المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء التاسع
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
٨ سورة الأنفال مدنية و هي خمس و سبعون آية ٧٥
[سورة الأنفال ٨: الآیات ١ الی ٦]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٢ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٣ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٤ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ٥ يُجَادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ٦}
(بيان)
سياق الآيات في السورة يعطي أنها مدنية نزلت بعد وقعة بدر، و هي تقص بعض أخبار بدر، و تذكر مسائل متفرقة تتعلق بالجهاد و الغنائم و الأنفال و نحوها، و أمورا أخرى تتعلق بالهجرة و بها تختتم السورة.
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} إلى آخر الآية. الأنفال جمع نفل بالفتح و هو الزيادة على الشيء، و لذا يطلق النفل و النافلة على التطوع
لزيادته على الفريضة، و تطلق الأنفال على ما يسمى فيئا أيضا و هي الأشياء من الأموال التي لا مالك لها من الناس كرءوس الجبال، و بطون الأودية، و الديار الخربة، و القرى التي باد أهلها و تركة من لا وارث له، و غير ذلك كأنها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها أحد و هي لله و لرسوله، و تطلق على غنائم الحرب كأنها زيادة على ما قصد منها فإن المقصود بالحرب و الغزوة الظفر على الأعداء و استئصالهم فإذا غلبوا و ظفر بهم فقد حصل المقصود، و الأموال التي غنمه المقاتلون و القوم الذين أسروهم زيادة على أصل الغرض.
و «ذات» في الأصل مؤنث «ذا» بمعنى الصاحب من الألفاظ اللازمة الإضافة غير أنه كثر استعماله في نفس الشيء بمعنى ما به الشيء هو هو فيقال: ذات الإنسان أي ما به الإنسان إنسان، و ذات زيد أي النفس الإنسانية الخاصة التي سميت بزيد، و كان الأصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثم أفردت بالذكر فقيل ذات الأعمال أو ما يؤدي مؤداه ثم قيل ذات، و كذلك الأمر في ذات البين فلكون الخصومة لا تتحقق إلا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين أي الحالة و الرابطة السيئة التي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: {أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي أصلحوا الحالة الفاسدة و الرابطة السيئة التي بينكم.
و قال الراغب في المفردات: «ذو» على وجهين: أحدهما يتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس و الأنواع، و يضاف إلى الظاهر دون المضمر، و يثنى و يجمع، و يقال في التثنية: ذواتا، و في الجمع: ذوات، و لا يستعمل شيء منها إلا مضافا.
قال: و قد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشيء جوهرا كان أو عرضا، و استعملوها مفردة و مضافة إلى المضمر و بالألف و اللام، و أجروها مجرى النفس و الخاصة فقالوا: ذاته و نفسه و خاصته، و ليس ذلك من كلام العرب، و الثاني في لفظ ذو لغة لطيء يستعملونه استعمال «الذي» و يجعل في الرفع و النصب و الجر و الجمع و التأنيث على لفظ واحد نحو:
... | *** | و بئري ذو حفرت و ذو طويت. |
أي التي حفرت و التي طويت. انتهى.
و الذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفراء، و لازمه كون استعماله مضافا إلى الضمير من كلام المولدين و الحق أنه قليل لا متروك، و قد وقع في كلام علي (عليه السلام) في بعض خطبه كما في نهج البلاغة.
و قد اختلف المفسرون في معنى الآية و موقعها اختلافا شديدا من جهات: من جهة معنى قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ} و قد نسب إلى أهل البيت (عليهم السلام) و بعض آخر كعبد الله بن مسعود و سعد بن أبي وقاص و طلحة بن مصرف أنهم قرءوا: «يسئلونك الأنفال» فقيل: عن زائدة في القراءة المشهورة، و قيل: بل مقدرة في القراءة الشاذة، و قيل: إن المراد بالأنفال غنائم الحرب، و قيل: غنائم غزوة بدر خاصة بجعل اللام في الأنفال للعهد، و قيل: الفيء الذي لله و الرسول و الإمام، و قيل: إن الآية منسوخة بآية الخمس، و قيل: بل محكمة، و قد طالت المشاجرة بينهم كما يعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير كتفسيري الرازي و الآلوسي و غيرهما.
و الذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أن الآية بسياقها تدل على أنه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله: {يَسْئَلُونَكَ} تخاصم خاصم به بعضهم بعضا بأخذ كل جانبا من القول لا يرضى به خصمه، و التفريع الذي في قوله: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} يدل على أن الخصومة كانت في أمر الأنفال، و لازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم المحكي في صدر الآية إنما وقع لقطع الخصومة، كأنهم تخاصموا في أمر الأنفال ثم راجعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)يسألونه عن حكمها لتنقطع بما يجيبه الخصومة و ترتفع عما بينهم.
و هذا - كما ترى - يؤيد أولا القراءة المشهورة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ} فإن السؤال إذا تعدى بعن كان بمعنى استعلام الحكم و الخبر، و أما إذا استعمل متعديا بنفسه كان بمعنى الاستعطاف و لا يناسب المقام إلا المعنى الأول.
و ثانيا: أن الأنفال بحسب المفهوم و إن كان يعم الغنيمة و الفيء جميعا إلا أن مورد الآية هي الأنفال بمعنى غنائم الحرب لا غنائم غزوة بدر خاصة إذ لا وجه للتخصيص فإنهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لأنها غنائم بدر خاصة بل لأنها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد ديني، و هو ظاهر.
و اختصاص الآية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فإن المورد لا يخصص، فإطلاق حكم الآية بالنسبة إلى كل ما يسمى بالنفل في محله، و هي تدل على أن الأنفال جميعا لله و لرسوله لا يشارك الله و رسوله فيها أحد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة و الفيء.
ثم الظاهر من قوله: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} و ما يعظهم الله به بعد هذه الجملة و يحرضهم على الإيمان هو أن الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه و لرسوله، و نزعها من أيديهم و هو يستدعي أن يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة منهم أن الأنفال لها خاصة دون غيرها، أو أنها تختص بشيء منها، و إنكار الطائفة الأخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها و إثبات ملك نفسه و رسوله، و موعظتهم أن يكفوا عن المخاصمة و المشاجرة، و أما قول من يقول: إن الغزاة يملكون ما أخذوه من الغنيمة بالإجماع فأحرى به أن يورد في الفقه دون التفسير.
و بالجملة فنزاعهم في الأنفال يكشف عن سابق عهد لهم بأن الغنيمة لهم أو ما في معناه غير أنه كان حكما مجملا اختلف فيه المتخاصمان و كل يجر النار إلى قرصته، و الآيات الكريمة تؤيد ذلك.
توضيحه: أن ارتباط الآيات في السورة و التصريح بقصة وقعة بدر فيها يكشف أن السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر و بعيدها حتى إن ابن عباس على ما نقل عنه كان يسميها سورة بدر، و التي تتعرض لأمر الغنيمة من آياتها خمس آيات في مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآية) و قوله تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتَامى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ وَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} و قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيَا وَ اَللَّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لاَ كِتَابٌ مِنَ اَللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
و سياق الآية الثانية يفيد أنها نزلت بعد الآية الأولى و الآيات الأخيرة جميعا
لمكان قوله فيها {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ} فهي نازلة بعد الوقعة بزمان.
ثم الآيات الأخيرة تدل على أنهم كلموا رسول الله ( (صلى الله عليه وآله)) و سلم في أمر الأسرى و سألوه أن لا يقتلهم و يأخذ الفدية، و فيها عتابهم على ذلك، ثم تجويز أن يأكلوا مما غنموا و كأنهم فهموا من ذلك أنهم يملكون الغنائم و الأنفال على إبهام في أمره: هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلا؟ و هل يملكون ذلك بالسوية فيقسم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة و النقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها أزيد من المشاة؟ أو نحو ذلك.
و كان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الأمر، و رفعوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلت الآية الأولى: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الآية)، فخطأتهم الآية فيما زعموا أنهم مالكوا الأنفال بما استفادوا من قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} (الآية)، و أقرت ملك الأنفال لله و الرسول و نهتهم عن التخاصم و التشاجر، فلما انقطع بذلك تخاصمهم أرجعها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إليهم، و قسمها بينهم بالسوية، و عزل السهم لعدة من أصحابه لم يحضروا الوقعة، و لم يقدم مقاتلا على قاعد، و لا فارسا على ماش، ثم نزلت الآية الثانية: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (الآية)، بعد حين فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مما رد إليهم من السهام الخمس و بقي لهم الباقي. هذا ما يتحصل من انضمام الآيات المربوطة بالأنفال بعضها ببعض.
فقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ} يفيد بما ينضم إليه من قرائن السياق أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا أنهم يملكون الغنيمة، و اختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفية ملكها و انقسامها بينهم، أو فيهما معا، و تخاصموا في ذلك.
و قوله: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} جواب عن مسألتهم و فيهبيان أنهم لا يملكونها و إنما هي أنفال يملكها الله و رسوله، فيوضع حيثما أراد الله و رسوله، و قد قطع ذلك أصل ما نشب بينهم من الاختلاف و التخاصم.
و يظهر من هذا البيان أن الآية غير ناسخة لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ}
إلى آخر الآية، و إنما تبين معناها بالتفسير، و إن قوله: {فَكُلُوا} ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الأصل، و إنما المراد هو التصرف فيها و التمتع منها إلا أن يمتلكوا بقسمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إياها بينهم.
و يظهر أيضا أن قوله تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى} (الآية) ليس بناسخ لقوله: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآية) فإن قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} (الآية) إنما يؤثر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن أكل تمام الغنيمة و التصرف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله: {اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} إلا ذلك، و أما قوله: {اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} فلا يفيد إلا كون أصل ملكها لله و الرسول من دون أن يتعرض لكيفية التصرف و جواز الأكل و التمتع، فلا يناقضه في ذلك قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} (الآية) حتى يكون بالنسبة إليه ناسخا، فيتحصل من مجموع الآيات الثلاث: أن أصل الملك في الغنيمة لله و الرسول ثم يرجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين يأكلونها و يمتلكونها و يرجع خمس منها إلى الله و الرسول و ذي القربى و غيرهم لهم التصرف فيها و الاختصاص بها.
و يظهر بالتأمل في البيان السابق أيضا: أن في التعبير عن الغنائم بالأنفال و هو جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الأعم، كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم و هي زيادات لا مالك لها من بين الناس، و إذا كان كذلك فأجبهم بحكم الزيادات و الأنفال، و {قُلِ: اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ}، و لازم ذلك كون الغنيمة لله و الرسول.
و بذلك ربما تأيد كون اللام في لفظ الأنفال الأول للعهد و في الثاني للجنس أو الاستغراق، و تبين وجه الإظهار في قوله: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ} (الآية) حيث لم يقل: قل هي لله و الرسول.
و يظهر بذلك أيضا: أن قوله: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} حكم عام يشمل بعمومه الغنيمة و سائر الأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية و القرى البائدة و رءوس الجبال و بطون الأودية و قطائع الملوك و تركة من لا وارث له، أما الأنفال بمعنى الغنائم فهي متعلقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و بقي الباقي تحت ملك الله و رسوله.
هذا ما يفيده التأمل في كرائم الآيات، و للمفسرين فيها أقاويل مختلفة تعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير لا جدوى في نقلها و التعرض المنقض و الإبرام فيها.
قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى آخر الآيتين الآيتان و التي بعدهمابيان ما يتميز به المؤمنون بحقيقة الإيمان و يختصون به من الأوصاف الكريمة و الثواب الجزيل بينت ليتأكد به ما يشتمل عليه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} إلى آخر الآية.
و قد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم التي ذكرها في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها و ملازمة لحق الإيمان، و هي بحيث إذا تنبهوا لها و تأملوها كان ذلك مما يسهل لهم توطين النفس على التقوى و إصلاح ذات بينهم، و إطاعة الله و رسوله.
و هاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، و زيادة الإيمان عند استماع آيات الله، و التوكل، و إقامة الصلاة، و الإنفاق مما رزقهم الله، و معلوم أن الصفات الثلاث الأول من أعمال القلوب، و الأخيرتان من أعمال الجوارح.
و قد روعي في ذكرها الترتيب الذي بينها بحسب الطبع، فإن نور الإيمان إنما يشرق على القلب تدريجا، فلا يزال يشتد و يضاعف حتى يتم و يكمل بحقيقته، فأول ما يشرق يتأثر القلب بالوجل و الخشية إذا تذكر بالله عند ذكره، و هو قوله تعالى: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
ثم لا يزال ينبسط الإيمان و يتعرق و ينمو و يتفرع بالسير في الآيات الدالة عليه تعالى، و الهادية إلى المعارف الحقة، فكلما تأمل المؤمن في شيء منها زادته إيمانا، فيقوى الإيمان و يشتد حتى يستقر في مرحلة اليقين، و هو قوله تعالى: {وَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}.
و إذا زاد الإيمان و كمل كمالا عرف عندئذ مقام ربه و موقع نفسه، معرفة تطابق واقع الأمر، و هو أن الأمر كله إلى الله سبحانه فإنه تعالى وحده هو الرب الذي إليه يرجع كل شيء، فالواجب الحق على الإنسان أن يتوكل عليه و يتبع ما يريده منه بأخذه وكيلا في جميع ما يهمه في حياته، فيرضى بما يقدر له في مسير الحياة،
و يجري على ما يحكم عليه من الأحكام و يشرعه من الشرائع فيأتمر بأوامره و ينتهي عن نواهيه، و هو قوله تعالى: {وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
ثم إذا استقر الإيمان على كماله في القلب، استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبودية إلى ربه، و ينصب نفسه في مقام العبودية و إخلاص الخضوع و هو الصلاة، و هي أمر بينه و بين ربه، و أن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالإنفاق على الفقراء مما رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك، و هو أمر بينه و بين سائر أفراد مجتمعة، و هو قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
و قد ظهر مما تقدم أن قوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} إشارة إلى الزيادة من حيث الكيفية و هو الاشتداد و الكمال، دون الكمية و هي الزيادة من حيث عدد المؤمنين كما احتمله بعض المفسرين.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ} قضاء منه تعالى بثبوت الإيمان حقا فيمن اتصف بما عده تعالى من الصفات الخمس، و لذلك أطلق ما ذكره لهم من كريم الأجر في قوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (الآية) فلهؤلاء من صفات الكمال و كريم الثواب و عظيم الأجر ما لكل مؤمن حقيقي.
و أما قوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ} فالمغفرة هي الصفح الإلهي عند ذنوبهم، و الرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنة، و قد أراد الله سبحانه بالرزق الكريم الجنة و نعمها في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ} (الحج: ٥١) و غير ذلك.
و بذلك يظهر أن المراد بقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مراتب القرب و الزلفى و درجات الكرامة المعنوية، و هو كذلك. فإن المغفرة و الجنة من آثار مراتب القرب من الله سبحانه و فروعه البتة.
و الذي يشتمل عليه الآية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين، هو ثبوت جميع الدرجات لجميعهم، لا ثبوت جميعها لكل واحد منهم فإنها من لوازم الإيمان، و الإيمان مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة، فمن المؤمنين من له
درجة واحدة، و منهم ذو الدرجتين، و منهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم في الإيمان.
و يؤيده قوله تعالى: {يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١)، و قوله تعالى: {أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوَانَ اَللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (آل عمران: ١٦٣).
و بما تقدم يظهر أن تفسير بعضهم ما في الآية من الدرجات بدرجات الجنة، ليس على ما ينبغي، و إن المتعين كون المراد بها درجات القرب؛ كما تقدم و إن كان كل منهما يلازم الآخر.
قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} إلى آخر الآيتين. ظاهر السياق أن قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ} متعلق بما يدل عليه قوله تعالى: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} و التقدير: إن الله حكم بكون الأنفال له و لرسوله بالحق مع كراهتهم له، كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة فريق منهم له، فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم و دنياهم ما هم غافلون عنه.
و قيل: إنه متعلق بقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ} و قيل: إن العامل فيه معنى الحق و التقدير: هذا الذكر من الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. و المعنيان كما ترى بعيدان عن سياق الآية. و المراد بالحق ما يقابل الباطل، و هو الأمر الثابت الذي يترتب عليه آثاره الواقعية المطلوبة، و كون الفعل - و هو الإخراج بالحق هو أن يكون هو المتعين الواجب بحسب الواقع، و قيل: المراد به الوحي، و قيل: المراد به الجهاد، و قيل غير ذلك، و هي معان بعيدة.
و الأصل في معنى الجدل شدة الفتل: يقال: زمان جديل أي شديد الفتل، و سمي الجدال جدالا لأنه فيه نزاعا بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع.
و معنى الآيتين: أن الله تعالى حكم في أمر الأنفال بالحق مع كراهتهم لحكمه كما أخرجك من بيتك بالمدينة إخراجا يصاحب الحق، و الحال أن فريقا من المؤمنين
لكارهون لذلك، ينازعونك في الحق بعد ما تبين لهم إجمالا، و الحال أنهم يشبهون جماعة يساقون إلى الموت، و هم ينظرون إلى ما أعد لهم من أسبابه و أدواته.
(بحث روائي)
في جامع الجوامع للطبرسي: قرأ ابن مسعود و علي بن الحسين زين العابدين و الباقر و الصادق (عليهم السلام): يسألونك الأنفال.
أقول: و رواه عن ابن مسعود و كذا عن السجاد و الباقر و الصادق غيره.
و في الكافي، بإسناده عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها، و كل أرض لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب و لكن صالحوا صلحا و أعطوا بأيديهم على غير قتال - فقال - و له - يعني - الوالي رءوس الجبال و بطون الأودية و الآجام، و كل أرض ميتة لا رب لها، و له صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأن الغصب كله مردود، و هو وارث من لا وارث له، و يعول من لا حيلة له.
و فيه بإسناده عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ} قال: من مات و ليس له مولى فماله من الأنفال.
أقول: و في معنى الروايتين روايات كثيرة مروية من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و لا ضير في عدم ذكرها الأنفال بمعنى غنائم الحرب، فإن الآية بموردها تدل عليه على ما يفيده سياقها.
و في الدر المنثور: أخرج الطيالسي و البخاري في الأدب المفرد و مسلم و النحاس في ناسخه و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص قال :نزلت في أربع آيات من كتاب الله: كانت أمي حلفت أن لا تأكل و لا تشرب حتى أفارق محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗا}
و الثانية: أني كنت أخذت سيفا أعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت: {يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِ}.
و الثالثة: أني مرضت فأتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقلت: يا رسول الله إني أريد أن أقسم مالي أ فأوصي بالنصف؟ قال: لا، فقلت: الثلث؟ فسكت فكان الثلث بعده جائزا.
و الرابعة: أني شربت الخمر مع قوم من الأنصار فضرب رجل منهم أنفي بلحيي جمل فأتيت النبي فأنزل الله تحريم الخمر.
أقول: الرواية لا تخلو عن شيء أما أولا فلأن قوله تعالى: {وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} (الآية) ذيل قوله تعالى: {وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} (لقمان: ١٤) و هي بسياقها تأبى أن تكون نازلة عن سبب خاص. على أنه قد تقدم في ذيل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } (الأنعام: ١٥١)، إن الإحسان بالوالدين من الأحكام العامة غير المختصة بشريعة دون شريعة.
و أما ثانيا: فلأن ما ذكر من أخذ السيف و استيهابه من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما يناسب قراءة: «يسئلونك الأنفال» لا قراءة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ} و قد تقدم توضيحه في البيان المتقدم.
و أما ثالثا: فلأن استقرار السنة على الإيصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل بسنة نبوية.
و أما رابعا: فلأن قصة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة و شج أنفه بلحيي بعير و إن كانت حقة لكنه إنما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين و الأنصار، و قد شج أنفه عمر بن الخطاب ثم أنزل الله آية المائدة، و لم ينزل للتحريم بل لتشديده، و قد تقدم ذلك كله في ذيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصَابُ وَ اَلْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ} (المائدة: ٩٠).
و فيه أخرج أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من
أيدينا و جعله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)فقسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)بين المسلمين، عن براء يقول: عن سواء. و فيه أخرج سعيد بن منصور و أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و أبو الشيخ و الحاكم، و صححه و البيهقي و ابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، و أكبت طائفة على العسكر يحوزونه و يجمعونه، و أحدقت طائفة برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا تصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل و فاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها و جمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، و قال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو و هزمناهم، و قال الذين أحدقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و خفنا أن يصيب العدو منه غرة و اشتغلنا به فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين المسلمين، (الحديث).
و فيه أخرج ابن أبي شيبة و أبو داود و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي (صلى الله عليه وآله): من قتل قتيلا فله كذا و كذا و من أسر أسيرا فله كذا و كذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، و أما الشبان فتسارعوا إلى القتل و الغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردءا و لو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} فقسم الغنائم بينهم بالسوية.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و هنا روايات تدل على تفصيل القصة تتضح بها معنى الآيات سنوردها في ذيل الآيات التالية.
و في بعض الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وعدهم أن يعطيهم السلب و الغنيمة ثم نسخه الله تعالى بقوله: {قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} و إلى ذلك يشير ما في هذه الرواية، و لذلك ربما قيل: إنه لا يجب على الإمام أن يفي بما وعد به المحاربين. لكن يبعده
اختلافهم في أمر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وعدهم بذلك لم يختلفوا مع صريحبيانه.
و فيه: أخرج ابن جرير عن مجاهد :أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الخمس بعد الأربعة الأخماس فنزلت: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ}.
أقول: و هو لا ينطبق على ما تقدم من مضمون الآية على ما يعطيه السياق، و في بعض ما ورد عن المفسرين السلف كسعيد بن جبير و مجاهد و عكرمة و كذا عن ابن عباس أن قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآية) منسوخة بقوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ} (الآية)، و قد تقدم فيبيان الآية ما ينتفي به احتمال النسخ.
و فيه: أخرج مالك و ابن أبي شيبة و أبو عبيد و عبد بن حميد و ابن جرير و النحاس و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن القاسم بن محمد، قال :سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال: الفرس من النفل و السلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك أيضا.
ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه، ما هي؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه، فقال ابن عباس: هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر، و في لفظ: ما أحوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي، و كان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه.
و فيه: في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أخرج الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي و أظمأت نهاري و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، و كأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، قال: يا حارث عرفت فالزم، ثلاثا.
أقول: و الحديث مروي من طرق الشيعة بأسانيد عديدة.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٧ الی ١٤]
{وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ اَلْكَافِرِينَ ٧ لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ ٨ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ ٩ وَ مَا جَعَلَهُ اَللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ١٠إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ اَلشَّيْطَانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ اَلْأَقْدَامَ ١١ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنَاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ١٢ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ١٣ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ اَلنَّارِ ١٤}
(بيان)
تشير الآيات إلى قصة بدر، و هي أول غزوة في الإسلام، و ظاهر سياق الآيات أنهم نزلت بعد انقضائها على ما سيتضح.
قوله تعالى: {وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ اَلْكَافِرِينَ} أي و اذكروا إذ يعدكم الله، و هوبيان منن الله و عد نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من أن الله سبحانه لا يستقبلهم بأمر و لا يأتيهم بحكم إلا بالحق و فيه حفظ مصالحهم و إسعاد جدهم فلا يختلفوا فيما بينهم، و لا يكرهوا ما يختاره لهم، و يكلوا أمرهم إليه فيطيعوه و رسوله.
و المراد بالطائفتين العير و النفير، و العير قافلة قريش و فيها تجارتهم و أموالهم و كان عليها أربعون رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، و النفير جيش قريش و هم زهاء ألف رجل.
و قوله: {إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ} مفعول ثان لقوله: {يَعِدُكُمُ} و قوله: {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل منه و قوله {وَ تَوَدُّونَ} (الآية) في موضع الحال، و المراد بغير ذات الشوكة: الطائفة غير ذات الشوكة و هي العير الذي كان أقل عدة و عدة من النفير، و الشوكة الحدة، استعارة من الشوك.
و قوله: {وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} في موضع الحال، و المراد بإحقاق الحق إظهاره و إثباته بترتيب آثاره عليه، و كلمات الله هي ما قضى به من نصرة أنبيائه و إظهار دينه الحق، قال تعالى: {وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ} (الصافات: ١٧٣) و قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ} (الصف: ٩) و قرئ: «بكلمته»: و هو أوجه و أقرب و الدابر ما يأتي بعد الشيء مما يتعلق به و يتصل إليه و قطع دابر الشيء، كناية عن إفنائه و استئصاله بحيث لا يبقى بعده شيء من آثاره المتفرعة عليه المرتبطة به.
و معنى الآية: و اذكروا إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها بنصر الله إما العير و إما النفير و أنتم تودون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما تعلمون من شوكة النفير، و قوتهم و شدتهم، مع ما لكم من الضعف و الهوان، و الحال
أن الله يريد خلاف ذلك و هو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم و يظهر ما قضى ظهوره من الحق، و يستأصل الكافرين و يقطع دابرهم.
قوله تعالى: {لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبَاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ} ظاهر السياق أن اللام للغاية، و قوله: {لِيُحِقَّ} (الآية) متعلق بقوله: {يَعِدُكُمُ اَللَّهُ} أي إنما وعدكم الله ذلك و هو لا يخلف الميعاد ليحق بذلك الحق و يبطل الباطل و لو كان المجرمون يكرهونه و لا يريدونه.
و بذلك يظهر أن قوله: {لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ} (الآية) ليس تكرارا لقوله: {وَ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} و إن كان في معناه.
قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} الاستغاثة طلب الغوث و هو النصرة كما في قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} القصص: ١٥ و الإمداد معروف، و قوله: {مُرْدِفِينَ} من الإرداف و هو أن يجعل الراكب غيره ردفا له، و الردف التابع، قال الراغب: الردف التابع، و ردف المرأة عجيزتها، و الترادف: التتابع، و الرادف: المتأخر، و المردف المقدم الذي أردف غيره. انتهى.
و بهذا المعنى تلائم الآية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصة في سورة آل عمران: {وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَ مَا جَعَلَهُ اَللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ} (آل عمران: ١٢٦).
فإن تطبيق الآيات من السورتين يوضح أن المراد بنزول ألف من الملائكة مردفين نزول ألف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين.
و بذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكون الملائكة مردفين كون الألف متبعين ألفا آخر لأن مع كل واحد منهم ردفا له فيكونون ألفين، و كذا ما قيل:
إن المراد كون بعضهم أثر بعض، و كذا ما قيل: إن المراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، و كذا ما قيل: إن المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الذين كفروا الرعب.
قوله تعالى: {وَ مَا جَعَلَهُ اَللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الضميران في قوله: {جَعَلَهُ} و قوله: {بِهِ} للإمداد بالملائكة على ما يدل عليه السياق، و المعنى أن الإمداد بالملائكة إنما كان لغرض البشرى و اطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفار كما يشير إليه قوله تعالى بعد: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ}.
و بذلك يتأيد ما ذكره بعضهم: أن الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين و لا قتلوا منهم أحدا فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف علي (عليه السلام) و الثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين. و إنما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم و تثبيت قلوب المسلمين، و إلقاء الرعب في قلوب المشركين، و سيجيء بعض الكلام في ذلك.
و قوله: {وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى و أنه لو كان بكثرة العدد و القوة و الشوكة كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة و القوة على المسلمين على ما بهم من القلة و الضعف.
و قد علل بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} جميع مضمون الآية و ما يتعلق به من الآية السابقة فبعزته نصرهم و أمدهم، و بحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.
قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} إلى آخر الآية. النعاس أول النوم و هو خفيفة و التغشية الإحاطة، و الأمنة الأمان، و قوله: {أَمَنَةً} أي من الله و قيل: أي من العدو، و الرجز هو الرجس و القذارة، و المراد برجز الشيطان القذارة التي يطرأ القلب من وسوسته و تسويله.
و معنى الآية: أن النصر و الإمداد بالبشرى و اطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للأمن الذي أفاضه الله على قلوبكم فنمتم و لو كنتم خائفين مرتاعين لم
يأخذكم نعاس و لا نوم، و ينزل عليكم المطر ليطهركم به و يذهب عنكم وسوسة الشيطان و ليربط على قلوبكم و يشد عليها - و هو كناية عن التشجيع - و ليثبت بالمطر أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل أو بثبات القلوب.
و الآية تؤيد ما ورد أن المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل، و أصبحوا محدثين و مجنبين، و أصابهم الضمأ، و وسوس إليهم الشيطان فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء، و أنتم تصلون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة، و تطهروا به من الحدث، و تلبدت به أرضهم، و أوحلت أرض عدوهم.
قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ} إلى آخر الآية حال الظرف في أول الآية كحال الظرف في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} و قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعَاسَ} و معنى الآية ظاهر.
و أما قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنَاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} فالظاهر أن يكون المراد بفوق الأعناق الرءوس و بكل بنان جميع الأطراف من اليدين و الرجلين أو أصابع الأيدي لئلا يطيقوا حمل السلاح بها و القبض عليه.
و من الجائز أن يكون الخطاب بقوله: {فَاضْرِبُوا} إلخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن، و المراد بضرب فوق الأعناق و كل بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن إذلالهم و إبطال قوة الإمساك من أيديهم بالإرعاب، و أن يكون الخطاب للمؤمنين و المراد به تشجيعهم على عدوهم بتثبيت أقدامهم و الربط على قلوبهم، و حثهم و إغراؤهم بالمشركين.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِقِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} المشاقة المخالفة و أصله الشق بمعنى البعض كأن المخالف يميل إلى شق غير شق من يخالفه، و المعنى أن هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لأنهم خالفوا الله و رسوله و ألحوا و أصروا على ذلك و من يشاقق الله و رسوله فإن الله شديد العقاب.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ اَلنَّارِ} خطاب تشديدي للكفار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي و يأمرهم بأن يذوقوه، و يذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.
(بحث روائي)
في المجمع قال ابن عباس:لما كان يوم بدر و اصطف القوم للقتال قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره، و استغاث المسلمون فنزلت الملائكة و نزل قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} إلى آخره.
و قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} (الآية) عن عمر بن الخطاب و السدي و أبي صالح و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
قال: و لما أمسى رسول الله و جنه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس و كانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذا حتى لبد الأرض و ثبت أقدامهم و كان المطر على قريش مثل العزالي، و ألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ}.
أقول: لفظ الآية: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} إلخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب استغاثتهم بل السياق يدل على نزولها مع قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ} و الآيات التالية له، و هي تدل على حكاية حال ماضية و امتنانه تعالى على المسلمين بما أنزل عليهم من آيات النصر و تفاريق النعم ليشكروا له و يطيعوه فيما يأمرهم و ينهاهم.
و لعل المراد من ذكر نزول الآية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الآية على الواقعة، و هو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في العريش: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد هذا اليوم فنزل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فخرج يقول: {سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ } فأيده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، و كثرهم في أعين المشركين، و قلل المشركين في أعينهم فنزل: {وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوى} من الوادي خلف العقنقل و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالعدوة الدنيا عند القليب.
أقول: و الكلام فيه كالكلام في سابقه.
و في المجمع: ذكر البلخي عن الحسن :أن قوله: {وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ} (الآية) نزلت قبل قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} و هي في القراءة بعدها.
أقول: و تقدم مدلول إحدى الآيتين على مدلول الأخرى بحسب الوقوع لا يلازم سبقها نزولا، و لا دليل من جهة السياق يدل على ما ذكره.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} فقال: الشوكة التي فيها القتال.
أقول: و روى مثله القمي في تفسيره.
و في المجمع قال أصحاب السير و ذكر أبو حمزة و علي بن إبراهيم في تفسيرهما دخل حديث بعضهم في بعض :أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام و فيها أموالهم و هي اللطيمة، و فيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، و قال: لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم و ثقل بعضهم، و لم يظنوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يلقى كيدا و لا حربا فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان و الركب لا يرونها إلا غنيمة لهم.
فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، و أمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم و يخبرهم أن محمدا قد تعرض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة.
و كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادي يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك و أخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، و فشت الرؤيا فيهم و بلغ ذلك أبا جهل فقال: هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب، و اللات و العزى
لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا و إلا لنكتبن كتابا بيننا: أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا و نساء من بني هاشم.
فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة. العير العير. أدركوا و ما أراكم تدركون إن محمدا و الصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهيئوا للخروج، و ما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش، و قالوا من لم يخرج نهدم داره، و خرج معهم العباس بن عبد المطلب، و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، و عقيل بن أبي طالب، و أخرجوا معهم القيان يضر بن الدفوف.
و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر أخذ عينا للقوم فأخبره بهم، و في حديث أبي حمزة: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أيضا عينا له على العير اسمه عدي فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره أين فارق العير نزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير و حرب النفير فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، و لا ذلت منذ عزت، و لم نخرج على هيئة الحرب؛ و في حديث أبي حمزة: أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا و كذا، و ساروا و سرنا فنحن و القوم على ماء بدر يوم كذا و كذا كأنا فرسا رهان فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك، فقال (صلى الله عليه وآله): اجلس فجلس.
ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها، و قد آمنا بك و صدقنا و شهدنا أن ما جئت به حق، و الله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا و شوك الهراس لخضناه معك، و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون و لكنا نقول: امض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خيرا على قوله ذاك.
ثم قال: أشيروا علي أيها الناس و إنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم، و لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنا برآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا و نساءنا، فكان (صلى الله عليه وآله و سلم) يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو، و أن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة.
فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله كأنك أردتنا. فقال: نعم. قال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و اترك منها ما شئت، و الله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك و لعل الله عز و جل أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: سيروا على بركة الله فإن الله عز و جل قد وعدني إحدى الطائفتين و لن يخلف الله وعده، و الله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و فلان و فلان۱
و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالرحيل، و خرج إلى بدر و هو بئر، و في حديث أبي حمزة الثمالي: بدر رجل من جهينة و الماء ماؤه فإنما سمي الماء باسمه، و أقبلت قريش و بعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يصلي فانفتل من صلاته و قال: إن صدقوكم ضربتموهم و إن كذبوكم تركتموهم، فأتوه بهم فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم من جزور؟ قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): القوم تسعمائة إلى ألف رجل، و أمر (صلى الله عليه وآله و سلم) بهم فحبسوا و بلغ ذلك قريشا ففزعوا و ندموا على مسيرهم.
و لقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال: أ ما ترى هذا البغي و الله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا و قد أفلتت فجئنا بغيا و عدوانا، و الله ما أفلح قوم بغوا قط، و لوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت و لم نسر هذا المسير، فقال له أبو البختري، إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس و تحمل العير التي أصابها محمد و أصحابه بنخلة٢ و دم ابن الحضرمي فإنه حليفك.
فقال له: علي ذلك، و ما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل فصر إليه و أعلمه أني حملت العير و دم ابن الحضرمي و هو حليفي و علي عقله.
قال: فقصدت خباءه و أبلغته ذلك، فقال: إن عتبة يتعصب لمحمد فإنه من بني عبد مناف و ابنه معه يريد أن يخذل بين الناس لا و اللات و العزى حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكة و تتسامع العرب بذلك، و كان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و كان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش: قد نجى الله عيركم فارجعوا و دعوا محمدا و العرب، و ادفعوه بالراح ما اندفع، و إن لم ترجعوا فردوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة، فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل و بنو مخزوم و ردوا القيان من الجحفة.
قال: و فزع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما بلغهم كثرة قريش، و استغاثوا و تضرعوا، فأنزل الله عز و جل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} و ما بعده.
قال الطبرسي: و لما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر عبا أصحابه، فكان في عسكره فرسان: فرس للزبير بن عوام، و فرس للمقداد بن الأسود، و كان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي بن أبي طالب (عليه السلام) و مرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد، و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس، و قيل: مائتا فرس.
فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال أبو جهل: ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أ ترى لهم كمينا أو مددا؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم رجع فقال: ليس لهم كمين و لا مدد و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أ ما ترونهم خرسا لا يتكلمون و يتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، و ما أراهم يولون حتى يقتلوا، و لا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم، فقال له أبو جهل: كذبت و جبنت.
فأنزل الله تعالى: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} فبعث إليهم رسول الله
(صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم فخلوني و العرب و ارجعوا. فقال عتبة: ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يجول بين العسكرين و ينهى عن القتال فقال (صلى الله عليه وآله): إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر و إن يطيعوه يرشدوا.
و خطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر إن محمدا له آل و ذمة و هو ابن عمكم فخلوه و العرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به و إن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فغاظ أبا جهل قوله و قال له: جبنت و انتفخ سحرك فقال: يا مصفر استه مثلي يجبن؟ و ستعلم قريش أينا ألأم و أجبن؟ و أينا المفسد لقومه.
و لبس درعه و تقدم هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد، و قال: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار و انتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب و كان له يومئذ سبعون سنة فقال: قم يا عبيدة، و نظر إلى حمزة فقال: قم يا عم ثم نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: قم يا علي و كان أصغر القوم فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها و فخرها تريد أن تطفئ نور الله و يأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة، و قال لحمزة عليك بشيبة، و قال لعلي: عليك بالوليد.
فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة -فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، و ضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعا، و حمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، و حمل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال علي: لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض.
ثم اعتنق حمزة و شيبة فقال المسلمون: يا علي أ ما ترى أن الكلب قد نهز عمك فحمل عليه علي (عليه السلام) ثم قال: يا عم طأطئ رأسك و كان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علي فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة و به رمق فأجهز عليه.
و في رواية أخرى أنه برز حمزة لعتبة، و برز عبيدة لشيبة، و برز علي للوليد فقتل حمزة عتبة، و قتل عبيدة شيبة، و قتل علي (عليه السلام) الوليد. فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة و علي، و حمل عبيدة حمزة و علي حتى أتيا به رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فاستعبر فقال: يا رسول الله أ لست شهيدا؟ قال: بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي.
و قال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا و لا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، و عليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها.
و جاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إلي رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة، و كانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و سلم فقال لأصحابه: غضوا أبصاركم، و عضوا على النواجذ، و رفع يده فقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم أصابه الغشي فسري عنه و هو يسلك العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين.
و في الأمالي، بإسناده عن الرضا عن آبائه (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سافر إلى بدر في شهر رمضان و افتتح مكة في شهر رمضان.
أقول: و على ذلك أطبق أهل السير و التواريخ، قال اليعقوبي في تاريخه: و كانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمه (صلى الله عليه وآله و سلم) - يعني إلى المدينة - بثمانية عشر شهرا.
و قال الواقدي: و نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان فبعث عليا و الزبير و سعد بن أبي وقاص و بسبس بن عمرو يتجسسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم و أفلت بعضهم و أتوا بهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهم فلما أن لقوهم بالضرب قالوا: نحن لأبي سفيان و نحن في العير، و هذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم. فسلم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من صلاته ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم و إن كذبوكم تركتموهم.
فلما أصبحوا عدل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الصفوف و خطب المسلمين فحمد الله و أثنى عليهثم قال:
أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، و أنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، و يحب الصدق، و يعطي على الخير أهله على منازلهم عنده به يذكرون، و به يتفاضلون، و إنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه، و إن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم و ينجي به من الغم تدركون به النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم و يأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شيء من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول: {لَمَقْتُ اَللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } انظروا في الذي أمركم به من كتابه، و أراكم من آياته و ما أعزكم به بعد الذلة فاستكينوا له يرض ربكم عنكم، و أبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبوا به الذي وعدكم من رحمته و مغفرته فإن وعده حق، و قوله صدق، و عقابه شديد، و إنما أنا و أنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، و به اعتصمنا، و عليه توكلنا، و إليه المصير، و يغفر الله لي و للمسلمين.
و في المجمع: ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس و غيره: أن جبرائيل قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما التقى الجمعان لعلي: أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفا من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم و قال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه و فمه و منخريه منها شيء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم، و كانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم.
و في الأمالي، بإسناده عن ابن عباس قال: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على قتلى بدر فقال: جزاكم الله من عصابة شرا لقد كذبتموني صادقا و خونتم أمينا، ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله، و إن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات و العزى.
و في المغازي للواقدي: و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر بالقليب أن تغور ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما
أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): اتركوه، فأقروه و ألقوا عليه من التراب و الحجارة ما غيبه.
ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني و صدقني الناس، و أخرجتموني و آواني الناس، و قاتلتموني و نصرني الناس. فقالوا يا رسول الله أ تنادي قوما قد ماتوا؟ فقال: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق، و في رواية أخرى: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
قال: و كان انهزام قريش حين زالت الشمس فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ببدر و أمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم و حملها، و أمر نفرا من أصحابه أن يعينوه فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به و بات، و بأصحابه جراح و ليست بالكثيرة، و أمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين حتى كان آخر الليل فارتحل.
و في تفسير القمي، في خبر طويل :و خرج أبو جهل من بين الصفين و قال: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم، و أتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة فأنزل الله على رسوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ اَلْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ}.
ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كفا من حصى و رمى به في وجوه قريش و قال: شاهت الوجوه فبعث الله رياح تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اللهم لا يفلتن فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعين، و أسر منهم سبعين.
و التقى عمرو بن الجموع مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه و ضرب أبو جهل عمرا على يده فأبانها من العضد فتعلقت بجلده فاتكى عمرو على يده برجله ثم تراخى إلى السماء حتى انقطعت الجلدة و رمى بيده.
و قال عبد الله بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل و هو يتشحط بدمه فقلت:
الحمد لله الذي أخزاك فرفع رأسه فقال: إنما أخزى الله عبدا، ابن أم عبد لمن الدبرة ويلك؟ قلت: لله و لرسوله و إني قاتلك، و وضعت رجلي على عنقه فقال: ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم أما إنه ليس شيء أشد من قتلك إياي في هذا اليوم أ لا تولى قتلي رجل من المطلبيين أو رجل من الأحلاف؟ فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته و أخذت رأسه و جئت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام فسجد لله شكرا.
و في الإرشاد للمفيد: ثم بارز أمير المؤمنين (عليه السلام) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواه فلم يلبث أن قتله، و برز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، و برز إليه بعده طعيمة بن عدي فقتله، و قتل بعده نوفل بن خويلد و كان من شياطين قريش، و لم يزل يقتل واحدا منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم و كانوا سبعين رجلا، تولى كافة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين قتل الشطر منهم، و تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) قتل الشطر الآخر وحده.
و في الإرشاد: أيضا: قد أثبتت رواة العامة و الخاصة معا أسماء الذين تولى أمير المؤمنين (عليه السلام) قتلهم ببدر من المشركين على اتفاق فيما نقلوه من ذلك و اصطلاح فكان ممن سموه: الوليد بن عتبة كما قدمنا و كان شجاعا جريا وقاحا فتاكا تهابه الرجال، و العاص بن سعيد و كان هولا عظيما تهابه الأبطال، و هو الذي حاد عنه عمر بن الخطاب و قصته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبينها فيما نورده، و طعيمة بن عدي بن نوفل و كان من رءوس أهل الضلال، و نوفل بن خويلد و كان من أشد المشركين عداوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كانت قريش تقدمه و تعظمه و تطيعه، و هو الذي قرن أبا بكر و طلحة قبل الهجرة بمكة و أوثقهما بحبل و عذبهما يوما إلى الليل حتى سئل في أمرهما، و لما عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حضوره بدرا سأل الله أن يكفيه أمره فقال: اللهم اكفني نوفل بن خويلد فقتله أمير المؤمنين (عليه السلام).
و زمعة بن الأسود۱ و الحارث بن زمعة، و النضر بن الحارث بن عبد الدار، و عمير بن عثمان بن كعب بن تيم عم طلحة بن عبيد الله، و عثمان و مالك ابنا عبيد الله
أخوا طلحة بن عبيد الله، و مسعود بن أبي أمية بن المغيرة، و قيس بن الفاكه بن المغيرة و حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة، و [أبو] قيس۱ بن الوليد بن المغيرة، و حنظلة بن أبي سفيان، و عمرو بن مخزوم، و أبو منذر بن أبي رفاعة، و منبه بن الحجاج السهمي، و العاص بن منبه، و علقمة بن كلدة، و أبو العاص بن قيس بن عدي، و معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، و لوذان بن ربيعة، و عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة، و مسعود بن أمية بن المغيرة، و حاجب بن السائب بن عويمر، و أوس بن المغيرة بن لوذان، و زيد بن مليص، و عاصم بن أبي عوف، و سعيد بن وهب حليف بني عامر، و معاوية بن [عامر بن] عبد القيس، و عبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، و السائب بن مالك، و أبو الحكم بن الأخنس، و هشام بن أبي أمية بن المغيرة.
