؟» و أمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، و من التأمل فيها يظهر رأي الإسلام فيها. 

  • و لنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية فنقول: يظهر من التأمل فيه و في نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و تكليمهن إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين، و مختلف ما قرره الإسلام في حقهن أنهن على احتجابهن و اختصاصهن بالأمور المنزلية من شئون الحياة غالبا لم يكن ممنوعات من المراودة إلى ولي الأمر، و السعي في حل ما ربما كان يشكل عليهن، و هذه حرية الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلامية في آخر سورة آل عمران. 

  • و يستفاد منه و من نظائره أيضا أولا أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير أمور المنزل الداخلية و تربية الأولاد، و هذه و إن كانت سنة مسنونة غير مفروضة لكن الترغيب و التحريض الندبي و الظرف ظرف الدين، و الجو جو التقوى و ابتغاء مرضاة الله، و إيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا و التربية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفة و الحياء و محبة الأولاد و التعلق بالحياة المنزلية كانت تحفظ هذه السنة. 

  • و كان الاشتغال بهذه الشئون و الاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهن يشغلهن عن الورود في مجامع الرجال، و اختلاطهن بهم في حدود ما أباح الله لهن، و يشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قرونا كثيرة بعد ذلك حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت إليهن و إليهم هلاك الأخلاق، و فساد الحياة و هم لا يشعرون، و سوف يعلمون، و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء، و أكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم و لكن كذبوا فأخذوا. 

  • و ثانيا: أن من السنة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء و الولاية. 

  • و ثالثا: أن الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها، و جبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا و فضائل فيها مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلا جهادا للمرأة، و هذه الصنائع و المكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا و ظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد قدر لكن الظرف 

تفسير الميزان ج٤

352
  • الإسلامي الذي يقوم الأمور بقيمها الحقيقية، و يتنافس فيه في الفضائل الإنسانية المرضية عند الله سبحانه، و هو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل إنسان مسلكه الذي ندب إليه، و للزومه الطريق الذي خط له، من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانية و تتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال و السماحة بدماء المهج على ما فيه من الفضل على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجية، و كذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوي‌، و لا لقاض يتكي على مسند القضاء، و هما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق و جرى فيما جرى على الحق إلا تحمل أثقال الولاية و القضاء، و التعرض لمهالك و مخاطر تهددهما حينا بعد حين في حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فأي فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما، و خط له خطا و أشار إليه بلزومه و سلوكه. 

  • فهذه المفاخر إنما يحييها و يقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذي يربي أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض، و اختلاف الشئون الاجتماعية و الأعمال الإنسانية بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها مما لا يسع أحدا إنكاره. 

  • هو ذا الجندي الذي يلقي بنفسه في أخطر المهالك، و هو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة و مزيدا، و هو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدى بنفسه وطنه و يفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين ما يعتقد بأن الموت فوت و بطلان، و ليس إلا بغية وهمية، و كرامة خرافية، و كذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات و يعظم قدرهن بذلك الناس تعظيما لا يكاد يناله‌ رؤساء الحكومات السامية و قد كان ما يعتورنه من الشغل و ما يعطين من أنفسهن للملإ دهرا طويلا في المجتمعات الإنسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء، و أشنع ما يعيرن به، فليس ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول و يعظم الحقير، و يهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الإسلام أمورا نستحقرها و نحن في هذه الظروف المضطربة، أو يحقر أمورا نستعظمها و نتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلا ظرف التقوى و إيثار الآخرة على الأولى.

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٣٦ الی ٤٢] 

  •  {وَ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ بِذِي

تفسير الميزان ج٤

353
  • اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْيَتَامى‌ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْجَارِ ذِي اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْجَارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ٣٦ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ٣٧ وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ اَلنَّاسِ وَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ٣٨ وَ مَا ذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اَللَّهُ وَ كَانَ اَللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً ٣٩ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ٤٠فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنَا بِكَ عَلىَ هَؤُلاَءِ شَهِيداً ٤١ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً ٤٢} 

  • (بيان‌) 

  • آيات سبع فيها حث على الإحسان و الإنفاق في سبيل الله و وعد جميل عليه، و ذم على تركه إما بالبخل أو بالإنفاق مراءاة للناس. 

  • قوله تعالى{وَ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} هذا هو التوحيد غير أن المراد به التوحيد العملي‌، و هو إتيان الأعمال الحسنة و منها الإحسان الذي هو مورد الكلام طلبا لمرضاة الله و ابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى و الشرك به. 

  • و الدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعني قوله: {وَ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُشْرِكُوا 

تفسير الميزان ج٤

354
  • بِهِ شَيْئاً}، و علله بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}، و ذكر أنه البخيل بماله و المنفق لرئاء الناس، فهم الذين يشركون بالله‌ و لا يعبدونه وحده، ثم قال: {وَ مَا ذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا}، و ظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، و قال تعالى: {وَ لاَ تَتَّبِعِ اَلْهَوى‌َ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ}: « ص: ٢٦» فبين أن الضلال باتباع الهوى و كل شرك ضلال إنما هو بنسيان يوم الحساب، ثم قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلىَ عِلْمٍ}: «الجاثية: ٢٣» فبين أن اتباع الهوى عبادة له و شرك به. 

  • فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله و هو على ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات و العقوبات، و أن الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر و لو آمن به لم ينسه و أن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس و نحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربه، و أشرك به. 

  • فالمراد بعبادة الله و الإخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته، و ابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوى. 

  • قوله تعالى{وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله: {أَيْمَانُكُمْ} الظاهر أن قوله: {إِحْسَاناً} مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره: و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و الإحسان يتعدى بالباء و إلى معا يقال: أحسنت به و أحسنت إليه، و قوله: {وَ بِذِي اَلْقُرْبى‌َ}، هو و ما بعده معطوف على الوالدين، و ذو القربى‌ القرابة، و قوله: {وَ اَلْجَارِ ذِي اَلْقُرْبى‌َ وَ اَلْجَارِ اَلْجُنُبِ} قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب دارا، و بالجار الجنب و هو الأجنبي الجار البعيد دارا، و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): تحديد الجوار بأربعين ذراعا،: و في رواية: أربعون دارا، و لعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى و الجار الجنب. 

  • و قوله: و الصاحب بالجنب هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك، و هو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق و مصاحب الحضر و المنزل و غيرهم، و قوله: و ابن السبيل هو الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سألك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه، و أما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج 

تفسير الميزان ج٤

355
  • من مفهوم اللفظ، و قوله: و ما ملكت أيمانكم المراد به العبيد و الإماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم، و قد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}المختال‌ التائه المتبختر المسخر لخياله، و منه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته، و الفخور كثير الفخر، و الوصفان أعني الاختيال و كثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال و الجاه، و الإفراط في حبهما، و لذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى، و ما ذكره تعالى في تفسيره بقوله: {اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ} إلخ و قوله: {وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ اَلنَّاسِ} إلخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء و الفخر: فالطائفة الأولى متعلقة القلب بالمال، و الثانية بالجاه و إن كان بين الجاه و المال تلازم في الجملة. 

  • و كان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل و الكتمان و غيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبُخْلِ} (الآية) أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة و عملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم أولي ثروة و مال يتقرب إليهم الناس و يخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر و زاجر كقولهم، و أما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، و خوفهم على أنفسهم لو منعوا و خشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم‌، و المراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التي أنعم بها، و منه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره. 

  • قوله تعالى{وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ اَلنَّاسِ}، إلخ أي لمراءاتهم، و في الآية دلالة على أن الرئاء في الإنفاق أو هو مطلقا شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس و استحسانهم فعله، و شرك من جهة العمل لأن المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، و إنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا، و على أن المرائي قرين الشيطان و ساء قرينا. 

  • قوله تعالى{وَ مَا ذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} (الآية)، استفهام للتأسف أو التعجب، و في الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالإيمان بالله و باليوم الآخر حقيقة و إن تلبس به ظاهرا. 

تفسير الميزان ج٤

356
  • و قوله: {وَ كَانَ اَللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} تمهيد لما في الآية التالية من البيان، و الأمس لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية. المثقال‌ هو الزنة، و الذرة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذي لا يكاد يرى صغرا. و قوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا. 

  • و قوله: {وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً}، قرئ برفع حسنة و بنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة، و على تقدير النصب تقديره: و إن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، و تأنيث الضمير في قوله: {إِنْ تَكُ} إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلى ذرة. 

  • و السياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، و التقدير: و من الأسف عليهم أن لم يؤمنوا و لم ينفقوا فإنهم لو آمنوا و أنفقوا و الله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالإهمال و ترك الجزاء، و إن تك حسنة يضاعفها. و الله أعلم. 

  • قوله تعالى{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (الآية). قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ}: «البقرة: ١٤٣» من الجزء الأول من هذا الكتاب، و سيجي‌ء بعض آخر في محله المناسب له. 

  • قوله تعالى{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ} (الآية). نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره (صلى الله عليه وآله و سلم) الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة، و قوله: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ} كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى: {وَ يَقُولُ اَلْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً}: «النبأ: ٤٠». 

  • و قوله: {وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً} ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله: {يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت‌، و هو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شي‌ء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط 

تفسير الميزان ج٤

357
  • فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم. 

  • و أما قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}: «المجادلة: ١٨» فسيجي‌ء إن شاء الله تعالى أن ذلك إنما هو لإيجاب ملكة الكذب التي حصلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شي‌ء.

  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير العياشي في قوله تعالى: {وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الآية): عن سلام الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) و أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام): نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و في علي (عليه السلام). 

  • ثم قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا و علي أبوا هذه الأمة.

  • أقول: و قال البحراني في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق. 

  • و روى العياشي هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفر (عليه السلام). و الذي تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنساني لوجود الإنسان و المربي له، فمعلم الإنسان و مربيه للكمال أبوه فمثل النبي و الولي عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسماني الذي لا شأن له إلا المبدئية و التربية في الجسم فالنبي و الولي أبوان، و الآيات القرآنية التي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيين. 

  • و في تفسير العياشي أيضا عن أبي صالح عن أبي العباس في قول الله: {وَ اَلْجَارِ ذِي اَلْقُرْبى‌ وَ اَلْجَارِ اَلْجُنُبِ} قال: الذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر. 

تفسير الميزان ج٤

358
  • أقول: قوله: الذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معا و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق. 

  • و فيه عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلم، و تكلمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و أنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.

  • و اعلم، أن الأخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود، و هي و إن كان يؤيدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكف عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إياهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظري منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها. 

  • و اعلم أيضا أن الأخبار الواردة عن النبي و آله (صلى الله عليه وآله و سلم) في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الإحصاء على معروفيتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها هاهنا على أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن، ذكر ما يخصها من الأخبار هناك أنسب. 

  •  

  • [سورة النساء (٤): آیة ٤٣ ]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى‌ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَ لاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى‌ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‌ أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُوراً ٤٣} 

تفسير الميزان ج٤

359
  • (بيان) 

  • قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ}: «البقرة: ٢١٩»، أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف، و إن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُو} (الآية) نزلت بعد قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً}: «النحل: ٦٧»، و قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ}: «الأعراف: ٣٣»، و قبل قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}: «البقرة: ٢١٩»، و قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}: «المائدة: ٩٠»، و هذه آخر الآيات نزولا. 

  • و يمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء، ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهي‌ الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلا أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية. 

  • و أما وقوع الآية بين ما تقدمها و ما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن هاهنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل و الاعتراض و هو غير عزيز في القرآن و هو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لما تمت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة و ليست بأجنبية بحسب الحقيقة و إنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع، أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى: 

تفسير الميزان ج٤

360
  • {بَلِ اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‌َ مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعَاجِلَةَ} (الآيات) «القيامة: ٢٠»، انظر إلى موضع قوله: {لاَ تُحَرِّكْ} إلى قوله: {بَيَانَهُ}

  • و على هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أن القرآن إنما نزل نجوما، و لا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {مَا تَقُولُونَ} المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله: {وَ لاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}، و المقتضي لهذا التجوز قوله {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى كما ترى يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة على السنة و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى. 

  • و على هذا فقوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاَةِ}: «المائدة: ٦». 

  • (بحث روائي‌) 

  • في تفسير العياشي عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله: {لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى‌َ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قال: هذا قبل أن تحرم الخمر. 

  • أقول: ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلا 

تفسير الميزان ج٤

361
  • فهي مخالفة للكتاب فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا، و آية البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكية و لم يختلف أحد في أن هذه الآية (آية النساء) مدنية، و مثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان. 

  • و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا فإنها من خلل النفاق فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم. 

  • أقول: قوله: فإنها من خلل النفاق استفاد (عليه السلام) ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا}، فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامه (عليه السلام) و يكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر. 