فذلك خمسة و ثلاثون رجلا سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه غيره و هم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه.
أقول: و ذكر غيره كما في المجمع أنه قتل يوم بدر سبعة و عشرين رجلا، و ذكر الواقدي: أن الذي اتفق عليه قول النقلة و الرواة من قتلاه تسعة رجال و الباقي مختلف فيه.
لكن البحث العميق عن القصة و ما يحتف بها من أشعارهم و الحوادث المختلفة التي حدثت بعدها تسيء الظن بهذا الاختلاف، و قد نقل عن محمد بن إسحاق أن أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي (عليه السلام).
و قد عد الواقدي فيما ذكره ابن أبي الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر اثنين و خمسين رجلا و نسب قتل أربعة و عشرين منهم إليه (عليه السلام) ممن انفرد بقتله أو شارك غيره.
و من شعر أسيد بن أبي إياس يحرض مشركي قريش على علي (عليه السلام) على ما في الإرشاد و المناقب قوله:
حدة لم في كل مجمع غاية أخزاكم | *** | جزع أبر على المذاكي القرح |
لله دركم أ لما تنكروا | *** | قد ينكر الحر الكريم و يستحي |
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم | *** | ذبحا و قتله قعصة لم تذبح |
أعطوه خرجا و اتقوا تضريبه | *** | فعل الذليل و بيعه لم تربح |
أين الكهول و أين كل دعامة | *** | في المعضلات و أين زين الأبطح |
أفناهم قعصا و ضربا يفتري | *** | بالسيف يعمل يصفح |
و في الإرشاد، روى شعبة عن أبي إسحاق عن حارث بن مضرب قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: لقد حضرنا بدرا و ما فينا فارس غير المقداد بن الأسود، و لقد رأيتنا ليلة بدر و ما فينا إلا من نام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه كان منتصبا في أصل شجرة يصلي فيها و يدعو حتى الصباح.
أقول: و الروايات في قصة بدر كثيرة جدا و قد اقتصرنا منها على ما يتضح به فهم مضامين الآيات، و من الأخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن الآيات التالية المشيرة إلى بعض أطراف القصة.
(فهرس أسماء شهداء بدر «رض»)
في البحار، عن الواقدي قال: حدثني عبد الله بن جعفر قال :سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال: أربعة عشر: ستة من المهاجرين، و ثمانية من الأنصار.
قال: فمن بني المطلب بن عبد مناف، عبيدة بن الحارث قتله عتبة و في غير رواية الواقدي قتله شيبة فدفنه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصفراء، و من بني زهرة عمير بن أبي وقاص قتله عمرو بن عبد ود فارس الأحزاب، و عمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف لبني زهرة قتله أبو أسامة الجشمي، و من بني عدي عاقل بن أبي البكير حليف لهم من بني سعد قتله مالك بن زهير، و مهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي و يقال: إن مهجعا أول من قتل من المهاجرين، و من بني الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدي.
و من الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور، و سعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود، و يقال: طعيمة بن عدي، و من بني عدي بن النجار حارثة بن سراقة رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله، و من بني مالك بن النجار عوف و معوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل، و من بني سلمة عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم، و يقال: إنه أول قتيل قتل من الأنصار، و قد روي: أن أول قتيل منهم حارثة بن سراقة، و من بني زريق رافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل، و من بني الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث قتله نوفل بن معاوية فهؤلاء الثمانية من الأنصار.
و روي عن ابن عباس :أن أنسة مولى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قتل ببدر، و روي :أن معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة، و ابن عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ١٥ الی ٢٩]
{يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبَارَوَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ وَ مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ١٦ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٧ ذَلِكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكَافِرِينَ ١٨ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ اَلْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٩ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ٢٠وَ لاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ هُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ٢١ إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ٢٢ وَ لَوْ عَلِمَ اَللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ ٢٣ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٢٤ وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٢٥ وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٢٦ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٢٧ وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ٢٨ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ ٢٩}
(بيان)
أوامر و نواه متعلقة بالجهاد الإسلامي مما يناسب سوق القصة، و حث على تقوى الله و إنذار و تخويف من مخالفة الله و رسوله و التعرض لسخطه سبحانه، و فيها إشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله و أياديه على المؤمنين.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ
اَلْأَدْبَارَ} اللقاء مصدر لقي يلقى من المجرد و لاقى يلاقي من المزيد فيه، قال الراغب في مفردات القرآن: اللقاء مقابلة الشيء و مصادفته معا، و قد يعبر به عن كل واحد منهما يقال: لقيه يلقاه لقاء و لقيا و لقية، و يقال ذلك في الإدراك بالحس و بالبصر و بالبصيرة قال: {لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}، و قال: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}، و ملاقاة الله عبارة عن القيامة و عن المصير إليه قال: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ}، و قال: {اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا اَللَّهِ}، و اللقاء الملاقاة، قال: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}، و قال: {إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}. انتهى.
و قال في المجمع: اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لأن الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الأعراض في المحل الواحد. انتهى.
و قال فيه: الزحف الدنو قليلا قليلا، و التزاحف التداني يقال: زحف يزحف زحفا و أزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم و ثبت لهم. قال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة و جمعه زحوف. انتهى.
و تولية الأعداء الأدبار جعلهم يلونها و هو استدبار العدو و استقبال جهة الهزيمة.
و خطاب الآية عام غير خاص بوقت دون وقت و لا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر و قصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسرين. على أنك عرفت أن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها، و أن الآيات ذيل ما في صدر السورة من قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} (الآية)، و للكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ} إلى آخر الآية. التحرف.الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف و هو طرف الشيء و هو أن ينحرف و ينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه و يبادر إلى إلقاء الكيد عليه، و التحيز هو أخذ الحيز و هو المكان، و الفئة القطعة من جماعة الناس، و التحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم و يقاتل معهم.
و البواء الرجوع إلى مكان و استقرار فيه، و لذا قال الراغب: أصل البواء
مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء. انتهى فمعنى قوله: {بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ} أي رجع و معه غضب من الله.
فمعنى الآيتين: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم و من يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع و معه غضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به.
قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى} إلى آخر الآية، التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الآية تشير إلى وقعة بدر و ما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من رميهم بكف من الحصى، و المؤمنون بوضع السيف فيهم و قتلهم القتل الذريع، و ذيل الآية أعني قوله: {وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً} يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، و قد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعني قوله: {وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}.
فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى} نفي أن تكون وقعة بدر و ما ظهر فيها من استئصال المشركين و الظهور عليهم و الظفر بهم جارية على مجرى العادة و المعروف من نواميس الطبيعة، و كيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فرسان و بضعة أدرع و بضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس و الأسلحة و الرجال و الزاد و الراحلة، هم أضعافهم عدة و لا يقاسون بهم قوة و شدة، و أسباب الغلبة عندهم، و عوامل البأس معهم، و الموقف المناسب للتقدم لهم.
إلا أن الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين و أرعب قلوب المشركين، و ألقى الهزيمة بما رماه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا و أسرا فبطل بذلك كيدهم و خمدت أنفاسهم و سكنت أجراسهم.
فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين و الرمي الذي شتت شملهم و ألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.
فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد
الوقعة بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادي، و لا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) راميا لما رماه من الحصاة.
و قوله: {وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً} الظاهر أن ضمير {مِنْهُ} راجع إلى الله تعالى، و الجملة لبيان الغاية و هي معطوفة على مقدر محذوف، و التقدير: إنما فعل الله ما فعل من قتلهم و رميهم لمصالح عظيمة عنده، و ليبلي المؤمنين و يمتحنهم بلاء و امتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، و هو إفناء خصمهم و إعلاء كلمة التوحيد بهم و إغناؤهم بما غنموا من الغنائم.
و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل لقوله: {وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ} أي إنه تعالى يبليهم لأنه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا.
و التفريع الذي في صدر الآية: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} إلخ متعلق بما يتضمنه الآيات السابقة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} إلى آخر الآيات من المعنى، فإنها تعد منن الله عليهم من إنزال الملائكة و إمدادهم بهم و تغشية النعاس إياهم و إمطار السماء عليهم و ما أوحي إلى الملائكة من تأييدهم و تثبيت أقدامهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى}.
و على هذا فقوله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ} إلى قوله: {وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ} معترضة متعلقة بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنَاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة، و قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} إلخ متصل بما قبله بحسب النظم.
و ربما يذكر في نظم الآية وجهان آخران:
أحدهما: أن الله سبحانه لما أمرهم بالقتل في الآية المتقدمة ذكر عقيبها أن ما كان من الفتح يوم بدر و قهر المشركين إنما كان بنصرته و معونته تذكيرا للنعمة. ذكره أبو مسلم.
و الثاني: أنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا و أنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم. و ربما قيل: إن الفاء في
قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض. و الوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكَافِرِينَ} قال في المجمع: {ذَلِكُمْ} موضعه رفع، و كذلك {أَنَّ اَللَّهَ} في موضع رفع، و التقدير: الأمر ذلكم و الأمر أن الله موهن، و كذلك الوجه فيما تقدم من قوله: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ اَلنَّارِ}، و من قال: إن {ذَلِكُمْ} مبتدأ و {فَذُوقُوهُ} خبره فقد أخطأ لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدإ، و لا يجوز: زيد فمنطلق، و لا: زيد فاضربه إلا أن تضمر «هذا» تريد: هذا زيد فاضربه. انتهى. فمعنى الآية: الأمر ذلكم الذي ذكرناه و الأمر أن الله موهن كيد الكافرين.
قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ اَلْفَتْحُ} إلى آخر الآية. ظاهر الآية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله: {وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} و قوله: {وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} إلخ أن تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم، و هو المناسب لقوله في الآية السابقة: {وَ أَنَّ اَللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكَافِرِينَ}.
فالمعنى: إن طلبتم الفتح و سألتم الله أيها المشركون أن يفتح بينكم و بين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم، و إن تنتهوا عن المكيدة على الله و رسوله فهو خير لكم و إن تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم، و لن تغني عنكم جماعتكم شيئا و لو كثرت كما لم تغن في هذه المرة و إن الله مع المؤمنين و لن يغلب من هو معه.
و بهذا يتأيد ما ورد أن أبا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم و أتانا بما لا نعرف فانصر عليه و في بعض الروايات و هو الأنسب كما في المجمع عن أبي حمزة: قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا القديم و دين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك و أرضى عندك فانصر أهله اليوم.
و ذكر بعضهم: أن الخطاب في الآية للمؤمنين و وجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، و لا جدوى للإطالة بذكرها و المناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم)، و المعنى، و لا تولوا عن الرسول
و أنتم تسمعون ما يلقياه إليكم من الدعوة الحقة و ما يأمركم به و ينهاكم عنه مما فيه صلاح دينك و دنياكم. و مصب الكلام أوامره الحربية و إن كان لفظه أعم.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ هُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} المعنى ظاهر و فيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، و هو لا يسمعون، و قد حكى الله عنهم ذلك إذ قال بعد عدة آيات: {وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} الأنفال: ٣١، لكنهم كذبوا و لم يسمعوا و لو سمعوا لاستجابوا كما قال الله تعالى: {وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا} الأعراف: ١٧٩، و قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير: {وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ} الملك: ١٠فالمراد بالسمع في الآية الأولى تلقي الكلام الحق الذي هو صوت من طريق الأذن، و في الآية الثانية الانقياد لما يتضمنه الكلام الحق المسموع.
و الآيتان - كما ترى - خطاب متعلق بالمؤمنين متصل نوع اتصال بالآية السابقة عليهما و تعريض للمشركين، فهو تعالى لما التفت إلى المشركين فذمهم و تهكم عليهم بسؤالهم الفتح، و ذكر لهم أن الغلبة دائما لكلمة الإيمان على كلمة الكفر و لدعوة الحق على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه و هم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له و لرسوله، و حذرهم عن التولي عنه بعد استماع كلمة الحق، و أن يكونوا كأولئك إذ قالوا: سمعنا و هم لا يسمعون.
و من الممكن أن يكون في الآية إشارة إلى عدة من أهل مكة آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لما تخلص قلوبهم من الشك خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فابتلوا بما ابتلي به مشركو قريش، فقد ورد في الخبر: أن فئة من قريش أسلموا بمكة و احتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، و هم قيس بن الوليد بن المغيرة، و علي بن أمية بن خلف، و العاص بن منبه بن الحجاج، و الحارث بن زمعة، و قيس بن الفاكه بن المغيرة و لما رأوا قلة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، و سيذكرهم الله بعد عدة آيات بقوله: {إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ} (الآية).
و ربما قيل: إن المراد بالذين قالوا سمعنا و هم لا يسمعون هم أهل الكتاب من يهود قريظة و النضير. و هو بعيد.
قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} إلى آخر الآيتين. تعريض و ذم للذين سبق ذكرهم من الكفار على ما يعطيه سياق الكلام و ما اشتملت عليه الآية من الموصول و الضمائر المستعملة في أولي العقل، و على هذا فالظاهر أن اللام في قوله: {اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ} للعهد الذكري، و يئول المعنى إلى أن شر جميع ما يدب على الأرض من أجناس الحيوان و أنواعها هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، و إنما لم يعقلوا لأنه لا طريق لهم إلى تلقي الحق لفقدهم السمع و النطق فلا يسمعون و لا ينطقون.
ثم ذكر تعالى أن الله إنما ابتلاهم بالصمم و البكمة فلا يسمعون كلمة الحق و لا ينطقون بكلمة الحق، و بالجملة حرمهم نعمة السمع و القبول، لأنه تعالى لم يجد عندهم خيرا و لم يعلم به و لو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع و القبول، و لو أنه تعالى رزقهم السمع و الحال هذه لم يثبت السمع و القبول فيهم بل تولوا عن الحق و هم معرضون.
و من هنا يعلم أن المراد بالخير حسن السريرة الذي يثبت به الاستعداد لقبول الحق و يستقر في القلب، و أن المراد بقوله: {وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ} الأسماع على تقدير عدم الاستعداد الثابت المستقر فافهم ذلك فلا يرد أنه تعالى لو أسمعهم و رزقهم قبول الحق استلزم ذلك تحقق الخير فيهم و لا وجه مع ذلك لتوليهم و إعراضهم و ذلك أن الشرط في قوله: {وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ} على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} لما دعاهم في قوله: {أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} إلخ إلى إطاعة الدعوة الحقة و عدم التولي عنها بعد استماعها أكده ثانيا بالدعوة إلى استجابة الله و الرسول في دعوة الرسول، ببيان حقيقة الأمر و الركن الواقعي الذي تعتمد عليه هذه الدعوة، و هو أن هذه الدعوة دعوة إلى ما يحيي الإنسان بإخراجه من مهبط الفناء و البوار، و موقفه في الوجود، أن الله سبحانه أقرب إليه من قلبه و أنه سيحشر إليه فليأخذ حذره و ليجمع همه و يعزم عزمه.
الحياة أنعم نعمة و أعلى سلعة يعتقدها الموجود الحي لنفسه كيف لا؟ و هو لا يرى وراءه إلا العدم و البطلان، و أثرها الذي هو الشعور و الإرادة هو الذي ترام
لأجله الحياة و يرتاح إليه الإنسان و لا يزال يفر من الجهل و افتقاد حرية الإرادة و الاختيار و قد جهز الإنسان و هو أحد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التي هي حقيقة وجوده كما جهز كل نوع من أنواع الخليقة بما يحفظ به وجوده و بقاءه.
و هذا الجهاز الإنساني يشخص له خيراته و منافعه، و يحذره من مواطن الشر و الضر.
و إذ كان هذه الهداية الإلهية التي يسوق النوع الإنسان إلى نحو سعادته و خيره و يندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين و في طور الخلقة، و من المحال أن يقع خطأ في التكوين، كان من الحتم الضروري أن يدرك الإنسان سعادة وجوده إدراكا لا يقع فيه شك كما أن سائر الأنواع المخلوقة تسير إلى ما فيه خير وجوده و منافع شخصه من غير أن يسهو فيه من حيث فطرته، و إنما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل و أسباب أخر مضادة تؤثر فيه أثرا مخالفا ينحرف فيه الشيء عما هو خير له إلى ما هو شر، و عما فيه نفعه إلى ما فيه ضرر يعود إليه، و ذلك كالجسم الثقيل الأرضي الذي يستقر بحسب الطبيعة الأرضية على بسيط الأرض ثم إنه يبتعد عن الأرض بالحركة إلى جهة العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقره بالحركة نحو الأرض على استقامة إلا أن يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامي إلى انحراف و اعوجاج.
و هذا هو الذي يصر عليه القرآن الكريم أن الإنسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم و عمل، و أنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد و العمل قال تعالى: {فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ} الروم: ٣٠«و قال تعالى {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى } إلى أن قال {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ اَلذِّكْرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَ يَتَجَنَّبُهَا اَلْأَشْقَى} الأعلى: ١١ و قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} الشمس: ١٠.
نعم ربما أخطأ الإنسان طريق الحق في اعتقاد أو عمل و خبط في مشيته لكن لا لأن الفطرة الإنسانية و الهداية الإلهية أوقعته في ضلالة و أوردته في تهلكة بل لأنه أغفل عقله و نسي رشده و اتبع هوى نفسه و ما زينه جنود الشياطين في عينه، قال
تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ اَلْهُدى} النجم: ٢٣ و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى عِلْمٍ} الجاثية: ٢٣.
فهذه الأمور التي تدعو إليها الفطرة الإنسانية من حق العلم و العمل لوازم الحياة السعيدة الإنسانية و هي الحياة الحقيقية التي بالحري أن تختص باسم الحياة و الحياة السعيدة تستتبعها كما أنها تستلزم الحياة و تستتبعها و تعيدها إلى محلها لو ضعفت الحياة في محلها بورود ما يضادها و يبطل رشد فعلها.
فإذا انحرف الإنسان عن سوي الصراط الذي تهديه إليه الفطرة الإنسانية و تسوقه إليه الهداية، الإلهية فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع و العمل الصالح، و لحق بحلول الجهل و فساد الإرادة الحرة و العمل النافع بالأموات و لا يحييه إلا علم حق و عمل حق، و هما اللذان تندب إليهما الفطرة و هذا هو الذي تشير إليه الآية التي نبحث عنها: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
و اللام في قوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}. بمعنى إلى، و هو شائع في الاستعمال، و الذي يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الدين الحق و هو الإسلام الذي يفسره القرآن الكريم باتباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع و عمل صالح.
و للحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدق مما نراه بحسب النظر السطحي الساذج فإنا إنما نعرف من الحياة في بادئ النظر ما يعيش به الإنسان في نشأته الدنيوية إلى أن يحل به الموت، و هي التي تصاحب الشعور و الفعل الإرادي، و يوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الإنسان أيضا من سائر الأنواع الحيوانية لكن الله سبحانه يقول: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت: ٦٤ و يفيد ذلك أن الإنسان متمتع بهذه الحياة غير مشتغل إلا بالأوهام، و أنه مشغول بها عما هو أهم و أوجب من غايات وجوده و أغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه و بين حقيقة ما يطلبه و يبتغيه من الحياة.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى و هو من خطابات يوم القيامة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق: ٢٢.
فللإنسان حياة أخرى أعلى كعبا و أغلى قيمة من هذه الحياة الدنيوية التي يعدها الله سبحانه لعبا و لهوا، و هي الحياة الأخروية التي سينكشف عن وجهها الغطاء، و هي الحياة التي لا يشوبها اللعب و اللهو، و لا يدانيها اللغو و التأثيم، لا يسير فيها الإنسان إلا بنور الإيمان و روح العبودية قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ و قال تعالى: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} الأنعام: ١٢٢.
فهذه حياة أخرى أرفع قدرا و أعلى منزلة من الحياة الدنيوية العامة التي ربما شارك فيها الحيوان العجم الإنسان، و يظهر من أمثال قوله تعالى: {وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ} البقرة: ٢٥٣ و قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} (الآية) الشورى: ٥٢ أن هناك حياة أخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث عنها فيما يناسبها من المورد إن شاء الله.
و بالجملة فللإنسان حياة حقيقية أشرف و أكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس بها إذا تم استعداده بالتحلي بحلية الدين و الدخول في زمرة الأولياء الصالحين كما تلبس بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها و هو جنين إنساني.
و على ذلك ينطبق قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فالتلبس بما تندب إليه الدعوة الحقة من الإسلام يجر إلى الإنسان هذه الحياة الحقيقية كما أن هذه الحياة منبع ينبع منه الإسلام و ينشأ منه العلم النافع و العمل الصالح، و في معنى هذه الآية قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل: ٩٧.
و الآية أعني قوله فيها: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} مطلق لا يأبى الشمول لجميع دعوته (صلى الله عليه وآله و سلم) المحيية للقلوب، أو بعضها الذي فيه طبيعة الإحياء أو لنتائجها التي هي أنواع الحياة السعيدة الحقيقية كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الآخرة.
و من هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الآية بما قيدها به أكثر المفسرين فقد قال بعضهم: إن المراد بقوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} بالنظر إلى مورد النزول: إذا دعاكم إلى الجهاد إذ فيه إحياء أمركم و إعزاز دينكم.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوكم فإن الله سبحانه عد الشهداء أحياء كما في قوله: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} آل عمران: ١٦٩.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى الإيمان فإنه حياة القلب و الكفر موته أو إذا دعاكم إلى الحق.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن و العلم في الدين لأن العلم حياة و الجهل موت و القرآن نور و حياة و علم.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة و النعمة الباقية الأبدية.
و هذه الوجوه المذكورة يقبل كل واحد منها انطباق الآية عليه غير أن الآية كما عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عما لها من المعنى الوسيع.
قوله تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الحيلولة هي التخلل وسطا، و القلب العضو المعروف. و يستعمل كثيرا في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به الإنسان و يظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب و البغض و الخوف و الرجاء و التمني و القلق و نحو ذلك فالقلب هو الذي يقضي و يحكم، و هو الذي يحب شيئا و يبغض آخر، و هو الذي يخاف و يرجو و يتمنى و يسر و يحزن، و هو في الحقيقة النفس الإنسانية تفعل بما جهزت به من القوى و العواطف الباطنة.
و الإنسان كسائر ما أبدعه الله من الأنواع التي هي أبعاض عالم الخلقة مركب من أجزاء شتى مجهز بقوى و أدوات تابعة لوجوده يملكها و يستخدمها في مقاصد وجوده، و الجميع مربوطة به ربطا يجعل شتات الأجزاء و الأبعاض على كثرتها و تفاريق القوى و الأدوات على تعددها، واحدا تاما يفعل و يترك، و يتحرك و يسكن، بوحدته و فردانيته.
غير أن الله سبحانه لما كان هو المبدع للإنسان و هو الموجد لكل واحد واحد من أجزاء وجوده و تفاريق قواه و أدواته كان هو الذي يحيط به و بكل واحد من أجزاء وجوده و توابعه، و يملك كلا منها بحقيقة معنى الملك يتصرف فيه كيف يشاء، و يملك الإنسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسط الحائل بين الإنسان و بين كل
جزء من أجزاء وجوده و كل تابع من توابع شخصه: بينه و بين قلبه، بينه و بين سمعه، بينه و بين بصره، بينه و من بدنه، بينه و بين نفسه. يتصرف فيها بإيجادها، و يتصرف فيها بتمليك الأسنان ما شاء منها كيف شاء، و إعطائه ما أعطي، و حرمانه ما حرم.
و نظير الإنسان في ذلك سائر الموجودات فما من شيء في الكون و له ذات و توابع ذات من قوى و آثار و أفعال إلا و الله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة لذاته و لتوابع ذاته، و هو المملك إياه كلا من ذاته و توابع ذاته فهو الحائل المتوسط بينه و بين ذاته و بينه و بين توابع ذاته من قواه و آثاره و أفعاله.
فالله سبحانه هو الحائل المتوسط بين الإنسان و بين قلبه و كل ما يملكه الإنسان و يرتبط و يتصل هو به نوعا من الارتباط و الاتصال و هو أقرب إليه من كل شيء كما قال تعالى: {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ} ق: ١٦.
و إلى هذه الحقيقة يشير قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فهو تعالى لكونه مالكا لكل شيء و من جملتها الإنسان ملكا حقيقيا لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتى من نفسه و قوى نفسه التي يملكها لأنه سبحانه هو الذي يملكه إياها فهو حائل متوسط بينه و بينها يملكه إياها و يربطها به فافهم ذلك.
و لذلك عقب الجملة بقوله: {وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فإن الحشر و البعث هو الذي ينجلي عنده أن الملك الحق لله وحده لا شريك له، و يبطل عند ذلك كل ملك صوري و سلطنة ظاهرية إلا ملكه الحق جل ثناؤه كما قال سبحانه: {لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} المؤمن: ١٦، و قال: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الإنفطار: ١٩.
فكأن الآية تقول: و اعلموا أن الله هو المالك بالحقيقة لكم و لقلوبكم و هو أقرب إليكم من كل شيء، و أنه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم و سلطانه عليكم يومئذ فلا يغني عنكم منه شيء.
و أما اتصال الكلام أعني ارتباط قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} إلخ بقوله: {اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فلأن حيلولته سبحانه بين المرء و قلبه، يقطع منبت كل عذر في عدم استجابته لله و الرسول إذا دعاه لما
يحييه، و هو التوحيد الذي هو حقيقة الدعوة الحقة فإن الله سبحانه لما كان أقرب إليه من كل شيء حتى من قلبه الذي يعرفه بوجدانه قبل كل شيء، فهو تعالى وحده لا شريك له أعرف إليه من قلبه الذي هو وسيلة إدراكه و سبب أصل معرفته و علمه.
فهو يعرف الله إلها واحدا لا شريك له قبل معرفته قلبه و كل ما يعرفه بقلبه، فمهما شك في شيء أو ارتاب في أمر فلن يشك في إلهه الواحد الذي هو رب كل شيء و لن يضل في تشخيص هذه الكلمة الحقة.
فإذا دعاه داعي الحق إلى كلمة الحق و دين التوحيد الذي يحييه لو استجاب له، كان عليه أن يستجيب داعي الله فإنه لا عذر له في ترك الاستجابة معللا بأنه لم يعرف حقية ما دعي إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الإقبال على الحق الصريح فإن الله سبحانه هو الحق الصريح الذي لا يحجبه حاجب، و لا يستره ساتر إذ كل حجاب مفروض فالله سبحانه أقرب منه إلى الإنسان، و كل ما يختلج في القلب من شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسط متخلل بينه مع ما له من ظرف و هو القلب و بين الإنسان فلا سبيل للإنسان إلى الجهل بالله و الشك في توحده.
و أيضا فإن الله سبحانه لما كان حائلا بين المرء و قلبه فهو أقرب إلى قلبه منه كما أنه أقرب إليه من قلبه فإن الحائل المتوسط أقرب إلى كل من الطرفين من الطرف الآخر و إذا كان تعالى أقرب إلى قلب الإنسان منه فهو أعلم بما في قلبه منه.
فعلى الإنسان إذا دعاه داعي الحق إلى ما يحييه من الحق أن يستجيب دعاءه بقلبه كما يستجيبه بلسانه، و لا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لباه بلسانه و هو النفاق فإن الله أعلم بما في قلبه منه و سيحشر إليه فينبئه بحقيقة عمله و يخبره بما طواه في قلبه قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفى عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} المؤمن: ١٦، و قال: {وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً} النساء: ٤٢.
و أيضا فإن الله سبحانه لما كان هو الحائل بين الإنسان و قلبه و هو المالك للقلب بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرف في القلب قبل الإنسان و له أن يتصرف فيه بما شاء فما يجده الإنسان في قلبه من إيمان أو شك أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو قلق و اضطراب أو غير ذلك مما ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه
تعالى بتصرفه فيما هو أقرب إليه من كل شيء تصرفا بالتوفيق أو الخذلان أو أي نوع من أنواع التربية الإلهية، يتصرف بما شاء و يحكم بما أراد من غير أن يمنعه مانع أو يهدده ذم أو لوم كما قال تعالى: {وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} الرعد: ٤١، و قال تعالى: {لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} التغابن: ١.
فمن الجهل أن يثق الإنسان بما يجد في قلبه من الإيمان بالحق أو التلبس بنية حسنة أو عزيمة على خير أو هم بصلاح و تقوى، بمعنى أن يرى استقلاله بملك قلبه و قدرته المطلقة على ما يهم به فإن القلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء و هو المالك له بحقيقة معنى الملك و المحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: {وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الأنعام: ١١٠، فمن الواجب عليه أن يؤمن بالحق و يعزم على الخير على مخافة من الله تعالى أن يقلبه من السعادة إلى الشقاء و يحول قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس و الانحراف، و لا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
و كذلك الإنسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحق و العزم على الخير و صالح العمل، عليه أن يبادر إلى استجابة الله و رسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، و لا ينهزم عما يهجم عليه من أسباب اليأس و عوامل القنوط من ناحية قلبه فإن الله سبحانه يحول بين المرء و قلبه، و هو القادر على أن يصلح سره و يحول قلبه إلى أحسن حال و يشمله بروح منه و رحمة فإنما الأمر إليه، و قد قال: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ} يوسف: ٨٧، و قال: {وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ} الحجر: ٥٦.
فالآية الكريمة - كما ترى - من أجمع الآيات القرآنية تشتمل على معرفة حقيقية من المعارف الإلهية - مسألة الحيلولة - و هي تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه من الكفار و المشركين، و تقلع غرة النفاق من أصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام ربهم و أنه أعلم بما في قلوبهم منهم، و يلقي إلى المسلمين و الذين هم في طريق الإيمان بالله و آياته مسألة نفسية تعلمهم أنهم غير مستقلين في ملك قلوبهم و لا منقطعون في ذلك من ربهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمن يرى لنفسه استقلالا و سلطنة فيما يملكه فلا يغره ما يشاهده من تقوى القلب و إيمان السر، و رذيلة اليأس و القنوط عمن يحيط بقلبه
دواهي الهوى و دواعي أعراض الدنيا فيتثاقل عن الإيمان بالحق و الإقبال على الخير، و يورثه ذلك اليأس و القنوط.
و مما تقدم يظهر أن قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} إلخ تعليل لقوله تعالى: {اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} على جميع التقادير من وجوه معناه.
و بذلك يظهر أيضا أن الآية أوسع معنى مما أورده المفسرون من تفسيرها: كقول من قال: إن المراد أن الله سبحانه أقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ}، و فيه تحذير شديد.
و قول من قال: إن المراد أن القلب لا يستطيع أن يكتم الله حديثا فإن الله أقرب إلى قلب الإنسان من نفسه، فما يعلمه الإنسان من قلبه يعلمه الله قبله.
و قول من قال: إن المراد أنه يحول بين المرء و بين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة و دعوا التسويف، و فيه حث على الطاعة قبل حلول المانع.
و قول من قال: معناه أن الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه أنه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم و بين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف.
و قد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بذلك أن الله سبحانه يحول بين الإنسان و بين أن يعلم أن الحق باطل أو أن الباطل حق، و سيجيء في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} قرأ علي و الباقر (عليهما السلام) من أئمة أهل البيت و كذا زيد بن ثابت و الربيع بن أنس و أبو العالية على ما في المجمع: لتصيبن باللام و نون التأكيد الثقيلة، و القراءة المشهورة: لا تصيبن بلا الناهية و نون التأكيد الثقيلة.
و على أي تقدير كان، تحذر الآية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم، و لا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار و المشركين، و اختصاصها بالظالمين من المؤمنين و أمر
عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على أنها و إن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيئ من أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} تهديد للجميع بالعقاب الشديد و لا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا و كونه من العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية و شيوع القتل و الفساد و ارتفاع الأمن و السلام و نحو ذلك.
و مقتضى ذلك أن تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب على عامة الأمة أن يبادروا على دفعها، و يقطعوا دابرها و يطفئوا لهيب نارها بما أوجب الله عليهم من النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف.
فيئول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم و توجب شق عصاهم و اختلاف كلمتهم، و لا تلبث دون أن تحزبهم أحزابا و تبعضهم أبعاضا، و و يكون الملك لمن غلب منهم، و الغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق و الدين الحنيف الذي يشترك فيه عامة المسلمين.
فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة و هم الظالمون غير أن سيئ أثره يعم الكل و يشمل الجميع فيستوعبهم الذلة و المسكنة و كل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، و هم جميعا مسئولون عند الله و الله شديد العقاب.
و قد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة و لم يعرفها بكمال اسمها و رسمها غير أن قوله فيما بعد: {لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} و قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} - كما تقدم - يوضحها بعض الإيضاح، و هو أنها اختلاف البعض من الأمة مع بعض منها في أمر يعلم جميعه وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق و يقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه و لا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، و ليس كل ظلم، بل الظلم الذي يسري سوء أثره إلى كافة المؤمنين و عامة الأمة لمكان أمره سبحانه الجميع باتقائه، فالظلم الذي هو لبعض الأمة و يجب على الجميع أن يتقوه ليس إلا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الإسلامية، و التظاهر بهدم القطعيات من الكتاب و السنة التي هي من حقوقها.
و أيا ما كان ففي الفتن الواقعة في صدر الإسلام ما ينطبق عليه الآية أوضح
انطباق و قد انهدمت بها الوحدة الدينية، و بدت الفرقة و نفدت القوة، و ذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل و السبي و النهب و هتك الأعراض و الحرمات و هجر الكتاب و إلغاء السنة، و قال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
و من شمول مشامتها و تعرق فسادها أن الأمة لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم و تفريطهم في جنب الله كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق.
و قد تفطن بعض المفسرين بأن الآية تحذر الأمة و تهددهم بفتنة تشمل عامتهم و تفرق جمعهم، و تشتت شملهم، و توعدهم بعذاب الله الشديد، و قد أحسن التفطن غير أنه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي، و تمحل في تقييد ما في الآية من إطلاق العقاب، و أنى لهم التناوش من مكان بعيد.
و لنرجع إلى لفظ الآية:
أما على قراءة أهل البيت (عليهم السلام) و زيد: «و اتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» فاللام في «لتصيبن» للقسم و النون الثقيلة لتأكيده، و التقدير: و اتقوا فتنة أقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، و خاصة حال من الفتنة، و المعنى اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون و هم الذين آمنوا، و عليك أن تتذكر ما سلفبيانه أن لفظ: {اَلَّذِينَ آمَنُوا} في القرآن خطاب تشريفي للمؤمنين في أول البعثة و بدء انتشار الدعوة لو لا قرينة صارفة عن ذلك، ثم تذكر أن فتن صدر الإسلام تنتهي إلى أصحاب بدر، و الآية على أي حال يأمر الجميع أن يتقوا فتنة تثيرها بعضهم، و ليس إلا لأن أثرها السيئ يعم الجميع كما تقدم.
و أما على قراءة المشهور: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فقد ذكروا: أن لا في {لاَ تُصِيبَنَّ} ناهية و النون لتأكيد النهي، و ليس {لاَ تُصِيبَنَّ} جوابا للأمر في {اِتَّقُوا} بل الكلام جار مجرى الابتداء و الاستيناف كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ} النمل: ١٨ فقد قال أولا: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً} ثم استأنف و قال: {لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} لاتصال الجملتين معنى.
و ربما جوز بعض النحاة أن يكون {لاَ تُصِيبَنَّ} نهيا واردا في جواب الأمر كما يقال: اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك و التقدير: اتق زيدا فإنك إن اتقيته لا يضربك و لم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.
و ربما قال بعضهم: إن لا زائدة و المعنى: اتقوا فتنة تصيبن الآية.
و ربما ذكر آخرون: أن أصل {لاَ تُصِيبَنَّ} «لتصيبن» أشبعت فتحة اللام حتى تولدت الألف، و إشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال:
فأنت من الغوائل حين ترمي | *** | و من ذم الرجال بمنتزاح |
يريد: بمنتزح، و الوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.
و مآل المعنى على هذا الوجه أي على قراءة {لاَ تصِيبَنَّ} أيضا إلى ما تفيده القراءة الأولى «لتصيبن» كما عرفت.
و الآية - كما عرفت - تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الأمة و ذلك يؤيد كون الخطاب في الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين، و يتفرع عليه أن المراد بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله و إقامة الدين و عدم التفرق فيه كما قال: {وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا} آل عمران: ١٠٣ و قال: {أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الشورى: ١٣ و قوله: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: ١٥٣.
و بهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} و كذا في قوله: {أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} و تختص الآية به بحسب السياق و إن كانت تفيد معنى أوسع من ذلك باعتبار أخذها في نفسها مفردة عن السياق، و الباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك و الله الهادي.
قوله تعالى: {وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ} إلى آخر الآية. الاستضعافعد الشيء ضعيفا بتوهين أمره، و التخطف و الخطف و الاختطاف أخذ الشيء بسرعة انتزاع، و الإيواء جعل الإنسان ذا مأوى و مسكن يرجع إليه و يأوي، و التأييد من الأيد و هو القوة.
و السياق يدل على أن المراد بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ} الزمان الذي كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة و هم قليل مستضعفون، و بقوله: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ} مشركو العرب و صناديد قريش، و بقوله {فَآوَاكُمْ} أي بالمدينة و بقوله {وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} ما أسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، و بقوله: {وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ} ما رزقهم من الغنائم و أحلها لهم.
و ما عده في الآية من أحوال المؤمنين و مننه عليهم بالإيواء و إن كانت مما يختص بالمهاجرين منهم دون الأنصار إلا أن المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين و الأنصار فإنهم أمة واحدة يوحدهم دين واحد. على أن فيما ذكره الله في الآية من مننه التأييد بالنصر و الرزق من الطيبات و هما يعمان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الآية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر، و لكن هي وحدها و باعتبار نفسها تعم جميع المسلمين من حيث إنهم أمة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدا ظهور الإسلام فيهم و هم قليل مستضعفون بمكة يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة و كثرهم بالأنصار و أيدهم بنصره في بدر و غيره و رزقهم من جميع الطيبات الغنائم و غيرها من سائر النعم لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى آخر الآيتين. الخيانة نقض الأمانة التي هي حفظ الأمن لحق من الحقوق بعهد أو وصية و نحو ذلك، قال الراغب: الخيانة و النفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، و نقيض الخيانة الأمانة يقال: خنت فلانا، و خنت أمانة فلان و على ذلك قوله: {لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ}. انتهى.
و قوله: {وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} من الجائز أن يكون مجزوما معطوفا على تخونوا السابق، و المعنى: و لا تخونوا أماناتكم، و أن يكون منصوبا بحذف أن و التقدير: و أن تخونوا أماناتكم و يؤيد الوجه الثاني قوله بعده: {وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
و ذلك أن الخيانة و إن كانت إنما يتعلق النهي التحريمي بها عند العلم فلا نهي مع جهل بالموضوع و لا تحريم غير أن العلم من الشرائط العامة التي لا ينجز تكليف من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهي عن الخيانة بالعلم مع
أن العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره، و ظاهر قوله: {وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بحذف متعلقات الفعل أن المراد: و لكم علم بأنه خيانة لا ما قيل: إن المعنى: و أنتم تعلمون مفاسد الخيانة و سوء عاقبتها و تحريم الله إياها فإن ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ و لا من جهة السياق.
فالوجه أن تكون الجملة بتقدير: و أن تخونوا أماناتكم، و يكون مجموع قوله: {لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة أمانة الله و رسوله و هي بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم فإن من الأمانة ما هي أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده و منها ما هي أمانة الرسول كسيرته الحسنة، و منها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أو أسرارهم، و منها ما يشترك فيه الله و رسوله و المؤمنون، و هي الأمور التي أمر بها الله سبحانه و أجراها الرسول و ينتفع بها الناس و يقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار السياسية و المقاصد الحربية التي تضيع بإفشائها آمال الدين و تضل بإذاعتها مساعي الحكومة الإسلامية فيبطل به حق الله و رسوله و يعود ضرره إلى عامة المؤمنين.
فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانة لله و رسوله و للمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله و الرسول و هو يعلم أن هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه و لسائر إخوانه المؤمنين و هو يخون أمانة نفسه، و لن يقدم عاقل على الخيانة لأمانة نفسه فإن الإنسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للأمانة فكيف يخون أمانة نفسه.
فالمراد بقوله: {وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} و الله أعلم و تخونوا في ضمن خيانة الله و الرسول أماناتكم و الحال أنكم تعلمون أنها أمانات أنفسكم و تخونونها، و أي عاقل يقدم على خيانة أمانة نفسه و الإضرار بما لا يعود إلا إلى شخصه فتذييل النهي بقوله: {وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لتهييج العصبية الحقة و إثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.
فكأن بعض أفراد المسلمين كان يفشي أمورا من عزائم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض أسراره فسماه الله تعالى خيانة و نهى عنه، و عدها خيانة لله و الرسول و المؤمنين.
و يؤيد ذلك قوله بعد هذا النهي: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} إلخ
فإن ظاهر السياق أنه متصل بما قبله غير مستقل عنه، و يفيد حينئذ أن موعظتهم في أمر الأموال و الأولاد مع النهي عن خيانة الله و الرسول و أماناتهم إنما هو لإخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة أن يتعدوا على أموالهم و أولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالأخبار إلقاء للمودة و استبقاء للمال و الولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من أبي لبابة مع بني قريظة.
و هذا يؤيد ما ورد في سبب النزول أن أبا سفيان خرج من مكة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بخروجه و أشار عليه بالخروج إليه و كتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} و في نزول الآية بعض أحاديث أخر سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي التالي.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ} الفرقان ما يفرق به بين الشيء و الشيء، و هو في الآية بقرينة السياق و تفريعه على التقوى الفرقان بين الحق و الباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الإيمان و الكفر و كل هدى و ضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة و المعصية و كل ما يرضي الله أو يسخطه، أو في الرأي و النظر بالفصل بين الصواب و الخطإ فإن ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، و قد أطلق الفرقان في الآية و لم يقيده قد عد جمل الخير و الشر في الآيات السابقة و الجميع يحتاج إلى الفرقان.
و نظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى: {وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} و قد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات و المغفرة، و الآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر و النواهي التي تتضمنها الآيات السابقة أي إن تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضي الله في جميع ما تقدم بما يسخطه و يكفر عنكم سيئاتكم و يغفر لكم و الله ذو الفضل العظيم.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن عقيل الخزاعي: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن الرعب و الخوف من جهاد المستحق للجهاد و المتوازرين على الضلال، ضلال في الدين و سلب للدنيا مع الذل و الصغار، و فيه استيجاب النار بالفرار من الزحف
عند حضرة القتال يقول الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبَارَ}
و في الفقيه و العلل، بإسناده عن ابن شاذان: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، و الاستخفاف بالرسل و الأئمة العادلة، و ترك نصرتهم على الأعداء، و العقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية و إظهار العدل، و ترك الجور و إماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، و ما يكون في ذلك من السبي و القتل و إبطال دين الله عز و جل و غيره من الفساد.
أقول: و قد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، و قد تقدم طرف منها في البحث عن الكبائر في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} النساء: ٣١ في الجزء الرابع من الكتاب.
و على ذلك روايات من طرق أهل السنة كما في صحيحي البخاري، و مسلم، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: و ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و السحر و أكل الربا و أكل مال اليتيم و التولي يوم الزحف و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، و هناك روايات أخرى عن ابن عباس و غيره تدل على كون الفرار من الزحف من الكبائر.
نعم قوله تعالى: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (الآية) يقيد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد.
و قد روي من طرقهم عن عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و ابن عباس و أبي هريرة و أبي سعيد الخدري و غيرهم كما في الدر المنثور :أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاص بيوم بدر.
و ربما وجه ذلك بأن الآية نزلت يوم بدر، و أن الظرف في قوله {وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إشارة إلى يوم بدر، و قد عرفت أن سياق الآيات يشهد بنزولها بعد يوم بدر، و أن المراد بقوله: {يَوْمَئِذٍ} هو يوم الزحف لا يوم بدر. على أنه لو
فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الآية شيئا كما في سائر الآيات التي جمعت بين عموم الدلالة و خصوص السبب.