  • و قد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين، و الكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق (عليه السلام)، و بإسناده عن زرارة عن الباقر (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا البخاري في صحيحة عن أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٤٤ الی ٥٨ ]

  • {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلاَلَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ ٤٤ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَ كَفى‌َ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى‌َ بِاللَّهِ نَصِيراً ٤٥ مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ رَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ اِسْمَعْ

تفسير الميزان ج٤

362
  • وَ اُنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لَكِنْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ٤٦ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلى‌ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ اَلسَّبْتِ وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً ٤٧ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ اِفْتَرى‌ إِثْماً عَظِيماً ٤٨ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٤٩ اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ وَ كَفى‌ بِهِ إِثْماً مُبِيناً ٥٠أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدى‌ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ٥١ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ٥٢ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ اَلنَّاسَ نَقِيراً ٥٣ أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ عَلى‌ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ٥٤ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى‌َ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ٥٥ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا اَلْعَذَابَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ٥٦ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ

تفسير الميزان ج٤

363
  • فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ٥٧ إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمَانَاتِ إِلى‌ أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ٥٨}

  • (بيان‌) 

  • آيات متعرضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين‌ الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متصل، و الآية الأخيرة: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمَانَاتِ إِلى‌َ أَهْلِهَا} (الآية)، و إن ذكر بعضهم أنها مكية، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنية، و هي هذه الآية، و قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاَلَةِ} (الآية): «النساء: ١٧٦» على ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنها في الإرث، و قد شرع في المدينة. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ} (الآية)، قد تقدم في الكلام على الآيات (٣٦ -٤٢) أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود. 

  • و بالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة و يظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدهم في التقدم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود و يصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل. 

  • و هذا هو الذي يستفاد من قوله: {وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} إلى آخر الآية. 

  • فمعنى الآيتين و الله أعلم أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء إنك ترى اليهود الذين 

تفسير الميزان ج٤

364
  • أوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلوا السبيل فإنهم و إن لقوكم ببشر الوجه، و ظهروا لكم في زي الصلاح، و اتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم‌ لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة و إلقاءاتهم المزخرفة و أنتم تقدرون أنهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوة و كفى بالله وليا، و كفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم. 

  • قوله تعالى{مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} إلى قوله: {فِي اَلدِّينِ}«من» في قوله: {مِنَ اَلَّذِينَ}، بيانيه، و هو بيان لقوله في الآية السابقة: {اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ}، أو لقوله: {بِأَعْدَائِكُمْ}، و ربما قيل: إن قوله: {مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا} خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله {يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ}، و التقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون، أو من الذين هادوا من يحرفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة: 

  • فظلوا و منهم دمعه سابق له #***و آخر يشني دمعة العين بالمهل‌
  • يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه. 

  • و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إما بتفسير ما ورد عن موسى (عليه السلام) في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله ص من بشارات التوراة، و من قبل أولوا ما ورد في المسيح (عليه السلام) من البشارة، و قالوا: إن الموعود لم يجي‌ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم. 

  • و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله: {وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا}، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله: {يُحَرِّفُونَ}، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن 

تفسير الميزان ج٤

365
  • يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال: {سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا} لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال: {اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع. 

  • و قوله: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ} أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق، و الإزراء و الإهانة في صور التأدب و الاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين ما كانوا يكلمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه (صلى الله عليه وآله و سلم) فذموا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ثم فسره بقوله: {وَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَ عَصَيْنَا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله: {وَ رَاعِنَا} ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالألسن، و طعن في الدين فقال: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ} و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا}{لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ} كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحق خيرا و أقوم مما قالوه (مع اشتماله على اللي و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبني على مقايسة الأثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحق و بين الأثر المظنون حقا، و المعنى: أنهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى: {وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجَارَةِ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ} الجمعة: ١١. 

  • قوله تعالى{وَ لَكِنْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنهم قالوا، الدال على التمني المشعر بالاستحالة. 

  • و الظاهر أن الباء في قوله: {بِكُفْرِهِمْ} للسببية دون الآية، فإن الكفر يمكن 

تفسير الميزان ج٤

366
  • أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا (و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك. 

  • و أما قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فقد قيل: إن {قَلِيلاً} حال، و التقدير: إلا و هم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل، و ربما قيل: إن {قَلِيلاً} صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الإيمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل. 

  • و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أن المعنى: فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكي نفسه، و لا يرقي عقله فقد أخطأ، فإن الإيمان إنما يتصف بالمستقر و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أما القلة و تقابلها الكثرة فلا يتصف بهما، و خاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام. 

  • على أن المراد بالإيمان المذكور في الآية إما حقيقة الإيمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الإيمان التي ربما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أي معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام مما لا ريب فيه، و الآيات القرآنية ناصة فيه، قال تعالى: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‌َ إِلَيْكُمُ اَلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}: «النساء: ٩٤»، مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله: {وَ لَكِنْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} ، كان يكفي فيه أقل درجات الإيمان أو الإسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين. 

  • و الذي أوقعه في هذا الخطإ ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الإيمان و هي ما لا يعتد به من الإيمان حتى يستقيم قوله: {لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}، و قد غفل عن أن هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذم و المؤاخذات و التوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالذي لحقه اللعن و الغضب و المؤاخذات العامة الأخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة. 

تفسير الميزان ج٤

367
  • و أما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أن الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد و إن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع و كان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثني فقيل: {إِلاَّ قَلِيلاً} فالآية تجري مجرى قوله تعالى: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}: النساء: ٦٦. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} إلخ الطمس‌ محو أثر الشي‌ء، و الوجه‌ ما يستقبلك من الشي‌ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور المعنوية كما يستعمل في الأمور الحسية، و الأدبار جمع دبر بضمتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى: {وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ}: الأعراف: ١٦٣، و قال تعالى: {وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَ مَا خَلْفَهَا}: البقرة: ٦٦. 

  • و قد كانت الآيات السابقة كما عرفت متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيده قوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، و أوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه. 

  • و ذلك ما ذكره بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلىَ أَدْبَارِهَا}، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المترقبة و المرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد 

تفسير الميزان ج٤

368
  • إلا ما خلفته وراءها، و لا تمشي إليه إلا القهقرى. 

  • و هذا الإنسان و هو بالطبع و الفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا و سعادة لنفسه كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه، و صلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا و فسادا، و كلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، و ليس يفلح أبدا. 

  • و أما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة. 

  • و على هذا فلفظة {أَوْ} في قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ}، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها، و الثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة. 

  • فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال و سوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية كان لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه، و أما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال. {وُجُوهاً} فأتى بالجمع المنكر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة أخرى هي أن المقام لما كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار و التخويف لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد و التخويف. 

  • و في قوله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ}، حيث أرجع فيه ضمير «هم» الموضوع لأولي العقل إلى قوله: {وُجُوهاً} كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه و اشمأز منه، و لا باطلا إلا مال إليه و تولع به. 

تفسير الميزان ج٤

369
  • و هذا نوع من التصرف الإلهي مقتا و نقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى: {وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: «الأنعام: ١١٠». 

  • فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق و تجنب الباطل إلى اتباع الباطل و الاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيده صدر الآية: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ} إلخ، و كذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أن قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} ينافي ذلك كما تقدم بيانه. 

  • و ربما قيل: إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه، و فيه: أنه و إن كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية كما تقدم ينافيه. 

  • و ربما قيل: إن المراد به إجلاؤهم و ردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه، و قد أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاءوا منهما، و فيه أن صدر الآية بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته. 

  • نعم من الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثم إن الدين الحق لما كان هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا}: «الروم: ٤١»، و قال تعالى: {وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‌َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ}: «الأعراف: ٩٦» و لازم هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين‌ محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كل ما يطيب به العيش، و يدر به ضرع العمل 

تفسير الميزان ج٤

370
  • اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلها أو كلها. 

  • قوله تعالى{وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً} إشارة إلى أن الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ} إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه. 

  • و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}: «النساء: ١١٦»، فإن هذه الآية (آية ٤٨)، تهدد بآثار الشرك الدنيوية، و تلك (آية ١١٦)، تهدد بآثاره الأخروية، و ذلك بحسب‌ الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار. 

  • و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شي‌ء منهما وقوعا جزافيا بل على وفق الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبودية و الربوبية، قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: «الذاريات: ٥٦»، و لا عبودية مع شرك، و أما مغفرته لسائر المعاصي و الذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأول من هذا الكتاب. 

  • و أما التوبة فالآية غير متعرضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأن موردها عدم الإيمان و لا توبة معه، على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‌َ رَبِّكُمْ}: «الزمر: ٥٤». 

تفسير الميزان ج٤

371
  • و المراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن‌ أهل الكتاب لا يسمون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به (راجع تفسير آية ٢٢١ من البقرة)، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شي‌ء لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى (عليه السلام) إذا كفر بالمسيح (عليه السلام) فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} دون أن يقول: المشرك أو المشركين. 

  • و قوله تعالى{لِمَنْ يَشَاءُ} تقييد للكلام لدفع توهم أن لأحد من الناس تأثيرا فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق الأمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من التوهم كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: «هود: ١٠٨». 

  • على أن من الحكمة ألا يغفر لكل مذنب ذنبه و إلا لغا الأمر و النهي، و بطل التشريع، و فسد أمر التربية الإلهية، و إليه الإشارة بقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ}، و من هنا يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده و إلا لغا النهي عنه، و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك و نحوه. 

  • فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كل ذلك لحكمة. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} قال الراغب: أصل الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى إلى أن قال: و تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، و الثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله تعالى عنه فقال: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلا و شرعا، و لهذا قيل 

تفسير الميزان ج٤

372
  • لحكيم: ما الذي لا يحسن و إن كان حقا؟ فقال: مدح الرجل نفسه، انتهى كلامه. 

  • و لما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أن هؤلاء المزكين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأن العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه. 

  • و يؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اَللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ}: «المائدة: ١٨»، و قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا اَلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً}: «البقرة: ٨٠» و زعمهم الولاية كما في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ}: «الجمعة: ٦»، فالآية تكني عن اليهود، و فيها استشهاد لما تقدم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق و اتباعه، و الإيمان بآيات الله سبحانه، و استقرار اللعن الإلهي فيهم، و أن ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم و تزكيتهم لها. 

  • قوله تعالى{بَلِ اَللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، و رد لهم فيما زكوه، و بيان أن ذلك من شئون الربوبية يختص به تعالى فإن الإنسان و إن أمكن أن يتصف بفضائل، و يتلبس بأنواع الشرف و السؤدد المعنوي غير أن اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء و استقلالا و هو في معنى دعوى الألوهية و الشركة مع رب العالمين، و أين الإنسان الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و الاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شئون نفسه، و الخير الذي يزعم أنه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضا من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟

  • و هذا الغرور و الإعجاب الذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من أمهات الرذائل، ثم لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة أخرى، و هي رذيلة التكبر و يتم تكبره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كل ظلم و بغي بغير حق و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و أموالهم. 

  • و هذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا و أما إذا تعدى الفرد و صار خلقا اجتماعيا 

تفسير الميزان ج٤

373
  • و سيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}: «آل عمران: ٧٥». 

  • فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول أو كاذبا لأنه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه، و المعطي الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكي من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكي من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به، و يشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح: {إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌َ آدَمَ وَ نُوحاً}: «آل عمران: ٣٣»، و قوله في إبراهيم و إدريس: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا}: «مريم: ٤١، ٥٦»، و قوله في يعقوب: {وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}: «يوسف: ٦٨»، و قوله في يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ}: «يوسف: ٢٤»، و قوله في حق موسى: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}: «مريم: ٥١»، و قوله في حق عيسى: {وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ}: «آل عمران: ٤٥»، و قوله في سليمان و أيوب: {نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}: « ص: ٣٠، ٤٤»، و قوله في محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّ وَلِيِّيَ اَللَّهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصَّالِحِينَ}: «الأعراف: ١٩٦»، و قوله: {وَ إِنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ}: «القلم: ٤»، و كذا قوله تعالى في حق عدة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الصافات و _ ص و غيرها. 

  • و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلا حقا و عدلا يقدر بقدره لا يفرط و لا يفرط، و لذا ذيل قوله: بل الله يزكي من يشاء بقوله و هو في معنى التعليل: {وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}

  • و قد تبين مما مر أن تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية و التزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية. 

  • قوله تعالى{وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}الفتيل‌ فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللي قيل: المراد به ما يكون في شق النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في روايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام): أنه النقطة التي على النواة، و النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، و كيف كان هو كناية عن الشي‌ء الحقير الذي لا يعتد به. 

  • و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه 

تفسير الميزان ج٤

374
  • فضله و يمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية أن الله يختص به أن يزكي كل من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه الله به، و ينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله و زكاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين و لا يسميه فضلا، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و قد قال تعالى: {وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ}: «الحج: ٣٢»، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنه من اتباع الحق و قد قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}: «الزمر: ٩»، و إن لم يكن للعالم أن يتبجح بعلمه و يمدح نفسه،و الأمر في جميع الفضائل الحقيقية الإنسانية على هذا الحال. 