قال صاحب المنار في تفسيره: و إنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام لو انهزم فيها المسلمون و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم لكانت الفتنة كبيرة. و تأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم، و وعده تعالى بنصرهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص و قرينة الحال في النهي اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها. أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رض بالتولي و الإدبار في القتال مرتين مع وجوده (صلى الله عليه وآله و سلم) معهم: يوم أحد و فيه يقول الله تعالى: ٣:١٥٥ {إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} و يوم حنين، و فيه يقول الله تعالى ٩:٢٥ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ٢٦ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} إلخ، و هذا لا ينافي كون التولي حراما و من الكبائر، و لا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله و مأواه جهنم و بئس المصير بل قد يكون دون ذلك، و يتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، و بالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة و سيأتي تفصيله قريبا.
و قد روى أحمد و أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال : «كنت في سرية من سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فحاص الناس حيصة و كنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع و قد فررنا من الزحف و بؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا؟ ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ فإن كان لنا توبة و إلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون إنا فئتكم و فئة المسلمين. قال: فأتينا حتى قبلنا يده.
«و لفظ أبي داود» فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب و لا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن كانت لنا توبة أقمنا و إن كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون إلخ.
تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى و لا للغة حكم، و قد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد أقول: و هو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، و قال ابن حبان كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه و تغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح، و جملة القول: أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا و لا سندا، و في معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة. انتهى.
أقول: و الذي نقله في أول كلامه من الوجوه و القرائن المحتفة بغزوة بدر من كونه أول غزوة في الإسلام، و كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهم و نحو ذلك مشتركة بحسب حقيقة الملاك بينها و بين أمثال غزوة أحد و الخندق و خيبر و حنين، و الإسلام أيامئذ في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين و ثباتهم في الزحوف، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهم، و الله وعدهم بالنصر و أنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
و الذي ذكره من الآيات النازلة في فرارهم يوم أحد و يوم حنين لا دلالة فيها على عدم شمول وعيد آية الأنفال لهم إذ ذاك و أي مانع يمنع من ذلك و الآية مطلقة و ليس هناك مقيد يقيدها.
و من العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرمة ثم قوله: إن ذلك لا يقتضي كونه مما يبوء صاحبه بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير بل قد يكون دون ذلك مع أن الكبائر الموبقة هي المعاصي التي أوعد الله عليها النار.
و أعجب منه قوله: إنه يتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، و بالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها! مع أن آية رخصة الضعف إنما تدل على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الأعداء على الضعف.
و آية النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلت بعمومها على أزيد مما يدل عليه
آية رخصة الضعف لغت آية الأنفال و بقيت بلا مصداق كما أن التأول في قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ} على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الآية كما ذكره صاحب المنار فقد تلخص أن لا مناص عن إبقاء الآية على ظاهر إطلاقها.
و في تفسير العياشي، عن موسى بن جعفر (عليه السلام): في الآية: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} قال: متطردا يريد الكرة عليهم {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ} يعني متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، من انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله.
أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمة في لفظ الآية، و هي أن النهي إنما تعلقت في الآية على تولي الأدبار و هي أعم من الانهزام فإذا استثني الموردان أعني التحرف لقتال و التحيز إلى فئة و هي غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت النهي فكل انهزام عن أعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عددا حرام محرم.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الثعلبي عن ضحاك عن عكرمة عن ابن عباس: في قوله تعالى: {وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لعلي: ناولني كفا من حصى و ناوله و رمى به في وجوه قريش فما بقي أحد إلا امتلأت عيناه من الحصى.
أقول: و رواه في الدر المنثور عن الطبراني و أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس و روى العياشي في تفسيره حديث المناولة عن محمد بن كليب الأسدي عن أبيه عن الصادق (عليه السلام) و في خبر آخر عن علي (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس و محمد بن كعب (رضي الله عنهما) قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، و قال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلهم، و أقبل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقتلونهم، و كانت هزيمتهم في رمية رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: {وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } - إلى قوله - {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
أقول: و المراد بنزول الآية نزولها بعد ذلك و هي تقص القصة لا نزولها وقتئذ، و هو شائع في أسباب النزول. و قد ذكر ابن هشام في سيرته: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رماهم بالتراب ثم أمر أصحابه بالكرة فكانت الهزيمة.
و فيه أخرج ابن أبي الشيبة و أحمد و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن منده و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير:أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ اَلْفَتْحُ} (الآية).
و في المجمع: في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ} (الآية) قال قال الباقر (عليه السلام): هم بنو عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير و حليف لهم يقال له: سويبط.
و في جامع الجوامع: قال الباقر (عليه السلام): هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير و سويد بن حرملة، و كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد و قد قتلوا جميعا بأحد و كانوا أصحاب اللواء.
أقول: و روي في الدر المنثور ما في معناه بطرق عن ابن عباس و قتادة، و الرواية من قبيل الجري و الانطباق، و الآية عامة.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الآية). قال: قال الحياة الجنة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال: نزلت في ولاية علي (عليه السلام).
أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الإمام محمد بن علي الباقر، (عليه السلام) و كذا عن أبي الجارود عنه (عليه السلام) كما رواه القمي في تفسيره، و الرواية من قبيل الجري و كذا الرواية السابقة عليها و قد قدمنا في الكلام على الآية أنها عامة.
و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} يقول: بين المرء و معصيته أن يقوده إلى النار، و يحول بين الكافر و طاعته أن يستكمل بها الإيمان، و اعلموا أن الأعمال بخواتيمها.
و في المحاسن، بإسناده عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} قال: يحول بينه و بين أن يعلم أن الباطل حق.
أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن يونس بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا، و لا يستيقن أن الباطل حق أبدا.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن هذه الآية: {يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} قال: يحول بين المؤمن و الكفر، و يحول بين الكافر و بين الهدى.
أقول: و هو قريب من الخبر المتقدم عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في معنى الآية.
و في تفسير العياشي، عن حمزة الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام): {وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ} قال: هو أن يشتهي الشيء بسمعه و بصره و لسانه و يده أما إنه لا يغشى شيئا منها و إن كان يشتهيه فإنه لا يأتيه إلا و قلبه منكر لا يقبل الذي يأتي يعرف أن الحق ليس فيه:
أقول: و رواه البرقي في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيار عنه (عليه السلام) و روى ما يقرب منه العياشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، و يئول معنى الرواية إلى الروايتين المتقدمتين عن هشام بن سالم و يونس بن عمار عن الصادق (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن الصيقل: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} قال: أخبرت أنهم أصحاب الجمل.
و في تفسير القمي، قال: قال :نزلت في الطلحة و الزبير لما حاربا أمير المؤمنين (عليه السلام) و ظلماه.
و في المجمع عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً} قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي و نبوة الأنبياء من قبلي.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و نعيم بن حماد في الفتن و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن الزبير (رضي الله عنه) قال :لقد قرأنا زمانا و ما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها: {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.
و فيه أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن السدي في الآية قال :هذه نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة و الزبير و هما من أهل بدر.
و فيه أخرج أحمد و البزاز و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن عساكر عن مطرف قال :قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير (رضي الله عنه): إنا قرأنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبي بكر و عمر و عثمان (رضي الله عنهم) {وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} و لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
و فيه أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ عن قتادة (رضي الله عنه) في الآية قال: علم و الله ذوو الألباب من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه سيكون فتن.
و فيه: أخرج أبو الشيخ و أبو نعيم و الديلمي في مسند الفردوسي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: {وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ} قيل: يا رسول الله و من الناس؟ قال: أهل فارس.
أقول: و الرواية لا تلائم سياق الآية.
و فيه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ} (الآية)أخرج ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) :أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا و كذا فاخرجوا إليه و اكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله: {لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ} (الآية).
أقول: و معنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الآية في البيان المتقدم.
و فيه أخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان (رضي الله عنه).
أقول: و الآية لا تنطبق عليه بسياقها البتة.
و في المجمع عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) و الكلبي و الزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حاصر يهود قريظة إحدى و عشرين ليلة فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحات من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم لأن عياله و ماله و ولده كانت عندهم فبعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل فأخبره بذلك.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله و رسوله فنزلت الآية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد، و قال: و الله لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما و لا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال: لا و الله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني فجاءه و حله بيده.
ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب و إن انخلع من مالي. فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يجزيك الثلث أن تصدق به.
أقول: قصة أبي لبابة و توبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الآيتين غير أنها وقعت بعد قصة بدر بكثير، و ظاهر الآيتين إذا اعتبرتا و قيستا إلى الآيات السابقة عليهما أن الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل. و الله أعلم.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٣٠الی ٤٠]
{وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٣١ وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣٢ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ٣٣ وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٤ وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ٣٥ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ٣٦ لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٣٧ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ ٣٨ وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٣٩ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ ٤٠}
(بيان)
الآيات في سياق الآيات السابقة و هي متصلة بها و منعطفة على آيات أول السورة إلا قوله: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ} (الآية) و الآية التي تليها، فإن ظهور اتصالها دون بقية الآيات، و سيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} إلى آخر الآية، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: ضرب محمود و ذلك أن يتحرى به فعل جميل و على ذلك قال: {وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ}، و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال: {وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}. {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا}. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}، و قال في الأمرين{: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنَا مَكْراً}، و قال بعضهم: من مكر الله إمهال العبد و تمكينه من أعراض الدنيا، و لذلك قال أمير المؤمنين (رضي الله عنه): من وسع عليه دنياه و لم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله. انتهى.
و في المجمع: الإثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، و أثبت الحرب أي جرحه جراحة مثقلة. انتهى.
و مقتضى سياق الآيات إن يكن قوله: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} (الآية) معطوفة على قوله سابقا: {وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فالآية مسوقة لبيان ما أسبغ الله عليهم من نعمته، و أيدهم به من أياديه التي لم يكن لهم فيها صنع.
و معنى الآية: و اذكر أو و ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما أن يحبسوك و إما أن يقتلوك و إما أن يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين.
و الترديد في الآية بين الحبس و القتل و الإخراجبيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضا في أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما كان يهمهم و يهتمون به من إطفاء نور دعوته، و بذلك يتأيد ما ورد من أسباب النزول أن الآية تشير إلى قصة دار الندوة على ما سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} إلى آخر الآية الأساطير الأحاديث جمع أسطورة و يغلب في الأخبار الخرافية، و قوله حكاية عنهم: {قَدْ سَمِعْنَا} و قوله: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا} و قوله: {مِثْلَ هَذَا} و لم يقل: مثل هذه أو مثلها كل ذلك للدلالة على إهانتهم بآيات الله و إزرائهم بمقام الرسالة، و نظيرها قولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ}.
و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا التي لا ريب في دلالتها على أنها من عندنا و هي تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحق لجوا و اعتدوا بها و هونوا أمرها و أزروا برسالتنا و قالوا قد سمعنا و عقلنا هذا الذي تلي علينا لا حقيقة له إلا أنه من أساطير الأولين، و لو نشاء لقلنا مثله غير أنا لا نعتني به و لا نهتم بأمثال هذه الأحاديث الخرافية.
قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} إلى آخر الآيتين. الإمطار هو إنزال الشيء من فوق، و غلب في قطرات الماء من المطر أو هو استعارة إمطار المطر لغيره كالحجارة و كيف كان فقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الآية السماوية و الإهلاك الإلهي محضا.
فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا أحد أقسام العذاب و يبقى الباقي تحت قولهم: {أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} و لذلك نكر العذاب و أبهم وصفه ليدل على باقي أقسام العذاب، و يفيد مجموع الكلام: أن أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما، و إنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن و عذاب الروح بما فيه من الذلة و الإهانة.
ثم قوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} يدل بلفظه على أن الذي سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله: «هذا هو الحق من عند الله» و فيه شيء من معنى الحصر، و هذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حق من عند الله فإن القول الثاني يواجه به الذي لا يرى دينا سماويا و نبوة إلهية كما كان يقوله المشركون و هم الوثنية: ما أنزل الله على بشر من شيء، و أما القول الأول فإنما يواجه به من يرى أن هناك دينا حقا من عند الله و رسالة إلهية يبلغ الحق من عنده ثم ينكر كون ما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بعض ما أتى به هو الحق من عند الله تعالى فيواجه بأنه هو
الحق من عند الله لا غيره ثم، يرد بالاشتراط في مثل قوله. اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
فالأشبه أن لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتفاقهم في الرأي أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنه حكاية عن بعض أهل الردة ممن أسلم ثم ارتد أو عن بعض أهل الكتاب المعتقدين بدين سماوي حق فافهم ذلك.
و يؤيد هذا الآية التالية لهذه الآية: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أما قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} فإن كان المراد به نفي تعذيب الله كفار قريش بمكة قبل الهجرة و النبي فيهم كان مدلوله أن المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهم، و المراد بالعذاب غير العذاب الذي جرى عليهم بيد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من القتل و الأسر كما سماه الله في الآيات السابقة عذابا و قال في مثلها: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} التوبة: ٥٢، بل عذاب الاستئصال بآية سماوية كما جرى في أمم الأنبياء الماضين لكن الله سبحانه هددهم بعذاب الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ} حم السجدة: ١٣، و كيف يلائم أمثال هذه التهديدات قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} لو كان المراد بالمعذبين هم كفار قريش و مشركو العرب ما دام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة.
و لو كان المراد بالمعذبين جميع العرب أو الأمة، و المراد بقوله: {وَ أَنْتَ فِيهِمْ} حياة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و المعنى: و لا يعذب الله هذه الأمة و أنت فيهم حيا كما ربما يؤيده قوله بعده: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} كان ذلك نفيا للعذاب عن جميع الأمة و لم يناف نزوله على بعضهم كما سمي وقوع القتل بهم عذابا كما في الآيات السابقة، و كما ورد أن الله تعالى عذب جمعا منهم كأبي لهب و المستهزءين برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و على هذا لا تشمل الآية القائلين: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} إلى آخر الآية و خاصة باعتبار ما روي أن القائل به أبو جهل كما في صحيح البخاري أو النضر بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات أخر و قد حقت عليهما كلمة العذاب و قتلا يوم بدر فلا ترتبط الآية: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} (الآية)، بهؤلاء القائلين: اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك الآية مع أنها مسوقة سوق الجواب عن قولهم.
و يشتد الإشكال بناء على ما وقع في بعض أسباب النزول أنهم قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} و سيجيء الكلام فيه و في غيره من أسباب النزول المروية في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و الذي تمحل به بعض المفسرين في توجيه مضمون الآية بناء على حملها على ما مر من المعنى أن الله سبحانه أرسل محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) رحمة للعالمين و نعمة لهذه الأمة لا نقمة و عذابا. فيه أنه ليس مقتضى الرحمة للعالمين أن يهمل مصلحة الدين، و يسكت عن مظالم الظالمين و إن بلغ ما بلغ و أدي إلى شقاء الصالحين و اختلال نظام الدنيا و الدين، و قد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله: {وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } و لم يمنع ذلك من حلول غضبه على من حل به من الأمم الماضية و القرون الخالية كما ذكره في كلامه.
على أنه تعالى سمى ما وقع على كفار قريش من القتل و الهلاك في بدر و غيره عذابا و لم يناف ذلك قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء: ١٠٧، و هدد هذه الأمة بعذاب واقع قطعي في سور يونس و الإسراء و الأنبياء و القصص و الروم و المعارج و غيرها و لم يناف ذلك كونه (صلى الله عليه وآله و سلم) رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب على شرذمة تفوهت بهذه الكلمة: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ} إلخ، ينافي قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نبي الرحمة مع أن من مقتضى الرحمة أن يوفى لكل ذي حق حقه، و أن يقتص للمظلوم من الظالم و أن يؤخذ كل طاغية بطغيانه.
و أما قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فظاهره النفي الاستقبالي على ما هو ظاهر الصفة: {مُعَذِّبَهُمْ} و كون قوله: {يَسْتَغْفِرُونَ} مسوقا لإفادة الاستمرار و الجملة حالية، و المعنى: و لا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه.
و الآية كيفما أخذت لا تنطبق على حال مشركي مكة و هم مشركون معاندون لا يخضعون لحق و لا يستغفرون عن مظلمة و لا جريمة، و لا يصلح الأمر بما ورد في بعض الآثار أنهم قالوا ما قالوا ثم ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم: «غفرانك اللهم».
و ذلك - مضافا إلى عدم ثبوته - أنه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين
و لا سيما أئمة الكفر منهم، و اللاغي من الاستغفار لا أثر له، و لو لم يكن استغفارهم لاغيا و ارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية لم يكن وجه لذمهم و تأنيبهم بقوله تعالى: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ} في سياق هذه الآيات المسوقة لذمهم و لومهم و عد جرائمهم و مظالمهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين.
على أن قوله تعالى بعد الآيتين: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} (الآية) لا يلائم نفي العذاب في هاتين الآيتين فإن ظاهر الآية أن العذاب المهدد به هو عذاب القتل بأيدي المؤمنين كما يدل عليه قوله بعده: {فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} و حينئذ فلو كان القائلون: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ} (الآية) مشركي قريش أو بعضهم و كان المراد من العذاب المنفي العذاب السماوي لم يستقم إنكار وقوع العذاب عليهم بالقتل و نحوه فإن الكلام حينئذ يئول إلى معنى التشديد: و محصله: أنهم كانوا أحق بالعذاب و لهم جرم آخر وراء ما أجرموه و هو الصد عن المسجد الحرام، و هذا النوع من الترقي أنسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم.
و إن كان المراد بالعذاب المنفي هو القتل و نحوه كان عدم الملاءمة بين قوله: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ} و قوله: {فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} و بين قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} إلخ، أوضح و أظهر.
و ربما وجه الآية بهذا المعنى بعضهم بأن المراد بقوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} عذاب أهل مكة قبل الهجرة، و بقوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} عذاب الناس كافة بعد هجرته (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة و إيمان جمع و استغفارهم و لذا قيل: إن صدر الآية نزلت قبل الهجرة، و ذيلها بعد الهجرة!.
و هو ظاهر الفساد فإن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما كان فيهم بمكة قبل الهجرة كان معه جمع ممن يؤمن بالله و يستغفره، و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص صدر الآية بقوله: {وَ أَنْتَ فِيهِمْ} و ذيلها بقوله: {وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
و لو فرض أن معنى الآية أن الله لا يعذب هذه الأمة ما دمت فيهم ببركة وجودك، و لا يعذبهم بعدك ببركة استغفارهم لله و المراد بالعذاب عذاب الاستئصال لم يلائم الآيتين التاليتين: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ} إلخ مع ما تقدم من الإشكال عليه.
فقد ظهر من جميع ما تقدم - على طوله - أن الآيتين أعني قوله: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} إلى آخر الآيتين لا تشاركان الآيات السابقة و اللاحقة المسرودة في الكلام على كفار قريش في سياقها الواحد فهما لم تنزلا معها.
و الأقرب أن يكون ما حكي فيهما من قولهم و الجواب عنه بقوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} غير مرتبط بهم و إنما صدر هذا القول من بعض أهل الكتاب أو بعض من آمن ثم ارتد من الناس.
و يتأيد بذلك بعض ما ورد أن القائل بهذا القول الحارث بن النعمان الفهري، و قد تقدم الحديث نقلا عن تفسيري الثعلبي و المجمع في ذيل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الآية) المائدة: ٦٧ في الجزء السادس من الكتاب.
و على هذا التقدير فالمراد بالعذاب المنفي العذاب السماوي المستعقب للاستئصال الشامل للأمة على نهج عذاب سائر الأمم، و الله سبحانه ينفي فيها العذاب عن الأمة ما دام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم حيا، و بعده ما داموا يستغفرون الله تعالى.
و يظهر من قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} بضمه إلى الآيات التي توعد هذه الأمة بالعذاب الذي يقضي بين الرسول و بينهم كآيات سورة يونس: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يونس: ٤٧ إلى آخر الآيات أن في مستقبل أمر هذه الأمة يوما ينقطع عنهم الاستغفار و يرتفع من بينهم المؤمن الإلهي فيعذبون عند ذاك.
قوله تعالى: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} إلى آخر الآية استفهام في معنى الإنكار أو التعجب، و قوله: {وَ مَا لَهُمْ} بتقدير فعل يتعلق به الظرف و يكون قوله: {أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ} مفعوله أو هو من التضمين نظير ما قيل في قوله: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى} النازعات: ١٨.
و التقدير على أي حال نحو من قولنا: «و ما الذي يثبت و يحق لهم عدم تعذيب الله إياهم و الحال أنهم يصدون عن المسجد الحرام و يمنعون المؤمنين من دخوله: {وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ}. فقوله: {وَ هُمْ يَصُدُّونَ} إلخ حال عن ضمير {يُعَذِّبَهُمُ} و قوله:
{وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} حال عن ضمير {يَصُدُّونَ}.
و قوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ} تعليل لقوله: {وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} أي ليس لهم أن يلوا أمر البيت فيجيزوا و يمنعوا من شاءوا لأن هذا المسجد مبني على تقوى الله فلا يلي أمره إلا المتقون و ليسوا بهم.
فقوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ} جملة خبرية تعلل القول بأمر بين يدركه كل ذي لب، و ليست الجملة إنشائية مشتملة على جعل الولاية للمتقين، و يشهد لما ذكرناه قوله بعد: {وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} كما لا يخفى.
و المراد بالعذاب العذاب بالقتل أو الأعم منه على ما يفيده السياق باتصال الآية بالآية التالية، و قد تقدم أن الآية غير متصلة ظاهرا بما تقدمها أي أن الآيتين: {وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ} إلخ {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} إلخ خارجتان عن سياق الآيات، و لازم ذلك ما ذكرناه.
قال في المجمع: و يسأل فيقال: كيف يجمع بين الآيتين و في الأولى نفي تعذيبهم، و في الثانية إثبات ذلك؟ و جوابه على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد بالأول عذاب الاصطلام و الاستئصال كما فعل بالأمم الماضية، و بالثاني عذاب القتل بالسيف و الأسر و غير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.
و الآخر: أنه أراد: و ما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة، و يريد بالأول عذاب الدنيا. عن الجبائي.
و الثالث: أن الأول استدعاء للاستغفار. يريد أنه لا يعذبهم بعذاب دنيا و لا آخرة إذا استغفروا و تابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بين أن استحقاقهم العذاب بصدهم عن المسجد الحرام. انتهى.
و فيه: أن مبني الإشكال على اتصال الآية بما قبلها و قد تقدم أنها غير متصلة. هذا إجمالا.
و أما تفصيلا فيرد على الوجه الأول: أن سياق الآية و هو كما تقدم سياق التشدد و الترقي، و لا يلائم ذلك نفي العذاب في الأولى مع إثباته في الثانية و إن كان العذاب غير العذاب.
و على الثاني أن سياق الآية ينافي كون المراد بالعذاب فيها عذاب الآخرة، و خاصة بالنظر إلى قوله في الآية الثالثة - و هي في سياق الآية الأولى - {فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.
و على الثالث: أن ذلك خلاف ظاهر الآية بلا شك حيث إن ظاهرها إثبات الاستغفار لهم حالا مستمرا لاستدعائه و هو ظاهر.
قوله تعالى: {وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} المكاء بضم الميم الصفير، و المكاء بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، و منه المثل السائر: بنيك حمري و مكئكيني. و التصدية التصفيق بضرب اليد على اليد.
و قوله: {وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ} الضمير لهؤلاء الصادين المذكورين في الآية السابقة و هم المشركون من قريش، و قوله: {فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}بيان إنجاز العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع بالفاء.
و من هنا يتأيد أن الآيتين متصلتان كلاما واحدا و قوله: {وَ مَا كَانَ} إلخ جملة حالية و المعنى: و ما لهم أن لا يعذبهم الله و الحال أنهم يصدون العباد من المؤمنين عن المسجد الحرام و ما كان صلاتهم عند البيت إلا ملعبة من المكاء و التصدية فإذا كان كذلك فليذوقوا العذاب بما كانوا يكفرون، و الالتفات في قوله: {فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ} عن الغيبة إلى الخطاب لبلوغ التشديد.
و يستفاد من الآيتين أن الكعبة المشرفة لو تركت بالصد استعقب ذلك المؤاخذة الإلهية بالعذاب قال علي (عليه السلام) في بعض وصاياه: «الله الله في بيت ربكم فإنه إن ترك لم تنظروا۱.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية يبين حال الكفار في ضلال سعيهم الذي يسعونه لإبطال دعوة الله و المنع عن سلوك السالكين لسبيل الله، و يشرح ذلك قوله: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إلخ.
و بهذا السياق يظهر أن قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} بمنزلة التعليل، و محصل المعنى أن الكفر سيبعثهم بحسب سنة الله في الأسباب إلى أن يسعوا في إبطال الدعوة و الصد عن سبيل الحق غير أن الظلم و الفسق و كل فساد لا يهدي إلى الفلاح و النجاح فسينفقون أموالهم في سبيل هذه الأغراض الفاسدة فتضيع الأموال في هذا الطريق فيكون ضيعتها موجبة لتحسرهم، ثم يغلبون فلا ينتفعون بها، و ذلك أن الكفار يحشرون إلى جهنم و يكون ما يأتون به في الدنيا من التجمع على الشر و الخروج إلى محاربة الله و رسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنم يوم القيامة.
و قوله: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إلى آخر الآية من ملاحم القرآن و الآية من سورة الأنفال النازلة بعد غزوة بدر فكأنها تشير إلى ما سيقع من غزوة أحد أو هي و غيرها، و على هذا فقوله: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} إشارة إلى غزوة أحد أو هي و غيرها، و قوله: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إلى فتح مكة، و قوله: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} إلى حال من لا يوفق للإسلام منهم.
قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ} الخباثة و الطيب معنيان متقابلان و قد مر شرحهما و التمييز إخراج الشيء عما يخالفه و إلحاقه بما يوافقه بحيث ينفصل عما يخالفه، و الركم جمع الشيء فوق الشيء و منه سحاب مركوم أي مجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض و مجموعها و تراكم الأشياء تراكب بعضها بعضا.
و الآية في موضع التعليل لما أخبر به في الآية السابقة من حال الكفار بحسب السنة الكونية، و هو أنهم يسعون بتمام وجدهم و مقدرتهم إلى أن يطفئوا نور الله و يصدوا عن سبيل الله فينفقون في ذلك الأموال و يبذلون في طريقه المساعي غير أنهم لا يهتدون إلى مقاصدهم و لا يبلغون آمالهم بل تضيع أموالهم و تحبط أعمالهم و تضل مساعيهم، و يرثون بذلك الحسرة و الهزيمة.
و ذلك أن هذه الأعمال و التقلبات تسير على سنة إلهية و تتوجه إلى غاية تكوينية ربانية، و هي أن الله سبحانه يميز في هذا النظام الجاري الشر من الخير و الخبيث من الطيب و يركم الخبيث بجعل بعضه على بعض، و يجعل ما اجتمع منه و تراكم في جهنم
و هي الغاية التي تسير إليها قافلة الشر و الخبيث يحلها الجميع و هي دار البوار كما أن الخير و الطيب إلى الجنة، و الأولون هم الخاسرون كما أن الآخرين هم الرابحون المفلحون.
و من هنا يظهر أن قوله: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ} إلخ قريب المضمون من قوله تعالى في مثل ضربه للحق و الباطل: {أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ} الرعد: ١٧ و الآية تشير إلى قانون كلي إلهي و هو إلحاق فرع كل شيء بأصله.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} إلى آخر الآية الانتهاء الإقلاع عن الشيء لأجل النهي، و السلوف التقدم، و السنة هي الطريقة و السيرة.
أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغهم ذلك و في معناه تطميع و تخويف و حقيقته دعوة إلى ترك القتال و الفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدم من قتلهم و إيذائهم للمؤمنين فإن لم ينتهوا عما نهوا عنه فقد مضت سنة الله في الأولين منهم بالإهلاك و الإبادة و خسران السعي.
قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية و ما بعدها يشتملان على تكليف المؤمنين بحذاء ما كلف به الكفار في الآية السابقة، و المعنى: قل لهم أن ينتهوا عن المحادة لله و رسوله يغفر لهم ما قد سلف و إن يعودوا إلى مثل ما عملوا فقد علموا بما جرى على سابقتهم قل لهم كذا و أما أنت و المؤمنون فلا تهنوا فيما يهمكم من إقامة الدين و تصفية جو صالح للمؤمنين، و قاتلوهم حتى تنتهي هذه الفتن التي تفاجئكم كل يوم، و لا تكون فتنة بعد فإن انتهوا فإن الله يجازيهم بما يرى من أعمالهم، و إن تولوا عن الانتهاء فأديموا القتال و الله مولاكم فاعلموا ذلك و لا تهنوا و لا تخافوا.
و الفتنة ما يمتحن به النفوس و تكون لا محالة مما يشق عليها، و غلب استعمالها في المقاتل و ارتفاع الأمن و انتقاض الصلح، و كان كفار قريش يقبضون على المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل الهجرة و بعدها إلى مدة في مكة و يعذبونهم و يجبرونهم على ترك الإسلام و الرجوع إلى الكفر، و كانت تسمى فتنة.
و قد ظهر بما يفيده السياق من المعنى السابق أن قوله: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ
فِتْنَةٌ} كناية عن تضعيفهم بالقتال حتى لا يغتروا بكفرهم و لا يلقوا فتنة يفتتن بها المؤمنون و يكون الدين كله لله لا يدعو إلى خلافه أحد، و أن قوله: {فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} المراد به الانتهاء عن القتال و لذلك أردفه بمثل قوله: {فَإِنَّ اَللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عندئذ يحكم الله فيهم بما يناسب أعمالهم و هو بصير بها، و أن قوله: {وَ إِنْ تَوَلَّوْا} إلخ أي إن تولوا عن الانتهاء، و لم يكفوا عن القتال و لم يتركوا الفتنة فاعلموا أن الله مولاكم و ناصركم و قاتلوهم مطمئنين بنصر الله نعم المولى و نعم النصير.
و قد ظهر أن قوله: {وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} لا ينافي إقرار أهل الكتاب على دينهم إن دخلوا في الذمة و أعطوا الجزية فلا نسبة للآية مع قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صَاغِرُونَ} التوبة: ٢٩. بالناسخية و المنسوخية.
و لبعض المفسرين وجوه في معنى الانتهاء و المغفرة و غيرهما من مفردات الآيات الثلاث لا كثير جدوى في التعرض لها تركناها.
و قد ورد في بعض الأخبار كون «نعم المولى و نعم النصير» من أسماء الله الحسنى و المراد بالاسم حينئذ لا محالة غير الاسم بمعناه المصطلح بل كل ما يخص بلفظه شيئا من المصاديق كما ورد نظيره في قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاَ نَوْمٌ} و قد مر استيفاء الكلام في الأسماء الحسنى في ذيل قوله تعالى: {وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى}الأعراف - ١٨٠في الجزء الثامن من الكتاب.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} (الآية) أنها نزلت بمكة قبل الهجرة.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن ابن جريح (رض): {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} قال: هي مكية.
أقول: و هو ظاهر ما رواه أيضا عن عبد بن حميد عن معاوية بن قرة، لكن عرفت أن سياق الآيات لا يساعد عليه.
و فيه أخرج عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و ابن المنذر و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل و الخطيب عن ابن عباس (رضي الله عنهما) :في قوله: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق - يريدون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - و قال بعضهم: بل اقتلوه، و قال بعضهم بل أخرجوه فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) على ذلك فبات علي (رضي الله عنه) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و خرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى لحق بالغار، و بات المشركون يحرسون عليا (رضي الله عنه) يحسبونه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوه عليا (رضي الله عنه) رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث ثلاث ليال.
و في تفسير القمي :كان سبب نزولها أنه لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الدعوة بمكة قدمت عليه الأوس و الخزرج فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تمنعوني و تكونون لي جارا حتى أتلو كتاب الله عليكم و ثوابكم على الله الجنة؟ فقالوا: نعم خذ لربك و لنفسك ما شئت فقال لهم: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فحجوا و رجعوا إلى منى و كان فيهم ممن قد حج بشر كثير.
فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، و لا تنبهوا نائما، و لينسل واحد فواحد فجاء سبعون رجلا من الأوس و الخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تمنعوني و تجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربي و ثوابكم على الله الجنة.
فقال أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد الله بن حرام نعم يا رسول الله اشترط لربك و نفسك ما شئت. فقال: أما ما أشترط لربي فأن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا، و ما أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم و تمنعون أهلي مما تمنعون أهليكم و أولادكم. فقالوا فما لنا على ذلك؟ فقال: الجنة في الآخرة، و تملكون العرب، و يدين لكم العجم في الدنيا، و تكونون ملوكا في الجنة فقالوا: قد رضينا.
فقال: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا فأشار إليهم جبرائيل فقال: هذا نقيب
و هذا نقيب تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و عبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله و رافع بن مالك و سعد بن عبادة و المنذر بن عمر و عبد الله بن رواحة و سعد بن ربيع و عبادة بن صامت و من الأوس أبو الهيثم بن التيهان و هو من اليمن و أسيد بن حصين و سعد بن خيثمة. فلما اجتمعوا و بايعوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) صاح إبليس: يا معشر قريش و العرب هذا محمد و الصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، و هاجت قريش فأقبلوا بالسلاح، و سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) النداء فقال للأنصار: تفرقوا فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لم أومر بذلك و لم يأذن الله لي في محاربتهم. قالوا: فتخرج معنا؟ قال: أنتظر أمر الله.
فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح و خرج حمزة و أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسلاح و معهما السيوف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذي اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا و ما هاهنا أحد و الله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي.
فرجعوا إلى مكة و قالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا و يدخل واحد من مشائخ قريش في دين محمد فاجتمعوا في دار الندوة، و كان لا يدخل دار الندوة إلا من أتى عليه أربعون سنة فدخلوا أربعين رجلا من مشائخ قريش، و جاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب، من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم مني رأي صائب إني حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لأشير عليكم فقال: ادخل فدخل إبليس.
فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إنه لم يكن أحد من العرب أعز منا نحن أهل الله تفد إلينا العرب في السنة مرتين و يكرموننا، و نحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله - فكنا نسميه الأمين لصلاحه و سكونه و صدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادعى أنه رسول الله و أن أخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا، و سب آلهتنا، و أفسد شباننا، و فرق جماعتنا، و زعم أنه من مات من أسلافنا ففي النار، و لم يرد علينا شيء أعظم من
هذا، و قد رأيت فيه رأيا. قالوا: و ما رأيت؟ قال: رأيت أن ندس إليه رجلا منا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات.
فقال الخبيث: هذا رأي خبيث قالوا: و كيف ذلك؟ قال: لأن قاتل محمد مقتول لا محالة فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فإنه إذا قتل محمدا تعصبت بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة، و إن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فتقع بينكم الحروب في حرمكم و تتفانون.
فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر. قال: و ما هو؟ قال: نثبته في بيت و نلقي عليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير و النابغة و إمرؤ القيس. فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر. قالوا: و كيف ذاك؟ قال: لأن بني هاشم لا ترضى بذلك فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم فاجتمعوا عليكم فأخرجوه.
قال آخر منهم: لا و لكنا نخرجه من بلادنا و نتفرغ لعبادة آلهتنا. قال إبليس: هذا أخبث من ذينك الرأيين المتقدمين، قالوا: و كيف؟ قال: لأنكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها، و أتقن الناس لسانا و أفصحهم لهجة فتحملوه إلى بوادي العرب فيخدعهم و يسحرهم بلسانه فلا يفجئوكم إلا و قد ملأها خيلا و رجلا. فبقوا حائرين -.
ثم قالوا لإبليس: فما الرأي يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأي واحد. قالوا: و ما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش فيكون معهم من بني هاشم رجل فيأخذون سكينا أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه فقد شاركوه فيه فإن سألوكم أن تعطوكم الدية فأعطوهم ثلاث ديات. قالوا: نعم و عشر ديات. قالوا: الرأي رأي الشيخ النجدي فاجتمعوا فيه، و دخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره أن قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك فأنزل الله عليه في ذلك: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ}.
و اجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، و خرجوا إلى المسجد يصفرون و يصفقون و يطوفون بالبيت فأنزل الله: {وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً }
فالمكاء
التصفير و التصدية صفق اليدين و هذه الآية معطوفة على قوله: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا } قد كتبت بعد آيات كثيرة.
فلما أمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا و نساء و لا نأمن أن يقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يفرش له فرش فقال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): أفدني بنفسك قال: نعم يا رسول الله قال: نم على فراشي و التحف ببردتي فنام علي (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و التحف ببردته.
و جاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخرجه على قريش و هم نيام و هو يقرأ عليهم: {وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} و قال له جبرئيل: خذ على طريق ثور و هو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور فدخل الغار و كان من أمره ما كان.
فلما أصبحت قريش و أتوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش فوثب علي (عليه السلام) في وجوههم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: أين محمد؟ قال: أ جعلتموني عليه رقيبا؟ أ لستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا على أبي لهب يضربونه و يقولون: أنت تخدعنا منذ الليل.
فتفرقوا في الجبال، و كان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفو الآثار فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال لهم: هذه قدم محمد و الله إنها لأخت القدم التي في المقام، و كان أبو بكر بن أبي قحافة استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرده معه فقال أبو كرز: و هذه قدم ابن أبي قحافة أو أبيه ثم قال: و هاهنا غير ابن أبي قحافة، و لا يزال يقف بهم حتى أوقفهم على باب الغار.
ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان إما أن يكونوا صعدوا إلى السماء أو دخلوا تحت الأرض، و بعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، و جاء فارس من الملائكة ثم قال: ما في الغار أحد فتفرقوا في الشعاب، و صرفهم الله عن رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم أذن لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الهجرة.
أقول: و روي ما يقرب من هذا المعنى ملخصا في الدر المنثور عن ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي نعيم و البيهقي معا في الدلائل عن ابن
عباس لكن نسب فيه إلى أبي جهل ما نسب في هذه الرواية إلى الشيخ النجدي ثم ذكر أن الشيخ النجدي صدق أبا جهل في رأيه و اجتمع القوم على قوله.
و قد روي دخول إبليس عليهم في دار الندوة في زي شيخ نجدي في عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة.
و أما ما في الرواية من قول أبي كرز لما اقتفى أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): «هذه قدم محمد، و هذه قدم ابن أبي قحافة، و هاهنا غير ابن أبي قحافة» فقد ورد في الروايات أن ثالثهما هند بن أبي هالة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمه خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها).
و قد روى الشيخ في أماليه، بإسناده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه و عبد الله بن أبي رافع جميعا عن عمار بن ياسر و أبي رافع و عن سنان بن أبي سنان عن ابن هند بن أبي هالة، و قد دخل حديث عمار و أبي رافع و هند بعضه في بعض، و هو حديث طويل في هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و فيه :و استتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا بكر بن أبي قحافة و هند بن أبي هالة فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه إلى الغار، و ثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكانه مع علي يأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشاءين ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في فحمة العشاء و الرصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون أن ينتصف الليل و تنام الأعين.
فخرج و هو يقرأ هذه الآية {وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} و كان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رءوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم و مضى حتى أتى إلى هند و أبي بكر فنهضا معه حتى وصلوا إلى الغار. ثم رجع هند إلى مكة بما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و دخل رسول الله و أبو بكر الغار.
قال بعد سوق القصة الليلة: حتى إذا اعتم من الليلة القابلة انطلق هو - يعني عليا (عليه السلام) - و هند بن أبي هالة حتى دخلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في الغار فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هندا أن يبتاع له و لصاحبه بعيرين فقال أبو بكر قد كنت أعددت لي و لك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب فقال: إني لا آخذهما و لا أحدهما إلا بالثمن قال: فهي لك بذلك فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (عليه السلام) فأقبضه الثمن ثم وصاه بحفظ ذمته و أداء أمانته.
و كانت قريش قد سموا محمدا في الجاهلية: الأمين، و كانت تودعه و تستحفظه أموالها و أمتعتها، و كذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، و جاءت النبوة و الرسالة و الأمر كذلك فأمر عليا (عليه السلام) أن يقيم صارخا بالأبطح غدوة و عشيا: من كان له قبل محمد أمانة أو دين فليأت فلنؤد إليه أمانته.
قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم علي فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا ثم إني مستخلفك على فاطمة ابنتي و مستخلف ربي عليكما و مستحفظه فيكما فأمر أن يبتاع رواحل له و للفواطم۱ و من أزمع الهجرة معه من بني هشام.
قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله يعني ابن أبي رافع: أ و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إني سألت أبي عما سألتني و كان يحدث لي هذا الحديث. فقال: و أين يذهب بك عن مال خديجة (عليها السلام) .
قال عبيد الله بن أبي رافع: و قد قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) يذكر مبيته على الفراش و مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في الغار ثلاثا نظما: وقيت بنفسي خير من وطء الحصى *** و من طاف بالبيت العتيق و بالحجر
محمد لما خاف أن يمكروا به | *** | فوقاه ربي ذو الجلال من المكر |
و بت أراعيهم متى ينشرونني | *** | و قد وطنت نفسي على القتل و الأسر |
و بات رسول الله في الغار آمنا | *** | هناك و في حفظ الإله و في ستر |
أقام ثلاثا ثم زمت قلائص | *** | قلائص يفرين الحصى أينما تفري |
و قد روي الأبيات عنه (عليه السلام) بتفاوت يسير في الدر المنثور عن الحاكم عن علي بن الحسين (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): قوله: {خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ} قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد كان لقي من قومه بلاء شديدا حتى أتوه ذات يوم و هو ساجد حتى طرحوا عليه رحم شاة فأتته ابنته و هو ساجد لم يرفع رأسه فرفعته عنه و مسحته ثم أراه الله بعد ذلك الذي يحب. أنه كان ببدر
و ليس معه غير فارس واحد ثم كان معه يوم الفتح اثنا عشر ألفا حتى جعل أبو سفيان و المشركون يستغيثون (الحديث).
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي (رضي الله عنه) قال :كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها و كلامهم فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و القرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين.
أقول: و هناك بعض روايات أخر في أن القائل بهذا القول كان هو النضر بن الحارث و قد قتل يوم بدر صبرا.
و فيه أخرج البخاري و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك (رض) قال :قال أبو جهل بن هشام: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» فنزلت: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
أقول: و روى القمي هذا المعنى في تفسيره، و روى السيوطي أيضا في الدر المنثور عن ابن جرير الطبري و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير و عن ابن جرير عن عطاء :أن القائل: {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} (الآية) النضر بن الحارث و قد تقدم في البيان السابق ما يقتضيه سياق الآية.
و فيه أخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان و محمد بن قيس قالا :قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا؟ {اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ - فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ} (الآية) فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم فأنزل الله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } - إلى قوله - {لاَ يَعْلَمُونَ}.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن أبزى (رض) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة فأنزل الله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة فأنزل الله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فلما خرجوا أنزل الله: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ} (الآية) فأذن في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم.
و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ
عن عطية (رض) :في قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} يعني المشركين حتى يخرجك منهم {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال: يعني المؤمنين. ثم أعاد المشركين فقال: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ}.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي (رض):في قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يقول: لو استغفروا و أقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، و في قوله: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} يقول: و كيف لا أعذبهم و هم لا يستغفرون.
و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن مجاهد (رض) :في قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} قال: بين أظهرهم {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال: يسلمون.
و فيه أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن أبي مالك (رض): {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ} يعني أهل مكة {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} و فيهم المؤمنون يستغفرون.
و فيه أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عكرمة و الحسن (رضي عنهما) :في قوله: {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قالا: نسختها الآية التي تليها: {وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ} فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع و الحصر.
أقول: عدم انطباقها على الآية بظاهرها المؤيد بسياقها ظاهر، و إنما دعاهم إلى هذه التكلفات الاحتفاظ باتصال الآية في التأليف بما قبلها و ما قبلها من الآيات المتعرضة لحال مشركي أهل مكة، و من عجيب ما فيها تفسير العذاب في الآية بفتح مكة، و لم يكن إلا رحمة للمشركين و المؤمنين جميعا.
و فيه أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري (رض) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنزل الله علي أمانين لأمتي {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
أقول: مضمون الرواية مستفاد من الآية، و قد روي ما في معناها عن أبي هريرة و ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و رواها في نهج البلاغة عن علي (عليه السلام).
و في ذيل هذه الرواية شيء؛ و هو أنه لا يلائم ما مر في البيان المتقدم من إيعاد
القرآن هذه الأمة بعذاب واقع قبل يوم القيامة، و لازمه أن يرتفع الاستغفار من بينهم قبل يوم القيامة.
و فيه أخرج أحمد عن فضالة بن عبيد (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول. {وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ}، و مفارقتي إياكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خميس و اثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، و ما كان من سيئة أستغفر الله لكم.
أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره و الشيخ في أماليه، عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام)، و في روايتهما أن السائل هو جابر بن عبد الله الأنصاري (عليه السلام)، و رواه أيضا في الكافي، بإسناده عن محمد بن أبي حمزة و غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن سعيد بن جبير (رض) قال :كانت قريش تعارض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الطواف يستهزءون و يصفرون و يصفقون فنزلت: {وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً}.
و فيه أخرج أبو الشيخ عن نبيط و كان من الصحابة (رض):في قوله: {وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ} (الآية) قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام و هم يصفرون.
و فيه أخرج الطستي عن ابن عباس (رضي الله عنهما): أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز و جل: {إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً} قال: المكاء صوت القنبرة و التصدية صوت العصافير و هو التصفيق، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا قام إلى الصلاة و هو بمكة كان يصلي قائما بين الحجر و الركن اليماني فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه و الآخر عن شماله، و يصيح أحدهما كما يصيح المكاء، و الآخر يصفق بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته.
و في تفسير العياشي، عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام):
في قول الله: {وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} يعني أولياء البيت يعني المشركين {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ} حيث ما كانوا هم أولى به من المشركين {وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً} قال: التصفير و التصفيق.
و في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل كلهم من طريقه۱ قال: حدثني الزهري و محمد بن يحيى بن حيان و عاصم بن عمر بن قتادة و الحصين بن عبد الرحمن بن عمر قال :لما أصيبت قريش يوم بدر و رجع فلهم إلى مكة و رجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن ربيعة و عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثارا ففعلوا ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ } - إلى قوله - {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
و فيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) :في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ - لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} قال نزلت في أبي سفيان بن حرب.
و فيه أخرج ابن سعد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن عساكر عن سعيد بن جبير :في قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} (الآية) قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سوى من استجاش من العرب فأنزل الله فيه هذه الآية.
و هم الذين قال فيهم كعب بن مالك (رضي الله عنه):
و جئنا إلى موج من البحر وسطه | *** | أحابيش منهم حاسر و مقنع |
ثلاثة آلاف و نحن نصية | *** | ثلاث مئين إن كثرن فأربع |
أقول: و رواه ملخصا عن ابن إسحاق و ابن أبي حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير.
و في المجمع: في قوله تعالى: {وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الآية) قال: روى زرارة و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لم يجيء تأويل هذه الآية و لو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية و ليبلغن دين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض.
أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عنه (عليه السلام)، و في معناه ما في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا العياشي عن عبد الأعلى الحلبي عن أبي جعفر (عليه السلام) في رواية طويلة.
و قد تقدم حديث إبراهيم الليثي في تفسير قوله: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ} الآية مع بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الأعراف: ٢٩ في الجزء الثامن من الكتاب.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٤١ الی ٥٤]
[{وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتَامى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ وَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤١ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوى وَ اَلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعَادِ وَ لَكِنْ لِيَقْضِيَ اَللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ٤٢ إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنَازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٤٣ وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٤٤ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٤٥ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ ٤٦ وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَ رِئَاءَ اَلنَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ٤٧ وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ قَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ اَلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ وَ اَللَّهُ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٤٨ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَإِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٩ وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ٥٠ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ٥١ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٥٢ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٥٣ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ٥٤}
(بيان)
تشتمل الآيات على الأمر بتخميس الغنائم و بالثبات عند اللقاء و تذكرهم، و تقص عليهم بعض ما نكب الله به أعداء الدين و أخزاهم بالمكر الإلهي، و أجرى فيهم سنة آل فرعون و من قبلهم من المكذبين لآيات الله الصادين عن سبيله.
قوله تعالى: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ} إلى آخر الآية. الغنم و الغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب و ينطبق بحسب مورد نزول الآية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال: و من البقر و الغنم ما حرمنا عليهم شحومهما، و الغنم - بالضم فالسكون - إصابته و الظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى و غيرهم قال: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}، {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً}. و المغنم ما يغنم و جمعه مغانم قال: فعند الله مغانم كثيرة، انتهى.
و ذو القربى القريب و المراد به قرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو خصوص أشخاص منهم على ما يفسره الآثار القطعية، و اليتيم هو الإنسان الذي مات أبوه و هو صغير، قالوا:كل حيوان يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإن يتمه من قبل أبيه.
و قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إلخ قرئ بفتح أن، و يمكن أن يكون بتقدير حرف الجر و التقدير: و اعلموا أن ما غنمتم من شيء فعلى أن لله خمسه أي هو واقع على هذا الأساس محكوم به، و يمكن أن يكون بالعطف على أن الأولى، و حذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه، و التقدير: اعلموا أن ما غنمتم من شيء يجب قسمته فاعلموا أن خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فإن مآل المعنى إلى نحو قولنا: إن غنمتم شيئا فخمسه لله إلخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، و كرر أن للتأكيد، و الأصل: اعلموا أن ما غنمتم من شيء أن خمسه لله إلخ، و الأصل الذي تعلق به العلم هو: ما غنمتم من شيء خمسه لله و للرسول إلخ، و قد قدم لفظ الجلالة للتعظيم.
و قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} إلخ قيد للأمر الذي يدل عليه صدر الآية أي أدوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا، و ربما قيل: إنه متصل بقوله
تعالى في الآية السابقة: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاَكُمْ} هذا و السياق الذي يتم بحيلولة قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} إلخ لا يلائم ذلك.
و قوله تعالى: {وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ} الظاهر أن المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإنزال، و لو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر - كما قيل - لكان الأنسب أولا: أن يقال: و من أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدي هذا المعنى و ثانيا: أن يقال: عليكم لا على عبدنا فإن الملائكة كما أنزلت لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنزلت لنصرة المؤمنين معه كما يدل عليه قوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} الأنفال: ٩. و قوله بعد ذلك: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا} الخ: الأنفال: ١٢. و نظيرهما قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} آل عمران: ١٢٥.
و في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا} من بسط اللطف على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و اصطفائه بالقرب ما لا يخفى.
و يظهر بالتأمل فيما قدمناه من البحث في قوله تعالى في أول السورة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفَالِ قُلِ اَلْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَ اَلرَّسُولِ} الآية أن المراد بقوله: {وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ} هو قوله تبارك و تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} بما يحتف به من الآيات.
و المراد بقوله: {يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ} يوم بدر كما يشهد به قوله بعده: {يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ} فإن يوم بدر هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق و الباطل فأحق الحق بنصرته، و أبطل الباطل بخذلانه.
و قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بمنزلة التعليل لقوله: {يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ} بما يدل عليه من تمييزه تعالى بين الحق و الباطل كأنه قيل: و الله على كل شيء قدير فهو قادر أن يفرق بين الحق و الباطل بما فرق.
فمعنى الآية - و الله أعلم - و اعلموا أن خمس ما غنمتم أي شيء كان هو لله و لرسوله و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل فردوه إلى أهله إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزله على عبده محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر، و هو أن الأنفال و غنائم الحرب لله و لرسوله لا يشارك
الله و رسوله فيها أحد، و قد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها و أباح لكم التصرف فيها فالذي أباح لكم التصرف فيها يأمركم أن تئودوا خمسها إلى أهله.
و ظاهر الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، و أن الحكم متعلق بما يسمى غنما و غنيمة سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب و الغوص و الملاحة و المستخرج من الكنوز و المعادن، و إن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص.
و كذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: {لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتَامى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ} انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، و أن لكل منهم سهما بمعنى استقلاله في أخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غير أن يكون ذكر الأصناف من قبيل التمثيل.
فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، و عليه وردت الأخبار من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد اختلفت كلمات المفسرين من أهل السنة في تفسير الآية و سنتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلدُّنْيَا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوى وَ اَلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعَادِ وَ لَكِنْ لِيَقْضِيَ اَللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} العدوة بالضم و قد يكسر شفير الوادي، و الدنيا مؤنث أدنى كما أن القصوى و قد يقال: القصيا مؤنث أقصى و الركب كما قيل هو العير الذي كان عليه أبو سفيان بن حرب.
و الظرف في قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ}بيان ثان لقوله في الآية السابقة: {يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ} كما أن قوله: {يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ}بيان أول له متعلق بقوله: {أَنْزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا} و أما ما يظهر من بعضهم أنهبيان لقوله: {وَ اَللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بما يفيده بحسب المورد، و المعنى: و الله قدير على نصركم و أنتم أذلة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب، فلا يخفى بعده و وجه التكلف فيه.
و قوله تعالى: {وَ لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعَادِ} سياق ما تقدمه من الجمل الكاشفة عن تلاقي الجيشين، و كون الركب أسفل منهم، و أن الله بقدرته التي قهرت كل شيء فرق بين الحق و الباطل، و أيد الحق على الباطل، و كذا قوله بعد: {وَ لَكِنْ
لِيَقْضِيَ اَللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} كل ذلك يشهد على أن المراد بقوله: {وَ لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعَادِ}بيان أن التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلا بمشية خاصة من الله سبحانه حيث نزل المشركون و هم ذوو عدة و شدة بالعدوة القصوى و فيها الماء و الأرض الصلبة، و المؤمنون على قلة عددهم و هوان أمرهم بالعدوة الدنيا و لا ماء فيها و الأرض رملية لا تثبت تحت أقدامهم، و تخلص العير منهم إذ ضرب أبو سفيان في الساحل أسفل، و تلاقى الفريقان لا حاجز بينهما و لا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقي و المواجهة على هذا الوجه ثم ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن أسباب عادية بل لمشية خاصة إلهية ظهرت بها قدرته و بانت بها عنايته الخاصة و نصره و تأييده للمؤمنين.
فقوله: {وَ لَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعَادِ}بيان أن هذا التلاقي لم يكن عن سابق قصد و عزيمة، و لا روية أو مشورة، و لهذا المعنى عقبه بقوله: {وَ لَكِنْ لِيَقْضِيَ اَللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} بما فيه من الاستدراك.
و قوله {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} لتعليل ما قضي به من الأمر المفعول أي إن الله إنما قضى هذا الذي جرى بينكم من التلاقي و المواجهة ثم تأييد المؤمنين و خذلان المشركين ليكون ذلك بينة ظاهرة على حقية الحق و بطلان الباطل فيهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة.
و بذلك يظهر أن المراد بالهلاكة و الحياة هو الهدى و الضلال لأن ذلك هو الذي يرتبط به وجود الآية البينة ظاهرا.
و كذا قوله: {وَ إِنَّ اَللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} عطف على قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} إلخ، أي و إن الله إنما قضى ما قضى و فعل ما فعل لأنه سميع يسمع دعاءكم عليم يعلم ما في صدوركم، و فيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الآيات: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} إلى آخر الآيات.
و على هذا السياق - أي لبيان أن مرجع الأمر في هذه الواقعة هو القضاء الخاص الإلهي دون الأسباب العادية - سيق قوله تعالى بعد: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} إلخ، و قوله: {وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} إلخ، و قوله: {إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ} إلخ.
و معنى الآية يوم الفرقان هو الوقت الذي أنتم نزول بالعدوة الدنيا و هم نزول بالعدوة القصوى، و قد توافق نزولكم بها و نزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم أن تلتقوا بهذا الميعاد لاختلفتم فيه و لم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم و لا منهم و لكن ذلك كان أمرا مفعولا و الله قاضيه و حاكمه، و إنما قضى ما قضى ليظهر آية بينة فتتم بذلك الحجة، و لأنه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم و علم به من حاجة قلوبكم.
قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} إلى آخر الآية، الفشل هو الضعف مع الفزع، و التنازع هو الاختلاف و هو من النزع نوع من القلع كأن المتنازعين ينزع كل منهما الآخر عما هو فيه، و التسليم هو النتيجة.
و الكلام على تقدير اذكر أي اذكر وقتا يريكهم الله في منامك قليلا، و إنما أراكهم قليلا ليربط بذلك قلوبكم و تطمئن نفوسكم و لو أراكهم كثيرا ثم ذكرتها للمؤمنين أفزعكم الضعف و اختلفتم في أمر الخروج إليهم و لكنه تعالى نجاكم بإراءتهم قليلا عن الفشل و التنازع إنه عليم بذات الصدور و هي القلوب يشهد ما يصلح به حال القلوب في اطمئنانها و ارتباطها و قوتها.
و الآية تدل على أن الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) رؤيا مبشرة رأى فيها ما وعده الله من إحدى الطائفتين أنها لهم و قد أراهم قليلا لا يعبأ بشأنهم، و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكر ما رآه للمؤمنين و وعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم. و الدليل على ذلك قوله: {وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ} إلخ و هو ظاهر.
قوله تعالى: {وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} إلى آخر الآية. معنى الآية ظاهر، و لا تنافي بين هذه الآية و قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ أُخْرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ وَ اَللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} آل عمران: ١٣ بناء على أن الآية تشير إلى وقعة بدر.
و ذلك أن التقليل الذي يشير إليه في الآية المبحوث عنها مقيد بقوله: {إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ} و بذلك يرتفع التنافي كأن الله سبحانه أرى المؤمنين قليلا في أعين المشركين في بادئ الالتقاء ليستحقروا جمعهم و يشجعهم ذلك على القتال و النزال حتى إذا زحفوا
و اختلطوا، كثر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأي العين فأوهن بذلك عزمهم و أطار قلوبهم فكانت الهزيمة فآية الأنفال تشير إلى أول الوقعة، و آية آل عمران إلى ما بعد الزحف و الاختلاط و قوله: {لِيَقْضِيَ اَللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} متعلق بقوله: {يُرِيكُمُوهُمْ} و تعليل لمضمونه.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى آخر الآيات الثلاث. قال الراغب في المفردات:الثبات بفتح الثاء ضد الزوال انتهى فهو في المورد ضد الفرار من العدو، و هو بحسب ما له من المعنى أعم من الصبر الذي يأمر به في قوله: {وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ} فالصبر ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف و لا يفزع و لا يجزع، و بالبدن بأن لا يتكاسل و لا يتساهل و لا يزول عن مكانه و لا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاص.
و الريح على ما قيل، العز و الدولة، و قد ذكر الراغب أن الريح في الآية بمعنى الغلبة استعارة كأن من شأن الريح أن تحرك ما هبت عليه و تقلعه و تذهب به، و الغلبة على العدو يفعل به ما تفعله الريح بالشيء كالتراب فاستعيرت لها.
و قال الراغب: البطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة و قلة القيام بحقها و صرفها إلى غير وجهها قال عز و جل: {بَطَراً وَ رِئَاءَ اَلنَّاسِ} و قال: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} و أصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل و نصب، و يقارب البطر الطرب، و هو خفة أكثر ما يعتري من الفرح و قد يقال ذلك في الترح، و البيطرة معالجة الدابة. انتهى. و الرئاء المراءاة.
و قوله: {فَاثْبُتُوا} أمر بمطلق الثبوت أمام العدو، و عدم الفرار منه فلا يتكرر بالأمر ثانيا بالصبر كما تقدمت الإشارة إليه.
و قوله: {وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ كَثِيراً} أي في جنانكم و لسانكم فكل ذلك ذكر، و من المعلوم أن الأحوال القلبية الباطنة من الإنسان هي التي تميز مقاصده و تشخصها سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره و هو يقول: يا غني و المريض المستغيث به من مرضه و هو يقول: يا شافي و لو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض فيه ذلك لكان معناه: يا غني و يا شافي لأنهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة
و الدعوة لا يريدان إلا ذلك كما هو ظاهر.
و الذي يخرج إلى قتال عدوه، ثم لقيه و استعد الظرف للقتال، و ليس فيه إلا زهاق النفوس، و سفك الدماء و نقص الأطراف و كل ما يهدد الإنسان بالفناء في ما يحبه فإن حاله يحول فكرته و يصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، و الغلبة على العدو الذي يهدده بالفناء، و الذي حاله هذا الحال و تفكيره هذا التفكير إنما يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله و تنصرف إليه فكرته.
و هذا أقوى قرينة على أن المراد بذكر الله كثيرا أن يذكر المؤمن ما علمه تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن و هو أنه تعالى إلهه و ربه الذي بيده الموت و الحياة و هو على نصره لقدير، و أنه هو مولاه نعم المولى و نعم النصير، و قد وعده النصر إذ قال: {إِنْ تَنْصُرُوا اَللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، و {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ} و إن مآل أمره في قتاله إلى إحدى الحسنيين إما الظفر على عدوه و رفع راية الإسلام و إخلاص الجو لسعادته الدينية، و إما القتل في سبيل الله و الانتقال بالشهادة إلى رحمته، و الدخول في حظيرة كرامته، و مجاورة المقربين من أوليائه، و ما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التي تدعو إلى السعادة الواقعية و الكرامة السرمدية.
و قد قيد الذكر بالكثير لتتجدد به روح التقوى كلما لاح للإنسان ما يصرف نفسه إلى حب الحياة الفانية و التمتع بزخارف الدنيا الغارة و الخطورات النفسانية التي يلقيها الشيطان بتسويله.
و قوله: {وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} ظاهر السياق أن المراد بها إطاعة ما صدر من ناحيته تعالى و ناحية رسوله من التكاليف و الدساتير المتعلقة بالجهاد و الدفاع عن حومة الدين و بيضة الإسلام مما تشتمل عليه آيات الجهاد و السنة النبوية كالابتداء بإتمام الحجة و عدم التعرض للنساء و الذراري و الكف عن تبييت العدو و غير ذلك من أحكام الجهاد.
و قوله: {وَ لاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي و لا تختلفوا بالنزاع فيما بينكم حتى يورث ذلكم ضعف إرادتكم و ذهاب عزتكم و دولتكم أو غلبتكم فإن اختلاف الآراء يخل بالوحدة و يوهن القوة.
و قوله: {وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ} أي الزموا الصبر على ما يصيبكم
من مكاره القتال مما يهددكم به العدو، و على الإكثار من ذكر الله، و على طاعة الله و رسوله من غير أن يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذة المعصية أو يضلكم عجب النفس و خيلاؤها.
و قد أكد الأمر بالصبر بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلصَّابِرِينَ} لأن الصبر أقوى عون على الشدائد و أشد ركن تجاه التلون في العزم و سرعة التحول في الإرادة، و هو الذي يخلي بين الإنسان و بين التفكير الصحيح المطمئن حيث يهجم عليه الخواطر المشوشة و الأفكار الموهنة لإرادته عند الأهوال و المصائب من كل جانب فالله سبحانه مع الصابرين.
و قوله: {وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَ رِئَاءَ اَلنَّاسِ} الآية نهي عن اتخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله، و هم على ما يفيده سياق الكلام في الآيات، كفار قريش، و ما ذكره من أوصافهم أعني البطر و رئاء الناس و الصد عن سبيل الله هو الذي أوجب النهي عن التشبه بهم و اتخاذ طريقتهم بدلالة السياق، و قوله: {وَ اَللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ينبئ عن إحاطته تعالى بأعمالهم و سلطنته عليها و ملكه لها، و من المعلوم أن لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشية بإذنه و مشيته و ما هذا شأنه لا يكون مما يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عما يصرح به بعد عدة آيات بقوله: {وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} الأنفال: ٥٩.
و ظاهر أن أخذ هذه القيود أعني قوله: {بَطَراً وَ رِئَاءَ اَلنَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ} يوجب تعلق النهي بها و التقدير: و لا تخرجوا من دياركم إلى قتل أعداء الدين بطرين و مرائين بالتجملات الدنيوية، و صد الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم و أفعالكم إلى ترك تقوى الله و التوغل في معاصيه و الانخلاع عن طاعة أوامره و دساتيره فإن ذلك يحبط أعمالكم و يطفئ نور الإيمان و يبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى نجاح السعي و الفوز بالمقاصد الهامة إلا سوي الصراط الذي يمهده الدين القويم و تسهله الملة الفطرية و الله لا يهدي القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة.
و قد اشتملت الآيات الثلاث على أمور ستة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب الإسلامية عند اللقاء و هي الثبات، و ذكر الله كثيرا، و طاعة الله و رسوله، و عدم التنازع، و أن لا يخرجوا بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله.
و مجموع الأمور الستة دستور حربي جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية
شيئا، و التأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الإسلامية الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كبدر و أحد و الخندق و حنين و غير ذلك يوضح أن الأمر في الغلبة و الهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الإلهي و عدم رعايتها، و المراقبة لها و المساهلة فيها.
قوله تعالى: {وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ قَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ} إلى آخر الآية، تزيين الشيطان للإنسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسنا جميلا يستلذ به و ذلك بتهييج قواه الباطنة و عواطفه الداخلة المتعلقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه، و لا يجد فراغا يعقل ما له من سوء الأثر و شؤم العاقبة.
و ليس من البعيد أن يكون قوله: {وَ قَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ} الآية مفسرا أو بمنزلة المفسر للتزيين الشيطاني على أن يكون المراد بالأعمال نتائجها و هي ما هيئوه من قوة و سلاح و عدة و ما أخرجوه من القيان و المعازف و الخمور، و ما تظاهروا به من نظام الجيش و الجنائب تساق بين أيديهم، و يمكن أن يكون المراد بها نفس الأعمال و هي أنواع تماديهم في الغي و الضلال و إصرارهم في محادة الله و رسوله، و استرسالهم في الظلم و الفسق فيكون قوله المحكي: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنَّاسِ} مما يتم به تزيين الشيطان، و تطيب به نفوسهم فيما اهتموا به من قتال المسلمين، و قد أكمل ذلك بقوله: {وَ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ}.
و الجوار من سنن العرب في الجاهلية التي كانت تعيش عيشة القبائل، و من حقوق الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدو، و له آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية.
و قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ اَلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ} النكوص الإحجام عن الشيء و {عَلى عَقِبَيْهِ} حال و العقب مؤخر القدم أي أحجم و قد رجع القهقرى منهزما وراءه.
و قوله: {إِنِّي أَرى مَا لاَ تَرَوْنَ} الآية تعليل لقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} و لعله إشارة إلى نزول الملائكة المردفين الذين نصر الله المسلمين بهم، و كذا قوله: {إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ وَ اَللَّهُ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ} تعليل لقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} و مفسر للتعليل السابق.
و المعنى و يوم الفرقان هو الوقت الذي زين الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه لمحادة الله و رسوله و قتال المؤمنين، و يتلبسون به للتهيؤ على إطفاء نور الله، فزين ذلك
في أنظارهم، و طيب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، و إني مجير لكم أذب عنكم فلما تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين و المؤمنون المشركين رجع الشيطان القهقرى منهزما وراءه و قال للمشركين إني بريء منكم إني أرى ما لا ترونه من نزول ملائكة النصر للمؤمنين و ما عندهم من العذاب الذي يهددكم إني أخاف عذاب الله و الله شديد العقاب.
و هذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم و تهييجهم على المؤمنين و تشجيعهم على قتالهم و تطييب نفوسهم بما استعدوا به حتى إذا تراءت الفئتان و نزل النصر و استولى الرعب على قلوبهم انتكست أوهامهم و تبدلت أفكارهم و عادت مزعمة الغلبة و أمنية الفتح و الظفر مخافة مستولية على نفوسهم و خيبة و يأسا شاملة لقلوبهم.
و يقبل الانطباق على تصور شيطاني يبدو لهم فتنجذب إليه حواسهم بأن يكون قد تصور لهم في صورة إنسان و يقول لهم ما حكاه الله من قوله: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ} فيغويهم و يسيرهم و يقربهم من القتال حتى إذا تقاربت الفئتان و تراءتا فلما تراءت الفئتان و رأى الوضع على خلاف ما كان يؤمله و يطمع فيه نكص على عقبيه و قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون من نزول النصر و الملائكة إني أخاف الله و الله شديد العقاب، و قد ورد في روايات القصة من طرق الشيعة و أهل السنة ما يؤيد هذا الوجه.
و هو أن الشيطان تصور للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ثم المدلجي و كان من أشراف كنانة و قال لهم ما قال و حمل رايتهم حتى إذا تلاقى الفريقان فر منهزما و هو يقول: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى مَا لاَ تَرَوْنَ} إلى آخر ما حكاه الله تعالى، و ستجيء الرواية في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و قد أصر بعض المفسرين على الوجه الأول، و رد الثاني بتزييف الآثار المروية و تضعيف أسناد الأخبار، و هي و إن لم تكن متواترة و لا محفوفة ببعض القرائن القطعية الموجبة للوثوق التام لكن أصل المعنى ليس من المستحيل الذي يدفعه العقل السليم، و لا من القصص التي تدفعها آثار صحيحة، و لا مانع من أن يتمثل لهم الشيطان فيوردهم مورد الضلال و الغي حتى إذا تم له ما أراد تركهم في تهلكتهم أو حتى شاهد
عذابا إلهيا نكص على عقبيه هاربا.
على أن سياق الآية الكريمة أقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه الأول، و خاصة بالنظر إلى قوله: {وَ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ} و قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ اَلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ} و قوله: {إِنِّي أَرى مَا لاَ تَرَوْنَ} الآية فإن إرجاع معنى قوله: {إِنِّي أَرى} إلخ مثلا إلى الخواطر النفسانية بنوع من العناية الاستعارية بعيد جدا.
قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ } إلى آخر الآية، أي يقول المنافقون و هم الذين أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر، و الذين في قلوبهم مرض و هم الضعفاء في الإيمان ممن لا يخلو نفسه من الشك و الارتياب. يقولون - مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير و استذلال - غر هؤلاء دينهم إذ لو لا غرور دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، و هم شرذمة أذلاء لا عدة لهم و لا عدة، و قريش على ما بهم من العدة و القوة و الشوكة.
قوله تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَإِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في مقام الجواب عن قولهم و إبانة غرورهم أنفسهم؛ و قوله:: {فَإِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} من وضع السبب موضع المسبب، و المعنى: و قد أخطأ هؤلاء المنافقون و الذين في قلوبهم مرض في قولهم فإن المؤمنين توكلوا على الله و نسبوا حقيقة التأثير إليه و ضموا أنفسهم إلى قوته و حوله، و من يتوكل أمره على الله فإن الله يكفيه لأنه عزيز ينصر من استنصره حكيم لا يخطئ في وضع كل أمر موضعه الذي يليق به.
و في الآية دليل على حضور جمع من المنافقين و ضعفاء الإيمان ببدر حين تلاقي الفئتين.
أما المنافقون و هم الذين كانوا يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر فلا معنى لكونهم بين المشركين فلم يكونوا إلا بين المسلمين لكن الشأن في العامل الذي أوجب منهم الثبات و اليوم يوم شديد.
و أما الضعفاء الإيمان أو الشاكون في حقيقة الإسلام فمن الممكن أن يكونوا بين المؤمنين أو في فئة المشركين و قد قيل إنهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة و احتبسهم آباؤهم و اضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها و شاهدوا ما عليه المسلمون من القلة و الذلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم،
و سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و على أي حال ينبغي إمعان النظر في البحث عما تفيده هذه الآية من حضور جمع من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، و استخراج حقيقة السبب الذي أوجب لهؤلاء المنافقين و الضعفاء حضور هذه الغزوة، و الوقوف في ذلك الموقف الصعب الهائل الذي لا يساعد عليه الأسباب العادية و لا يقف فيه إلا رجال الحقيقة الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان. و أنهم لما ذا حضروها؟ و كيف و لما ذا صبروا مع الصابرين من فئة الإسلام؟ و لعلنا نوفق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافي من آيات سورة التوبة في شأن المنافقين و الذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلاَئِكَةُ} إلى تمام الآيتين. التوفي أخذ الحق بتمامه، و يستعمل في كلامه تعالى كثيرا بمعنى قبض الروح، و نسبة قبض أرواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الآيات من نسبته إلى ملك الموت، و في بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الم السجدة: ١١، و قوله: {اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الزمر: ٤٢ دليل على أن لملك الموت أعوانا يتولون قبض الأرواح هم بمنزلة الأيدي العمالة له يصدرون عن إذنه و يعملون عن أمره، كما أنه يصدر عن إذن من الله و يعمل عن أمر منه، و بذلك يصح نسبة التوفي إلى الملائكة الأعوان، و إلى ملك الموت، و إلى الله سبحانه.
و قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَارَهُمْ} ظاهره أنهم يضربون مقاديم أبدانهم و خلاف ذلك فيكنى به عن إحاطتهم و استيعاب جهاتهم بالضرب، و قيل: إن الأدبار كناية عن الأستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدم رءوسهم، و ضرب الوجوه و الأدبار بهذا المعنى يراد به الإزراء و الإذلال.
و قوله: {وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ} أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق و هو النار.
و قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} تتمة لقولهم المحكي أو إشارة إلى مجموع ما يفعل بهم و ما يقول لهم الملائكة، و المعنى إنما نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم أو: نضرب وجوهكم و أدباركم و نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم.
و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} معطوف على موضع قوله {بِمَا قَدَّمَتْ} أي و ذلك بأن الله ليس بظلام للعبيد أي لا يظلم أحدا من عبيده فإنه تعالى على صراط مستقيم لا تخلف و لا اختلاف في فعله فلو ظلم أحدا لظلم كل أحد، و لو كان ظالما لكان ظلاما للعبيد فافهم ذلك.
و سياق الآيات يشهد على أن المراد بهؤلاء الذين يصفهم الله سبحانه بأن الملائكة يتوفاهم و يعذبهم هم المقتولون ببدر من مشركي قريش.
قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية. الدأب و الديدن: العادة و هي العمل الذي يدوم و يجري عليه الإنسان، و الطريقة التي يسلكها، و المعنى كفر هؤلاء يشبه كفر آل فرعون و الذين من قبلهم من الأمم الخالية الكافرة كفروا بآيات الله و أذنبوا بذلك فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي لا يضعف عن أخذهم شديد العقاب إذا أخذ.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} إلخ أي إن العقاب الذي يعاقب به الله سبحانه إنما يعقب نعمة إلهية سابقة بسلبها و استخلافها، و لا تزول نعمة من النعم الإلهية و لا تتبدل نقمة و عقابا إلا مع تبدل محله و هو النفوس الإنسانية، فالنعمة التي أنعم بها على قوم إنما أفيضت عليهم لما استعدوا لها في أنفسهم، و لا يسلبونها و لا تتبدل بهم نقمة و عقابا إلا لتغييرهم ما بأنفسهم من الاستعداد و ملاك الإفاضة و تلبسهم باستعداد العقاب.
و هذا ضابط كلي في تبدل النعمة إلى النقمة و العقاب، و أجمع منه قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} الرعد: ١١ و إن كان ظاهره أظهر انطباقا على تبدل النعمة إلى النقمة.
و كيف كان فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً} إلخ من قبيل التعليل بأمر عام و تطبيقه على مورده الخاص أي أخذ مشركي قريش بذنوبهم، و عقابهم بهذا العقاب الشديد، و تبديل نعمة الله عليهم عقابا شديدا إنما هو فرع من فروع سنة جارية إلهية هي أن الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
و قوله: {وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل آخر بعد التعليل بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ
اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً} إلخ و ظاهره بمقتضى إشعار السياق أن المراد به: و ذلك بأن الله سميع لدعواتكم عليم بحاجاتكم سمع استغاثتكم و علم بحاجتكم فاستجاب لكم فعذب أعداءكم الكافرين بآيات الله، و يحتمل أن يكون المراد: ذلك بأن الله سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم فعذبهم على ذلك، و يمكن الجمع بين المحتملين.
قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} إلخ كرر التنظير السابق لمشابهة الفرض مع ما تقدم فقوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} إلخ السابق تنظير لقوله{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} كما أن قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } - إلى قوله - {وَ كُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} ثانيا تنظير لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً} إلخ.
غير أن التنظير الثاني يشتمل على نوع من الالتفات في قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} و قد وقع بحذائه في التنظير الأول: {فَأَخَذَهُمُ اَللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} من غير التفات و لعل الوجه فيه أن التنظير الثاني لما كان مسبوقا بإفادة أن الله هو المفيض بالنعم على عباده و لا يغيرها إلا عن تغييرهم ما بأنفسهم، و هذا شأن الرب بالنسبة إلى عبيده اقتضى ذلك أن يعد هؤلاء عبيدا غير جارين على صراط عبودية ربهم و لذلك غير بعض سياق التنظير فقال في الثاني: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} و قد كان بحذائه في الأول قوله: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ} و لذلك التفت هاهنا من الغيبة إلى التكلم مع الغير فقال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} للدلالة على أنه سبحانه هو ربهم و هو مهلكهم، و قد أخذ المتكلم مع الغير للدلالة على عظمة الشأن و جلالة المقام، و أن له وسائط يعملون بأمره و يجرون بمشيته.
و قوله: {وَ أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أظهر المفعول و لم يقل: و أغرقناهم ليؤمن الالتباس برجوع الضمير إلى آل فرعون و الذين من قبلهم جميعا.
و قوله تعالى: {وَ كُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} أي جميع هؤلاء الذين أخذهم العذاب الإلهي من كفار قريش و آل فرعون و الذين من قبلهم كانوا ظالمين في جنب الله.
و فيه بيان أن الله سبحانه لا يأخذ بعقابه الشديد أحدا، و لا يبدل نعمته على أحد نقمة إلا إذا كان ظالما ظلما يبدل نعمة الله كفرا بآياته فهو لا يعذب بعذابه إلا مستحقه.
(بحث روائي)
في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعة قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير.
و فيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، و يقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه و ولي ذلك.
و يقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، و سهم لرسوله، و سهم لذي القربى و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لأبناء السبيل فسهم الله و سهم رسوله لأولي الأمر من بعد رسول الله وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، و سهم مقسوم له من الله فله نصف الخمس كلا، و نصف الخمس الثاني بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم، و سهم لمساكينهم، و سهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم فإن فضل منهم شيء فهو للوالي، و إن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده ما يستغنون به، و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم، و إنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس و أبناء سبيلهم عوضا لهم عن صدقات الناس تنزيها من الله لقرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كرامة من الله لهم من أوساخ الناس فجعل لهم خاصة من عنده و ما يغنيهم به، أن يصيرهم في موضع الذل و المسكنة، و لا بأس بصدقة بعضهم على بعض.
و هؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذين ذكرهم الله فقال: {وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ} و هم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر منهم و الأنثى ليس فيهم من أهل بيوتات قريش و لا من العرب أحد، و لا فيهم و لا منهم في هذا الخمس من مواليهم، و قد تحل صدقات الناس لمواليهم، و هم و الناس سواء.
و من كانت أمه من بني هاشم و أبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له، و ليس له من الخمس شيء لأن الله يقول، {اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}.
و في التهذيب، بإسناده عن علي بن مهزيار قال: قال لي علي بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: و أي شيء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه! فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم و ضياعهم قلت: و التاجر عليه و الصانع بيده؟ فقال: ذلك إذا أمكنهم بعد مئونتهم.
و فيه بإسناده عن زكريا بن مالك الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتَامى وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ} فقال: خمس الله عز و جل للإمام، و خمس الرسول للإمام، و خمس ذي القربى لقرابة الرسول للإمام، و اليتامى يتامى آل الرسول، و المساكين منهم، و أبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم.
و فيه بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له إبراهيم بن أبي البلاد: وجب عليك زكاة؟ قال: لا و لكن يفضل و نعطي هكذا، و سئل عن قول الله عز و جل: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى} فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ قال: للرسول، و ما كان للرسول فهو للإمام. قيل: أ فرأيت إن كان صنف أكثر من صنف، و صنف أقل من صنف؟ فقال: ذلك للإمام. قيل أ فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كيف يصنع؟ قال: إنما كان يعطي على ما يرى هو، و كذلك الإمام.
أقول: و الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) متواترة في اختصاص الخمس بالله و رسوله و الإمام من أهل بيته و يتامى قرابته و مساكينهم و أبناء سبيلهم لا يتعداهم إلى غيرهم، و أنه يقسم ستة أسهم على ما مر في الروايات، و أنه لا يختص بغنائم الحرب بل يعم كل ما كان يسمى غنيمة لغة من أرباح المكاسب و الكنوز و الغوص و المعادن و الملاحة، و في رواياتهم -كما تقدم أن ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما حرم عليهم الزكوات و الصدقات.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس (رضي الله عنهما) :أن نجدة الحروري أرسل يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر الله فكتب إليه: أنا كنا نرى أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا، و قالوا: و يقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس (رضي الله عنهما): هو لقربى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قسمه لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و قد كان عمر (رض) عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه و أبينا أن نقبله. و كان عرض عليهم أن يعين ناكحهم، و أن يقضي عن غارمهم، و أن يعطي فقيرهم، و أبى أن يزيدهم على ذلك.
أقول: و قوله في الرواية: «قالوا لمن تراه» معناه: قال الذين أرسلهم نجدة الحروري لابن عباس: و يقول نجدة لمن ترى الخمس أي يسألك عن فتواك فيمن يصرف إليه الخمس.
و قوله: هو لقربى رسول الله قسمها لهم «إلخ» ظاهره أنه فسر ذي القربى بأقرباء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ظاهر الروايات السابقة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم فسروا ذي القربى بالإمام من أهل البيت، و ظاهر الآية يؤيد ذلك حيث عبر بلفظ المفرد!.
و فيه أخرج ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سألت عليا (رضي الله عنه) فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرني كيف كان صنع أبي بكر و عمر (رضي الله عنهما) في الخمس نصيبكم؟ فقال: أما أبو بكر (رض) فلم يكن في ولايته أخماس، و أما عمر (رض) فلم يزل يدفعه إلي في كل خمس حتى كان خمس السوس و جنديسابور فقال و أنا عنده، هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس و قد أحل ببعض المسلمين و اشتدت حاجتهم.
فقلت، نعم، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال، لا تعرض في الذي لنا. فقلت: أ لسنا من أرفق المسلمين، و شفع أمير المؤمنين، فقبضه فوالله ما قبضناه و لا قدرت عليه في ولاية عثمان (رضي الله عنه).
ثم أنشأ علي (رضي الله عنه) يحدث فقال: إن الله حرم الصدقة على رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) فعوضه سهما من الخمس عوضا مما حرم عليه، و حرمها على أهل بيته خاصة دون أمته فضرب لهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سهما عوضا مما حرم عليهم.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): رغبت لكم عن غسالة الأيدي لأن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم.
أقول: و هو مبني على كون سهم أهل البيت هو ما لذي القربى فحسب.
و فيه أخرج ابن أبي شيبة عن جبير بن مطعم (رضي الله عنه) قال: قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سهم ذي القربى على بني هاشم و بني المطلب. قال: فمشيت أنا و عثمان بن
عفان حتى دخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم. أ رأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا، و إنما نحن و هم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية و الإسلام.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه) قال :آل محمد الذين أعطوا الخمس: آل علي و آل عباس و آل جعفر و آل عقيل.
أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من طرق أهل السنة و قد اختلفت الروايات الحاكية لعمل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرقهم بين ما مضمونه أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقسم الخمس على أربعة أسهم و بين ما مضمونه التقسيم على خمسة أسهم.
غير أنه يقرب من المسلم فيها أن من سهام الخمس ما يختص بقرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم المعنيون بذي القربى في آية الخمس على خلاف ما في الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و مما يقرب من المسلم فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقسمه بين المطلبيين ما دام حيا، و أنه انقطع عنهم على هذا الوصف في زمن الخلفاء الثلاث ثم جرى على ذلك الأمر بعدهم.
و من المسلم فيها أيضا أن الخمس يختص بغنائم الحرب على خلاف ما عليه الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و لا يتعداها إلى كل ما يصدق عليه اسم الغنيمة لغة.
و ما يتعلق بالآية من محصل البحث التفسيري هو الذي قدمناه و هناك أبحاث أخر كلامية أو فقهية خارجة عن غرضنا. و هناك بحث حقوقي اجتماعي في ما يؤثره الخمس من الأثر في المجتمع الإسلامي سيوافيك في ضمن الكلام على الزكاة.
بقي الكلام فيما تتضمنه الروايات أن الله سبحانه أراد بتشريع الخمس إكرام أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أسرته و ترفيعهم من أن يأخذوا أوساخ الناس في أموالهم، و الظاهر أن ذلك مأخوذ من قوله تعالى في آية الزكاة خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} التوبة: ١٠٣ فإن التطهير و التزكية إنما يتعلق بما لا يخلو من دنس و وسخ و نحوهما و لم يقع في آية الخمس ما يشعر بذلك.
و في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن عروة بن الزبير رض قال : أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالقتل في آي من القرآن فكان أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)
بدرا، و كان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فالتقوا يوم الجمعة ببدر لسبع أو ست عشرة ليلة مضت من رمضان، و أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا، و المشركون بين الألف و التسعمائة، و كان ذلك يوم الفرقان يوم فرق الله بين الحق و الباطل فكان أول قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمرو رجل من الأنصار، و هزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلا، و أسر منهم مثل ذلك.
و فيه أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال :كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان.
أقول: و روي مثل ذلك عن ابن جرير عن الحسن بن علي و عن ابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه، و أيضا عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن هشام و عنه عن عامر بن ربيعة البدري :مثله لكن فيه، كان يوم بدر يوم الإثنين لسبع عشرة من رمضان.
و ربما أطلق في بعض أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على التسعة عشر من رمضان يوم يلتقي الجمعان لما عد ليلته في أخبارهم من ليلة القدر، و هذا معنى آخر غير ما أريد في الآية من {يَوْمَ اَلْفُرْقَانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ} ففي تفسير العياشي، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان. قلت: ما معنى قوله: يلتقي الجمعان؟ قال: يجتمع فيها ما يريد من تقديمه و تأخيره و إرادته و قضائه.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: {وَ اَلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} قال: أبو سفيان و أصحابه.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الآية) قال: قال: يعلم من بقي أن الله نصره.
و في الدر المنثور :في قوله تعالى: {وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ} الآية :أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل مائة.
و فيه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ} إلخ: أخرج الحاكم و صححه عن أبي موسى (رضي الله عنه): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يكره الصوت عند القتال.
و فيه أخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا كان عند القتال لم يقاتل أول النهار، و أخره إلى أن تزول الشمس و تهب الرياح و تنزل النصر.
و في تفسير البرهان: في قوله تعالى: {وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الآية :بإسناده عن يحيى بن الحسن بن فرات قال: حدثنا أبو المقدم ثعلبة بن زيد الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري (رحمه الله) يقول :تمثل إبليس في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال لقريش: لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم.
و تصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: أن محمدا و الصباة معه عند العقبة فأدركوهم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) للأنصار: لا تخافوا فإن صوته لن يعدوه.
و تصور في يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد و أشار عليهم في أمرهم فأنزل الله تعالى: {وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ }.
و تصور في يوم قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوا كسروانية و لا قيصرانية وسعوها تتسع فلا تردوا إلى بني هاشم فينظر بها الحبالى.
و في المجمع قيل :إنهم لما التقوا كان إبليس في صف المشركين أخذ بيده الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث بن هشام: يا سراقة إلى أين؟ أ تخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، فقال: و الله ما نرى إلا جعاميس يثرب فدفع في صدر الحارث و انطلق و انهزم الناس.
و فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: و الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و روى مثله ابن شهرآشوب عنهما (عليه السلام)، و في معنى هاتين الروايتين روايات كثيرة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره.
و قد مر في البيان المتقدم استبعاد بعض المفسرين ذلك و تضعيفه ما ورد فيه من الروايات، و هي إنما تثبت أمرا ممكنا غير مستحيل، و الاستبعاد الخالي لا يبني عليه في الأبحاث العلمية، و التمثلات البرزخية ليست بشاذة نادرة فلا موجب للإصرار على النفي كما أن الإثبات كذلك غير أن ظاهر الآية أوفق للإثبات.