  • و ثانيهما: أن ما ذكره بعض باحثينا، و اتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من الفضائل الإنسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق القرآن، و الذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزز بالله قال تعالى: {اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اَللَّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ}: «آل عمران: ١٧٣»، و قال: {أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: «البقرة: ١٦٥»، و قال: {إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: «يونس: ٦٥»، إلى غير ذلك من الآيات. 

  • قوله تعالى{اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ}، إلخ فتزكيتهم أنفسهم ببنوة الله و حبه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أن أصل التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنه كما تقدم بيانه إسناد شريك إلى الله و ليس له في ملكه شريك قال تعالى: {وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ}: «الإسراء: ١١١». 

  • و قوله: {وَ كَفى‌َ بِهِ إِثْماً مُبِيناً} أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله لكفى في كونه إثما مبينا، و التعبير بالإثم‌ و هو الفعل المذموم الذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها هو المناسب لهذه المعصية لكونه من إشراك الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة: {وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ اِفْتَرى‌َ إِثْماً عَظِيماً} بعد قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطَّاغُوتِ}، الجبت و الجبس‌ كل ما لا خير فيه، و قيل: و كل ما يعبد من دون الله سبحانه، 

تفسير الميزان ج٤

375
  • و الطاغوت‌ مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل، و قيل: هو كل معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للذين كفروا على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس عند المؤمنين إلا دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم، و لا عند المشركين إلا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين نصيبا من الحق، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم لعنهم الله بقوله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ} (الآية). 

  • و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائي الآتي. 

  • و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم و اللوم عليهم فإن إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع. 

  • قوله تعالى{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ} إلى قوله: {نَقِيراً}النقير فعيل بمعنى المفعول و هو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مر له معنى آخر في قوله: {وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (الآية). 

  • و قد ذكروا أن {أَمْ} في قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ}، منقطعة و المعنى: بل أ لهم نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك. 

  • و قد جوز بعضهم أن تكون «أم» متصلة، و قال: إن التقدير: أ هم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك؟ و رد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن، و الظاهر أن أم متصلة و أن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية السابقة: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ} (الآية)، و التقدير: أ لهم كل ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و تترتب، و يتصل الكلام في سوقه. 

  • و المراد بالملك‌ هو السلطنة على الأمور المادية و المعنوية فيشمل ملك النبوة و الولاية و الهداية و ملك الرقاب و الثروة، و ذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة و اللاحقة فإن الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء و الحكم على المؤمنين، و هو 

تفسير الميزان ج٤

376
  • مسانخ للملك على الفضائل المعنوية و ذيل الآية: {فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ اَلنَّاسَ نَقِيراً} يدل على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعم من ملك الماديات و المعنويات. 

  • فيئول معنى الآية إلى نحو قولنا: أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على نبيه بالنبوة و الولاية و الهداية و نحوه، و لو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل القليل الذي لا يعتد به لبخلهم و سوء سريرتهم، فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ}: الإسراء: ١٠٠. 

  • قوله تعالى{أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ عَلىَ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} و هذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة، و وجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن دين المشركين أهدى من دينهم. 

  • و المراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا، و بما آتاهم الله من فضله هو النبوة و الكتاب و المعارف الدينية، غير أن ذيل الآية: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} «إلخ»، يدل على أن هذا الذي أطلق عليه الناس من آل إبراهيم، فالمراد بالناس حينئذ هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه و ببركاته العالية، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‌َ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ} (الآية): آل عمران: ٣٣»، إن آل إبراهيم هو النبي و آله. 

  • و إطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض لك و يؤذيك: لا تتعرض للناس، و ما لك و للناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي. 

  • قوله تعالى{فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ} الجملة إيئاس لهم في حسدهم، و قطع لرجائهم زوال هذه النعمة، و انقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى، و آتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئا. 

  • و من هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي و آله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل و إسحاق حتى يشمل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة، و ليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإن الكلام على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو المؤمنين لمكان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم 

تفسير الميزان ج٤

377
  • فيفسد معنى الجملة كما لا يخفى. 

  • و قد ظهر أيضا كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه الجملة: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ}«إلخ» تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم، فيتأيد به أن المراد بالناس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أما المؤمنون به فليسوا جميعا من ذرية إبراهيم، و لا كرامة لذريته من المؤمنين على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم، و لا يوجب مجرد الإيمان و اتباع ملة إبراهيم تسمية المتبعين بأنهم آل إبراهيم، و كذا قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا} (الآية): «آل عمران: ٦٨» لا يوجب تسمية الذين آمنوا بآل إبراهيم‌ لمكان الأولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم، و ليسوا يسمون آل إبراهيم قطعا، فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو و آله (صلى الله عليه وآله و سلم)و إسماعيل جده و من في حذوه. 

  • قوله تعالى{وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة و الولاية الحقيقية على هداية الناس و إرشادهم و يؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية و منقبة دينية، و يؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما عده من الفضل في حق آل إبراهيم النبوة و الولاية إذ قال: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ}، فيقوى أن يكون النبوة و الولاية مندرجتين في إطلاق قوله: و آتيناهم ملكا عظيما. 

  • قوله تعالى{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}الصد الصرف و قد قوبل الإيمان بالصد لأن اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الإيمان بما أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله و الإيمان بما نزله من الكتاب، و ربما كان الصد بمعنى الإعراض و حينئذ يتم التقابل من غير عناية زائدة. 

  • قوله تعالى{وَ كَفى‌َ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا عن الإيمان بالكتاب و سعروا نار الفتنة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الذين آمنوا معه. 

  • ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} إلى آخر الآية و هو بيان في صورة التعليل، ثم عقبه بقوله: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ} إلى آخر الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين: {مَنْ آمَنَ بِهِ}و {مَنْ صَدَّ عَنْهُ}، و يظهر أنهما في قطبين 

تفسير الميزان ج٤

378
  • متخالفين من سعادة الحياة الأخرى و شقائها: دخول الجنات و ظلها الظليل، و إحاطة سعير جهنم و الاصطلاء بالنار أعاذنا الله و معنى الآيتين واضح. 

  • قوله تعالى{إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمَانَاتِ إِلى‌َ أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ} إلخ الفقرة الثانية من الآية: {وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ظاهره الارتباط بالآيات السابقة عليها فإن البيان الإلهي فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنهم أهدى سبيلا من المؤمنين، و قد وصفهم الله تعالى في أول بيانه بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب و الذي في الكتاب هو تبيين آيات الله و المعارف الإلهية، و هي أمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبين للناس، و لا تكتم عن أهله. 

  • و هذا الذي ذكر من القرائن يؤيد أن يكون المراد بالأمانات ما يعم الأمانات المالية و غيرها من المعنويات كالعلوم و المعارف الحقة التي من حقها أن يبلغها حاملوها أهلها من الناس. 

  • و بالجملة لما خانت اليهود الأمانات الإلهية المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد و آيات نبوة محمد ص فكتموها و لم يظهروها في واجب وقتها، ثم لم يقنعوا بذلك حتى جاروا في الحكم بين المؤمنين و المشركين فحكموا للوثنية على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللعن الإلهي و جر ذلك إياهم إلى عذاب السعير فلما كان من أمرهم ما كان، غير سبحانه سياق الكلام من التكلم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الأمانات إلى أهلها، و بالعدل في الحكم فقال: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمَانَاتِ إِلى‌َ أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ}«إلخ». 

  • و الذي وسعنا به معنى تأدية الأمانات و العدل في الحكم هو الذي يقضي به السياق على ما عرفت، فلا يرد عليه أنه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة و الحكم فإن المتبادر في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب رد الأمانة المالية إلى صاحبها، و عدل القاضي و هو الحكم في مورد القضاء الشرعي، و ذلك أن التشريع المطلق لا يتقيد بما يتقيد به موضوعات الأحكام الفرعية في الفقه بل القرآن مثلا يبين وجوب رد الأمانة على الإطلاق، و وجوب العدل في الحكم على الإطلاق فما كان من ذلك راجعا إلى الفقه من الأمانة المالية و القضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه، و ما كان غير ذلك استفاد منه فن أصول المعارف، و هكذا. 

تفسير الميزان ج٤

379
  • (بحث روائي‌) 

  • في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلم رسول الله ص لوى لسانه، و قال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام و عابه فأنزل الله فيه: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلاَلَةَ} إلى قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}

  • و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} (الآية) قال: نزلت في مالك بن الصيف، و رفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع. 

  • و فيه أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد الله بن سوريا، و كعب بن أسد فقال لهم: يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فوالله إنكم لتعلمون إن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} (الآية). 

  • أقول: ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدم في البيان السابق و إن كان نزولها في اليهود من أهل الكتاب إلا أن ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنه حكم تطبيقي كغالب نظائره من الأخبار الحاكية لأسباب النزول، و الله أعلم. 

  • و في تفسير البرهان عن النعماني بإسناده عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في حديث طويل يصف فيه خروج السفياني، و فيه قال: و ينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلا ثلاثة نفر يحول الله وجوههم إلى أقفيتهم، و هم من كلب، و فيهم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلىَ أَدْبَارِهَا} (الآية).

  • أقول: و رواه عن المفيد أيضا بإسناده عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في نظير الخبر في قصة السفياني. 

تفسير الميزان ج٤

380
  • و في الفقيه بإسناده عن ثوير عن أبيه: أن عليا (عليه السلام) قال: ما في القرآن آية أحب إلي من قوله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

  • أقول: و رواه في الدر المنثور عن الفريابي و الترمذي و حسنه عن علي. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال لما نزلت: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ} (الآية) فقام رجل فقال: و الشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (الآية). 

  • و فيه أخرج ابن المنذر عن أبي مجاز قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا} (الآية) قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: و الشرك بالله؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأثبتت هذه في الزمر، و أثبتت هذه في النساء. 

  • أقول: و قد عرفت فيما تقدم أن آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقبه من الآيات في المغفرة بالتوبة، و لا ريب أن التوبة يغفر معها كل ذنب حتى الشرك، و أن آية النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافي بين الآيتين مضمونا حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصصة للأخرى. 

  • و في المجمع عن الكلبي: في الآية: نزلت في المشركين وحشي و أصحابه، و ذلك أنه لما قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنا قد ندمنا على الذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول و أنت بمكة: {وَ اَلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَ لاَ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لاَ يَزْنُونَ} الآيتان، و قد دعونا مع الله إلها آخر، و قتلنا النفس التي حرم الله، و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك فنزلت الآية: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} الآيتين فبعث بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى وحشي و أصحابه، فلما قرأهما كتبوا إليه: أن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ} (الآية) فبعث بها إليهم فقرءوها فبعثوا إليه: أنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت: {يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‌ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً} فبعث بها إليهم فلما قرءوها 

تفسير الميزان ج٤

381
  • دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقبل منهم، ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال: ويحك غيب شخصك عني فلحق وحشي: بعد ذلك بالشام، و كان بها إلى أن مات.

  • أقول: و قد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس‌ و التأمل في موارد هذه الآيات التي تذكر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل شكا في أن الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدر أن وحشيا و أصحابه مغفور لهم و إن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة و صغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع، و المستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط و اتصال، و للمجموع سياق لا يحتمل التقطيع و التفصيل فقطعها ثم رتبها و نضدها نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين وحشي. 

  • و لقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية: كأنهم يثبتون أن الله سبحانه كان يداعب وحشيا. 

  • فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها أي ذنب أذنب و أي فظيعة أتى بها، و عقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي، و لازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح، و هذا يرفعه اتباعا لهوى وحشي. 

  • و وحشي هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ الطائف، و قال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): غيب شخصك عني فلحق بالشام و سكن حمصا و اشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان، ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر، و قد جلد لذلك غير مرة، ثم مات في خلافة عثمان، قتله الخمر على ما روي. 

  • روى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا و عبد الله بن عدي بن الخيار فمررنا بحمص و بها وحشي، فقلنا: لو أتيناه و سألناه عن قتله حمزة كيف قتله، فلقينا رجلا و نحن نسأل عنه فقال: إنه رجل قد غلبت عليه الخمر فإن تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا يحدثكما ما شئتما من حديث، و إن تجداه على 

تفسير الميزان ج٤

382
  • غير ذلك فانصرفا عنه، قال: فأقبلنا حتى انتهينا إليه، الحديث‌، و فيه ذكر كيفية قتله حمزة يوم أحد. 

  • و في المجمع، روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال: كنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا بأنه من أهل النار حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات. 

  • و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقي قال: حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال:شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم فسمعتهم يقولون: {مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً} إلى آخر الآية فقال المهاجرون و الأنصار: قد أوجب له النار فلما نزلت: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قالوا: ما شاء الله، يصنع الله ما يشاء. 