و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ} الآيتين أخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق في قوله: {إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: هم الفئة الذين خرجوا مع قريش احتبسهم آباؤهم فخرجوا و هم على الارتياب فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قالوا: غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم و كثرة عدوهم.
و هم فئة من قريش مسمون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، و الحارث بن زمعة، و علي بن أمية بن خلف، و العاصي بن منبه.
أقول: و هذا يقبل الانطباق بوجه على قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} فحسب، و في بعض التفاسير أن القائل: {غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ} هم المنافقون و الذين في قلوبهم مرض من أهل المدينة، و لم يخرجوا مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و سياق الآية الظاهر في حضورهم و قولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.
و في رواية أبي هريرة - على ما رواه في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط عنه - ما لفظه: و قال عتبة بن ربيعة و ناس معه من المشركين يوم بدر، {غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ} فأنزل الله: {إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ}. و الذي ذكره لا ينطبق على الآية البتة فالقرآن الكريم لا يسمي المشركين منافقين و لا الذين في قلوبهم مرض.
و في تفسير العياشي، عن أبي علي المحمودي عن أبيه رفعه في قول الله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَارَهُمْ} قال: إنما أراد أستاههم. إن الله كريم يكني.
و في تفسير الصافي، عن الكافي عن الصادق (عليه السلام): أن الله بعث نبيا من أنبيائه إلى
قومه، و أوحى إليه؛ أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية و لا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، و إنه ليس من أهل قرية و لا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون.
و فيه أيضا عنه (عليه السلام) أنه قال: كان أبي يقول: إن الله عز و جل قضى قضاء حتما، لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٥٥ الی ٦٦]
{إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لاَ يَتَّقُونَ ٥٦ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ٥٧ وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ ٥٨ وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ٥٩ وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبَاطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اَللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ٦٠وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ٦١ وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللَّهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ ٦٢ وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً
مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٦٣ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٦٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ٦٥ اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ مَعَ اَلصَّابِرِينَ ٦٦}
(بيان)
أحكام و دستورات في الحرب و السلم و المعاهدات و نقضها و غير ذلك، و صدر الآيات يقبل الانطباق على طوائف اليهود التي كانت في المدينة و حولها و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عاهدهم بعد هجرته إلى المدينة أن لا يضروه و لا يغدروا به و لا يعينوا عليه عدوا و يقروا على دينهم و يأمنوا في أنفسهم فنقضوا العهد نقضا بعد نقض حتى أمر الله سبحانه بقتالهم فآل أمرهم إلى ما آل إليه، و سيجيء بعض أخبارهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و على هذا فالآيات الأربع الأول غير نازلة مع ما سبقها من الآيات و لا متصلة بها كما يعطيه سياقها و أما السبع الباقية فليست بواضحة الاتصال بما قبلها من الآيات الأربع و لا بما قبل ما قبلها.
قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} الكلام مسوق لبيان كون هؤلاء شر جميع الموجودات الحية من غير شك في ذلك لما في تقييد الحكم بقوله: {عِنْدَ اَللَّهِ} من الدلالة عليه فإن معناه الحكم؛ و ما يحكم و يقضي به الله سبحانه لا يتطرق إليه خطأ و قد قال تعالى: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسى} طه: ٥٢.
و قد افتتح هذه القطعة من الكلام المتعلق بهم بكونهم شر الدواب عنده لأن مغزى الكلام التحرز منهم و دفعهم، و من المغروز في الطباع أن الشر الذي لا يرجى معه خير يجب دفعه بأي وسيلة صحت و أمكنت فناسب ما سيأمره في حقهم بقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} إلخ الافتتاح ببيان كونهم شر الدواب.
و عقب قوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} بقوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأ بفاء التفريع أي إن من وصفهم الذي يتفرع على كفرهم أنهم لا يؤمنون، و لا يتفرع عدم الإيمان على الكفر إلا إذا رسخ في النفس رسوخا لا يرجى معه زواله فلا مطمع حينئذ في دخول الإيمان في قلب هذا شأنه لمكان المضادة التي بين الكفر و الإيمان.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} الذين ثبتوا على الكفر، و عند هذا يرجع معنى هذه الآية إلى نظيرتها السابقة: {إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَ لَوْ عَلِمَ اَللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ}الأنفال: ٢٣.
على أن الآيتين لما دلتا على حصر الشر عند الله في طائفة معينة من الدواب كانت الآية الأولى مع دلالتها على كون أهلها ممن لا يؤمنون البتة دالة على أن المراد بقوله في الآية الثانية: {اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} كونهم ثابتين على كفرهم لا يزولون عنه البتة.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لاَ يَتَّقُونَ}بيان للذين كفروا في الآية السابقة أو بدل منهم بدل البعض من الكل، و يتفرع عليه أن «من» في قوله {مِنْهُمْ} تبعيضية و المعنى: الذين عاهدتهم من بين الذين كفروا، و أما احتمال أن يكون من زائدة و المعنى: الذين عاهدتهم، أو بمعنى مع و المعنى: الذين عاهدت معهم فليس: بشيء.
و المراد بكل مرة مرات المعاهدة أن ينقضون عهدهم في كل مرة عاهدتهم و هم لا يتقون الله في نقض العهد أو لا يتقونكم و لا يخافون نقض عهدكم، و فيه دلالة على تكرر النقض منهم.
قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
قال في المجمع الثقف الظفر و الإدراك بسرعة، و التشريد التفريق على اضطراب. انتهى، و قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} أصله إن تثقفهم دخل «ما» التأكيد على إن الشرطية ليصحح دخول نون التأكيد على الشرط و الكلام مسوق للتأكيد في ضمن الشرط.
و المراد بتشريد من خلفهم بهم أن يفعل بهم من التنكيل و التشديد ما يعتبر به من خلفهم، و يستولي الرعب و الخوف على قلوبهم فيتفرقوا و ينحل عقد عزيمتهم و اتحاد إرادتهم على قتال المؤمنين و إبطال كلمة الحق.
و على هذا فالمراد بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} رجاء أن يتذكروا ما لنقض العهد و الإفساد في الأرض و المحادة مع كلمة الحق من التبعة السيئة و العاقبة المشئومة فإن الله لا يهدي القوم الفاسقين و إن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ففي الآية إيماء إلى الأمر بقتالهم ثم التشديد عليهم و التنكيل بهم عند الظفر بهم و ثقفهم، و إيماء إلى أن وراءهم من حاله حالهم في نقض العهد و تربص الدوائر على الحق و أهله.
قوله تعالى: {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ} الخيانة على ما في المجمع نقض العهد فيما يؤتمن عليه، و هذا معنى الخيانة في العهود و المواثيق، و أما الخيانة بمعناها العام فهي نقض ما أبرم من الحق في عهد أو أمانة، و النبذ هو الإلقاء و منه قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} آل عمران: ١٨٧ و السواء بمعنى الاستواء و العدل.
و قوله: {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ} كقوله في الآية السابقة: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} و معنى الخوف ظهور أمارات تدل على وقوع ما يجب التحرز منه و الحذر عنه و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ} تعليل لقوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ}.
و معنى الآية: و إن خفت من قوم بينك و بينهم عهد أن يخونوك و ينقضوا عهدهم و لاحت آثار دالة على ذلك فانبذ و ألق إليهم عهدهم و أعلمهم إلغاء العهد لتكونوا أنتم و هم على استواء من نقض عهد أو تكون مستويا على عدل فإن من العدل المعاملة بالمثل و السواء لأنك إن قاتلتهم قبل إلغاء العهد كان ذلك منك خيانة و الله لا يحب الخائنين.
و ملخص الآيتين دستوران إلهيان في قتال الذين لا عهد لهم بالنقض أو بخوفه فإن كان أهل العهد من الكفار لا يثبتون على عهدهم بنقضه في كل مرة فعلى ولي الأمر أن يقاتلهم و يشدد عليهم، و إن كانوا بحيث يخاف من خيانتهم و لا وثوق بعهدهم فيعلمون إلغاء عهدهم ثم يقاتلون و لا يبدأ بقتالهم قبل الاعلام فإنما ذلك خيانة، و أما إن كانوا عاهدوا و لم ينقضوا و لم يخف خيانتهم فمن الواجب حفظ عهدهم و احترام عقدهم و قد قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ} التوبة: ٤. و قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة: ١.
قوله تعالى: {وَ لاَ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} القراءة المشهورة «تحسبن» بتاء الخطاب، و هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تطييبا لنفسه و تقوية لقلبه كالخطاب الآتي بعد عدة آيات: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} و كالخطاب الملقى بعده لتحريض المؤمنين: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتَالِ}.
و السبق تقدم الشيء على طالب اللحوق به، و الإعجاز إيجاد العجز، و قوله: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} تعليل لقوله: «و لا تحسبن» إلخ، و المعنى: يا أيها النبي لا تحسبن أن الذين كفروا سبقونا فلا ندركهم، لأنهم لا يعجزون الله و له القدرة على كل شيء.
قوله تعالى: {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبَاطِ اَلْخَيْلِ}. إلى آخر الآية الإعداد تهيئة الشيء للظفر بشيء آخر و إيجاد ما يحتاج إليه الشيء المطلوب في تحققه كإعداد الحطب و الوقود للإيقاد و إعداد الإيقاد للطبخ، و القوة كل ما يمكن معه عمل من الأعمال، و هي في الحرب كل ما يتمشى به الحرب و الدفاع من أنواع الأسلحة، و الرجال المدربين و المعاهد الحربية التي تقوم بمصلحة ذلك كله، و الرباط مبالغة في الربط و هو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا و رابطه يرابطه مرابطة و رباطا فالكل بمعنى غير أن الرباط أبلغ من الربط، و الخيل هو الفرس، و الإرهاب قريب المعنى من التخويف.
و قوله: {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبَاطِ اَلْخَيْلِ} أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض و الاعتبار فإن المجتمع الإنساني لا يخلو من التآلف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع و متضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا و هناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، و يخالفه في سنته، و لا يعيشان
معا برهة من الدهر إلا و ينشب بينهما الخلاف و يؤدي ذلك إلى التغلب و القهر.
فالحروب المبيدة و الاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانية و المجتمعات هي هذه المجتمعات، و يدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الإنسان في خلقه بقوى لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب و الشدة في الأبدان، و الفكر العامل في القهر و الغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهز دائما بإعداد ما استطاع من قوة و من رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح.
و الذي اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيم هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، و يراعى فيها مصلحة الضعيف و القوي و الغني و الفقير و الحر و العبد و الرجل و المرأة و الفرد و الجماعة و البعض و الكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس و أعراضهم و أموالهم بما شاء و أراد، و لا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس و تبطل منافع آخرين و ترضي الأكثرين (النصف + واحد) و تضطهد و تسخط الأقلين (النصف - واحد).
و لعل هذا هو السر في قوله تعالى: {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} و قوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ} و قوله: «و لا تحسبن الذين كفروا سبقوا» و كذا في الآيات التالية كقوله: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} إلى غير ذلك.
و ذلك أن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد و تعظيم إرادة البعض و احترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد.
فالمنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها، و يعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، و الإعداد و إن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية و الإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية و التدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.
و قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اَللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} في مقام التعليل لقوله: {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ} أي و أعدوا لهم ذلك لترهبوا و تخوفوا به عدو الله و عدوكم، و في عدهم عدوا لله و لهم جميعابيان للواقع و تأكيد في التحريض.
و في قوله: {وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله و لهم، و المراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون على ما يعطيه إطلاق اللفظ كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين و صورتهم يصلون و يصومون و يحجون و يجاهدون ظاهرا، و من غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.
و الإرهاب بإعداد القوة، و إن كان في نفسه من الأغراض الصحيحة التي تتفرع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، و لذلك أردفه بقوله: {وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} ليدل على جماع الغرض.
و ذلك أن الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة، و حفظ المجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه و أعراضه و أمواله، و باللفظ المناسب لغرض الدين إطفاء نائرة الفساد الذي يبطل كلمة الحق و يهدم بنيان دين الفطرة الذي به يعبد الله في أرضه و يقوم ملاك العدل في عباده.
و هذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الديني فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، و هو الجهاد لإحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه و إن كان في صورة أخرى فإن أنفق في سبيله مالا أو جاها أو أي نعمة من هذا القبيل فهو من الإنفاق في سبيل الضروريات الذي لا يلبث دون أن يرجع إليه نفسه نفعه و ما استعقبه من نماء في الدنيا و الآخرة، و إن أنفق في سبيله نفسا فهو الشهادة في سبيل الله التي تستتبع حياة باقية خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية ببقاء الاسم و خلود الذكر و تمام الفخر فهؤلاء و إن تنبهوا اليوم لهذا التعليم الإسلامي، و أن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع و ضرر لكنهم خبطوا في مسيرهم و اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الكمال الإنساني الذي لأجله تندبه الفطرة و تدعوه إلى الاجتماع، و هو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا
الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتع الغير بلذائذ المادة.
و بالجملة فإعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلامي و منافعه الحيوية، و التظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، و هو أيضا من شعب الدفع و نوع معه، فقوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللَّهِ} إلخ يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة إلى أفراد المجتمع، و قوله: {وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} يذكر أن ما أنفقوه في سبيله لا يبطل و لا يفوت بل يرجع إليهم من غير أن يفوت عن ذي حق حقه.
و هذا أعني قوله: {وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} إلخ أعم فائدة من مثل قوله: {وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} البقرة: ٢٧٢ فإن الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله هاهنا: {وَ مَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ}.
قوله تعالى: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ} في المجمع: الجنوح الميل، و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه، و لا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم. انتهى، و السلم بفتح السين و كسرها الصلح.
و قوله: {وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ} من تتمة الأمر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد، و المعنى: و إن مالوا إلى الصلح و المسالمة فمل إليها و توكل في ذلك على الله و لا تخف من أن يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك و عدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع العليم لا يغفله سبب و لا يعجزه مكر بل ينصرك و يكفيك و هذا هو الذي يثبته قوله في الآية التالية {وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللَّهُ}.
و قد تقدم فيما أسلفناه من معنى التوكل على الله أنه ليس اعتمادا عليه سبحانه بإلغاء الأسباب الظاهرية بل سلب الاعتماد القطعي على الأسباب الظاهرية لأن الذي يبدو للإنسان منها بعض يسير منها دون جميعها، و السبب التام الذي لا يتخلف عن مسببه هو الجميع الذي يحمل إرادته سبحانه.
فالتوكل هو توجيه الثقة و الاعتماد إلى الله سبحانه الذي بمشيته يدور رحى الأسباب عامة، و لا ينافيه أن يتوسل المتوكل بما يمكنه التوسل به من الأسباب اللائحة عليه من غير أن يلغي شيئا منها فيركب مطية الجهل.
قوله تعالى: {وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللَّهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ} الآية متصلة بما قبلها و هي بمنزلة دفع الدخل، و ذلك أن الله سبحانه لما أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالجنوح للسلم إن جنحوا له و لم يرض بالخديعة لأنها من الخيانة في حقوق المعاشرة و المواصلة للعامة و الله لا يحب الخائنين كان أمره بالجنوح المذكور مظنة سؤال و هو أن من الجائز أن يكون جنوحهم للسلم خديعة منهم يضلون بها المؤمنين ليغيروا عليهم في شرائط و أحوال مناسبة فأجاب سبحانه بأنا أمرناك بالتوكل فإن أرادوا بذلك أن يخدعوك فإن حسبك الله و قد قال تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}.
و هذا مما يدل على أن هناك أسبابا وراء ما ينكشف لنا من الأسباب الطبيعية العادية تجري على ما يوافق صلاح العبد المتوكل إذا خانته الأسباب الطبيعية العادية و لم تساعده على مطلوبه الحق.
و قوله: {هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ} بمنزلة الاحتجاج على قوله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللَّهُ} بذكر شواهد تدل على كفايته تعالى و هي أنه أيده بنصره و أيده بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم و هي شيء متباغضة.
قوله تعالى: {وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} إلخ، قال الراغب: الإلف اجتماع مع التيام يقال: ألفت بينهم، و منه الألفة، و يقال: للمألوف إلف و آلف قال تعالى: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} انتهى.
أورد سبحانه في جملة ما استشهد على كفايته لمن توكل عليه أنه كفى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بتأليف قلوب المؤمنين بعد ذكر تأييده بهم، و الكلام مطلق و الملاك المذكور فيه عام يشمل جميع المؤمنين و إن كانت الآية أظهر انطباقا على الأنصار حيث أيد الله بهم نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) فآووه و نصروه و ألف الله سبحانه بدينه بينهم أنفسهم و قد نشبت فيهم الحروب المبيدة و كانت قائمة على ساقها دهرا طويلا و هي حرب «بغاث» بين الأوس و الخزرج حتى اصطلحوا بنزول الإسلام في دارهم و أصبحوا بنعمته إخوانا.
و قد امتن الله بتأليفه بين قلوب المسلمين في مواضع من كلامه و بين أهمية موقعه
بمثل قوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
و ذلك أن الإنسان مفطور على حب النعم الحيوية التي تتم بها حياته لا بغية له دونها و لا يريد في الحقيقة شيئا و لا يقصده إلا لينتفع به في نفسه و ما ربما يلوح أنه يريد نفعا عائدا إلى غيره فالتأمل الدقيق يكشف عن اشتماله على نفع عائد إليه نفسه، و إذ كان يحب الوجدان فهو يبغض الفقدان.
و بهذين الوصفين الغريزيين أعني الحب و البغض يتم له أمر الحياة و لو أنه أحب كل شيء و منها الأضداد و المتناقضات لبطلت الحياة و لو أنه أبغض كل شيء حتى المتنافيات لبطلت الحياة، و قد فطره الله سبحانه على الحياة الاجتماعية؛ لقصور ما عنده من القوى و الأدوات عن القيام بجميع ما يحتاج إليه من ضروريات حياته و من الضروري أن الاجتماع لا يتم إلا باختصاص كل فرد بما يحرم عنه آخرون من مال أو جاه أو زينة أو جمال أو كل ما يتنافس فيه الطباع الإنساني أو يتعلق به الهوى النفساني على اختلاف فيه بالزيادة و النقيصة.
و هذا أول ما يودع أنواع العداوة و البغضاء في القلوب و الشح في النفوس ثم ما ينبسط بينهم من وجوه الحرمان بالظلم و العدوان و بغي البعض على البعض في دم أو عرض أو مال أو غير ذلك مما يتنعمون به و يتنافسون فيه و يعلمون لأجله، تثير في داخل نفوسهم كل بغضاء و شنآن.
و هذا كله أوصاف و غرائز باطنية في الجماعة لا تلبث دون أن تظهر في أعمالهم و تتلاقى في أفعالهم و يماس بعضها بعضا بينهم في مسير حياتهم و فيه البلوى التي تتعقب الفتن و المصائب الاجتماعية التي تبيد النفوس و تهلك الحرث و النسل، و قد شهدت بذلك الحوادث الجارية على توالي القرون و الأجيال.
و مهما ظنت الأمم المجتمعة أن بغيتها في اجتماعها هي التمتع من العيشة المادية المحدودة بالحياة الدنيوية فلا سبيل إلى قلع مادة هذا الفساد من أصلها و قطع منابته فإن الدار دار التزاحم، و المجتمع قائم على قاعدة الاختصاص، و النفوس مختلفة في الاستعداد، و الحوادث الواقعة و العوامل المؤثرة و الأحوال الخارجة دخيلة في معايشهم و حياتهم.
قال تعالى: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً} المعارج: ٢١، و قال: {إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} يوسف: ٥٣، و قال: {وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود: ١١٩، إلى غير ذلك من الآيات.
و غاية ما يمكن الإنسان في بسط الألفة و إرضاء القلوب المشحونة بالعداوة و البغضاء أن يقنعهم أو يسكتهم ببذل ما يحبون من مال أو جاه أو سائر النعم الدنيوية المحبوبة عندهم غير أنه إنما ينفع في موارد جزئية خاصة، و أما العداوة و البغضاء العامتان فلا سبيل إلى إزالتهما عن القلوب ببذل النعمة فإنه لا يبطل غريزة الاستزادة و الشح الملتهب في كل نفس بما يشاهد من المزايا الحيوية عند غيره.
على أن من النعم ما لا يقبل إلا الاختصاص و الانفراد كالملك و الرئاسة العالية و أمور أخرى تجري مجراهما حتى أن الأمم الراقية ذوي المدنية و الحضارة لم يتمكنوا من معالجة هذا الداء إلا بما يزول به بعض شدته، و يستريح جثمان المجتمع من بعض عذابه، و أما البغضاءات المتعلقة بالأمور التي تختص به بعض مجتمعهم كالرئاسة و الملك فهي على حالها تتقد بشررها القلوب و لا يزال يأكل بعضها بعضا.
على أن ذلك ينحصر فيما بينهم و أما المجتمعات الخارجة من مجتمعهم فلا يعبأ بحالهم و لا يعتنى من منافعهم الحيوية إلا بما يوافق منافع أولئك و إن أعيتهم طوارق البلاء و عفاهم الدهر بالعناء.
و قد من الله على الأمة الإسلامية إذ أزال الشح عن نفوسهم و ألف بين قلوبهم بمعرفة إلهية علمه إياهم و بثه فيما بينهم ببيان أن الحياة الإنسانية حياة خالدة غير محصورة في هذه الأيام القلائل التي ستفنى و يبقى الإنسان و لا خبر عنها، و إن سعادة هذه الحياة الدائمة غير التمتع بلذائذ المادة و الرعي في كلإ الخسة بل هي حياة واقعية و عيشة حقيقية يحيى و يعيش بها الإنسان في كرامة عبودية الله سبحانه، و يتنعم بنعم القرب و الزلفى ثم يتمتع بما تيسر له من متاع الحياة الدنيا مما ساقه إليه الحظ أو الاكتساب عارفا بحقوق النعمة ثم ينتقل إلى جوار الله و يدخل دار رضوانه و يخالط هناك الصالحين من عباده، و يحيى حق الحياة قال تعالى: {وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}الرعد: ٢٦، و قال تعالى: {وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت: ٦٤ و قال: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا
وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِهْتَدى} النجم: ٣٠.
فعلى المسلم أن يؤمن بربه و يتربى بتربيته، و يعزم عزمه و يجمع بغيته على ما عند ربه فإنما هو عبد مدبر لا يملك ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و من كان هذا وصفه لم يكن له شغل إلا بربه الذي بيده الخير و الشر و النفع و الضر و الغنى و الفقر و الموت و الحياة، و كان عليه أن يسير مسير الحياة بالعلم النافع و العمل الصالح فما سعد به من مزايا الحياة الدنيا فموهبة من عند ربه و ما حرم منه احتسب عند ربه أجره، و ما عند الله خير و أبقى.
و ليس هذا من إلغاء الأسباب في شيء و لا إبطالا للفطرة الإنسانية الداعية إلى العمل و الاكتساب، النادبة إلى التوسل بالفكر و الإرادة، المحرضة إلى الاجتهاد في تنظيم العوامل و العلل، الموصلة إلى المقاصد الإنسانية و الأغراض الصحيحة الحيوية فقد فصلنا القول في توضيح ذلك في موارد متفرقة من هذا الكتاب.
و إذا تسنن المسلمون بهذه السنة الإلهية، و حولوا هوى قلوبهم عن ذلك التمتع المادي الذي ليس إلا بغية حيوانية و غرضا ماديا إلى هذا التمتع المعنوي الذي لا تزاحم فيه و لا حرمان عنده، ارتفعت عن قلوبهم العداوة و البغضاء، و خلصت نفوسهم من الشح و الرين، و أصبحوا بنعمة الله إخوانا، و أفلحوا حق الفلاح قال: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} آل عمران: ١٠٣ و قال: {وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ} الحشر: ٩.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قد قال تعالى قبله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللَّهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ} فالمراد و الله أعلم يكفيك الله بنصره و بمن اتبعك من المؤمنين، و ليس المراد أن هناك سببين كافيين أو سببا كافيا ذا جزئين يتألف منهما سبب واحد كاف فالتوحيد القرآني يأبى ذلك.
و ربما قيل: إن المعنى حسبك الله و حسب من اتبعك من المؤمنين بعطف قوله: {مَنِ اِتَّبَعَكَ} على موضع الكاف من {حَسْبُكَ}.
و الكلام على أي حال مسوق للتحريض على القتال على ما يفيده السياق و القرائن الخارجة فإن تأثير المؤمنين في كفايتهم له (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما هو في القتال على ما يسبق إلى الذهن.
و ذكر بعضهم: أن الآية نزلت بالبيداء قبل غزوة بدر، و على هذا لا اتصال لها بما بعدها، و أما اتصالها بما قبلها فغير مقطوع به.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتَالِ} إلى آخر الآية. التحريض و التحضيض و الترغيب و الحض و الحث بمعنى و الفقه أبلغ و أغزر من الفهم، و قوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} أي من الذين كفروا كما قيد به الألف بعدا، و كذلك قوله: {وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ} أي مائة صابرة كما قيد بها {عِشْرُونَ} قبلا.
و قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} الباء للسببية أو الإله و الجملة تعليلية متعلقة بقوله: {يَغْلِبُوا} أي عشرون صابرون منكم يغلبون مائتين من الذين كفروا، و مائة صابرة منكم يغلبون ألفا من الذين كفروا كل ذلك بسبب أن الكفار قوم لا يفقهون.
و فقدان الفقه في الكفار و بالمقابلة ثبوته في المؤمنين هو الذي أوجب أن يعدل الواحد من العشرين من المؤمنين أكثر من العشرة من المائتين من الذين كفروا حتى يغلب العشرون من هؤلاء المائتين من أولئك على ما بني عليه الحكم في الآية فإن المؤمنين إنما يقدمون فيما يقدمون عن إيمان بالله و هو القوة التي لا يعادله و لا يقاومه أي قوة أخرى لابتنائه على الفقه الصحيح الذي يوصفهم بكل سجية نفسانية فاضلة كالشجاعة و الشهامة و الجرأة و الاستقامة و الوقار و الطمأنينة و الثقة بالله و اليقين بأنه على إحدى الحسنيين إن قتل ففي الجنة و إن قتل ففي الجنة و إن الموت بالمعنى الذي يراه الكفار و هو الفناء لا مصداق له.
و أما الكفار فإنما اتكاؤهم على هوى النفس، و اعتمادهم على ظاهر ما يسوله لهم الشيطان، و النفوس المعتمدة على أهوائها لا تتفق للغاية و إن اتفقت أحيانا فإنما تدوم عليه ما لم يلح لائح الموت الذي تراه فناء، و ما أندر ما تثبت النفس على هواها حتى حال ما تهدد بالموت و هي على استقامة من الفكر بل تميل بأدنى ريح مخالف، و خاصة في المخاوف العامة و المهاول الشاملة كما أثبته التاريخ من انهزام المشركين يوم بدر و هم
ألف بقتل سبعين منهم، و نسبة السبعين إلى الألف قريبة من نسبة الواحد إلى أربعة عشر فكان انهزامهم في معنى انهزام الأربعة عشر مقاتلا من مقاتل واحد، و ليس ذلك إلا لفقه المؤمنين الذي يستصحب العلم و الإيمان، و جهل الكفار الذي يلازمه الكفر و الهوى.
قوله تعالى: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ} إلخ أي إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الذين كفروا و إن يكن منكم ألف صابر يغلبوا ألفين من الذين كفروا على وزان ما مر في الآية السابقة.
و قوله: {وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} المراد به الضعف في الصفات الروحية و لا محالة ينتهي إلى الإيمان فإن الإيقان بالحق هو الذي ينبعث عنه جميع السجايا الحسنة الموجبة للفتح و الظفر كالشجاعة و الصبر و الرأي المصيب و أما الضعف من حيث العدة و القوة فمن الضروري أن المؤمنين لم يزالوا يزيدون عدة و قوة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و قوله: {بِإِذْنِ اَللَّهِ} تقييد لقوله: {يَغْلِبُوا} أي إن الله لا يشاء خلافه و الحال أنكم مؤمنون صابرون، و بذلك يظهر أن قوله: {وَ اَللَّهُ مَعَ اَلصَّابِرِينَ} يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الإذن.
و قوله تعالى في الآية السابقة تعليلا للحكم: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} و كذا في هذه الآية: {وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} {وَ اَللَّهُ مَعَ اَلصَّابِرِينَ} و عدم الفقه و الضعف الروحي و الصبر من العلل و الأسباب الخارجية المؤثرة في الغلبة و الظفر و الفوز بلا شك يدل على أن الحكم في الآيتين مبني على ما اعتبر من الأوصاف الروحية في الفئتين: المؤمنين و الكفار، و إن القوى الداخلة الروحية التي اعتبرت في الآية الأولى ما في المؤمن الواحد منها غالبة على القوى الداخلة الروحية في عشر من الكفار عادت بعد زمان يسير يشير إليه بقوله: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ} لا يربو ما في المؤمن الواحد منها - من متوسطي المؤمنين - إلا على اثنين من الكفار فقد فقدت القوة من أثرها بنسبة الثمانين في المائة، و تبدلت العشرون و المائتان في الآية الأولى إلى المائة و المائتين في الآية الثانية، و المائة و الألف في الأولى إلى الألف و الألفين في الثانية.
و البحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك فإن المجتمعات المنزلية و الأحزاب المنعقدة
في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيوية أو دينية في أول تكونها و نشأتها تحس بالموانع المضادة و المحن الهادمة لبنيانها من كل جانب فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، و يستيقظ ما نامت من نفسانياتها للتحذر من المكاره و التفدية في طريق مطلوبها بالمال و النفس.
و لا تزال تجاهد و تفدي ليلها و نهارها، و تتقوى و تتقدم حتى تمهد لنفسها حياة فيها بعض الاستقلال، و يصفو لها الجو بعض الصفاء و يكثر جمعها و يضرب بجرانها الأرض أخذت بالاستفادة من فوائد جهدها و التنعم بنعمة الراحة، و التوسع في متسع الأمن، و شرعت القوى الروحية الباسطة الباعثة للعمل في الخمود.
على أن المجتمع و إن قلت أفراده لا يخلو من اختلاف في الإيمان، و السجايا الروحية الجميلة من قوي فيها و ضعيف، و كلما كثرت الأفراد ازداد ضعفاء الإيمان و الذين في قلوبهم مرض و المنافقون فتنزلت القوى الروحية في الفرد المتوسط و ارتفعت كفة الميزان عما كانت عليه من الثقل.
و الجماعات الدينية و الأحزاب الدنيوية في ذلك على السواء و السنة الطبيعية الجارية في النظام الإنساني تجري على الجميع على نسق واحد، و قد أثبتت التجربة القطعية أن المجتمعات المؤتلفة لغرض هام كلما قلت أفرادها و قويت رقباؤها و مزاحموها، و أحاطت بها المحن و الفتن كانت أكثر نشاطا للعمل و أحد في الأثر و كلما كثرت أفرادها و قلت مزاحماتها و الموانع الحائلة بينها و بين مقاصدها و مطالبها كانت أكثر خمودا و أقل تيقظا و أسفه حلما.
و التدبر الكافي في مغازي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ينور ذلك فهذه غزوة بدر غلب فيها المسلمون و هم ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا على ما بهم من رثاثة الحال و قلة العدة و فقد السلاح و القوة كفار قريش و هم يعدلون ثلاثة أمثال المسلمين أو يزيدون على ما لهم من العزة و الشوكة و القوة ثم ما جرى على المسلمين في غزوة أحد ثم في غزوة الخندق ثم في غزوة خيبر ثم في غزوة حنين و هي أعجبها و قد ذكرها الله سبحانه بما لا يبقى لباحث ريبا في ذلك إذ قال: {وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إلى آخر الآيات.
فالآية تدل أولا: على أن الإسلام كان كلما زاد في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عزة و شوكة
ظاهرا زادت نقصا و خمودا في قوى المسلمين الروحية العامة و درجة إيمانهم و سجاياهم الجميلة النفسانية المعنوية باطنا حتى استقرت بعد غزوة بدر بقليل أو كثير على خمس ما كانت عليه قبلها كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى في الآيات التالية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيَا وَ اَللَّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لاَ كِتَابٌ مِنَ اَللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الآيات).
و ثانيا: أن الظاهر أن الآيتين نزلتا دفعة واحدة فإنهما و إن كانتا تخبران عن حال المؤمنين في زمانين مختلفين كما يشير إليه قوله في الآية الثانية: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ} لكن الآيتين تقيسان كما مر طبع قوى المؤمنين الروحية في زمانين مختلفين، و سياق الثانية بالنظر إلى هذا القياس بحيث لا يستقل عن الأولى، و وجود حكمين مختلفين في زمانين لا يوجب أن ينزل الآية المتضمنة لأحدهما في زمان غير زمان نزول الأخرى المتضمنة للآخر.
نعم لو كانت الآيتان مقصورتين فيبيان الحكم التكليفي فحسب كان الظاهر نزول الثانية بعد زمان نزلت فيه الأولى.
و ثالثا: أن ظاهر قوله تعالى: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ} كما قيل كون الآيتين مسوقتين لبيان الحكم التكليفي لأن التخفيف لا يكون إلا بعد التكليف فاللفظ لفظ الخبر و المراد به الأمر و محصل المراد في الآية الأولى: ليثبت الواحد منكم للعشرة من الكفار و في الآية الثانية: الآن خفف الله في أمره فليثبت الواحد منكم للاثنين من الكفار.
و اختصاص التخفيف بباب التكاليف كما قيل و إن أمكنت المناقشة فيه لكن ظهور الآيتين في وجود حكمين مختلفين مترتبين بحسب الزمان أحدهما أخف من الآخر لا ينبغي الارتياب فيه.
و رابعا: أن ظاهر التعليل في الآية الأولى بالفقه، و في الآية الثانية بالصبر مع تقييد المقاتل من المؤمنين في الآيتين جميعا بالصبر يدل على أن الصبر يرجح الواحد في قوة الروح على مثليه، و الفقه يرجحه فيها على خمسة أمثاله فإذا اجتمعا في واحد يرجح على عشرة أمثال نفسه، و الصبر لا يفارق الفقه و إن جاز العكس.
و خامسا: أن الصبر واجب في القتال على أي حال.
(بحث روائي)
في تفسير البيضاوي في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} هم يهود بني قريظة عاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح و قالوا: نسينا، ثم عاهدهم فنكثوا و مالئوهم عليه يوم الخندق، و ركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم.
أقول: و روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد، و روي عن سعيد بن جبير أن الآية نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت. و إيضاح ما تشير إليه الآية من نقض اليهود ميثاق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مرة بعد مرة و ما قاساه من المحن من ناحيتهم يحتاج إلى سير إجمالي فيما جرى بينه (صلى الله عليه وآله و سلم) و بينهم من الأمر بعد هجرته (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة إلى سبع سنين من الهجرة.
و قد كانت طوائف من اليهود هاجرت من بلادها إلى الحجاز و توطنوا بها و بنوا فيها الحصون و القلاع، و زادت نفوسهم و كثرت أموالهم و عظم أمرهم و قد مرت في ذيل قوله تعالى: {وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ} البقرة: ٨٩ في الجزء الأول من الكتاب روايات في بدء مهاجرتهم إلى الحجاز و كيفية نزولهم حول المدينة و بشارتهم الناس بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و لما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة و دعاهم إلى الإسلام استنكفوا عن الإيمان به فصالح يهود المدينة و عاهدهم بكتاب كتب بينه و بينهم و هم ثلاثة رهط حول المدينة: بنو قينقاع، و بنو النضير، و بنو قريظة أما بنو قينقاع فنكثوا العهد في غزوة بدر فسار إليهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في منتصف شوال في السنة الثانية من الهجرة بعد بضعة و عشرين يوما من وقعة بدر فتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار، و بقوا على ذلك خمسة عشر يوما.
ثم نزلوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في نفوسهم و أموالهم و نسائهم و ذراريهم فأمر بهم فكتفوا، و كلم عبد الله بن أبي بن سلول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم و ألح عليه و كانوا حلفاءه فوهبهم له، و أمرهم أن يخرجوا من المدينة و لا يجاوروه بها فخرجوا إلى أذرعات الشام و معهم نساؤهم و ذراريهم، و قبض منهم أموالهم غنيمة الحرب، و كانوا ستمائة مقاتل من أشجع اليهود.
و أما بنو النضير فإنهم كادوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ خرج إليهم في نفر من أصحابه بعد أشهر من غزوة بدر، و كلمهم أن يعينوه في دية نفر أو رجلين من الكلابيين قتلهم عمرو بن أمية الضمري فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس هنا حتى نقضي حاجتك، و خلا بعضهم ببعض فتأمروا بقتله و اختاروا من بينهم عمرو بن جحاش أن يأخذ حجر رحى فيصعد فيلقه على رأسه و يشدخه به و حذرهم سلام بن مشكم و قال لهم: لا تفعلوا ذلك فوالله ليخبرن بما هممتم به، و إنه لنقض العهد الذي بيننا و بينه.
فجاءه الوحي و أخبره ربه بما هموا به فقام (صلى الله عليه وآله و سلم) من مجلسه مسرعا و توجه إلى المدينة، و لحقه أصحابه و استفسروه عن قيامه و توجهه فأخبرهم بما همت به بنو النضير، و بعث إليهم من المدينة أن اخرجوا من المدينة و لا تساكنوني بها، و قد أجلتكم فمن وجدته بعد ذلك بها، منكم ضربت عنقه فأقاموا أياما يتجهزون للخروج.
و أرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي إن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم و يموتون دونكم، و ينصركم بنو قريظة و حلفاؤكم من غطفان، و أرضاهم بذلك.
فبعث رئيسهم حيي بن أخطب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كبر أصحابه، و أمر عليا (عليه السلام) بحمل الراية و السير إليهم فساروا و أحاطوا بديارهم، و غدر بهم عبد الله بن أبي، و لم ينصرهم بنو قريظة و لا حلفاؤهم من غطفان.
و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر بقطع نخيلهم و إحراقها فجزعوا من ذلك و قالوا: يا محمد لا تقطع فإن كان لك فخذه، و إن كان لنا فاتركه لنا. ثم قالوا له بعد أيام: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا أموالنا قال: لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الإبل فلم يقبلوا ذلك و بقوا أياما على ذلك ثم رضوا و سألوه ذلك قال: لا و لكن تخرجون و لا يحمل أحد منكم شيئا، و من وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه فخرجوا فوقع قوم منهم إلى فدك و وادي القرى، و قوم إلى أرض الشام، و كان مالهم فيئا لله و رسوله من غير أن ينال شيئا من ذلك جيش الإسلام، و قصتهم مذكورة في سورة الحشر، و من كيد بني النضير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تخريب الأحزاب من قريش و غطفان و غيرهم عليه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و أما بنو قريظة فقد كانوا على الصلح و السلم حتى وقعت غزوة الخندق و قد كان
حيي بن أخطب رئيس بني النضير ركب إلى مكة و حث قريشا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حزب الأحزاب، و في ذلك ركب إلى بني قريظة و جاءهم في ديارهم فلم يزل يوسوس إليهم و يعزهم و يلح عليهم و يكلم رئيسهم كعب بن أسد في ذلك و نقض العهد و مناجزة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى أرضاهم بذلك و اشترطوا عليه أن يدخل في حصنهم فيصيبه ما أصابهم فقبل و دخل.
فنقضوا العهد و مالوا إلى الأحزاب الذين حاصروا المدينة و أظهروا سب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أحدثوا ثلمة أخرى.
فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أمر الأحزاب أتاه جبرئيل بوحي من الله يأمره بالمسير إليهم فسار إليهم و يحمل رايته علي (عليه السلام) و نازل حصون بني قريظة، و حصرهم خمسة و عشرين يوما.
فلما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يختاروا أحد ثلاث خصال: إما أن يسلموا و يدخلوا في دين محمد، و إما أن يقتلوا ذراريهم و يخرجوا إليه بسيوفهم مصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يقتلوا عن آخرهم، و إما أن يهجموا عليه و يكسبوه يوم السبت لأنهم يعني المسلمين قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه!.
فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة منهن فبعثوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره في الأمر؛ و كان أبو لبابة مناصحا لهم لأن عياله و ذريته و ماله كانت عندهم.
فأرسله إليهم فلما رأوه قاموا إليه يبكون، و قالوا: له كيف ترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، و أشار بيده إلى حلقه: أنه الذبح، قال أبو لبابة: فوالله ما زلت قدماي حتى علمت أني خنت الله و رسوله، و أوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في أمر أبي لبابة.
فندم أبو لبابة و مضى على وجهه حتى أتى المسجد و ربط نفسه على سارية من سواري المسجد تائبا لله، و حلف ألا يحله إلا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يموت، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: دعوه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تاب عليه و أنزل توبته و حله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كانوا موالي أوس فكلمته أوس في أمرهم مستشفعين و آل الأمر إلى تحكيم سعد بن معاذ الأوسي في أمرهم و رضوا
و رضي به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأحضر سعد و كان جريحا.
و لما كلم سعد رحمه الله في أمرهم قال: لقد آن لسعد أن لا يأخذه في الله لومة لائم. ثم حكم فيهم بقتل الرجال و سبي النساء و الذراري و أخذ الأموال فأجري عليهم ما حكم به سعد فضربت أعناقهم عن آخرهم، و كانوا ستمائة مقاتل أو سبعمائة، و قيل أكثر، و لم ينج منهم إلا نفر يسير آمنوا قبل تقتيلهم، و هرب عمرو بن سعدى منهم و لم يكن داخلا معهم في نقض العهد، و سبيت النساء إلا امرأة واحدة ضربت عنقها و هي التي طرحت على رأس خلاد بن السويد بن الصامت رحى فقتلته.
ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من كان بالمدينة من اليهود ثم سار (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى يهود خيبر لما كان من كيدهم و سعيهم في حث الأحزاب عليه و تأليفهم من جميع القبائل العربية لحربه فنازل حصونهم و حصرهم أياما، و أرسل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى قتالهم أبا بكر في جمع يوما فانهزم، ثم عمر بن الخطاب في جمع يوما فانهزم.
و عند ذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» و لما كان من غد أعطى الراية عليا (عليه السلام) و أرسله إلى قتال القوم فتقدم إليهم و قتل مرحبا الفارس المعروف منهم، و هزمهم و قلع بيده باب حصنهم و فتح الله على يده الحصن، و كان ذلك بعد صلح الحديبية في المحرم سنة سبع من الهجرة.
ثم أجلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من بقي من اليهود و قد نصح لهم قبل ذلك أن يبيعوا أموالهم و يأخذوا أثمانها. انتهى ما أردنا تلخيصه من قصة اليهود مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في تفسير العياشي، عن جابر :في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ} (الآية) نزلت في بني أمية هم شر خلق الله هم {اَلَّذِينَ كَفَرُوا} في باطن القرآن، و هم {اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}
أقول: و روى مثله القمي عن أبي حمزة عنه (عليه السلام)، و هو من باطن القرآن كما صرح به في الرواية ليس بالظاهر.
و في الكافي، بإسناده عن سهل بن زياد عن بعض أصحابه عن عبد الله بن سنان
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ثلاث من كن فيه كان منافقا و إن صام و صلى و زعم أنه مسلم: من إذا اؤتمن خان، و إن حدث كذب، و إذا وعد أخلف إن الله عز و جل قال في كتابه: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ} و قال: {أَنَّ لَعْنَتَ اَللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ} و في قوله عز و جل: {وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا}
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الآية) قال: قال: السلاح.
و في التفسير العياشي، عن محمد بن عيسى عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: سيف و ترس.
و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) مرسلا في الآية قال: منه الخضاب بالسواد.
و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): دخل قوم على الحسين بن علي (عليه السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى لحيته ثم قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين.
و في تفسير العياشي، عن جابر الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} قال: الرمي.
أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن المغيرة رفعه عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الزمخشري في ربيع الأبرار، عن عقبة بن عامر عنه، و السيوطي في الدر المنثور عن أحمد و مسلم و أبي داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ و أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم و البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في الدر المنثور أخرج أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و صححه و البيهقي عن عقبة بن عامر الجهني (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير و الذي يجهز به في سبيل الله، و الذي يرمي به في سبيل الله.
و قال: ارموا و اركبوا، و أن ترموا خير من أن تركبوا، و قال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثة: رميه عن قوسه، و تأديبه فرسه، و ملاعبته
أهله فإنهن من الحق، و من علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و خاصة في الخيل و الرمي و الروايات على أي حال من باب عد المصاديق.