  • أقول: و روي ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق، و هذه الروايات لا تخلو من شي‌ء فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله ص أن يجهلوا أن هذه الآية: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم بيانه، أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف: {وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: «الزخرف: ٨٦»، و مثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس، و الأنبياء، و طه، و سبأ، و النجم، و المدثر كلها آيات مكية تثبت الشفاعة على ما مر بيانه، و هي عامة لجميع الذنوب و مقيدة في جانب المشفوع له بالدين المرضي و هو التوحيد و نفي الشريك و في جانب الله تعالى بالمشيئة، فمحصل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله، و هذا بعينه مفاد هذه الآية: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

  • و أما الآيات التي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق. و آكل الربا، و قاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى: {وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (الآية): «النساء: ٩٣»، و قوله في الربا: {وَ مَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: «البقرة: ٢٧٥»، و قوله في قاطع الرحم: {أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ}: «الرعد: ٢٥»، و غير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنما توعد بالشر و تنبئ عن جزاء النار، و أما كونه جزاء محتوما لا يقبل التغيير و الارتفاع فلا صراحة لها فيه. 

تفسير الميزان ج٤

383
  • و بالجملة لا يترجح آية {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ} على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهد لهم ما ذكروه. 

  • فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار، و لا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إلخ) أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر. 

  • و يومئ إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات، و هو ما رواه في الدر المنثور، عن ابن الضريس و أبي يعلى و ابن المنذر و ابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا (صلى الله عليه وآله و سلم): {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، و قال: إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا بعد و رجونا. 

  • فظاهر الرواية أن الذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر، و هو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة، و لم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها و دلالتها و طول العهد؟ ما أدري!

  • و في الدر المنثور في قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ} إلى قوله: {سَبِيلاً}: أخرج البيهقي في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال: لما كان من أمر النبي ص ما كان اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكة و كان بها، و قال: لا أعين عليه و لا أقاتله، فقيل له بمكة: يا كعب أ ديننا خير أم دين محمد و أصحابه؟ قال: دينكم خير و أقدم، و دين محمد حديث، فنزلت فيه: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ} (الآية). 

  • أقول: و في سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أن الجميع تشترك في أصل القصة و هو أن بعضا من اليهود حكموا لقريش على النبي ص بأن دينهم خير من دينه. 

  • و في تفسير البرهان في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ عَلى‌ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (الآية): عن الشيخ في أماليه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): {أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ 

تفسير الميزان ج٤

384
  •  عَلىَ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال: نحن الناس. 

  • و في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر (عليه السلام) في‌ حديث: {أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ عَلىَ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} نحن الناس المحسودون، الحديث. 

  • أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) مستفيضا بطرق كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي، و التهذيب، و المعاني، و البصائر، و تفسيري القمي و العياشي، و غيرها. 

  • و في معناها من طرق أهل السنة ما عن ابن المغازلي يرفعه إلى محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى»: {أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ عَلىَ مَا آتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال: نحن الناس و الله. 

  • و ما في الدر المنثور عن ابن المنذر و الطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس: في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنَّاسَ} قال: نحن الناس دون الناس: و قد روي فيه أيضا تفسير الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن عكرمة و مجاهد و مقاتل و أبي مالك‌، و قد مر فيما قدمناه من البيان: أن الظاهر كون المراد بالناس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أهل بيته ملحقون به. 

  • و في تفسير العياشي عن حمران عن الباقر (عليه السلام) {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ اَلْكِتَابَ} قال: النبوة، {وَ اَلْحِكْمَةَ} قال: الفهم و القضاء، «و {مُلْكاً عَظِيماً} قال: الطاعة.

  • أقول: المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الأحاديث، و الأخبار في هذه المعاني أيضا كثيرة، و في بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالإمامة و الخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر (عليه السلام). 

  • و في تفسير القمي في قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} (الآية) قال: الآيات أمير المؤمنين و الأئمة (عليه السلام). 

  • أقول: و هو من الجري. 

  • و في مجالس الشيخ بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال: كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد (عليه السلام) لما قدمه المنصور فأتاه ابن أبي العوجاء و كان ملحدا فقال: ما تقول في هذه الآية: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا 

تفسير الميزان ج٤

385
  • اَلْعَذَابَ}؟ هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحك هي هي و هي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أ رأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ثم صب عليها الماء و جبلها ثم ردها إلى هيئتها الأولى أ لم تكن هي هي و هي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك

  • أقول: و رواه في الإحتجاج، أيضا عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام)، و القمي في تفسيره مرسلا: و يعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الإنسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان و إن تغير البدن بأي تغير حدث فيه. 

  • و في الفقيه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} قال: الأزواج المطهرة اللاتي‌ لا يحضن و لا يحدثن. 

  • و في تفسير البرهان في قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمَانَاتِ} (الآية): عن محمد بن إبراهيم النعماني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمَانَاتِ إِلى‌ أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} فقال: أمر الله الإمام أن يؤدي الأمانة إلى الإمام الذي بعده، ليس له أن يزويها عنه، أ لا تسمع قوله: {وَ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} هم الحكام يا زرارة، أنه خاطب بها الحكام.

  • أقول: و صدر الحديث مروي بطرق كثيرة عنهم (عليه السلام)، و ذيله يدل على أنه من باب الجري، و أن الآية نازلة في مطلق الحكم و إعطاء ذي الحق حقه فينطبق على مثل ما تقدم سابقا. 

  • و في معناه ما في الدر المنثور عن سعيد بن منصور و الفريابي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله و أن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوا و أن يجيبوا إذا دعوا.

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٥٩ الی ٧٠]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ

تفسير الميزان ج٤

386
  • مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٥٩ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى اَلطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ٦٠وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلى‌َ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ٦١ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَ تَوْفِيقاً ٦٢ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ٦٣ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللَّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ٦٤ فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ٦٥ وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً ٦٦ وَ إِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ٦٧ وَ لَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً ٦٨ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ

تفسير الميزان ج٤

387
  • فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ٦٩ ذَلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللَّهِ وَ كَفى‌َ بِاللَّهِ عَلِيماً ٧٠} 

  • (بيان) 

  • الآيات كما ترى غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة آخذة من قوله تعالى: {وَ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، كأنها مسوقة لترغيب الناس في الإنفاق في سبيل الله، و إقامة صلب طبقات المجتمع و أرباب الحوائج من المؤمنين و ذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثم الحث على إطاعة الله و إطاعة الرسول و أولي الأمر، و قطع منابت الاختلاف و التجنب عن التشاجر و التنازع، و إرجاعه إلى الله و رسوله لو اتفق، و التحرز عن النفاق، و لزوم التسليم لأوامر الله و رسوله و هكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، و منظمة لنظام أمورهم في داخلهم، و ربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الإيماء إليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى‌َ} نساء: ٤٣. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له و بث الإحسان بين طبقات المؤمنين و ذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرع عليه فروع أخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي و هو التحضيض و الترغيب في أخذهم‌ بالائتلاف و الاتفاق، و رفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله و رسوله. 

  • و لا ينبغي أن يرتاب في أن قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}، جملة سيقت تمهيدا و توطئة للأمر برد الأمر إلى الله و رسوله عند ظهور التنازع، و إن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع و الأحكام الإلهية. 

  • فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ}، 

تفسير الميزان ج٤

388
  • ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ} إلخ، و قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} إلخ، و قوله: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلخ. 

  • و لا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أما رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) فله حيثيتان: إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، و هو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلق و يرتبط بها كما قال تعالى: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: النحل ٤٤، و الثانية: ما يراه من صواب الرأي و هو الذي يرتبط بولايته الحكومة و القضاء قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ}: النساء- ١٠٥، و هذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، و هو الذي كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يحكم به في عزائم الأمور، و كان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال: {وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ}: آل عمران- ١٥٩، فأشركهم به في المشاورة و وحده في العزم. 

  • إذا عرفت هذا علمت أن لإطاعة الرسول معنى و لإطاعة الله سبحانه معنى آخر و إن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ} فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحي، و فيما يراه من الرأي. 

  • و هذا المعنى (و الله أعلم) هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}، لا ما ذكره المفسرون: أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: و أطيعوا الله و الرسول أدل عليه و أقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه و أن الإطاعتين واحدة، و ما كل تكرار يفيد التأكيد. 

  • و أما أولوا الأمر فهم كائنين من كانوا لا نصيب لهم من الوحي، و إنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و لذلك لما ذكر وجوب الرد و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله و الرسول فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ}، و ذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ 

تفسير الميزان ج٤

389
  •  آمَنُوا}، و التنازع تنازعهم بلا ريب‌، و لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب و السنة، و الكتاب و السنة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول أولي الأمر في أن الكتاب و السنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنة. 

  • و من هنا يظهر أن ليس لأولي الأمر هؤلاء كائنين من كانوا أن يضعوا حكما جديدا، و لا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب و السنة، و إلا لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب و السنة و الرد إلى الله و الرسول معنى على ما يدل عليه قوله: {وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً}: الأحزاب- ٣٦، فقضاء الله هو التشريع و قضاء رسوله إما ذلك و إما الأعم، و إنما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، و أن يكشفوا عن حكم الله و رسوله في القضايا و الموضوعات العامة. 

  • و بالجملة لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع‌، و لا عندهم إلا ما لله و رسوله من الحكم أعني الكتاب و السنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ}، فلله تعالى إطاعة واحدة، و للرسول و أولي الأمر إطاعة واحدة، و لذلك قال: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}

  • و لا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، و لا مقيدة بقيد و هو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشي‌ء، و لا ينهى عن شي‌ء يخالف حكم الله في الواقعة و إلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى و تقدس و لا يتم ذلك إلا بعصمة فيه (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و هذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما قامت عليه الحجج من جهة العقل و النقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون أولي 

تفسير الميزان ج٤

390
  • الأمر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن أولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة و لا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها. 

  • بيان ذلك أن الذي تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الأمة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرب الخلاف و التشتت فيهم و شق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمم و المجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، و هم يعلمون أنه ربما يعصي و ربما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، و ينبه فيما أخطأ، و فيما يحتمل خطؤه ينفذ حكمه و إن كان مخطئا في الواقع و لا يبالي بخطئه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع و التحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط و الاشتباهات. 

  • و هذا حال أولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب و السنة فلا يجوز ذلك منهم و لا ينفذ حكمهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و قد روى هذا المعنى الفريقان و به يقيد إطلاق الآية، و أما الخطأ و الغلط فإن علم به رد إلى الحق و هو حكم الكتاب و السنة، و إن احتمل خطؤه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، و لا بأس بوجوب القبول و افتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة و بقاء السؤدد و الأبهة تتدارك بها هذه المخالفة، و يعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، و عند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق. 

  • و بالجملة طاعة أولي الأمر مفترضة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و الخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن أخطئوا ردوا إلى الكتاب و السنة إن علم منهم ذلك، و نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، و لا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام و المسلمين، و حفظا لوحدة الكلمة. 

  • و أنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصلها، و ذلك أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و ما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}: «الأعراف: ٢٨»، و ما في هذا 

تفسير الميزان ج٤

391
  • المعنى من الآيات. 

  • و كذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة و اليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، و كحجية قول المجتهد على مقلده و هكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر و كونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر. 

  • فالآية تدل على افتراض طاعة أولي الأمر هؤلاء، و لم تقيده بقيد و لا شرط، و ليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} إلى مثل قولنا: و أطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب و السنة فما هذا معنى قوله: {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}

  • مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين: {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (الآية): «العنكبوت: ٨» فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين، و إليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية. 

  • على أن الآية جمع فيها بين الرسول و أولي الأمر، و ذكر لهما معا طاعة واحدة فقال: {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}، و لا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شي‌ء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد، و لازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير فرق. 

  • ثم إن المراد بالأمر في أولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى: {وَ شَاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ}: «آل عمران: ١٥٩»، و قوله في مدح المتقين: {وَ أَمْرُهُمْ شُورى‌َ بَيْنَهُمْ}: «الشورى: ٣٨»، و إن كان من الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه بعيد. 

  • و قد قيد بقوله: {مِنْكُمْ} و ظاهره كونه ظرفا مستقرا أي أولي الأمر كائنين 

تفسير الميزان ج٤

392
  • منكم و هو نظير قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ}: «الجمعة: ٢»، و قوله في دعوة إبراهيم: {رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}: «البقرة: ١٢٩»، و قوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}: «الأعراف: ٣٥»، و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أن تقييد أولي الأمر بقوله: {مِنْكُمْ} يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا و هم منا و نحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية. 

  • ثم إن أولي الأمر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين بأولي الأمر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادئ النظر أن يكونوا آحادا يلي الأمر و يتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللفظ، و الأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صل فرائضك و أطع سادتك و كبراء قومك. 

  • و من عجيب الكلام ما ذكره الرازي: أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر، و قد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة، و القرآن ملي‌ء به كقوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ اَلْمُكَذِّبِينَ}: «القلم: ٨»، و قوله: {فَلاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ}: «الفرقان: ٥٢»، و قوله: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا}: «الأحزاب: ٦٧»، و قوله: {وَ لاَ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ}: «الشعراء: ١٥١»، و قوله: {حَافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوَاتِ}: «البقرة: ٢٣٨»، و قوله: {وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}: «الحجر: ٨٨»، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات و النفي، و الإخبار و الإنشاء. 

  • و الذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، و أكرم ذاك العالم، و هكذا. 

  • و يحتمل أيضا أن يكون المراد بأولي الأمر هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من أولي الأمر، و هو أن يكون‌ صاحب نفوذ في الناس، و ذا تأثير في أمورهم كرؤساء الجنود و السرايا و العلماء و أولياء الدولة، و سراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم أهل الحل و العقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء و الرؤساء في الجيش و المصالح العامة كالتجارة و الصناعات و الزراعة و كذا رؤساء العمال و الأحزاب، و مديرو الجرائد المحترمة، و رؤساء تحريرها! فهذا معنى كون أولي الأمر هم أهل الحل و العقد، و هم الهيئة الاجتماعية 

تفسير الميزان ج٤

393
  • من وجوه الأمة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال. 

  • الآية دالة كما عرفت على عصمة أولي الأمر و قد اضطر إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسرين. 

  • فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الأمة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل و العقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من أمور الأمة و من المحال أن يأمر الله بشي‌ء لا مصداق له في الخارج، أو أن هذه العصمة و هي صفة حقيقية قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها و إن كانت الأجزاء و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك و المعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ و أن يكون‌ داعيا إلى الضلال و المعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟ و هذا أيضا محال و كيف يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة. 

  • أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لأفرادها و لا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطئ فيه، كما أن الخبر المتواتر مصون عن الكذب، و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين و لا للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه، و بعبارة أخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطإ فيه و تسرب الكذب عليه، فيكون رأي أولي الأمر مما لا يقع فيه الخطأ البتة و إن لم يكن آحادهم و لا هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطإ و ليكن هذا معنى العصمة في أولي الأمر، و الآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب و السنة، و هو من عناية الله على الأمة، و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطإ. 

  • أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الأمة على خطإ، و لا تنفي اجتماع أهل الحل و العقد منهم على خطإ، و للأمة معنى و لأهل الحل و العقد معنى آخر، و لا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأول‌، و كذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمة بل تنفي الاجتماع على خطإ، و بينهما فرق. 

تفسير الميزان ج٤

394
  • و يعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الأمة بل يكون دائما فيهم من هو على الحق: إما كلهم أو بعضهم و لو معصوم واحد، فيوافق ما دل من الآيات و الروايات على أن دين الإسلام و ملة الحق لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم القيامة، قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}: «الأنعام: ٨٩» و قوله: {وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}: «الزخرف: ٢٨» و قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: «الحجر: ٩» و قوله: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ}: «فصلت: ٤٢» إلى غير ذلك من الآيات. 

  • و ليس يختص هذا بأمة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه، و هي الروايات الواردة من طرق شتى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الدالة على افتراق اليهود على إحدى و سبعين فرقة و النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة، و قد نقلنا الرواية في المبحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: {وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً}: «آل عمران: ١٠٣». 

  • و بالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام، و إنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل و العقد من الأمة لو كان هو المراد بقوله: {وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}

  • ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل و العقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي؟ هذه العصابة التي شأنها الحل و العقد في الأمور غير مختصة بالأمة المسلمة بل كل أمة من الأمم العظام بل الأمم الصغيرة بل القبائل و العشائر لا تفقد عدة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوة و تأثير في الأمور العامة، و أنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث الماضية و ما في عصرنا من الأمم و الأجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحل و العقد منهم في مهام الأمور و عزائمها على رأي استصوبوه ثم عقبوه بالعمل، فربما أصابوا و ربما أخطئوا، فالخطأ و إن كان في الآراء الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ و هذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق و موارد كثيرة جدا: 

  • فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل و العقد في الإسلام مصونا عن الخطإ فإنما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة 

تفسير الميزان ج٤

395
  • للعادة، و يكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الأمة تقيم صلبهم، و تحفظ حماهم و تقيهم من كل شر يدب في جماعتهم و وحدتهم و بالآخرة سببا معجزا إلهيا يتلو القرآن الكريم، و يعيش ما عاش القرآن، نسبته إلى حياة الأمة العملية نسبة القرآن إلى حياتهم العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده و سعة دائرته، و يمتن الله به كما أمتن بالقرآن و بمحمد ص، و يبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك، و أن يوصي به النبي ص أمته، و لا سيما أصحابه الكرام و هم الذين صاروا بعده أهلا للحل و العقد، و تقلدوا ولاية أمور الأمة، و أن يبين أن هذه العصابة المسماة بأولي الأمر ما حقيقتها، و ما حدها و ما سعة دائرة عملها، و هل يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الأمور العامة لجميع الأمة الإسلامية؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية أولي الأمر فيحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم؟

  • و لكان من اللازم أن يهتم به المسلمون و لا سيما الصحابة فيسألوا عنه و يبحثوا فيه، و قد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالأهلة، و ما ذا ينفقون، و الأنفال قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ} و {يَسْئَلُونَكَ مَا ذَا يُنْفِقُونَ} و {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ}فما بالهم لم يسألوا؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الأيدي فخفي علينا؟ فليس الأمر مما يخالف هوى أكثرية الأمة الجارية على هذه الطريقة حتى يقضوا عليه بالإعراض فالترك حتى ينسى. 

  • و لكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات و الفتن الواقعة بعد ارتحال النبي ص حينا بعد حين، فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين و لا أثر في احتجاجاتهم و مناظراتهم، و قد ضبطها النقلة بكلماتها و حروفها، و لا توجد في خطاب و لا كتاب؟ و لم تظهر بين قدماء المفسرين من الصحابة و التابعين حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين: الرازي و بعض من بعده!

  • حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره: بأنه مخالف للإجماع المركب فإن الأقوال في معنى أولي الأمر لا تجاوز أربعة: الخلفاء الراشدون، و أمراء السرايا، و العلماء و الأئمة المعصومون، فالقول الخامس خرق للإجماع، ثم أجاب بأنه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله يقضي بأن الأمر لم يكن بهذه المثابة، و لم يفهم منه أنه عطية شريفة و موهبة عزيزة من معجزات الإسلام و كراماته الخارقة لأهل الحل و العقد من المسلمين. 

تفسير الميزان ج٤

396
  • أو يقال: إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الإسلام بنى تربيته العامة على أصول دقيقة تنتج هذه النتيجة: أن أهل الحل و العقد من الأمة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه، و لا يعرضهم الخطأ فيما رأوه. 

  • و هذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته للناموس العام و هو أن إدراك الكل هو مجموع إدراكات الأبعاض، و إذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد عليه أن رأي أولي الأمر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته و عصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الأباطيل و الفسادات التي ملأت العالم الإسلامي؟

  • و كم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اجتمع فيه أهل الحل و العقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا و لم يزد إسعادهم المسلمين إلا شقاء و لم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون أن عاد إلى إمبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما استتبعته من دماء مسفوكة، و أعراض مهتوكة، و أموال منهوبة، و أحكام عطلت و حدود أبطلت! ثم ليبحث في منشئها و محتدها، و أصولها و أعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل و العقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟

  • فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل و العقد لو كان هو المراد بأولي الأمر المعصومين في رأيهم. 

  • فلا مناص على القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل و العقد من أن نقول بجواز خطئهم و إنهم على حد سائر الناس يصيبون و يخطئون غير أنهم لما كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالأمور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا، و أن الأمر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربما يغلطون و يخطئون من باب المسامحة في موارد الخطإ نظرا إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب و السنة، و يطابق ما شخصوه من مصلحة الأمة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الأمة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع، و هو الذي يرتضيه الدين لأنه لا يريد إلا سعادة المجتمع و رقية في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات الإسلامية في صدر الإسلام و من دونهم فلم يمنع حكم من الأحكام الدائرة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) 

تفسير الميزان ج٤

397
  • و لم يقض على سيرة من سيره و سننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من حقوق الأمة، و أن صلاح حال الأمة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم، أو سن سنة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة، و قد صرح بعض الباحثين‌۱ أن الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدين حفظا لصلاح الأمة. 

  • و على هذا فيكون حال الملة الإسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في أن فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه و تشاهده من مقتضيات الأحوال، و موجبات الأوضاع. 

  • و هذا الوجه أو القول كما ترى قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت في قالب الدين، و ظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية و هياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي، و مثال عال لا ينطبق إلا على حياة الإنسان الذي كان يعيش في عصر النبوة و ما يقاربه. 

  • فهي حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الإنساني لا ينبغي أن يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) عن السلع المستخرجة من تحت أطباق الأرض. 

  • و الذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} (الآية)، فإن القول يبتني على أصل مؤثر في جميع الأصول و السنن المأثورة من الدين من معارف أصلية و نواميس أخلاقية و أحكام فرعية و لو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي و في مرض موته ثم الاختلافات التي صدرت منهم و ما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الأحكام و بعض سير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم في زمن معاوية و من تلاه من الأمويين ثم العباسيين ثم الذين يلونهم و الجميع أمور متشابهة أنتج نتيجة باهتة. 

  • و من أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} لا يدل على شي‌ء مما ذكره المفسرون على اختلاف أقوالهم. 

  •  

    1.  صاحب فجر الإسلام فيه.

تفسير الميزان ج٤

398
  • أما أولا فلأن فرض طاعة أولي الأمر كائنين من كانوا لا يدل على فضل و مزية لهم على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة و الظلام واجبة علينا في حال الاضطرار اتقاء من شرهم، و لن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه. 

  • و أما ثانيا فلأن الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام التي تتوقف فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الإنفاق على الفقير و حرمة إعانة الظالم فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه. 

  • و الوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد، مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد بأولي الأمر في الآية الحكام و السلاطين و قد تبين فساد هذا الاحتمال. 

  • أما الوجه الأول فلأنه غفل عن أن القرآن مملوء من النهي عن طاعة الظالمين و المسرفين و الكافرين، و من المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه و رسوله، و لو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها بإذن و نحو ذلك كما قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: «آل عمران: ٢٨»، لا بالأمر بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع. 

  • و أما الوجه الثاني فهو مبني على الوجه الأول من معنى الآية أما لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا، و محال أن يأمر الله بطاعة من لا مصداق له، أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن أس أساس المصالح الدينية و حكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الإسلامي أصلا، و قد عرفت‌ أن الحاجة إلى أولي الأمر عين الحاجة إلى الرسول و هي الحاجة إلى ولاية أمر الأمة و قد تكلمنا فيه في بحث المحكم و المتشابه. 

  • و لنرجع إلى أول الكلام في الآية: 

  • ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى: {وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} على جماعة المجمعين من أهل الحل و العقد، و هي الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني فسرناه فليس إلا أن المراد بأولي الأمر آحاد من الأمة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه فينطبق على ما روي من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنهم هم. 

تفسير الميزان ج٤

399
  • و أما ما قيل: إن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء المتبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كله أولا: أن الآية تدل على عصمتهم و لا عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق علي (عليه السلام)، و ثانيا: أن كلا من الأقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه. 

  • و أما ما أورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين (عليه السلام): 

  • أولا: إن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله و رسوله، و لو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و فيه: أن ذلك منصوص عليه في الكتاب و السنة كآية الولاية و آية التطهير و غير ذلك، و سيأتي بسط الكلام فيها، و كحديث السفينة: «مثل أهل‌ بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلف عنها غرق» و حديث الثقلين: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» و قد مر في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب، و كأحاديث أولي الأمر المروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و سيجي‌ء بعضها في البحث الروائي التالي. 

  • و ثانيا: أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق و إذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة. 

  • و فيه: أن الإشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا، و إنما الفرق أن أهل الحل و العقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله و رسوله، و الإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه، و لا فرق بين الشرط و الشرط في منافاته الآية. 

  • على أن المعرفة و إن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها راجعة إلى تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به و بموضوعه و متعلقه، و ليست راجعة إلى التكليف و المكلف به، و لو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة في الحج‌، و وجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا معنى لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم. 

  • و ثالثا: أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم و تعلم العلم 

تفسير الميزان ج٤

400
  • و الدين منه، فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الأمة إذ لا سبيل إليه. 

  • و فيه: أن ذلك مستند إلى نفس الأمة في سوء فعالها و خيانتها على نفسها لا إلى الله و رسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الأمة نبيها ثم اعتذرت أنها لا تقدر على طاعته، على أن الإشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على أمة واحدة في الإسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل و العقد منها. 

  • و رابعا: أن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} ، و لو كان المراد من أولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شي‌ء فردوه إلى الإمام. 

  • و فيه: أن جوابه تقدم فيما مر من البيان، و المراد بالرد الرد إلى الإمام بالتقريب الذي تقدم. 

  • و خامسا: أن القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من ظلمة الخلاف، و ضرر التنازع و التفرق و ظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود أولي الأمر، و طاعة الأمة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل و الوقائع، و الخلاف و التنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به لأنه عندهم مثل الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) ‌ فلا يكون لهذا الزيادة فائدة على رأيهم. 

  • و فيه: أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب و السنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع و الحوادث، و قد تقدم أن لا حكم إلا لله و رسوله فإن تمكن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب و السنة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه و هو معصوم في فهمه، و إن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، و ذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و يسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط. 