و في الدر المنثور أخرج سعد و الحارث بن أبي أسامة و أبو يعلى و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن قانع في معجمه و الطبراني و أبو الشيخ و ابن منده و الروياني في مسنده و ابن مردويه و ابن عساكر عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال في قوله: {وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اَللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} قال: هم الجن، و لا تخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق.
أقول: و في معناها روايات أخر، و محصل الروايات ربط قوله: {وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اَللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} بقوله: {وَ مِنْ رِبَاطِ اَلْخَيْلِ} و هي من قبيل الجري و ليس من التفسير في شيء، و المراد من الآية بظاهرها العدو من الإنسان كالكفار و المنافقين.
و فيه أخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن أبزى :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقرأ: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}.
و فيه أخرج أبو عبيد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس : في قوله: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قال: نسختها هذه الآية: {قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ} - إلى قوله - { صَاغِرُونَ}.
أقول: و روي نسخها بآية البراءة: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} و الآية لا تخلو عن إيماء إلى كون الحكم مؤجلا حيث قال: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ}.
و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قلت: ما السلم؟ قال: الدخول في أمرنا، و في رواية أخرى: الدخول في أمرك.
أقول: و هو من الجري.
و في الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال :مكتوب على العرش
لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي محمد عبدي و رسولي أيدته بعلي؛ و ذلك قوله: {هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ}
أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي هريرة، و أبو نعيم في حلية الأولياء، بإسناده عنه، و كذا ابن شهرآشوب مسندا عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي قال: تأويله ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء بطريقه عن أبي هريرة قال :نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب، و هو المعني بقوله: المؤمنين.
أقول: و لفظ الآية لا يساعد على ذلك اللهم إلا أن يكون المراد بالاتباع تمام الاتباع الذي لا يشذ عنه شأن من الشئون، و من للتبعيض دون البيان إن ساعد عليه السياق.
و في الدر المنثور أخرج البزار عن ابن عباس قال :لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم منا اليوم، و أنزل الله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ}.
أقول: و روي هذا المعنى في روايات أخر، و الاعتبار لا يساعد عليه فإن الزمان الذي أسلم فيه لم يكن على نعت يصحح الخطاب بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} و اليوم يوم الفتنة و العسرة، و قد دام الحال على ذلك بعدة سنين متمادية، و ما كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ يحتاج إلى شيء يعينه العدة، و في هذه الروايات أنه كان تمام الأربعين أو رابع أربعين. على أن الظاهر أن الآية مدنية من جملة آيات سورة الأنفال.
و فيه أخرج ابن إسحاق و ابن أبي حاتم عن الزهري في قوله: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللَّهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} قال: نزلت في الأنصار.
أقول: و سياق الآية في عدم المساعدة عليه كالروايتين السابقتين اللهم إلا أن يكون المراد نزولها يوم آمن به الأنصار أو يوم تابعوه، و الظاهر أن الآية نزلت في تطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بجميع من كان معه من المؤمنين: مهاجريهم و أنصارهم، و هي توطئة و تمهيد لما في الآية التالية من الأمر بتحريض المؤمنين على القتال.
و في تفسير القمي، قال: قال :كان الحكم في أول النبوة في أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وآله و سلم) أن الرجل الواحد وجب عليه أن يقاتل عشرة من الكفار فإن هرب منهم فهو الفار من الزحف، و المائة يقاتلون ألفا.
ثم علم الله أن فيهم ضعفا لا يقدرون على ذلك فأنزل الله: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ففرض عليهم أن يقاتل أقل رجل من المؤمنين رجلين من الكفار فإن فر منهما فهو الفار من الزحف فإن كانوا ثلاثة من الكفار و واحدا من المسلمين ففر المسلم منهم فليس هو الفار من الزحف.
أقول: و في تفسير العياشي، عن الحسين بن صالح عن الصادق عن علي (عليه السلام) ما يقرب منه، و روي ما في معناها في الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور أخرج الشيرازي في الألقاب و ابن عدي و الحاكم و صححه عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ: {اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} رفع.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٦٧ الی ٧١ ]
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيَا وَ اَللَّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٦٧ لَوْ لاَ كِتَابٌ مِنَ اَللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ٦٨ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٦٩ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٧٠وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٧١}
(بيان)
عتاب من الله سبحانه لأهل بدر حين أخذوا الأسرى من المشركين ثم اقترحوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يقتلهم و يأخذ منهم الفداء ليصلح به حالهم و يتقووا بذلك على أعداء الدين، و قد شدد سبحانه في العتاب إلا أنه أجابهم إلى مقترحهم و أباح لهم التصرف من الغنائم. و هي تشتمل الفداء.
و في آخر الآيات ما هو بمنزلة التطميع و الوعد الجميل للأسرى إن أسلموا و الاستغناء عنهم إن أرادوا خيانة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ} إلى آخر الآيات الثلاث، الأسر: الشد على المحارب بما يصير به في قبضة الآخذ له كما قيل و الأسير هو المشدود عليه، و جمعه الأسرى و الأسراء و الأسارى و الأسارى، و قيل الأسارى جمع جمع و على هذا فالسبي أعم موردا من الأسر لصدقه على أخذ من لا يحتاج إلى شد كالذراري.
و الثخن بالكسر فالفتح الغلظ، و منه قولهم: أثخنته الجراح و أثخنه المرض قال الراغب في المفردات: يقال: ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ فلم يسل و لم يستمر في ذهابه، و منه أستعير قولهم: أثخنته ضربا و استخفافا قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ} {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثَاقَ} فالمراد بإثخان النبي في الأرض استقرار دينه بين الناس كأنه شيء غليظ انجمد فثبت، بعد ما كان رقيقا سائلا مخشي الزوال بالسيلان.
و العرض ما يطرأ على الشيء و يسرع فيه الزوال، و لذلك سمي به متاع الدنيا لدثوره و زواله عما قليل، و الحلال وصف من الحل مقابل العقد و الحرمة كأن الشيء الحلال كان معقودا عليه محروما منه فحل بعد ذلك؛ و قد مر معنى الطيب و هو الملاءمة للطبع.
و قد اختلف المفسرون في تفسير الآيات بعد اتفاقهم على أنها إنما نزلت بعد وقعة بدر تعاتب أهل بدر و تبيح لهم الغنائم.
و السبب في اختلاف ما ورد في سبب نزولها و معاني جملها من الأخبار المختلفة،
و لو صحت الروايات لكان التأمل فيها قاضيا بتوسع عجيب في نقل الحديث بالمعنى حتى ربما اختلفت الروايات كالأخبار المتعارضة.
فاختلفت التفاسير بحسب اختلافها فمن ظاهر في أن العتاب و التهديد متوجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين جميعا، أو إلى النبي و المؤمنين ما عدا عمر، أو ما عدا عمر و سعد بن معاذ، أو إلى المؤمنين دون النبي أو إلى شخص أو أشخاص أشاروا إليه بالفداء بعد ما استشارهم.
و من قال: إن العتاب إنما هو على أخذهم الفداء، أو على استحلالهم الغنيمة قبل الإباحة من جانب الله، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يشاركهم في ذلك لما أنه بدا باستشارتهم مع أن القوم إنما أخذوا الفداء بعد نزول الآيات لا قبله حتى يعاتبوا عليه، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أجل من أن يجوز في حقه استحلال شيء قبل أن يأذن الله له فيه و يوحي بذلك إليه، و حاشا ساحة الحق سبحانه أن يهدد نبيه بعذاب عظيم ليس من شأنه أن ينزل عليه من غير جرم أجرمه و قد عصمه من المعاصي، و العذاب العظيم ليس ينزل إلا على جرم عظيم لا كما قيل: إن المراد به الصغائر.
فالذي ينبغي أن يقال: إن قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ} إن السنة الجارية في الأنبياء الماضين (عليهم السلام) أنهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم و ظفروا بهم ينكلونهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم فيكفوا عن محادة الله و رسوله، و كانوا لا يأخذون أسرى حتى يثخنوا في الأرض، و يستقر دينهم بين الناس فلا مانع بعد ذلك من الأسر ثم المن أو الفداء كما قال تعالى فيما يوحي إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما علا أمر الإسلام و استقر في الحجاز و اليمن: {فَإِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً}سورة محمد: ٤.
و العتاب على ما يهدي إليه سياق الكلام في الآية الأولى إنما هو على أخذهم الأسرى كما يشهد به أيضا قوله في الآية الثانية: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي في أخذكم و إنما كانوا أخذوا عند نزول الآيات الأسرى دون الفداء و ليس العتاب على استباحة الفداء أو أخذه كما احتمل.
بل يشهد قوله في الآية التالية: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} - حيث افتتحت بفاء التفريع التي تفرع معناها على ما تقدمها - على أن المراد بالغنيمة ما يعم الفداء، و أنهم اقترحوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن لا يقتل الأسرى و يأخذ منهم الفداء كما سألوه عن الأنفال أو سألوه أن يعطيهموها كما في آية صدر السورة و كيف يتصور أن يسألوه الأنفال، و لا يسألوه أن يأخذ الفداء و قد كان الفداء المأخوذ - على ما في الروايات يقرب من مائتين و ثمانين ألف درهم؟!
فقد كانوا سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعطيهم الغنائم، و يأخذ لهم منهم الفداء فعاتبهم الله من رأس على أخذهم الأسرى ثم أباح لهم ما أخذوا الأسرى لأجله و هو الفداء لا لأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) شاركهم في استباحة الفداء و استشارهم في الفداء و القتل حتى يشاركهم في العتاب المتوجه إليهم.
و من الدليل من لفظ الآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يشاركهم في العتاب إن العتاب في الآية متعلق بأخذ الأسرى و ليس فيها ما يشعر بأنه استشارهم فيه أو رضي بذلك و لم يرد في شيء من الآثار أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) وصاهم بأخذ الأسرى و لا قال قولا يشعر بالرضا بذلك بل كان ذلك مما أقدمت عليه عامة المهاجرين و الأنصار على قاعدتهم في الحروب: إذا ظفروا بعدوهم أخذوا الأسرى للاسترقاق أو الفداء فقد ورد في الآثار أنهم بالغوا في الأسر و كان الرجل يقي أسيره أن يناله الناس بسوء إلا علي (عليه السلام) فقد أكثر من قتل الرجال و لم يأخذ أسيرا.
فمعنى الآيات: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} و لم يعهد في سنة الله في أنبيائه {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} و يحق له أن يأخذهم و يستدر على ذلك شيئا {حَتَّى يُثْخِنَ} و يغلظ {فِي اَلْأَرْضِ} و يستقر دينه بين الناس {تُرِيدُونَ} أنتم معاشر أهل بدر و خطاب الجميع بهذا العموم المشتمل على عتاب الجميع لكون أكثرهم متلبسين باقتراح الفداء على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {عَرَضَ اَلدُّنْيَا} و متاعها السريع الزوال {وَ اَللَّهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ} بتشريع الدين و الأمر بقتال الكفار، ثم في هذه السنة التي أخبر بها في كلامه؛ {وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ} لا يغلب {حَكِيمٌ} لا يلغو في أحكامه المتقنة.
{لَوْ لاَ كِتَابٌ مِنَ اَللَّهِ سَبَقَ} يقتضي أن لا يعذبكم و لا يهلككم، و إنما أبهم لأن الإبهام أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، و لا يتعين له فيهون عنده أمره {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي في أخذكم الأسرى فإن الفداء و الغنيمة لم
يؤخذا قبل نزول الآيات و إخبارهم بحليتها و طيبها {عَذَابٌ عَظِيمٌ} و هو كما تقدم يدل على عظم المعصية لأن العذاب العظيم إنما يستحق بالمعصية العظيمة {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} و تصرفوا فيما أحرزتم من الفائدة سواء كان مما تسلطتم عليه من أموال المشركين أو مما أخذتم منهم من الفداء {حَلاَلاً طَيِّباً} أي حالكونه حلالا طيبا بإباحة الله سبحانه {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} و هو تعليل لقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} إلخ أي غفرنا لكم و رحمناكم فكلوا مما غنمتم أو تعليل لجميع ما تقدم أي لم يعذبكم الله بل أباحه لكم لأنه غفور رحيم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى} إلى آخر الآية كون الأسرى بأيديهم استعارة لتسلطهم عليهم تمام التسلط كالشيء يكون في يد الإنسان يقلبه كيف يشاء.
و قوله: {إِنْ يَعْلَمِ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} كناية عن الإيمان أو اتباع الحق الذي يلازمه الإيمان فإنه تعالى يعدهم في آخر الآية بالمغفرة، و لا مغفرة مع شرك قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء - ٤٨.
و معنى الآية: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى الذين تسلطتم عليهم و أخذت منهم الفداء: أن ثبت في قلوبكم الإيمان و علم الله منكم ذلك و لا يعلم إلا ما ثبت و تحقق يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء و يغفر لكم و الله غفور رحيم.
قوله تعالى: {وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} إلخ أمكنه منه أي أقدره عليه و إنما قال أولا: {خِيَانَتَكَ} ثم قال: {خَانُوا اَللَّهَ} لأنهم أرادوا بالفدية أن يجمعوا الشمل ثانيا و يعودوا إلى محاربته (صلى الله عليه وآله و سلم)، و أما خيانتهم لله من قبل فهي كفرهم و إصرارهم على أن يطفئوا نور الله و كيدهم و مكرهم.
و معنى الآية: إن آمنوا بالله و ثبت الإيمان في قلوبهم آتاهم الله خيرا مما أخذ منهم و غفر لهم، و إن أرادوا خيانتك و العود إلى ما كانوا عليه من العناد و الفساد فإنهم خانوا الله من قبل فأمكنك منهم و أقدرك عليهم و هو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانيا، و الله عليم بخيانتهم لو خانوا حكيم في إمكانك منهم.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} إلخ قال: كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) سبعة و عشرين۱، و كان الأسرى أيضا سبعين، و لم يؤسر أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فجمعوا الأسارى، و قرنوهم في الحبال، و ساقوهم على أقدامهم، و قتل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة و كان من النقباء من الأوس.
قال: و عن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا: أربعة من قريش، و سبعة من الأنصار، و قيل: ثمانية، و قتل من المشركين بضعة و أربعون رجلا٢.
قال: و عن ابن عباس قال :لما أمسى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بدر و الناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أول الليلة فقال له أصحابه: ما لك لا تنام؟ فقال (عليه السلام): سمعت أنين عمي العباس في وثاقه، فأطلقوه فسكت فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قال: و روى عبيدة السلماني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه قال لأصحابه يوم بدر في الأسارى: إن شئتم قتلتموهم، و إن شئتم فاديتموهم و استشهد منكم بعدتهم، و كانت الأسارى سبعين فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به و نتقوى به على عدونا، و ليستشهد منا بعدتهم. قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما٣ فقتل منهم يوم أحد سبعون.
و في كتاب علي بن إبراهيم: لما قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين و هم قومك و أسرتك أ تجد أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء، و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش فلما طلبوا إليه و سألوه نزلت الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} (الآيات) فأطلق لهم ذلك.
و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم و أقله ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أولا فأولا فبعثت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، و بعثت قلائد لها كانت خديجة جهزتها بها، و كان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهزتها بها فأطلقه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بشرط أن يبعث إليه زينب، و لا يمنعها من اللحوق به فعاهده على ذلك و وفى له.
قال: و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فئة المشركين و الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال، و قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذبوك و أخرجوك فقدمهم و اضرب أعناقهم، و مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، و مكني من فلان أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر، و قال أبو بكر: أهلك و قومك استأن بهم و استبقهم و خذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار قال ابن زيد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم أحد غير عمر و سعد بن معاذ.
و قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية، و الأوقية أربعون مثقالا إلا العباس فإن فداءه كان مائة أوقية، و كان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ذلك غنيمة ففاد نفسك و ابني أخيك نوفلا و عقيلا فقال: ليس معي شيء. فقال: أين الذهب الذي سلمته إلى أم الفضل و قلت: إن حدث بي حدث فهو لك و للفضل و عبد الله و قثم. فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: الله تعالى فقال: أشهد أنك رسول الله و الله ما اطلع على هذا أحد إلا الله تعالى.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين تركنا إيرادها إيثارا للاختصار.
و في قرب الإسناد، للحميري عن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: أوتي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمال دراهم فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للعباس: يا عباس ابسط رداء و خذ من هذا المال طرفا فبسط رداء و أخذ منه طائفة ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عباس هذا من الذي قال الله تبارك و تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} قال: نزلت في العباس و نوفل و عقيل .
و قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم و أبو البختري فأسروا فأرسل عليا فقال: انظر من هاهنا من بني هاشم؟ قال: فمر على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه قال فقال له: يا بن أم علي أما و الله لقد رأيت مكاني.
قال: فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، و هذا عقيل في يد فلان، و هذا نوفل في يد فلان يعني نوفل بن الحارث فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى انتهى إلى عقيل فقال: يا أبا يزيد قتل أبو جهل! فقال: إذا لا تنازعوا في تهامة. قال: إن كنتم أثخنتم القوم و إلا فاركبوا أكتافهم.
قال: فجيء بالعباس فقيل له: أفد نفسك و أفد ابن [ابني] أخيك فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشا في كفي فقال (صلى الله عليه وآله و سلم)له: أعط مما خلفت عند أم الفضل و قلت لها إن أصابني شيء في وجهي فأنفقيه على ولدك و نفسك. قال: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ قال: أتاني به جبرئيل. فقال: و محلوفة ما علم بهذا إلا أنا و هي أشهد أنك رسول الله. قال: فرجع الأسارى كلهم مشركين إلا العباس و عقيل و نوفل بن الحارث» و فيهم نزلت هذه الآية: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى}. الآية.
أقول: و روي في الدر المنثور هذه المعاني بطرق مختلفة عن الصحابة و روي نزول الآية في العباس و ابني أخيه عن ابن سعد و ابن عساكر عن ابن عباس، و روي مقدار الفدية التي فدي بها عن كل رجل من الأسارى، و قصة فدية العباس عنه و عن ابني أخيه الطبرسي في مجمع البيان، عن الباقر (عليه السلام) كما في الحديث.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٧٢ الی ٧٥]
{إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَ اَللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٧٢ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ ٧٣ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٧٤ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٧٥}
(بيان)
الآيات تختم السورة، و يرجع معناها نوع رجوع إلى ما افتتحت به السورة و فيها إيجاب الموالاة بين المؤمنين إلا إذا اختلفوا بالمهاجرة و عدمها و قطع موالاة الكافرين.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا} إلى قوله: {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} المراد بالذين آمنوا و هاجروا: الطائفة الأولى من المهاجرين قبل نزول السورة بدليل ما سيذكر من المهاجرين في آخر الآيات، و المراد بالذين آووا و نصروا: هم الأنصار الذين آووا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين المهاجرين و نصروا الله و رسوله، و كان ينحصر المسلمون يومئذ في هاتين الطائفتين إلا قليل ممن آمن بمكة و لم يهاجر.
و قد جعل الله بينهم ولاية بقوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} و الولاية أعم من ولاية الميراث و ولاية النصرة و ولاية الأمن، فمن آمن منهم كافرا كان نافذا عند الجميع؛ فالبعض من الجميع ولي البعض من الجميع كالمهاجر هو ولي كل مهاجر و أنصاري، و الأنصاري ولي كل أنصاري و مهاجر، كل ذلك بدليل إطلاق الولاية في الآية.
فلا شاهد على صرف الآية إلى ولاية الإرث بالمواخاة التي كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جعلها في بدء الهجرة بين المهاجرين و الأنصار و كانوا يتوارثون بها زمانا حتى نسخت.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا} إلى آخر الآية، معناه واضح و قد نفيت
فيها الولاية بين المؤمنين المهاجرين و الأنصار و بين المؤمنين غير المهاجرين إلا ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم و بين المؤمنين ميثاق.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي إن ولايتهم بينهم لا تتعداهم إلى المؤمنين فليس للمؤمنين أن يتولوهم، و ذلك أن قوله هاهنا في الكفار: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} كقوله في المؤمنين: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إنشاء و تشريع في صورة الإخبار، و جعل الولاية بين الكفار أنفسهم لا يحتمل بحسب الاعتبار إلا ما ذكرناه من نفي تعديه عنهم إلى المؤمنين.
قوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ} إشارة إلى مصلحة جعل الولاية على النحو الذي جعلت، فإن الولاية مما لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشرية سيما المجتمع الإسلامي الذي أسس على اتباع الحق و بسط العدل الإلهي كما أن تولي الكفار و هم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسري فيه عقائدهم و أخلاقهم، و تفسد سيرة الإسلام المبنية على الحق بسيرهم المبنية على اتباع الهوى و عبادة الشيطان، و قد صدق جريان الحوادث في هذه الآونة ما أشارت إليه هذه الآية.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا} إلى آخر الآية إثبات لحق الإيمان على من اتصف بآثاره اتصافا حقا، و وعد لهم بالمغفرة و الرزق الكريم.
قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} خطاب للمهاجرين الأولين و الأنصار و إلحاق من آمن و هاجر و جاهد معهم بهم فيشاركونهم في الولاية.
قوله تعالى: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ} إلى آخر الآية. جعل للولاية بين أولي الأرحام و القرابات، و هي ولاية الإرث فإن سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.
و الآية تنسخ ولاية الإرث بالمواخاة التي أجراها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بين المسلمين في أول الهجرة، و تثبت الإرث بالقرابة سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن أو كان عصبة أو لم يكن فالآية مطلقة كما هو ظاهر.
(بحث روائي)
في المجمع عن الباقر (عليه السلام): أنهم كانوا يتوارثون بالمواخاة.
أقول: و لا دلالة فيه على أن الآية نزلت في ولاية الإخوة.
في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الخال و الخالة يرثان إذا لم يكن معهما أحد إن الله يقول: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ}.
أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه مرسلا.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ} إن بعضهم أولى بالميراث من بعض لأن أقربهم إليه أولى به. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام)، إنهم أولى بالميت، و أقربهم إليه أمه و أخوه و أخته لأمه و أبيه أ ليس الأم أقرب إلى الميت من إخوانه و أخواته؟
و فيه عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما اختلف علي بن أبي طالب (عليه السلام) و عثمان بن عفان في الرجل يموت و ليس له عصبة يرثونه و له ذوو قرابة لا يرثونه: ليس له بينهم مفروض، فقال علي (عليه السلام) ميراثه لذوي قرابته لأن الله تعالى يقول: {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ} و قال عثمان أجعل ميراثه في بيت مال المسلمين و لا يرثه أحد من قرابته.
أقول: و الروايات في نفي القول بالعصبة و الاستناد في ذلك إلى الآية كثيرة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و في الدر المنثور أخرج الطيالسي و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين أصحابه و ورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية {وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ} فتركوا ذلك و توارثوا بالنسب.
و في المعاني، بإسناده فيه رفع عن موسى بن جعفر (عليه السلام): فيما جرى بينه و بين هارون و فيه: قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم رسول الله و العم يحجب ابن العم، و قبض رسول الله و قد توفي أبو طالب قبله و العباس عمه حي إلى أن قال فقلت: إن
النبي لم يورث من لم يهاجر و لا أثبت له ولاية حتى يهاجر فقال: ما حجتك فيه؟ قلت: قول الله تبارك و تعالى: {وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} و إن عمي العباس لم يهاجر فقال: إني سائلك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟ فقلت: اللهم لا و ما سألني عنها إلا أمير المؤمنين. (الحديث).
أقول: و رواه المفيد في الإختصاص.
٩ سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية ١٢٩
[سورة التوبة ٩: الآیات ١ الی ١٦]
{بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ ٢ وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ ٤ فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥ وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ٦ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ ٧ كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ٨ اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ ١٠فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ١١ وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ١٢ أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ١٤ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلى مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٥ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لاَ رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ١٦}
(بيان)
الآيات مفتتح قبيل من الآيات سموها سورة التوبة أو سورة البراءة، و قد اختلفوا في كونها سورة مستقلة أو جزء من سورة الأنفال، و اختلاف المفسرين في ذلك ينتهي إلى اختلاف الصحابة ثم التابعين فيه، و قد اختلف في ذلك الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) غير أن الأرجح بحسب الصناعة ما يدل من حديثهم على أنها ملحقة بسورة الأنفال.
و البحث عن معاني آياتها و ما اشتملت عليه من المضامين لا يهدي إلى غرض واحد متعين على حد سائر السور المشتملة على أغراض مشخصة تؤمها أوائلها و تنعطف إليها أواخرها، فأولها آيات تؤذن بالبراءة و فيها آيات القتال مع المشركين، و القتال مع أهل الكتاب، و شطر عظيم منها يتكلم في أمر المنافقين، و آيات في الاستنهاض على القتال و ما يتعرض لحال المخلفين، و آيات ولاية الكفار، و آيات الزكاة و غير ذلك، و معظمها ما يرجع إلى قتال الكفار و ما يرجع إلى المنافقين.
و على أي حال لا يترتب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمة و إن أمكن ذلك من جهة البحث الفقهي الخارج عن غرضنا.
قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} قال الراغب: أصل البرء و البراء و التبري : التفصي مما يكره مجاورته، و لذلك قيل: برأت من المرض و برئت من فلان و تبرأت، و أبرأته من كذا و برأته، و رجل بريء و قوم براء و بريئون قال تعالى: براءة من الله و رسوله. انتهى.
و الآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدر به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصلة التي تشير الآية و الآيتان من أولها على إجمال الغرض المسرود لأجلبيانه آياتها.
و الخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لهم على ما يدل عليه قوله: {عَاهَدْتُمْ} و قد أخذ الله تعالى و منه الخطاب و رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو الواسطة، و المشركون و هم الذين أريدت البراءة منهم، و وجه الخطاب ليبلغ إليهم جميعا في الغيبة، و هذه الطريقة في الأحكام و الفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم و الأمر.
و الآية تتضمن إنشاء الحكم و القضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين و ليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في البراءة فإن دأب القرآن أن ينسب الحكم التشريعي المحض إلى الله سبحانه وحده، و قد قال تعالى: {وَ لاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} الكهف: ٢٦ و لا ينسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا الحكم بالمعنى الذي في الولاية و السياسة و قطع الخصومة.
فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين و ليس رفعا جزافيا و إبطالا للعهد من غير سبب يبيح ذلك فإن الله تعالى سيذكر بعد عدة آيات أنهم لا وثوق بعهدهم الذي عاهدوه و قد فسق أكثرهم و لم يراعوا حرمة العهد و نقضوا ميثاقهم، و قد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضا بنقض حيث قال: {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ} الأنفال: ٥٨ فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة و لم يرض مع ذلك إلا بإبلاغ النقض إليهم لئلا يؤخذوا على الغفلة فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.
و لو كان إبطالا لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرق بين من دام على عهده منهم و بين من لم يدم عليه، و قد قال تعالى مستثنيا: {إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ}.
و لم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون أن ضرب لهم أجلا ليفكروا في أمرهم و يرتئوا رأيهم و لا يكونوا مأخوذين بالمباغتة و المفاجأة.
فمحصل الآية الحكم ببطلان العهد و رفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثم نقضه أكثرهم و لم يبق إلى من بقي منهم وثوق تطمئن به النفس إلى عهدهم و تعتمد على يمينهم و تأمن شرهم و أنواع مكرهم.
قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ} السياحة هي السير في الأرض و الجري و لذلك يقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح.
و أمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان و تركهم بحيث لا يتعرض لهم بشر حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو
الفناء مع ما في قوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ} من إعلامهم أن الأصلح بحالهم رفض الشرك، و الإقبال إلى دين التوحيد، و موعظتهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار و التعرض للخزي الإلهي.
و قد وجه في الآية الخطاب إليهم بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب لما في توجيه الخطاب القاطع و الإرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء و الظهور عليه و استذلاله و استحقار ما عنده من قوة و شدة.
و قد اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} و الذي يدل عليه السياق و يؤيده اعتبار إصدار الحكم و ضرب الأجل ليكونوا في فسحة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: أن تبتدأ الأربعة الأشهر من يوم الحج الأكبر الذي يذكره الله تعالى في الآية التالية فإن يوم الحج الأكبر هو يوم الإبلاغ و الإيذان و الأنسب بضرب الأجل الذي فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم و إتمام الحجة، أن تبتدأ من حين الاعلام و الإيذان.
و قد اتفقت كلمة أهل النقل أن الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذي الحجة كانت الأربعة الأشهر هي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و ربيع الأول و عشرة أيام من ربيع الآخر.
و عند قوم أن الأربعة الأشهر تبتدأ من يوم العشرين من ذي القعدة و هو يوم الحج الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيام من ذي القعدة و ذو الحجة و المحرم و صفر و عشرون من ربيع الأول، و سيأتي ما فيه.
و ذكر آخرون: أن الآيات نزلت أول شوال سنة تسع من الهجرة فتكون الأربعة الأشهر هي شوال و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم فتنقضي بانقضاء الأشهر الحرم، و قد حدأهم إلى ذلك القول بأن المراد بقوله تعالى فيما سيأتي: {فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم فيوافي انسلاخ الأشهر الحرم انقضاء الأربعة الأشهر، و هذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق و قرينة المقام كما عرفت.
قوله تعالى: {وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللَّهَ بَرِيءٌ
مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ} الأذان هو الاعلام، و ليست الآية تكرارا لقوله تعالى السابق {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} فإن الجملتين و إن رجعتا إلى معنى واحد و هو البراءة من المشركين إلا أن الآية الأولى إعلام البراءة و إبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية: {إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} بخلاف الآية الثانية فإن وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله و رسوله من المشركين، و يستعدوا و يتهيئوا لإنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله: {إِلَى اَلنَّاسِ} و قوله تفريعا: {فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى آخر الآية.
و قد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحج الأكبر على أقوال:
منها: أنه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنه كان يوما اجتمع فيه المسلمون و المشركون و لم يحج بعد ذلك العام مشرك، و هو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و الأنسب بأذان البراءة، و الاعتبار يساعد عليه لأنه كان أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون و المشركون من أهل الحج عامة بمنى و قد ورد من طرق أهل السنة روايات في هذا المعنى غير أن مدلول جلها أن الحج الأكبر اسم يوم النحر فيتكرر على هذا كل سنة و لم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.
و منها: أنه يوم عرفة لأن فيه الوقوف، و الحج الأصغر هو الذي ليس فيه وقوف و هو العمرة، و هو استحسان لا دليل عليه، و لا سبيل إلى تشخيص صحته.
و منها: أنه اليوم الثاني ليوم النحر لأن الإمام يخطب فيه و سقم هذا الوجه ظاهر.
و منها: أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل، و يوم صفين، و يوم بغاث، و يراد به الحين و الزمان، و هذا القول لا يقابل سائر الأقوال كل المقابلة فإنه إنما يبين أن المراد باليوم جميع أيام الحج، و أما وجه تسمية هذا الحج بالحج الأكبر فيمكن أن يوجه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأول.
و كيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لأن وجود يوم بين أيام الحج يجتمع فيه عامة أهل الحج يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله: {يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ} إلى نفسه، و يمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها الناس ذاك الاجتماع.
ثم التفت سبحانه إلى المشركين ثانيا و ذكرهم أنهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من أمرهم كما ذكرهم بذلك في الآية السابقة بقوله: {وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ} غير أنه زاد عليه في هذه الآية قوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ليكون تصريحا بما لوح إليه في الآية السابقة فإن التذكير بأنهم غير معجزي الله إنما كان بمنزلة العظة و بذل النصح لهم لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك و التولي عن الدخول في دين التوحيد ففي الترديد تهديد و نصيحة و عظة.
ثم التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه أن يبشر الذين كفروا بعذاب أليم فقال: {وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} و الوجه في الالتفات الذي في قوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إلخ ما تقدم في قوله: {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ} إلخ، و في الالتفات الذي في قوله: {وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ إنه رسالة لا تتم إلا من جهة مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
قوله تعالى: {إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} إلخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، و المستثنون هم المشركون الذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيما و لا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم و إتمام عهدهم إلى مدتهم.
و قد ظهر بذلك أن المراد من إضافة قوله: {وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} إلى قوله: {لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} استيفاء قسمي النقض و هما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، و النقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض أعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكة بني بكر على خزاعة بالسلاح، و كانت بنو بكر في عهد قريش و خزاعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فحاربوا فأعانت قريش بني بكر على خزاعة و نقضت بذلك عهد حديبية الذي عقدوه بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كان ذلك من أسباب فتح مكة سنة ثمان.
و قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ} في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد ما لم ينقضه المعاهد المشرك، و ذلك يجعل احترام العهد و حفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن و قد صرح به في نظائر هذا المورد كقوله تعالى: {وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} المائدة: ٨ و قوله: {وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ} المائدة: ٢.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالمتقين الذين يتقون نقض العهد من غير سبب، و ذلك أن التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.
قوله تعالى: {فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أصل الانسلاخ من سلخ الشاة و هو نزع جلدها عنها، و انسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، و الحصر هو المنع من الخروج عن محيط، و المرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.
قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقب يقال: رصد له و ترصد و أرصدته له، قال عز و جل: {وَ إِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}، و قوله عز و جل: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تنبيها أنه لا ملجأ و لا مهرب، و الرصد يقال للراصد الواحد و الجماعة الراصدين و للمرصود واحدا كان أو جمعا، و قوله تعالى: {يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} يحتمل كل ذلك، و المرصد موضع الرصد. انتهى.
و المراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة التي ذكرها الله سبحانه في قوله: {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} و جعلها أجلا مضروبا للمشركين لا يتعرض فيها لحالهم و أما الأشهر الحرم المعروفة أعني ذا القعدة و ذا الحجة و المحرم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذي الحجة بوجه كما تقدمت الإشارة إليه.
و على هذا فاللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري أي إذا انسلخ هذه الأشهر التي ذكرناها و حرمناها للمشركين لا يتعرض لحالهم فيها {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ} إلخ.
و يظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله: {فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ} على انسلاخ ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقا عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذا على نحو الإشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر و إن لم ينطبق الأشهر على الأشهر فإن ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب السياق و إن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهرا في شهور رجب و ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم.
و قوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} محقق للبراءة منهم و رفع الاحترام
عن نفوسهم بإهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم، و في قوله: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل و لو ظفر بهم في الشهر الحرام بناء على تعميم {حَيْثُ} للزمان و المكان كليهما فيجب على المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره.
و إنما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء و الانقراض، و تطييب الأرض منهم، و إنجاء الناس من مخالطتهم و معاشرتهم بعد ما سمح و أبيح لهم ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
و لازم ذلك أن يكون كل من قوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} و قوله: {وَ خُذُوهُمْ} و قوله: {وَ اُحْصُرُوهُمْ} و قوله: {وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}بيانا لنوع من الوسيلة إلى إفناء جمعهم و إنفاد عددهم، ليتفصى المجتمع من شرهم.
فإن ظفر بهم و أمكن قتلهم قتلوا، و إن لم يمكن ذلك قبض عليهم و أخذوا، و إن لم يمكن أخذهم حصروا و حبسوا في كهفهم و منعوا من الخروج إلى الناس و مخالطتهم و إن لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.
و لعل هذا المعنى هو مراد من قال: إن المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم و احصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين، و إن كان لا يخلو عن تكلف من جهة اعتبار الأخذ و الحصر و القعود في كل مرصد أمرا واحدا في قبال القتل، و كيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى.
و أما قول من قال: إن في قوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ}، تقديما و تأخيرا، و التقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم و اقتلوهم فهو من التصرف في معنى الآية من غير دليل مجوز، و الآية و خاصة ذيلها يدفع ذلك سياقا.
و معنى الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم و انقضى الأربعة الأشهر التي أمهلناهم بها بقولنا: {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فأفنوا المشركين بأي وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب و أوصل إلى إفناء جمعهم و إمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حل أو حرم
و متى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره و من أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، و المراد بالتوبة معناها اللغوي و هو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإيمان و نصبوا لذلك حجة من أعمالهم و هي الصلاة و الزكاة و التزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعا فخلوا سبيلهم.
و تخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه و إن عادت مبتذلة بكثرة التداول كان سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرض المتعرضين فإذا خلي عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التعرض لهم.
و قوله: {إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل لقوله: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} إما من جهة الأمر الذي يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذي يدل عليه بمادته أعني تخلية سبيلهم.
و المعنى على الأول: و إنما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه و يرحمه.
و على الثاني: خلوا سبيلهم لأن تخليتكم سبيلهم من المغفرة و الرحمة، و هما من صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم و أظهر الوجهين هو الأول.
قوله تعالى: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ} إلى آخر الآية، الآية تتضمن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله، و هي بما تشتمل عليه من الحكم و إن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على البراءة و رفع الأمان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذي لا يجوز إهماله فإن أساس هذه الدعوة الحقة و ما يصاحبها من الوعد و الوعيد و التبشير و الإنذار، و ما يترتب عليه من عقد العقود و إبرام العهود أو النقض و البراءة و أحكام القتال كل ذلك إنما هو لصرف الناس عن سبيل الغي و الضلال إلى صراط الرشد و الهدى، و إنجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.
و لازم ذلك الاعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال و الفوز بإحياء حق و إن كان يسيرا قليلا فإن الحق حق و إن كان يسيرا، و المشرك غير المعاهد
و إن أبرأ الله منه الذمة و أهدر دمه و رفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال و عرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيي حق و يبطل باطل فإذا رجي منه الخير منع ذلك من أي قصد سيئ يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته و إنجائه.
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة و يتبعها إن اتضحت له كان من الواجب إجارته حتى يسمع كلام الله و يرتفع عنه غشاوة الجهل و تتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله و أصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان و برئت منه الذمة و وجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة أمكنت و أي طريق كان أقرب و أسهل و هذا هو الذي يفيده قوله تعالى: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} الآية بما يكتنف به من الآيات.
فمعنى الآية: إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك و يكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله و يرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنه حتى يملك منك أمنا تاما كاملا، و إنما شرع الله هذا الحكم و بذل لهم هذا الأمن التام لأنهم قوم جاهلون و لا بأس على جاهل إذا رجي منه الخير بقبول الحق لو وضح له.
و هذا غاية ما يمكن مراعاته من أصول الفضيلة و حفظ الكرامة و نشر الرحمة و الرأفة و شرافة الإنسانية اعتبره القرآن الكريم، و ندب إليه الدين القويم.
و قد بان بما قدمناه أولا: أن الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
و ثانيا: أن قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ} غاية للاستجارة و الإجارة فيتغيا به الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله و استفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغي و يتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة و حان أن يرد المستجير إلى مأمنه و المكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه، و يختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية و الإرادة.
و ثالثا: أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيد بما ينفع المستجير من الآيات التي توضح له أصول المعارف الإلهية و معالم الدين و الجواب عما يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام و السياق.
و بذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، و كذا ما قيل: إن المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإن ذلك كله تخصيص من غير مخصص.
و رابعا: أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين و معالمه و إن أمكن أن يقال: إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربيا يفهم الكلام الإلهي دخلا في ذلك أما إذا كان غير عربي و لا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن الغاية في حقه مجرد تفقه أصول الدين و معالمه.
و خامسا: أن الآية محكمة غير منسوخة و لا قابلة له لأن من الضروري البين من مذاق الدين، و ظواهر الكتاب و السنة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجة، و لا تشديد أي تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق المستفهم للحقيقة لا يرد خائبا و لا يؤخذ غافلا فعلى الإسلام و المسلمين أن يعطوا كل الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين و يستعلم أصول الدعوة حتى يتبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، و هذا أصل لا يقبل بطلانا و لا تغييرا ما دام الإسلام إسلاما فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.
و من هنا يظهر فساد قول من قال: إن قوله: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ} (الآية) منسوخة بالآية الآتية: {وَ قَاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (الآية).
و سادسا: أن الآية إنما توجب إجارة المستجير إذا استجار لأمر ديني يرجى فيه خير الدين، و أما مطلق الاستجارة لا لغرض ديني و لا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلا بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلها.
و سابعا: أن قوله في تتميم الأمر بالإجارة: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} مع تمام قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ} بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب
الهداية على وجوه الناس، و التحفظ على حرية الناس في حياتهم و أعمالهم الحيوية، و الإغماض في طريقه عن كل حكم حتمي و عزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة، و لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
و ثامنا: أن الآية - كما قيل - تدل على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون عن علم يقيني لا يداخله شك و لا يمازجه ريب و لا يكفي فيه غيره و لو كان الظن الراجح، و قد ذم الله تعالى اتباع الظن، و ندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إسراء: ٣٦ و قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً} النجم: ٢٨ و قوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} الزخرف: ٢٠.
و لو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم بإجارة من استجار لتفهم أصول الدين و معارفه لجواز أن يكلف بالتقليد و الكف عن البحث عن أنه حق أو باطل هذا.
و لكن المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلا عن الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم و لو على سبيل الاتفاق، و هذا غير القول بأن الاستدلال على أصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فإن صحة الاستدلال أمر، و جواز الاعتماد على العلم بأي طريق حصل أمر آخر.
قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ} الآية، تبيين و توضيح لما مر إجمالا من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده، و قتلهم إلى أن يؤمنوا بالله و يخضعوا لدين التوحيد، و استثناء من لم ينقض العهد و بقي على الميثاق حتى ينقضي مدة عهدهم.
فالآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك و توضح الحكم و استثناء ما استثني منه و الغاية و المغيا جميعا.
فقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ} استفهام في مقام الإنكار، و قد بادرت الآية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام لكونهم لم ينقضوا عهدا و لم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى: {فَمَا اِسْتَقَامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} و ذلك أن الاستقامة لمن استقام و السلم لمن يسالم من لوازم التقوى الديني، و لذلك علل قوله ذلك بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ} كما جاء مثله بعينه في الآية السابقة: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ}.
قوله تعالى: {كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: الإل كل حالة ظاهرة من عهد حلف، و قرابة تئل: تلمع فلا يمكن إنكاره، قال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً}، و آل الفرس: أسرع، حقيقته لمع، و ذلك استعارة في باب الإسراع نحو برق و طار. انتهى.
و قال أيضا: الذمام - بكسر الذال - ما يذم الرجل على إضاعته من عهد ، و كذلك الذمة و المذمة، و قيل: لي مذمة فلا تهتكها، و أذهب مذمتهم بشيء: أي أعطهم شيئا لما لهم من الذمام. انتهى. و هو ظاهر في أن الذمة مأخوذة من الذم بالمعنى الذي يقابل المدح.
و لعل إلقاء المقابلة في الآية بين الإل و الذمة للدلالة على أنهم لا يحفظون في المؤمنين شيئا من المواثيق التي يجب رقوبها و حفظها سواء كانت مبنية على أصول واقعية تكوينية كالقرابة التي توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل و الاصطلاح كالعهود و المواثيق المعقودة بحلف و نحوه.
و قد كررت لفظة «كيف» للتأكيد و لرفع الإبهام في البيان الناشئ من تخلل قوله: {إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} (الآية) بطولها بين قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ} (الآية) و قوله: {وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}(الآية).
فمعنى الآية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله و الحال أنهم إن يظهروا عليكم و يغلبوكم على الأمر لا يحفظوا و لا يراعوا فيكم قرابة و لا عهدا من العهود يرضونكم بالكلام المدلس و القول المزوق، و يأبى ذلك قلوبهم، و أكثرهم فاسقون.
و من هنا ظهر أن قوله: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} من المجاز العقلي نسب فيه الإرضاء إلى الأفواه و هو في الحقيقة منسوب إلى القول و الكلام الخارج من الأفواه المكون فيها.
و قوله: {يُرْضُونَكُمْ} الآية تعليل لإنكار وجود العهد للمشركين و لذلك
جيء به بالفصل، و التقدير: كيف يكون لهم عهد و هم يرضونكم بأفواههم و تأبى قلوبهم و أكثرهم فاسقون.
و أما قوله: {وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ففيه بيان أن أكثرهم ناقضون للعهد و الميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم فالآية توضح حال آحادهم و جميعهم بأن أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلا و لا ذمة، و لو أنهم ظهروا عليكم جميعا لم يرقبوا فيكم الإل و الذمة.
قوله تعالى: {اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآيتين،بيان و تفسير لقوله في الآية السابقة: {وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} و كان قوله: {اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية توطئة و تمهيد لقوله في الآية الثانية: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً}.
و بذلك يظهر أن الأقرب أن المراد بالفسق الخروج عن العهد و الذمة دون الفسق بمعنى الخروج عن زي عبودية الله سبحانه و إن كان الأمر كذلك.
و قوله: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ} كالتفسير لجميع ما مر من أحوالهم الروحية و أعمالهم الجسمية، و تفيد الجملة مع ذلك جوابا عن سؤال مقدر أو ما يجري مجراه و المعنى: إذا كان هذا حالهم و هذه أفعالهم فلا تحسبوا أن لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم فأولئك هم المعتدون عليكم لما أضمروه من العداوة و البغضاء و لما أظهره أكثرهم في مقام العمل من الصد عن سبيل الله، و عدم رعاية قرابة و لا عهد في المؤمنين.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ} إلى آخر الآيتين، الآيتانبيان تفصيلي لقوله فيما تقدم: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ}.
و المراد بالتوبة بدلالة السياق الرجوع إلى الإيمان بالله و آياته، و لذلك لم يقتصر على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة التي هي أظهر مظاهر عبادة الله، و إيتاء الزكاة الذي هو أقوى أركان المجتمع الديني، و قد أشير بهما إلى نوع الوظائف الدينية التي بإتيانها يتم الإيمان بآيات الله بعد الإيمان بالله عز اسمه فهذا معنى قوله: {تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ}.
و أما قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ} فالمراد بهبيان التساوي بينهم و بين سائر المؤمنين
في الحقوق التي يعتبرها الإسلام في المجتمع الإسلامي: لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين.
و قد عبر في الآية عن ذلك بالأخوة في الدين، و قال في موضع آخر: {إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات: ١٠اعتبارا بما بينهم من التساوي في الحقوق الدينية فإن الأخوين شقيقان اشتقا من مادة واحدة و هما لذلك متساويان في الشئون الراجعة إلى ذلك في مجتمع المنزل عند والدهما الذي هو رب البيت، و في مجتمع القرابة عند الأقرباء و العشيرة.
و إذ كان لهذا المعنى المسمى بلسان الدين أخوة أحكام و آثار شرعية اعتنى بها قانون الإسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الأخوة بين أفراد المجتمع الإسلامي لها آثار مترتبة كما أن الأخوة الطبيعية فيما اعتبرها الإسلام لها آثار مترتبة عقلائية و دينية و ليست تسمية ذلك أخوة مجرد استعارة لفظية عن عناية مجازية، و فيما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قوله: «المؤمنون إخوة يسعى بذمتهم أدناهم، و هم يد واحدة على من سواهم».
و قوله: {وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} (الآية) يدل السياق أنهم غير المشركين الذين أمر الله سبحانه في الآية السابقة بنقض عهدهم و ذكر أنهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة فإنهم ناكثون للأيمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الذي ذكره الله سبحانه بقوله: {وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} (الآية).
فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولي الأمر من المسلمين عهود و أيمان ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فأمر الله سبحانه بقتالهم و ألغى أيمانهم و سماهم أئمة الكفر لأنهم السابقون في الكفر بآيات الله يتبعهم غيرهم ممن يليهم، يقاتلون جميعا لعلهم ينتهون عن نكث الأيمان و نقض العهود.
قوله تعالى: {أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ اَلرَّسُولِ} (الآية) و ما بعدها إلى تمام أربع آيات تحريض للمؤمنين و تهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله و خانوا به الحق و الحقيقة، و عد خطاياهم و طغياناتهم من نكث الأيمان و الهم بإخراج الرسول و البدء بالقتال أول مرة.
ثم بتعريف المؤمنين أن لازم إيمانهم بالله الذي يملك كل خير و شر و نفع و ضر
أن لا يخشوا إلا إياه إن كانوا مؤمنين به ففي ذلك تقوية لقلوبهم و تشجيعهم عليهم، و ينتهي إلىبيان أنهم ممتحنون من عند الله بإخلاص الإيمان له و القطع من المشركين حتى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقق في إيمانه.
قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} إلى آخر الآيتين. أعاد الأمر بالقتال لأنه صار من جهة ما تقدم من التحريض و التحضيض أوقع في القبول فإن الأمر الأول كان ابتدائيا غير مسبوق بتمهيد و توطئة بخلاف الأمر الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد و كمال التهيؤ من المأمورين.
على أن ما اتبع به الأمر من قوله: {يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ} إلى قوله: {وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} يؤكد الأمر و يغري المأمورين على امتثاله و إجرائه على المشركين فإن تذكرهم إن قتل المشركين عذاب إلهي لهم بأيدي المؤمنين، و إن المؤمنين أياد مجرية لله سبحانه و إن في ذلك خزيا للمشركين و نصرة من الله للمؤمنين عليهم و شفاء لصدور قوم مؤمنين و إذهابا لغيظ قلوبهم، يجرئهم للعمل و ينشطهم و يصفي إرادتهم.
و قوله: {وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلى مَنْ يَشَاءُ} الآية بمنزلة الاستثناء لئلا يجري حكم القتال على إطلاقه.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} إلى آخر الآية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال و فيهبيان حقيقة الأمر، و محصله أن الدار دار الامتحان و الابتلاء فإن نفوس الآدميين تقبل الخير و الشر و السعادة و الشقاوة فهي في أول كينونتها ساذجة مبهمة، و مراتب القرب و الزلفى إنما تبذل بإزاء الإيمان الخالص بالله و آياته، و لا يظهر صفاء الإيمان إلا بالامتحان الذي يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيب من الخبيث، و الصافي الإيمان ممن ليس عنده إلا مجرد الدعوى أو المزعمة.
فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدعون أنهم باعوا أنفسهم و أموالهم لله بأن لهم الجنة، و يبتلوا بمثل القتال الذي يميز به الصادق من الكاذب و يفصل الذي قطع روابط المحبة و الصلة من أعداء الله سبحانه ممن في قلبه بقايا من ولايتهم و مودتهم حتى يحيا هؤلاء و يهلك أولئك.
فعلى المؤمنين أن يمتثلوا أمر القتال بل يتسارعوا إليه و يتسابقوا فيه ليظهروا بذلك صفاء جوهرهم و حقيقة إيمانهم و يحتجوا به على ربهم يوم لا نجاح فيه إلا بحجة الحق.
فقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} أي بل أ ظننتم أن تتركوا على ما أنتم عليه من الحال و لما تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الإيمان بالله و بآياته.
و قوله: {وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ} الآية أي و لما يظهر في الخارج جهادكم و عدم اتخاذكم من دون الله و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة فإن تحقق الأشياء علم منه تعالى بها و قد مر نظير الكلام مع بسط ما في تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} الآية: آل عمران: ١٤٢ في الجزء الرابع من الكتاب. و من الدليل على هذا الذي ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الآية: {وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
و الوليجة على ما في مفردات الراغب، كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه و ليس من أهله.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} حدثني أبي عن محمد بن الفضل عن ابن أبي عمير عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة. قال :و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، و كان سنة من العرب في الحج أنه من دخل مكة و طاف البيت في ثيابه لم يحل له إمساكها، و كانوا يتصدقون بها و لا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثم يرده، و من لم يجده عارية و لا كرى و لم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا.
فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوبا عارية أو كرى فلم تجده فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها فقالت: كيف أتصدق و ليس لي غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة و أشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها و الأخرى على دبرها و قالت شعرا:
اليوم يبدو بعضه أو كله | *** | فما بدا منه فلا أحله |
فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إن لي زوجا.
و كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلا من قاتله و لا يحارب إلا من حاربه و أراده، و قد كان أنزل عليه [في] ذلك {فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه و اعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة و أمره بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم فتح مكة إلى مدة: منهم صفوان بن أمية و سهيل بن عمرو فقال الله عز و جل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ثم يقتلون حيثما وجدوا بعد. هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر.
فلما نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أبي بكر و أمره أن يخرج إلى مكة و يقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك.
فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) في طلب أبي بكر فلحقه بالروحاء و أخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله، أنزل الله في شيئا؟ فقال: لا إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
و في تفسير العياشي، عن حرير عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن رسول الله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا علي فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا و أمر أن يركب ناقته العضباء، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة و يقرأها على الناس بمكة فقال أبو بكر: أ سخط؟ فقال: لا إلا أنه أنزل عليه أنه لا يبلغ إلا رجل منك.
فلما قدم على مكة و كان يوم النحر بعد الظهر و هو يوم الحج الأكبر قام ثم قال: إني رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من شهر ربيع الآخر، و قال: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة
و لا مشرك بعد هذا العام، و من كان له عهد عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فمدته إلى هذه الأربعة أشهر.
أقول: المراد تعيين المدة للعهود التي لا مدة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية، و أما العهود التي لها مدة فاعتبارها إلى مدتها مدلول لنفس الآيات الكريمة.
و في تفسيري العياشي، و المجمع، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب علي (عليه السلام) بالناس و اخترط سيفه و قال: لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يحجن بالبيت مشرك، و من كانت له مدة فهو إلى مدته، و من لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر، و كان خطب يوم النحر، و كانت عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و قال: يوم النحر يوم الحج الأكبر.
أقول: و الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذه المعاني فوق حد الإحصاء.
و في الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند و أبو الشيخ و ابن مردويه عن علي (رضي الله عنه) قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعا أبا بكر (رضي الله عنه) ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه.
و رجع أبو بكر (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟ قال: لا و لكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
و فيه أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث أبا بكر (رضي الله عنه) ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث عليا (رضي الله عنه) على أثره فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): يا أبا بكر إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
و فيه أخرج ابن مردويه عن أبي رافع (رضي الله عنه) قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا بكر (رضي الله عنه) ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيل (عليه السلام) فقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فبعث عليا (رضي الله عنه) على أثره حتى لحقه بين مكة و المدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.
و فيه أخرج ابن حبان و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا بكر (رضي الله عنه) يؤدي عنه براءة فلما أرسله بعث إلى علي (رضي الله عنه) فقال: يا علي لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبي بكر (رضي الله عنه) فأخذ منه براءة.
فأتى أبو بكر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزلت فيه شيء فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي و صاحبي في الغار و أنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني إلا رجل مني.
أقول: و هناك روايات أخرى في معنى ما تقدم، و قد نقل في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب أنه رواه الطبرسي، و البلاذري، و الترمذي، و الواقدي، و الشعبي، و السدي، و الثعلبي، و الواحدي، و القرطبي، و القشيري، و السمعاني، و أحمد بن حنبل، و ابن بطة، و محمد بن إسحاق، و أبو يعلى الموصلي، و الأعمش، و سماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير، و أبي هريرة، و أنس، و أبي رافع، و زيد بن نفيع، و ابن عمر، و ابن عباس، و اللفظ له: أنه لما نزل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} إلى تسع آيات أنفذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا بكر إلى مكة لأدائها فنزل جبرئيل و قال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأمير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء و الحق أبا بكر و خذ براءة من يده.
قال: و لما رجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جزع و قال: يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت إليه رددتني منه؟ فقال (صلى الله عليه وآله): الأمين هبط إلي عن الله تعالى: أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك؛ و علي مني و لا يؤدي عني إلا علي.
و فيما نقلناه من الروايات و ما تركناه منها و هو أكثر و فيما سيجيء في هذا الباب نكتتان أصليتان.
إحداهما: أن بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا ببراءة و عزله أبا بكر إنما كان بأمر من ربه بنزول جبرئيل: «أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و لم يقيد الحكم في شيء من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شيء منها: لا يؤدي براءة أو لا ينقض العهد إلا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير
من التفاسير؛ و يؤيد الإطلاق ما سيأتي.
و ثانيتهما: أن عليا (عليه السلام) كما كان ينادي ببراءة، كذلك كان ينادي بحكم آخر و هو أن من كان له مدة فهو إلى مدته و من لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر: و هذا أيضا مما يدل عليه آيات براءة.
و بحكم آخر و هو أنه لا يطوفن بالبيت عريان، و هو أيضا حكم إلهي مدلول عليه بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: ٣١ و قد ورد في بعض الروايات ذكر الآية مع الحكم كما سيجيء.
و حكم آخر أنه لا يطوف أو لا يحج البيت مشرك بعد هذا العام و هو مدلول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} التوبة: ٢٨.
و هناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب أنه (عليه السلام) كان ينادي به و هو أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن و هذا و إن لم يذكر في سائر الروايات، و الاعتبار لا يساعد على ذلك لنزول آيات كثيرة مكية و مدنية في ذلك و خفاء الأمر في ذلك على المشركين إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك أيضا مدلول للآيات الكريمة۱، و على أي حال لم تكن رسالة علي (عليه السلام) مقصورا على تأدية آيات براءة بل لها و لتبليغ ثلاثة أو أربعة أحكام قرآنية أخرى، و الجميع مشمول لما أنزل به جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد الكلام على إطلاقه أصلا.
و في الدر المنثور أخرج الترمذي و حسنه و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس (رضي الله عنه): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث أبا بكر (رضي الله عنه) و أمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا (رضي الله عنه) و أمره أن ينادي بها فانطلقا فحجا فقام علي (رضي الله عنه) في أيام التشريق فنادى: أن الله بريء من المشركين و رسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و لا يحجن بعد العام مشرك،
و لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي (رضي الله عنه) ينادي بها.
أقول: و الخبر قريب المضمون مما استفدناه من الروايات.
و فيه أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة :أن أبا بكر (رضي الله عنه) أمره أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر.
قال أبو هريرة: ثم أتبعنا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (رضي الله عنه) أمره أن يؤذن ببراءة و أبو بكر (رضي الله عنه) على الموسم كما هو - أو قال: على هيئته -.
أقول: و قد ورد في عدة من طرق أهل السنة: أن النبي استعمل أبا بكر على الحج عامه ذلك فكان هو أمير الحاج و علي ينادي ببراءة و قد روت الشيعة أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) استعمل للإمارة عليا كما أنه حمله تأدية آيات براءة و قد ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان و رواه العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، و ربما تأيد ذلك بما ورد أن عليا كان يقضي في سفره ذلك و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعا له في ذلك، إذ من المعلوم أن مجرد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمن الحكم بالقضاء بين الناس، و أوفق ما يكون ذلك في تلك الأيام بالإمارة، و الرواية ما سيأتي:
في تفسير العياشي، عن الحسن عن علي (عليه السلام): أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست بلسن و لا بخطيب قال (صلى الله عليه وآله و سلم): يأبى الله ما بي إلا أن أذهب بها أو تذهب أنت قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا قال: فانطلق فإن الله يثبت لسانك و يهدي قلبك ثم وضع يده على فمه فقال: انطلق و اقرأها على الناس، و قال (صلى الله عليه وآله و سلم) الناس سيتقاضون إليك فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الآخر فإنه أجدر أن تعلم الحق.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة كما في الدر المنثور عن أبي الشيخ عن علي (رضي الله عنه) قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله تبعثني و أنا غلام حديث السن و أسأل عن القضاء و لا أدري ما أجيب؟ قال: ما بد من أن تذهب بها أو أذهب بها. قلت: إن كان لا بد أنا أذهب، قال: انطلق فإن الله يثبت لسانك و يهدي قلبك، ثم قال: انطلق و اقرأها على الناس.
إلا أن اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسيء الظن بها إذ من البين من لفظ آيات براءة أنها مقرة على أهل مكة يوم الحج الأكبر بمكة و أين ذلك من اليمن و أهلها
و كان لفظ الرواية كان: «إلى مكة» فوضع موضعه «إلى اليمن» تصحيحا لما اشتملت عليه من حديث القضاء.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و النسائي و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي هريرة قال :كنت مع علي (رضي الله عنه) حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، بعث عليا بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، و لا يجتمع المسلمون و المشركون بعد عامهم، و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عهد فهو إلى عهده، و إن الله و رسوله بريء من المشركين.
أقول: و هذا المعنى مروي عن أبي هريرة بعدة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو من شيء في متنها – على ما سيجيء - و أمتن الروايات متنا هذه التي أوردناها.
و فيه أخرج أحمد و النسائي و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي هريرة قال :كنت مع علي حين بعثه رسول الله إلى أهل مكة ببراءة فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عهد فإن أمره أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين و رسوله و لا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.
أقول: و في متن الرواية اضطراب بين، أما أولا: فلاشتمالها على النداء بأنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و قد سبق أنه نزلت في معناه آيات كثيرة مكية و مدنية منذ سنين و قد سمعها الحضري و البدوي و المشرك و المؤمن فأي حاجة متصورة إلى إبلاغها أهل الجمع.
و أما ثانيا: فلأن النداء الثاني أعني قوله: و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عهد إلخ، لا ينطبق لا على مضامين الآيات و لا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة، على أنه قد جعل فيه البراءة بعد مضي أربعة أشهر.
و أما ثالثا: فلما سنذكره ذيلا.
و فيه أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال :بعثني أبو بكر (رضي الله عنه) في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة، و أن لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان.
و في تفسير المنار، عن الترمذي عن ابن عباس :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث أبا بكر إلى أن قال فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله و ذمة رسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، و لا يحجن بعد العام مشرك، و لا يطوفن بالبيت عريان و لا يدخل الجنة إلا كل مؤمن فكان علي ينادي بها فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها.
و فيه أيضا عن أحمد و النسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال :كنت مع علي حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى مكة ببراءة فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عهد فعهده إلى مدته، و لا يحج بعد العام مشرك فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
أقول: قد عرفت أن الذي وقع في الروايات على كثرتها في قصة بعث علي و عزل أبي بكر من كلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و كذا ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حين أجاب أبا بكر لما سأله عن سبب عزله، إنما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله - و هو في معناه -: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني».
و كيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة و كل حكم إلهي احتاج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أن يؤديه عنه مؤد غيره، و لا دليل لا من متون الروايات و لا غيرها يدل على اختصاص ذلك ببراءة، و قد اتضح أن المنع عن طواف البيت عريانا و المنع عن حج المشركين بعد ذلك العام و كذا تأجيل من له عهد إلى مدة أو من غير مدة كل ذلك أحكام إلهية نزل بها القرآن فما معنى إرجاع أمرها إلى أبي بكر أو نداء أبي هريرة بها وحده أو ندائه ببراءة و سائر الأحكام المذكورة في الجمع إذا بح علي (عليه السلام) حتى يصحل صوته من كثرة النداء؟ و لو جاز لأبي هريرة أن يقوم بها و الحال هذه فلم لم يجز لأبي بكر ذلك؟!
نعم أبدع بعض المفسرين كابن كثير و أترابه هنا وجها وجهوا به ما تتضمنه هذه الروايات انتصارا لها و هو أن قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مخصوص بتأدية براءة فقط من غير أن يشمل سائر الأحكام التي كان ينادي بها علي (عليه السلام)، و أن تعيينه (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا بتبليغ آيات براءة أهل الجمع إنما هو لما كان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته و مراعاة هذه العادة الجارية هي
التي دعت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأخذ براءة و فيها نقض ما للمشركين من عهد من أبي بكر و يسلمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض أهل بيته.
قالوا: و هذا معنى قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما سأله أبو بكر قائلا: يا رسول الله هل نزل في شيء؟ قال: «لا و لكن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» و معناه أني إنما عزلتك و نصبت عليا لذلك لئلا أنقض هذه السنة العربية الجارية.
و لذلك لم ينفصل أبو بكر من شأنه فقد كان قلده إمارة الحاج و كان لأبي بكر مؤذنون يؤذنون بهذه الأحكام كأبي هريرة و غيره من الرجال الذين لم يذكر أسماؤهم في الروايات، و كان على أحد من عنده لهذا الشأن، و لذا ورد في بعضها: أنه خطب بمنى و لما فرغ من خطبته التفت إلى علي و قال: قم يا علي و أد رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). و هذا ما ذكروه و وجهوا به الروايات.
و الباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات و الروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات الكلامية بين الفريقين: أهل السنة و الشيعة في باب الأفضلية لم يرتب في أنهم خلطوا بين البحث التفسيري الذي شأنه تحصيل مداليل الآيات القرآنية، و البحث الروائي الذي شأنه نقد معاني الأحاديث و تمييز غثها من سمينها، و بين البحث الكلامي الناظر في أن أبا بكر أفضل من علي أو عليا أفضل من أبي بكر؟ و في أن إمارة الحاج أفضل أو الرسالة في تبليغ آيات براءة؟ و لمن كان إمارة الحج إذ ذاك لأبي بكر أو لعلي؟ أما البحث الكلامي فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، و أما البحث الروائي أو التفسيري فيما يرتبط به الآيات إلى أسباب نزولها مما يتعلق بمعاني الآيات فالذي ينبغي أن يقال بالنظر إليه أنهم أخطئوا في هذا التوجيه.
فليت شعري من أين تسلموا أن هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل: «أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» مقيدة بنقض العهد لا يدل على أزيد من ذلك، و لا دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله)أن يؤديه لا يجوز أن يؤديه إلا هو أو رجل منه؛ سواء كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد براءة أو حكما آخر إلهيا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)أن يؤديه و يبلغه.
و هذا غير ما كان من أقسام الرسالة منه (صلى الله عليه وآله و سلم) مما ليس عليه أن يؤديه بنفسه
الشريفة كالكتب التي أرسل بها إلى الملوك و الأمم و الأقوام في الدعوة إلى الإسلام و كذا سائر الرسالات التي كان يبعث بها رجالا من المؤمنين إلى الناس في أمور يرجع إلى دينهم و الإمارات و الولايات و نحو ذلك.
ففرق جلي بين هذه الأمور و بين براءة و نظائرها فإن ما تتضمنه آيات براءة و أمثال النهي عن الطواف عريانا، و النهي عن حج المشركين بعد العام أحكام إلهية ابتدائية لم تبلغ بعد و لم تؤد إلى من يجب أن تبلغه، و هم المشركون بمكة و الحجاج منهم، و لا رسالة من الله في ذلك إلا لرسوله، و أما سائر الموارد التي كان يكتفي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت مما فرغ (صلى الله عليه وآله و سلم) فيها من أصل التبليغ و التأدية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممن حضر كالدعوة إلى الإسلام و سائر شرائع الدين و كان يقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ثم إذا مست الحاجة إلى تبليغه بعض من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه أو لا أثر لمجرد البلوغ إلا أن يعتني لشأنه بكتاب أو رسول أو توسل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك.
و ليتأمل الباحث المنصف قوله «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فقد قيل: «لا يؤدي عنك إلا أنت» و لم يقل: «لا يؤدي إلا أنت أو رجل منك» حتى يفيد اشتراك الرسالة، و لم يقل: «لا يؤدي منك إلا رجل منك» حتى يشمل سائر الرسالات التي كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يقلدها كل من كان من صالحي المؤمنين فإنما مفاد قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» أن الأمور الرسالية التي يجب عليك نفسك أن تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوضا منك إلا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائية إلا رجل منك.
ثم ليت شعري ما الذي دعاهم إلى أن أهملوا كلمة الوحي التي هي قول الله نزل به جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و ذكروا مكانها أنه «كانت السنة الجارية عند العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته» تلك السنة العربية التي لا خبر عنها في أيامهم و مغازيهم و لا أثر إلا ما ذكره ابن كثير و نسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة!.
ثم لو كانت سنة عربية جاهلية على هذا النعت فما وزنها في الإسلام و ما هي قيمتها عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد كان ينسخ كل يوم سنة جاهلية و ينقض كل حين عادة قومية، و لم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السنن و العادات النافعة بل سليقة قبائلية تشبه
سلائق الأشراف و قد قال (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم فتح مكة عند الكعبة على ما رواه أصحاب السير: «إلا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت و سقاية الحاج».
ثم لو كانت سنة عربية غير مذمومة فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ذهل عنها و نسيها حين أسلم الآيات إلى أبي بكر و أرسله، و خرج هو إلى مكة حتى إذا كان في بعض الطريق ذكر (صلى الله عليه وآله و سلم) ما نسيه أو ذكره بعض من عنده بما أهمله و ذهل عنه من أمر كان من الواجب مراعاته؟ و هو (صلى الله عليه وآله و سلم) المثل الأعلى في مكارم الأخلاق و اعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم و حسن التدبير، و كيف جاز لهؤلاء المذكرين أن يغفلوا عن ذلك و ليس من الأمور التي يغفل عنها و تخفى عادة فإنما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه؟!
و هل كان ذلك بوحي من الله إليه أنه يجب له أن لا يلغي هذه السنة العربية الكريمة، و أن ذلك أحد الأحكام الشرعية في الباب و أنه يحرم على ولي أمر المسلمين أن ينقض عهدا إلا بنفسه أو بيد أحد من أهل بيته؟ و ما معنى هذا الحكم؟
أو أنه حكم أخلاقي اضطر إلى اعتباره لما أن المشركين ما كانوا يقبلون هذا النقض إلا بأن يسمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه أو من أحد من أهل بيته؟ و قد كانت السيطرة يومئذ له (صلى الله عليه وآله و سلم) عليهم، و الزمام بيده دونهم، و الإبلاغ إبلاغ.
أو أن المؤمنين المخاطبين بقوله: {عَاهَدْتُمْ} و قوله: {وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ} و قوله: {فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ} ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضا دون أن يسمعوه منه (صلى الله عليه وآله و سلم) أو من واحد من أهل بيته و إن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبي بكر؟
و لو كان كذلك فكيف قبله و اعتبره نقضا من سمعه من أبي هريرة الذي كان ينادي به حتى صحل صوته؟ و هل كان أبو هريرة أقرب إلى علي و أمس به من أبي بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فالحق أن هذه الروايات الحاكية لنداء أبي هريرة و غيره غير سديدة لا ينبغي الركون إليها.
قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جعل أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع و أمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ثم أردفه بعلي ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة و إعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، و إن العهود الموقتة أجلها نهاية وقتها، و يتلو عليهم الآيات المتضمنة لمسألة نبذ العهود و ما يتعلق بها من أول سورة براءة.
و هي أربعون أو ثلاث و ثلاثون آية، و ما ذكر في بعض الروايات من التردد بين ثلاثين و أربعين فتعبير بالأعشار مع إلغاء كسرها من زيادة و نقصان.
و ذلك لأن من عادة العرب أن العهود و نبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، و أن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان يساعده على ذلك و يأمر بعض الصحابة كأبي هريرة بمساعدته. انتهى.
و قال أيضا: إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلي (عليه السلام) كعادتهم و يضيفون إليها ما لا تصح به رواية، و لا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبي بكر (رضي الله عنهما) و كونه أحق بالخلافة منه، و يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عزل أبا بكر من تبليغ سورة براءة لأن جبرئيل أمره بذلك، و أنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه و لا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود و ما يتعلق به بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله.
مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة كالجهاد في حمايته و الدفاع عنه، و كونه فريضة لا فضيلة فقط و منها قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع على مسمع الألوف من الناس: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» و هو مكرر في الصحيحين و غيرهما، و في بعض الروايات عن ابن عباس: فوالذي نفسي بيده أنها لوصيته إلى أمته «فليبلغ الشاهد الغائب» إلخ و حديث: «بلغوا عني و لو آية» رواه البخاري في صحيحة و الترمذي، و لو لا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السريع في العالم.
بل زعم بعضهم كما قيل إنه (صلى الله عليه وآله و سلم) عزل أبا بكر من إمارة الحج و ولاها عليا، و هذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص و العام.
و الحق أن عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتبليغ أمر خاص، و كان في تلك الحجة تابعا لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ ذلك فيه فيقول: يا علي قم فبلغ رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله)كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين و غيرهما.
ثم ساق الكلام و استدل بإمارة أبي بكر في تلك الحجة و ضم إليها صلاته موضع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبيل وفاته على تقدمه و أفضليته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.
أما قوله: مع استفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة إلى آخر ما قال فيكشف عن أنه لم يحصل معنى كلمة الوحي: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» حق التحصيل، و لم يفرق بين قولنا: «لا يؤدي منك إلا رجل منك» و بين قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فزعم أن الكلام بإطلاقه يمنع عن كل تبليغ ديني يتصداه غير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة و قيد به إطلاق قوله: «لا يؤدي عنك» إلخ فجعله خاصا بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الإلهي إلى سنة عربية جاهلية.
و قد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى أن زعم أن إبقاء الكلام على إطلاقه منشؤه الغفلة عن أمر هو كالضروري عند عامة المسلمين أعني وجوب التبليغ العام حتى استدل على ذلك بما في الصحيحين و غيرهما من قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) «فليبلغ الشاهد الغائب»، و قد عرفت ما هو حق المعنى لكلمة الوحي.
و أما قوله: «بل زعم بعضهم كما قيل إنه عزل أبا بكر من إمارة الحج و ولاها عليا و هذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام و الخاص» فليس ذلك زعما من البعض و لا بهتانا كما بهته بل رواية روتها الشيعة و قد أوردناها في ضمن الروايات المتقدمة.
و ليس التوغل في مسألة الإمارة مما يهمنا في تفهم معنى قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فإمارة الحاج سواء صحت لأبي بكر أو لعلي، دلت على فضل أو لم تدل إنما هي من شعب الولاية الإسلامية العامة التي شأنها التصرف في أمور المجتمع الإسلامي الحيوية، و إجراء الأحكام و الشرائع الدينية، و لا حكومة لها على المعارف الإلهية و مواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.
إنما هي ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ينصب يوما أبا بكر أو عليا لإمارة الحاج، و يؤمر يوما أسامة على أبي بكر و عامة الصحابة في جيشه، و يولي يوما ابن أم مكتوم على المدينة و فيها من هو أفضل منه، و يولي هذا مكة بعد فتحها، و ذاك اليمن، و ذلك أمر الصدقات، و قد استعمل (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري على ما في سيرة ابن هشام على المدينة عام حجة الوداع، و فيها أبو بكر لم يخرج إلى الحج على ما رواه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و غيرهم و إنما تدل على إذعانه (صلى الله عليه وآله و سلم) بصلاحية من نصبه لأمر لتصديه و إدارة رحاه.
و أما الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف و الشرائع فليس للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا لمن دونه صنع فيه و لا تأثير فيه مما له من الولاية العامة على أمور المجتمع الإسلامي بإطلاق أو تقييد أو إمضاء أو نسخ أو غير ذلك، و لا تحكم عليه سنة قومية أو عادة جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الإنسان فيما يهمه من أمر.
و الخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهية من أوج علوها و كرامتها إلى حضيض الأفكار الاجتماعية التي لا حكومة فيها إلا للرسوم و العادات و الاصطلاحات، فيعود الإنسان يفسر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامية و يستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظمه الله، و يستصغر ما استصغره الناس حتى يقول القائل في معنى كلمة الوحي أنه عادة عربية محترمة.
و أنت إذا تأملت هذه القصة - أخذ آيات براءة من أبي بكر و إعطاءها عليا على ما تقصها الروايات - وجدت فيها من مساهلة الرواة و توسعهم في حفظ القصة بما لها من الخصوصيات - إن لم يستند إلى غرض آخر - أمرا عجيبا ففي بعضها و هو الأكثر أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث أبا بكر بالآيات ثم بعث عليا و أمره أن يأخذها منه و يتلوها على الناس فرجع أبو بكر إلخ، و في بعضها أنه بعث أبا بكر بإمارة الحج ثم بعث عليا بعده بآيات براءة و في بعضها: أن أبا بكر أمره بالتبليغ و أمر بعض الصحابة أن يشاركه في النداء حتى آل الأمر إلى مثل ما رواه الطبري و غيره عن مجاهد في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ} إلى أهل العهد خزاعة و مدلج و من كان له عهد و غيرهم. أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر و عليا فطافا في الناس بذي المجاز و بأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها و بالموسم كله فأذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر و هي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الأول۱ ثم عهد لهم و آذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا.
و إذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: «بهتان صريح مخالف لجميع الروايات
في مسألة عملية عرفها العام و الخاص»؟ فإن كان يعني: عرفها العام و الخاص في عصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ممن شاهد الأمر أو سمع ذلك ممن شاهده و وصفه فماذا ينفعنا ذلك؟!
و إن كان يعني: أن العام و الخاص ممن يلي عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يلي من يليه عرفا ذلك و لم يشك أحد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمة.
منها ما يحكى أن عليا اختص بتأدية براءة و أخرى تدل على أن أبا بكر شاركه فيه، و أخرى تدل على أن أبا هريرة شاركه في التأدية و رجال آخرون لم يسموا في الروايات.
و منها ما يدل على أن الآيات كانت تسع آيات، و أخرى عشرا، و أخرى ست عشرة، و أخرى ثلاثين، و أخرى ثلاثا و ثلاثين، و أخرى سبعا و ثلاثين، و أخرى أربعين، و أخرى سورة براءة.
و منها ما يدل على أن أبا بكر ذهب لوجهه أميرا على الحاج و أخرى على أنه رجع حتى أوله بعضهم كابن كثير أنه رجع بعد إتمام الحج، و آخرون أنه رجع ليسأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن سبب عزله، و في رواية أنس الآتية أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث أبا بكر ببراءة ثم دعاه فأخذها منه.
و منها ما يدل على أن الحجة وقعت في ذي الحجة و أن يوم الحج الأكبر تمام أيام تلك الحجة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك و أخرى أن أبا بكر حج في تلك السنة في ذي القعدة.
و منها ما يدل على أن أشهر السياحة تأخذ من شوال، و أخرى من ذي القعدة، و أخرى من عاشر ذي الحجة، و أخرى من الحادي عشر من ذي الحجة و غير ذلك.
و منها ما يدل على أن الأشهر الحرم هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم من تلك السنة و، أخرى على أنها أشهر السياحة تبتدأ من يوم التبليغ أو يوم النزول.
فهذا حال اختلاف الروايات، و مع ذلك كيف يستقيم دعوى أنه أمر عرفه العام و الخاص، و بعض المحتملات السابقة و إن كان قولا من مفسري السلف إلا أن المفسرين يعاملون أقوالهم معاملة الروايات الموقوفة.
و أما قوله: و الحق أن عليا كان مكلفا بتبليغ أمر خاص و كان في تلك الحجة
تابعا لأبي بكر في إمارته إلى آخر ما قال فلا ريب أن الذي بعث به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا من الأحكام كان أمرا خاصا و هو تلاوة آيات براءة و سائر ما يلحق بها من الأمور الأربعة المتقدمة غير أن الكلام في أن كلمة الوحي: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» لا تختص في دلالتها بتأدية آيات براءة على ما تقدمبيانه فلا ينبغي الخلط بين ما يدل عليه الكلمة و بين ما أمر به علي في خصوص تلك السفرة.
و أما قوله: و كان في تلك الحجة تابعا «إلخ» فأمر استفادة من كلام أبي هريرة و ما يشبه، و قد عرفت الكلام فيه.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أنس (رضي الله عنه) قال: بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببراءة مع أبي بكر (رضي الله عنه) ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا فأعطاه إياه.
أقول: ذكر صاحب المنار في بعض كلامه: أن قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «أو رجل مني في رواية السدي قد فسرتها الروايات الأخرى عند الطبري و غيره بقوله (صلى الله عليه وآله و سلم) : «أو رجل من أهل بيتي» و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» بأن معناها أن نفس علي كنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنه مثله و أنه أفضل من كل أصحابه انتهى.
و الذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله: و أخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
و هذه بعينها - على ما لا يخفى - هي الرواية السابقة التي أوردناها عن أنس، و قد وقع فيها «أو رجل من أهلي» و إن اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.
و أول ما في كلامه: أن اللفظ: «أو رجل مني» لم يقع إلا في رواية واحدة موقوفة هي رواية السدي التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحي التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها، و الروايات الآخر المشتملة على قوله: «من أهل بيتي» و هو يستكثرها إنما هي رواية أنس على ما عثرنا عليها و قد وقع في بعض ألفاظها قوله «من أهلي» مكان «من أهل بيتي».
و الثاني: أن الرواية - كما اتضح لك -منقولة بالمعنى، و مع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله: «من أهل بيتي» في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من «لفظ رجل منك» أو «رجل مني» لكان الواقع في رواية في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل مني لكان الواقع في رواية أبي سعيد الخدري السابقة من قوله (عليه السلام): «يا علي إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت» مفسرا لما في رواية أنس: «إلا رجل من أهل بيتي» أو «إلا رجل من أهلي» و ما في سائر الروايات: «إلا رجل منك» أو «إلا رجل مني».
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علي (عليه السلام)، بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي (عليه السلام) و من أهله و من أهل بيته جميعا، و هذا عين ما فر منه و زيادة.
و الثالث: أن استفادة كونه (عليه السلام) بمنزلة نفسه (صلى الله عليه وآله و سلم) ليست بمستندة إلى مجرد قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) «رجل مني» كما حسبه فإن مجرد قول القائل: فلان مني لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شئون وجوده و مماثلته إياه، و إنما يدل على نوع من الاتصال و الاتباع كما في قول إبراهيم (عليه السلام): {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} إبراهيم: ٣٦ إلا بنوع من القرينة الدالة على عناية كلامية كقوله تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
بل إنما استفيد ذلك من قوله: «رجل مني» أو «رجل منك» بمعونة قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت» على البيان الذي تقدم و على هذا فلو كان هناك قوله: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي» لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مضافا۱ إلى أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) عده منه في خطابه أبا بكر و هو أيضا منه بالاتباع.
و الرابع: أنه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي تدل على أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هم: علي و فاطمة و الحسنان على ما تقدم في أخبار آية المباهلة و سيجيء معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
و لا رجل في أهل بيته (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا علي (عليه السلام) فيئول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علي (عليه السلام) فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
و أما ما احتمله من المعنى فهو أن المراد بأهل بيته عامة أقربائه من بني هاشم أو بنو هاشم و نساؤه فينزل اللفظ منزلة عادية من غير أن يحمل شيئا من المزية، و المعنى لا يؤدي نبذ العهد عني إلا رجل من بني هاشم، و القوم يرجعون غالبا في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع، و قد تقدم نظير ذلك في معنى الابن و البنت حيث حسبوا أن كون ابن البنت ابنا للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوي يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه، و جميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظية و الأبحاث المعنوية، و كذا الخلط بين الأنظار الاجتماعية و الأنظار الدينية السماوية على ما تقدمت الإشارة إليه.
و أعجب من الجميع قوله: و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» فإن مراده بدلالة السياق أن كلمة «من أهل بيتي» نص صريح في أن المراد برجل مني رجل من بني هاشم، و لا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة «أهل البيت» في بني هاشم بعد ما تكاثرت الروايات أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) ثم في قوله: «أهل بيتي» بمعنى بني هاشم أن المراد بكلمة «مني» هو ذلك!.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} قال: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر.
أقول: و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك، روى ذلك الكليني و الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم في كتبهم، و روي ذلك من طرق أهل السنة، و هناك روايات أخرى
من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها أن أبا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذي القعدة، و هي غير متأيدة و لذلك أغمضنا عنها.
و في تفسير العياشي، عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ} قال: الأذان أمير المؤمنين (عليه السلام).
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و عن جابر عن جعفر بن محمد و أبي جعفر (عليه السلام)، و رواه القمي عن أبيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: و في حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس. و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن حكيم عنه (عليه السلام)، و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين (عليه السلام)، و قال في تفسير البرهان: قال السدي و أبو مالك و ابن عباس و زين العابدين: الأذان هو علي بن أبي طالب فأدى به.
و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الحج الأكبر فقال: عندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة يعني أنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحج و من فاته ذلك فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها و لما بعدها، و الدليل على ذلك أنه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج و أجزي عنه من عرفة.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحج الأكبر يوم النحر و احتج بقول الله عز و جل: {فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فهي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و لو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر و يوما، و احتج بقوله عز و جل: {وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ} و كنت أنا الأذان في الناس.
قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون، و لم يحج المشركون بعد تلك السنة.
و فيه عنه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن يوم
الحج الأكبر فقال: يوم النحر و الأصغر العمرة.
أقول: و في الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحج بالأكبر، و قد أطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلا ما شذ على أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و هو يوم النحر، و رووا ذلك عن علي (عليه السلام) .
و روى هذه الرواية الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و روى ذلك أيضا بإسناده عن ذريح عنه (عليه السلام)، و كذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنه (عليه السلام)، و رواه العياشي عن عبد الرحمن و ابن أذينة و الفضيل بن عياض عنه (عليه السلام) .
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال يوم الأضحى: هذا يوم الحج الأكبر.
و فيه أيضا أخرج البخاري تعليقا و أبو داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحج الأكبر.
أقول: و روي ذلك بطرق مختلفة عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و مغيرة بن شعبة و أبي جحيفة و عبد الله بن أبي أوفى، و قد روي بطرق مختلفة أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه يوم عرفة، و كذا روي ذلك عن علي و ابن عباس و ابن الزبير، و روي عن سعيد بن المسيب أنه اليوم التالي ليوم النحر، و روي أنه أيام الحج كلها، و روي أنه الحج في العام الذي حج فيها أبو بكر، و هذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق (عليه السلام): أنه سمي الحج الأكبر لما حج في تلك السنة المسلمون و المشركون جميعا.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: {فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر.
و في الدر المنثور: في قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ} أخرج الحاكم و صححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه (رضي الله عنه) قال: افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثم ارتحل غدوة و روحة ثم نزل ثم هجر.
ثم قال: أيها الناس إني لكم فرط، و إني أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة و لتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتلهم و ليسبين ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر (رضي الله عنهما) فأخذ بيد علي (رضي الله عنه) فقال: هذا.
أقول: يعني (صلى الله عليه وآله و سلم) به الكفر.
و في تفسير العياشي، في حديث جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): {فَإِنْ تَابُوا} يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (الآية) قال: قال: اقرأ عليه و عرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري: أن رجلا قال لعلي يا ابن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقي رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علي: بلى لأن الله قال: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (الآية).
و في الدر المنثور:في قوله تعالى: {وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} (الآية) أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن حذيفة (رضي الله عنه): أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
و فيه أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و ابن مردويه عن زيد بن وهب: في قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ} قال: كنا عند حذيفة (رضي الله عنه) فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة و لا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا و يسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده .
و في قرب الإسناد، للحميري: حدثني عبد الحميد و عبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزبير فقلت لهم: كانوا۱ من أئمة الكفر أن عليا يوم البصرة لما صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني و بين الله و بينهم.
فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا. قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبه في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فأقمت فيكم الحدود و عطلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث إني ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف.
ثم ثنى إلى أصحابه فقال إن الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: {وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا مذ نزلت.
أقول: و رواه العياشي عن حنان بن سدير عنه (عليه السلام).
و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين خرج طلحة و الزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة و الزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية: {وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}
أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن و أبي الطفيل و الحسن البصري: مثله، و رواه الشيخ في أماليه، عن أبي عثمان المؤذن. و في حديثه قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر (عليه السلام) فقال: صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان.
و في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم
و المسور بن مخرمة قال :كان في صلح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم الحديبية بينه و بين قريش أن من شاء أن يدخل في عقد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عهده دخل فيه، و من شاء أن يدخل في عهد قريش و عقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد و عقده. و تواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش و عهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا.
ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش و عهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و عهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد و هذا الليل و ما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع و السلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و ركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة و بني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بأبيات أنشده إياها: يا رب۱ إني ناشد محمدا *** حلف أبينا و أبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا و كنا والدا | *** | ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا |
فانصر هداك الله نصرا أعتدا | *** | و ادع عباد الله يأتوا مددا |
فيهم رسول الله قد تجردا | *** | إن سيم خسفا وجهه تربدا |
في فيلق كالبحر يجري مزبدا | *** | إن قريشا أخلفوك الموعدا |
و نقضوا ميثاقك المؤكدا | *** | و جعلوا لي في كداء رصدا |
و زعموا أن لست أدعو أحدا | *** | و هم أذل و أقل عددا |
هم بيتونا بالوتير هجدا | *** | و قتلونا ركعا و سجدا٢ |
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن هذه السحابة لتشهد٣ بنصر بني كعب، و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الناس بالجهاد و كتمهم مخرجه، و سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
أقول: أورد الرواية في الدر المنثور بعد ما روي بطرق عن مجاهد و عكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية و إعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان هو السبب لنزول قوله تعالى: {أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً} إلى قوله: {وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} و هم خزاعة.