  • فحكم أولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية، و حكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه الآيات التالية، و غيبته كما يدل عليه الأمر في الآية بإطلاقه، فالرد إلى الله و الرسول المذكور في الآية 

تفسير الميزان ج٤

401
  • مختص بصورة تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله: {تَنَازَعْتُمْ}، و لم يقل: فإن تنازع أولو الأمر، و لا قال: فإن تنازعوا، و الرد إلى الله و الرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب و السنة للمتمكن منه، و عند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه، فلا يكون قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ}«إلخ» زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل. 

  • فقد تبين من جميع ما تقدم: أن المراد بأولي الأمر في الآية رجال من الأمة حكم الواحد منهم في العصمة و افتراض الطاعة حكم الرسول ص، و هذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة، و إرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شي‌ء و إرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شي‌ء آخر، و ذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلي و هو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • قوله تعالى{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ}«إلخ» حيث أوجب طاعة الله و رسوله، و هذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض، و كل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله و رسوله، و كان معنى الكلام: أطيعوا الله، و لا تطيعوا الطاغوت، و هو ما ذكرناه من الحصر. 

  • و توجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم و بين أولي الأمر، و لا تنازع مفروض بين أولي الأمر فإن الأول أعني التنازع بينهم و بين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر عليهم، و كذا الثاني أعني التنازع بين أولي الأمر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ}

  • و لفظ الشي‌ء و إن كان يعم كل حكم و أمر من الله و رسوله و أولي الأمر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك: {فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} يدل على أن المفروض هو النزاع 

تفسير الميزان ج٤

402
  • في شي‌ء ليس لأولي الأمر الاستقلال و الاستبداد فيه‌ من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى الله و الرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها. 

  • فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلا الله و رسوله، و الآية كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في حكم ديني شرعه الله و رسوله، و أولو الأمر و من دونهم في ذلك سواء. 

  • و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، تشديد في الحكم و إشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشئ من فساد في مرحلة الإيمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الإيمان بالله و رسوله، و استبطان للكفر، و هو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية. 

  • و قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله و رسوله و أولي الأمر، و التأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل و قد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى: {وَ اِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ} (الآية): «آل عمران: ٧» في الجزء الثالث من الكتاب. 

  • قوله تعالى{أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إلى آخر الآية الزعم‌ هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا، بخلاف العلم‌ فإنه الاعتقاد المطابق للواقع، و لكون‌ الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه و ليس كذلك، و الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت و الجبروت و الملكوت غير أنه ربما يطلق و يراد به اسم الفاعل مبالغة يقال: طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره و كثرته، و كان استعماله في الإنسان أولا على نحو الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة و هو خروج الإنسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع، فالطاغوت‌ هو الظالم الجبار، و المتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى و هكذا، و إليه يعود ما قيل: إن الطاغوت كل معبود من دون الله. 

  • و قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}، بمنزلة أن يقال: بما أنزل الله على رسله، و لم يقل: آمنوا بك و بالذين من قبلك لأن الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله و حكمه و بذلك يظهر أن المراد بقوله: {وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} الأمر في الكتب السماوية 

تفسير الميزان ج٤

403
  • و الوحي النازل على الأنبياء: محمد و من قبله (صلى الله عليه وآله و سلم). 

  • و قوله: {أَ لَمْ تَرَ} إلخ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: ما وجه ذكر قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}«إلخ» فقيل: أ لم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ و الاستفهام للتأسف و المعنى: من الأسف ما رأيته أن بعض الناس، و هم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب و إلى سائر الأنبياء و الكتب السماوية إنما أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و قد بينه الله تعالى لهم بقوله: {كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ}: «البقرة: ٢١٣» يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت و هم أهل الطغيان و المتمردون عن دين الله المتعدون على الحق، و قد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت، و كفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله و إبطال لشرائعه. 

  • و في قوله {وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان و إغوائه، و الوجهة فيه الضلال البعيد. 

  • قوله تعالى{وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا} إلى آخر الآية، تعالوا بحسب الأصل أمر من التعالي و هو الارتفاع، و صد عنه يصد صدودا أي أعرض، و قوله: {إِلى‌َ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ}، بمنزلة أن يقال: إلى حكم الله و من يحكم به، و في قوله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ}، إنما خص الرسول بالإعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب‌ و الرسول معا لا الرسول وحده لأن الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله. 

  • و من هنا يظهر أن الفرق بين الله و رسوله بتسليم حكم الله و التوقف في حكم الرسول نفاق البتة. 

  • قوله تعالى{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} إلخ إيذان بأن هذا الإعراض و الانصراف عن حكم الله و رسوله، و الإقبال إلى غيره و هو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الإعراض عن حكم الله و رسوله، و التحاكم إلى الطاغوت، و قوله: {ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}، اه حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء، و المعنى و الله أعلم: فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم 

تفسير الميزان ج٤

404
  • إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيئ ثم جاءوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب و الرسول إلا الإحسان و التوفيق و قطع المشاجرة بين الخصوم. 

  • قوله تعالى{أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} إلخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به، و لم يذكر حال ما في قلوبهم، و أنه ضمير فاسد لدلالة قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ} على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا و حقا و لا يؤمر بالإعراض عمن يقول الحق و يصدق في قوله. 

  • و قوله: {وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه‌ و يفقهوه من مفاسد هذا الصنيع، و أنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى. 

  • قوله تعالى{وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ}، رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت، و الإعراض عن الرسول، و الحلف و الاعتذار بالإحسان و التوفيق. فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا، و قد أوجب الله طاعته من غير قيد و شرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله، و ليس لأحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله، و إنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازة الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه، و ترك الرسول في جانب، و إلا كان إشراكا بالله، و عبادة لرسوله معه، و ربما كان يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة: أ بأمر من الله أم منك؟

  • فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وجوب مطلق، و ليست إلا طاعة الله فإنها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ} (الآية): «النساء: ٨٠». 

  • ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله و رسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله، و يلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع و لا ترضي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأن الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر، و ذلك قوله: {وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ} إلى آخر الآية. 

  • قوله تعالى{فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} إلخ، الشجر بسكون الجيم و الشجور: الاختلاط يقال: شجر شجرا و شجورا أي اختلط، و منه التشاجر 

تفسير الميزان ج٤

405
  • و المشاجرة كأن الدعاوي أو الأقوال اختلط بعضها مع بعض، و منه قيل للشجر: شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض، و الحرج الضيق. 

  • و ظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى: فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك «إلخ». 

  • لكن شمول حكم الغاية أعني قوله: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}«إلخ» لغير المنافقين، و كذا قوله بعد ذلك: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} يؤيد أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم و غيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن مجرد تصديق ما أنزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف و الأحكام إيمان بالله و رسوله و بما جاء به من عند ربه حقيقة، و ليس كذلك‌ بل الإيمان تسليم تام باطنا و ظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه و يخالفه، أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه، و قد قال الله تعالى لرسوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اَللَّهُ}: «النساء: ١٠٥». 

  • فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فمن حكم الله تحرج لأنه الذي شرفه بافتراض الطاعة و نفوذ الحكم. 

  • و إذا كانوا سلموا حكم الرسول، و لم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي و التكويني، و هذا موقف من مواقف الإيمان يتلبس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها: التسليم لأمر الله، و يسقط فيه التحرج و الاعتراض و الرد من لسان المؤمن و قلبه، و قد أطلق في الآية التسليم إطلاقا. 

  • و من هنا يظهر أن قوله: {فَلاَ وَ رَبِّكَ} إلى آخر الآية، و إن كان مقصورا على التسليم لحكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بحسب اللفظ لأن مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله و رسوله جميعا، و لحكم التشريع و التكوين جميعا كما عرفت. 

  • بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كل سيرة سار بها أو عمل عمل به لأن الأثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله و رسوله بأي نحو كان لا يتأتى 

تفسير الميزان ج٤

406
  • لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه، و قد قال تعالى: {وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ}: «يوسف: ١٠٦». 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قد تقدم في قوله: {وَ لَكِنْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} نساء -٤ إن هذا التركيب يدل على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الأفراد و هو المجتمع، و أن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم و استيعابه لجميع الأفراد، و لذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين: المتصل و المنفصل لكونه ذا جنبتين. 

  • على هذا فقوله {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} وارد مورد الإخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الأحكام و التكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم و ديارهم، و استثناء القليل لدفع التوهم. 

  • فالمعنى: و لو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم و الخروج من ديارهم و أوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا، ثم لما استشعر أن قوله: ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم، و لم يكن يشمله الحكم حقيقة لأن الإخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع و لم تكن الأفراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة. 

  • و من هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة و خروج الجملة و جلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة و القرية دون قتل كل واحد نفسه، و خروجه من داره كما في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى‌َ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}: «البقرة: ٥٤»، فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الأفراد. 

  • قوله تعالى{وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً} في تبديل الكتابة في قوله: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ}، بالوعظ في قوله: {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} إشارة إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر و الفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم و سعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ و نصائح يراد بها خيرهم و صلاحهم. 

  • و قوله: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي في جميع ما يتعلق بهم من أولاهم و أخراهم، و ذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه، و قوله: {وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي 

تفسير الميزان ج٤

407
  • لنفوسهم و قلوبهم بالإيمان لأن‌ الكلام فيه، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ} (الآية): «إبراهيم: ٢٧». 

  • قوله تعالى{وَ إِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} أي حين تثبتوا بالإيمان الثابت، و الكلام في إبهام قوله: {أَجْراً عَظِيماً} كالكلام في إطلاق قوله: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}

  • قوله تعالى{وَ لَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ}: «الحمد: ٦» في الجزء الأول من الكتاب. 

  • قوله تعالى{وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ} إلى قوله: {حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} جمع بين الله و الرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لإطاعة الرسول و التسليم لحكمه و قضائه، لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ}«إلخ» فالطاعة المفترضة طاعته تعالى و طاعة رسوله، و قد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله‌{أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ} (الآية). 

  • و قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ}، يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم، و هم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى: {اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: «الحمد: ٧»، و بالجملة فهم‌ ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله: {وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} من تلويح إليه، و قد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية. 

  • و أما هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فالنبيون هم أصحاب الوحي الذين عندهم نبأ الغيب، و لا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من حيث الآثار، و قد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال، و أن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله. 

  • و أما الصديقون‌ فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق، و من الصدق ما هو في القول، و منه ما هو في الفعل، و صدق الفعل هو مطابقته للقول لأنه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف، و صدق القول مطابقته لما في الواقع، و حيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلا عما يعلم صدقه و أنه حق، ففي قوله الصدق الخبري و المخبري جميعا. 

تفسير الميزان ج٤

408
  • فالصديق الذي لا يكذب أصلا هو الذي لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى النفس، و لا يقول إلا ما يرى أنه حق، و لا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد حقائق الأشياء، و يقول الحق، و يفعل الحق. 

  • و على ذلك فيترتب المراتب فالنبيون و هم السادة، ثم الصديقون و هم شهداء الحقائق و الأعمال، و الشهداء و هم شهداء الأعمال، و الصالحون و هم المتهيئون للكرامة الإلهية. 

  • و قوله تعالى: {وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} أي من حيث الرفاقة فهو تمييز، قيل: و لذلك لم يجمع، و قيل: المعنى: حسن كل واحد منهم رفيقا، و هو حال نظير قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}: «الحج: ٥». 

  • قوله تعالى{ذَلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللَّهِ وَ كَفى‌َ بِاللَّهِ عَلِيماً} تقديم {ذَلِكَ} و إتيانه بصيغة الإشارة الدالة على البعيد و دخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل كأنه كل الفضل، و ختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الإيمان التي لا سبيل إلى تشخيصها إلا العلم الإلهي. 

  • و اعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} كما مر غائبين، و كذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ} (الآية)، ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} (الآية)، ثم الغيبة في قوله: {بِإِذْنِ اَللَّهِ} (الآية)، ثم المتكلم مع الغير في قوله: {وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} (الآية)، ثم الغيبة في قوله: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ} (الآية). 

  • و كذلك الرسول أخذ غائبا في صدر الآيات في قوله: {وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ} (الآية)، ثم مخاطبا في قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} (الآية)، ثم غائبا في قوله: {وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ} (الآية)، ثم مخاطبا في قوله: {فَلاَ وَ رَبِّكَ} (الآية)، ثم غائبا في قوله: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ} (الآية)، ثم مخاطبا في قوله: {وَ حَسُنَ أُولَئِكَ} (الآية)، فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي و النكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر. 

  • (بحث روائي)

  • في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري: لما أنزل 

تفسير الميزان ج٤

409
  • الله عز و جل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم): {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلى الله عليه وآله و سلم): هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي: أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي محمد و كنيي حجة الله في أرضه و بقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض و مغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان. 

  • قال جابر: فقلت له يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته فقال (صلى الله عليه وآله و سلم) إي و الذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله و مخزون علم الله فاكتمه إلا عن‌ أهله. 

  • أقول: و عن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه السلام) ما في معنى الرواية السابقة، و رواها علي بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه (عليه السلام)، و هناك روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة، و فيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة و كتاب غاية المرام للبحراني و غيرهما. 

  • و في تفسير العياشي عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: الأوصياء. 

  • أقول: و في تفسير العياشي عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله و فيه علي بن أبي طالب و الأوصياء من بعده. 

  • و عن ابن شهرآشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق (عليه السلام) عن ذلك فقال: الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

  • أقول: و روى مثله الصدوق عن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) و فيه: قال: الأئمة من ولد علي و فاطمة إلى أن تقوم الساعة. 

تفسير الميزان ج٤

410
  • و في الكافي بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إنا نكلم أهل الكلام فنحتج عليهم بقول الله عز و جل: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} فيقولون: نزلت في المؤمنين، و نحتج عليهم بقول الله عز و جل: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىَ} فيقولون: نزلت في قربى المسلمين قال: فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: و كيف أصنع؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا و أطبه، قال: و صم و اغتسل و ابرز أنت و هو إلى الجبال فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه، و ابدأ بنفسك، و قل: اللهم رب السموات السبع و رب الأرضين السبع عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم إن كان أبو مسروق جحد حقا و ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم رد الدعوة عليه فقل: و إن جحد حقا و ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما. 

  • ثم قال لي: فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فوالله ما وجدت خلقا يجيبني إليه. 

  • و في تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: هي في علي و في الأئمة جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنهم لا يحلون شيئا و لا يحرمونه. 

  • أقول: و الاستثناء في الرواية هو الذي قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل على أن لا حكم تشريعا إلا لله و رسوله. 

  • و في الكافي بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر (عليه السلام): أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعا في الأمر فأرجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى أولي الأمر منكم. 

  • قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخص في منازعتهم إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ}

  • أقول: الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه (عليه السلام) تفسير للآية و بيانا للمراد منها، و قد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك، و ليس المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله: تلا أبو جعفر (عليه السلام). 

  • و يدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي، بإسناده 

تفسير الميزان ج٤

411
  • عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت: «فإن تنازعتم في شي‌ء فأرجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى أولي الأمر منكم».

  • و ما في تفسير العياشي عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام)» و هو رواية الكافي، السابقة) و في الحديث: ثم قال للناس: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا} فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} إيانا عنى خاصة «فإن خفتم تنازعا في‌ الأمر فارجعوا إلى الله و إلى الرسول و أولي الأمر منكم» هكذا نزلت، و كيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر و يرخص لهم في منازعتهم إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}.

  • و في تفسير العياشي: في رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت (يعني آية {أَطِيعُوا اَللَّهَ}، في علي بن أبي طالب (عليه السلام) قلت له: إن الناس يقولون لنا: فما منعه أن يسمي عليا و أهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): قولوا لهم: إن الله أنزل على رسوله الصلاة و لم يسم ثلاثا و لا أربعا حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الذي فسر ذلك (لهم) و أنزل الحج و لم ينزل طوفوا أسبوعا حتى فسر ذلك لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الله أنزل: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} تنزلت في علي و الحسن و الحسين (عليه السلام)، و قال في علي من كنت مولاه فعلي مولاه، و قال رسول الله ص: أوصيكم بكتاب الله و أهل بيتي إني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك، و قال: فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلال، و لو سكت رسول الله و لم يبين أهلها لادعى آل عباس و آل عقيل و آل فلان، و لكن أنزل الله في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فكان علي و الحسن و الحسين و فاطمة (عليه السلام) تأويل هذه الآية، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بيد علي و فاطمة و الحسن و الحسين (صلى الله عليه وآله و سلم) فأدخلهم تحت الكساء في بيت أم سلمة و قال: اللهم إن لكل نبي ثقلا و أهلا فهؤلاء ثقلي و أهلي، و قالت أم سلمة: أ لست من أهلك؟ قال: إنك إلى خير، و لكن هؤلاء ثقلي و أهلي، الحديث.

  • أقول: و روي في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) مثله مع اختلاف يسير في اللفظ. 

  • و في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: أنها نزلت في أمير المؤمنين 

تفسير الميزان ج٤

412
  • حين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة فقال: يا رسول الله أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ حين قال له: {اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ} فقال الله: {وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ}

  • قال: علي بن أبي طالب ولاه الله أمر الأمة بعد محمد، و حين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته و ترك خلافه. 

  • و فيه عنه عن أبانة الفلكي: أنها نزلت حين شكا أبو بريدة من علي (عليه السلام)، الخبر. 

  • و في العبقات عن كتاب ينابيع المودة، للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخي عن المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن علي في حديث قال: و أما أدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك و تعالى و شاهده على عباده، الذي أمر الله عباده بطاعته، و فرض ولايته. 

  • قال سليم: قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي، قال: الذين قرنهم الله بنفسه و نبيه فقال: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ} فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي، فقال: الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في مواضع و في آخر خطبته يوم قبضه الله عز و جل إليه: إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما كتاب الله عز و جل، و عترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين و جمع بين مسبحتيه و لا أقول: كهاتين و جمع مسبحته و الوسطى فتمسكوا بهما و لا تقدموهم فتضلوا. 

  • أقول: و الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في المعاني السابقة كثيرة جدا و قد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها، و على من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث. 

  • و أما الذي روي عن قدماء المفسرين فهي ثلاثة أقوال: الخلفاء الراشدون، و أمراء السرايا و العلماء، و ما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي ص فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه: أنهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هم الدعاة الرواة، و ظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء. 

  • و اعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات أمور كثيرة، و قصص مختلفة شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق‌ (صلى الله عليه وآله و سلم) النظري من رواتها، و لذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها، و إن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع 

تفسير الميزان ج٤

413
  • إلى الدر المنثور، و تفسير الطبري، و أشباههما. 

  • و في محاسن البرقي بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الآية)، قال: التسليم، الرضا، و القنوع بقضائه. 

  • و في الكافي بإسناده عن عبد الله الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له، و أقاموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا الشي‌ء صنعه الله و صنع رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم): لم صنع هكذا و كذا، و لو صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالتسليم. 

  • و في تفسير العياشي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: و الله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشي‌ء صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لم صنع كذا و كذا؟ و وجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين، ثم قرأ: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} مما قضى محمد و آل محمد {وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

  • أقول: و في معنى الروايتين روايات أخر، و الذي ذكره (عليه السلام) تعميم في الآية من جهة الملاك من جهتين: من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو تكوينيا، و من جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله. 

  • و اعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعني قوله: {فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} إلى آخر الآيات على ولاية علي (عليه السلام) أو على ولاية أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و هو من مصاديق التطبيق على المصاديق، فإن الله سبحانه و رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من أهل البيت (عليه السلام) مصاديق الآيات و هي جارية فيهم. 

  • و في أمالي الشيخ بإسناده إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله ما أستطيع فراقك، و إني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي و أقبل حتى أنظر إليك حبا لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة فأدخلت الجنة فرفعت في أعلى عليين فكيف لي بك يا نبي الله؟ فنزل: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ 

تفسير الميزان ج٤

414
  • أُولَئِكَ رَفِيقاً} فدعا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الرجل فقرأها عليه و بشره بذلك.

  • أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه و أبي نعيم في الحلية و الضياء المقدسي في صفة الجنة و حسنه عن عائشة، و عن الطبراني و ابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس، و عن سعيد بن منصور و ابن المنذر عن الشعبي، و عن ابن جرير عن‌ سعيد بن جبير. 

  • و في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ} يعني محمدا و {اَلصِّدِّيقِينَ} يعني عليا و كان أول من صدق و {اَلشُّهَدَاءِ} يعني عليا و جعفرا و حمزة و الحسن و الحسين (عليه السلام). 

  • أقول: و في هذا المعنى أخبار أخر. 

  • و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال: أعينونا بالورع فإنه من لقي الله بالورع كان له عند الله فرحا فإن الله عز و جل يقول: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ}، و تلا الآية ثم قال: فمنا النبي و منا الصديق و منا الشهداء و الصالحون. 

  • و فيه عن الصادق (عليه السلام): المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى الله بشروطه التي اشترطها عليه فذلك مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و ذلك ممن يشفع و لا يشفع له، و ذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا و و لا أهوال الآخرة، و مؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، و ذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا و أهوال الآخرة و يشفع له، و هو على خير.

  • أقول: في الصحاح: الخامة: الغضة الرطبة من النبات انتهى‌، و يقال: كفأت فلانا فانكفأ أي صرفته فانصرف و رجع، و هو (عليه السلام) يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير قوله: {صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: «الفاتحة: ٧» أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ}: «يونس: ٦٣» و لا سبيل لأهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه.

  •  

  • [سورة النساء (٤): الآیات ٧١ الی ٧٦]

  • {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً ٧١ وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ

تفسير الميزان ج٤

415
  • أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ٧٢ وَ لَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ٧٣ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ٧٤ وَ مَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ٧٥ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ اَلشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ٧٦} 

  • (بيان‌)

  • الآيات بالنسبة إلى ما تقدمها كما ترى بمنزلة ذي المقدمة بالنسبة إلى المقدمة و هي تحث و تستنهض المؤمنين للجهاد في سبيل الله، و قد كانت المحنة شديدة على المؤمنين أيام كانت تنزل هذه الآيات، و هي كأنها الربع الثاني من زمن إقامة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة كانت العرب هاجت عليهم من كل جانب لإطفاء نور الله، و هدم ما ارتفع من بناية الدين يغزو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مشركي مكة و طواغيت قريش، و يسري السرايا إلى أقطار الجزيرة، و يرفع قواعد الدين بين المؤمنين، و في داخلهم جمع المنافقين و هم ذو قوة و شوكة، و قد بان يوم أحد أن لهم عددا لا ينقص من نصف عدة المؤمنين بكثير۱

  • و كانوا يقلبون الأمور على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و يتربصون به الدوائر، و يثبطون المؤمنين و فيهم مرضى القلوب سماعون لهم، و حولهم اليهود يفتنون المؤمنين و يغزونهم 

    1.  و قد تقدم في أحاديث أحد أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج إلى أحد في ألف ثم رجع منهم ثلاثمائة من المنافقين مع عبد الله بن أبي، و بقي مع النبي سبعمائة.

تفسير الميزان ج٤

416
  • و كانت عرب المدينة تحترمهم، و تعظم أمرهم من قديم عهدهم فكانوا يلقون إليهم من باطل القول و مضلات الأحاديث ما يبطل به صادق إرادتهم، و ينتقض به مبرم جدهم، و من جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم، و يطيبون نفوسهم في مقاومتهم، و البقاء و الثبات على كفرهم و جحودهم، و تفتين من عندهم من المؤمنين. 

  • فالآيات السابقة كالمسوقة لإبطال كيد اليهود للمسلمين، و إمحاء آثار إلقاءاتهم على المؤمنين، و ما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين، و تكميل تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم، و على حذر من الداء المستكن الذي دب في داخلهم، و نفذ في جمعهم، و ليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين المحيطين بهم، و يرتد أنفاسهم إلى صدورهم، و ليتم نور الدين في سطوعه، و الله متم نوره و لو كره المشركون و الكافرون. 

  • قوله تعالى{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً} الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به و هو آلة الحذر كالسلاح، و ربما قيل: إنه مصدر كالحذر بفتحتين، و النفر هو السير إلى جهة مقصودة، و أصله الفزع، فالنفر من محل السير فزع عنه و إلى محل السير فزع إليه، و الثبات‌ جمع ثبة، و هي الجماعة على تفرقة، فالثبات الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن أولى، و ثالثة عن ثانية، و يؤيد ذلك مقابلة قوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} قوله: {أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً}

  • و التفريع في قوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ}، على قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ}، بظاهره يؤيد كون المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إلى الجهاد و يكون المعنى: خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج و اخرجوا إلى عدوكم فرقة فرقة (سرايا) أو اخرجوا إليهم جميعا (عسكرا). 

  • و من المعلوم أن التهيؤ و الإعداد يختلف باختلاف عدة العدو و قوته فالترديد في قوله: أو انفروا، ليس تخييرا في كيفية الخروج و إنما الترديد بحسب تردد العدو من حيث العدة و القوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة، و إن كان كثيرا فجميعا. 

  • فيئول المعنى و خاصة بملاحظة الآية التالية: {وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}، إلى نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم، و ينسلخوا عن الجد و بذل الجهد في أمر الجهاد فيموت عزمهم و يفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق، و يتكاسلوا أو يتبطئوا أو يتثبطوا في قتال أعداء الله، و تطهير الأرض من قذارتهم. 

تفسير الميزان ج٤

417
  • قوله تعالى{وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}، قيل: إن اللام الأولي لام الابتداء لدخولها على اسم إن، و اللام الثانية لام القسم لدخولها على الخبر و هي جملة فعلية مؤكدة بنون التأكيد الثقيلة، و التبطئة و الإبطاء بمعنى، و هو التأخير في العمل. 

  • و قوله: {وَ إِنَّ مِنْكُمْ}، يدل على أن هؤلاء من المؤمنين المخاطبين في صدر الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا}، على ما هو ظاهر كلمة {مِنْكُمْ} كما يدل عليه ما سيأتي من قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}، فإن الظاهر أن هؤلاء أيضا كانوا من المؤمنين، مع قوله تعالى بعد ذلك: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ}، و قوله: {وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}«إلخ» و كذا قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ اَلَّذِينَ}، و قوله: {وَ مَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}، و قوله: {اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}، كل ذلك تحريض و استنهاض للمؤمنين و فيهم هؤلاء المبطئون على ما يلوح إليه اتصال الآيات. 

  • على أنه ليس في الآيات ما يدل بظاهره على أن هؤلاء المبطئين من المنافقين الذين لم يؤمنوا إلا بظاهر من القول، مع أن في بعض ما حكى الله عنهم دلالة ما على إيمانهم في الجملة كقوله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيَّ}، و قوله تعالى: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتَالَ}«إلخ». 

  • نعم ذكر المفسرون أن المراد بقوله: {وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ}، المنافقون، و أن معنى كونهم منهم دخولهم في عددهم، أو اشتراكهم في النسب فهم منهم نسبا أو اشتراكهم مع المؤمنين في ظاهر حكم الشريعة بحقن الدماء و الإرث و نحو ذلك لتظاهرهم بالشهادتين، و قد عرفت‌ أن ذلك تصرف في ظاهر القرآن من غير وجه. 

  • و إنما دعاهم إلى هذا التفسير حسن الظن بالمسلمين في صدر الإسلام (كل من لقي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و آمن به) و البحث التحليلي فيما ضبطه التاريخ من سيرتهم و حياتهم مع النبي و بعد يضعف هذا الظن، و الخطابات القرآنية الحادة في خصوصهم توهن هذا التقدير. 

  • و لم تسمح الدنيا حتى اليوم بأمة أو عصابة طاهرة تألفت من أفراد طاهرة من غير استثناء مؤمنة واقفة على قدم صدق من غير عثرة قط (إلا ما نقل في حديث الطف) بل مؤمنو صدر الإسلام كسائر الجماعات البشرية فيهم المنافق و المريض قلبه و المتبع هواه و الطاهر سره. 

  • و الذي يمتاز به الصدر الأول من المسلمين هو أن مجتمعهم كان مجتمعا فاضلا يقدمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و يغشاهم نور الإيمان، و يحكم فيهم سيطرة الدين، هذا حال مجتمعهم 

تفسير الميزان ج٤

418
  • من حيث إنه مجتمع، و إن كان يوجد بينهم من الأفراد الصالح و الطالح جميعا، و في صفاتهم الروحية الفضيلة و الرذيلة معا و كل لون من ألوان الأخلاق و الملكات. 

  • و هذا هو الذي يذكره القرآن من حالهم، و يبينه من صفاتهم قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ} إلى أن قال: {وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً}: «الفتح: ٢٩»، فقد بدأ تعالى بذكر صفاتهم و فضائلهم الاجتماعية مطلقة، و ختم بذكر المغفرة و الأجر لأفرادهم مشروطة. 

  • قوله تعالى{فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي من قتل أو جرح {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً} حتى أبتلى بمثل ما ابتلي به المؤمنون. 

  • قوله تعالى{وَ لَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللَّهِ} من قبيل غنيمة الحرب و نحوها، و الفضل‌ هو المال و ما يماثله، و قوله: {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ}، تشبيه و تمثيل لحالهم فإنهم مؤمنون، و المسلمون يد واحدة يربط بعضهم ببعض أقوى الروابط، و هو الإيمان بالله و آياته الذي يحكم على جميع الروابط الأخر من نسب أو ولاية أو بيعة أو مودة لكنهم لضعف إيمانهم لا يرون لأنفسهم أدنى ربط يربطهم بالمؤمنين فيتمنون الكون معهم و الحضور في جهادهم كما يتمنى الأجنبي فضلا ناله أجنبي فيقول أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}، و من علائم ضعف إيمانهم إكبارهم أمر هذه الغنائم، و عدهم حيازة الفضل و المال فوزا عظيما، و كل مصيبة أصابت المؤمنين في سبيل الله من قتل أو جرح أو تعب نقمة. 

  • قوله تعالى{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ}، قال في المجمع: يقال شريت أي بعت، و اشتريت أي ابتعت‌، فالمراد بقوله يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي يبيعون حياتهم الدنيا و يبدلونها بالآخرة. 

  • و الآية تفريع على ما تقدم من الحث على الجهاد، و ذم من يبطئ في الخروج إليه ففيها تجديد للحث على القتال في سبيل الله بتذكير أن هؤلاء جميعا مؤمنون، قد شروا بإسلامهم لله تعالى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال: {إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‌َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ}: «التوبة: ١١١»، ثم صرح على فائدة القتال الحسنة و أنها الأجر العظيم على أي حال بقوله: {وَ مَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ}«إلخ». 

  • فبين أن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين: أن يقتل 

تفسير الميزان ج٤

419
  • في سبيل الله، أو يغلب عدو الله، و له أي حال أجر عظيم، و لم يذكر ثالث الاحتمالين و هو الانهزام تلويحا إلى أن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم. 

  • و قدم القتل على الغلبة لأن ثوابه أجزل و أثبت فإن المقاتل الغالب على عدو الله و إن كان يكتب له الأجر العظيم إلا أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الأعمال الموجبة لحبط الأعمال الصالحة، و استتباع السيئة بعد الحسنة بخلاف القتل إذ لا حياة بعده إلا حياة الآخرة فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتما، و أما الغالب في سبيل الله فأمره مراعى في استيفاء أجره. 

  • قوله تعالى{وَ مَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ}«إلخ» عطف على موضع لفظ الجلالة، و الآية تشتمل على حث و تحريض آخر على القتال في لفظ الاستفهام بتذكير أن قتالكم قتال في سبيل الله سبحانه، و هو الذي لا بغية لكم في حياتكم السعيدة إلا رضوانه، و لا سعادة أسعد من قربه، و في سبيل المستضعفين من رجالكم و نسائكم و ولدانكم. 

  • ففي الآية استنهاض و تهييج لكافة المؤمنين و إغراء لهم: أما المؤمنون خالصو الإيمان و طاهرو القلوب فيكفيهم ذكر الله جل ذكره في أن يقوموا على الحق و يلبوا نداء ربهم و يجيبوا داعيه، و أما من دونهم من المؤمنين فإن لم يكفهم ذلك فليكفهم أن قتالهم هذا على أنه قتال في سبيل الله قتال في سبيل من استضعفه الكفار من رجالهم و نسائهم و ذراريهم فليغيروا لهم و ليتعصبوا. 

  • و الإسلام و إن أبطل كل نسب و سبب دون الإيمان إلا أنه أمضى بعد التلبس بالإيمان الأنساب و الأسباب القومية فعلى المسلم أن يفدي عن أخيه المسلم المتصل به بالسبب الذي هو الإيمان، و عن أقربائه من رجاله و نسائه و ذراريه إذا كانوا على الإسلام فإن ذلك يعود بالآخرة إلى سبيل الله‌ دون غيره. 

  • و هؤلاء المستضعفون الذين هم أبعاضهم و أفلاذهم مؤمنون بالله سبحانه بدليل قوله: {اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا}«إلخ»، و هم مع ذلك مذللون معذبون يستصرخون و يستغيثون بقولهم: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، و قد أطلق الظلم، و لم يقل: الظالم أهلها على أنفسهم، و فيه إشعار بأنهم كانوا يظلمونهم بأنواع التعذيب و الإيذاء و كذلك كان الأمر. 

  • و قد عبر عن استغاثتهم و استنصارهم بأجمل لفظ و أحسن عبارة فلم يحك عنهم أنهم يقولون: يا للرجال، يا للسراة، يا قوماه، يا عشيرتاه بل حكى أنهم يدعون ربهم 

تفسير الميزان ج٤

420
  • و يستغيثون بمولاهم الحق فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظَّالِمِ أَهْلُهَا} ثم يشيرون إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إلى من معه من المؤمنين المجاهدين بقولهم: {وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً}، فهم يتمنون وليا، و يتمنون نصيرا لكن لا يرضون دون أن يسألوا ربهم الولي و النصير. 

  • كلام في الغيرة و العصبية 

  • انظر إلى هذا الأدب البارع الإلهي الذي أتى به الكتاب العزيز و قسه إلى ما عندنا من ذلك بحسب قضاء الطبع ترى عجبا. 

  • لا شك أن في البنية الإنسانية ما يبعثه إلى الدفاع عما يحترمه و يعظمه كالذراري و النساء و الجاه و كرامة المحتد و نحو ذلك و هو حكم توجبه الفطرة الإنسانية و تلهمه إياه لكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا و للحق، و ربما كان مذموما يستتبع الشقاء و فساد أمور الحياة إذا كان باطلا و على الحق. 

  • و الإسلام يحفظ من هذا الحكم أصله و هو ما للفطرة، و يبطل تفاصيله أولا ثم يوجهه إلى جهة الله سبحانه بصرفه عن كل شي‌ء ثم يعود به إلى موارده الكثيرة فيسبك الجميع في قالب التوحيد بالإيمان بالله فيندب الإنسان أن يتعصب لرجاله و نسائه و ذراريه و لكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالإسلام يؤيد حكم الفطرة، و يهذبه من شوب الأهواء و الأماني الفاسدة و يصفي أمره في جميع الموارد، و يجعلها جميعا شريعة إنسانية يسلكها الإنسان على الفطرة، و يخلصها من ظلمة التناقض إلى نور التوافق و التسالم، فما يدعو إليه الإسلام و يشرعه لا تناقض و لا تضاد بين أجزائه و أطرافه، يشترك جميعها في أنها من شئون التوحيد، و يجتمع كلها في أنها اتباع للحق فيعود جميع الأحكام حينئذ كلية و دائمة و ثابتة من غير تخلف و اختلاف. 

  • قوله تعالى{اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} إلى قوله {اَلطَّاغُوتِ} مقايسة بين الذين آمنوا و الذين كفروا من جهة وصف قتالهم، و بعبارة أخرى من جهة نية كل من الطائفتين في قتالهم ليعلم بذلك شرف المؤمنين على الكفار في طريقتهم و أن سبيل المؤمنين ينتهي إلى الله سبحانه و يعتمد عليه بخلاف سبيل الكفار ليكون ذلك محرضا آخر للمؤمنين على قتالهم. 

  • قوله تعالى{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ اَلشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} الذين كفروا لوقوعهم في سبيل الطاغوت خارجون عن ولاية الله فلا مولى لهم إلا ولي الشرك 

تفسير الميزان ج٤

421
  • و عبادة غير الله تعالى، و هو الشيطان فهو وليهم، و هم أولياؤه. 

  • و إنما استضعف كيد الشيطان لأنه سبيل الطاغوت الذي يقابل سبيل الله، و القوة لله جميعا فلا يبقى لسبيل الطاغوت الذي هو مكيدة الشيطان إلا الضعف، و لذلك حرض المؤمنين عليهم ببيان ضعف سبيلهم، و شجعهم على قتالهم، و لا ينافي ضعف كيد الشيطان بالنسبة إلى سبيل الله قوته بالنسبة إلى من اتبع هواه، و هو ظاهر. 

  • (بحث روائي)

  • في المجمع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (الآية)، قال: سمي الأسلحة حذرا لأنها الآلة التي بها يتقى الحذر: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و روي عن أبي جعفر (عليه السلام): أن المراد بالثبات السرايا، و بالجميع العسكر. 

  •  و في تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): يا أيها الذين آمنوا فسماهم مؤمنين و ليس هم بمؤمنين و لا كرامة، قال: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً} إلى قوله: {فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً}، و لو أن أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لكانوا بذلك مشركين، و إذا أصابهم فضل من الله قال: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} فأقاتل في سبيل الله. 

  • أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في المجمع، و القمي في تفسيره عنه (عليه السلام) و المراد بالشرك في كلامه (عليه السلام) الشرك المعنوي لا الكفر الذي يسلب ظاهر أحكام الإسلام عمن تلبس به، و قد تقدم بيانه. 

  • و فيه عن حمران عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ} (الآية) قال: نحن أولئك.

  • أقول: و رواه أيضا عن سماعة عن الصادق (عليه السلام)، و لفظه: فأما قوله: {وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ} (الآية)، فأولئك نحن، الحديث‌، و الروايتان في مقام التطبيق و الشكوى من بغي الباغين من هذه الأمة، و ليستا في مقام التفسير. 

  • و في الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس: في سورة النساء {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً} عصبا و فرقا، قال: نسخها: {وَ مَا كَانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية. 

  • أقول: الآيتان غير متنافيتين حتى يحكم بنسخ الثانية للأولى، و هو ظاهر بل لو كان فإنما هو التخصيص أو التقييد. 

  • و الحمد لله. 

تفسير الميزان ج٤

422
  • فهرس ما في هذا المجلد من أمهات المطالب‌ 

  •  

تفسير الميزان ج٤

423

تفسير الميزان ج٤

424