و لو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية: {أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} - إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق و البيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، و ما رواها مجاهد و عكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف و الانقطاع، و سياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها و اتصالها بها على ما لا يخفى.
و الذي ذكر فيها من قوله: {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} و إن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش و جيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة و هم لاتحادهم مع قريش و اتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
و اعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) تطبق الآيات على ظهور المهدي (عليه السلام)، و هي من الجري.
(كلام في معنى العهد و أقسامه و أحكامه)
قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد و العهد و نستأنف البيان هاهنا في معنى ما تقدم و ما يستتبعه من الأقسام و الأحكام بتقرير آخر في فصول:
١ - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله و ما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية و يمثلها بها و يجري بينها أحكام الأمور الكونية و آثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي
و الياء و الدال، و يؤلفها بشكل مخصوص و يعمل لفظ «زيد» ثم يفترض أنه زيد الإنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ «زيد» فكان ممثلا لعين زيد عنده، و حصل بذلك غرضه.
و إذا أراد أن يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة و افترضهم واحدا كالإنسان الواحد، و فرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان و يسميه رئيسا، و فرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء و يسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، و على العضو آثار العضو الخارجي و على هذا القياس.
و إلى هذا يئول جميع أفكار الإنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات و التصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تئول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله و أفعاله.
الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود و تمثيل العهود و ما يرتبط بها من الحلف و اليمين و البيعة و نحو ذلك، و العامل الأولي في ذلك أن الإنسان لا هم له إلا التحفظ على حياته و الوصول إلى مزاياها و التمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها و سلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل و الشرب و غيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، و دفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض و رأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.
و قد أوتي الإنسان سلعة الفكر و بذلك يدبر أمر حياته و يصلح شأن معاشه فيعمل ليومه و يمهد لغده، و أعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل و إحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء و هو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، و لا على تمهيد و تقدمة.
و بعضها - و هو جل الأعمال الإنسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته و على زمان قبله فقط أو على زمان قبله و بعده، لحاجته
إلى مقدمات يمهدها له، و تدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الإنسان بصدفة، بل جل الأمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإنسان له قبل أوانه.
و من التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه و نظم الوسائل التي يتوسل بها إليه و أن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده و عند حصوله، فالإنسان لا يوفق لعمل و لا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع و المزاحمات.
و التنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع و زوالها.
فالإنسان و هو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، و الأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال و النساج و الخياط و من يصنع لهم أدوات الغزل و النسج و الخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس و لا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده و لا يخلوه وحده فيخيب سعيه و يخسر في عمله.
و كذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس و مزاحمتهم له في سكناه و التصرف فيه بما يصلح به لذلك.
و هذا هو الذي هدى الإنسان إلى اعتبار العقد و إبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل و يربطه بما يعينه عليه من عمل غيره و يعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض و عدم تخلف بعضها عن بعض، و مثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.
و إلى ذلك يئول أمر عامة العقود لعقد النكاح و عقد البيع و الشري و عقد الإجارة، و يصدق عليها العهد بمعناها العام و هو أن يعطي الإنسان لغيره قولا أو كتابا أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.
و الكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص كعقد البيع و النكاح و غيرهما من عقود المعاملات فهي خارجة من غرضنا و لها في المجتمعات الإنسانية أحكام
خاصة و آثار و خواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإنسان لغيره من الإعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، و ما يجعله لذلك من الآثار كمن يعاهد غيره أن يعطيه كل سنة كذا مالا ليستعين به على حوائجه، و يأخذ منه كذا مالا أو نفعا، أو يعاهده أن لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى أجل كذا أو لا إلى أجل، و هو نوع إحكام و إبرام لا ينتقض إلا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معا.
و ربما زيد على إحكام العهد بالحلف و هو أن يقيد المعاهد ما يعطيه من العهد و يربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه و يحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة و العزة رهنا يرهن به عهده يمثل به أنه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: و الله لا أخوننك، و لعمري لأساعدنك، و أقسم لأنصرنك، يمثل به أنه لو أخلف وعده و نقض عهده فقد أبطل حرمة ربه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له.
و ربما أبرم العهد و الميثاق بالبيعة و الصفقة يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثل به أنه أعطاه يده التي بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لأن يده قبضة يده.
٢ - العهود و المواثيق كما تمسها حياة الإنسان الذي هو فرد المجتمع كذلك تمسها حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من أفراد الإنسان، حياته مجموع حياة أجزائه، و أعماله الحيوية مجموع أعمال أجزائه و له من الخير و الشر و النفع و الضر و الصحة و السقم و النشوء و الرشد و الاستقامة و الانحراف و السعادة و الشقاوة و البقاء و الزوال مجموع ما لأجزائه من ذلك.
فالمجتمع إنسان كبير له من مقاصد الحياة ما للإنسان الصغير، و نسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الإنسان الفرد إلى الإنسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده و إتيان أعماله من الأمن و السلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الإنسان الفرد بل الحاجة فيه أشد و أقوى لأن العمل يعظم بعظمة فاعله و عظمة غرضه، و المجتمع في حاجة إلى الأمن و السلام من قبل أجزائه لئلا يتلاشى و يتفرق، و إلى الأمن و السلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.
و على هذا جرى ديدن المجتمعات الإنسانية على ما بأيدينا من تاريخ الأمم و الأقوام الماضية، و ما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل و لا يزال المجتمع من المجتمعات الإنسانية في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شئون حياته السياسية و الاقتصادية
أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للإقدام على شيء من مقاصد الحياة أو التقدم في شيء من مآربها إلا بالاعتضاد بالأعضاد و الأمن من معارضة الموانع.
٣ - الإسلام بما أنه متعرض لأمر المجتمع كالفرد، و يهتم بإصلاح حياة الناس العامة كاهتمامه بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنن فيه كليات ما يرجع إلى شئون الحياة الاجتماعية كالجهاد و الدفاع و مقاتلة أهل البغي و النكث و الصلح و السلم و العهود و المواثيق و غير ذلك.
و العهد الذي نتكلم فيه قد اعتبره اعتبارا تاما و أحكمه إحكاما يعد نقضه من طرف أهله من أكبر الإثم إلا أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود و العقود، و ذم نقض العهود و المواثيق ذما بالغا في آيات كثيرة جدا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة: ١، و قال: {وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } - إلى أن قال - {أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} الرعد: ٢٥، و قال: {وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً} إسراء: ٣٤ إلى غير ذلك.
و لم يبح نقض العهود و المواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل و هو أن ينقضه المعاهد المقابل نقضا بالبغي و العتو أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، و هذا مما لا اعتراض فيه لمعترض و لا لوم للائم، قال تعالى: {وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ} الأنفال: ٥٨ فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة و لم يرض بالنقض من غير إخبارهم به و اغتيالهم و هم غافلون دون أن قال: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ} فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازا من رذيلة الخيانة.
و قال: {بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} براءة: ٢ فلم يرض بالبراءة دون أن وسع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهل من التفكر في أمرهم و التروي في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاءوا آمنوا و نجوا و إن لم يشاءوا قتلوا و فنوا، و قد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.
و قد تمم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} التوبة: ٦.
و قال مستثنيا الموفين بعهدهم من المشركين: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ
اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} التوبة: ٨ و قد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى - ذاك التقوى الذي لا دعوة في الدين إلا إليه - و إن الله يحب المتقين، و هذا تعليل حي إلى يوم القيامة.
و قال تعالى: {فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ}البقرة: ١٩٤ و قال: {وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ} المائدة: ٢.
و أما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوز له في هذا الدين الحنيف أصلا، و قد تقدم قوله تعالى: {فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} الآية و قال: {وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ} البقرة: ١٩٠.
و على ذلك جرى عمل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أيام حياته فقد عاهد بني قينقاع و بني قريظة و غيرهم من اليهود و لم ينقض إلا بعد ما نقضوا، و عاهد قريشا في الحديبية و لم ينقض حتى نقضوا بإظهار بني بكر على خزاعة و قد كانت خزاعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و بنو بكر في عهد قريش.
و أما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإسلام و إن كان الوفاء مما يفوت على المسلمين بعض منافعهم، و يجلب إليهم بعض الضرر و هم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس و القوة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهرا و تصرف عنهم اللوم و العذل فإن مدار الأمر على الحق، و الحق لا يستعقب شرا و لا ضرا إلا على من انحرف عنه و آوى إلى غيره.
٤ - المجتمعات الإنسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الديني لا هدف لاجتماعهم و لا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفظ على شيء أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات مقاصدهم الحيوية.
و من الضروري أن الظرف الذي هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار
ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل و الرذائل المعنوية كالصدق و الفتوة و المروة و نشر الرحمة و الرأفة و الإحسان و أمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها منافع المجتمع، و لم يتضرروا بها لو لم تعتبر، و أما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.
و لذلك ترى المؤتمرات الرسمية و أولياء الأمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية، و ما يعقد فيها من العهود و المواثيق إنما يعقد على حسب مصلحة الوقت، و يوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة و العدة، و ما عليه المعاهد المقابل من القوة و العدة في نفسه و بما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له.
فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، و إذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة و اتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه، و إنما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى لنقضها و التخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، و لو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض و لو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية.
و أما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الأخلاق و المعنويات لا أصالة لها عندهم و إنما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع و غرضه الحيوي و هو التمتع من الحياة.
و أنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها و لاحقها و خاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شيء كثير من العهود الموثقة و نقوضها على ما وصفناه.
و أما الإسلام فلم يعد حياة الإنسان المادية حياة له حقيقية، و لا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية، و إنما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة و المعنى، و سعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه و أخراه.
و يستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة و الخلقة دون ما يعده الإنسان صالحا لحال نفسه، و يؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق و الاهتداء به دون اتباع الهوى
و الاقتداء بما يميل إليه الأكثرية بعواطفهم و إحساساتهم الباطنة قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ}الروم: ٣٠و قال: {هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ۱ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ} التوبة: ٣٣، و قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} المؤمنون: ٩٠، و قال: {وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ} المؤمنون: ٧١.
و من لوازم ذلك أن يراعى حق الاعتقاد و فضيلة الخلق و صالح العمل جميعا فلا غنى للمادة عن المعنى و لا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الإنسانية نفعت أو ضرت و التجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لأن ذلك من اتباع الحق، و حاشا أن يضر إلا من انحرف عن ميزانه و تخطى ما يخط له الحق.
و من هنا ما نرى أن الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده و يستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، و يأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين و قد استذلهم الحوادث يومئذ و ضعفوا دون شوكة الإسلام، و كذا يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) إن خاف من قوم خيانة أن ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك و يعلله بأنه لا يحب الخيانة.
(كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا)
تقدم في مواضع من هذا الكتاب أن الذي تنتجه الأبحاث العقلية أن الحوادث كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإن الفعل كالحركة مثلا يتوقف على فاعله المحرك و يتوقف على محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه، نظير العجلة المحركة للأخرى المحركة لثالثة و ليست من الحركة بالعرض.
فللفعل نسبة إلى فاعله، و له انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى فاعله لا بنسبة أخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الإله بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها
في العمل بمعنى أنه لا يستغني في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل و انعدام أثره.
و ليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإن الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه و إنما أوجده فيه فاعله الذي أوجد الفاعل و شعوره، و كذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه و إنما أوجده الفاعل الذي أوجد الفاعل المختار، و كما يتوقف الفعل في غير موارد الشعور و الاختيار إلى فاعله، و يتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله، كذلك يتوقف الفعل الشعوري و الفعل الاختياري إلى فاعله و يتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله الذي أوجد لفاعله الشعور و الاختيار.
ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار أن يفعل من طريق شعوره فعلا كذا أو يفعل باختياره فعلا اختياريا كذا فقد أريد الفعل من طريق الاختيار لأنه أريد الفعل و أهمل الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
و على هذه الحقيقة يجري الناس بحسب فهمهم الغريزي فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنه أثر مترشح منه يقال: بنى فلان دارا، و حفر بئرا و إنما باشر ذلك البناء و الحفار، و يقال: جلد الأمير فلانا، و قتل فلانا، و أسر فلانا، و حارب قوما كذا، و إنما باشر الجلد جلاده، و القتل سيافه، و الأسر جلاوزته، و المحاربة جنده، و يقال، أحرق فلان ثوب فلان، و إنما أحرقه النار، و شفى فلان مريضا كذا و إنما شفاه الدواء الذي ناوله و أمره بشربه و استعماله.
ففي جميع ذلك يعتبر أمر الآمر أو توسل المتوسل تأثيرا منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، و ليس أصل النسبة إلا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعا.
و من قال من علماء الأدب و غيرهم إن ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإن مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة و إنما هو شأن البناء الذي باشر العمل! إنما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر و من المسلم أن المباشرة إنما هو شأن الفاعل القريب، و لا كلام لنا فيه، و إنما الكلام فيما يتصور له
من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد، و هذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.
و اعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم أن يميزوا بين الأعمال و ينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب و البعيد معا، و لا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة و الاتصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام و البلع و الشرب بمعنى المص و التجرع و القعود بمعنى الجلوس و نحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا و يشرب شرابا كذا و يقعد على كرسي كذا، قيل: أكل الخادم و شرب و قعد و لا يقال: أكله سيده و شربه و قعد عليه، و إنما يقال: تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا و نحو ذلك لما ذكرناه.
و أما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة و الحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل و الأسر و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و الإحسان و الإكرام و نظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب و البعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا و أشد سلطة و إحاطة.
فهذا ما ينتجه البحث العقلي و يجري عليه الإنسان بفهمه الغريزي، و القرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (الآيتان). حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.
و نظيره قوله تعالى: {وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ} الصافات: ٩٦ فإن المراد بما تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أريد به المادة بما عليها من عمل الإنسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها، و أما نفس الأعمال فالأمر أوضح.
و يقرب من ذلك قوله تعالى: {وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}
الزخرف - ١٢، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك و الفلك بما هي من عمل الإنسان.
هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور و الإرادة، و أما الأفعال التي لا تتوقف في صدورها على شعور و إرادة كالأفعال الطبيعية فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض و إنبات النبات و إخراج الحب و إمطار السماء و إجراء الأنهار و تسيير الفلك التي تجري في البحر بأمره إلى غير ذلك.
و لا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الأمر إليه تعالى و انتسابه إلى غيره من الأسباب و العلل الطبيعية و غيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم إحدى النسبتين الأخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد.
و قد تقدم في مطاوي أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على الماديين من إسناد الحوادث العامة كالسيول و الزلازل و الجدب و الوباء و الطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على أسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل و الأسباب العرضية و الطولية، و حسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز و أذعن به الإلهيون من استنادها إلى مسبب الأسباب الذي إليه يرجع الأمر كله.
و للأشاعرة و المعتزلة بحث غريب في الآية السابقة: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} و ما يناظرها من الآيات، أورده الرازي في تفسيره نورده ملخصا.
قال: استدلت الأشاعرة بقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (الآية) على أن أفعال العباد مخلوقة لله، و أن الناس مجبرون في أفعالهم غير مختارين فإن الله سبحانه يخبر فيها أنه هو الذي يعذب المشركين بقتل بعضهم و جرح آخرين بأيدي المؤمنين و يدل ذلك على أن أيدي المؤمنين كسيوفهم و رماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلا و إنما الفعل لله سبحانه، و أن الكسب الذي يعد مناطا للتكليف اسم لا مسمى له.
و هذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى: {وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمى} إذ فيه إثبات الرمي على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - و إن كان مع ذلك نفي عنه - و إثبات لإسناده إلى الله سبحانه لكن الآية أعني قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} إثبات للتعذيب على الله سبحانه و جعل أيدي المؤمنين التي لهم آلات
في الفعل لا تأثير لها و فيها أصلا.
و أجاب عنه الجبائي من المعتزلة: بأنه لو جاز أن يقال: إن الله يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين بحقيقة ما ادعي له من المعنى لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، و أنه تعالى يكذب أنبياءه بألسنتهم، و يلعن المؤمنين و يسبهم بأفواههم لأنه تعالى خالق لذلك كله، و إذ لم يجز ذلك علمنا أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد، و إنما أعمالهم خلق أنفسهم.
و بذلك يعلم أن إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسع لأنه إنما تحقق عن أمره و لطفه كما أنه تعالى ينسب جميع الطاعات و الحسنات إلى نفسه لتحققها عن أمره و توفيقه.
و أجاب عنه الرازي بأن أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائي و أصحابه من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى و يعتقدون به لبا و إن كانوا لا ينطقون به لسانا أدبا مع الله سبحانه، انتهى ملخصا.
و الأبحاث التي قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفي لإيضاح الحق و إنارته في هذا المقام، و الكشف عما وقع فيه الفريقان جميعا.
أما ما ذكرته الأشاعرة و التزموا به فإنما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفي رابطة العلية و المعلولية من بين الأشياء و قصرها فيما بينه تعالى و بين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالا و لا بالوساطة غيره تعالى، و أما رابطة السببية التي بين الأشياء أنفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة، و إنما هي العادة الإلهية جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسميها أسبابا فما بينها و بينه تعالى سببية حقيقية، و ما بينها أنفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الأكثري.
و لازم ذلك إبطال العلية و السببية من أصلها، و ببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز أن يكون نسبة كل شيء إلى كل شيء نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير و التأثر لم يبق للإنسان ما يتنبه به لأصل معنى السببية فلا سبيل له إلى إثبات سببيته تعالى لكل شيء.
على أن الإنسان يترقب حوادث من حوادث أخرى، و يقطع بالنتائج عن
مقدماتها و يبني حياته على التعليم و التربية، و على تقديم الأسباب طمعا في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، و لا يتم له شيء من ذلك إلا عن إذعان فطري بأصل العلية و المعلولية، و لو أجازت الفطرة الإنسانية بطلان ذلك و جريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري و العملي، و انسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.
على أن الكتاب العزيز يجري فيبياناته على تصديق أصل العلية و المعلولية، و ينسب كل حسنة إليه تعالى و ينفي استناد السيئات و المعاصي إليه و يسميه بكل اسم أحسن و يصفه بكل وصف جميل، و ينفي عنه كل هزل و عبث و لغو و لهو و جزاف، و لا يتم شيء من ذلك إلا على أصل العلية و المعلولية، و قد تقدم في الأبحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله.
و قد ذهب طائفة من الماديين و خاصة أصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر و نفي الاختيار عن الأفعال الإنسانية، و إنما الفارق بين قولي الطائفتين هو أن الأشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة و استنتجوا من ذلك بطلان السببية الاختيارية و انتفاءها عن الإنسان، و الماديون بنوه على معلولية الأفعال الإنسانية لمجموع الحوادث المحتفة بالفعل التي هي علة حدوثه، و لا معنى للعلية إلا بالإيجاب، فالإنسان موجب في فعله مجبر عليه.
و قد فات منهم أن الذي نسبة المعلول إليه بالإيجاب إنما هو العلة التامة، و هي مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شيء وراءها، و بوجودها جميعا لا يبقى له إلا أن يوجد، و أما بعض أجزاء العلة التامة فإنما نسبة المعلول إليه بالإمكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على أشياء أخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده.
و الأفعال الإنسانية يتوقف في وجودها على الإنسان و إرادته و على أمور غير محصورة أخرى من المادة و الشرائط الزمانية و المكانية فهي إذا نسب إليها جميعا كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب و الضرورة، و أما إذا نسبت إلى الإنسان وحده أو إلى الإنسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة و عادت النسبة إلى الإمكان دون الوجوب، فالأفعال الإرادية الإنسانية اختيارية أي أنه يمكنه أن يفعل و أن لا يفعل فإن فعل
فبمشيته و إرادته، و إن لم يفعل فلم يختره و لم يرده و إنما اختار و أراد شيئا آخر، لكنها لا تقع في الخارج إلا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع أجزاء عللها.
فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التي للفعل إلى مجموع أجزاء علتها التامة موضع النسبة الإمكانية التي للفعل إلى بعض أجزاء علته التامة و هي التي تسمى في الإنسان بالاختيار على نحو من العناية.
و أما ما ذكره المعتزلة أنه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذي أتى به المؤمنون و هو التعذيب، و ليس لهم إلا مقام الآلية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفار للمؤمنين و تكذيبهم للأنبياء و لعنهم المؤمنين أيضا إليه، و هو باطل قطعا فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.
ففيه أن الملازمة حقة لكن بطلان التالي لا يستلزم كون الأفعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه أصلا لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنهم فاعلون لها و هو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر، و ينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذي هو فاعله و النسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب و البعد و انتفاء الواسطة و ثبوتها، و لا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين.
فإن قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات و السيئات و الإيمان و الكفر إليه تعالى في محله.
قلت: كلا و إنما ينتسب إليه أصل وجودها، و أما عنوان الفعل الذي يشير إلى جهة قيام الحركة و السكون بالموضوع المتحرك كالنكاح و الزنا و الأكل المحرم و المحلل فإنما ينسب إلى الإنسان لكونه هو الموضوع المادي الذي يتحرك بهذه الحركات: و أما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته و ليس بنفسه متحركا بها و إنما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها و أسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالإنسان.
نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة و المادة، لا مانع من إسنادها إلى الإنسان و إليه سبحانه إذا لم يستلزم محذورا كالهداية و الإضلال إذا لم يكن إضلالا ابتدائيا، و كالتعذيب و الابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهي للكافر، و قتل
الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجرا حسنا عند الله، و على هذا القياس.
على أن الذي ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة و هو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فإنه لو جاز أن يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له و ينقطع عما وراء سببه ذلك انقطاعا تاما لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشيء آخر وراءه، و من الجائز أن يفنى الفاعل و يبقى أثره فمن الجائز أن يستند كل ما فرض معلولا إلى فاعل له غير واجب الوجود و من الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله و قد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضا: و المتولد بعضها من بعض، و لا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلا في الذهن.
و في كلامهم مفاسد كثيرة أخرى مبينة في المحل المربوط به، و قد تقدم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.
و كيف يسع لمسلم موحد أن يثبت مع الله سبحانه خالقا آخر بحقيقة معنى الخلق و الإيجاد و قد قال الله سبحانه: {ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} المؤمن: ٦٢ و قد كرر ذلك في كلامه، و ليس في تجاهه إلا نسبة أفعال الإنسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر و دلالة العقل على أن لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.
فالحق أن للأفعال الإنسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، و نسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه، قال تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أسری: ٢٠.
[سورة التوبة ٩: الآیات ١٧ الی ٢٤]
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَ فِي اَلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ١٧ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقَامَ اَلصَّلاَةَ وَ آتَى اَلزَّكَاةَ
وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللَّهَ فَعَسى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ١٩ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ٢٠يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ٢١ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ٢٢ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمَانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ ٢٣ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوَالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهَا وَ تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَ مَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ ٢٤}
(بيان)
آيات تبين أن الأعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر و إلا فإنما هي حبط لا تهدي صاحبها إلى سعادة، و إن من لوازم الإيمان بحقيقته قصر الولاية و الحب و الوداد في الله و رسوله.
و هي ظاهرة الاتصال و الارتباط فيما بينها أنفسها، و أما اتصالها بما تقدمها من الآيات فليس بذاك الوضوح، و ما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا يخلو من تكلف.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} العمارة ضد الخراب يقال: عمر الأرض إذا بنى بها بناء، و عمر البيت إذا أصلح ما أشرف منها على الفساد، و التعمير بمعناه و منه العمر لأنه عمارة البدن بالروح، و العمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لأن فيها تعميره.
و المسجد اسم مكان بمعنى المحل الذي يتعلق به السجدة كالبيت الذي يبنى ليسجد فيه الله تعالى، و أعضاء السجدة التي تتعلق بها السجدة نوع تعلق و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و رءوس إبهامي القدمين.
و قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} (الآية) لنفي الحق و الملك فإن اللام للملك و الحق، و النفي الحالي للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا هذا الحق و هو حق أن يعمروا مساجد الله و يرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى} الأنفال: ٦٧ و قوله: {وَ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} آل عمران: ١٦١.
و المراد بالعمارة في قوله: {أَنْ يَعْمُرُوا} إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء و رم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام و كل مسجد لله و لا عمرة في غير المسجد الحرام، و الدخول في المساجد للعبادة فيها و إن أمكن أن يسمى عمارة و زيارة لكن التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول.
على أن في قوله في الآية الآتية: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.
و المراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد نفي جواز عمارتهم للمسجد الحرام، و يؤيده قراءة من قرأ «أن يعمروا مسجد الله» بالإفراد.
و لا ضير في التعبير بالجمع و المقصود الأصيل بيان حكم فرد خاص من أفراده لأن الملاك عام، و التعليل الوارد في الآية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى: ما كان لهم أن يعمروا المسجد الحرام لأنه مسجد و المساجد من شأنها ذلك.
و قوله: {شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} المراد بالشهادة أداؤها و هو الاعتراف إما قولا كمن يعترف بالكفر لفظا، و إما فعلا كمن يعبد الأصنام و يتظاهر بكفره
فكل ذلك من الشهادة و الملاك واحد.
فمعنى الآية: لا يحق و لا يجوز للمشركين أن يرموا ما استرم من المسجد الحرام كسائر مساجد الله و الحال أنهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَ فِي اَلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} في مقام التعليل لما أفيد من الحكم في قوله: {مَا كَانَ} إلخ و لذلك جيء به بالفصل دون الوصل.
و المراد بالجملة الأولى بيان بطلان الأثر و ارتفاعه عن أعمالهم، و العمل إنما يؤتى به للتوسل به إلى أثر مطلوب، و إذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن ما يجوز لهم الإتيان بها، و الأعمال العبادية كعمارة مساجد الله إنما تقصد لما يطمع فيه و يرجى من أثرها و هو السعادة و الجنة، و العمل الحابط لا يتعقب سعادة و لا جنة البتة.
و المراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الذي يستقرون فيه لولا السعادة و الجنة و هو النار فكأنه قيل: أولئك لا يهديهم أعمالهم العبادية إلى الجنة بل هم في النار الخالدة، و لا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبدة.
و في الآية دلالة على أصلين لطيفين من أصول التشريع:
أحدهما: أن تشريع الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجبات و المستحبات و المباحات يتوقف على أثر في الفعل ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعا في الدين، و هذا أصل يؤيده العقل، و هو منطبق على الناموس الجاري في الكون: أن لا فعل إلا لنفع عائد إلى فاعله.
و ثانيهما: أن الجواز في جميع موارده مسبوق بحق مجعول من الله لفاعله في أن يأتي بالفعل من غير مانع.
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اَللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ} (الآية) السياق كاشف عن أن الحصر من قبيل قصر الإفراد كان متوهما يتوهم أن للمشركين و المؤمنين جميعا أن يعمروا مساجد الله فأفرد و قصر ذلك في المؤمنين، و لازم ذلك أن يكون المراد بقوله: {يَعْمُرُ} إنشاء الحق و الجواز في صورة الإخبار دون الإخبار، و هو ظاهر.
و قد اشترط سبحانه في ثبوت حق العمارة و جوازها أن يتصف العامر بالإيمان بالله و اليوم الآخر قبال ما نفى عن المشركين أن يكون لهم ذلك و لم يقنع بالإيمان بالله
وحده لأن المشركين يذعنون به تعالى بل شفع ذلك بالإيمان باليوم الآخر لأن المشركين ما كانوا مؤمنين به، و بذلك يختص حق العمارة و جوازها بأهل الدين السماوي من المؤمنين.
و لم يقنع بذلك أيضا بل ألحق به قوله: {وَ أَقَامَ اَلصَّلاَةَ وَ آتَى اَلزَّكَاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللَّهَ} لأن المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحق له بذلك أن يقترفه، و من كان تاركا للفروع المشروعة في الدين و خاصة الركنين: الصلاة و الزكاة فهو كافر بآيات الله لا ينفعه مجرد الإيمان بالله و اليوم الآخر و إن كان مسلما، إذا لم ينكرها بلسانه، و لو أنكرها بلسانه أيضا كان كافرا غير مسلم.
و قد خص من بينها الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما الركنين الذين لا غنى عنهما في حال من الأحوال.
و بما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر أن المراد بقوله: {وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللَّهَ} الخشية الدينية و هي العبادة دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا المقربون من أولياء الله كالأنبياء قال تعالى: {اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ} الأحزاب: ٣٩.
و الوجه في التكنية عن العبادة بالخشية أن الأعرف عند الإنسان من علل اتخاذ الإله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته و رجاء الرحمة، أيضا يعود بوجه إلى الخوف من انقطاعها و هو السخط فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئا من الأصنام فقد دعاه إلى ذلك أما الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته و رحمته فالعبادة ممثلة للخوف و الخشية مصداق لها لتمثيلها إياها، و بينهما حالة الاستلزام، و لذلك كني بها عنها، فالمعنى و الله أعلم و لم يعبد أحدا من دون الله من الآلهة.
و قوله: {فَعَسى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ} أي أولئك الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و لم يعبدوا أحدا غير الله سبحانه يرجى في حقهم أن يكونوا من المهتدين، و هذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالآية، و أما هو تعالى فمن المستحيل أن يقوم به الرجاء الذي لا يتم إلا مع الجهل بتحقق الأمر المرجو الحصول.
و إنما أخذ الاهتداء مرجو الحصول لا محقق الوقوع مع أن من آمن بالله و اليوم الآخر حقيقة و حققه أعماله العبادية فقد اهتدى حقيقة لأن حصول الاهتداء مرة أو مرات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، و استقرار صفة الاهتداء و لزومها له،
فالتلبس بالفعل الواقع مرة أو مرات غير التلبس بالصفة اللازمة فأولئك حصول الاهتداء لهم محقق، و أما حصول صفة المهتدين فهو مرجو التحقق لا محقق.
و قد تحصل من الآية أن عمارة المساجد لا تحق و لا تجوز لغير المسلم أما المشركون فلعدم إيمانهم بالله و اليوم الآخر، و أما أهل الكتاب فلأن القرآن لا يعد إيمانهم بالله إيمانا قال تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا} النساء: ١٥١، و قال أيضا في آية ٢٩ من السورة: {قَاتِلُوا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لاَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاَ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ} (الآية).
قوله تعالى: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} (الآية)، السقاية كالحكاية و الجناية و النكاية مصدر يقال: سقى يسقي سقاية.
و السقاية أيضا الموضع الذي يسقى فيه الماء، و الإناء الذي يسقى به قال تعالى: {جَعَلَ اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} يوسف: ٧٠، و قد رووا في الآثار أن سقاية الحاج كانت إحدى الشئونات الفاخرة و المآثر التي يباهي بها في الجاهلية، و أن السقاية كانت حياضا من آدم على عهد قصي بن كلاب أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) توضع بفناء الكعبة، و يستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، و يسقي الحاج فجعل قصي أمر السقاية عند وفاته لابنه عبد مناف و لم يزل في ولده حتى ورثه العباس بن عبد المطلب.
و سقاية العباس هو الموضع الذي كان يسقى فيه الماء في الجاهلية و الإسلام و هو في جهة الجنوب من زمزم بينهما أربعون ذراعا، و قد بني عليه بناء هو المعروف اليوم بسقاية العباس.
و المراد بالسقاية في الآية - على أي حال - معناها المصدري و هو السقي، و يؤيده مقابلتها في الآية عمارة المسجد الحرام و المراد بها المعنى المصدري قطعا بمعنى الشغل.
و قد قوبل في الآية سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله، و لا معنى لدعوى المساواة بين الإنسان و بين عمل من الأعمال كالسقاية و العمارة أو نفيها فالمعادلة و المساواة إما بين عمل و عمل أو بين إنسان ذي عمل و إنسان ذي عمل.
و لذلك اضطر المفسرون إلى القول بأن تقدير الكلام: أ جعلتم أهل سقاية الحاج و أهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر حتى يستقيم السياق.
و أوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة فقد أخذ في أحد الجانبين سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أي قيد زائد، و في الجانب الآخر الإيمان بالله و اليوم الآخر و الجهاد في سبيل الله و إن شئت فقل: الجهاد في سبيل الله مع اعتبار الإيمان معه.
و هو يدل على أن المراد: السقاية و العمارة خاليتين من الإيمان، و يؤيده قوله تعالى في ذيل الآية: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} على تقدير كونه تعريضا لأهل السقاية و العمارة لا تعريضا لمن يسوى بينهما كما يتبادر من السياق.
و هذا يكشف أولاً عن أن هؤلاء الذين كانوا يسوون بين كذا و كذا و بين كذا إنما كانوا يسوون بين عمل جاهلي خال عن الإيمان بالله و اليوم الآخر كالسقاية و العمارة من غير أن يكون عن إيمان، و بين عمل ديني عن إيمان بالله و اليوم الآخر كالجهاد في سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوون بين جسد عمل لا حياة فيه و بين عمل حي طيب نفعه فأنكره الله عليهم.
و ثانيا: أن هؤلاء المسوين كانوا من المؤمنين يسوون بين عمل من غير إيمان، كان صدر عنهم قبل الإيمان أو صدر عن مشرك غيرهم، و بين عمل صدر عن مؤمن بالله عن محض الإيمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الإنكار وبيان الدرجات في الآيات.
بل يشعر بل يدل ذكر نفس السقاية و العمارة من غير ذكر صاحبهما على أن صاحبيهما كانا من أهل الإيمان عند التسوية فلم يذكرا حفظا لكرامتهما و هما مؤمنان حين الخطاب و وقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الذي في آخر الآية من أن يسميا ظالمين.
بل يدل قوله تعالى في الآية التالية في مقامبيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل الله عن إيمان: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} على أن طرفي التسوية في قوله: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ} (الآية) كانا من أهل مكة، و أن أهل أحد الطرفين و هو الذي آمن و جاهد كان ممن أسلم و هاجر، و أهل الطرف الآخر أسلم و لم يهاجر فإن هذا هو الوجه في ذكره تعالى أولا الإيمان و الجهاد في أحد
الطرفين ثم إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما أعيد ثانيا، و قد ذكر تعالى السقاية و العمارة في الجانب الآخر و لم يزد على ذلك شيئا لا أولا و لا ثانيا فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل.
و هذا كله يؤيد ما ورد في سبب نزول الآية أن الآيات نزلت في العباس و شيبة و علي (عليه السلام) حين تفاخروا فذكر العباس سقاية الحاج، و شيبة عمارة المسجد الحرام، و على الإيمان و الجهاد في سبيل الله فنزلت الآيات و ستجيء الرواية في البحث الروائي المتعلق بالآيات.
و كيف كان فالآية و ما يتلوها من الآيات تبين أن الزنة و القيمة إنما هو للعمل إذا كان حيا بولوج روح الإيمان فيه و أما الجسد الخالي الذي لا روح فيه و لا حياة له فلا وزن له في ميزان الدين و لا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين أن يعتبروا مجرد هياكل الأعمال، و يجعلوها ملاكات للفضل و أسبابا للقرب منه تعالى إلا بعد اعتبار حياتها بالإيمان و الخلوص.
و من هذه الجهة ترتبط الآية: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ} و ما بعدها من الآيات بالآيتين اللتين قبلها: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اَللَّهِ شَاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} إلى آخر الآيتين.
و بذلك كله يظهر أولا أن قوله: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} جملة حالية تبين وجه الإنكار لحكمهم بالمساواة في قوله: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ} (الآية).
و ثانيا: أن المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية و العمارة لا حكمهم بالمساواة بين السقاية و العمارة و بين الجهاد عن إيمان.
و ثالثا: أن المراد نفي أن ينفعهم العمل و يهديهم إلى السعادة التي هي عظم الدرجة و الفوز و الرحمة و الرضوان و الجنة الخالدة.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية بيان لحق الحكم الذي عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، و هو أن الذي آمن و هاجر و جاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال و نفس، أعظم درجة عند الله و إنما عبر في صورة الجمع {اَلَّذِينَ آمَنُوا } إلخ إشارة إلى أن ملاك الفصل هو الوصف دون الشخص.
و ما تقدم من دلالة الكلام على أن الأعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها و لا درجة
لصاحبها عند الله، قرينة على أن ليس المراد بالقياس الذي يدل عليه أفعل التفضيل في قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} إلخ هو أن بين الفريقين اشتراكا في الدرجات غير أن درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممن سقى و عمر.
بل المرادبيان أن النسبة بينهما نسبة الأفضل إلى من لا فضل له كالمقايسة المأخوذة بين الأكثر و الأقل فإنها تستدعي وجود حد متوسط بينهما يقاسان إليه فهناك ثلاثة أمور أمر متوسط يؤخذ مقياسا معدلا و آخر يكون أكثر منه، و آخر يكون أقل منه فإذا قيس الأكثر من الأقل كان الأكثر مقيسا إلى ما لا كثرة فيه أصلا.
فقوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللَّهِ} أي بالقياس إلى هؤلاء الذين لا درجة لهم أصلا، و هذا نوع من الكناية عن أن لا نسبة حقيقة بين الفريقين لأن أحدهما ذو قدم رفيع فيما لا قدم للآخر فيه أصلا.
و يدل على ذلك أيضا قوله: {وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَائِزُونَ} بما يدل على انحصار الفوز فيهم و ثبوتها لهم على نهج الاستقرار.
قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ} إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ما يعده من الفضل في حقهمبيان و تفصيل لما ذكر في الآية السابقة من فوزهم جيء به بلسان التبشير.
فالمعنى {يُبَشِّرُهُمْ} أي هؤلاء المؤمنين {رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} عظيمة لا يقدر قدرها {وَ رِضْوَانٍ} كذلك {وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا} في تلك الجنات {نَعِيمٌ مُقِيمٌ} لا يزول و لا ينفد حالكونهم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} لا ينقطع خلودهم بأجل و لا أمد.
ثم لما كان المقام مقام التعجب و الاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في ما نشاهده من أنواع النعيم الذي في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى و رضوانه فيما سيمر من موضع مناسب و قد تقدم بعض الكلام فيهما.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى آخر الآية نهى عن تولي الكفار و لو كانوا آباء و إخوانا فإن الملاك عام، و الآية التالية
تنهى عن تولي الجميع غير أن ظاهر لفظ الآية النهي عن اتخاذ الآباء و الإخوان أولياء إن استحبوا الكفر و رجحوه على الإيمان.
و إنما ذكر الآباء و الإخوان دون الأبناء و الأزواج مع كون القبيلين و خاصة الأبناء محبوبين عندهم كالآباء و الإخوان لأن التولي يعطي للولي أن يداخل أمور وليه و يتصرف في بعض شئون حياته، و هذا هو المحذور الذي يستدعي النهي عن تولي الكفار حتى لا يداخلوا في أمورهم الداخلية و لا يأخذوا بمجامع قلوبهم، و لا يكف المؤمنون و لا يستنكفوا عن الإقدام فيما يسوؤهم و يضرهم، و من المعلوم أن النساء و الذراري لا يترقب منهم هذا الأثر السيئ إلا بواسطة، فلذلك خص النهي عن التولي بالآباء و الإخوان فهم الذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين و تصرفهم في شئونهم.
و قد ورد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء في مواضع من كلامه تقدم بعضها في سورة المائدة و آل عمران و النساء و الأعراف و فيها إنذار شديد و تهديدات بالغة كقوله تعالى: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة: ٥١، و قوله: {وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ} آل عمران: ٢٨، و قوله: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللَّهِ فِي شَيْءٍ} آل عمران: ٢٨، و قوله: {أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} النساء: ١٤٤.
و أنذرهم في الآية التي نحن فيها بقوله: «و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» و لم يقل: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» إذ من الجائز أن يتوهم بعض هؤلاء أنه منهم لأنهم آباؤه و إخوانه فلا يؤثر فيه التهديد أثرا جديدا يبعثه نحو رفض الولاية.
و كيف كان فقوله: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ} بما في الجملة من المؤكدات كاسمية الجملة، و دخول اللام على الخبر و ضمير الفصل يفيد تحقق الظلم منهم و استقراره فيهم، و قد كرر الله في كلامه أن الله لا يهدي القوم الظالمين، و قال في نظير الآية من سورة المائدة: {وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} فهؤلاء محرومون من الهداية الإلهية لا ينفعهم شيء من أعمالهم الحسنة في جلب السعادة إليهم، و السماحة بالفوز و الفلاح عليهم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ} إلى آخر الآية التفت من مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إيماء إلى الإعراض عنهم لما يستشعر من حالهم أن
قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهي عن تولي آبائهم و إخوانهم الكافرين، و إيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن أمر الله و رسوله، و قتال الكافرين جهادا في سبيل الله و إن كانوا آباءهم و إخوانهم.
و الذي يمنعهم من ذلك هو الحب المتعلق بغير الله و رسوله و الجهاد في سبيل الله، و قد عد الله سبحانه أصول ما يتعلق به الحب النفساني من زينة الحياة الدنيا، و هي الآباء و الأبناء و الإخوان و الأزواج و العشيرة و هؤلاء هم الذين يجمعهم المجتمع الطبيعي بقرابة نسبية قريبة أو بعيدة أو سببية و الأموال التي اكتسبوها و جمعوها، و التجارة التي يخشون كسادها و المساكن التي يرضونها - و هذه أصول ما يقوم به المجتمع في المرتبة الثانية -.
و ذكر تعالى أنهم إن تولوا أعداء الدين، و قدموا حكم هؤلاء الأمور على حب الله و رسوله و الجهاد في سبيله فليتربصوا و لينتظروا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين.
و من المعلوم أن الشرط أعني قوله: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: {فِي سَبِيلِهِ} في معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عما ينهاكم عنه من اتخاذ الآباء و الإخوان الكافرين أولياء باتخاذكم سببا يؤدي إلى خلاف ما يدعوكم إليه، و إهمالكم في أمر غرض الدين و هو الجهاد في سبيل الله.
فقوله في الجزاء: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} لا محالة إما أمر يتدارك به ما عرض على الدين من ثلمة و سقوط غرض في ظرف مخالفتهم، و إما عذاب يأتيهم عن مخالفة أمر الله و رسوله و الإعراض عن الجهاد في سبيله.
غير أن قوله تعالى في ذيل الآية: {وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ} يعرض لهم أنهم خارجون حينئذ عن زي العبودية، فاسقون عن أمر الله و رسوله فهم بمعزل من أن يهديهم الله بأعمالهم و يوفقهم لنصرة الله و رسوله، و إعلاء كلمة الدين و إمحاء آثار الشرك.
فذيل الآية يهدي إلى أن المراد بهذا الأمر الذي يأمرهم الله أن يتربصوا له حتى يأتي به أمر منه تعالى، متعلق بنصرة دينه و إعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله تعالى
في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولي الكافرين: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} المائدة: ٥٤. و الآية بقيودها و خصوصياتها كما ترى تنطبق على ما تفيده الآية التي نحن فيها.
فالمراد - و الله أعلم - إن اتخذتم هؤلاء أولياء، و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، و يبعث قوما لا يحبون إلا الله، و لا يوالون أعداءه و يقومون بنصرة الدين و الجهاد في سبيل الله أفضل قيام فإنكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدين، و لا يهدي الله شيئا من أعمالكم إلى غرض حق و سعادة مطلوبة.
و ربما قيل: إن المراد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} الإشارة إلى فتح مكة، و ليس بسديد فإن الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين و الأنصار و خاصة المهاجرين، و هؤلاء هم الذين فتح الله مكة بأيديهم، و لا معنى لأن يخاطبوا و يقال لهم: إن كان آباؤكم و أبناؤكم «إلخ» أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فواليتموهم و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيله فتربصوا حتى يفتح الله مكة بأيديكم و الله لا يهدي القوم الفاسقين، أو فتربصوا حتى يفتح الله مكة و الله لا يهديكم لمكان فسقكم فتأمل.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان: في قوله تعالى: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ} (الآية) عن أمالي الشيخ بإسناده عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر - في حديث الشورى - فيما احتج به علي (عليه السلام) على القوم و قال لهم في ذلك: فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: {أَ جَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اَلْحَاجِّ وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ} غيري؟ قالوا: لا.
و في تفسير القمي قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام): {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا } - إلى قوله - {اَلْفَائِزُونَ} ثم وصف ما لعلي (عليه السلام) عنده فقال. {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوَانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَ