المؤلّف العلامة الطباطبائي
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة الميزان في تفسير القرآن
التوضيح
الميزان في تفسير القرآن
الجزء الثاني عشر
تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه
تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل
واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف
(١٤) (سورة إبراهيم مكية و هي اثنتان و خمسون آية) (٥٢)
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ١ الی ٥]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ ١ اَللَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ٢ اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ٣ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٤ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ٥}
(بيان)
السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حيث إنه آية رسالته يخرج به الناس من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط الله سبحانه الذي هو عزيز حميد أي غالب غير مغلوب و غني غير محتاج إلى الناس و جميل في فعله منعم عليهم، و إذا كان المنعم غالبا غنيا حميد الأفعال كان على المنعم عليهم أن يجيبوا دعوته و يلبوا نداءه حتى يسعدوا بما أفاض عليهم من النعم، و أن يخافوا سخطه و شديد عذابه فإنه قوي غير محتاج إلى أحد، له أن يستغني عنهم فيذهب بهم و يأتي بآخرين كما فعل بالذين كفروا بنعمته من الأمم الماضين فإن آيات السماوات و الأرض ناطقة بأن النعمة كلها له و هو رب العزة و ولي الحمد لا رب سواه.
و بهذا تختتم السورة إذ يقول عز من قائل: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ}.
و لعل ما ذكرنا هو مراد من قال: إن السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب يشير إلى قوله تعالى: {لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}.
و السورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، و نسب إلى ابن عباس و الحسن و قتادة :أنها مكية إلا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ اَلْقَرَارُ} و سيأتي أن الآيتين غير صريحتين و لا ظاهرتين في ذلك.
قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي هذا كتاب أنزلناه إليك فهو خبر لمبتدإ محذوف على ما يعطيه السياق و قيل غير ذلك.
و قوله: {لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} ظاهر السياق عموم الناس لا
خصوص قومه (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ، و كلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}: الفرقان: ١ و قوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ}: الأنعام - ١٩، و قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}: الأعراف: ١٥٨ و الآيات الصريحة في دعوة اليهود و عامة أهل الكتاب، و عمله (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعوتهم و قبول إيمان من آمن منهم كعبد الله بن سلام و سلمان و بلال و صهيب و غيرهم تؤيد ذلك.
على أن آخر السورة: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ} (الآية)، و قد قوبل به أولها يؤيد أن المراد بالناس أعم من المؤمنين الذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل.
و قد نسب الإخراج من الظلمات إلى النور إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكونه أحد الأسباب الظاهرية لذلك و إليه ينتهي إيمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة و لا، ينافيه قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}: القصص: ٥٦ فإن الآية إنما تنفي أصالته (صلى الله عليه وآله و سلم) في الهداية و استقلاله فيها من غير أن تنفي عنه مطلق الهداية حتى ما يكون على نحو الوساطة و بإذن من الله، و الدليل عليه قوله تعالى: {وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: الشورى: ٥٢، و لذلك قيد سبحانه قوله {لِتُخْرِجَ} بقوله {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}.
و المراد بالظلمات و النور و الضلال و الهدى و قد تكرر في كلامه تعالى اعتبار الهدى نورا و عد الضلال ظلمة و جمع الظلمات دون النور لأن الهدى من الحق و الحق واحد لا تغاير بين أجزائه و مصاديقه و لا كثرة بخلاف الضلال فإنه من اتباع الهوى و الأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها و لا اتحاد لأبعاضها و مصاديقها قال تعالى: {وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}: الأنعام: ١٥٣.
و اللام في قوله: {لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ} إلخ، لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الآية، و ليس بلام المعاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلهم مؤمنين، و المعلوم خلافه.
و أما ما اعترض عليه بعضهم أن التربية الإلهية بإخراج الناس من الظلمات إلى النور و إيصالهم إلى السعادة و الكمال مشروطة بالتهيؤ و الاستعداد مع كون الفيض عاما فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار.
ففيه أنه اعتراف بأن كون اللام للعاقبة خلاف ظاهر الآية، فإن الذي ذكره لا يتم إلا بتقييد {اَلنَّاسَ} بالمستعدين، لكن الذي يجب أن يعلم أن هذا الغرض غرض تشريعي معناه أن للحكم غاية مقصودة و هي المصلحة التي يستعقبها، فإن الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم و يهديهم إلى الإيمان و العمل الصالح ليسعدهم بذلك و يدخلهم الجنة، و يرسل الرسل و ينزل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، و يريد بما يوجهه إليهم من الأمر و النهي أن يطهرهم و يذهب عنهم رجز الشيطان، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة لا موجب لإيرادها و كذا الروايات و لعلها تزهو الألوف.
و قد قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: الزخرف: - ٣ و قال: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (الآية): - ٤ من السورة، فبين أن ما نعقله من كتابه و يظهر لنا من بيان رسوله حجة لا مناص عنه، و نحن لا نعقل من قوله مثلا: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ}: إبراهيم: - ١٠، إلا أن المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيد لعبده أو أي متبوع لتابعه: ايتني بماء لأشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته إلا أن الشرب و الأكل و ستر العورة أغراض لأوامرها، فلله سبحانه فيما ينزله من الأحكام و الشرائع أغراض و غايات مقصودة.
نعم بين سبحانه أن ساحته منزهة عن الفقر و الحاجة مبرأة عن النقص و الشين إذ قال: {إِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعَالَمِينَ}: العنكبوت: ٦، و قال: {وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ}: الأنعام: ١٣٣ و قال: {يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ}: فاطر: ١٥ فأفاد أنه في غنى عن كل شيء لا ينتفع بشيء من هذه الأغراض و ليست أفعاله تعالى بالعبث و الجزاف حتى تخلو عن الغرض، كيف؟ و قد وصف نفسه بالحكمة و الحكيم لا يعبث و لا يجازف، و نص على انتفاء العبث من فعله: {أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}:
المؤمنون: ١١٥ و الأمر و النهي اللذان يتم بهما الكمال في العالم الإنساني يعودان بالآخرة إلى ما يتم به الخلقة.
فلله سبحانه في خلقه و أمره أغراض، و إن كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما نستكمل نحن بأغراض أفعالنا لكنه سبحانه لا يتأثر عن أغراضه و بعبارة أخرى الحكم و المصالح لا تؤثر فيه تعالى كما أن مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو الفعل و نرجح الفعل على الترك، فإنه سبحانه هو القاهر غير المقهور و الغالب غير المغلوب، يملك كل شيء و لا يملكه شيء، و يحكم على كل شيء و لا يحكم عليه شيء، و لم يكن له شريك في الملك و لا ولي من الذل، فلا يكون تعالى محكوما بعقل بل هو الذي يهدي العقل إلى ما يعقله، و لا تضطره مصلحة إلى فعل و لا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما إلى ما توجبانه.
فالغرض و المصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى أن فعله يتوقف على المصلحة لكنها لا تحكم في ذاته تعالى و لا تضطره إلى الفعل، فكما أنه تعالى إذا خلق شيئا و قال له: كن فكان كزيد مثلا انتزع العقل من العين الخارجية نفسها أنها إيجاد من الله تعالى و وجود لزيد و حكم بأن وجوده يتوقف على إيجاده، كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما أشرنا إليه من صفاته العليا أنه فعله و أنه ذو مصلحة مقصودة ثم يحكم بأن تحقق الفعل يتوقف على كونه ذا مصلحة.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى في كون أفعاله تعالى مشتملة على الحكم و المصالح متوقفة على الأغراض و المتحصل من ذلك أن له تعالى في أفعاله أغراضا لكنها راجعة إلى خلقه دونه.
و ملخصه أن غرضه في فعله يفارق أغراضنا في أفعالنا من وجهين: أحدهما أنه تعالى لا يستكمل بأغراض أفعاله و غاياتها بخلافنا معاشر ذوي الشعور و الإرادة من الإنسان و سائر الحيوان، و ثانيهما أن المصلحة و المفسدة لا تحكمان فيه تعالى بخلاف غيره.
و أما النزاع المعروف بين الأشاعرة و المعتزلة في أن أفعال الله معللة بالأغراض أم
لا؟ بمعنى أنه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعية في فعله بحيث إن المصلحة ترجح له الفعل على الترك و لولاها لم يكن له ليفعل؟ أو أنه لا غاية له في فعله و إنما يفعل بإرادة جزافية من غير غرض؟
فذلك مما لا يهدي إلى شيء من طرفيه النظر المستوفى و الحق خلاف القولين جميعا، و هو أمر بين الأمرين كما أشرنا إليه و لعلنا نوفق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقل في المسألة نستوفي فيه النظر العقلي و النقلي فيها إن شاء الله تعالى.
و في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه التخلص إلى ذكر صفة الربوبية و تسجيل أنه تعالى هو رب هؤلاء المشركين الذين اتخذوا له أندادا فإن وجه الكلام في الحقيقة إليهم و إن كان المخاطب به هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دونهم و لتكون هذه التسمية و هي في مفتتح الكلام مبدأ لما سيذكر في السورة من الحجة على توحيد الربوبية.
قوله تعالى: {إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ اَللَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} العزة تقابل الذلة، قال الراغب: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة، قال تعالى: {أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} و تعزز اللحم اشتد و عز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، انتهى موضع الحاجة.
فعزة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله و الوصول إليه و منه عزيز القوم و هو الذي يقهر و لا يقهر لأنه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون أن يمنع قبل الوصول إليه و يقهر، و منه العزيز لما قل وجوده لصعوبة نيله، و منه العزيز بمعنى الشاق لأن الذي يشق على الإنسان يصعب حصوله، قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}: التوبة: ١٢٨ و منه قوله: {وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ}: (ص): ٢٣ أي غلبني على ما فسر به.
و الله سبحانه عزيز لأنه الذات الذي لا يقهره شيء من جهة و هو يقهر كل شيء من كل جهة و لذلك انحصرت العزة فيه تعالى فلا توجد عند غيره إلا باكتساب منه
و بإذنه قال تعالى: {أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}: النساء: ١٣٩ و قال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً}: فاطر: ١٠.
و الحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد و هو الثناء على الجميل الاختياري، و إذ كان كل جمال ينتهي إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}: سورة الحمد: ٢ و من غريب القول ما عن الإمام الرازي على ما سننقله: أن الحميد معناه العالم الغني.
و قوله: {إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ} بدل من قوله: {إِلَى اَلنُّورِ} يبين به ما يوصل إليه الكتاب الذي أنزله على نبيه ص بيانا بعد بيان فنبه أولا بأنه نور يميز الحق من الباطل و الخير من الشر و السعادة من الشقاوة، و ثانيا بأنه طريق واضح يجمع سالكيه في متنه و ينتهي بهم جميعا إلى الله العزيز الحميد.
و الوجه في ذكر الصفتين الكريمتين: {اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ} أنهما مبدءان لما سيورد في السورة من الكلام الموجه إليهم فإن عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم أن الله أنعم عليهم بربوبيته كل نعمة عظيمة، ثم عزم عليهم من طريق رسله أن يشكروه و لا يكفروه و وعد رسله أنهم إن آمنوا أدخلهم الجنة، و إن كفروا انتقم منهم و أوردهم مورد الشقاء و العذاب، فليخافوا ربهم و ليحذروا مخالفة أمره و كفران نعمته لأن له كل العزة لا نمنع عن حلول سخطه بهم و نزول عذابه عليهم شيء، حميد لا يذم في إثابته المؤمنين، و لا في تعذيب الكافرين، كما لا يذم فيما بسط عليهم من نعمه التي لا تحصى.
فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث: توحده تعالى بالربوبية و عزته و كونه حميدا في أفعاله فليخف من عزته المطلقة، و ليشكر و ليوثق بما وعد و ليتذكر من آيات ربوبيته.
و في روح المعاني عن أبي حيان: النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب و إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة و الغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا
يقدر عليه سواه، و صفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. قال: و وجه التقديم و التأخير على هذا ظاهر انتهى.
و هو أجنبي عن سياق آيات السورة البتة و لعله مأخوذ من قوله تعالى في وصف القرآن: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}: حم السجدة: ٤٢ لكن المقام غير المقام.
و عن الإمام في تفسيره: إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات و العزيز هو القادر، و الحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد. انتهى، و هو مجازفة عجيبة.
و قريب منه في المجازفة قول بعضهم: قدم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات السلبية كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية فإن العزة كما تقدم من الصفات السلبية بخلاف الحمد.
و ربما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر أنه للترغيب في سلوك هذا الصراط لأنه صراط العزيز الحميد فيعز سالكه و يحمد سابله، انتهى. و هو وجه الأحرى به أن يجعل من الفوائد المتفرعة دون السبب الموجب، و الوجه ما قدمناه.
و أما قوله {اَللَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} فبيان للعزيز الحميد، و المراد بما في السماوات و الأرض كل ما في الكون فيشمل نفس السماوات و الأرض كما يشمل ما فيهما، فهو تعالى يملك كل شيء من كل جهة بحقيقة معنى الملك.
و فيه إشارة إلى الحجة في كونه تعالى عزيزا حميدا، فإنه تعالى و إن كان هو الذي يحق الحق بكلماته و هو الذي ينجح كل حجة في دلالتها، لكنه جاري عباده في كلامه على ما فطرهم عليه، و ذلك أنه تعالى لما ملك كل خلق و أمر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكل قهر و غلبة فلا قهر إلا منه و لا غلبة إلا له فهو تعالى عزيز و له أن
يتصرف في ما يشاء بما يشاء و لا يكون تصرفه إلا محمودا غير مذموم لأن التصرف إنما يكون مذموما إذا كان المتصرف لا يملكه إما عقلا أو شرعا أو عرفا، و أي تصرف نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فإنه يملكه، فهو تعالى حميد محمود الأفعال.
قوله تعالى: {وَ وَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بيان لما تقتضيه صفة العزة من القهر لمن يرد دعوته و يكفر بنعمته.
قوله تعالى: {اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً} إلخ، قال الراغب في المفردات: و قوله عز و جل: {إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمَانِ} أي إن آثروه عليه، و حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه، و اقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار، و على هذا قوله تعالى: {وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىَ عَلَى اَلْهُدىَ}، انتهى.
و معنى استحباب الدنيا على الآخرة اختيار الدنيا و ترك الآخرة رأسا، و يقابله اختيار الآخرة على الدنيا بمعنى أخذ الآخرة غاية للسعي و جعل الدنيا مقدمة لها يتوسل بها إليها، و أما اختيار الآخرة و ترك الدنيا من أصلها فإنه مضاف إلى عدم إمكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال أمر الآخرة، و ينجر إلى تركها بالآخرة، فالحياة الدنيا حياة منقطعة و الحياة الآخرة حياة دائمة يتوسل إلى سعادتها من طريق الدنيا بالاكتساب، فمن اختار الآخرة و أثبتها لزمه إثبات الدنيا لمكان مقدميتها، و من اختار الدنيا و جعلها غاية لزمه نفي الآخرة من أصلها لأنها لو ثبتت ثبتت غاية و إذ لم يجعل غاية انتفت، فليس بين يدي الإنسان إلا خصلتان: اختيار الآخرة على الدنيا بجعل الآخرة غاية و إثبات الدنيا معها للمقدمية، و اختيار الدنيا على الآخرة بجعل الدنيا غاية و نفي الآخرة من أصلها.
و إيضاح المقام أن الإنسان لا بغية له إلا سعادة حياته و حبه لها فطري، و قد أوضحنا ذلك في مواضع متفرقة فيما تقدم، و الذي يثبته كتاب الله من أمر الحياة أنها دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلل الموت إلى حياتين: الحياة الدنيا المؤجلة بالموت و الحياة الآخرة بعد الموت، و هي تتفرع في سعادتها و شقائها على
الحياة الدنيا و ما يكتسبه الإنسان في الدنيا من ناحية الأعمال الحيوية من حسنة أو سيئة، و لا مفر للإنسان من هذه الأعمال لما عنده من حب الحياة الفطري.
و هذه الأعمال أعني السنة التي يستن بها الإنسان في حياته الدنيا الكاسبة له التقوى أو الفجور و الحسنة أو السيئة هي التي تسمى في كتاب الله دينا و سبيلا، فلا مفر للإنسان من سنة حسنة أو سيئة و دين حق أو باطل.
و لما كان من سنة الله سبحانه الجارية أن يهدي كل نوع من الأنواع إلى سعادته و كماله و من كمال الإنسان و سعادته أن يعيش عيشة اجتماعية و يستن بسنة حيوية، شرع الله سبحانه له دينا مبنيا على فطرته التي فطر عليها و هو سبيل الله الذي يسلكه و دينه الذي يتدين به، فإن جرى على ما شرعته له الربوبية و هدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله و ابتغاه مستقيما، و إن اتبع الهوى و صد نفسه عن سبيل الله و اشتغل بما يزينه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجا منحرفا.
أما أنه يبتغي سبيل الله فإن الله هو الذي فطره على طلب السبيل و ابتغاء الصراط و لا يهدي البتة إلا إلى ما يرتضيه و هو سبيل نفسه، و أما أنه منحرف ذو عوج فلأنه لا يهدي إلى الحق و ما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و الآيات القرآنية الدالة على هذا الذي قدمناه متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.
إذا عرفت هذا لاح لك أن قوله في تفسير الكافرين: {اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ} مفاده أنهم يتعلقون تمام التعلق بالحياة الدنيا و يعرضون عن الآخرة بنفيها، و هو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد و النبوة.
و قوله: {وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً} مفاده أنهم يكفون أنفسهم عن الاستنان بسنة الله و التدين بدينه أو يصدون و يصرفون الناس عن الإيمان بالله و اليوم الآخر و التشرع بشريعته عنادا منهم للحق، و يطلبون سنة الله عوجا و منحرفة بالاستنان بغيرها من سنة اجتماعية أيا ما كانت ثم سجل عليهم الضلال بقوله سبحانه:
و يظهر بما تقدم فساد قول بعضهم إن المراد بقوله: {يَبْغُونَهَا عِوَجاً} يبغون لها عوجا أي يطلبون لها زيغا و اعوجاجا حتى يعيبوها به و يصدوا الناس عنها بسببه.
و قول بعضهم: المعنى يطلبون أن يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به.
و قول بعضهم: المعنى يطلبون لأهلها أن يعوجوا و ينحرفوا بالرد فهو المراد بطلبهم الدين منحرفا، و انحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه و فساد هذه الأقوال ظاهر.
قوله تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إلى آخر الآية. اللسان هو اللغة، قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}: الشعراء: ١٩٥.
و الضمير في {قَوْمِهِ} عائد إلى {رَسُولٍ} و في {لَهُمْ} إلى {قَوْمِهِ} و المحصل ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قوم ذلك الرسول ليبين لقومه، و من الخطإ إرجاع ضمير قومه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليفيد أن الله سبحانه كان يوحي إلى جميع الرسل بالعربية لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير {لَهُمْ} إلى {قَوْمِهِ} فيفيد أن الله أنزل التوراة لموسى مثلا بالعربية ليبين للعرب كما في الكشاف.
و المراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم و يخالطهم و يعاشرهم و ليس المراد به الإرسال بلسان القوم الذين هو منهم نسبا لأنه سبحانه يصرح بمهاجرة لوط (عليه السلام) من كلدة و هم سريانية اللسان إلى المؤتفكات، و هم عبرانيون و سماهم قومه و أرسله إليهم ثم أنجاه و أهله إلا امرأته و هي منهم و أهلكهم قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلىَ رَبِّي}: العنكبوت: ٢٦ و في مواضع من كلامه تعالى {قَوْمِ لُوطٍ}.
و أما من أرسل إلى أزيد من أمة و هم أولوا العزم من الرسل فمن الدليل على أنهم كانوا يدعون أقواما من غير أهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة إبراهيم (عليه السلام) عرب الحجاز إلى الحج، و دعوة موسى (عليه السلام) فرعون و قومه إلى الإيمان و عموم دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد اشتمل القرآن على دعوة اليهود و النصارى و غيرهم و قبول إيمان من آمن منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا ما يستفاد من عموم دعوة نوح (عليه السلام). و على هذا فالمراد بقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} و الله أعلم أن الله لم يبن إرسال الرسل و الدعوة الدينية على أساس معجز خارق للعادة الجارية و لا فوض إلى رسله من الأمر شيئا بل أرسلهم باللسان العادي الذي كانوا يكالمون قومهم و يحاورونهم به ليبينوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلا البيان، و أما ما وراء ذلك من الهداية و الإضلال فإلى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول و لا غيره.
فتعود الآية كالبيان و الإيضاح لقوله تعالى قبل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} و إن معنى إخراجك الناس من الظلمات إلى النور أن تبين لهم ما أنزل الله لا أزيد من ذلك فيكون في معنى قوله: {وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: النحل: ٤٤.
و أما قوله: {فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} فإشارة إلى ما أومأنا إليه أن أمر الهدى و الضلال إلى الله لا يتحقق شيء منهما إلا عن مشية منه تعالى غير أنه سبحانه أخبرنا أن هذه المشية منه ليست جزافية غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن اتبع الحق و لم يعانده هداه الله، و من جاحده و اتبع هواه أضله الله فهو إضلال مجازاة غير الإضلال الابتدائي المذموم.
و قد قدم سبحانه الإضلال على الهداية إذ قال: {فَيُضِلُّ اَللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} لأن ذلك أحوج إلى البيان بالنظر إلى أن الكلام مبني على عزته المطلقة فكان من الواجب أن يبين أن ضلال من يضل عن السبيل كهدى من اهتدى إليها إنما هو بمشية منه تعالى و لم يغلب في إرادته و لم يزاحم في ملكه حتى لا يخيل إلى كل مغفل من الناس أن الله يصف نفسه بالعزة المطلقة و أنه غالب غير مغلوب و قاهر غير مقهور ثم يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته و يأمرهم و ينهاهم فيعصون و لا يطيعون و هل هذا إلا غلبة منهم و قهر و هو مغلوب مقهور؟
فكأنه تعالى أجاب عن ذلك بأن معنى دعوته تعالى أن يرسل رسولا بلسان
قومه فيبين لهم ما يسعدهم مما يشقيهم و أما ضلال من ضل من الناس كهدى من اهتدى منهم فبمشية من الله و إذنه، و حاشاه أن يقهر في سلطانه أو يتصرف في ملكه أحد بغير إذنه.
فضلال من ضل منهم دليل عزته فضلا أن يكون ناقضا لها كما أن هدى من اهتدى كذلك، و لذلك ذيل الكلام بقوله: {وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ} فهو سبحانه عزيز لا يغلبه و لا يضره ضلال من ضل منهم، و لا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء ما شاء جزافا و عبثا بل عن نظام متقن دائمي.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} إلى آخر الآية، إذ كان الكلام في السورة مبنيا على الإنذار و التذكير بعزة الله سبحانه ناسب أن يذكر إرسال موسى بالآيات لهداية قومه فإن قصة رسالته من أوضح مصاديق ظهور العزة الإلهية من بين الرسل و قد قال تعالى فيه: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ}: المؤمن: ٢٣ و قال حاكيا عنه (عليه السلام): {وَ أَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اَللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: الدخان: ١٩.
فوزان الآية أعني قوله: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسىَ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ}، من قوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وزان التنظير بداعي التأييد و تطييب النفس كما في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلىَ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}: النساء، ١٦.
و أما ما ذكر بعضهم أن الآية شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} فبعيد كل البعد. و نظيره في البعد قول بعضهم: إن المراد بالآيات التي أرسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات التي أرسل (عليه السلام) بها كالثعبان و اليد البيضاء و غيرهما.
على أن الله سبحانه و تعالى لم يعد في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى و لا ذكر أنه أرسله بها قط و إنما ذكر أنه أنزلها عليه و آتاه إياها.
و لم يقيد قوله: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} إلخ بالإذن كما قيد به قوله للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ} إلخ لأن قوله هاهنا: {أَخْرِجْ قَوْمَكَ} أمر يتضمن معنى الإذن بخلاف قوله هناك: {لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ}.
و قوله: {وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ} لا شك أن المراد بها أيام خاصة، و نسبة أيام خاصة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيام و كل الأشياء له تعالى ليست إلا لظهور أمره تعالى فيها ظهورا لا يبقى معه لغيره ظهور، فهي الأزمنة و الظروف التي ظهرت أو سيظهر فيها أمره تعالى و آيات وحدانيته و سلطنته كيوم الموت الذي يظهر فيه سلطان الآخرة و تسقط فيه الأسباب الدنيوية عن التأثير، و يوم القيامة الذي لا يملك فيه نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله، و كالأيام التي أهلك الله فيها قوم نوح و عاد و ثمود فإن هذه و أمثالها أيام ظهر فيها الغلبة و القهر الإلهيان و أن العزة لله جميعا.
و يمكن أن يكون منها أيام ظهرت فيها النعم الإلهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم خروج نوح (عليه السلام) و أصحابه من السفينة بسلام من الله و بركات و يوم إنجاء إبراهيم من النار و غيرهما فإنها أيضا كسوابقها لا نسبة لها في الحقيقة إلى غيره تعالى فهي أيام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيام إلى الأمم و الأقوام و منه أيام العرب كيوم ذي قار و يوم فجار و يوم بغاث و غير ذلك.
و تخصيص بعضهم الأيام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة على ما تقتضيه عزته تعالى، و من مقتضى صفة عزته الإنعام على العباد و الأخذ الشديد إن كفروا بنعمته.
ثم تمم الكلام بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي كثير الصبر عند الضراء و كثير الشكر على النعماء.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أحمد عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لم يبعث الله نبيا إلا بلسان قومه.
و فيه أخرج النسائي و عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: {وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اَللَّهِ} قال: بنعم الله و آلائه.
أقول: و هو بيان بعض المصاديق، و روى ما في معناه الطبرسي و العياشي عن الصادق (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ بإسناده عن عبد الله بن عباس و جابر بن عبد الله في حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أيام الله نعماؤه و بلاؤه و هو مثلاته سبحانه.
و في تفسير القمي قال :قال أيام الله ثلاثة: يوم القائم و يوم الموت و يوم القيامة.
أقول: المراد بيان أيامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق أيامه.
و في المعاني بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم و يوم الكرة و يوم القيامة.
أقول: و هي كسابقتها و اختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيد ما قدمناه في بيان الآية.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ٦ الی ١٨]
{وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}
{وَ يَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَ فِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ٦ وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ٧ وَ قَالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ٨ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ٩ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ١ ٠قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ١١ وَ مَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ ١٢ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ ١٣ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ ١٤
وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ١٥ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ١٦ يَتَجَرَّعُهُ وَ لاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَ مَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ١٧ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ اَلضَّلاَلُ اَلْبَعِيدُ ١٨}
(بيان)
الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله و نقمه في أيامه و ظاهر سياق الآيات أنها من كلام موسى (عليه السلام) غير قوله تعالى: {وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} (الآية) فهي حكاية قول موسى يذكر فيها قومه ببعض أيام الله سبحانه على ما يقتضيه عزته المطلقة من إنزال النعم و النقم، و وضع كل في موضعه الذي يليق به حسب ما اقتضته حكمته البالغة.
قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الآية، السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشيء فهو لفظ لمعنى يتركب من الذهاب و الابتغاء فكأنه في الآية بمعنى إذاقة العذاب، و الاستحياء استبقاء الحياة.
و المعنى و اذكر أيها الرسول لزيادة التثبت في أن الله عزيز حميد إذ قال موسى لقومه و هم بنو إسرائيل: اذكروا نعمة الله عليكم يوم أنجاكم من آل فرعون و خاصة من القبط و الحال أنهم مستمرون على إذاقتكم سوء العذاب و يكثرون ذبح الذكور من أولادكم و على استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق، و في ذلكم بلاء و محنة من ربكم عظيم.
قوله تعالى: {وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} قال في المجمع التأذن الاعلام يقال: آذن و تأذن و مثله أوعد و توعد انتهى.
و قوله: {وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} إلخ معطوف على قوله: {وَ إِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} و موقع الآية التالية: {وَ قَالَ مُوسى} إلخ، من هذه الآية كموقع قوله: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسى} إلخ، من قوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ} إلخ، فافهم ذلك فهو الأنسب بسياق كلامه تعالى.
و ذكر بعضهم أنه داخل في مقول موسى و ليس بكلام مبتدإ و عليه فهو معطوف على قوله: {نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ} و التقدير: اذكروا نعمة الله عليكم و اذكروا إذ تأذن ربكم إلخ، و فيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم و إذ تأذن ربكم إلخ، لما فيه من رعاية حكم الترتيب.
و قيل: إنه معطوف على قوله: {إِذْ أَنْجَاكُمْ} و المعنى اذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذن ربكم، فإن هذا التأذن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب و الترهيب الباعثين إلى نيل خير الدنيا و الآخرة.
و فيه أن هذا التأذن ليس إلا نعمة للشاكرين منهم خاصة و أما غيرهم فهو نقمة عليهم و خسارة فنظمه في سلك ما تقدمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغي.
فالظاهر أنه كلام مبتدأ و قد بين تعالى هذه الحقيقة أعني كون الشكر الذي حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكر إنعام المنعم و يظهر إحسانه و يئول في مورده تعالى إلى الإيمان به و التقوى موجبا لمزيد النعمة و الكفر لشديد العذاب، في مواضع من كلامه، و قد حكى عن نوح فيما ناجى ربه و دعا على قومه: {فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ} الخ: نوح: ١٢.
و من لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية كما ذكره بعضهم اشتمالها على التصريح بالوعد و التعريض في الوعيد حيث قال: {لَأَزِيدَنَّكُمْ} و قال {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} و لم يقل لأعذبنكم و ذلك من دأب الكرام في وعدهم و وعيدهم غالبا.
و الآية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد و الوعيد بالدنيا و لا بالآخرة، و تأثير الإيمان و الكفر و التقوى و الفسق في شئون الحياة الدنيا و الآخرة معا معلوم من القرآن.
و قد استدل بالآية على وجوب شكر المنعم، و الحق أن الآية لا تدل على أزيد من أن الكافر على خطر من كفره فإن الله سبحانه لم يصرح بفعلية العذاب على كل كفر إذ قال: {وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} و لم يقل: لأعذبنكم.
قوله تعالى: {وَ قَالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} لما أمر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذن به من الزيادة على الشكر و العذاب على الكفر على ما تقتضيه العزة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسى (عليه السلام) ما يجري مجرى التنظير فقال: {وَ قَالَ مُوسى} و الكلام جار على هذا النمط إلى تمام عشر آيات.
و أما أن الله غني و إن كفر من في الأرض جميعا فإنه غني بالذات عن كل شيء فلا ينتفع بشكر و لا يتضرر بكفر، و إنما يعود النفع و الضرر إلى الإنسان فيما أتى به، و أما أنه حميد فلأن الحمد هو إظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال و الحسن و فعله تعالى حسن جميل من كل جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه و إخفاؤه، فهو تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد.
على أن كل شيء يحمده بتمام وجوده حتى الكافر بنعمته كما قال تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: الإسراء: ٤٤ فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم أو لم يحمدوه، و له كل الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره.
قوله تعالى: {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ} إلى آخر الآية. من كلام موسى (عليه السلام) يذكر قومه من أيام الله في الأمم الماضين ممن فنيت أشخاصهم و خمدت أنفاسهم و عفت آثارهم و انقطعت أخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلا إلا الله كقوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم.
و من هنا يعلم أولا: أن المراد بالنبإ، في قوله: {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
خبر هلاكهم و انقراضهم، فإن النبأ هو الخبر الذي يعتنى بأمره فلا ينافي ما يتعقبه من قوله: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ}.
و ثانيا: أن قوله: {قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ}، من قبيل ذكر الأمثلة، و إن قوله: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ} بيان لقوله: {مِنْ قَبْلِكُمْ} و المراد بعدم العلم بهم لغير الله الجهل بحقيقة حالهم و عدم الإحاطة بتفاصيل تاريخ حياتهم.
و من الممكن أن يكون قوله: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ} اعتراضا و إن كان ما ذكرناه أنسب للسياق، و أما احتمال أن يكون خبرا لقوله: {وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} كما ذكره بعضهم فسخافته ظاهرة، و أسخف منه تجويز بعضهم أن يكون حالا من ضمير من بعدهم و كون قوله: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} خبرا لقوله: {وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}.
و قوله: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} الظاهر أن المراد به أن رسلهم جاءوهم بحجج بينة تبين الحق و تجليه من غير أي إبهام و ريب فمنعوهم أن يتفوهوا بالحق و سدوا عليهم طريق التكلم.
فالضميران في: {أَيْدِيَهُمْ} و {أَفْوَاهِهِمْ} للرسل، و رد أيديهم في أفواههم كناية عن إجبارهم على أن يسكتوا و يكفوا عن التكلم بالحق كأنهم أخذوا بأيدي رسلهم و ردوها في أفواههم إيذانا بأن من الواجب عليكم أن تكفوا عن الكلام، و يؤيده قوله بعد: {وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فإن دعوى الشك و الريب قبال الحجة البينة و الحق الصريح الذي لا يبقي مجالا للشك لا تتحقق إلا من جاحد مكابر متحكم مجازف لا يستطيع أن يسمع كلمة الحق فيجبر قائلها على السكوت و الصمت.
و للقوم في معنى الآية أقوال أخر:
منها قول بعضهم المعنى أن الكفار ردوا أيديهم في أفواه الرسل تكذيبا لهم و ردا لما جاءوا به، فالضمير الأول للكفار و الثاني للرسل، و فيه أنه مستلزم لاختلاف مرجع الضميرين من غير قرينة ظاهرة.
و منها: أن المراد أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم مومين به إلى الرسل أن اسكتوا كما يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا أراد إسكاته فالضميران معا للكفار.
و منها: أن المعنى عضوا أصابعهم من شدة الغيظ من استماع دعوة الرسل، فالضميران للكفار كما في الوجه السابق و فيه أنه كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ.
و منها: أن المراد بالأيدي الحجج و هي إما جمع اليد بمعنى الجارحة لكون الحجة بمنزلة اليد التي بها البطش و الدفع، و إما جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج الرسل نعما منهم على الناس و المعنى أنهم ردوا حجج الرسل إلى أفواههم التي خرجت منها.
و قريب من هذا الوجه قول بعضهم: إن المراد بالأيدي نعم الرسل و هي أوامرهم و نواهيهم و الضميران أيضا للرسول، و المعنى أنهم كذبوا الرسل في أوامرهم و نواهيهم.
و قريب منه أيضا قول آخرين: إن المراد بالأيدي النعم، و ضمير {أَيْدِيَهُمْ} للرسل، و {فِي} في قوله {فِي أَفْوَاهِهِمْ} بمعنى الباء و الضمير للكفار و المعنى كذب الكفار بأفواههم نعم الرسل و هي حججهم.
و أنت خبير بأن هذه معان بعيدة عن الفهم يجل كلامه تعالى أن يحمل عليها و على أمثالها.
و أما قوله: {وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فهو نحو بيان لقوله: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} و الجملة الأولى أعني قولهم: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} إنكار للشريعة الإلهية التي هي متن الرسالة، و الجملة الثانية أعني قولهم: {وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ} إلخ... إنكار لما جاءوا به من الحجج و البينات و إظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه و هو توحيد الربوبية.
قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} أصل الفطر على ما ذكره الراغب الشق طولا يقال: فطرت الشيء فطرا أي شققته طولا، و أفطر الشيء فطورا و انفطر
انفطارا أي قبل الفطر، و استعمل في القرآن فيما انتسب إليه تعالى بمعنى الإيجاد بنوع من العناية كأنه تعالى شق العدم شقا فأظهر من بطنه الأشياء فهي ظاهرة ما أمسك هو تعالى على شقي العدم موجودة ما كان ممسكا لها و لو ترك الإمساك لانعدمت و زالت كما قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}: فاطر: ٤١.
و على هذا فتفسير الفطر بالخلق الذي هو جمع الأجزاء و الأبعاض كما وقع في بعض العبارات ليس على ما ينبغي، و يؤيد ذلك أن الفطر لو كان بمعنى الخلق لكان البرهان الذي أشير إليه بقوله: {فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} مسوقا لإثبات وجود الخالق فكان أجنبيا عن المقام لأن الوثنية لا تنكر وجود خالق للعالم و أنه هو الله عز اسمه لا غير، و إنما ينكرون توحيد الربوبية و العبادة و هو أن يكون الله سبحانه هو الرب المعبود لا غير، و البرهان على كونه تعالى خالقا للسماوات و الأرض لا ينفع فيه شيئا.
و كيف كان فقوله: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ} إلخ، كلام قوبل به قولهم: {وَ قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} و قد عرفت أن قولهم هذا يتضمن إنكارين: إنكارهم للرسالة و تشككهم في توحيد الربوبية فكلام الرسل المورد جوابا منهم عن قولهم بالمقابلة متضمن لجزءين.
فقولهم: {أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} برهان على توحيد الربوبية إذ لو سيق لمجرد الإنكار على الكفار من غير إشارة إلى برهان لم يكن حاجة إلى ذكر الوصف {فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ}، ففي ذكره دلالة على أنه مزيل كل شك و ريب عنه تعالى.
و ذلك أنا نرى في أول ما نعقل أن لهذا العالم المشهود الذي هو مؤلف من أشياء كثيرة كل واحد منها محدود في نفسه متميز من غيره وجودا، و ليس وجوده و لا وجود شيء من أجزائه من نفسه و قائما بذاته و إلا لم يتغير و لم ينعدم فوجوده و وجود أجزائه و كذا كل ما يرجع إلى الوجود من الصفات و الآثار من غيرها و لغيرها و هذا الغير هو الذي نسميه «الله» عز اسمه.
فهو تعالى الذي يوجد العالم و كل جزء من أجزائه و يحده و يميزه من غيره فهو في نفسه موجود غير محدود و إلا لاحتاج إلى آخر يحدده فهو تعالى واحد لا يقبل الكثرة لأن ما لا يحد بحد لا يقبل الكثرة.
و هو بوحدته يدبر كل أمر كما أنه يوجده لأنه هو المالك لوجودها و الكل أمر يرجع إلى وجودها، و لا يشاركه غيره في شيء لأن شيئا من الموجودات غيره لا يملك لنفسه و لا لغيره فهو تعالى رب كل شيء لا رب غيره، كما أنه موجد كل شيء لا موجد غيره.
و هذا برهان تام سهل التناول حتى للأفهام البسيطة يناله الإنسان الذي يذعن بفطرته أن للعالم المشهود حقيقة و واقعية من غير أن يكون وهما مجردا كما يبديه السفسطة و الشك، و يثبت به توحد الألوهية و الربوبية و لذلك تمسك به في هذا المقام الذي هو مقام خصام الوثنية.
و من هنا يظهر فساد زعم من زعم أن قوله: {أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ} حجة مسوقة لإثبات خالق للعالم، و كذا قول من قال: إنه دليل اتصال التدبير لتوحيد الربوبية بل هو برهان عليه تعالى من جهة قيام وجود كل شيء و آثار وجوده به من كل جهة فينتج توحده في الربوبية و يزول به ما أيدوه من الشك بقولهم: {وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.۱
ثم قولهم: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} إشارة إلى برهان النبوة التي أنكروها بقولهم: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} يريدون به دين الرسل و الشريعة السماوية بالوحي.
و بيانه أن من سنته تعالى الجارية هداية كل شيء إلى كماله و سعادته النوعية، و الإنسان أحد هذه الأنواع المشمولة للهداية الإلهية فمن الواجب في العناية الإلهية
أن يهتدي إلى سعادة حياته. و لكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا و لا منقطعة بالموت، و سعادته في الحياة أن يعيش في الدنيا عيشة مطمئنة على أساس تعديل قواه في التمتع من أمتعة الحياة من مأكول و مشروب و لباس و نكاح و غير ذلك و هي الأعمال الصالحة، و في الآخرة أن يعيش على ما اكتسبه من الاعتقاد الحق و العمل الصالح.
و هو و إن كان مجهزا بفطرة تذكره حق الاعتقاد و صالح العمل لكنه مجبول من جهة أخرى على العيشة الاجتماعية التي تدعوه إلى اتباع الأهواء و الظلم و الفسق، فمجرد ذكرى الفطرة لا يكفي في حمله على سنة حقة عادلة تحصل له الاستقامة في الاعتقاد و العمل، و إلا لم يفسد المجتمع الإنساني و لا واحد من أجزائه قط و هم مجهزون بالفطرة.
فمن الواجب في العناية أن يمد النوع الإنساني مع ما له من الفطرة الداعية إلى الصلاح و السعادة بأمر آخر تتلقى به الهداية الإلهية و هو النبوة التي هي موقف إنساني طاهر ينكشف له عنده الاعتقاد الحق و العمل الصالح بوحي إلهي و تكليم غيبي يضمن اتباعه سعادة الفرد و المجتمع في الدنيا و الآخرة.
أما سعادة الدنيا فلما تقدم كرارا أن بين المعاصي و المظالم و بين النكال و العقوبة الإلهية التي تنتهي إلى الهلاك ملازمة فلو لم يفسد المجتمع و داموا على الصلاح الفطري لم يختر منهم الهلاك و لم يفاجئهم النكال و عاشوا ما قدر لهم من الآجال الطبيعية.
و العيشة المغبوطة.
و أما سعادة الآخرة فلأن اتباع الدعوة الإلهية و بعبارة أخرى الإيمان و التقوى يحليان النفس بالهيأة الصالحة و يذهبان بدرن النفس الذي هو الذنوب بمقدار الاتباع.
فربوبيته تعالى لكل شيء المستوجبة لتدبيرها أحسن تدبير و هدايته كل نوع إلى غايته السعيدة تستدعي أن تعني بالناس بإرسال رسل منهم إليهم و دعوته الناس بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح ليتم بذلك سعادتهم في الدنيا و الآخرة، أما في
الدنيا فبالتخلص عن النكال و العقوبة القاضية عليهم، و أما في الآخرة فبالمغفرة الإلهية بمقدار ما تلبسوا به من الإيمان و العمل الصالح.
إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن قوله تعالى حاكيا عن الرسل: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} إشارة منهم (عليه السلام) إلى حجة النبوة العامة و أن قوله: {لِيَغْفِرَ لَكُمْ} إلخ، إشارة إلى غاية الدعوة الأخروية و قوله: {وَ يُؤَخِّرَكُمْ} إلخ إشارة إلى غايتها الدنيوية، و قدم ما للآخرة على ما للدنيا لأن الآخرة هي المقصودة بالذات و هي دار القرار.
و قد نسبوا الدعوة في كلامهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو الحق تجاه قول الكفار {تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} حيث نسبوها إلى الرسل، و قوله: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ظاهر في التبعيض، و لعله للدلالة على أن المغفرة على قدر الطاعة، و المجتمع الإنساني لا يخلو عن المعصية المستوجبة للمؤاخذة البتة، فالمغفور على أي حال بعض ذنوب المجتمع لا جميعها فافهم ذلك.
و ربما ذكر بعضهم أن المراد به أنه يغفر حقوق الله لا حقوق الناس، و رد بأنه صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الإسلام يجب ما قبله.
و ربما قيل: إن {مِنْ} زائدة و أيد بقوله تعالى في موضع آخر: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بدون من. و فيه أن من إنما يزاد في النفي دون الإثبات كقولهم: ما جاءني من رجل و تدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل. على أن مورد الآيتين مختلف فإن قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الظاهر في مغفرة الجميع إنما هو في مورد الإيمان و الجهاد و هو قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ}- إلى أن قال - {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: الصف: ١٢ و الذي حكاه الله عن نوح (عليه السلام) في مثل المقام و هو أول هؤلاء الرسل المذكورين في الآية قوله: {أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى}: نوح: ٤ و هو يوافق الآية التي نحن فيها فالتبعيض لا مفر منه ظاهرا.
و مما قيل في توجيه الآية أن المراد بالبعض الكل توسعا، و من ذلك أن المراد
مغفرة ما قبل الإيمان من الذنوب و أما ما بعد ذلك فمسكوت عنه، و من ذلك أن المراد مغفرة الكبائر و هي بعض الذنوب إلى غير ذلك، و هذه وجوه ضعيفة لا يعبأ بها.
و قال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين بقوله: {وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، و قال في خطاب المؤمنين: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إلى أن قال {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} و غير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، و كان ذلك للتفرقة بين الخطابين، و لئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد. انتهى.
و كأن مراده أن المغفور من الذنوب في الفريقين واحد و هو جميع الذنوب، إلا أن تشريف مقام الإيمان أوجب أن يصرح في المؤمنين بمغفرة الجميع، و يقتصر في وعد الكفار على مغفرة البعض و السكوت عن الباقي، و مغفرة بعضها لا تنافي مغفرة البعض الآخر، فليكن هذا مراده و إلا فمجرد التفرقة بين الخطابين لا ينتج ارتكاب مخالفة الواقع بتاتا.
و قوله: {وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمًّى} أي لا يعاجلكم بالعقوبة و الهلاك و يؤخركم إلى الأجل الذي لا يؤخر و قد سماه لكم و لا يبدل القول لديه، و قد تقدم في تفسير أول سورة الأنعام أن الأجل أجلان: أجل موقوف معلق، و أجل مسمى لا يؤخر.
و من الدليل على هذا الذي ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما حكاه الله سبحانه: {وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ}: نوح: ٤.
قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب أن الآية المعجزة حجة عامة على نبوة النبي لا حجة عامية و خاصة الوحي و النبوة التي هي نوع اتصال بالغيب أمر خارق للعادة الجارية بين أفراد الإنسان لا يجدونها من أنفسهم فعلى من يدعيها الإثبات و لا طريق إلى إثباتها إلا بالإتيان بخارق عادة آخر
يدل على صحة هذا الاتصال الغيبي لأن حكم الأمثال واحد، و إذا جاز أن تخترق العادة بشيء جاز أن تخترق بما يماثله.
و الرسل (عليه السلام) لما احتجوا على كفار أممهم في النبوة العامة بقولهم: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} عادت الكفار إليهم بطلب الدليل منهم على ما يدعونه من النبوة لأنفسهم معتذرين في ذلك بقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا}، ثم صرحوا بما يطلبونه من الدليل و هو الآية المعجزة بقولهم: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
فالمعنى سلمنا أن من مقتضى العناية الإلهية أن يدعونا إلى المغفرة و الرحمة، لكنا لا نسلم لكم أن هذه الدعوة قائمة بكم كما تدعون فإنكم بشر مثلنا لا تزيدون علينا بشيء، و لو كان مجرد البشرية يوجب ذلك لكنا وجدناه من أنفسنا و نحن بشر، فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان مبين أي ببرهان قاطع يتسلط على عقولنا و يضطرنا إلى الإذعان بنبوتكم و هو آية معجزة غيبية تخرق العادة كما أن ما تدعونه خارق مثلها.
و بهذا البيان يظهر أولا أن كلامهم هذا من قبيل منع الدعوى، و قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} سند المنع، و قولهم: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} تصريح بطلب الدليل.
و ثانيا أن قولهم: {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من قبيل الاعتراض الواقع بين المنع و سنده و معناه أنكم لما كنتم بشرا مثلنا لا فضل لكم علينا بشيء فلا وجه لأن نقبل منكم ما لا نجده من أنفسنا و لا نعهده من أمثالنا، و الذي نعهده من أمثال هذه الأمور أنها إنما تظهر عن أغراض و مطامع دنيوية مادية فليس إلا أنكم تريدون أن تصرفونا عن سنتنا القومية و طريقتنا المثلى.
قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ} إلى آخر الآية جواب الرسل عما أوردوه على رسالتهم بأنكم بشر مثلنا فلستم ذوي هوية ملكوتية حتى تتصلوا بالغيب فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه القدرة الغيبية فأتونا بسلطان مبين.
و محصل الجواب أن كوننا بشرا مثلكم مسلم لكنه يوجب خلاف ما استوجبتموه أما قولكم إن كونكم بشرا مثلنا يوجب أن لا تختصوا بخصيصة لا نجدها من أنفسنا و هي الوحي و الرسالة فجوابه: أن المماثلة في البشرية لا توجب المماثلة في جميع الكمالات الصورية و المعنوية الإنسانية كما أن اعتدال الخلقة و جمال الهيئة و كذا رزانة العقل و إصابة الرأي و الفهم و الذكاء كمالات صورية و معنوية توجد في بعض أفراد الإنسان دون بعض، فمن الجائز أن ينعم الله بالوحي و الرسالة على بعض عباده دون بعض فإن الله يمن على من يشاء منهم.
و أما قولكم: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} فإنه مبني على كون النبي ذا شخصية ملكوتية و قدرة غيبية فعالة لما تشاء، و ليس كذلك فما النبي إلا بشر مثلكم يوحى إليه بالرسالة و ليس له من الأمر شيء، و ما كان له أن يأتي بآية من عنده إلا أن يشاء الله ذلك و يأذن فيه.
فقوله: {إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تسليم من الرسل لقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} لاستنتاج خلاف ما استنتجوه منه، و قوله: {وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشَاءُ} إشارة إلى مقدمة بانضمامها يستنتج المطلوب، و قوله: {وَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ} جواب منهم استنتجوه من كونهم بشرا مثلهم.
و تذييل هذا الكلام بقولهم: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ} للإشارة إلى ما يجري مجرى حجة ثانية على إرجاع الأمر كله و منه أمر الآية المعجزة إلى الله و هي حجة خاصة بالمؤمنين، و ملخصها أن الإيمان بالله سبحانه يقتضي منهم أن يذعنوا بأن الإتيان بالآية إنما هو إلى الله لأن الحول و القوة له خاصة لا يملك غيره من ذلك شيئا إلا بإذنه.
و ذلك لأنه هو الله عز شأنه، فهو الذي يبدأ منه و ينتهي إليه و يقوم به كل شيء فهو رب كل شيء المالك لتدبير أمره لا يملك شيء أمرا إلا بإذنه فهو وكيل كل شيء القائم بما يرجع إليه من الأمر، فعلى المؤمن أن يتخذ ربه وكيلا في جميع ما يرجع إليه حتى في أعماله التي تنسب إليه لما أن القوة كلها له سبحانه و على الرسول أن يذعن بأن ليس له الإتيان بآية معجزة إلا بإذن الله.
و الآية ظاهرة في أن الرسل (عليه السلام) لم يدعوا امتناع إتيانهم بالآية المعجزة المسماة سلطانا مبينا، و إنما ادعوا امتناع أن يستقلوا بذلك من غير حاجة فيه إلى إذن الله سبحانه و احتجوا على ذلك أولا، و ثانيا.
قوله تعالى: {وَ مَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ} ما استفهامية و الاستفهام للإنكار، و قوله: {وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} حال من الضمير في {لَنَا} و سبل الأنبياء و الرسل الشرائع التي كانوا يدعون إليها، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ}: يوسف: ١٠٨ و المعنى ما الذي نملكه من العذر في أن لا نتوكل على الله و الحال أنه تعالى هدانا سبلنا و لم يكن لنا صنع في هذه النعمة و السعادة التي من بها علينا فإذا كان سبحانه فعل بنا هذا الفعل الذي هو كل الخير فمن الواجب أن نتوكل عليه في سائر الأمور.
و هذا في الحقيقة حجة ثانية على وجوب التوكل عليه و إلقاء الزمام إليه سلك فيها من طريق الآثار الدالة على وجوب التوكل عليه كما أن الحجة السابقة سلك فيها من النظر في نفس المؤثر، و تقرير الحجة أن هدايته تعالى إيانا إلى سبلنا دليل على وجوب التوكل عليه لأنه لا يخون عباده و لا يريد بهم إلا الخير و مع وجود الدليل على التوكل لا معنى لوجود دليل على عدم التوكل يكون عذرا لنا فيه فلا سبيل لنا إلى عدم التوكل عليه تعالى.
فقوله تعالى: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ} يجري مجرى اللم، و قوله: {وَ مَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللَّهِ وَ قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} مجرى الإن فتدبر في هذا البيان العذب و الاحتجاج السهل الممتنع الذي قدمه القرآن الكريم إلى متدبريه في أوجز لفظ.
و قوله: {وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا} من تفريع الصبر على ما بين من وجوب التوكل عليه أي إذا كان من الواجب أن نتوكل عليه و نحن مؤمنون به و قد هدانا سبلنا فلنصبرن على إيذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه متوكلين عليه حتى يحكم بما يريد و يفعل ما يشاء من غير أن نأوي في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول و القوة.
و قوله: {وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ} كلام مبني على الترقي أي كل من تلبس بالتوكل فعليه أن يتوكل على الله سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن إذ لا دليل غيره غير أن المتوكل بحقيقة التوكل لا يكون إلا مؤمنا فإنه مذعن أن الأمر كله لله فلا يسعه إلا أن يطيعه فيما يأمر و ينتهي عما ينهى و يرضى بما رضي به و يسخط عما سخط عنه و هذا هو الإيمان.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} هذا تهديد منهم بعد ما عجزوا في مناظرتهم و خسروا في محاجتهم، و الخطاب في قولهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ} إلخ للرسل و الذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا أن يعود الرسل في ملتهم و يبقى أتباعهم على دين التوحيد. على أن الله سبحانه صرح بذلك في قصص بعضهم كقوله في شعيب: {قَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}: الأعراف: ٨٨.
و قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} عاد من الأفعال الناقصة بمعنى الصيرورة و هي الحيلولة من حال إلى حال سواء كان عليها سابقا أو لا و من الدليل عليه كما قيل قوله: {فِي مِلَّتِنَا} و لو كان بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعين أن يقال: إلى ملتنا.
و من هنا يظهر فساد ما قيل: إن ظاهر الآية أن الرسل كانوا قبل الرسالة في ملتهم فكلفهم الكفار أن يعودوا إلى ما كانوا عليه.
على أن خطابهم لم يكن للرسل خاصة بل لهم و لمن آمن بهم ممن كان على ملة الكفار من قبل فالخطاب لهم و لرسلهم بالعود إلى ملتهم على تقدير كون العود بمعنى الرجوع، إنما هو من باب التغليب.
و من لطيف الصناعة في الآية دخول لام القسم و نون التأكيد على طرفي الترديد: «لنخرجنكم أو لتعودن» مع أن أو للاستدراك و تفيد معنى الاستثناء و لا معنى لأن يقال: إلا أن تعودوا و الله في ملتنا، إلا أن عودهم لما كان بإجبار من الكفار كان في معنى الإعادة و عاد قوله: {لَتَعُودُنَّ} طرف الترديد و صح دخول اللام و النون و آل المعنى إلى قولنا: و الله لنخرجنكم من أرضنا أو نعيدنكم في ملتنا.
قوله تعالى: {فَأَوْحىَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى آخر الآية، ضمير الجميع الأول و الثاني للرسل و الثالث للذين كفروا بدلالة السياق، و التعبير عنهم بالظالمين للإشارة إلى سببية ظلمهم للإهلاك فإن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية كما أن قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَ خَافَ وَعِيدِ} مشعر بعلية الخوف للإسكان.
و قوله: {مَقَامِي} مصدر ميمي أريد به قيامه تعالى على الأمر كله أو اسم مكان أريد به مرتبة قيمومته تعالى للأمر كله، و المراد من وعيده تعالى ما أوعد به المخالفين عن أمره من العذاب.
فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه بما أنه الله القائم بأمر عباده و المراد بالخوف من وعيده تقواه بما أنه الله الذي حذر عباده من مخالفة أمره بلسان أنبيائه و رسله فيعود على أي حال إلى التقوى و ينطبق على قول موسى لقومه: {اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: الأعراف: ١٢٨ كما أشار إليه في الكشاف.
و المعنى فأوحى رب الرسل إليهم و قد أخذت صفة الربوبية الخاصة بهم لمكان توكلهم الجالب للرحمة و العناية و أقسم لنهلكن هؤلاء المهددين لكم بظلمهم و لنسكننكم هذه الأرض التي هددوكم بالإخراج منها و نورثكم إياها لصفة مخافتكم مني و من وعيدي و كذلك نفعل فنورث الأرض عبادنا المتقين.
قوله تعالى: {وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الاستفتاح طلب الفتح و النصر. و الخيبة انقطاع الرجاء و الخسران و الهلاك، و العنيد هو اللجوج و منه المعاند.
و الضمير في {وَ اِسْتَفْتَحُوا} للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم الأسباب من كل جانب و بلغ بهم ظلم الظالمين و تكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه الله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}: القمر: ١٠و يمكن رجوع الضمير إلى الرسل و الكفار جميعا فإن الكفار أيضا كانوا يصرون على أن يأتيهم الرسل بما يقضي بينهم كقولهم: {مَتىَ هَذَا اَلْفَتْحُ}: الم السجدة: ٢٨ {مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ}: يس: ٤٨ و على هذا التقدير يكون المعنى: و استفتح الرسل و الكفار جميعا، و كانت الخيبة للجبارين و هو
عذاب الاستئصال.
قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىَ مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} إلى آخر الآيتين. الصديد القيح السائل من الجرح، و هو بيان للماء الذي يسقونه في جهنم. و التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار، و الإساغة إجراء الشراب في الحلق يقال: ساغ الشراب و أسغته أنا كذا في المجمع و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: {مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} إلى آخر الآية، يوم عاصف شديد الريح تمثيل لأعمال الكفار من حيث تترتب نتائجها عليها و بيان أنها حبط باطلة لا أثر لها من جهة السعادة فهو كقوله تعالى: {وَ قَدِمْنَا إِلىَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}: الفرقان: ٢٣ فأعمالهم كذرات من الرماد اشتدت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته و لم يبق منه شيئا هذا مثلهم من جهة أعمالهم.
و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى تقدير شيء في الكلام و إرجاعه إلى مثل قولنا: مثل أعمال الذين كفروا «إلخ»، و الظاهر أن الآية ليست من تمام كلام موسى بل هي كالنتيجة المحصلة من كلامه المنقول.
بحث روائي
في الكافي بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أعطي الشكر أعطي الزيادة يقول الله عز و جل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.
و في الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي زهير يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أعطي أحد أربعة فمنع أربعة: ما أعطي أحد الشكر فمنع الزيادة لأن الله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، و ما أعطي أحد الدعاء فمنع الإجابة لأن الله يقول: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} و ما أعطي أحد الاستغفار فمنع المغفرة لأن الله يقول: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّاراً} و ما أعطي أحد التوبة فمنع التقبل لأن الله يقول: {وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}: الشورى: ٢٥.
و فيه أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن أنس عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: لما قال له سفيان الثوري: لا أقوم حتى تحدثني قال جعفر: أما إني أحدثك و ما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها و دوامها فأكثر من الحمد و الشكر عليها - فإن الله تعالى قال في كتابه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} و إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه: {اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ} يعني في الدنيا و الآخرة ۱ {وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.
يا سفيان إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول و لا قوة إلا بالله فإنها مفتاح الفرج و كنز من كنوز الجنة.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين.
و في الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: شكر كل نعمة و إن عظمت أن تحمد الله.
و فيه بإسناده عن حماد بن عثمان قال: خرج أبو عبد الله (عليه السلام) من المسجد و قد ضاعت دابته فقال: لئن ردها الله علي لأشكرن الله حق شكره فما لبث أن أتي بها فقال: الحمد لله. فقال قائل له: جعلت فداك أ لست قلت: لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أ لم تسمعني قلت: الحمد لله؟
و فيه بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكرا؟ قال: نعم، قلت: و ما هو؟ قال: الحمد لله، على كل نعمة عليه في أهل و مال، و إن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حق أداه، و منه قوله عز و جل: {سُبْحَانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} و منه قوله: {أَنْزِلْنِي
مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ}، و قوله: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً}.
و في تفسير العياشي عن أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أ رأيت هذه النعمة الظاهرة علينا من الله أ ليس إن شكرناه عليها و حمدناه زادنا كما قال الله في كتابه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} فقال: نعم من حمد الله على نعمه و شكره و علم أن ذلك منه لا من غيره زاد الله نعمه.
أقول: و الروايتان الأخيرتان تفسران الشكر أحسن تفسير، و ينطبق عليهما ما قدمناه في البيان أن الشكر إظهار النعمة اعتقادا و قولا و فعلا، و يؤيده إطلاق قوله تعالى: {وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}: الضحى: ١١.
و في تفسير القمي قال: حدثني أبي رفعه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : قال: من آذى جاره طمعا في مسكنه ورثه الله داره. و هو قوله: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ} إلى قوله {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}.
و في التفسيرين المجمع و روح المعاني عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من آذى جاره أورثه الله داره.
و في الدر المنثور أخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب: أنا أنسب الناس. قال: إنك لا تنسب الناس. قال: بلى. فقال له علي: أ رأيت قوله تعالى: {وَ عَاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحَابَ اَلرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}؟ قال أنا أنسب ذلك الكثير. قال: أ رأيت قوله: {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللَّهُ} فسكت.
و في المجمع عن أبي عبد الله (عليه السلام): الصديد هو الدم و القيح من فروج الزواني في النار.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و الترمذي و النسائي و ابن أبي الدنيا في صفة النار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو نعيم في الحلية و صححه و ابن مردويه و البيهقي في البعث و النشور عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله:
{وَ يُسْقى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى: {وَ سُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} و قال: {وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ}.
و في تفسير القمي في الآية قال: قال: يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شرب تقطعت أمعاؤه و مزقت تحت قدميه و إنه ليخرج من أحدهم مثل الوادي صديد و قيح (الحديث).
و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): العنيد المعرض عن الحق.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ١٩ الی ٣٤]
{أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ١٩ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ ٢٠وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اَللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ٢١ وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٢٢ وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ٢٣أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ ٢٤تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٥وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ٢٦يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ ٢٧أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ ٢٨جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ اَلْقَرَارُ ٢٩وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ ٣٠قُلْ لِعِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خِلاَلٌ ٣١اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهَارَ ٣٢وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ ٣٣وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ٣٤}
(بيان)
تشتمل الآيات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مرة بعد مرة بقوله: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ} {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً} {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً}.
يذكر تعالى بها أن الخلقة مبنية على الحق فهم سيبرزون جميعا فالذين ساروا بالحق و آمنوا بالحق و عملوا الحق ينالون السعادة و الجنة، و الذين اتبعوا الباطل و عبدوا الشيطان و أطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غرورا بظاهر عزتهم و قدرتهم لزمهم شقاء لازم و تبرأ منهم متبوعوهم من الجن و الإنس و لله العزة و الحمد.
ثم يذكر أن هذا التقسم إلى فريقين إنما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين: سلوك هدى و سلوك ضلال، و الذي يلزمه الهدى هو المؤمن و الذي يلزمه الضلال هو الظالم و القاضي بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء و له العزة و الحمد.
ثم يذكر بالأمم الماضية الهالكة و ما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة الله العزيز الحميد و يعاتب الإنسان بظلمه و كفره بالنعم الإلهية التي ملأت الوجود و إن تعدوها لا تحصوها.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ} المراد بالرؤية هو العلم القاطع، فإنه الصالح لأن يتعلق بكيفية خلق السماوات و الأرض دون الرؤية البصرية.
ثم الفعل الحق و يقابله الباطل هو الذي يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود أن كل واحد من الأنواع من أول تكونه متوجه إلى غاية مؤجلة لا بغية له دون أن يصل إليها ثم البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته و يصلح به في حدوثه و بقائه كالعناصر الأرضية التي ينتفع بها النبات، و النبات الذي ينتفع به الحيوان و هكذا قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: الدخان: ٣٩. و قال: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا}: ص: ٢٧.
فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة و تنال غاية بعد غاية حتى تتوقف في غاية لا غاية بعدها، و ذلك رجوعها إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىَ}: النجم: ٤٢.
و بالجملة الفعل إنما يكون فعلا حقا إذا كان له أمر يقصده الفاعل بفعله و غاية يسلك بالفعل إليها، و أما إذا كان فعلا لا يقصد به إلا نفسه من غير أن يكون هناك غرض مطلوب فهو الفعل الباطل، و إذا كان الفعل الباطل ذا نظام و ترتيب فهو الذي يسمى لعبا كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة لا غاية لهم وراءها و لا أن لهم هما إلا إيجاد ما تخيلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك.
و فعله تعالى ملازم للحق مصاحب له فخلق السماوات و الأرض يخلف عالما باقيا بعد زواله، و لو لم يكن كذلك كان باطلا لا أثر له و لا خلف يخلفه، و كان العالم المشهود بما فيه من النظام البديع لعبا منه سبحانه اتخذه لحاجة منه إليه كالتنفس من كرب و سأمة و التفرج من هم أو التخلص من وحشة وحدة و نحو ذلك و هو سبحانه العزيز الحميد لا تمسه حاجة و لا يذله فقر و فاقة.
و بما مر يظهر أن الباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للمصاحبة و أن قول بعضهم: إن الباء للسببية أو الآلة و إن المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق ليس على ما ينبغي.
قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي بشاق صعب و الخطاب لعامة البشر بجعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثالا لهم يمثلون به لأن الخطاب متوجه إليه في قوله قبل و بعد: {أَ لَمْ تَرَ} {وَ مَا ذَلِكَ}.
قد تقدم أن كون الخلقة بالحق هو مقتضى كونه تعالى عزيزا غنيا بالذات إذ لو لم يقتض غناه ذلك و أمكن صدور اللعب منه تعالى و كان هذا الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعبا لا يقصد به إلا حدوث و فناء كان ذلك لشوق خيالي منه إليه و حاجة داخلية كتنفيس كرب و تفريج هم أو أنس عن وحشة و سأمة و نحو ذلك و غناه تعالى بالذات يدفع ذلك.
و لعل هذه النكتة هي التي أوجبت تعقيب قوله: {أَنَّ اَللَّهَ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} بقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} إلخ فقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} إلخ، في موضع البيان لما تقدمه و المعنى أ لم تعلم أن الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزة منه و غنى و أنه إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك عليه تعالى بعزيز و هو الله عز اسمه له الأسماء الحسنى و كل العزة و الكبرياء.
و بهذا يظهر أن وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله: {عَلَى اَللَّهِ} للدلالة على الحجة و أن عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عز اسمه.
فإن قلت: لو كان الإتيان بقوله: {إِنْ يَشَأْ} إلخ، للدلالة على غناه المطلق و عدم كونه لاعبا بالخلق لكان الأنسب الاقتصار على قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} و ترك قوله: {وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} فإن إذهاب القديم و الإتيان بجديد لا ينفي اللعب لجواز أن يكون نفس إذهاب بعض و إتيان بعض لعبا.
قلت: هذا كذلك لو قيل: إن يشأ يذهب جميع الخلق و يأت بخلق جديد و لكن لما قيل: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} إلخ و الخطاب لعامة البشر أو لأمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقط أو للموجودين في عصره كان من اللازم أن يعقبه بقوله: {وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} فإن هذا الخلق المشهود بما بين أجزائه من الارتباط و التعلق لا يتم الغرض منه إلا بهذه الصفة الموجودة و التركب و التآلف الخاص، و لو أذهب الناس على بقاء من السماوات و الأرض بحالها الحاضرة كان ذلك باطلا و لعبا من جهة أخرى.
و بعبارة أخرى إذهاب الإنسان فقط من غير إتيان بخلق جديد على إبقاء لسائر الخلق المشهود لعب باطل كما أن إذهاب الخلق من أصله من غير غاية مترتبة لعب باطل، و إنما الحق الذي يكشف عن غناه تعالى أن يذهب قوما و يأتي بآخرين و هو الذي تذكره الآية الكريمة فافهم ذلك.
قوله تعالى: {وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} إلى آخر الآية، البروز هو الخروج إلى البراز بفتح الباء و هو الفضاء يقال: برز إليه إذا خرج إليه بحيث لا يحجبه عنه حاجب، و منه المبارزة و البراز كخروج المقاتل من الصف إلى كفئه من العدو.
و التبع بفتحتين جمع تابع كخدم و خادم، و قيل: اسم جمع، و قيل: مصدر جيء به للمبالغة، و الإغناء الإفادة و ضمن معنى الدفع و لذا عدي بعن كما قيل، و الجزع و الصبر متقابلان، و المحيص اسم مكان من حاص يحيص حيصا و حيوصا إذا زال عن المكروه كما في المجمع فالمحيص هو المكان الذي يزول إليه الإنسان عن المكروه و الشدة.
و قوله: {وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً} أي ظهروا له تعالى ظهورا لا يحجبهم عنه حاجب و هذا بالنسبة إلى أنفسهم حيث كانوا يتوهمون في الدنيا أن ربهم في غيبة عنهم و هم غائبون عنه، فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر متوهم و شاهدوا أن لا حاجب هناك يحجبهم عنه، و أما هو تعالى فلا ساتر يستر عنه في دنيا و لا آخرة، قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَخْفىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ}: آل عمران: ٥.
و يمكن أن تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب الأعمال و تعلق المشيئة الإلهية بانقطاع الأعمال و إنجاز الجزاء الموعود كما قال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ}: الرحمن: ٣١.
و قوله: {فَقَالَ اَلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا} إلى قوله {مِنْ شَيْءٍ} تخاصم بين الكفار يوم القيامة على ما يعطيه السياق فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لأوليائهم من الكفار، و المستكبرون هم أولياؤهم المتبوعون أولوا الطول و القوة المستنكفون عن الإيمان بالله و آياته.
و المعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين مطيعين من غير أن نسألكم حجة على ما تأمروننا به فهل أنتم مفيدون لنا اليوم تدفعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قضي علينا.
و على هذا فلفظة «من» في قوله {مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ} للبيان، و في قوله {مِنْ شَيْءٍ} زائدة للتأكيد كما في قولنا: ما جاءني من أحد، و النفي و الاستفهام متقاربان حكما و لا دليل على امتناع تقدم البيان على المبين و خاصة مع اتصالهما و عدم الفصل بينهما.
و قوله: {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اَللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} ظاهر السياق أن المراد بالهداية هنا الهداية إلى طريق التخلص من العذاب و يمكن أن يكون المراد بها الهداية إلى الدين الحق في الدنيا، و المآل واحد لما بين الدنيا و الآخرة من التطابق، و لا يبرز في الأخرى إلا ما كان كامنا في الأولى، قال تعالى حكاية عن أهل الجنة: {وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا
لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاَ أَنْ هَدَانَا اَللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}: الأعراف: ٤٣ مزجوا الهدايتين بعضا ببعض كما هو ظاهر.
و قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَ جَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} سواء و الاستواء و التساوي واحد، و سواء خبر لمبتدإ محذوف و الجملة الاستفهامية بيان لذلك، و قوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} بيان آخر للتساوي، و المعنى الأمران متساويان علينا و بالنسبة إلينا و هما الجزع و الصبر لا مهرب لنا عن العذاب اللازم.
قوله تعالى: {وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ} إلى آخر الآية في المجمع الإصراخ الإغاثة بإجابة الصارخ و يقال: استصرخني فلان فأصرخته أي استغاث بي فأغثته. انتهى.
و هذا كلام جامع يلقيه الشيطان يوم القيامة إلى الظالمين يبين فيه موقعه منهم و ينبئ أهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة التي كانت بينه و بينهم في الدنيا و قد وعد الله سبحانه أنه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون، و أن الحق سيظهر يوم القيامة عن قبل كل من كان له من قبله خفاء أو التباس، فالملائكة يتبرءون من شركهم و الجن و القرناء من الشياطين يطردونهم و الأصنام و الآلهة التي اتخذوها أربابا من دون الله يكفرون بشركهم، و كبراؤهم و أئمة الضلال لا يستجيبون لهم، و المجرمون أنفسهم يعترفون بضلالهم و جرمهم، كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفية على المتتبع المتدبر فيها.
و الشيطان و إن كان بمعنى الشرير و ربما أطلق في كلامه تعالى على كل شرير من الجن و الإنس كقوله: {وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ}: الأنعام: ١١٢ لكن المراد به في الآية الشيطان الذي هو مصدر كل غواية و ضلال في بني آدم و هو إبليس فإن ظاهر السياق أنه يخاطب بكلامه هذا عامة الظالمين من أهل الجمع و يعترف أنه كان يدعوهم إلى الشرك، و قد نص القرآن على أن الذي له هذا الشأن هو إبليس و قد ادعى هو ذلك و لم يرد الله ذلك عليه كما في قوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ}- إلى أن قال - {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}: ص: ٨٥.
و أما ذريته و قبيله الذين يذكرهم القرآن بقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأعراف: ٢٧ و قوله: {أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ}: الكهف: ٥٠فولاية الواحد منهم إما لبعض الناس دون بعض أو في بعض الأعمال دون بعض و أما ولاية على نحو العونية فهو العون، و الأصل الذي ينتهي إليه أمر الإضلال و الإغواء هو إبليس.
فهذا القائل: {إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ} إلخ هو إبليس يريد بكلامه رد اللوم على فعل المعاصي إليهم و التبري من شركهم فقوله: {إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي وعدكم الله وعدا حققه الوقوع و صدقته المشاهدة من البعث و الجمع و الحساب و فصل القضاء و الجنة و النار، و وعدتكم أنا أن لا بعث و لا حساب و لا جنة و لا نار و لم أف بما وعدت حيث ظهر خلاف ما وعدت. كذا ذكره المفسرون.
و على هذا فالموعود جميع ما يرجع إلى المعاد إثباتا و نفيا أثبته الله سبحانه و نفاه إبليس، و إخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب و عدم الوقوع من إطلاق الملزوم و إرادة اللازم.
و من الممكن - بل هو الوجه - أن يشمل الوعد ما يترتب على الإيمان و الشرك في الدنيا و الآخرة جميعا لأنهما متطابقتان فقد وعد الله أهل الإيمان حياة طيبة و عيشة سعيدة، و أهل الشرك المعرضين عن ذكره معيشة ضنكا و تحرجا في صدورهم و عذابا في قلوبهم في الدنيا، و وعد الجميع بعثا و حسابا و جنة و نارا في الآخرة.
و وعد إبليس أولياءه بالأهواء اللذيذة و الآمال الطويلة و أنساهم الموت و صرفهم عن البعث و الحساب و خوفهم الفقر و الذلة و ملامة الناس، و كان مفتاحه في جميع ذلك إغفالهم عن مقام ربهم و تزيين ما بين أيديهم من الأسباب مستقلة بالتأثير خالقة لآثارها و تصوير نفوسهم لهم في صورة الاستقلال مهيمنة على سائر الأسباب تدبرها كيف شاءت فتغريهم على الاعتماد بأنفسهم دون الله و تسخير الأسباب في سبيل الآمال و الأماني.
و بالجملة وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا و الآخرة بما وفى لهم فيه، و دعاهم إبليس من طريق الإغفال و التزيين إلى الأوهام و الأماني و هي بين ما لا يناله الإنسان قطعا و ما إذا ناله وجده غير ما كان يظنه، فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا
و أما الآخرة فينسيه شئونها كما تقدم.
و قوله: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} السلطان كما ذكره الراغب هو السلاطة و هو التمكن من القهر، و تسمى الحجة أيضا سلطانا لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها من النتائج، و كثيرا ما يطلق و يراد به ذو السلطان كالملك و غيره.
و الظاهر أن المراد ما هو أعم من السلطة الصورية و المعنوية فالمعنى و ما كان في الدنيا لي عليكم من تسلط لا من جهة أشخاصكم و أعيانكم فأجبركم على معصية الله بسلب اختياركم و تحميل إرادتي عليكم، و لا من جهة عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك كيفما شئت فتضطر عقولكم لقبوله و تطيعها نفوسكم فيما تأمرها به.
و الظاهر أيضا أن يكون الاستثناء في قوله: {إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ} منقطعا و المعنى لكن دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لي، و دعوته الناس إلى الشرك و المعصية و إن كانت بإذن الله لكنها لم تكن تسليطا فإن الدعوة إلى فعل ليست تسلطا من الداعي على فعل المدعو و إن كان نوع تسلط على نفس الدعوة، و من الدليل عليه قوله تعالى فيما يأذن له {وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} إلى أن قال {وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفىَ بِرَبِّكَ وَكِيلاً}: إسراء: ٦٥.
و من هنا يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون الاستثناء متصلا إذ قال: إن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل و تارة تكون بتقوية الداعية في قلبه، و ذلك بإلقاء الوسواس إليه، و هذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال: ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب و نحوه.
وجه السقوط: أن عدم كون مجرد الدعوة سلطانا و تمكنا من القهر على المدعو بديهي لا يقبل التشكيك فعده من أنواع التسلط مما لا يصغي إليه.
نعم: ربما انبعثت من المدعو ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة و سلط الداعي بدعوته على نفسه، لكنه تسليط من المدعو لا تسلط من الداعي و بعبارة ـ
أخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه فيملكها الداعي و ليس الداعي يملكها عليه من نفسه، و إبليس إنما ينفي التسلط الذي يملكه من نفسه لا ما يسلطونه على أنفسهم بالانقياد بقرينة قوله: {فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ}.
و هذا هو التسلط الذي يثبته الله سبحانه له في قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىَ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}: النحل: ١٠٠أو قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ}: الحجر: ٤٢ و الآيات كما ترى ظاهرة في أن سلطانه متفرع على الاتباع و التولي و الإشراك لا بالعكس.
و لانتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج قوله بعد: {فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ} و الفاء للتفريع أي إذا لم يكن لي عليكم سلطان بوجه من الوجوه - كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي و التأكيد بمن في قوله: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} - فلا يعود إلى شيء من اللوم العائد إليكم من جهة الشرك و المعصية فلا يحق لكم أن تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا أنفسكم لأن لكم السلطان على عملكم.
و قوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي ما أنا بمغيثكم و منجيكم و ما أنتم بمغيثي و منجي فلا أنا شافع لكم و لا أنتم شافعون لي اليوم.
و قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي إني تبرأت من إشراككم إياي في الدنيا، و المراد بالإشراك الإشراك في الطاعة دون الإشراك في العبادة كما يظهر من قوله تعالى خطابا لأهل الجمع: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي}: يس: ٦١.
و هذا الكلام منه تبر من شركهم كما حكى سبحانه تبري كل متبوع باطل من تابعه يوم القيامة و هو إظهار أن إشراكهم إياه بالله في الدنيا لم يكن إلا وهما سرابيا قال تعالى: {وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}: فاطر: ١٤ و قال: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنَّا}: البقرة: ١٦٧ و قال: {قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}: القصص: ٦٤.
و قوله: {إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من تمام كلام إبليس على ما يعطيه السياق يسجل عليهم العذاب الأليم لأنهم ظالمون ظلما لا يرجع إلا إلى أنفسهم.
و ظاهر السياق أن قوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} كناية عن انتفاء الرابطة بينه و بين تابعيه كما يشير تعالى إليه في مواضع أخرى بمثل قوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: الأنعام: ٩٤ و قوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: يونس: ٢٨.
و ذلك لظهور أنه لو لم يكن كناية لكان قوله: {وَ مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} مستدركا مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فلا هم يتوهمون أنهم قادرون على إغاثة إبليس و الشفاعة له و لا هو يتوهم ذلك و لا المقام يوهم ذلك فهو يقول: {فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ} لأن الرابطة مقطوعة بيني و بينكم لا ينفعكم أني كنت متبوعكم و لا ينفعني أنكم كنتم أتباعي إني تبرأت من شرككم فلست بشريك له تعالى، و إنما تبرأت لأنكم ظالمون في أنفسكم و الظالمون لهم عذاب أليم لا مسوغ يومئذ للحماية عنهم و التقرب منهم.
و هذا السياق كما ترى يشهد أن تابعي إبليس يلومونه يوم القيامة على ما أصابهم من المصيبة على اتباعه متوقعين منه أن يشاركهم في مصابهم بنحو، و هو يرد عليهم ذلك بأنه لا رابط بينه و بينهم فلا يلحق لومهم إلا بأنفسهم و لا يسعه أن يماسهم و يقترب منهم لأنه يخاف العذاب الأليم الذي هيئ للظالمين و هم ظالمون، فهو قريب المعنى من قوله تعالى: {كَمَثَلِ اَلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ}: الحشر: ١٦.
و لعله من هنا قال بعضهم إن المراد بقوله: {إِنِّي كَفَرْتُ} إلخ... كفره في الدنيا على أن يكون {مِنْ قَبْلُ} متعلقا بقوله: {كَفَرْتُ} فقط، أو به و بقوله: {أَشْرَكْتُمُونِ} على سبيل التنازع.
و بالجملة المطلوب العمدة في الآية أن الإنسان هو المسئول عن عمله لأن السلطان له لا لغيره فلا يلومن إلا نفسه، و أما رابطة التابعية و المتبوعية فهي وهمية لا حقيقة لها و سيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عند ما يتبرأ منه الشيطان و يعيد لائمته إلى نفسه كما
بين في الآية السابقة أن الرابطة بين الضعفاء و المستكبرين وهمية لا تغني عنهم شيئا عند ما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف الحقائق.
و للمفسرين في فقرات الآية أقوال شتى مختلفة أغمضنا عن إيرادها، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.
و في الآية دلالة واضحة على أن للإنسان سلطانا على عمله هو الذي يوجب ارتباط الجزاء به و يسلبه عن غيره، و هو الذي يعيد اللائمة إليه لا إلى غيره، و أما كونه مستقلا بهذا السلطان فلا دلالة فيها على ذلك البتة، و قد تكلمنا في ذلك في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦.
قوله تعالى: {وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} إلخ بيان ما ينتهي إليه حال السعداء من المؤمنين، و في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} مقابلة حالهم من انعكاس السلام و التحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال غيرهم المذكورين في الآيتين السابقتين من الخصام و تجبيه بعضهم بعضا بالكفر و التبري و الإيئاس.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} ذكروا أن {كَلِمَةً} بدل اشتمال من {مَثَلاً} و {كَشَجَرَةٍ} صفة بعد صفة لقوله {كَلِمَةً} أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي كشجرة، و قيل: إن {كَلِمَةً} مفعول أول متأخر لضرب و {مَثَلاً} مفعوله الثاني قدم لدفع محذور الفصل بين {كَلِمَةً} و صفتها و هي {كَشَجَرَةٍ} و التقدير ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة إلخ... مثلا.
و قيل: {ضَرَبَ} متعد لواحد و {كَلِمَةً} منصوب بفعل مقدر كجعل و اتخذ و التقدير ضرب الله مثلا جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة إلخ، و أظن أن هذا أحسن الوجوه لو وجه بكون {كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلخ عطف بيان لقوله: {ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً} من بيان الجملة للجملة، و يتعين حينئذ نصب {كَلِمَةً} بمقدر هو جعل أو اتخذ لأن المدلول أنه مثل الكلمة بالشجرة و شبهها بها و هو معنى قولنا: اتخذ كلمة طيبة كشجرة إلخ.
و قوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي مرتكز في الأرض ضارب بعروقه فيها، و قوله: {وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ} أي ما يتفرع على ذلك الأصل من أغصانها في جهة العلو فكل ما
علا و أظل سماء، و قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي تثمر ثمرها المأكول كل زمان بإذن الله، و هذا نهاية ما تفيده شجرة من البركات.
و اختلفوا في الآية أولا في المراد من الكلمة الطيبة فقيل: هي شهادة أن لا إله إلا الله، و قيل: الإيمان، و قيل: القرآن، و قيل: مطلق التسبيح و التنزيه، و قيل: الثناء على الله مطلقا، و قيل: كل كلمة حسنة، و قيل: جميع الطاعات، و قيل: المؤمن.
و ثانيا في المراد من الشجرة الطيبة فقيل: النخلة و هو قول الأكثرين، و قيل: شجرة جوز الهند، و قيل: كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين و العنب و الرمان، و قيل: شجرة صفتها ما وصفه الله و إن لم تكن موجودة بالفعل.
ثم اختلفوا في المراد بالحين فقيل: شهران، و قيل: ستة أشهر، و قيل: سنة كاملة، و قيل: كل غداة و عشي، و قيل: جميع الأوقات.
و الاشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف الإنسان عما يهمه من البحث عن معارف كتاب الله و الحصول على مقاصد الآيات الكريمة و أغراضها.
و الذي يعطيه التدبر في الآيات أن المراد بالكلمة الطيبة التي شبهت بشجرة طيبة من صفتها كذا و كذا هو الاعتقاد الحق الثابت فإنه تعالى يقول بعد و هو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} الآية و القول هي الكلمة و لا كل كلمة بما هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد و عزم يستقيم عليه الإنسان و لا يزيغ عنه عملا.
و قد تعرض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}: الأحقاف: ١٣ و قوله: {إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا}: حم السجدة: ٣٠و قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}: فاطر: ١٠.
و هذا القول و الكلمة الطيبة هو الذي يرتب تعالى عليه تثبيته في الدنيا و الآخرة أهله و هم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلال الظالمين و يقابله بوجه آخر بشأن المشركين، و بهذا يظهر أن المراد بالممثل هو كلمة التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله حق شهادته.
فالقول بالوحدانية و الاستقامة عليه هو حق القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كل تغير و زوال و بطلان و هو الله عز اسمه أو أرض الحقائق، و له فروع نشأت و نمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية و أخلاق زاكية و أعمال صالحة يحيي بها المؤمن حياته الطيبة و يعمر بها العالم الإنساني حق عمارته و هي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحق و العمل الصالح.
و الكمل من المؤمنين و هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فتحققوا بهذا القول الثابت و الكلمة الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات وجودهم و منعمين ببركاتهم.
و كذلك كل كلمة حقة و كل عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت و فروع رشيدة و ثمرات طيبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ النكرة غير أن المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرع عليه سائر الاعتقادات الحقة، و ينمو عليه الأخلاق الزاكية و تنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثم ختم الله سبحانه الآية بقوله: {وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليتذكر به المتذكر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد و الاستقامة عليها.
قوله تعالى: {وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} الاجتثاث الاقتلاع، يقال: جثته و اجتثته أي قلعته و اقتلعته، و الجث بالضم ما ارتفع من الأرض كالأكمة، و جثة الشيء شخصه الناتئ. كذا في المفردات.
و الكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيبة و لذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما يقابل ما قاله في الكلمة الطيبة و كذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل: هي الحنظلة، و قيل: الكشوث و هو نبت يلتف على الشوك و الشجر لا أصل له في الأرض و لا ورق عليه، و قيل: شجرة الثوم، و قيل: شجرة الشوك، و قيل: الطحلب، و قيل: الكمأة، و قيل: كل شجرة لا تطيب لها ثمرة.
و قد عرفت حال هذه الاختلافات في الآية السابقة، و عرفت أيضا ما يعطيه التدبر في معنى الكلمة الطيبة و ما مثلت به و يجري ما يقابله في الكلمة الخبيثة و ما
مثلت به حرفا بحرف فإنما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من فوق الأرض ليس لها أصل ثابت و ما لها من قرار، و إذ كانت خبيثة فلا أثر لها إلا الضر و الشر.
قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ} إلى آخر الآية الظاهر أن {بِالْقَوْلِ} متعلق بقوله: {يُثَبِّتُ} لا بقوله: {آمَنُوا}، و الباء للآلة أو السببية لا للتعدية، و أن قوله: {فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} متعلق أيضا بقوله: {يُثَبِّتُ} لا بقوله: {اَلثَّابِتِ}.
فيعود المعنى إلى أن الذين آمنوا إذا ثبتوا على إيمانهم و استقاموا ثبتهم الله عليه في الدنيا و الآخرة، و لو لا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من أنفسهم شيئا و لم يستفيدوا شيئا من فوائده فإليه تعالى يرجع الأمر كله، فقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ}، في باب الهداية يوازن قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: الصف - ٥ في باب الإضلال.
غير أن بين البابين فرقا و هو أن الهدى يبتدئ من الله سبحانه و يترتب عليه اهتداء العبد و الضلال يبتدئ من العبد بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلال على الضلال، كما قال: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦ و قد تكاثرت الآيات القرآنية أن الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع.
و توضيح المقام أن الله سبحانه خلق الإنسان على فطرة سليمة ركز فيها معرفة ربوبيته و ألهمها فجورها و تقواها، و هذه هداية فطرية أولية ثم أيدها بالدعوة الدينية التي قام بها أنبياؤه و رسله.
ثم إن الإنسان لو جرى على سلامة فطرته و اشتاق إلى المعرفة و العمل الصالح هداه الله فاهتدى العبد للإيمان عن هدايته تعالى، و أما جريه على سلامة الفطرة فلو سمي اهتداء فإنما هو اهتداء متفرع على السلامة الفطرية لو سميت هداية.
و لو انحرف الإنسان عن صراط الفطرة بسوء اختياره و جهل مقام ربه و أخلد إلى الأرض و اتبع الهوى و عاند الحق فهو ضلال منه غير مسبوق بإضلال من الله و حاشاه سبحانه لكنه يستعقب إضلاله عن الطريق مجازاة و تثبيته على ما هو
عليه بقطع الرحمة منه و سلب التوفيق عنه و هذا إضلال مسبوق بضلالة من نفسه بسوء اختياره و إزاغة له عن زيغ منه.
و من هنا وجه اختلاف السياق في الآيتين أما قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فقد فرض فيه زيغ منهم ثم أزاغه منه تعالى و أما قوله: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ} فقد فرض فيه إيمان ثابت على التثبيت و هو في نفسه يستلزم هداية منه و اهتداء منهم ثم أضيف إلى ذلك القول الثابت و هو ثباتهم و استقامتهم بحسن اختيارهم على ما آمنوا به و هو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم بسبب ذاك القول الثابت و حفظهم من الزيغ و الزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا و الآخرة و هذا هداية منه تعالى غير مسبوقة باهتداء من عند أنفسهم يرتبط بها فافهم ذلك.
و كيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل بمنزلة إحكام الشجرة الطيبة من جهة ثبوت أصلها في الأرض، و إذا ثبت أصل الشجرة نمت و تفرعت بالفروع و أتت بالأثمار في كل حين و الدنيا و الآخرة تحاذيان: {كُلَّ حِينٍ} فإن الدنيا و الآخرة تشملان جميع الأحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الآية.
و قيل: إن المعنى يثبت الله الذين آمنوا و يقرهم في كرامته و ثوابه بالقول الثابت الذي وجد منهم و هو كلمة الإيمان لأنه ثابت بالحجج و الأدلة فالمراد بتثبيتهم تقريبهم منه و إسكانهم الجنة و بثبوت قولهم تأيده بالحجة و البرهان، و فيه أنه تقييد من غير مقيد.
و قيل: المعنى أنه يثبتهم بالتمكين في الأرض و النصرة و الفتح و الغلبة في الدنيا و إسكان الجنة في الآخرة. و هو بعيد من السياق.
و قوله: {وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ} ظاهر المقابلة بين الظالمين و الذين آمنوا في الجملة السابقة أن المراد بهم أهل الكفر بالله و بآياته على أنه تعالى فسر الظالمين بقول مطلق في بعض كلامه بما يقرب منه إذ قال: {أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}: الأعراف: ٤٥.
و الجملة كالنتيجة المستخرجة من المثل الثاني المذكور: {وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} و المعنى أن الله يضل أهل
الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فلا يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا و لا إلى نعمة باقية و رضوان من الله في الآخرة فلا يوجد عندهم إن كشف عن قلوبهم إلا الشك و التردد و القلق و الاضطراب و الأسى و الأسف و الحسرة.
و قوله: {وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي يجري تثبيت هؤلاء و إضلال أولئك على ما تقتضيه مشيته لا مانع له و لا دافع فلا حائل بين مشيته و فعله.
و يظهر من ذلك أن الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلاء و إضلال أولئك و هو فاعلهما لا محالة فمن القضاء المحتوم سعادة المؤمن و شقاء الكافر و قد وردت به الرواية.
و وقوع لفظ الجلالة في قوله: {وَ يُضِلُّ اَللَّهُ} و قوله: {وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ} من وقوع الظاهر موقع المضمر و يدل على فخامة الأمر و مهابة الموقف كما قيل.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ} قال في المجمع: الإحلال وضع الشيء في محل إما بمجاورة إن كان من قبيل الأجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل الأعراض، و البوار الهلاك يقال: بار الشيء يبور بورا إذا هلك و رجل بور أي هالك و قوم بور أيضا. انتهى.
و قال الراغب: البوار فرط الكساد و لما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل: كسد حتى فسد، عبر بالبوار عن الهلاك يقال: بار الشيء يبور بورا و بؤرا قال عز و جل: {تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} انتهى.
و الآية تذكر حال أئمة الكفر و رؤساء الضلال في ظلمهم و كفرانهم نعمة الله سبحانه التي أحاطت بهم من كل جهة بدل أن يشكروها و يؤمنوا بربهم، و قد ذكر قبل كيفية خلقه تعالى السماوات و الأرض على غنى منه و هي نعمة، ثم ذكر كلمة الحق التي يدعو إليها و ما لها من الآثار الثابتة الطيبة و هي نعمة.
و الآية مطلقة لا دليل على تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش و إن كان الخطاب فيها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كان في ذيلها مثل قوله: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ} لظهور أن ذلك لا يوجب تقييدا في الآية مع إطلاق مضمونها و شمولها للطواغيت من الأمم و ما صنعوا بأقوامهم.
فقوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً} يذكر حال أئمة الكفر و رؤساء
الضلال من الأمم السابقة و من هذه الأمة و الدليل على اختصاصه بهم قوله: {وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ} المشعر بكونهم نافذي الكلمة مطاعين في قومهم فهم الأئمة و الرؤساء.
و المراد بتبديلهم نعمة الله كفرا تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفرا ففي الجملة مضاف محذوف و التقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفرا، و يمكن أن يراد تبديل نفس النعمة كفرا بنوع من التجوز، و نظير الآية في هذه العناية قوله تعالى: {وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}: الواقعة: ٨٢.
و ذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم إحلال أنفسهم فيها لأنهم أئمة الضلال ضلوا ثم أضلوا و التبعة تبعة الضلال، و نظير الآية في هذا المعنى قوله في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ}: هود: ٩٨.
و المعنى أ لم تنظر إلى الأئمة و الرؤساء من الأمم السابقة و من أمتك الذين بدلوا شكر نعمة الله كفرا و اتبعتهم قومهم فحلوا و أحلوا قومهم دار الهلاك و هو الشقاء و النار.
قوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَ بِئْسَ اَلْقَرَارُ} بيان لدار البوار، و احتمال بعضهم أن يكون: {جَهَنَّمَ} منصوبا بالاشتغال و التقدير يصلون جهنم يصلونها و الجملة مستأنفة خال عن الوجه لأن النصب مرجوح و لا نكتة تستوجب الاستئناف.
و من هنا يظهر فساد قول من قال إن الآيات مدنية و المراد بالذين كفروا هم عظماء مكة و صناديد قريش الذين جمعوا الجموع على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حاربوه ببدر فقتلوا و أحلوا قومهم دار البوار.
و ذلك أنك عرفت من معنى الآية أنها مطلقة و لا موجب لتخصيصها بقتلى بدر من الكفار أصلا، بل الآية تشمل كل إمام ضلال أحل قومه دار البوار ممن تقدم و تأخر، و المراد بإحلال دار البوار إقرارهم في شقاء النار و إن لم يقتلوا و لا ماتوا و لا دخلوا النار بعد.
على أن ظاهر الآية التالية {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ} أن ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا المذكورين في هذه الآية و لازمه كون خطاب قل تمتعوا خطابا للباقين منهم و هم الذين أسلموا يوم الفتح و هو إيعاد بشقاء قطعي منجز من غير استثناء.
قوله تعالى: {وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ} الأنداد جمع ند و هو المثل و هم الآلهة الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من الملائكة و الجن و الإنس.
و إنما جعلوها أندادا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سموهم آلهة و أربابا و نسبوا إليهم تدبير أمر العالم ثم عبدوهم خوفا و طمعا مع أن الأمر و الخلق كله لله و قد اعترفت بذلك فطرتهم و أيد الله ذلك بما ألهمه أنبياءه و رسله من الآيات و الحجج الدالة على وحدانيته.
فهم كانوا على بصيرة من أمر التوحيد لم يتخذوا الأنداد عن غفلة أو خطإ بل عمدوا إلى ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا و ليستعبدوا الناس و يستدروهم بإضلالهم عن سبيل الله، و لذلك علل اتخاذهم الأنداد بقوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يوعدهم بالنار التي إليها مرجعهم لا مرجع لهم سواها فقال: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنَّارِ}.
و كان من طبع الكلام أن يقال لهم: اتخذوا الأنداد أو أضلوا عن سبيل الله فإن مصيركم إلى النار، لكن بدل من قوله: {تَمَتَّعُوا} ليصرح بغرضهم الفاسد الذي كانوا يخفونه ليكون أبلغ في فضاحتهم.
قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خِلاَلٌ} لما توعدهم على لسان رسوله بعذاب يوم القيامة لإضلالهم الناس عن سبيل الله، أمره أن يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام سبيله من قبل أن يأتي يوم القيامة فلا يسعهم تدارك ما فات منهم من السعادة بشيء من الأسباب الدائرة بينهم لذلك و هي ترجع إلى أحد شيئين: إما المعارضة بإعطاء شيء و أخذ ما يعادله و هو البيع بالمعنى الأعم، و إما الخلة و المحبة، و لا أثر من هذه الأسباب في يوم محض للحساب و الجزاء فإن ذلك شأن يوم القيامة لا شأن له دون ذلك.
و من هنا يظهر أن قوله: {يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا} بيان لسبيل الله و قد اكتفى بهذين الركنين اللذين بهما يلحق سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة الإنسان الدنيوية فيما بينه و بين ربه و ما بينه و بين سائر أفراد نوعه.
و قوله: {يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُنْفِقُوا} إلخ مجزومان لوقوعهما في جواب الأمر و مقول القول محذوف لدلالة الفعلين عليه، و التقدير: قل: أقيموا الصلاة و أنفقوا «إلخ» يقيموا الصلاة و ينفقوا «إلخ».
و الإشكال فيه بأن المجزوم في جواب الأمر يجب أن يكون مترتبا عليه و لا يلزم من الأمر بالصلاة و الإنفاق أن يطيعوا ذلك.
ساقط فإن اللازم فيه أن يكون الجواب مما يقتضيه الأمر بوجه، و أمر عباده المؤمنين و هم عباد مؤمنون مما يقتضي الطاعة بلا إشكال.
و الإنفاق المذكور في الآية مطلق الإنفاق في سبيل الله فإن السورة مكية و لم تنزل آية الزكاة بعد، و المراد بالإنفاق سرا و علانية أن يجري الإنفاق على ما يقتضيه الأدب الديني الحق فيسر به فيما يحسن الإسرار و يعلن فيما يحسن الإعلان، و المطلوب بذلك على أي حال الإتيان بما يصلح ما في مظنة الفساد و يقيم أود المجتمع من أمور المسلمين.
و لا ينافي ما في هذه الآية من نفي المخالة قوله تعالى: {اَلْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ}: الزخرف: ٦٧ فإن النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص المطلق فتخصص هذه الآية بتلك الآية و يتحصل المراد من الآيتين أن كل خلة من غير جهة التقوى ترتفع يوم القيامة، و أما الخلة التي من جهتها و هي الخلة في ذات الله فإنها تثبت و تنفع فنفي الخلال مطلقا ثم إثبات بعضه في الآيتين نظير نفي الشفاعة مطلقا في قوله: {وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ}: البقرة: ٢٥٤ ثم إثباتها فيما كان بإذن الله كما في قوله: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ}: الزخرف: ٨٦.
و ما قيل في نفي التنافي: إن المراد بالخلال في الآية النافية المخالة التي هي من الأسباب الدنيوية لتدارك ما فات بخلاف ما في الآية المثبتة، و كذا ما قيل إن المراد بالمخالة المنفية هي التي تكون بحسب ميل الطبع و رغبة النفس بخلاف المخالة المثبتة فإنها التي تكون في ذات الله، مرجعهما بالحقيقة إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ} إلخ، لما ذكر سبحانه جعلهم لله أندادا لإضلال الناس عن سبيل الله و أوعد عليه أورد في هذه الآية إلى تمام
ثلاث آيات الحجة على اختصاص الربوبية بنفسه تعالى و تقدس من طريق اختصاص التدبير العام به من نظم الخلقة و إنزال الماء و إخراج الرزق و تسخير البحار الفلك و الأنهار و الشمس و القمر و الليل و النهار.
و أشار في آخر الآيات إلى أنها و ما لا تحصى من غيرها نعمة منه تعالى للإنسان لأن البيان في هذه السورة - كما تقدمت الإشارة إليه يجري في ضوء الاسمين: العزيز الحميد.
فقوله: {اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ} إلخ، في معنى قولنا: فهو الرب وحده دون الذين جعلتموهم أندادا له.
و قوله: {وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} إلخ، المراد بالسماء جهة العلو و هو معناها اللغوي، و الماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه ينتهي الماء في الأرض الذي تعيش به ذوات الحياة من النبات و الحيوان.
قوله تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهَارَ} تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم و هي العبور بأنفسهم و أحمالهم و غير ذلك من غير أن ترسب في الماء أو تمتنع عن الحركة.
و أما قول بعضهم: تسخيرها لهم هو إقدارهم على صنعتها و استعمالها بإلهامهم طريق ذلك بعيد، فإن الظاهر من تسخير شيء للإنسان هو التصرف فيه بجعله موافقا لما يقصده من منافع نفسه دون التصرف في الإنسان نفسه بإلهام و نحوه.
و كان من طبع الكلام أن يقال: و سخر لكم البحر لتجري فيه الفلك بأمره و سخر لكم الأنهار غير أنه عكس، و قيل: و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره لكون الفلك من أوضح النعم البحرية و إن لم تنحصر فيها نعمه و لعل ذلك هو السبب في العكس، لأن المقام مقام عد النعمة و النعمة في الفلك أوضح و إن كانت في البحر أعظم.
و إسناد جريها في البحر إلى أمره تعالى مع كونه مستندا إلى الأسباب الطبيعية العاملة كالريح و البخار و سائر الأسباب، لكونه تعالى هو السبب المحيط الذي إليه ينتهي كل سبب.
و قوله: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهَارَ} و هي المياه الجارية في مختلف أقطار الأرض و تسخيرها هو تدليلها بحيث ينتفع بها الإنسان بالشرب و الغسل و إزالة الأوساخ و غير ذلك و يعيش بها الحيوان و النبات المسخران له.
قوله تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ} قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا، قال تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} و الدأب العادة المستمرة دائما على حالة، قال تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} أي كعادتهم التي يستمرون عليها. انتهى، و معنى الآية واضح.
قوله تعالى: {وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} السؤال هو الطلب و يفارقه أن السؤال إنما يكون ممن يعقل و الطلب أعم و إنما تنبه الإنسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فأظهر له أن يرفع ما حلت به من حاجة و كانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه و ربما توسل إليه بإشارة أو كتابة و سمي سؤالا حقيقة من غير تجوز.
و إذ كان الله سبحانه هو الذي يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شيء بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده و بقائه إلا بذيل جوده و كرمه سواء أقر به أو أنكره و هو تعالى أعلم بهم و بحاجاتهم ظاهرة و باطنة من أنفسهم كان كل من سواه عاكفا على باب جوده سائلا يسأله رفع ما حلت به من حاجة سواء أعطاه أو منعه و سواء أجابه في جميع ما سأل أو بعضه.
هذا هو حق السؤال و حقيقته يختص به تعالى لا يتعداه إلى غيره، و من السؤال ما هو لفظي كما تقدم ربما يسأل به الله سبحانه و ربما يسأل به غيره فهو تعالى مسئول يسأله كل شيء بحقيقة السؤال و يسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال اللفظي.
هذا بالنسبة إلى السؤال و أما بالنسبة إلى الإيتاء و هو الإعطاء فقد أطلق من غير أن يقيد باستثناء و نحوه فيدل على أنه ما من سؤال إلا و عنده إعطاء و هذه قرينة أن الخطاب للنوع كما يؤيده أيضا قوله ذيلا {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
و المعنى أن النوع الإنساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم إلا رفع الله حاجته
إما كلا أو بعضا و إن كان الفرد منه ربما احتاج و سأل و لم يقض حاجته.
و هذا المعنى هو الذي يؤيده قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}: البقرة: ١٨٦ فقد مر في تفسير الآية أنه تعالى لا يرد دعاء من دعاه إلا أن لا يكون دعاء حقيقة أو يكون دعاء إلا أنه ليس دعاءه بل دعاء غيره و الفرد من الإنسان ربما لم يواطئ لسانه قلبه أو لغا في دعائه لكن النوع بنوعيته لا يعرف هذرا و لا نفاقا و لا يعرف ربا غيره سبحانه فكلما مسته حاجة فإنه يسأله حقيقة و لا يسأله إلا من ربه فجميع أدعيته مستجابة و سؤالاته مؤتاة و حاجاته مقضية.
و قد ظهر مما تقدم أن {مِنْ} في قوله: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} ابتدائية تفيد أن الذي يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو بعضه كما في بعضها الآخر، و لو كانت من تبعيضية لأفادت أنه تعالى يؤتي في كل سؤال بعض المسئول و الواقع خلافه كما أنه لو قيل: و آتاكم كل ما سألتموه أفاد إيتاء الجميع و ليس كذلك و لو قيل: مما سألتموه أفاد أن من الجائز أن لا يستجاب بعض الأدعية و يرد بعض الأسئلة من أصله و الآية و هي في مقام الامتنان تأبى ذلك.
فبالجملة معنى الآية أن الله تعالى أعطى النوع الإنساني ما سأله فما من حاجة من حوائجه إلا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة.
و ربما قيل: إن تقدير الكلام: و آتاكم من كل ما سألتموه و ما لم تسألوه و هو مبني على كون المراد بالسؤال هو السؤال اللفظي و قد تقدم خلافه، و سياق الآية لا يساعد عليه.
و قوله: {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا و ذلك من لفظ الحصى و استعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الأصابع. انتهى.
و في الجملة إشارة إلى خروج النعم عن طوق الإحصاء و لازمه كون حوائج الإنسان التي رفعها الله بنعمه غير مقدور للإنسان إحصاؤها.
و كيف يمكن إحصاء نعمه تعالى و عالم الوجود بجميع أجزائه و ما يلحق بها من الأوصاف و الأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف بعضها على بعض،
فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع و هذا أمر لا يحيط به إحصاء.
و لعل ذلك هو السر في إفراد النعمة في قوله: {نِعْمَتَ اَللَّهِ} فإن الحق أن ليس هناك إلا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدل على الكثرة، و المراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.
و قوله: {إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله و يكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار و الخسران، أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها و يكفر بها، و الجملة استئناف بياني يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق، فإن الواقف على ما مر بيانه من حال نعمه تعالى و ما آتى الإنسان من كل ما سأله منها لا يرتاب في أن الإنسان و هو غافل عنها طبعا ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج الترمذي و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيان و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بقناع من بسر فقال: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} حتى بلغ {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}. قال: هي النخلة. {وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} حتى بلغ {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}. قال: هي الحنظلة.
أقول: و كون الشجرة الطيبة هي النخلة مروي في عدة روايات عنه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و هي لا تدل على أزيد من انطباق المثل عليها، و ذيل الرواية ينافي الرواية التالية.
و فيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قعد ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكروا هذه الآية: {اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} فقالوا: يا رسول الله نراه الكمأة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الكمأة من المن و ماؤها شفاء للعين، و العجوة من الجنة و هي شفاء من السم.
أقول: و الكلام يجري في الحنظلة فإن لها خواص طبية هامة.
و فيه أخرج البيهقي في سننه عن علي قال: الحين ستة أشهر.
أقول: و الكلام فيه كالكلام في سابقه.
و في الكافي بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ} قال: فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أصلها و أمير المؤمنين فرعها و الأئمة من ذريتهما أغصانها و علم الأئمة ثمرتها و شيعتهم المؤمنون ورقها هل في هذا فضل؟ قال: قلت: لا و الله. قال: و الله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.
أقول: و الرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد أطلقت الكلمة في كلامه على الإنسان كقوله: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ}: آل عمران ٤٥، و مع ذلك فالرواية من باب التطبيق و من الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفية التطبيق ففي بعضها أن الأصل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الفرع علي (عليه السلام) و الأغصان الأئمة (عليه السلام) و الثمرة علمهم و الورق الشيعة كما في هذه الرواية، و في بعضها أن الشجرة رسول الله و فرعها علي و الغصن فاطمة و ثمرها أولادها و ورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في بعضها أن النبي و الأئمة هم الأصل الثابت و الفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي، بإسناده عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في المجمع روى أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أن هذا يعني قوله: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} إلخ مثل بني أمية.
و في تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن سالم الأشل عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام): {ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الآيتين قال: هذا مثل ضربه الله لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
أقول: قال الآلوسي في تفسير روح المعاني، ما لفظه: و روى الإمامية و أنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها يعني الشجرة الخبيثة ببني أمية و تفسير الشجرة الطيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي كرم الله وجهه و فاطمة رضي الله عنها و ما تولد منهما، و في بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة
الخبيثة ببني أمية،- فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله تعالى قلب العباد ظهرا و بطنا فكان خير عباده العرب و قلب العرب ظهرا و بطنا فكان خير العرب قريشا و هي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} لأن بني أمية من قريش. انتهى موضع الحاجة.
و هو عجيب فإن كون أمة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدل إلا على أن قريشا شجرة مباركة و أما أن جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيبة كبني عبد الدار مثلا أو كون كل فرد منهم كذلك كأبي جهل و أبي لهب فلا قطعا فأي ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيبة و بين كون بعض فروعها التي انفصلت منها و نمت نماء فاسدا، مباركا طيبا؟
و قد روى ابن مردويه هذا عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول لأبيك و جدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
و روى أصحاب التفاسير كالطبري و غيره عن سهل بن ساعد و عبد الله بن عمر و يعلى بن مرة و الحسين بن علي و سعيد بن المسيب :أنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ} (الآية)، و لفظ سعد: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات، و أنزل الله: {وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا} (الآية).
و ستأتي الرواية عن عمر و عن علي: في تفسير قوله: {اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً} أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية.
و في تفسير العياشي عن صفوان بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا فيأتيه عند موته و يأتيه عن يمينه و عن يساره ليصده عما هو عليه فيأبى الله ذلك و كذلك قال الله: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ}.
و فيه عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: إذا وضع الرجل في قبره أتاه ملكان ملك عن يمينه و ملك عن شماله و أقيم الشيطان بين
يديه عيناه من نحاس فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج من بين ظهرانيكم يزعم أنه رسول الله؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول إن كان مؤمنا: محمد رسول الله فيقال عند ذلك: نم نومة لا حلم فيها و يفسح له في قبره تسعة أذرع و يرى مقعده من الجنة و هو قول الله: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} و إن كان كافرا قالوا: من هذا الرجل الذي كان بين ظهرانيكم يقول: إنه رسول الله؟ فيقول: ما أدري فيخلى بينه و بين الشيطان.
و في الدر المنثور أخرج الطيالسي و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله سبحانه: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ}.
و فيه أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول في هذه الآية: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ} قال: في الآخرة القبر.
أقول: و هناك روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة وردت في تفصيل سؤال القبر و إتيان الملكين منكر و نكير و ثبات المؤمن و ضلال الكافر عند ذلك و قد وقع في كثير منها التمسك بالآية.
و ظاهرها أن المراد بالآخرة هو القبر و عالم الموت، و لعل ذلك مبني على ظاهر معنى التثبيت فإن الظاهر من إعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه الزلل و الخبط، و هذا إنما يتصور في غير يوم القيامة الذي ليس فيه إلا المجازاة بالأعمال و أما بالنظر إلى أن كل ثابت في الوجود فإنما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما يجوز عليه الزوال أم لا فلا فرق بين البرزخ و القيامة في أن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه و الأولى أخذ الروايات من قبيل التطبيق.
و في تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في
قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً} قال: نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد.
أقول: و هو من الجري و التطبيق.
و فيه عن معصم المسرف عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله: {وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ} قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية و بنو المغيرة.
أقول: و رواه أيضا في البرهان، عن ابن شهر آشوب عن أبي الطفيل عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و ابن مردويه و الحاكم و صححه من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً} قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية و بنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
أقول: و هو مروي عن عمر كما يأتي.
و فيه أخرج البخاري في تاريخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً} قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
و فيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس :أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين هذه الآية: {اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً} قال: هم الأفجران من قريش أخوالي و أعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر و أما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.
و في تفسير العياشي عن ذريح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسأله عن قول الله: {أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا} (الآية) قال: تلك قريش بدلوا نعمة الله كفرا و كذبوا نبيه يوم بدر.
أقول: و اختلاف التطبيق في كلامه (عليه السلام) من الشاهد على أنه من باب بيان انطباق الآية لا من قبيل سبب النزول.
و في الكافي عن علي بن محمد عن بعض أصحابه رفعه قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا قرأ هذه الآية: {وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} يقول: سبحان الذي لم
يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد [من] معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه فشكر جل و عز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله علما (الحديث).
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ٣٥ الی ٤١]
{وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ ٣٥ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٣٦ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ٣٧ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَ مَا نُعْلِنُ وَ مَا يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ ٣٨ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ ٣٩ رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ ٤٠رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسَابُ ٤١}
(بيان)
تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الأولى التي يتضمنها قوله: {وَ إِذْ قَالَ مُوسىَ لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (الآية)
فذكر سبحانه أولا نعمته على جمع من عباده المؤمنين و هم بنو إسرائيل من ولد إبراهيم ثم ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم و هم بنو إسماعيل من ولد إبراهيم و هي التي يتضمنها دعاء إبراهيم (عليه السلام): {رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً} إلى آخر دعائه و فيها نعمة توفيقه تعالى لهم أن يجتنبوا عبادة الأصنام و نعمة الأمن بمكة و ميل الأفئدة إلى أهله و رزقهم من الثمرات و غير ذلك كل ذلك لأن الله سبحانه هو العزيز الحميد.
قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً} أي و اذكر إذ قال إبراهيم و الإشارة إلى مكة شرفها الله تعالى.
و قد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيم (عليه السلام) في موضع آخر بقوله: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلىَ عَذَابِ اَلنَّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ}: البقرة: ١٢٦.
و من الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير أعني قوله: {اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} و قوله: {اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً} أنهما دعاءان دعا (عليه السلام) بهما في زمانين مختلفين، و أنه بعد ما أسكن إسماعيل و أمه أرض مكة و رجع إلى أرض فلسطين ثم عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند ذلك مشيرا إلى مكانهم {رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا و لم يكن به و أن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدا فسأل ربه أن يجعل البلد آمنا.
و مما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففي آية البقرة الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات و في الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع أمور أخرى دعا بها لهم.
و على هذا يكون هذا الدعاء المحكي عن إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات آخر ما أورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيم (عليه السلام) و دعائه، و قد دعا به بعد ما أسكن إسماعيل و أمه بها و جاورتهما قبيلة جرهم و بنى البيت الحرام و بنيت بلدة مكة بأيدي القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الآيات.
و على تقدير أن يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله: {رَبِّ اِجْعَلْ} إلخ تقديره: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا و قد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه و في الأخرى الموصوف اختصارا.
و المراد بالأمن الذي سأله (عليه السلام) الأمن التشريعي دون التكويني كما تقدم في تفسير آية البقرة فهو يسأل ربه أن يشرع لأرض مكة حكم الحرمة و الأمن، و هو على خلاف ما ربما يتوهم من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فإنا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم (عليه السلام) بإذن ربه أعني حكم الحرمة و الأمن و أمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق و ما أحاط به من حرم الله الآمن و قد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات و البركات الدينية و الدنيوية عائدة إلى أهلها و إلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم و يتعلق قلبه بهم، و قد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا و ما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ}إلى قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يقال: جنبه و أجنبه أي أبعده، و سؤاله (عليه السلام) أن يجنبه الله و يبعده و بنيه من عبادة الأصنام لواذ و التجاء إليه تعالى من الإضلال الذي نسبه إليهن في قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ} إلخ.
و من المعلوم أن هذا الإبعاد و الإجناب منه تعالى كيفما كان و أيا ما كان تصرف ما و تأثير منه تعالى في عبده بنحو، غير أنه ليس بنحو يؤدي إلى الإلجاء و الاضطرار و لا ينجر إلى القهر و الإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ} (الآية)، أن كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى أولا، ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء و لو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة، و قد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام إنما يتحقق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده و عناية، و ليس في الحقيقة إلا أمرا تلبس و اتصف به العبد غير أنه إنما يملكه بتمليك
الله سبحانه فهو المالك له بذاته و العبد يملكه بأمر منه و إذن كما أن العبد إنما يهتدي عن هداية من الله، و ليس هناك إلا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته و العبد إنما يملكه بتمليك منه سبحانه، و أبسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في أخبار آل العصمة أن الله يوفق عبده لفعل الخير و ترك الشر هذا.
فتلخص أن المراد بقوله (عليه السلام) {وَ اُجْنُبْنِي} سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الأصنام و بعبارة أخرى هو يسأل ربه أن يحفظه و بنيه من عبادة الأصنام و يهديهم إلى الحق إن هم عرضوا أنفسهم لذلك و أن يفيض عليهم إن استفاضوا لا أن يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أو لم يعرضوا و أن يفيض عليهم سواء استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائه (عليه السلام).
و منه يعلم أن نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم و إن كان بلفظ يستوعب الجميع، و هذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين و المستكبرين منهم و سنزيده بيانا.
ثم هو (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء لنفسه و بنيه: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} و بنوه جميع من جاء من نسله بعده و هم بنو إسماعيل و بنو إسحاق فإن الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره، و يصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}: الحج: ٧٨ و قد تكرر إطلاق بني إسرائيل على اليهود في نيف و أربعين موضعا من كلامه تعالى.
فهو (عليه السلام) يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه و لجميع من بعده من بنيه بالمعنى الذي تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن قرائن الحال و المقال تدل على اختصاص الدعاة بآل إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بني إسحاق.
ثم عقب (عليه السلام) دعاءه: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ} و هو في مقام التعليل لدعائه و قد أعاد النداء {رَبِّ} إثارة للرحمة الإلهية، أي إني إنما أسألك أن تبعدني و بني عن عبادتهن لأنهن أضللن كثيرا من الناس و نسبة الإضلال إلى الأصنام لمكان الربط الذي بين الضلال و بينهن و إن لم يكن ارتباطا شعوريا و ليس من اللازم في نسبة أي فعل أو أثر إلى شيء أن يقوم به قياما شعوريا و هو ظاهر.
ثم قوله (عليه السلام): {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تفريع على ما تقدم من كلامه أي إذا كان كثير من الناس أضلتهم الأصنام بعبادتهن و استعذت بك و عرضت نفسي و بني عليك أن تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن و الناس طائفتين: الضالون عن طريق توحيدك و العارضون لأنفسهم على حفظك و إجنابك فمن تبعني «إلخ».
و قد عبر (عليه السلام) في تفريعه بقوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي} و الاتباع إنما يكون في طريق و قد لوح إلى الطريق أيضا بقوله: {أَضْلَلْنَ} لأن الضلال إنما يكون عن الطريق فمراده باتباعه التدين بدينه و السير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى و إجنابه من عبادة الأصنام.
و من الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه: {وَ مَنْ عَصَانِي} فإنه نسب العصيان إلى نفسه و لم يقل: و من كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحق و نحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتقاك و ما أشبهه.
فمراده باتباعه سلوك طريقه و التدين بجميع ما أتى به من الاعتقاد و العمل و بعصيانه ترك سيرته و ما أتى به من الشريعة اعتقادا و عملا كأنه (عليه السلام) يقول: من تبعني و عمل بشريعتي و سار بسيرتي فإنه ملحق بي و من أبنائي تنزيلا أسألك أن تجنبني و إياه أن نعبد الأصنام، و من عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان من بني أو غيرهم فلا ألحقه بنفسي و لا أسألك إجنابه و إبعاده بل أخلي بينه و بين مغفرتك و رحمتك.
و من هنا يظهر أولا أن قوله (عليه السلام): {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تفسير لقوله: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} بالتصرف في البنين تعميما و تخصيصا فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة و تخصيصه بالعاصين له منهم من جهة أخرى فليسوا منه و لا ملحقين به، و بالجملة هو (عليه السلام) يلحق الذين اتبعوه من بعده بنفسه و أما غير متبعيه فيخلي بينهم و بين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا}: آل عمران: ٦٨.
و هذه التوسعة و التضييق منه (عليه السلام) نظير مجموع ما وقع منه و من ربه في الفقرة
الأخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة: {وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلىَ عَذَابِ اَلنَّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ} حيث سأل الرزق أولا لأهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه بقوله: {وَ مَنْ كَفَرَ} ثانيا.
و ثانيا: أن من الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام) فيمن تبعه: إنه مني و سكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه و بنيه أن ذلك تبن منه لكل من تبعه و إلحاق له بنفسه، و نفي لكل من عصاه عن نفسه و إن كان من بنيه بالولادة، أو إلحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي.
و لا إشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فإن الولادة الطبيعية لا يجب أن تكون هي الملاك في النسب إثباتا و نفيا، و لا تجد واحدة من الأمم يقتصرون في النسب إثباتا و نفيا على مجرد الولادة الطبيعية لا بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة و التضييق و للإسلام أيضا تصرفات في ذلك كنفي الدعي و المولود من الزنا و الكافر و المرتد و إلحاق الرضيع و المولود على الفراش إلى غير ذلك، و في كلامه تعالى في ابن نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: هود: ٤٦.
و ثالثا: أنه (عليه السلام) و إن لم يسأل المغفرة و الرحمة صريحا لمن عصاه و إنما عرضهم للمغفرة و الرحمة بقوله: {وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لكنه لا يخلو عن إيماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته و سيرته التي تعد الإنسان للرحمة الإلهية بحفظه من عبادة الأصنام، و هذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة و إن لم يكن مقتضيا أيضا لذلك، و ليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافي سؤال المغفرة كما قال تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}: النساء: ١١٦.
هذا محصل ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين و هو في معزل عما استشكله المفسرون في أطراف الآيتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم.
فقد استشكلوا أولا قوله (عليه السلام): {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} من حيث إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه و لبنيه جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فإن قريشا من بنيه و قد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و كيف يمكن أن يدعو
مثل الخليل (عليه السلام) ثم لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن أن يذكر تعالى دعاءه و هو لغو غير معني به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثم كيف يمكن أن يسأل لنفسه المصونية و العصمة عن عبادة الأصنام و هو نبي و الأنبياء معصومون؟
و قد قيل في الجواب عن إشكال عدم استجابة دعائه في بنيه إن المراد ببنيه أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل و إسحاق و غيرهما و قد استجيب دعاؤه فيهم، و قيل: المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء و هم موحدون، و قيل: إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض و لا نقص فيه.
و قيل: إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام و إنما كانوا يتخذونها شفعاء، و قيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام و بينهما فرق فإن الأصنام هي التماثيل المصورة و الأوثان هي التماثيل غير المصورة، و قيل: إنهم ما كانوا يعبدون الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرا و يقول: هذا حجر و البيت حجر، فكان يدور حوله و يسمونه الدوار.
و سقوط هذه الوجوه ظاهرة: أما الأول و الثاني فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ و أما الثالث فلأن الإشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده، و أما باقي الوجوه فلأن ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة و هو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه.
و قيل في الجواب عن إشكال سؤال النبي الإبعاد و الإجناب عن الشرك و هو نبي معصوم: إن المراد الثبات و الدوام على ذلك، و قيل إنه (عليه السلام) ذكر ذلك هضما لنفسه و إظهارا للحاجة إلى فضله تعالى، و قيل: المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفي و إلا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجلي هذا.
و هذه وجوه ردية، أما الأول فلأنه لا ينحسم به مادة الإشكال إذ العصمة و المصونية كما أنها لازمة للنبوة حدوثا لازمة لها بقاء فلو لم يصح للنبي أن يسأل حدوثها لمكان اللزوم لم يصح له أن يسأل بقاءها لذلك بعينه، و الأصل في جوابهم هذا أنهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض و استقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى أن الله سبحانه
إذا أفاض بشيء على شيء خرج ما أفاضه من ملكه و وقع في ملك المستفيض و لا معنى للسؤال ممن لا يملك و إذا قضى سبحانه بشيء حدوثا أو بقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو عليه فإنه لا يتعلق على خلافه قدرة و لا مشية و هو خطأ فإن الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلا و ملكه تعالى باق بعد الإفاضة على ما كان عليه قبلها و لا يزال سبحانه قادرا له أن يشاء ما يشاء و إن كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم، و السؤال و الطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك و قد أشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدمة مرارا.
و أما الثاني فلأن هضم النفس إنما يستقيم في غير الضروريات و أما الأمور الضرورية فلا، فلا معنى لقول القائل: لست إنسانا و هو يريد نفي الماهية هضما لنفسه اللهم إلا أن يريد نفي الكمال و كذا القول في إظهار الحاجة و هم لا يرون في الأمور الضرورية المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.
و أما الثالث فلأن الشرك الخفي هو الركون و التوجه إلى غير الله على مراتبه، و إبراهيم (عليه السلام) يعلل قوله: {وَ اُجْنُبْنِي} إلخ بقوله {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ} إلخ فهو إنما يسأل الإبعاد من عبادة هذه الأصنام و هي الشرك الجلي دون الحفظ عن الركون و التوجه إلى غير الله تعالى اللهم إلا أن يدعى أن المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه، و كذا المراد بالعبادة مطلق التوجه و الالتفات و هو دعوى لا دليل عليها.
ثم استشكلوا في قوله (عليه السلام) {وَ مَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين، و لا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (الآية).
و قد قيل في الجواب عن الإشكال: أن الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة و إنما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (الآية) فإبراهيم (عليه السلام) جرى في دعائه على ما كان عليه الأمر في شريعته.
و قيل: إن المراد: و من عصاني فإنك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيد محذوف، و قيل: المراد و من عصاني و أقام على الشرك فإنك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له و ترحمه.
و قيل: المراد بالمغفرة و الرحمة الستر على الشرك في الدنيا و الرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى و من عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك و ارحمه بتأخير العقاب عنه، و قيل: إن الكلام على ظاهره و كان ذلك منه (عليه السلام) قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك، و لا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا و إنما منع منها الدليل السمعي و ليس من الواجب أن يعلم بجميع الأدلة السمعية في يوم واحد، و قيل: المراد بالمعصية ما دون الشرك.
و هذه أجوبة فاسدة أما الأول فلأن دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم (عليه السلام) بمثل قوله: - و هو أول الشرائع السابقة - {وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: ٣٩، و حكى عن المسيح (عليه السلام) و شريعته آخر الشرائع السابقة قوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ اَلنَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: المائدة: ٧٢، و التدبر في آيات القيامة و الجنة و النار و في آيات الشفاعة و في دعوات الأنبياء المحكية في القرآن لا يدع شكا في أن الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أو غيره إلا بالتوبة قبل الموت.
و أما الثاني فلأن تقييد المغفرة و الرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على أن تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصَانِي} إلخ، فإن العاصي التائب يعود ممن تبعه و يلحق به (عليه السلام) فلا يبقى للمعادلة أزيد من طرف واحد.
و أما الثالث و الرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فإن ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا أن يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة و كذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا أو في الآخرة، و أما رفع التبعة الدنيوية فقط فأمر بعيد عن الفهم.
و أما الخامس فهو أبعد الوجوه، و كيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل (عليه السلام) و هو في أواخر عمره - كما تقدم - أن يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم يجري على جهله فيشفع عند ربه للمشركين و يسأل لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله في ذلك و لو استأذنه لأنبأه أن ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه
من لغو الكلام جهلا و لا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك، و قد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك و رفع عن ساحته كل غميضة فيما قال: {وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}: التوبة: ١١٤.
و أما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد، اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.
فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصه و قد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك، و معنى تفرع قوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} إلخ على ما تقدمه.
قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ} إلى آخر الآية {مِنْ ذُرِّيَّتِي} في تأويل مفعول {أَسْكَنْتُ} أو ساد مسده و {مِنْ} فيه للتبعيض» و مراده (عليه السلام) ببعض ذريته ابنه إسماعيل و من سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله: بعد {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ}.
و المراد بغير ذي زرع غير المزروع و هو آكد و أبلغ لأنه يدل كما قيل على عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع و هذا كقوله: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}.
و نسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبني لغرض لا يصلح إلا له تعالى و هو عبادته، و كونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا و الظرف أعني قوله {عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ} متعلق بقوله {أَسْكَنْتُ}.
و هذه الجملة من دعائه (عليه السلام) أعني قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ} إلى قوله {اَلْمُحَرَّمِ} من الشاهد على ما قدمناه من أنه (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة و بنى الناس بلدة مكة و عمروها كما أن من الشاهد عليه أيضا قوله: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ}.
و بذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال: كيف سماه بيتا و قال أسكنت من ذريتي عنده و لم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر أنه إنما دعا به يوم أتى بإسماعيل و أمه إلى أرض مكة و كانت أرضا قفراء لا أنيس بها و لا نبت.
و لا حاجة إلى دفعه بأنه كان يعلم بما علمه الله أنه سيبني هناك بيتا لله أو بأن البيت كان قبل ذلك و إنما خربه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان و ليت شعري إذا اندفع بهما هذا الإشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الإشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله {رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً} و ظاهر قوله: {وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ}.
و قوله: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ} بيان لغرضه من إسكانهم هناك، و هو بانضمام ما تقدم من قوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} و ما يعقبه من قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ} يفيد أنه (عليه السلام) إنما اختار واديا غير ذي زرع أعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب و نبات ذي خضرة و شجر ذي بهجة و هواء معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.
و قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} إلخ من الهوي بمعنى السقوط أي تحن و تميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم، و ارزقهم من الثمرات، بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَ مَا نُعْلِنُ} إلى آخر الآية معناه ظاهر، و قوله: {وَ مَا يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ} من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام) أو من كلامه تعالى، و على الأول ففي قوله: {عَلَى اَللَّهِ} التفات وجهه الإشارة إلى علة الحكم كأنه قيل: إنك تعلم ما نخفي و ما نعلن لأنك الله الذي ما يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و لا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل أن المراد بالسماء ما هو خفي علينا غائب عن حسنا و الأرض بخلافه فافهم ذلك.
قوله تعالى: {اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعَاءِ} كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى إيراده تذكره في ضمن ما أورده من الأدعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع عنه الأسباب العادية المؤدية إلى ظهور النسل، و أنه إنما وهبهما له باستجابة دعائه للولد فحمد الله على ما وهبهما و أثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك.
قوله تعالى: {رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ} الكلام»
في استناد إقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد إجنابه أن يعبد الأصنام فإن لإقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالإذن و المشية كما أن لها نسبة إلى العبد بالتصدي و العمل و قد مر الكلام فيه.
و هذه الفقرة ثاني دعاء يشترك فيه هو (عليه السلام) و ذريته و يعقب في الحقيقة قوله أولا: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه: {رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
و قد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال: {وَ اُجْنُبْنِي} و {اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ} {اِغْفِرْ لِي} لأن مطلوبه لحوق ذريته به كما قال في موضع آخر: {وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ}: الشعراء: ٨٤ و في موضع آخر كما حكاه الله بقوله: {وَ إِذِ اِبْتَلىَ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي}: البقرة: ١٢٤.
و أما قوله في الفقرة الأولى {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ} و هاهنا {اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي} فقد تقدم أن المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان.
و من تطابق الفقرتين أنه أكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله: {رَبَّنَا وَ تَقَبَّلْ دُعَاءِ} فإن سؤال تقبل الدعاء إلحاح و إصرار و تأكيد كما أن التعليل في الفقرة الأولى، بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ} تأكيد في الحقيقة لما فيها من الدعاء، بقوله: {وَ اُجْنُبْنِي} إلخ.
قوله تعالى: {رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسَابُ} ختم (عليه السلام) دعاءه و هو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة و يشبه آخر ما دعا به نوح (عليه السلام) مما ذكر في القرآن: {رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ}: نوح: ٢٨.
و في الآية دليل على أنه (عليه السلام) لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنه (عليه السلام) كما ترى يستغفر لوالديه و هو على الكبر و في آخر عهده «و قد تبرأ من آزر في أوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إياه قال تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}: مريم: ٤٧، و قال: {وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلضَّالِّينَ}: الشعراء: ٨٦،
و قال: {وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}: التوبة: ١١٤ و قد تقدم تفصيل القول في قصصه (عليه السلام) في سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.
و من لطيف ما في دعائه (عليه السلام) اختلاف النداء المكرر الذي فيه بلفظ «رب» و «ربنا» و العناية فيما أضيف إلى نفسه بما يختص بنفسه من السبقة و الإمامة، و فيما أضيف إلى نفسه و غيره إلى المشتركات.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله و إلى عبادته و المؤازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه فقرأ من سورة إبراهيم: {وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ} إلى آخر السورة فرق القوم و أخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا و أجابوه.
و في تفسير العياشي عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحبنا فهو منا أهل البيت فقلت: جعلت فداك منكم؟ قال: منا و الله أ ما سمعت قول الله و هو قول إبراهيم (عليه السلام): {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}.
و فيه عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اتقى الله منكم و أصلح فهو منا أهل البيت قال: منكم أهل البيت؟ قال: منا أهل البيت قال فيها إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} قال عمر بن يزيد: قلت له: من آل محمد؟ قال إي و الله من آل محمد إي و الله من أنفسهم أ ما تسمع قول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ} و قول إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}؟
أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن بني إسماعيل لم يعبدوا صنما قط إثر دعاء إبراهيم: {وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ}، و أنهم إنما قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و الظاهر أن الرواية موضوعة، و قد تقدمت الإشارة إليه في البيان السابق.
و كذا ما ورد في بعض الروايات من طرق العامة و الخاصة أن أرض الطائف كانت في الأردن من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم (عليه السلام) لبنيه بقوله: {وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ} أمر الله بها فسارت بترابها إلى مكة فطافت على البيت سبعة أشواط ثم استقرت حيث الطائف الآن.
و هذا و إن كان ممكن الوقوع في نفسه من طريق الإعجاز لكن لا يكفي لثبوته أمثال هذه الروايات الضعيفة و المرسلة على أن هذه الآيات في مقام الامتنان و لو قارن هذا الدعاء و استجابته تعالى له مثل هذه الآية العظيمة العجيبة و المعجزة الباهرة لأشير إليها مزيدا للامتنان. و الله أعلم.
و في مرسلة العياشي عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليه السلام): أنه كان يقرأ «رب اغفر لي و لولدي» يعني: إسماعيل و إسحاق، و في مرسلته الأخرى عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): مثله و ظاهر هذه الرواية أن القراءة مبنية على كفر والد إبراهيم و الروايتان ضعيفتان لا يعبأ بهما.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ٤٢ الی ٥٢]
{وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصَارُ ٤٢ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ٤٣ وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذَابُ فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ٤٤ وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَ ضَرَبْنَا لَكُمُ اَلْأَمْثَالَ ٤٥ وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللَّهِ}
{مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبَالُ ٤٦ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ ٤٧ يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ ٤٨وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ ٤٩ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ ٥٠لِيَجْزِيَ اَللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٥١ هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ٥٢}
(بيان)
لما أنذر و بشر سبحانه في الآيات السابقة و دعا إلى صراطه بما أنه العزيز الحميد ختم بيانه بدفع ما ربما يسبق إلى أوهام ضعفاء العقول من الناس من أن الأمر لو كان على ما ذكر و كانت هذه الدعوة دعوة نبوية من لدن رب عزيز حميد فما بال هؤلاء الظالمين يتمتعون بما شاءوا؟ و ما باله لا يأخذ الظالمين بظلمهم و لا يلجم المتخلفين عن دعوته المخالفين عن أمره؟ أ هو في غفلة عما يعملونه أم هو مخلف وعده رسله يعدهم بالنصر ثم لا يفي بوعده؟
فأجاب تعالى أنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون و لا مخلف وعده رسله كيف؟ و هو تعالى عليم بما يمكرون و عزيز ذو انتقام بل إنما يؤخرهم ليوم شديد و هو يوم الجزاء. على أنه تعالى ربما أخذهم بذنوبهم في الدنيا كما أخذ الأمم الماضين.
ثم ختم السورة بقوله: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} و هي آية جامعة لغرض السورة كما سيجيء بيانه إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ} إلى آخر الآيتين يقال: شخص بصره أي سكن بحيث لا يطرف جفنة، و يقال: بعير مهطع إذا صوب عنقه أي رفعه و هطع و أهطع بمعنى، و يقال: أقنع رأسه إذا رفعه، و قوله: لا يرتد إليهم طرفهم أي لا يقدرون على أن يطرفوا من هول ما يشاهدونه، و قوله: و أفئدتهم هواء أي قلوبهم خالية عن التعقل و التدبير لشدة الموقف أو أنها زائلة.
و المعنى: و لا تحسبن الله و لا تظننه غافلا عما يعمل هؤلاء الظالمون بما تشاهد من تمتعهم و إترافهم في العيش و إفسادهم في الأرض إنما يمهلهم الله و يؤخر عقابهم إلى يوم يسكن فيه أبصارهم فلا تطرف و الحال أنهم مادون لأعناقهم رافعون لرءوسهم لا يقدرون على رد طرفهم و قلوبهم مدهوشة خالية عن كل تحيل و تدبير من شدة هول يوم القيامة و في الآية إنذار للظالمين و تعزية لغيرهم.
قوله تعالى: {وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذَابُ} إلى آخر الآية. في الآية إنذار بعد إنذار و بين الإنذارين فرق من جهتين:
إحداهما: أن الإنذار في الآيتين السابقتين إنذار بما أعد الله من أهوال يوم القيامة و أليم العذاب فيه، و أما الذي في هذه الآية و ما يتلوها فهو إنذار بعذاب الاستئصال في الدنيا و من الدليل عليه قوله: {فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ} إلخ.
و بذلك يظهر أن لا وجه لما ذكره بعضهم أن المراد بهذا اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب هو يوم القيامة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد به يوم الموت.
و الثانية: أن الإنذار الأول إنذار بعذاب قطعي لا صارف له عن أمة ظالمة و لا فرد ظالم من أمة و أما الإنذار الثاني فهو إنذار بعذاب غير مصروف عن أمة ظالمة و أما الفرد فربما صرف عنه، و لذلك ترى أنه تعالى يقول أولا: {وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ} ثم يقول: {فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} إلخ و لم يقل: فيقولون أي الناس لأن عذاب الاستئصال لا يصيب المؤمنين قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ}: يونس: ١٠٣ و إنما يصيب الأمة الظالمة بحلول أجلهم و هم طائفة من ظالمي الأمة لا جميع أفرادها.
و بالجملة فقوله: {وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذَابُ} إنذار للناس بعذاب الاستئصال الذي يقطع دابر الظالمين منهم، و قد تقدم في تفسير سورة يونس و غيره أن ذلك
مكتوب على الأمم قضاء بينهم و بين رسولهم حتى هذه الأمة المحمدية و قد تكرر هذا الوعيد منه تعالى في عدة مواضع من كلامه.
و هذا هو اليوم الذي يطهر الله الأرض فيه من قذارة الشرك و الظلم و لا يعبد عليها يومئذ إلا الله سبحانه فإن الدعوة عامة و الأمة هم أهل الأرض فإذا محا الله عنهم الشرك لم يبق منهم إلا المؤمنون و يكون الدين كله لله، قال تعالى: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}.
و مما تقدم يظهر الجواب عما أورد على كون المراد بالعذاب في الآية عذاب الاستئصال أن القصر في الآية السابقة ينافيه فإن قوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصَارُ} يقصر أخذهم و عقابهم في يوم القيامة.
و ذلك لما عرفت أن العذاب المنذر به في الآيتين السابقتين هو العذاب الذي لا يصرفه عنهم صارف و لا يتخلف عنه أحد من الظالمين و هو مقصور في عذاب يوم القيامة، و لا ينافي انحصاره في يوم القيامة وجود نوع آخر من العذاب في الدنيا.
على أن القصر لو تم على ما يريده المعترض لدفع ما يدل عليه الآيات الكثيرة الدالة على نزول العذاب بهذه الأمة كما أشرنا إليه.
على أن حمل العذاب في الآية على عذاب يوم القيامة يوجب صرف الآيات عن ظهورها و رفع اليد عما يعطيه السياق فيها و لا مساغ له.
و قوله: {فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ} المراد به الظالمون من الناس و هم الذين يأخذهم العذاب المستأصل و لا يتخطاهم، و مرادهم بقولهم: {أَخِّرْنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ} الاستمهال بمدة قصيرة تضاف إلى عمرهم في الدنيا حتى يتداركوا فيه ما فوتوه بظلمهم و الدليل عليه قولهم: {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ}.
و التعبير بالرسل بلفظ الجمع في قولهم: {وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ} مع أن الآية تصف حال ظالمي هذه الأمة ظاهرا و كان مقتضى ذلك أن يقال: و نتبع الرسول إنما هو للدلالة على أن الملاك في نزول هذا العذاب القضاء بين الرسالة و بين منكريها من غير اختصاص ذلك برسول دون رسول كما يفيده قوله: {وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ
قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}: يونس: ٤٧.
و قوله: {أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} الإقسام تعليق الحكم في الكلام بأمر شريف من جهة شرافته ليدل به على صدقه إذ لو كذب المتكلم و قد أقسم في كلامه لأذهب بذلك شرف المقسم به كقولنا: و الله إن كذا لكذا و لعمري إن الأمر على كذا، و يعد القسم أقوى أسباب التأكيد. و لا يبعد أن يكون الإقسام في الآية كناية عن إيراد الكلام في صورة جازمة غير قابلة للترديد.
و الكلام على تقدير القول و المعنى يقال لهم توبيخا و تبكيتا: أ لم تكونوا أقسمتم من قبل نزول العذاب ما لكم من زوال و أنكم بما عندكم من القوة و السطوة و وسائل الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث فما لكم تستمهلون إلى أجل قريب.
قوله تعالى: {وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إلى آخر الآية معطوف على محل قوله: {أَقْسَمْتُمْ} في الآية السابقة، و المعنى: أ و لم تكونوا سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم من الأمم السابقة، و ظهر لكم أن هذه الدعوة حقة و يتعقبها لو ردت عذاب مستأصل، من جهتين: جهة المشاهدة حيث تبين لكم كيف فعلنا بأولئك الظالمين الذين سكنتم في مساكنهم؟ و جهة البيان حيث ضربنا لكم الأمثال و أنذرناكم عذابا مستأصلا يتعقبه إنكار الحق و رد الدعوة النبوية و يقطع دابر الظالمين.
قوله تعالى: {وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبَالُ} حال من الضمير في {فَعَلْنَا} في الآية السابقة أو من الضمير في {بِهِمْ} فيها أو من الضميرين جميعا على ما قيل، و ضمائر الجمع راجعة إلى {اَلَّذِينَ ظَلَمُوا}.
و المراد بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه و قدرته، و من المعلوم أن المكر إنما يكون مكرا إذا لم يحط به الممكور به و جهله، و أما إذا كان الممكور به عالما بما هيأه الماكر من المكر و قادرا على دفعه لغا المكر أو عاد مكرا على نفس الماكر كما قال تعالى: {وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ}: الأنعام: ١٢٣.
و قوله: {وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبَالُ} إن وصلية على ما قيل و اللام في {لِتَزُولَ} متعلق بمقدر يدل عليه لفظ المكر كقولنا يقتضي أو يوجب و ما أشبه ذلك، و التقدير: الله محيط بمكرهم عالم به قادر على دفعه إن كان مكرهم
دون هذه الشدة و إن كان على هذه الشدة.
و المعنى تبين لكم كيف فعلنا بهم و الحال أنهم مكروا ما في وسعهم من المكر و الله محيط بمكرهم و إن كان مكرهم عظيما موجبا لزوال الجبال.
و ربما قيل: إن {إِنْ} نافية و اللام هي الداخلة على المنفي و المراد بالجبال الآيات و المعجزات كناية و المعنى و ما كان مكرهم لتبطل به آيات الله و معجزاته التي هي كالجبال الراسيات التي لا تزول عن مكانها، و أيد هذا المعنى بقراءة ابن مسعود «و ما كان مكرهم» و هو معنى بعيد.
و قرئ أيضا: {لِتَزُولَ} بفتح اللام الأولى و ضم اللام الثانية، و على هذا تكون {إِنْ} مخففة من المشددة و المعنى و التحقيق أن مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال.
قوله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ} تفريع على ما تقدم أن ترك مؤاخذة الظالمين بعملهم إنما هو لتأخيرهم إلى يوم القيامة أي إذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن الله مخلفا لما وعد رسله من نصرهم و مؤاخذة المتخلفين عن دعوتهم، و كيف يخلف وعده و هو عزيز ذو انتقام شديد و لازم عزته المطلقة أن لا يخلف وعده فإن إخلاف الوعد إما لكون الواعد غير قادر على إنجاز ما وعده أو لتغير من الرأي بعروض حال ثانية تقهره على خلاف ما بعثته إليه الحال الأولى التي أوجبت عليه الوعد و الله سبحانه عزيز على الإطلاق لا يتصف بعجز و لا تقهره حال و لا شيء آخر و هو الواحد القهار.
و لازم اتصافه بالانتقام أن ينتقم للحق ممن استكبر عنه و استعلى عليه و ينتصف للمظلوم من الظالم.
و ذو انتقام من أسمائه تعالى الحسنى التي سمى الله تعالى بها نفسه في مواضع من كلامه و قارنه في جميعها باسمه العزيز، قال تعالى: {وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقَامٍ}: آل عمران: ٤، المائدة: ٩٥ و قال: {أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَامٍ}: الزمر: ٣٧ و قال في الآية المبحوث عنها: {إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ} و من ذلك يظهر أن «ذا انتقام» من فروع اسم «العزيز».
(كلام في معنى الانتقام و نسبته إليه تعالى)
الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصة و هي أن تذيق غيرك من الشر ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه قال تعالى: {فَمَنِ اِعْتَدىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىَ عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ}.
و هو أصل حيوي معمول به عند الإنسان و ربما يشاهد من بعض الحيوان أيضا أعمال يشبه أن تكون منه، و أيا ما كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفي غالبا فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئا من الخير أو أذاقه شيئا من الشر وجد الذي فعل به ذلك في نفسه من الأسى و الأسف ما لا تسكن فورته و لا تخمد ناره إلا بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني و أما العقل فربما أجازه و أنفذه و ربما استنكف.
و الانتقام الاجتماعي و نعني به القصاصات و أنواع المؤاخذات التي نعثر عليها في السنن و القوانين الدائرة في المجتمعات أعم من الراقية و الهمجية الغالب فيه أن يكون الغرض الداعي إليه غاية فكرية و مطلوبا عقليا و هو حفظ النظام عن الاختلال و سد طريق الهرج و المرج فلو لا أصل الانتقام و مؤاخذة المجرم الجاني بما أجرم و جنى اختل الأمن العام و ارتحل السلام من بين الناس.
و لذا كان هذا النوع من الانتقام حقا من حقوق المجتمع و إن كان ربما استصحب حقا فرديا كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية فربما يؤاخذ الظالم استيفاء لحق المجتمع و إن أبطل المظلوم حقه بالعفو.
فقد تبين أن من الانتقام ما يبتني على الإحساس و هو الانتقام الفردي الذي غايته التشفي، و منه ما يبتني على العقل و هو الانتقام الاجتماعي الذي غايته حفظ النظام و هو من حقوق المجتمع و إن شئت قلت من حقوق السنة أو القانون الجاري في المجتمع فإن استقامة الأحكام المعدلة لحياة الناس و سلامتها في نفسها تقتضي مؤاخذة المجرم المتخلف عنها و إذاقته جزاء سيئته المر، فهو من حقوق السنة و القانون كما أنه من حقوق المجتمع.
إذا عرفت هذا علمت أن ما ينسب إليه تعالى في الكتاب و السنة من الانتقام هو ما كان حقا من حقوق الدين الإلهي و الشريعة السماوية و إن شئت فقل من حقوق المجتمع الإسلامي و إن كان ربما استصحب الحق الفردي فيما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمة فهو الولي الحميد.
و أما الانتقام الفردي المبني على الإحساس لغاية التشفي فساحته المقدسة أعز من أن يتضرر بإجرام المجرمين و معصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.
و من هنا يظهر سقوط ما ربما استشكله بعضهم أن الانتقام إنما يكون لتشفي القلب و إذ كان تعالى لا ينتفع و لا يتضرر بشيء من أعمال عباده خيرا أو شرا طاعة أو معصية فلا وجه لنسبة الانتقام إليه كما أن رحمته غير المتناهية تأبى أن يعذبهم بعذاب خالد غير متناه كيف لا؟ و الواحد من أرباب الرحمة يرحم المجرم المقدم على أي معصية إذا كان عن جهالة منه و هو تعالى يصف الإنسان و هو مخلوقه المعلوم له حاله بذلك إذ يقول: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}: الأحزاب: ٧٢.
وجه السقوط أن فيه خلطا بين الانتقام الفردي و الاجتماعي، و الذي يثبت فيه تعالى هو الاجتماعي منه دون الفردي كما توهم كما أن فيه خلطا بين الرحمة النفسانية التي هي تأثر و انفعال قلبي من الإنسان و بين الرحمة العقلية التي هي تتميم نقص الناقص المستعد لذلك، و التي تثبت فيه تعالى هي الرحمة العقلية دون الرحمة النفسانية و لم يثبت الخلود في العذاب إلا فيما إذا بطل استعداد الرحمة و إمكان الإفاضة قال تعالى: {بَلىَ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: ٨١.
و هاهنا نكتة يجب أن تتنبه لها و هي أن الذي تقدم من معنى الانتقام المنسوب إليه تعالى إنما يتأتى على مسلك المجازاة و الثواب و العقاب، و أما على مسلك نتائج الأعمال فترجع حقيقته إلى لحوق الصور السيئة المؤلمة بالنفس الإنسانية عن الملكات الرديئة التي اكتسبتها في الحياة الدنيا، بعد الموت، و قد تقدم البحث في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} (الآية) البقرة: ٢٦ في جزاء الأعمال.
بيان
قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ
اَلْقَهَّارِ} الظرف متعلق بقوله: {ذُو اِنتِقَامٍ} و تخصيص انتقامه تعالى بيوم القيامة مع عمومه لجميع الأوقات و الظروف إنما هو لكون اليوم أعلى مظاهر الانتقام الإلهي كما أن تخصيص بروزهم لله بذلك اليوم كذلك، و على هذا النسق جل الأوصاف المذكورة في كلامه تعالى ليوم القيامة كقوله: {اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}: الانفطار: ١٩ و قوله: {مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}: المؤمن: ٣٣ إلى غير ذلك و قد تقدمت الإشارة إليه كرارا.
و الظاهر أن اللام في الأرض للعهد في الموضعين معا و كذا في السماوات و السماوات معطوفة على الأرض الأولى و المعنى تبدل هذه الأرض غير هذه الأرض و تبدل هذه السماوات غير هذه السماوات.
و للمفسرين في معنى تبدل الأرض و السماوات أقوال مختلفة:
فقيل: تبدل الأرض فضة و السماوات ذهبا و ربما قيل إن الأرض تبدل من أرض نقية كالفضة و السماوات كذلك.
و قيل: تبدل الأرض نارا و السماوات جنانا.
و قيل: تبدل الأرض خبزة نقية يأكل الناس منها طول يوم القيامة.
و قيل: تبدل الأرض لكل فريق مما يقتضيه حاله فتبدل لبعض المؤمنين خبزة يأكل منها ما دام في العرصات و لبعض آخر فضة و تبدل للكافر نارا.
و قيل: التبديل هو أنه يزاد في الأرض و ينقص منها و تذهب آكامها و جبالها و أوديتها و شجرها و تمد مد الأديم و تصير مستوية لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، و تتغير السماوات بذهاب الشمس و القمر و النجوم و بالجملة يتغير كل من الأرض و السماوات عما هو عليه في الدنيا من الصفات و الأشكال.
و منشأ اختلافهم في تفسير التبديل اختلاف الروايات الواردة في تفسير الآية مع أن الروايات لو صحت و اتصلت كان اختلافها أقوى شاهد على أن ظاهرها غير مراد و أن بياناتها واقعة موقع التمثيل للتقريب.
و التدبر الكافي في الآيات التي تحوم حول تبديل الأرض و السماء يفيد أن أمر التبديل أعظم مما تتصوره من بسط الجبل على السهل أو تبديل التراب فضة أو خبزا
نقيا مثلا كقوله تعالى: {وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}: الزمر - ٦٩ و قوله: {وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً}: النبأ: ٢٠و قوله: {وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ}: النمل: ٨٨ إن كانت الآية ناظرة إلى يوم القيامة إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات تنبئ عن نظام غير هذا النظام الذي نعهده و شئون دون ما نتصوره فإشراق الأرض يومئذ بنور ربها غير إشراق بسيطها بنور الشمس أو الكواكب أو غيرها، و سير الجبال ينتهي عادة إلى زوالها عن مكانها و تلاشيها مثلا لا إلى كونها سرابا، و هكذا نرجو أن يوفقنا الله سبحانه لبسط الكلام في هذا المعنى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و قوله: {وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ} معنى بروزهم و ظهورهم لله يومئذ مع كون الأشياء بارزة غير خفية عليه دائما سقوط جميع العلل و الأسباب التي كانت تحجبهم عنه تعالى ما داموا في الدنيا فلا يبقى يومئذ على ما يشاهدون شيء من الأسباب يملكهم و يتولى أمرهم و يستقل بالتأثير فيهم إلا الله سبحانه كما يدل عليه آيات كثيرة فهم لا يلتفتون إلى جانب و لا يتوجهون إلى جهة في ظاهرهم و باطنهم و حاضرهم و الماضي الغائب من أحوالهم و أعمالهم إلا وجدوه سبحانه شاهدا مهيمنا عليه محيطا به.
و الدليل على هذا الذي ذكرناه توصيفه تعالى بالواحد القهار المشعر بنوع من الغلبة فبروزهم لله يومئذ إنما هو ناشئ عن كونه تعالى هو الواحد الذي يقوم به وجود كل شيء و يقهر كل من دونه من مؤثر فلا يحول بينهم و بينه حائل فهم بارزون له بروزا مطلقا.
قوله تعالى: {وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشىَ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ} المقرنين من التقرين و هو جمع الشيء إلى نظيره و الأصفاد جمع الصفد و هو الغل الذي يجمع اليد إلى العنق أو هو مطلق السلسلة يقرن بين المقيدين، و السرابيل جمع السربال و هو القميص و القطران شيء أسود منتن يطلى به الإبل فإنهم يطلون به فيصير كالقميص عليهم و الغشاوة بالفتح الستر و التغطية يقال: غشي يغشى غشاوة أي ستره و غطاه، و معنى الآيتين واضح.
قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اَللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} معنى
الآية واضح، و هي بظاهرها تدل على أن الذي تجزى به كل نفس هو عين ما كسبته من حسنة أو سيئة و إن تبدلت صورته، فهي من الآيات الدالة على أن الذي يلحق بهم يوم القيامة هو نتيجة أعمالهم.
فالآية تفسر أولا معنى الجزاء في يوم الجزاء، و ثانيا معنى انتقامه تعالى يومئذ و أنه ليس من قبيل عقوبة المجرم العاصي تشفيا منه بل إلحاق ما يستدعيه عمل المجرم به و إن شئت فقل إيصال ما اكتسبه المجرم بعينه إليه.
و في تعليل هذا الجزاء و هو في يوم القيامة بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ} إيماء إلى أن الجزاء واقع من غير فصل و مهل إلا أن ظرف ظهوره هو ذلك اليوم لا غير، أو أن الحكم بالجزاء و كتابته واقع عند العمل و تحققه يوم القيامة و مآل الوجهين واحد في الحقيقة.
قوله تعالى: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ} البلاغ بمعنى التبليغ على ما ذكره الراغب أو بمعنى الكفاية على ما ذكره غيره.
و الآية خاتمة السورة فالأنسب أن تكون الإشارة بهذا إلى ما أورد في السورة من البيان لا إلى مجموع القرآن كما ذكره بعضهم و لا إلى ما ذكر من قوله تعالى: {وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة كما ذكره آخرون.
و قوله: {وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ} إلخ، اللام فيه للغاية و هو معطوف على محذوف إنما حذف لفخامة أمره و عظم شأنه لا يحيط به أفهام الناس لاشتماله من الأسرار الإلهية على ما لا يطيقونه، و إنما تسع عقولهم ما ذكر من غاياته و هو الإنذار و العلم بوحدانيته تعالى و التذكر، فهم ينذرون بما ذكر فيها من مؤاخذته تعالى الظالمين عاجلا و آجلا، و تتم عليهم الحجة بما ذكر فيها من آيات التوحيد، و يتذكر المؤمنون منهم خاصة بما فيها من المعارف الإلهية.
و بهذا يتطابق مختتم السورة و مفتتحها أعني قوله في أول السورة: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ} فقد تقدم أن مدلول الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالدعوة و التبليغ إلى صراط الله بما أنه
تعالى ربهم العزيز الحميد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه فإنهم إن استجابوا الدعوة و آمنوا خرجوا بذلك من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بالفعل و إن لم يستجيبوا أنذروا و وقفوا على التوحيد الحق و خرجوا من الجهل إلى العلم و هو نوع خروج من الظلمة إلى النور و إن كان وبالا عليهم و خسارا ففي الدعوة على أي حال إنذار للناس و إعلامهم أنما هو إله واحد و تذكر لأولي الألباب منهم خاصة و هم المؤمنون.
(بحث روائي)
في المعاني بإسناده عن ثوبان: أن يهوديا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد فرفعه ثوبان برجله و قال: قل: يا رسول الله فقال: لا أدعوه إلا بأسماء أهله قال: أ رأيت قول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ} أين الناس يومئذ قال: في الظلمة دون المحشر. قال: فما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوها؟ قال كبد الحوت قال: فما شرابهم على إثر ذلك، قال: السلسبيل. قال صدقت يا محمد.
أقول: و روي الحديث في الدر المنثور، عن مسلم و ابن جرير و الحاكم و البيهقي في الدلائل عن ثوبان: مثله إلى قوله: في الظلمة و روي أيضا عن عدة عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن ذلك فقال: على الصراط.
و في تفسير العياشي عن ثوير بن أبي فاختة عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: {تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} يعني بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليست عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة.
أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره و فيه دلالة على حدوث الجبال و كذا النبات بعد تمام خلقة الأرض.
و في الدر المنثور أخرج البزار و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} قال: أرض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام و لم تعمل فيها خطيئة.
أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن علي عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): مثله.
و فيه أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في الآية قال: تبدل الأرض من فضة و السماء من ذهب.
أقول: و حمل بعضهم الكلام على التشبيه كما وقع في حديث ابن مسعود السابق.
و في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سأله أبرش الكلبي عن قول الله عز و جل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} قال: تبدل خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب. فقال الأبرش: فقلت: إن الناس يومئذ لفي شغل من الأكل فقال أبو جعفر (عليه السلام) فهم في النار لا يشتغلون عن أكل الضريع و شرب الحميم و هم في عذاب فكيف يشتغلون عنه في الحساب؟
أقول: و قوله: «تبدل خبزة نقية» يحتمل التشبيه كما ربما يستفاد من الخبر الآتي.
و في إرشاد المفيد و احتجاج الطبرسي عن عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على ولد سالم مولاه و محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) جالس في المسجد فقال له سالم مولاه يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي قال هشام: المفتونون به أهل العراق؟ قال: نعم. فقال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس و يشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة قال أبو جعفر (عليه السلام): يحشر الناس على مثل قرص نقي فيها أنهار متفجرة - يأكلون و يشربون حتى يفرغ من الحساب .
قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به فقال: الله أكبر اذهب إليه فقل: ما أشغلهم عن الأكل و الشرب يومئذ. فقال أبو جعفر (عليه السلام): هم في النار أشغل و لم يشتغلوا عن ذلك قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فسكت هشام لا يرجع كلاما.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب: أن رجلا من يهود سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} ما الذي تبدل به؟ فقال: خبزة،
فقال اليهودي: درمكة بأبي أنت، قال: فضحك ثم قال: قاتل الله اليهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز.
و فيه أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الدلائل عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حبر من اليهود و قال: أ رأيت إذ يقول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} فأين الخلق عند ذلك؟ قال: أضياف الله لن يعجزهم ما لديه.
أقول: و اختلاف الروايات في تفسير التبديل لا يخلو عن دلالة على أنها أمثال مضروبة للتقريب و المسلم من معنى التبدل أن حقيقة الأرض و السماء و ما فيهما يومئذ هي هي غير أن النظام الجاري فيهما يومئذ هو غير النظام الجاري فيهما في الدنيا.
و في المعاني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس فيهم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض - فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه.
ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه لا و الله ما خلت الجنة من أرواح المؤمنين منذ خلقها، و لا خلت النار من أرواح الكفار و العصاة منذ خلقها عز و جل لعلكم ترون إذا كان يوم القيامة و صير أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة و صير أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار إن الله تعالى لا يعبد في بلاده و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحدونه؟ بلى و الله ليخلقن الله خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحدونه و يعظمونه و يخلق لهم أرضا تحملهم و سماء تظلهم أ ليس الله عز و جل يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ}؟ و قد قال عز و جل: {أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام): مثله، و هو غير المعاني التي أوردناها سابقا.
و في تفسير القمي قوله : {يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ} قال تبدل خبزة بيضاء في الموقف يأكل منها المؤمنون {وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ} قال: قال: مقرنين بعضهم إلى بعض {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} قال: قال: السرابيل القميص.
قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} هو الصفر الحار المذاب انتهى حره يقول الله عز و جل: {وَ تَغْشىَ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ} سربلوا ذلك الصفر و تغشى وجوههم النار.
أقول: يعني أن المراد بالجملتين: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشىَ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ} جميعا بيان أنهم مستورون مغشيون أما أبدانهم فبالقطران و أما وجوههم فبالنار.
(١٥) (سورة الحجر مكية و هي تسع و تسعون آية) (٩٩)
[سورة الحجر (١٥): الآیات ١ الی ٩]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ ١ رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ٢ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٣ وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ٤ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ ٥ وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ٦ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٧ مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ٨ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٩}
(بيان)
تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رميه بالجنون و رمي القرآن الكريم بأنه من إهذار المجانين ففيها تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمره بالصبر و الثبات و الصفح عنهم و تطييب لنفسه الشريفة و إنذار و تبشير.
و هي مكية على ما تشهد به آياتها، و نقل في المجمع عن الحسن استثناء قوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي} (الآية)، و قوله {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ} و سيأتي ما فيه.
و تشتمل السورة على قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} إلخ، و الآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اكتتم في أول البعثة ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا لا يعلن دعوته لاشتداد الأمر عليه فكان لا يدعو إلا آحادا ممن يرجو منهم الإيمان يدعوهم خفية و يسر إليهم الدعوة حتى أذن له ربه في ذلك و أمره أن يعلن دعوته.
و تؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة و أهل السنة أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يكتتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله تعالى عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ} فخرج إلى الناس و أظهر الدعوة، و عليه فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة العلنية.
و من غرر الآيات القرآنية المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} (الآية)، و قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ} الإشارة إلى الآيات الكريمة القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن، و تنكير القرآن للدلالة على عظم شأنه و فخامة أمره كما أن التعبير بتلك و هي للإشارة إلى البعيد لذلك.
و المعنى هذه الآيات العالية منزلة الرفيعة درجة التي ننزلها إليك آيات الكتاب الإلهي و آيات قرآن عظيم الشأن فاصل بين الحق. و الباطل على خلاف ما يرميها به الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزءين بكلام الله.
و من الممكن أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإن القرآن منه و فيه قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}: الواقعة: ٧٨ و قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}: البروج: ٢٢ فيكون قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ} كالملخص من قوله: {وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}: الزخرف: ٤.
قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} توطئة لما سيتعرض له من قولهم للنبي: {يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} يشير به إلى أنهم سيندمون
على ما هم عليه من الكفر و يتمنون الإسلام لله و الإيمان بكتابه يوم لا سبيل لهم إلى تحصيل ذلك.
فقوله: {رُبَمَا يَوَدُّ} المراد به ودادة التمني لا مطلق الودادة و الحب، و الدليل على ذلك قوله في بيان هذه المودة: {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} فإن لفظي {لَوْ} و {كَانُوا} تدلان على أن ودادتهم ودادة تمن و أنهم يتمنون الإسلام بالنسبة إلى ماضي حالهم مما فاتهم و لن يعود إليهم فليس إلا الإسلام ما داموا في الدنيا.
فالآية تدل على أن الذين كفروا سيندمون على كفرهم و يتمنون أن لو كانوا مسلمين بعد انطواء بساط الحياة الدنيا.
قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الإلهاء الصرف و الإشغال يقال: ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه و أنساه ذكره.
و قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ} أمر برفع اليد عنهم و تركهم و ما هم فيه من الباطل، و هو كناية عن النهي عن الجدال معهم و الاحتجاج عليهم لإثبات هذه الحقيقة و هي أنهم سوف يودون الإسلام و يتمنونه و لا سبيل لهم إلى تحصيله و تدارك ما فات منه، و قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} في موضع التعليل للأمر أي ذرهم و لا تجادلهم و لا تحاجهم فلا حاجة إلى ذلك لأنهم سوف يعلمون ذلك فإن الحق ظاهر لا محالة.
و في الآية تعريض لهم أنهم لا غاية لهم في حياتهم إلا الأكل و التمتع بلذات المادة و التلهي بالآمال و الأماني فلا منطق لهم إلا منطق الأنعام و الحيوان العجم فمن الحري أن يتركوا و ما هم فيه، و لا يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على أساس العقل السليم و المنطق الإنساني.
قوله تعالى: {وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} إلى آخر الآيتين تثبيت و توكيد لقوله في الآية السابقة: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} على ما يعطيه السياق و المعنى دعهم فإنهم لا يسلمون في هذه الحياة الدنيا و إنما يودون الإسلام بعد حلول أجلهم و نزول الهلاك بهم، و الناس ليسوا بذوي خيرة في ذلك بل لكل أمة كتاب معلوم عند الله مكتوب فيه أجلهم لا يقدرون أن يستقدموه و لا يستأخروه ساعة.
و في الآيتين دلالة على أن الأمة من الإنسان لها كتاب كما أن للفرد منه كتابا، قال تعالى: {وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً}: إسراء: ١٣.
قوله تعالى: {وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} كلام خارج مخرج الاستهزاء و لذلك خاطبوه (صلى الله عليه وآله و سلم) لا باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما كان يدعيه، و جاءوا بالفعل المجهول للدلالة على أن منزله غير معلوم عندهم و لا اعتماد و لا وثوق لهم بما يدعيه هو أن الله تعالى هو الذي أنزله، و توصيفه بالذي نزل عليه الذكر و كذا تسمية النازل عليه ذكرا كل ذلك من الاستهزاء كما أن قولهم: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} رمي و تكذيب.
قوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ} لو ما مثل هلا للتحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق دعواك و ينذر معك، فهو قريب المعنى من قولهم على ما حكاه الله: {لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}: الفرقان: ٧.
و وجه اقتراحهم على الأنبياء أن يأتوا بالملائكة و يظهروهم لهم اعتقادهم أن البشرية كينونة مادية مغمورة في قذارة الشهوة و الغضب لا نسبة بينها و بين العالم السماوي الذي هو محض النورانية و الطهارة فمن ادعى نوعا من الاتصال بذاك العالم الروحاني فعليه أن يأتي ببعض أهله من الملائكة الكرام ليصدقوه في دعواه و يعينوه في دعوته.
على أن الملائكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه فدعوتهم إلى التوحيد معناها أن هؤلاء الآلهة في معزل من الشفاعة و العبادة بأمر من الله سبحانه و هو إله الآلهة و لا دليل على ذلك كاعترافهم به فلينزلوا و ليعترفوا و يصدقوا النبوة.
قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} جواب عما اقترحوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بالملائكة حتى يصدقوه، و محصل الجواب أن السنة الإلهية جارية على ستر ملائكته عنهم تحت أستار الغيب فلو أنزلهم و أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأن الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعي
إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.
و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحق و تميط الباطل لأنزلهم بالحق الفاصل المميز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصل ما ذكره بعضهم.
و قيل: المراد بالحق في الآية الموت و المعنى ما نزل الملائكة على الناس إلا مصاحبا للحق الذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنه مأخوذ من قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرىَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} (الآية).
و قيل: المراد بالحق الرسالة أي ما نزل الملائكة إلا بالوحي و الرسالة و كأنه مأخوذ من نحو قوله: {قَدْ جَاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ}: النساء: ١٧٠«و قوله {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}: الأنعام: ٥.
فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعا لا تخلو من شيء و هو أن شيئا منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله: {مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} فنزول الملائكة لا يختص بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختص بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقررة آنفا.
و يمكن أن يقرر معنى الآية باستمداد من التدبر في آيات أخر أن ظرف الحياة المادية أعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط فيه الحق و الباطل من غير أن يتمحض الحق في الظهور بجميع خواصه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ}: الرعد: ١٧، و قد تقدم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شيء من الحق إلا و هو يحتمل شيئا من اللبس و الشك كما يصدقه استقراء الموارد التي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى: {وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}: الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلا مع إمكان التباس الحق بالباطل و اختلاط الخير و الشر بنحو حتى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدل على الخير و الشر بآثارهما و أماراتهما ثم يختار
ما يستحقه من السعادة و الشقاوة.
و أما عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنما هو عالم الحق غير مشوب بشيء من الباطل كما يدل عليه قوله تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}: التحريم: ٦ و قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}: الأنبياء: ٢٧.
فمقتضى الآيات و ما في معناها أنهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانية منزهة عن النقص و الشين لا تحتمل الشر و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادي المبني على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعا، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.
و سيأتي أيضا أن الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحق ما دام متوغلا في هذا العالم المادي متورطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحق و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق - ٢٢ و هذا هو العالم الذي يسمى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.
فتبين أن ظهور عالم الملائكة للناس المتوغلين في عالم المادة متوقف على تبدل الظرف و الانتقال من الدنيا إلى الآخرة و هو الموت اللهم إلا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهلية مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياء (عليه السلام).
و لعل ما قدمناه هو المراد بقوله: {مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ}، فإنهم إنما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصلية حتى يصدقوا و هذا الحال لا تتمهد لهم إلا بالموت كما قال تعالى: {وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ} إلى أن قال {يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرىَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنَا إِلىَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}: الفرقان: ٢٣.
و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: {وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}: الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلدنا الملك النبوة و الرسالة كان لازمه أن نصوره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فإن الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهي و لا امتحان إلا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كله.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أن الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من أهذار الجنون و أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدقوه في دعوته و أن القرآن كتاب سماوي حق.
و المعنى على هذا و الله أعلم أن هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدة بطشهم و تتكلف لحفظه ثم لا تقدر، و ليس نازلا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالا تدريجيا و إنا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.
فهو ذكر حي خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه.
فالآية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حي خالد.
و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرف بأي وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}: حم السجدة: ٤٢.
و قد ظهر بما تقدم أن اللام في الذكر للعهد الذكري و أن المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الآية أنها لو دلت على نفي التحريف من القرآن لأنه ذكر لدلت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضا لأن كلا منهما ذكر مع أن كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.
و ذلك أن الآية بقرينة السياق إنما تدل على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الإلهي و دوران الحكم مداره.
و سنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير القمي بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنة إلا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثم قال: «ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل» أي شغلهم فسوف يعلمون».
أقول: و روى العياشي عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في تفسير الآية مثله.
و في الدر المنثور أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): {رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي موسى الأشعري و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنة عن علي بن أبي طالب قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق أعينهم، و لا تسود وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلون بالسلاسل، و لا يجرعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود .
فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، و أطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.
فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى - فيخرجهم إلى عين بين الجنة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنة ما شاء الله أن يمكثوا .
ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكا فيمحوه ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم و لذاتهم، و ذلك قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}.
أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.
و فيه أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) غرس عودا بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإن هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.
أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، و طول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، و طول الأمل ينسي الآخرة.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} قال: قال (عليه السلام): لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.
كلام في أن القرآن مصون عن التحريف في فصول
الفصل ١ الاستدلال على نفي التحريف بالقرآن
من ضروريات التاريخ أن النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) جاء قبل أربعة عشر قرنا تقريبا و ادعى النبوة و انتهض للدعوة و آمن به أمة من العرب و غيرهم، و أنه جاء بكتاب يسميه القرآن و ينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف و كليات الشريعة التي كان يدعو إليها، و كان يتحدى به و يعده آية لنبوته، و أن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.
و إنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية۱ أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أما جل الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يضع و لم يفقد.
ثم إنا نجد القرآن يتحدى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدى بها من غير أن يتغير في شيء منها أو يفوته و يفقد.
فنجده يتحدى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شيء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود و القلوب.
و نجده يتحدى بقوله: {أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً}: النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلا و يرفعه آية أخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأي من شطر إلا و هناك ما يدفعه و يفسره.
و نجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: {قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}: إسراء: ٨٨ و قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ}: الطارق: ١٤ ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية و كليات الشرائع الفطرية و تفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شيء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حية بحياة واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية و الأصل الذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كل منها بالتركيب.
و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و أممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوة و خلوصها للعبودية و الطاعة و كلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح
أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.
و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور و أنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملة التي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.
و من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر لله فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حية خالدة و بما أنه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكل إليه سبحانه، و تفاصيل ما يئول إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنة و النار.
ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.
و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن عبر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}: حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالا و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.
و كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية و يبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.
و من سخيف القول إرجاع ضمير {لَهُ} إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه مدفوع بالسياق و إنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا: {وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} و قد
مر تفسير الآية.
فقد تبين مما فصلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و وصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيه فيه.
و خلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النورية و الذكرية و الهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.
الفصل ٢ الاستدلال عليه بالحديث
و يدل على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حل عقد المشكلات.
و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» (الحديث) فلا معنى للأمر بالتمسك بكتاب محرف و نفي الضلال أبدا ممن تمسك به.
و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أن ذلك في الأخبار الفقهية و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأن أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.
على أن لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الأمر بالعرض إنما هو
لتمييز الصدق من الكذب و الحق من الباطل و من المعلوم أن الدس و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس و الوضع في المعارف الاعتقادية و قصص الأنبياء و الأمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات و ما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح و أبين.
و كذا الأخبار التي تتضمن تمسك أئمة أهل البيت (عليه السلام) بمختلف الآيات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم (عليه السلام) كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.
و كذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين و سائر الأئمة من ذريته (عليه السلام) في أن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه و إن كان غير ما ألفه علي (عليه السلام) من المصحف و لم يشركوه (عليه السلام) في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب- قولهم (عليه السلام) لشيعتهم: اقرءوا كما قرأ الناس».
و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألفه علي (عليه السلام) في شيء فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا و لا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها.
فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدل دلالة قاطعة على أن الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير أن يفقد شيئا من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.
الفصل ٣ كلام مثبتي التحريف و جوابه
ذهب جماعة من محدثي الشيعة و الحشوية و جماعة من محدثي أهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.
و احتجوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.
أحدها: الأخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة و أهل السنة الدالة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأول الذي ألف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادعى بعضهم أنها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنة في صحاحهم كصحيحي البخاري و مسلم و سنن أبي داود و السنائي و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء.
و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفا، و قيل: بضع و خمسين حرفا.۱
و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية و الجمع الأول في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.
و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود و أبي ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانية و غير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة و التابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
الوجه الثاني: أن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس و تصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.
الوجه الثالث: ما روته العامة و الخاصة: أن عليا (عليه السلام) اعتزل الناس بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يرتد إلا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس و أعلمهم أنه القرآن
الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد جمعه فردوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كان (عليه السلام) أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتفق عليه: علي مع الحق و الحق مع علي.
الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة، بالقذة و قد حرفت بنو إسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بد أن يقع نظيره في هذه الأمة فيحرفوا كتاب ربهم و هو القرآن الكريم.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و أمهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟
و الرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبي سعيد الخدري كما مر و أبي هريرة و عبد الله بن عمر، و ابن عباس و حذيفة و عبد الله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شداد بن أوس و المستورد بن شداد في ألفاظ متقاربة. و هي مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
كما في تفسير القمي عنه (صلى الله عليه وآله و سلم): لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.
و الجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية.
بيان ذلك: أن الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين
باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أن الإجماع المحصل مفيد للقطع و ذلك أن الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلا الظن بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنما يفيد قوة الظن دون القطع لأن القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن و ليس بالمركب من عدة ظنون.
و هكذا كلما انضم قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظن قوة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم، هذا في المحصل من الإجماع و هو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال و الحصول على كل قول قول، و أما المنقول منه الذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلا الظن إن أفاد شيئا من الاعتقاد.
فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلا قوله (صلى الله عليه وآله و سلم): «لا تجتمع أمتي على خطإ أو ضلال» و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.
فحجية الإجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة و ذلك ظاهر، و صحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصة الإعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته و محتوياته أنه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الإجماع عن الحجية.
و لا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام أن وجود القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.
و ذلك لأن مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لإثبات مطلوب.
و الجواب عن الوجه الأول الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الذي تمسك فيه بالأخبار:
أما أولا فبأن التمسك بالأخبار بما أنها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.
فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما أنها أسناد و مصادر تاريخية و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.
و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدس فإن انسراب الإسرائيليات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس و الوضع.
و مع الغض عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه، و مع الغض عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة: أما ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقل قليل.
و أما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصر في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكية من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة و ذلك كما في روضة الكافي عن أبي الحسن الأول: في قول الله: {أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب {وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}.
و ما في الكافي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} قال: إن تلووا الأمر و تعرضوا عما أمرتم به {فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.
و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا: {يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في علي و الآية نازلة في حقه (عليه السلام)، و ما روي :أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ اَلْحُجُرَاتِ} بنو تميم {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فظن أن في الآية سقطا.
و يلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله: {وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} آل محمد حقهم و ما ورد من قوله: {وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ} في ولاية علي و الأئمة من بعده {فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} و هي كثيرة جدا.
و يلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر و الدعاء فتوهم أنه من سقط القرآن كما في الكافي عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال: [قلت] كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربي كذلك الله ربي.
و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ففي بعضها أن الآية هكذا: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء» و في بعضها: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل.
و هذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيده ما ورد في بعضها من قوله (عليه السلام): لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و ربما لم يكن إلا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة و العامة و هي في بعضها : «إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة. و في بعضها. «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذة» و في بعضها آخرها: «نكالا من الله و الله عليم حكيم» و في بعضها: {نَكَالاً مِنَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
و كآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:
{اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ}و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا {مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} إلى قوله {وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ} و الحمد لله رب العالمين.
و في بعضها إلى قوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} و الحمد لله رب العالمين، و في بعضها هكذا: {لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ} و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم» إلخ. و في بعضها: «عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام رب العرش العظيم» و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم».
و ما ذكره بعض المحدثين أن اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف. مردود بأن ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.
و أما ما ذكرنا من شيوع الدس و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الأمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهم أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الذي يأوي إليه و يتحصن به المعارف الدينية و السند الحي الخالد لمنشور النبوة و مواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر النبوة و اختل نظام الدين و لم يستقر من بنيته حجر على حجر.
و العجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت (عليه السلام) على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيته، و ببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى و المعارف الدينية لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إن رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة و أتى بالقرآن معجزة أما هو فقد مات و أما قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا مما يؤيد أمره إلا أن المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أن القرآن الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته، و الإجماع حجة لأن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته.
و بالجملة احتمال الدس و هو قريب جدا مؤيد بالشواهد و القرائن يدفع
حجية هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية و لا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الأسناد فإن صحة السند و عدالة رجال الطريق إنما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.
و أما ما ذكرناه أن روايات التحريف تذكر آيات و سورا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنة فسورة الخلع هي: {بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك} و سورة الحفد هي: {بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق}.
و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف و لم يبلغ النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه و تقضي أن أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام إلهي نظرة.
و أما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} و قوله: {وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ} الآيتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.
كيف لا؟ و القرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقية و علومه الإلهية الكلية و الجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على أصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذي
وصفه الله بها.
و الجواب عن الوجه الثاني أن دعوى الامتناع العادي مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلا أن تقوم قرائن تدل على ذلك و هي قائمة كما قدمنا، و أما أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادي فلا.
و الجواب عن الوجه الثالث أن جمعه (عليه السلام) القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.
و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرد إعراضهم عما جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنه (عليه السلام) في موارد شتى و لم ينقل عنه (عليه السلام) فيما روي من احتجاجاته أنه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك، و جبههم على إسقاطها أو تحريفها.
و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.
و ليت شعري هل يسعنا أن ندعي أن ذاك الجم الغفير من الآيات التي يرون سقوطها و ربما ادعوا أنها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلما نزل و تعلمه و بلوغ اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نص على ذلك القرآن قال تعالى: {وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ}: الجمعة: ٢ و قال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله: {وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامىَ} و قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ} أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنة أن سورة
براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أن الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!
أو أن هذه الآيات و قد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.
فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها و إذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و لا منزها من الاختلاف، و لا قولا فصلا و لا هاديا إلى الحق و إلى طريق مستقيم، و لا معجزا يتحدى به و لا، و لا، فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ، و أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و أنه قول فصل، و أنه هدى، و أنه نور، و أنه فرقان بين الحق و الباطل، و أنه آية معجزة، و أنه، و أنه؟
فهل يسعنا أن نقول: إن هذه الآيات على كثرتها و إباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط و هو غير المنسي و منسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل و قول فصل و هدى و نور و فرقان و معجزة خالدة؟
و هل جعل الكلام منسوخ التلاوة و نسيا منسيا غير إبطاله و إماتته؟ و هل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد و لا يصلح شأنا مما فسد غير إلغائه و طرحه و إهماله؟ و كيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟
فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين و كذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.
و الجواب عن الوجه الرابع: أن أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في
هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه، و هي متظافرة أو متواترة، لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات، و هو ظاهر بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج و الآثار، و حينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنما هي في حدوث الاختلاف و التفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا و افتراقها إلى ثلاث و سبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين و سبعين و اليهود إلى واحدة و سبعين و قد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.
و من المعلوم أن الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله، و ليس ذلك إلا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه، و تفسير القرآن الكريم بالرأي، و الاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب و تمييز الصحيح منها من السقيم.
و بالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شيء من التحريف الذي يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير و الإسقاط، و هذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم.
الفصل ٤ الجمع الأول للمصحف
في تاريخ اليعقوبي: قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فإني أخاف عليه أن يذهب حملته، فقال له أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه و كتبه في صحف، و كان مفرقا في الجريد و غيرها.
و أجلس خمسة و عشرين رجلا من قريش و خمسين رجلا من الأنصار فقال: اكتبوا القرآن و اعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.
و روى بعضهم :أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان جمعه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أتى به يحمله على جمل فقال: هذا القرآن قد جمعته. قال: و كان قد جزأه سبعة أجزاء ثم ذكر الأجزاء.
و في تاريخ أبي الفداء: و قتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين
و الأنصار، و لما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال و جريد النخل و الجلود، و ترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، انتهى.
و الأصل فيما ذكراه الروايات فقد أخرج البخاري في صحيحة عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن و إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال عمر: هذا و الله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك و رأيت الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك و قد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال: هو و الله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسف و اللخاف و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.
و عن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) شيئا من القرآن فليأت به و كانوا يكتبون ذلك في الصحف و الألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.
و عنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه و في الطريق انقطاع : أن أبا بكر قال لعمر و لزيد: اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
و في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف، عن الليث بن سعد قال :أول من جمع القرآن أبو بكر و كتبه زيد، و كان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلا
بشاهدي عدل، و إن آخر سورة براءة لم يوجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت فقال: اكتبوها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده.
و عن ابن أبي داود في المصاحف، من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال :أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و وعيتهما، فقال عمر: و أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها.
و عنه أيضا من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب :أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة {ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} ظنوا أن هذا آخر ما أنزل فقال أبي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أقرأني بعد هذا آيتين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة.
و في الإتقان عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال: قال: قبض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يكن القرآن جمع في شيء.
و في مستدرك الحاكم بإسناده عن زيد بن ثابت قال :كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نؤلف القرآن من الرقاع )الحديث(.
أقول: و لعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو إلحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال و المئين و المفصلات، فقد ورد لها ذكر في الأحاديث النبوية، و إلا فتأليف القرآن و جمعه مصحفا واحدا إنما كان بعد ما قبض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلا إشكال، و على مثل هذا ينبغي أن يحمل ما يأتي.
في صحيح النسائي عن ابن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: اقرأه في شهر.
و في الإتقان عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال :جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت
و أبي بن كعب و أبو الدرداء و أبو أيوب الأنصاري.
و فيه عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال :جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أربعة لا يختلف فيهم معاذ بن جبل و أبي بن كعب و أبو زيد و اختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء و عثمان» و قيل: عثمان و تميم الداري.
و فيه عنه و عن ابن أبي داود عن الشعبي قال :جمع القرآن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سبعة: أبي و زيد و معاذ و أبو الدرداء و سعيد بن عبيد و أبو زيد و مجمع بن حارثة، و قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث.
و فيه أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال : أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه )الحديث(.
أقول: أقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور و الآيات، و أما العناية بترتيب السور و الآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا. هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.
الفصل ٥ الجمع الثاني للقرآن
و قد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف و كثرت القراءات.
قال اليعقوبي في تاريخه: و جمع عثمان القرآن و ألفه و صير الطوال مع الطوال و القصار مع القصار من السور، و كتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار و الخل، و قيل: أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود.
و كان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر و كتب [إليه] عثمان أن أشخصه إن لم يكن هذا الدين خبالا و هذه الأمة فسادا فدخل المسجد و عثمان يخطب فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة و قالت قولا كثيرا.
و بعث بها إلى الأمصار و بعث بمصحف إلى الكوفة و مصحف إلى البصرة و مصحف إلى المدينة و مصحف إلى مكة و مصحف إلى مصر و مصحف إلى الشام و مصحف إلى البحرين و مصحف إلى اليمن و مصحف إلى الجزيرة.
و أمر الناس أن يقرءوا على نسخة واحدة، و كان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون: قرآن آل فلان فأراد أن يكون نسخته واحدة، و قيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه أنه كان يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا، و قيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان. انتهى موضع الحاجة.
و في الإتقان روى البخاري عن أنس :أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و آذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف .
و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
قال زيد: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ} فألحقناها في سورتها في المصحف.
و فيه أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال: حدثني رجل من بني عامر يقال له: أنس بن مالك قال :اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان و المعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به و تلحنون فيه فمن نأى عني كان أشد تكذيبا و أكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا و اكتبوا للناس إماما.
فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا و تدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)
فلانا فيرسل إليه و هو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له: كيف أقرأك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) آية كذا و كذا؟ فيقول كذا و كذا فيكتبونها و قد تركوا لذلك مكانا.
و فيه عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال :لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش و الأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها و كان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه.
قال محمد: فظننت أنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله.
و فيه أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا قال ما تقولون في هذه القراء؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفرا قلنا: فما ترى؟ [قال: أرى] أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة و لا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت.
و في الدر المنثور أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان :لما أراد أن يكتب المصاحب أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: {وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ} قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.
و في الإتقان عن أحمد و أبي داود و الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم عن ابن عباس قال :قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني و إلى براءة و هي من المئين فقربتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموهما في السبع الطوال.
فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا، و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولا و كانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يبين لنا أنها منها .
فمن أجل ذلك قرنت بينهما، و لم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
و وضعتها في السبع الطوال.
أقول: السبع الطوال -على ما يظهر من هذه الرواية و روي أيضا عن أبي جبير هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و يونس، و قد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال و هي من المثاني و براءة و هي من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف و يونس مقدما الأنفال على براءة.
الفصل ٦ حول روايات الجمعين
الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن و تأليفه بين صحيحة و سقيمة، و هي تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب و اللخاف و الأكتاف و الجلود و الرقاع و إلحاق الآيات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.
و إن الجمع الثاني و هو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول بعد عروض تعارض النسخ و اختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد إنه ألحق قوله: {مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ} (الآية)، في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة و ليست فيها الآية.
و قد روى البخاري عن ابن الزبير قال :قلت لعثمان {وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
و الذي يعطيه النظر الحر في أمر هذه الروايات و دلالتها و هي عمدة ما في هذا الباب أنها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يبلغ الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا، و كان يعلمهم و يبين لهم ما نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن، و لم يزل جماعة منهم يعلمون و يتعلمون القرآن تعلم تلاوة و بيان و هم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.
و كان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن و تعاطيه و لم يترك هذا الشأن و لا ارتفع القرآن من بينهم و لا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة و الإنجيل و كتب سائر الأنبياء.
أضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة و أهل السنة في قراءاته (صلى الله عليه وآله و سلم) كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية و غيرها بمسمع من ملإ الناس، و قد سمي في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها و مدنيتها.
أضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص: في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ} (الآية): النحل: ٩٠من قوله (صلى الله عليه وآله و سلم) إن جبريل أتاني بهذه الآية و أمرني أن أضعها في موضعها من السورة، و نظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته (صلى الله عليه وآله و سلم) لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران و النساء و غيرها فيدل على أنه (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يأمر كتاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.
و أعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث أن القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.
و بالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي:
أولا: أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شيء و لم يتغير منه شيء و أما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روي بعدة طرق أن عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم و لم تكتب عنه و أما حملهم الرواية و سائر ما ورد في التحريف و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده و تحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.
على أن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أولا بأمر من أبي بكر و ثانيا بأمر من عثمان كعلي (عليه السلام) و أبي بن كعب و عبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود أنه لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول: إنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعوذ بهما الحسنين (عليه السلام)، و قد رده سائر الصحابة و تواترت النصوص من أئمة أهل البيت (عليه السلام) على أنهما سورتان من القرآن.
و بالجملة الروايات السابقة كما ترى آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة و التغيير قطعا دون النقص إلا ظنا، و دعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
و التعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث أن القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله ص ككونه قولا فصلا و رافعا للاختلاف و ذكرا و هاديا و نورا و مبينا للمعارف الحقيقية و الشرائع الفطرية و آية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
و من الحري أن نعول على هذا الوجه فإن حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق و بيد من كان و من أي طريق وصل.
و بعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه (صلى الله عليه وآله و سلم) بنقل متواتر أو متظافر و إن كان واجدا لذلك بل الأمر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب و الرسائل المنسوبة إلى المصنفين و الكتاب، و الأقاويل المأثورة عن العلماء و أصحاب الأنظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي و بلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته.
و ثانيا: أن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول و الثاني و من الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال و براءة بين الأعراف و يونس و قد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.
و من الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول و الثاني كليهما كما روي أن مصحف علي (عليه السلام) كان مرتبا على ترتيب النزول فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير و هكذا إلى آخر المكي و المدني نقله في الإتقان عن ابن فارس، و في تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه (عليه السلام).
و نقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب مصحف أبي و هو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة، و كذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصل و هو أيضا مغاير للمصحف الدائر.
و قد ذهب كثير منهم إلى أن ترتيب السور توقيفي و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر و ليت شعري أين هذا التواتر و قد تقدمت عمدة روايات الباب و لا أثر فيها من هذا المعنى، و سيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تدريجا.
و ثالثا: أن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأول و قد تقدمت.
و أما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ} (الآية) فلا تدل على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله و سلم) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة، و على تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و مجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك و إنما يفيد أنهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما علموه لا فيما جهلوه. و في روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على أنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات و لا بنفسها.
و يدل على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة و أهل السنة أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود و الحاكم و البيهقي و البزار من طريق سعيد بن جبير على ما في الإتقان، عن ابن عباس قال :كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يعرف فضل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم زاد البزار: فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت و استقبلت أو ابتدأت سورة أخرى.
و أيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال :كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا أن السورة
قد انقضت، إسناده على شرط الشيخين.
و أيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة، إسناده صحيح.
أقول: و روي ما يقرب من ذلك في عدة روايات أخر و روي ذلك من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).
و الروايات كما ترى صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية و المدنيات في سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة و بعضها بالمدينة، و لا يتحقق هذا الفرض إلا في سورة واحدة.
و لازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة.
توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة و بالعكس و على كون آيات من القرآن نازلة مثلا في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت بين الوقتين سور أخرى كثيرة، و ذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة و فيها آيات الربا و قد وردت الروايات على أنها من آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى ورد عن عمر أنه قال: مات رسول الله و لم يبين لنا آيات الربا، و فيها قوله تعالى: {وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ} (الآية): البقرة: ٢٨١، و قد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية و المدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول و ليس إلا عن اجتهاد من الصحابة.
و يؤيد ذلك ما في الإتقان، عن ابن حجر :و قد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أخرجه ابن أبي داود و هو من مسلمات مداليل روايات الشيعة.
هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور أصروا على أن
ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم و هو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإشارة من جبريل، و أولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب و إنما كان جمعا لما كانوا يعلمونه و يحفظونه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من السور و آياتها المرتبة، بين دفتين و في مكان واحد.
و أنت خبير بأن كيفية الجمع الأول الذي تدل عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا.
و ربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الإجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه و عن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين، و هو إجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف و دلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.
و ربما استدل عليه بالتواتر و يوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو عجيب و قد نقل في الإتقان، بعد نقله ما رواه البخاري و غيره بعدة طرق عن أنس أنه قال: مات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يجمع القرآن غير أربعة.
أبو الدرداء و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد، و في رواية: «أبي بن كعب» بدل أبي الدرداء عن المازري أنه قال :و قد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة و لا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعة الجم الغفير و ليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل و لو على التوزيع كفى، انتهى.
أما دعواه أن ظاهر كلام أنس غير مراد فهو مما لا يصغي إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ إلا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه أما مجرد الدعوى و الاستناد إلى قول آخرين فلا.
على أنه لو حمل كلام أنس على خلاف ظاهره كان من الواجب أن يحمل على أن هؤلاء الأربعة إنما جمعوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) معظم القرآن و أكثر سورة و آياته لا على
أنهم و غيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني و حفظوا ترتيب سوره و آياته و ضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه و هو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس و المتصدي للجمع الأول و الثاني كليهما يصرح في رواياته أنه لم يحفظ جميع الآيات.
و نظيره ما في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر و لم يجمع القرآن و قتل عمر و لم يجمع القرآن.
و أما قوله: سلمناه و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك فمقلوب على نفسه فمن أين لهذا القائل أن الواقع في نفس الأمر كما يدعيه و قد عرفت الشواهد على خلاف ما يدعيه؟
و أما قوله: إنه يكفي في تحقق التواتر أن يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لأنه إنما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر و أما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها و موضعها بالتواتر فلا و هو ظاهر.
و نقل في الإتقان عن البغوي أنه قال في شرح السنة: الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يلقن أصحابه و يعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك و إعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا .
فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد - لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة و ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة انتهى.
و نقل عن ابن الحصار أنه قال: ترتيب السور و وضع الآيات مواضعها -إنما كان بالوحي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، و قد حصل اليقين
من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و إنما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى: و نقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي و الطيبي و ابن حجر.
أما قولهم: إن الصحابة إنما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير أن يخالفوه في شيء فمما لا يدل عليه شيء من الروايات المتقدمة، و إنما المسلم من دلالتها أنهم إنما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات و لا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة و هو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه أنه كان (صلى الله عليه وآله و سلم) يأمر بعض كتاب الوحي بذلك و هو غير إعلامه جميع الصحابة ذلك على أن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول و أخبار نزول بسم الله و غيرها.
و أما قولهم: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل و وحي سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في آية {إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ} و قد عرفت مما تقدم أنه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة، و أين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.
و أما قولهم: إن القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله الله إلى السماء الدنيا ثم أنزله الله مفرقا عند الحاجة إلخ، فإشارة إلى ما روي مستفيضا من طرق الشيعة و أهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا و هو ظاهر.
على أنه سيأتي إن شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ و نزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الآيات كأول سورتي الزخرف و الدخان و سورة القدر.
و أما قولهم: إنه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت أنه دعوى خالية عن الدليل و أن هذا التواتر
لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف و قد تكاثرت الروايات أن ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول إنهما ليستا من القرآن و إنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين، و كان يحكهما عن المصاحف، و لم ينقل عنه أنه رجع عن قوله فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.
الفصل ٧ الكلام حول روايات الإنساء
يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الإنساء و قد مرت إشارة إجمالية إليها و هي عدة روايات وردت من طرق أهل السنة في نسخ القرآن و إنسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا و تغييرا.
فمنها ما في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم و الحاكم في الكنى و ابن عدي و ابن عساكر عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الوحي بالليل و ينساه بالنهار فأنزل الله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}.
و فيه عن أبي داود في ناسخه و البيهقي في الدلائل عن أبي أمامة: أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أخبروه أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم و وقع ذلك لناس من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال: نسخت البارحة فنسخت من صدورهم و من كل شيء كانت فيه.
أقول: و القصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.
و فيه عن عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أبي داود في ناسخه و ابنه في المصاحف و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن سعد بن أبي وقاص: أنه قرأ: «ما ننسخ من آية أو ننسأها» فقيل له: إن سعيد بن المسيب يقرأ {نُنْسِهَا} فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب و لا آل المسيب قال الله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسىَ} {وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.
أقول: يريد بالتمسك بالآيتين أن الله رفع النسيان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيتعين أن يقرأ «ننسأها» من النسيء بمعنى الترك و التأخير فيكون المراد بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ} إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى، و بقوله: «أو ننسأها» ترك الآية و رفعها من عندهم بالمرة و إزالتها عن العمل و التلاوة كما روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم.
و فيه أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبد الله و قراءتنا هي الأخيرة. فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان و أنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن ابن عباس و عبد الله بن مسعود نفسه و غيرهما من الصحابة و التابعين و هناك روايات أخر في الإنساء.
و محصل ما استفيد منها أن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف، و قد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها و قد تقدم في تفسير قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: البقرة: ١٠٦ و سيأتي في قوله: {وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}: النحل: ١٠١ أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة، و تقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف و طرح القبيلين جميعا.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ١٠الی ١٥]
{وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ ١٠وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ١١ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ ١٢ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ ١٣ وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ١٤ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ١٥}
(بيان)
لما ذكر استهزاءهم بكتابه و نبيه و ما اقترحوا عليه من الإتيان بالملائكة آية للرسالة عقبه بثلاث طوائف من الآيات و هي المصدرة بقوله: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} إلخ و قوله: {وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً} إلخ و قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} إلخ.
فبين في أوليها أن هذا الاستهزاء دأب و سنة جارية للمجرمين و ليسوا بمؤمنين و لو جاءتهم آية آية، و في الثانية أن هناك آيات سماوية و أرضية كافية لمن وفق للإيمان و في الثالثة أن الاختلاف بالإيمان و الكفر في نوع الإنسان و ضلال أهل الضلال مما تعين لهم يوم أبدع الله خلق الإنسان، فخلق آدم و جرى هنالك ما جرى من أمر الملائكة بالسجود و إباء إبليس عن ذلك.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ} إلى آخر الآيتين. الشيع جمع شيعة و هي الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتبعونه قال تعالى: {مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: الروم: ٣٢.
و قوله: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي رسلا و قد حذف للاستغناء عنه فإن العناية بأصل تحقق الإرسال من قبل من غير نظر إلى من أرسل بل بيان أن البشر الأولين كالآخرين جرت عادتهم على أن لا يحترموا الرسالة الإلهية و يستهزءوا بمن أتى بها و يمضوا على إجرامهم لتكون في ذلك تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا يضيق صدره بما قابلوه به من الإنكار و الاستهزاء كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله: {وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} الخ: (الآية) - ٩٧ من السورة.
و المعنى: طب نفسا فنحن نزلنا الذكر عليك و نحن نحفظه و لا يضيقن صدرك بما يقولون فهو دأب المجرمين من الأمم الإنسانية أقسم لقد أرسلنا من قبلك في فرق الأولين و شيعهم و حالهم هذه الحال ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ} إلى آخر الآيتين. السلوك. النفاذ و الإنفاذ يقال: سلك الطريق أي نفذ فيه و سلك الخيط في الإبرة أي أنفذه فيها
و أدخله و ذكروا أن سلك و أسلك بمعنى.
و الضميران في {نَسْلُكُهُ} و {بِهِ} للذكر المتقدم ذكره و هو القرآن الكريم و المعنى أن حال رسالتك و دعوتك بالذكر المنزل إليك تشبه حال الرسالة من قبلك فكما أرسلنا من قبلك فقابلوها بالرد و الاستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر و ننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين، و نبأ به: أنهم لا يؤمنون بالذكر و قد مضت طريقة الأولين و سنتهم في أنهم يستهزءون بالحق و لا يتبعونه فالآيتان قريبتا المعنى من قوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}.
و ربما قيل: إن الضميرين للشرك أو الاستهزاء المفهوم من الآيات السابقة و الباء في {بِهِ} للسببية، و المعنى كذلك ننفذ الشرك أو الاستهزاء في قلوب المجرمين لا يؤمنون بسبب الشرك أو الاستهزاء إلخ.
و هو معنى بعيد، و المتبادر إلى الذهن من لفظة {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أن الباء للتعدية دون السببية.
و ربما قيل: إن الضمير الأول للاستهزاء المفهوم من سابق الكلام و الثاني للذكر المذكور سابقا، و المعنى مثل ما سلكنا الاستهزاء في قلوب شيع الأولين نسلك الاستهزاء و ننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بالذكر «إلخ».
و لا بأس به و إن كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن إباء قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفي قرينة لذلك.
و كذا لا يرد على الوجهين ما أورد أن رجوع ضمير {نَسْلُكُهُ} إلى الاستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه.
وجه عدم الورود: أنه تعالى علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده أنهم كانوا متلبسين بالأجرام قبل فعل السلوك بهم ثم فعل بهم ذلك فينطبق على الإضلال الإلهي مجازاة و لا مانع منه، و إنما الممنوع هو الإضلال الابتدائي و لا دليل عليه في الآية بل الدليل على خلافه، و الآية من قبيل قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦. و قد تقدم تفصيل القول فيه.
و قد ظهر مما تقدم أن المراد بسنة الأولين السنة التي سنها الأولون لا السنة التي
سنها الله في الأولين فالسنة سنتهم دون سنة الله فيهم كما ذكره بعض المفسرين فهو الأنسب لمقام ذمهم و تعزيته (صلى الله عليه وآله و سلم) بذكر ردهم و استهزائهم لرسلهم.
قوله تعالى: {وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} إلخ، العروج في السماء الصعود إليها و التسكير الغشاوة.
و المراد بفتح باب من السماء عليهم إيجاد طريق يتيسر لهم به الدخول في العالم العلوي الذي هو مأوى الملائكة و ليس كما يظن سقفا جرمانيا له باب ذو مصراعين يفتح و يغلق، و قد قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}: القمر: ١١.
و قد اختار سبحانه من بين الخوارق التي يظن أنها ترفع عنهم الشبهة و تزيل عن نفوسهم الريب فتح باب من السماء و عروجهم فيه لأنه كان يعظم في أعينهم أكثر من غيره، و لذلك لما اقترحوا عليه أمورا من الخوارق العظيمة ذكروا الرقي في السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى أن قال {أَوْ تَرْقىَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ}: إسراء: ٩٣ فالرقي في السماء و التصرف في أمورها كتنزيل كتاب مقرو منها أي نفوذ البشر في العالم العلوي و تمكنه فيه و منه أعجب الخوارق عندهم.
على أن السماء مأوى الملائكة الكرام و محل صدور الأحكام و الأوامر الإلهية و فيها ألواح التقادير و منها مجاري الأمور و منبع الوحي و إليها صعود كتب الأعمال، فعروج الإنسان فيها يوجب اطلاعه على مجاري الأمور و أسباب الخوارق و حقائق الوحي و النبوة و الدعوة و السعادة و الشقاوة و بالجملة يوجب إشرافه على كل حقيقة، و خاصة إذا كان عروجا مستمرا لا مرة و دفعة كما يشير إليه قوله تعالى: {فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} حيث عبر بقوله: {فَظَلُّوا} و لم يقل: فعرجوا فيه.
فالفتح و العروج بهذا النعت يطلعهم على أصول هذه الدعوة الحقة و أعراقها لكنهم لما في قلوبهم من الفساد و في نفوسهم من قذارة الريبة و الشبهة المستحكمة يخطئون أبصارهم فيما يشاهدون بل يتهمون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه سحرهم فهم مسحورون من قبله.
فالمعنى: و لو فتحنا عليهم بابا من السماء و يسرنا لهم الدخول في عالمها فداموا
يعرجون فيه عروجا بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب و ملكوت الأشياء لقالوا إنما غشيت أبصارنا فشاهدت أمورا لا حقيقة لها بل نحن قوم مسحورون.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ١٦ الی ٢٥]
{وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦ وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ١٧ إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ١٨ وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ١٩وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ٢٠وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ٢١ وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَ مَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ٢٢ وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوَارِثُونَ ٢٣ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ ٢٤ وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ٢٥}
(بيان)
لما ذكر سبحانه إعراضهم عن آية القرآن المعجزة و اقتراحهم آية أخرى و هي الإتيان بالملائكة و أجاب عنه أنه ممتنع و ملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء و الأرض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون و تتم الحجة بها على المجرمين، و قد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية و الأسرار الإلهية.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} إلى آخر الآيات
الثلاث البروج جمع برج و هو القصر سميت بها منازل الشمس و القمر من السماء بحسب الحس تشبيها لها بالقصور التي ينزلها الملوك.
و الضمير في قوله: {وَ زَيَّنَّاهَا} للسماء كما في قوله: {وَ حَفِظْنَاهَا} و تزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة و الجمال الذي يوله الألباب بنجومها الزاهرة و كواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها و تنوع لمعاتها و قد كرر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله: {وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً}: حم السجدة: ١٢ و قوله: {إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}: الصافات: ١٠.
و استراق السمع أخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغي خفية إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم، و استراق السمع من الشياطين هو محاولتهم أن يطلعوا على بعض ما يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات.
و الشهاب هو الشعلة الخارجة من النار و يطلق على ما يشاهد في الجو من أجرام مضيئة كان الواحد منها كوكب ينقض دفعه من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا ثم لا يلبث دون أن ينطفئ.
فظاهر معنى الآيات {وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ}و هي جهة العلو بروجا و قصورا هي منازل الشمس و القمر {وَ زَيَّنَّاهَا} أي السماء للناظرين بزينة النجوم و الكواكب {وَ حَفِظْنَاهَا} أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من الملكوت إلا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة من أحاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث و غيرها فإنه يتبعه شهاب مبين.
و سنتكلم إن شاء الله في الشهب و معنى رمي الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافات.
قوله تعالى: {وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} مد الأرض بسطها طولا و عرضا و بذلك صلحت للزرع و السكنى و لو أغشيت حبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.
و الرواسي صفة محذوفة الموصوف و التقدير و ألقينا فيها جبالا رواسي و هو جمع راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع أنها تمنع الأرض من الميدان كما قال: {وَ أَلْقىَ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: النحل: ١٥.
و الموزون من الوزن و هو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما يمكن أن يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر و الذراع و نحو ذلك و تقدير الحجم و تقدير الحرارة و النور و القدرة و غيرها، و في كلامه تعالى: {وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ}: الأنبياء: ٤٧ و هو توزين الأعمال و لا يتصف بثقل و خفة من نوع ما للأجسام الأرضية منهما.
و ربما يكنى به عن كون الشيء بحيث لا يزيد و لا ينقص عما يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال: كلامه موزون و قامته موزونة و أفعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الأجزاء لا تزيد و لا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة.
و بالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم أن المراد به إخراج كل ما يوزن من المعدنيات كالذهب و الفضة و سائر الفلزات، و قال بعضهم: إنه إنبات النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون، و قيل: إنه خلق كل أمر مقدر معلوم.
و الذي يجب التنبه له التعبير بقوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} دون أن يقال: من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر و ينمو في الأرض كما أنه يشمل النبات لمكان قوله: {وَ أَنْبَتْنَا} دون أن يقال: أخرجنا أو خلقنا و قد جيء بمن و ظاهرها التبعيض فالمراد و الله أعلم إنبات كل أمر موزون ذي ثقل مادي يمكن أن يزيد و ينقص من الأجسام النباتية و الأرضية، و لا مانع على هذا من أخذ الموزون بكل من معنييه الحقيقي و الكنائي.
و المعنى: و الأرض بسطناها و طرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد و أنبتنا فيها من كل شيء موزون - ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب - مقدارا تقتضيه الحكمة.
قوله تعالى: {وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} المعايش جمع
معيشة و هي ما به يعيش الحيوان و يديم حياته من المأكول و المشروب و غيرهما و يأتي مصدرا كالعيش و المعاش.
و قوله: {وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} معطوف على الضمير المجرور في {لَكُمْ} على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون و يونس و الأخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، و أما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش و التقدير و جعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد و الحيوان الأهلي، و ربما جعل {مَنْ} مبتدأ محذوف الخبر و التقدير: و من لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش و هذا كله تكلف ظاهر.
و كيف كان، المراد بمن العبيد و الدواب على ما قيل أتي بلفظة من و هي لأولي العقل تغليبا هذا، و ليس من البعيد أن يكون المراد به كل ما عدا الإنسان من الحيوان و النبات و غيرهما فإنها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء و من دأبه سبحانه في كلامه أن يطلق الألفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا أضيف إليها شيء من الآثار المختصة بهم كقوله تعالى في الأصنام: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}: الأنبياء: ٦٣ و قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}: الشعراء: ٧٧ إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة لحال الأصنام التي كانوا يعبدونها و لا يستقيم للمعبود إلا أن يكون عاقلا، و كذا قوله: {فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: حم السجدة: ١١ و غير ذلك.
و المعنى: و جعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة و لغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك.
قوله تعالى: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الخزائن جمع خزانة و هي مكان خزن المال و حفظه و ادخاره، و القدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشيء و كميته المتعينة.
و لما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذي يعيش به الإنسان و الحيوان كان المراد بالشيء الموصوف في الآية النبات و ما يتبعه من الحبوب و الثمرات فالمراد بخزانته التي عند الله و هو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذي ينبت به النبات فيأتي بالحبوب و الأثمار و يعيش بذلك الإنسان و الحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع
من المفسرين.
و لا يخفى عليك ما فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ} من العموم و حصره في النبات من تخصيص الأكثر من غير شك و المورد لا يخصص و أردى منه تسمية المطر خزائن النبات و ليس إلا سببا من أسبابه و جزء من أجزاء كثيرة يتكون النبات بتركبها الخاص، على أن المطر إنما تتكون حينما ينزل فكيف يسمى خزانة و ليس بموجود و لا أن الذي هو خزانته موجود فيه.
و ذكر بعض المفسرين أن المراد بكون خزائن كل شيء عند الله سبحانه شمول قدرته المطلقة له.
فله تعالى من كل نوع من أنواع الأشياء كالإنسان و الفرس و النخلة و غير ذلك من الأعيان و صفاتها و آثارها و أفعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عددا لا يخرج منها دائما من التقدير و الفرض إلى التحقق و الفعلية إلا قدر معلوم و عدد معين محدود.
و على هذا فالمراد من كل شيء نوعه لا شخصه كالإنسان مثلا لا كزيد و عمرو، و المراد من القدر المعلوم الكمية المعينة من الأفراد و المراد من وجود خزائنه و وجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه و المجاز.
و أنت خبير بأن فيه تخصيصا للشيء من غير مخصص، و فيه قصر للقدر في العدد من غير دليل، و القدر في اللغة قريب المعنى من الحد و هو المفهوم من سياق قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}: الطلاق: ٣ و قوله: {وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}: الرعد: ٨ و قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}: القمر: ٤٩ و قوله: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}: الفرقان: ٢ إلى غير ذلك.
و فيه إرجاع الكلام إلى معنى مجازي استعاري من غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة.
و ذكر بعض معاصري المفسرين وجها آخر و هو أن المراد بالخزائن العناصر المختلفة التي تتألف منها الأرزاق و غيرها و قد أعد الله منها في عالمنا المشهود كمية عظيمة لا تنفد بعروض التركيب و الأسباب الكلية التي تعمل في تركب المركبات كالضوء و الحرارة و الرياح الدائمة المنظمة و غيرها التي تتكون منها الأشياء مما يحتاج إليه الإنسان
في إدامة حياته و غيره.
فكل من هذه الأشياء مدخرة بأجزائها و القوى الفعالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره و من جهة ما يعود إليه من الأجزاء الجديدة بانحلال تركيب المركبات بموت أو فساد و رجوعها إلى عناصرها الأولية كالنبات يفسد و الحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارها و يتسع بذلك المكان لكينونة نبات و حيوان آخر يخلفان سلفهما.
فالضوء و خاصة ضوء الشمس الذي يعمل الليل و النهار و الفصول الأربعة و يربي النبات و الحيوان و سائر المركبات و يسوقها إلى غاياتها و مقاصدها من خزائن الله تعالى و الرياح التي تلقح النبات و تسوق السحب و تنقل الأهوية من مكان إلى مكان و تدفع فاسد الهواء و تجري السفن خزانة أخرى، و الماء النازل من السماء الذي تحتاج إليه المركبات ذوات الحياة في كينونتها و بقائها خزانة أخرى، و كذلك العناصر البسيطة التي تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدة منها الأشياء المركبة، و لا ينزل قط إلا عدد معلوم من كل نوع من غير أن تنفد به الخزائن.
و على هذا فمراد الآية بالشيء هو نوعه لا شخصه كما تقدم في الوجه الأول و المراد بخزائنه مجموع ما في الكون من أصوله و عناصره و أسبابه العامة المادية و مجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها و المراد بنزوله بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كل حين من غير أن يستوفي عدد جميع ما في خزائنه.
و هذا وجه حسن في نفسه تؤيده الأبحاث العلمية عن كينونة هذه الحوادث و تصدقه آيات كثيرة متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الآية التالية: {وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} و قوله: {وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}: الأنبياء: ٣٠و قوله: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ}: إبراهيم: ٣٣ و قوله: {وَ اَلسَّحَابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ}: البقرة: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات.
لكن الآية و هي من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه أخواتها و كيف يحمل عليه قوله: {وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}؟: الفرقان: ٢ و قوله: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ}: الأعلى: ٣ و قوله: {وَ كُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}: الرعد: ٨ و قوله: {إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ اَلْغَابِرِينَ}: النمل: ٥٧ و قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}: عبس: ١٩ و قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ} إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الآيات.
على أنه يرد عليه بعض ما أورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم {شَيْءٍ} من غير مخصص و غير ذلك.
و الذي يعطيه التدبر في الآية و ما يناظرها من الآيات الكريمة أنها من غرر كلامه تعالى تبين ما هو أدق مسلكا و أبعد غورا مما فسروها به و هو ظهور الأشياء بالقدر و الأصل الذي لها قبل إحاطته بها و اشتماله عليها.
و ذلك أن ظاهر قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ} على ما به من العموم بسبب وقوعه في سياق النفي مع تأكيده بمن، كل ما يصدق عليه أنه شيء من دون أن يخرج منه إلا ما يخرجه نفس السياق و هو ما تدل عليه لفظة «نا» و «عند» و «خزائن» و ما عدا ذلك مما يرى و لا يرى مشمول للعام.
فشخص زيد مثلا و هو فرد إنساني من الشيء و نوع من الإنسان أيضا الموجود في الخارج بأفراده من الشيء و الآية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما معنى كون زيد مثلا له خزائن عند الله؟
و الذي يسهل الأمر فيه أنه تعالى يعد هذا الشيء المذكور نازلا من عنده و النزول يستدعي علوا و سفلا و رفعة و خفضة و سماء و أرضا مثلا و لم ينزل زيد المخلوق مثلا من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بإنزاله إلا خلقه لكنه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها، و نظير الآية قوله تعالى: {وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}: الزمر: ٦ و قوله: {وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ}: الحديد: ٢٥.
ثم قوله: {وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} يقرن النزول و هو الخلقة بالقدر قرنا لازما غير جائز الانفكاك لمكان الحصر، و الباء إما للسببية أو الآلة أو المصاحبة و المآل واحد فكينونة زيد و ظهوره بالوجود إنما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا محالة، كيف؟ و هو تعالى يقول: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}: حم السجدة: ٥٤ و لو لم يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال أن يحاط بما لا حد له و لا نهاية.
و هذا القدر هو الذي بسببه يتعين الشيء و يتميز من غيره ففي زيد مثلا شيء به يتميز من عمرو و غيره من أفراد الإنسان و يتميز من الفرس و البقر و الأرض و السماء و يجوز لنا به أن نقول ليس هو بعمرو و لا بالفرس و البقر و الأرض و السماء و لو لا هذا الحد لكان هو هي و ارتفع التميز.
و كذلك ما عنده من القوى و الآثار و الأعمال محدودة مقدرة فليس إبصاره مثلا إبصارا مطلقا في كل حال و في كل زمان و في كل مكان و لكل شيء و بكل عضو مثلا بل إبصار في حال و زمان و مكان خاص و لشيء خاص و بعضو خاص و على شرائط خاصة، و لو كان إبصارا مطلقا لأحاط بكل إبصار خاص و كان الجميع له و نظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده و توابعه فافهم ذلك.
و من هنا يظهر أن القدر خصوصية وجود الشيء و كيفية خلقته كما يستفاد أيضا من قوله تعالى: {اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ}: الأعلى: ٣ و قوله: {اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ} طه - ٢٥ فإن الآية الأولى رتبت الهداية و هي الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشيء و تسويته و تقديره، و الآية الثانية رتبتها على إعطائه ما يختص به من الخلق، و لازم ذلك على ما يعطيه سياق الآيتين كون قدر الشيء خصوصية خلقه غير الخارجة عنه.
ثم إنه تعالى وصف قدر كل شيء بأنه معلوم إذ قال: {وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} و يفيد بحسب سياق الكلام أن هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشيء و لما يتم نزوله و يظهر وجوده فهو معلوم القدر معينة قبل إيجاده، و إليه يئول معنى قوله: {وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}: الرعد: ٨ فإن ظاهر الآية أن كل شيء بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له فقوله هناك: {عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} في معنا قوله هاهنا {بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} و نظير ذلك قوله في موضع آخر: {قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}: الطلاق: ٣ أي قدرا لا يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول و بالجملة للقدر تقدم على الشيء بحسب العلم و المشية و إن كان مقارنا له غير منفك عنه في وجوده.
ثم إنه تعالى أثبت بقوله: {عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ} إلخ، للشيء عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة و استقراره فيها خزائن، و جعل القدر متأخرا عنها ملازما
لنزوله فالشيء و هو في هذه الخزائن غير مقدر بقدر و لا محدود بحد و هو مع ذلك هو.
و قد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الذي يلحق الشيء و بين كونها خزائن فوق الواحدة و الاثنتين، و من المعلوم أن العدد لا يلحق إلا الشيء المحدود و أن هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت واحدة البتة.
و من هنا يتبين أن هذه الخزائن بعضها فوق بعض و كل ما هو عال منها غير محدود بحد ما هو دان غير مقدر بقدره و مجموعها غير محدود بالحد الذي يلحق الشيء و هو في هذه النشأة، و لا يبعد أن يكون التعبير بالتنزيل الدال على نوع من التدريج في قوله: {وَ مَا نُنَزِّلُهُ} إشارة إلى كونه يطوي في نزوله مرحلة بعد مرحلة و كلما ورد مرحلة طرأه من القدر أمر جديد لم يكن قبل حتى إذا وقع في الأخيرة أحاط به القدر من كل جانب قال تعالى: {هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً}: الدهر: ١ فقد كان الإنسان و لكنه لم يكن شيئا مذكورا.
و هذه الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لأنه تعالى وصفها بأنها عنده و قد أخبرنا بقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ} أن ما عنده ثابت لا يزول و لا يتغير عما هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت أمور ثابتة غير زائلة و لا متغيرة، و الأشياء في هذه النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية لا ثابتة و لا باقية فهذه الخزائن الإلهية فوق عالمنا المشهود.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و هو و إن كان لا يخلو من دقة و غموض يعضل على بادئ الفهم لكنك لو أمعنت في التدبر و بذلت في ذلك بعض جهدك استنار لك و وجدته من واضحات كلامه إن شاء الله تعالى و على من لم يتيسر له قبوله أن يعتمد الوجه الثالث المتقدم فهو أحسن الوجوه الثلاثة المتقدمة و الله ولي الهداية و سنرجع إلى بحث القدر في كلام مستقل يختص به إن شاء الله في موضع يناسبه.
قوله تعالى: {وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَ مَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل لقحا أي وضع اللقاح بفتح اللام و هو طلع الذكور من النخل على الإناث لتحمل بالتمر،
و قد ثبت بالأبحاث الحديثة في علم النبات أن حكم الزوجية جار في عامة النبات و أن فيه ذكورية و أنوثية و أن الرياح في مهبها تحمل الذرات من نطفة الذكور فتلقح بها الإناث، و هو قوله تعالى: {وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}.
و قوله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} إشارة إلى المطر النازل من السحاب و قد تسلم الأبحاث العلمية الحديثة أن الماء الموجود في الكرة الأرضية من الأمطار النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء أنه كرة ناقصة محيطة بكرة الأرض إحاطة ناقصة و هو عنصر من العناصر الأربعة.
و هذه الآية التي تثبت بشطرها الأول: {وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} مسألة الزوجية و اللقاح في النبات، و بشطرها الثاني: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أن المياه الموجودة المدخرة في الأرض تنتهي إلى الأمطار، و قوله تعالى السابق: {وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} الظاهر في أن للوزن دخلا خاصا في الإنبات و الإنماء من نقود العلم التي سبق إليها القرآن الكريم الأبحاث العلمية و هي تتلو المعجزة أو هي هي.
قوله تعالى: {وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوَارِثُونَ} الكلام مسوق للحصر يريد بيان رجوع كل التدبير إليه، و قد كان ما عده من النعم كالسماء ببروجها و الأرض برواسيها، و إنبات كل شيء موزون و جعل المعايش و إرسال اللواقح و إنزال الماء من السماء إنما يتم نظاما مبنيا على الحكمة و العلم إذا انضم إليه الحياة و الموت و الحشر، و كان مما ربما يظن أن بعض الحياة و الموت ليس إليه تعالى و لذا أكد الكلام و أتى بالحصر دفعا لذلك.
ثم جاء بقوله: {وَ نَحْنُ اَلْوَارِثُونَ} أي الباقون بعد إماتتكم المتصرفون فيما خولناكموه من أمتعة الحياة كأنه تعالى يقول إلينا تدبير أمركم و نحن محيطون بكم نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم، و نميتكم و نرثكم فنحن بعدكم.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ} لما كانت الآيات السابقة التي تعد النعم الإلهية و تصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في ربوبيته، و كان لا ينفع الخلق و النظم من غير انضمام علمه تعالى و خاصة بمن يحييه و يميته
عقبها بهذه الآية الدالة على علمه بمن استقدم منهم بالوجود و من استأخر أي المتقدمين من الناس و المتأخرين على ما يفيده السياق.
و قيل: المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير، و قيل: المستقدمون في صفوف الحرب، و قيل: المستقدمون إلى الصف الأول في صلاة الجماعة و المستأخرون خلافهم، و هي أقوال ردية.
قوله تعالى: {وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الكلام مسوق للحصر أي هو يحشرهم لا غير فهو الرب.
و أورد عليه أنه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلم الثبوت و النزاع إنما هو في الفاعل، و هاهنا ليس كذلك فإن الخصم لا يسلم الحشر من أصله هذا.
و قد ذهب على هذا المعترض أن الآية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) التفاتا فقيل: {وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} و لم يقل إن ربكم هو يحشركم، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مسلم للحشر.
و بذلك يظهر نكتة الالتفات في الآية في مورده تعالى من التكلم مع الغير إلى الغيبة، و في مورد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الغيبة إلى الخطاب و في مورد الناس بالعكس.
و قد ختمت الآية بقوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} لأن الحشر يتوقف على الحكمة المقتضية لحساب الأعمال و مجازاة المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته، و على العلم حتى لا يغادر منهم أحد.
(بحث روائي)
في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً} قال: قال: منازل الشمس و القمر.
و فيه: في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} قال: قال: لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء و تجس حتى ولد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
و في المعاني عن البرقي عن أبيه عن جده عن البزنطي عن أبان عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: كان إبليس يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى (عليه السلام) حجب عن ثلاث سماوات و كان يخترق أربع سماوات فلما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حجب عن السبع كلها و رميت الشياطين بالنجوم (الحديث).
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال جرير بن عبد الله: حدثني يا رسول الله عن السماء الدنيا و الأرض السفلى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان ثم رفعها و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا و زينها بمصابيح النجوم و جعلها رجوما للشياطين و حفظها من كل شيطان رجيم.
أقول: و سيأتي إن شاء الله ما يتبين به معنى هذه الأحاديث.
و في تفسير القمي: في قوله: {وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} قال: لكل ضرب من الحيوان قدرنا شيئا مقدرا.
و فيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: {وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} فإن الله أنبت في الجبال الذهب و الفضة و الجوهر و الصفر و النحاس و الحديد و الرصاص و الكحل و الزرنيخ و أشباه ذلك لا تباع إلا وزنا.
أقول: ينبغي أن يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه و سنده من الوهن.
و في روضة الواعظين لابن الفارسي روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليه السلام) أنه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} (الآية).
و في المعاني بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): لما صعد موسى (عليه السلام) الطور فنادى ربه عز و جل قال: رب أرني خزائنك. قال: يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له: كن فيكون.
و في الدر المنثور أخرج البزار و ابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له: كن فكان.
أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة تؤيد ما قدمناه في تقرير معنى الآية، و المراد بقول كن كلمة الإيجاد الذي هو وجود الأشياء. و هو مما يؤيد عموم الشيء في الآية، و كذا كان يفهمه الصحابة و أهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي
حاتم عن معاوية أنه قال: أ لستم تعلمون أن كتاب الله حق؟ قالوا: بلى. قال: فاقرءوا هذه الآية {وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أ لستم تؤمنون بهذا و تعلمون أنه حق؟ قالوا: بلى. قال: فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف و قال: يا معاوية و الله ما نلومك على ما في خزائن الله و لكن إنما نلومك على ما أنزله الله من خزائنه فجعلته أنت في خزائنك و أغلقت عليه بابك فسكت معاوية.
و فيه أخرج ابن مردويه و الحاكم عن مروان بن الحكم قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله {وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} (الآية).
أقول: و روي فيه، أيضا عن عدة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها - و يستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله: {وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ}.
و الآية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ و لا من جهة السياق الذي وقعت هي فيه. و هو ظاهر.
و فيه أخرج ابن أبي حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبد الملك عن مقاتل بن سليمان: في قوله: {وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ} (الآية) قال: بلغنا أنه في القتال. قال معتمر فحدثت أبي فقال: لقد نزلت هذه الآية قبل أن يفرض القتال.
أقول: يعني أنها مكية.
و في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: {وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ} قال: هم المؤمنون من هذه الأمة.
و في تفسير البرهان عن الشيباني في نهج البيان عن الصادق جعفر بن محمد: أن المستقدمين أصحاب الحسنات، و المستأخرين أصحاب السيئات.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ٢٦ الی ٤٨ ]
{وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٢٦
وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ ٢٧ وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٢٨ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٢٩ فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٣٠إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ ٣١ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ ٣٢ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٣٣ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ٣٤ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ ٣٥قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٣٦ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ٣٧ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ ٣٨ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٣٩ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ٤٠قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ٤١ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ ٤٢ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ٤٣ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ٤٤ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ٤٥ اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ٤٦ وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ٤٧ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَ مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ٤٨}
(بيان)
هذه هي الطائفة الثالثة من الآيات الموردة إثر ما ذكر في مفتتح السورة من استهزاء الكفار بالكتاب و بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اقتراحهم عليه آية أخرى غير القرآن، و قد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الإنسان و الجان و أمره الملائكة و إبليس أن يسجدوا له و سجودهم و إباء إبليس و هو من الجن و رجمه و إغواءه بني آدم، و ما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين و شقاء الغاوين.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} قال الراغب في المفردات: أصل الصلصال تردد الصوت من الشيء اليابس و منه قيل: صل المسمار و سمي الطين الجاف صلصالا، قال تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} و الصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة و قيل: الصلصال المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم.
و قال: و الحمأة و الحمأ طين أسود منتن، و قال: و قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} قيل: متغير و قوله: لم يتسنه معناه لم يتغير و الهاء للاستراحة. انتهى.
و قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ} إلخ المراد به بدء خلقة الإنسان بدليل قوله: {وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}: الم السجدة: ٨ فهو إخبار عن خلقة النوع و ظهوره في الأرض فإن خلق أول من خلق منهم و منه خلق الباقي خلق الجميع.
قال في مجمع البيان: و أصل آدم كان من تراب و ذلك قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} ثم جعل التراب طينا و ذلك قوله: {وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ثم ترك ذلك الطين حتى تغير و استرخى و ذلك قوله: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} ثم ترك حتى جف و ذلك قوله: {مِنْ صَلْصَالٍ} فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة. انتهى.
قوله تعالى: {وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ} قال الراغب: السموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم. انتهى. و أصل الجن الستر و هو معنى سار في جميع ما اشتق منه كالجن و المجنة و الجنة و الجنين و الجنان بالفتح و جن عليه الليل و غير ذلك.
و الجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسنا ذات شعور و إرادة تكرر في القرآن الكريم ذكرهم و نسب إليهم أعمال عجيبة و حركات سريعة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و هم مكلفون و يعيشون و يموتون و يحشرون تدل على ذلك كله آيات كثيرة متفرقة في كلامه تعالى.
و أما الجان فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما أن آدم (عليه السلام) أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو إبليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل إبليس من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب؟ أقوال مختلفة لا دليل على أكثرها.
و الذي يهدي إليه التدبر في كلامه تعالى أنه قابل في هاتين الآيتين الإنسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما، و نظير ذلك قوله: {خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}: الرحمن: ١٥.
و لا يخلو سياق ما نحن فيه من الآيات من دلالة على أن إبليس كان جانا و إلا لغا قوله: {وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} إلخ، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في إبليس: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: ٥٠فأفاد أن هذا الجان المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من أنواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجان من أصله و لم يذكر إلا الجن حتى في موارد يعم الكلام فيها إبليس و قبيله كقوله تعالى: {شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ}: الأنعام: ١١٢ و قوله: {وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ}: حم السجدة: ٢٥ و قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ}- إلى أن قال - {يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا}: الرحمن: ٣٣.
و ظاهر هذه الآيات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الإنسان و الجان تارة و بين الإنس و الجن أخرى أن الجن و الجان واحد و إن اختلف التعبير.
و ظاهر المقابلة بين قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ} إلخ، و قوله: {وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} إلخ أن خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي و بدء ظهور النوع كخلق الإنسان من صلصال، و هل كان استمرار الخلقة في أفراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الأول من نار السموم بخلاف الإنسان حيث بدئ
خلقه من تراب ثم استمر بالنطفة كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرية إلى إبليس كما قال: {أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي}: الكهف: ٥٠و نسبة الموت إليهم كما في قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ}: حم السجدة: ٢٥ و المألوف من نوع فيه ذرية و موت هو التناسل و الكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟
و قوله: {خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} مقطوع الإضافة أي من قبل خلق الإنسان و القرينة هي المقابلة بين الخلقين.
و عد مبدإ خلق الجان في الآية هو نار السموم لا ينافي ما في سورة الرحمن من عده مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فإن الآيتين تلخصان أن مبدأ خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت مارج نار.
فمعنى الآيتين: أقسم لقد بدأنا خلق النوع الإنسان من طين قد جف بعد أن كان سائلا متغيرا منتنا و نوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة حادة اشتعلت فصارت نارا.
قوله تعالى: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} إلى آخر الآية، قال في المفردات: البشرة ظاهر الجلد و الأدمة باطنه كذا قال عامة الأدباء - إلى أن قال - و عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثنى فقال تعالى: {أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} و خص في القرآن في كل موضع اعتبر من الإنسان جثته و ظاهره بلفظ البشر نحو: {وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً} انتهى موضع الحاجة.
و قوله: {وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} بإضمار فعل و التقدير: و اذكر إذ قال ربك، و في الكلام التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و كان العناية فيه مثل العناية التي مرت في قوله: {وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} فإن هذه الآيات أيضا تكشف عن نبإ ينتهي إلى الحشر و السعادة و الشقاوة الخالدتين.
على أن التكلم مع الغير في السابق {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا} {خَلَقْنَاهُ} من قبيل تكلم العظماء عنهم و عن خدمهم و أعوانهم تعظيما أي بأخذه تعالى ملائكته الكرام معه في
الأمر و هذه العناية مما لا يستقيم في مثل المقام الذي يخاطب فيه الملائكة في إخبارهم بإرادته خلق آدم (عليه السلام) و أمرهم بالسجود له إذا سواه و نفخ فيه من روحه فافهم ذلك و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} التسوية جعل الشيء مستويا قيما على أمره بحيث يكون كل جزء منه على ما ينبغي أن يكون عليه فتسوية الإنسان أن يكون كل عضو من أعضائه في موضع الذي ينبغي أن يكون فيه و على الحال التي ينبغي أن يكون عليها.
و لا يبعد أن يستفاد من قوله: {إِنِّي خَالِقٌ} {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أن خلق بدن الإنسان الأول كان على سبيل التدريج الزماني فكان أولا الخلق و هو جمع الأجزاء ثم التسوية و هو تنظيم الأجزاء و وضع كل جزء في موضعه الذي يليق به و على الحال التي تليق به ثم النفخ و لا ينافيه ما في قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: آل عمران: ٥٩ فإن قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ} إلخ ناظر إلى كينونة الروح و هو النفس الإنسانية دون البدن كما عبر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}: المؤمنون: ١٤.
و قوله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} النفخ إدخال الهواء في داخل الأجسام بفم أو غيره و يكنى به عن إلقاء أثر أو أمر غير محسوس في شيء، و يعني به في الآية إيجاده تعالى الروح الإنساني بما له من الرابطة و التعلق بالبدن، و ليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}: المؤمنون: ١٤ و قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}: الم السجدة: ١١.
فالآية الأولى - كما ترى - تبين أن الروح الإنساني هو البدن منشأ خلقا آخر و البدن على حاله من غير أن يزاد فيه شيء، و الآية الثانية تبين أن الروح عند الموت مأخوذ من البدن و البدن على حاله من غير أن ينقص منه شيء.
فالروح أمر موجود في نفسه له نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به و له استقلال عن البدن إذا انقطع تعلقه به و فارقه و قد تقدم بعض ما يتعلق من الكلام بهذا المقام في
تفسير قوله تعالى: {وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ}: البقرة: ١٥٤ في الجزء الأول من الكتاب.
و نرجو أن نستوفي هذا البحث في ذيل قوله: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الآية) ٨٥ من سورة إسراء إن شاء الله.
و إضافة الروح إليه تعالى في قوله: {مِنْ رُوحِي} للتكرمة و التشريف من الإضافة اللامية المفيدة للملك، و قوله: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي اسجدوا، و لا يبعد أن يفهم منه أن خروا على الأرض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل.
و معنى الآية فإذا عدلت تركيبه و أتممت صنع بدنه و أوجدت الروح الكريم المنسوب إلي الذي أربط بينه و بين بدنه فقعوا و خروا على الأرض ساجدين له.
قوله تعالى: {فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبىَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ} لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده، و المراد أن الملائكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد و قد استثنى من ذلك إبليس و لم يكن منهم لقوله تعالى: {كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: الكهف: ٥٠و أما قول من قال: إن طائفة من الملائكة كانوا يسمون الجن و كان إبليس منهم أو إن الجن بمعنى الستر فيعم الملائكة و غيرهم فمما لا يصغي إليه، و قد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى شمول الأمر بالسجود لإبليس مع عدم كونه من الملائكة و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ} {مَا لَكَ} مبتدأ و خبر أي ما الذي هو كائن لك؟ و قوله: {أَلاَّ تَكُونَ} من قبيل نزع الخافض و التقدير في أن لا تكون مع الساجدين و هم الملائكة، و محصل المعنى: ما بالك لم تسجد؟
قوله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} في التعبير بقوله: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} دون أن يقول: لا أسجد أو لست أسجد دلالة على أن الإباء عن السجدة مقتضى ذاته و كان هو المترقب منه لو اطلع على جوهره فتفيد الآية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ}: ص: ٧٦ بالتصريح.
و قد تقدم كلام في معنى السجود لآدم و أمر الملائكة و إبليس بذلك و ائتمارهم و تمرده عنه، نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة و الأعراف من هذا الكتاب.
قوله تعالى: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ} الرجيم فعيل بمعنى المفعول من الرجم و هو الطرد و شاع استعماله في الطرد بالحجارة و الحصاة، و اللعن هو الطرد و الإبعاد من الرحمة.
و من هنا يظهر أن قوله: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ} إلخ بمنزلة البيان لقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} فإن الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الإلهية و بالجملة من مقام القرب و هو مستوى الرحمة الخاصة الإلهية فينطبق على الإبعاد من الرحمة و هو اللعن.
و قد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على إبليس في موضع آخر إلى نفسه فقال: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ}: ص: ٥٨ و قيدها في الآيتين جميعا بقوله: {إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ}.
أما جعل مطلق اللعنة عليه في قوله: {عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ} فلأن اللعن يلحق المعصية و ما من معصية إلا و لإبليس فيه صنع بالإغواء و الوسوسة فهو الأصل الذي يرجع إليه كل معصية و ما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى أشخاص العصاة من اللعن و الوبال، و تذكر في ذلك ما تقدم في ذيل قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}: الأنفال: ٣٧ في الجزء التاسع من الكتاب.
على أنه لعنه الله أول فاتح فتح باب معصية الله و عصاه في أمره فإليه يعود وبال هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه.
و أما جعل لعنته خاصة عليه في قوله: {عَلَيْكَ لَعْنَتِي} فلأن الإبعاد من الرحمة بالحقيقة إنما يؤثر أثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك أحد من رحمته إعطاء و منعا إلا بإذنه فإليه يعود حقيقة الإعطاء و المنع.
على أن اللعن من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالإبعاد من الرحمة و أما نفس
الإبعاد الذي هو نتيجة الدعاء فهو من صنعه القائم به تعالى و حقيقته المبالغة في منع الرحمة.
و قال في المجمع: و قال بعض المحققين: إنما قال سبحانه هنا: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ} بالألف و اللام، و قال في سورة _ ص: {لَعْنَتِي} بالإضافة لأن هناك يقول: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مضافا، فقال: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} على المطابقة، و قال هنا: {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ} و ساق الآية على اللام في قوله: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ} و قوله: {وَ اَلْجَانَّ} فأتى باللام أيضا في قوله: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ} انتهى و قال أيضا في الآية بيان أنه لا يؤمن قط.
و أما تقييد اللعنة بقوله: {إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ} فلأن اللعنة هي عنوان الإثم و الوبال العائد إلى النفس من المعصية و المعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل و لا جزاء و غدا جزاء و لا عمل، و إن شئت فقل: هذه الدار دار كتابة الأعمال و حفظها و يوم القيامة دار الحساب و الجزاء.
و أما قول القائل: إن تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيا به مرفوعا فيه و فيما بعده فمما يدفعه ظاهر الآيات المبينة للعذاب يوم القيامة.
و يؤيد ذلك التعبير في الآية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنه ملعون قبل يوم القيامة و مجزي به فيه، و لو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع الدين لا يوم الدين.
و ربما قيل في دفع إشكال الغاية إن ذلك أبعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ} (الآية)، و هو كما ترى و قد عرفت معنى الآية المقيس عليها في تفسير سورة هود.
و ربما قيل: إن المراد باللعنة في الآية لعن الخلائق و ذلك منقطع بمجيء يوم الدين دون لعنه تعالى و إبعاده له من رحمته فإنه متصل إلى الأبد.
و كأن هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة _ ص: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ} (الآية): ٧٨.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الإنظار هو الإمهال و قد صدر كلامه بقوله: {رَبِّ} و هو يخاصمه و قد عصاه و استكبر عليه تعالى لأنه في مقام
الدعاء لا مفر له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الإلهية المطلقة و هو الالتجاء إليه بربوبيته له ليستجيب له و هو مغضوب عليه.
و قد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله: {فَأَنْظِرْنِي} و ذكر فيه بعثة عامة البشر من غير أن يخص بالذكر آدم أباهم الذي ابتلي بالرجم و اللعن من أجل الإباء عن السجود له و ذلك كله مبني على ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة الأعراف أن المأمور به كان هو السجود لعامة البشر و كان آدم (عليه السلام) كالقنبلة المنصوبة للسجود يمثل به النوع الإنساني.
و توضيحه أنه قد تقدم في قوله تعالى: {وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ}: الأعراف: ١١ أنهم إنما أمروا بالسجدة لنوع الإنسان لا لشخص آدم (عليه السلام) و لم يكن هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير غاية حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم بحسب ما أريد من خلقتهم خاضعون للإنسان بحسب ما أريد من كمال خلقته، أي إنهم مسخرون لأجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي إن للإنسان منزلة من القرب و مرحلة من كمال السعادة تفوق ما للملائكة من ذلك.
فسجودهم جميعا له دليل أنهم جميعا مسخرون في سبيل كماله من السعادة عاملون لأجل فوزه و فلاحه كملائكة الحياة و ملائكة الموت و ملائكة الأرزاق و ملائكة الوحي و المعقبات و الحفظة و الكتبة و غيرهم ممن تذكرهم متفرقات الآيات القرآنية فالملائكة أسباب إلهية و أعوان للإنسان في سبيل سعادته و كماله.
و من هنا يظهر للمتدبر الفطن أن إباء إبليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع لنوع الإنسان و العمل في سبيل سعادته و إعانته على كمال المطلوب على خلاف ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ} و أظهر الخصومة لنوع الإنسان و البراءة منهم ما حيوا و عاشوا أو خالدا مؤبدا.
و يؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين و هو مدة مكث النوع الإنساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك و لما يدع إبليس أنه سيغويهم و لم يقل
بعد: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} مشعر بأن إباءه عن السجدة نوع خصومة و عداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد و يعيش من ذريته.
فكأنه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ} أن له شأنا مع النوع الإنساني إلى يوم القيامة و أن لشقائهم و فساد أعمالهم ارتباطا به من حيث امتنع عن السجود و لذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة المجعولة عليه فقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و لم يقل: رب أنظرني إلى يوم يبعثون و لم يقل: أنظرني إلى يوم يموت آدم أو أنظرني ما دام حيا يعيش بل ذكر آدم و بنيه جميعا و طلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم الدين فلما أجيب إلى ما سأل أبدى ما في كمون ذاته و قال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} جواب منه سبحانه لإبليس و فيه إجابة و رد أما الإجابة فبالنسبة إلى أصل الإنظار الذي سأله و أما الرد فبالنسبة إلى القيد و هو أن يكون الإنظار إلى يوم يبعثون فإن من الواضح اللائح بالنظر إلى سياق الآيتين أن يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بإنظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو غيره و لا محالة هو قبل يوم البعث.
و بذلك يظهر فساد قول من قال إنه لعنه الله أجيب إلى ما سأل و اليومان في الآيتين واحد و من الدليل عليه قوله في سورة الأعراف في القصة: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ} (الآية): ١٥ من غير أن يقيد بشيء.
أما فساد دعواه اتحاد اليومين في الآيتين فقد ظهر مما تقدم و أما فساد الاستدلال بإطلاق آية الأعراف فلأنها تتقيد بما في هذه السورة و سورة _ ص من التقييد بقوله: {إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} و هذا كثير شائع في كلامه تعالى و القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض.
و ظاهر يوم الوقت المعلوم أنه وقت تعين في العلم الإلهي نظير قوله: {وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}: الحجر: ٢١ و قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ}: الصافات: ٤١ فهو معلوم عند الله قطعا و أما أنه معلوم لإبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ، و قول بعضهم: إنه سبحانه أبهم اليوم و لم يبين فهو معلوم لله غير معلوم لإبليس لأن في
بيانه إغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فإبهام اللفظ بالنسبة إلينا غير إبهام ما ألقي إلى إبليس من القول بالنسبة إليه على أن إغراء إبليس بالمعصية و هو الأصل لكل معصية مفروضة لا يخلو عن إشكال فافهمه.
على أن قول إبليس ثانيا: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} شاهد على أنه سيبقى إلى آخر ما يعيش الإنسان في الدنيا ممن يمكنه إغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى: {إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} أنه آخر عمر البشر العائشين في الأرض الجائز له إغواؤهم.
و نسب إلى ابن عباس و مال إليه الجمهور: أن اليوم هو آخر أيام التكليف - و هو النفخة الأولى يوم يموت الخلائق و كأنه مبني على أن إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية، و هو مدة عمر الإنسان في الدنيا، و ينتهي ذلك إلى النفخة الأولى التي بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذي أنظره الله إليه، و بينه و بين النفخة الثانية التي فيها يبعثون أربعمائة سنة أو أربعون سنة على اختلاف الروايات، و هي ما به التفاوت بين ما سأله إبليس و بين ما أجاب إليه الله سبحانه.
و هذا وجه حسن لو لا ما فيه من قولهم: إن إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية فإنها مقدمة لا بينة و لا مبينة و ذلك أن تعويل القوم في ذلك على أن المستفاد من الآيات و الأخبار كون كل كفر و فسوق موجود في النوع الإنساني مستندا إلى إغواء إبليس و وسوسته كما يدل عليه أمثال قوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: يس: ٦٠و قوله: {وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلخ إلى غير ذلك من الآيات. و مقتضاها أن يدوم وجود إبليس ما دام التكليف باقيا، و التكليف باق ما بقي الإنسان و هو المطلوب.
و فيه أن كون المعصية الإنسانية مستندة بالجملة إلى إغواء إبليس مستفادة من الآيات و الروايات لا غبار عليه لكنه إنما يقتضي بقاء إبليس ما دامت المعصية و الغواية باقية لا بقاءه ما دام التكليف باقيا، و لا دليل على الملازمة بين المعصية و التكليف وجودا.
بل الحجة قائمة من العقل و النقل على أن غاية الإنسان النوعية و هي السعادة ستعم النوع و يتخلص المجتمع الإنساني إلى الخير و الصلاح و لا يعبد على الأرض يومئذ إلا
الله سبحانه، و ينطوي وقتئذ بساط الكفر و الفسوق، و يصفو العيش و يرتفع أمراض القلوب و وساوس الصدور، و قد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. قال تعالى: {ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: الروم: ٤١ و قال: {وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ}: الأنبياء: ١٠٥.
و من ذلك يظهر أن الذي استندوا إليه من الحجة إنما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذي جعله الله غاية إنظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الإنساني فينقطع دابر الفساد و لا يعبد يومئذ إلا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الأولى.
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} الباء في قوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} للسببية و {بِمَا} مصدرية أي أتسبب بإغوائك إياي إلى التزيين لهم و ألقي إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}: القصص: ٦٣.
و قول بعضهم: إن الباء للقسم أي أقسم بإغوائك لأزينن من أردإ القول فلم يعهد في كتاب و لا سنة أن يقسم بمثل الإغواء و الإضلال و ليس فيه شيء مفهوم من التعظيم اللازم في القسم.
و قد نسب لعنه الله في قوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} إلى الله سبحانه أنه أغواه و لم يرده الله سبحانه إليه و لا أجاب عنه و ليس مراده به غوايته إذ عصى أمر السجدة و لم يسجد لآدم (عليه السلام) و الدليل على ذلك أن لا رابطة بين معصيته في نفسه و بين معصية الإنسان لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم و يتسبب هو بها إلى إغوائهم.
و إنما يريد به ما يفيده قوله تعالى: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ} من استقرار اللعنة المطلقة فيه و هي الإبعاد من الرحمة و الإضلال عن طريق السعادة و هي إغواء له أثر الغواية التي أبداها من نفسه و أتى بها من عنده فيكون من إضلاله تعالى مجازاة لا إضلالا ابتدائيا و هو جائز غير ممتنع عليه تعالى، و لذلك لم يرده كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦ و قد بينا
ذلك في ذيل الآية و مواضع أخرى من هذا الكتاب.
و عند هذا يستقيم معنى السببية أعني إغواءه الناس بسبب الإغواء الذي مسه و استقر فيه فإن البعد من الرحمة و البون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة الإلهية له كان كلما اقترب من قلب إنسان بالوسوسة و التسويل أو استولى على نفس من النفوس و هو بعيد من الرحمة و السعادة أوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه، و هو إغواؤه بإلقاء أثر الغواية التي عنده إليه و هو ظاهر.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية و محصله أن المراد بالإغواء ليس هو الإضلال الابتدائي بل الإضلال على سبيل المجازاة الذي يدل عليه قوله: {وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} (الآية).
و أما القوم فكالمسلم عندهم أن قوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} لو كان بمعناه الظاهر و هو الإضلال لكان هو الإضلال الابتدائي و كان ناظرا إلى إبائه و امتناعه عن السجدة و لذا استشكلوا الآية و اختلفوا في تفسير الإغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه تعالى و صدوره منه جوازا و امتناعا.
فقال بعضهم و هم أهل الجبر: إن إسناد الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه لذلك يدل على أن الشر كالخير من الله تعالى، و المعنى رب بما أضللتني بالامتناع عن السجدة - فهو منك - أقسم لأضلنهم أجمعين.
و قال آخرون و هم غيرهم: أنه لا يجوز استناد الشر و المعصية و كل قبيح إليه تعالى و وجهوا الآية بوجوه.
أحدها: أن الإغواء في الآية بمعنى التخييب و المعنى رب بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك.
الثاني: أن المراد بالإغواء الإضلال عن طريق الجنة و المعنى بما أضللتني عن طريق جنتك لما صدر مني من معصيتك لأضلنهم بالدعوة.
الثالث: أن المراد بقوله: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} بما كلفتني أمرا ضللت عنده بالمعصية و هو السجود فسمى ذلك إضلالا منه له توسعا و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الآية في غنى عن هذا البحث و ما أبدئ فيه من الوجوه.
و نظير هذا البحث بحثهم عن الإنظار الواقع في قوله: {فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ} من جهة أنه مفض إلى الإغواء القبيح و ترجيح للمرجوح على الراجح.
فقال المجوزون: إن الآية تدل على أن الحسن و القبح اللذين يعلل بهما العقل أفعالنا لا تأثير لهما في أفعاله تعالى فله أن يثيب من يشاء و يعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع رجحان الخلاف، قالوا: و من زعم أن حكيما يحصر قوما في دار و يرسل فيها النار العظيمة و الأفاعي القاتلة الكثيرة و لم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق و اللسع فقد خرج عن الفطرة الإنسانية فإذن من حكم الفطرة أن الله تعالى أراد بإنظار إبليس إضلال بعض الناس.
و المانعون يوجهون الإنظار بأنه تعالى كان يعلم من إبليس و أتباعه أنهم يموتون على الكفر و الفسوق و يصيرون إلى النار أنظر إبليس أو لم ينظر على أنه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين. على أنه يقول: {وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ} و لو كان الإغواء من الله لأنكره عليه إلى غير ذلك مما أوردوه من الوجوه.
و ليت شعري ما الذي أغفلهم عن آيات الامتحان و الابتلاء على كثرتها كقوله تعالى: {لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ}: الأنفال: ٣٧ و قوله: {وَ لِيَبْتَلِيَ اَللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}: آل عمران: ١٥٤ و غيرهما من الآيات الدالة على أن نظام السعادة و الشقاء و الثواب و العقاب مبني على أساس الامتحان و الابتلاء، و الإنسان واقع بين الخير و الشر و السعادة و الشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.
فلو لا أن يكون هناك داع إلى الخير و هم الملائكة الكرام و إن شئت فقل: هو الله، و داع إلى الشر و هم إبليس و قبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى: {اَلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً}: البقرة: ٢٦٨.
و لئن أيد الله إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد أيده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا و لم يقل سبحانه له: إنك منظر بل قال: {فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ} فأثبت منظرين غيره و جعله بعضهم.
و لئن أيده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر و الفسوق للإنسان أيد الإنسان بأن هداه إلى الحق و زين الإيمان في قلبه و فطرة على التوحيد، و عرفه الفجور
و التقوى، و جعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي، قال: {قُلِ اَللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}: يونس: ٣٥ و قال: {وَ لَكِنَّ اَللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}: الحجرات: ٧ و قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا}: الروم: ٣٠و قال: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا}: الشمس: ٨ و قال: {أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ}: الأنعام: ١٢٢ «و قال {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ}: المؤمن: ٥١ و التكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.
فالإنسان خلق هو في نفسه أعزل ليس معه شيء من السعادة و الشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين: سبيل الخير و الطاعة و هو سبيل الملائكة ليس لهم إلا الطاعة، و سبيل الشر و المعصية و هو سبيل إبليس و جنوده و ليس معهم إلا المخالفة و المعصية، فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه و رافقه أصحابه و زينوا له ما عندهم و هدوه إلى ما ينتهي إليه سبيلهم و هو الجنة أو النار و السعادة أو الشقاء.
فقد بان مما تقدم أن إنظار إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح و لا إبطالا لقانون العلية بل ليتيسر به و بما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من أمر الامتحان و الابتلاء فلا محل للاستشكال.
و قوله: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ} أي لأزينن لهم الباطل أو لأزينن لهم المعاصي على ما قيل و المعنى الأول أجمع و المفعول محذوف على أي حال، و الظاهر أن المفعول معرض عنه و الفعل مستعمل استعمال اللازم، و الغرض بيان أصل التزيين كناية عن الغرور يقال: زين له كذا و كذا أي حمله عليه غرورا، و ضمير {لَهُمْ} لآدم و ذريته على ما يدل عليه السياق، و المراد بالتزيين لهم في الأرض غرورهم في هذه الحياة الأرضية و هي الحياة الدنيا و هو السبب القريب للإغواء فيكون عطف قوله: {وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه.
و الآية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب أن معصية آدم بالأكل من الشجرة المنهية عن وسوسة إبليس لم تكن معصية لأمر مولوي بل مخالفة لأمر إرشادي لا يوجب نقضا في عصمته فإنه يعرف الأرض في
الآية ظرفا لتزيينه و إغوائه فما كان غروره لآدم و زوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها و ينزلهما إلى الأرض فيتناسلا فيها فيغويهما و بنيهما عن الحق و يضلهم عن الصراط قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}: الأعراف: ٢٧.
و قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} استثنى من عموم الإغواء طائفة خاصة من البشر و هم المخلصون - بفتح اللام على القراءة المشهورة و السياق يشهد أنهم الذين أخلصوا لله و ما أخلصهم إلا الله سبحانه، و قد قدمنا في الكلام على الإخلاص في تفسير سورة يوسف أن المخلصين هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا أنفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة و لا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله و تزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه.
و من هنا يترجح أن الاستثناء إنما هو من الإغواء فقط لا منه و من التزيين بمعنى أنه لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوي إلا غير المخلصين.
و يستفاد من استثناء العباد أولا ثم تفسيره بالمخلصين أن حق العبودية إنما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي أن لا يملكه إلا هو و يرجع إلى أن لا يرى الإنسان لنفسه ملكا و أنه لا يملك نفسه و لا شيئا من صفات نفسه و آثارها و أعمالها و أن الملك - بكسر الميم و ضمها - لله وحده.
و قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق أنه كناية على أن الأمر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما أن كون طريق السفينة على البحر يقضي على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة و الوسيلة و كذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة و مسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو أنه أمر متوقف من كل جهة إلى حكمه و قضائه تعالى فإنه الله الذي منه يبدأ كل شيء و إليه ينتهي فلا يتحقق أمر إلا و هو ربه القيوم عليه.
و ظاهر السياق أيضا أن الإشارة بقوله: {هَذَا صِرَاطٌ} إلخ إلى قول إبليس: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} لما أظهر بقوله هذا أنه سينتقم منهم
و يبسط سلطته بالتزيين و الإغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم إلا القليل كأنه يشير إلى أنه سيستقل بما عزم عليه و يعلو بإرادته على الله سبحانه فيما أراد من خلقهم و استخلافهم و استعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله: {وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}: الأعراف: ١٧.
فمعنى الآية أن ما ذكرت من أنك ستغويهم أجمعين و استثنيت منهم من استثنيت و أظهرت نسبته إلى قوتك و مشيئتك زاعما فيه أنك مستقل به، أمر لا يملكه إلا أنا و لا يحكم فيه غيري و لا يصدر إلا عن قضائي فإن أغويت فبإذني أغويت و إن منعت فبمشيئتي منعت فليس إليك من الأمر شيء و لا من الملك إلا ما ملكتك و لا من القدرة إلا ما أقدرتك، و الذي أقضيه لك من السلطان أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك إلخ.
قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} هذا هو القضاء الذي أشار سبحانه إليه في الآية السابقة في أمر الإغواء و ذكر أنه له وحده ليس لغيره فيه صنع و لا نصيب.
و محصله أن آدم و بنيه كلهم عباده لا كما قاله إبليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} و لم يجعل سبحانه له عليهم أي على العباد سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم و إنما جعل له السلطان على طائفة منهم و هم الذين اتبعوه من الغاوين و ولوه أمرهم و ألقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الذين له عليهم سلطان.
فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد على إبليس قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} من ثلاث جهات أصلية:
إحداها: أنه حصر عباده في المخلصين منهم و نفى عنهم سلطان نفسه و عمم سلطانه على الباقين و الله سبحانه عمم عباده على الجميع و قصر سلطان إبليس على طائفة منهم و هم الذين اتبعوه من الغاوين و نفى سلطانه على الباقين.
و الثانية: أنه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ} في سياق المخاصمة و التقريع بالانتقام و الله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمة
باطلة و إنما هو عن قضاء من الله و سلطان بتسليطه و إنما ملكه إغواء من اتبعه و كان غاويا في نفسه و بسوء اختياره.
فلم يأت إبليس بشيء من نفسه و لم يفسد أمرا على ربه لا في إغوائه أهل الغواية فإنه بقضاء من الله سبحانه أن يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه و قد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} و لا في استثنائه المخلصين فإنه أيضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم إلا لله.
و هذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على إغواء الغاوين الذين هم في أنفسهم غاوون و تخليص المخلصين و هم مخلصون في أنفسهم من كيده كل ذلك بقضاء من الله، مبني على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالى: {إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}: يوسف: ٦٧ و قوله: {وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىَ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ}: القصص: ٧٠و قوله: {اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: آل عمران: ٦٠و قوله: {وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}: يونس: ٨٢ و غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل حكم إيجابي أو سلبي فهو مملوك لله نافذ بقضائه.
و من هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله: {إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} من المسامحة فإنهم قالوا: إنه إذا قبل من إبليس و اتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغي و ظاهره أنه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه و لا بجعل من الله سبحانه.
وجه الفساد: أن فيه أخذ الاستقلال و الحول الذاتي من إبليس و إعطاؤه ذوات الأشياء و لو كان إبليس لا يملك شيئا من عند نفسه و بغير إذن ربه فالأشياء و الأمور أيضا لا تملك لنفسها شيئا و لا حكما حتى الضروريات و لوازم الذوات إلا بإذن من الله و تمليك فافهمه.
و الثالثة: أن سلطانه على إغواء من يغويه و إن كان بجعل و تسليط من الله سبحانه إلا أنه ليس بتسليط على الإغواء و الإضلال الابتدائي غير الجائز إسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم و في أنفسهم.
و الدليل على ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ} فإبليس إنما يغوي
من اتبعه بغوايته أي إن الإنسان يتبعه بغوايته أولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها إغواء و الغواية إجرام من الإنسان و الإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.
و لو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائيا من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: {وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ}: إبراهيم: ٢٢. فاللوم على الإنسان المجرم و هو مسئول عن معصيته دون إبليس.
نعم إبليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره و هو الإغواء الذي سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به فالإغواء هو الذي استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: {إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأعراف: ٢٧ و قال تعالى و هو أوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلىَ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ}: الحج: ٤.
و قد تحصل مما تقدم أن المراد بقوله: {عِبَادِي} عامة الإنسان، و أن الاستثناء في قوله: {مَنِ اِتَّبَعَكَ} متصل لا منقطع، و أن {مَنِ} في قوله: {مِنَ اَلْغَاوِينَ} بيانية، و أن الكلام مبني على رد قول إبليس، و أن الآية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدي المستثنى و المستثنى منه و غير ذلك.
و من ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم: إن المراد بعبادي هم الذين استثناهم إبليس و عبر عنهم بقوله: {عِبَادَكَ مِنْهُمُ} فيكون الاستثناء منقطعا و الكلام مسوقا لتقرير قول إبليس إن له سلطانا على من يغويه و إن المخلصين لا سبيل له إليهم و المعنى أن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين.
و أنت تعلم بالتأمل فيما تقدم أن هذا هدم لأساس السياق و ما يعطيه مقام المخاصمة و تحق نسبته إلى ساحة العزة و الكبرياء و تنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها أكثر من تغيير صورة كلام إبليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول: سأغويهم إلا المخلصين، و الله سبحانه يقول: لا تغوي المخلصين لكن تغوي غيرهم!
و ربما فسر بعضهم قوله: {عِبَادِي} بجميع البشر و أخذ مع ذلك الاستثناء
منقطعا و لعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء أكثر الأفراد فلا يقال: له على مائة إلا تسعة و تسعون مثلا و من المعلوم أن الغاوين من الناس أكثر من المخلصين بما لا يقاس.
و فيه أن ذلك إنما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد و أما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الأفراد، و للإنسان عدة أصناف: المخلصون و من دونهم من المؤمنين و المستضعفون و الذين اتبعوا إبليس من الغاوين، و قد استثنى الصنف الأخير في الآية بعنوانه و بقي الباقون و هم أصناف.
و منهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان إبليس حتى على الغاوين زعما منه أنه ينافي إطلاق السلطنة الإلهية أو عدله تعالى و معنى الآية على هذا، أن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين ألقى إليك زمام نفسه و جعل لك على نفسه سلطانا و ليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه و لا من الله حتى ينافي عدله تعالى.
و فيه: أن له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله و لا ينافي ذلك عدله في خلقه فإنه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائي، و لا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى و كونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه.
على أن قوله تعالى فيه: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}: الحج: ٤ و قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}: الأعراف: ٢٧ يدلان صريحا على ثبوت سلطانه و أنه بجعل من الله سبحانه و قضاء.
قوله تعالى: {وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} الظاهر أن «موعد» اسم مكان و المراد بكون جهنم موعدهم كونه محل إنجاز ما وعدهم الله من العذاب.
و هذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته و رجوع الأمر كله إليه كأنه تعالى يقول له: ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك و لم تعجزنا بل نحن سلطناك عليهم لاتباعهم لك على أنا سنجازيهم بعذاب جهنم.
و لكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم و لم يذكر معهم إبليس و لا جزاءه بخلاف قوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}: ص: ٨٥ و قوله: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً}: إسراء: ٦٣ لأن المقام غير المقام.
قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} لم يبين سبحانه في شيء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أ هي كأبواب الحيطان مداخل تهدي الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات و دركات تختلف في نوع العذاب و شدته؟ و كثيرا ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع بابا كما يقال: أبواب الخير و أبواب الشر و أبواب الرحمة، قال تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}: الأنعام: ٤٤ و ربما سمي أسباب الشيء و طرق الوصول إليه أبوابا كأبواب الرزق لأنواع المكاسب و المعاملات.
و ليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: {وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىَ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} إلى أن قال: {قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}: الزمر: ٧٢ «و قوله {إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنَّارِ}: النساء: ١٤٥ إلى غير ذلك من الآيات.
و يؤيده قوله: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} فإن ظاهره أن نفس الجزء مقسوم موزع على الباب، و هذا إنما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل و أما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.
و على هذا فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى سبعة أنواع ثم انقسام كل نوع أقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه، و ذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام، و كذا انقسام الطرق المؤدية و الأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام، و بذلك يتأيد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك إن شاء الله.
قوله تعالى: {إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} أي إنهم مستقرون في جنات و عيون يقال لهم: ادخلوها بسلام لا يوصف و لا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر و ضر.
لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع إبليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من الجنة، و قد ورد تفسير التقوى في كلامه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالورع عن محارم الله، و قد تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون أعم من المخلصين.
و ما قيل: إنه لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم، و أن المطلق يحمل على الفرد الكامل.
فيه أن ذلك مبني على كون المراد بالعباد في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم، و قد تقدم أن المراد بالعباد عامة أفراد الإنسان خرج منه الغاوون بالاستثناء و بقي الباقون، و قد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار و هو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن أوجب له الجنة و الأمر في المستضعفين مرجأ و في العصاة من أهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى أهل التقوى من المؤمنين و هم أعم من المخلصين فقضي فيهم بالجنة.
و أما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ و إنما يحمل على الفرد المتعارف و تفصيل المسألة في فن الأصول.
و ذكر الإمام الرازي في تفسيره أن المراد بالمتقين في الآية الذين اتقوا الشرك و نقله عن جمهور الصحابة و التابعين و أسنده إلى الخبر.
قال: و هذا هو الحق الصحيح و الذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، و الذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة و كل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا، و لهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار. فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات و العيون لكل من اتقى عن ذنب واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم.
و أيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ} عقيب قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل و الظاهر.
فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله و لو
كانوا من أهل المعصية، و هذا تقرير بين و كلام ظاهر، انتهى.
و مقتضى كلامه شمول الآية لمن اتقى الشرك و لو اقترف جميع الكبائر الموبقة التي نص الكتاب العزيز باستحقاق النار بإتيانها و ترك جميع الواجبات التي نص على تركها بمثله، و المستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في أن القرآن لا يسمي مثل هذا متقيا و لا يعده من المتقين، و قد أكثر القرآن ذكر المتقين و بشرهم بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم و بذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم.
ثم إن مجرد صحة إطلاق الوصف أمر و التسمية أمر آخر فلا يسمى بالمؤمنين و المحسنين و القانتين و المخلصين و الصابرين و خاصة في الأوصاف التي تحتمل البقاء و الاستمرار إلا من استقر فيه الوصف، و لو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك في الظالمين و الفاسقين و المفسدين و المجرمين و الغاوين و الضالين و قد أوعدهم الله النار، و أدى ذلك إلى تدافع عجيب و اختلال في كلامه تعالى، و لو قيل: إن هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرة و المرتين كآيات التوبة و الشفاعة و نظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتقي بالمرة و المرتين و هي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا و القتل ظلما و الربا و أكل مال اليتيم و أشباهها.
ثم الذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله: إن هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ، فإنك قد عرفت فيما تقدم أن ذلك لا ينفعه شيئا، و كقوله: إن زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ، فإن الأصل إنما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظي و قد عرفت أن هناك آيات جمة صالحة للتقييد.
و كقوله: إن ذلك خلاف الظاهر. و كأنه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق، و قد ذهب عليه أن ظهور المطلق إنما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.
فالحق أن الآية إنما تشمل الذين استرقت فيهم ملكة التقوى و هو الورع عن محارم الله فأولئك هم المقضي عليهم بالسعادة و الجنة قضاء لازما، نعم المستفاد من الكتاب و السنة أن أهل التوحيد و هم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلا الله لا يخلدون في النار و يدخلون الجنة لا محالة، و هذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.
قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} إلى آخر الآيتين. الغل الحقد، و قيل هو ما في الصدر من حقد و حسد مما يبعث الإنسان إلى إضرار الغير، و السرر جمع سرير و النصب هو التعب و العي الوارد من خارج.
يصف تعالى في الآيتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة، اختص بالذكر هذه الأمور من بين نعم الجنة على كثرتها فإن العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان أنهم في سلام و أمن مما ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة و ذهاب السيادة و الكرامة فذكر أنهم في أمن من قبل أنفسهم لأن الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين و لتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى و أنهم في أمن من ناحية الأسباب و العوامل الخارجة فلا يمسهم نصب أصلا و أنهم في أمن و سلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين أبدا فلهم السعادة و الكرامة من كل جهة، و لا يغشاهم و لا يمسهم شقاء و وهن من جهة أصلا لا من ناحية أنفسهم و لا من ناحية سائر ما خلق الله و لا من ناحية ربهم.
(كلام) كلام في الأقضية الصادرة في بدء خلقة الإنسان
الأقضية التي صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة:
الأول و الثاني قوله لإبليس: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ}: الحجر: ٣٥ و يمكن إرجاعهما إلى واحد.
الثالث قوله سبحانه له: {فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} الحجر: ٣٨.
الرابع و الخامس و السادس قوله له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}: الحجر: ٤٣.
السابع و الثامن قوله سبحانه لآدم و من معه: {اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ}: البقرة: ٣٦.
التاسع و العاشر قوله لهم: {اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ
هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: البقرة: ٣٩.
و هناك أقضية فرعية مترتبة على هذه الأقضية الأصلية يعثر عليها المتدبر الباحث.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (الآية) قال: روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.
و فيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} قال: خلق خلقا و خلق روحا ثم أمر الملك فنفخ فيه و ليست بالتي نقصت من الله شيئا هي من قدرته تبارك و تعالى.
و فيه و في رواية سماعة عنه (عليه السلام): خلق آدم و نفخ فيه. و سألته عن الروح قال: هي قدرته من الملكوت.
أقول: أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر السابق.
و في المعاني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} قال: روح اختاره و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه و فضله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.
و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون أن الله خلق آدم على صورته فقال: هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله و اختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال: {بَيْتِيَ} {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}.
أقول: و هذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة و سنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.
و في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: {فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت
إبليس ما بين النفخة الأولى و الثانية.
و في تفسير العياشي عن وهب بن جميع و في تفسير البرهان عن شرف الدين النجفي بحذف الإسناد عن وهب و اللفظ للثاني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن إبليس و قوله: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} أي يوم هو؟ قال: يا وهب أ تحسب أنه يوم يبعث الله فيه الناس و لكن الله عز و جل أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فيأخذ بناصيته و يضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.
و في تفسير القمي بإسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: {فَأَنْظِرْنِي} إلى قوله {إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ} قال: يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الصخرة التي في بيت المقدس.
أقول: و هو من أخبار الرجعة و في معناه و معنى الرواية السابقة عليه أخبار أخرى من طرق أهل البيت (عليه السلام).
و من الممكن أن تكون الرواية الأولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقية، و يمكن أن توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على الرجعة في الجزء الأول من الكتاب و غيره أن الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليه السلام) في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدي (عليه السلام) تارة و بالرجعة تارة و بالقيامة أخرى لكون هذه الأيام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق و إن كانت مختلفة من حيث الشدة و الضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.
و في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: أ رأيت قول الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}؟ ما تفسير هذا؟ قال: قال الله: إنك لا تملك أن تدخلهم جنة و لا نارا.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} (الآية)، قال: قال: يدخل في كل باب أهل مذهب، و للجنة ثمانية أبواب.
و في الدر المنثور أخرج أحمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال: قال علي: أ تدرون كيف أبواب جهنم قلنا كنحو هذه الأبواب. قال: لا، و لكنها هكذا
و وضع يده فوق يده و بسط يده على يده.
و فيه أخرج ابن المبارك و هناد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد في الزهد و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في البعث من طرق عن علي قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملأ كلها.
و فيه أخرج ابن مردويه و الخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله تعالى: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} قال: جزء أشركوا بالله، و جزء شكوا في الله، و جزء غفلوا عن الله.
أقول: هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها، و الظاهر أن الكلام غير مسوق للحصر.
و فيه أخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لجهنم باب لا يدخل منه إلا من أخفرني في أهل بيتي و أراق دماءهم من بعدي.
أقول: يقال: خفره أي غدر به و نقض عهده.
و فيه أخرج أحمد و ابن حبان و الطبري و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عتبة بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: للجنة ثمانية أبواب و للنار سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض.
أقول: و الروايات كما ترى تؤيد من قدمناه.
و في تفسير القمي: في قوله تعالى: {وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (الآية)، قال: قال العداوة.
و في تفسير البرهان عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال: قال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أيما أنا أحب إليك أم فاطمة قال: فاطمة أحب إلي منك و أنت أعز علي منها، و كأني بك و أنت على حوضي تذود عنه الناس، و إن عليه أباريق عدد نجوم السماء، و أنت و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر في الجنة إخوانا على سرر متقابلين و أنت معي و شيعتك. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) {إِخْوَاناً عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.
و فيه عن ابن المغازلي في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إني مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة، ثم قال لعلي: أنت أخي ثم تلا هذه الآية: {إِخْوَاناً عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض.
أقول: و رواه أيضا عن أحمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الرواية مبسوطة.
و في الروايتين تفسير قوله تعالى: {عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} بقوله: لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه، و قوله: الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض و فيه إشارة إلى أن التقابل في الآية كناية عن عدم تتبع أحدهم عورات إخوانه و زلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل و هو معنى لطيف.
و ما قرأه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الآية إنما هو من باب الجري و الانطباق لا أن الآية نازلة في أهل البيت (عليه السلام) فسياق الآيات لا يلائمه البتة.
و نظيرها ما روي عن علي (عليه السلام): أن الآية نزلت فينا أهل بدر، و في رواية أخرى عنه (عليه السلام): أنها نزلت في أبي بكر و عمر، و في رواية أخرى عن علي بن الحسين (عليه السلام): أنها نزلت في أبي بكر و عمر و علي، و في رواية أخرى: أنها نزلت في علي و الزبير و طلحة، و في رواية أخرى: أنها نزلت في علي و عثمان و طلحة و الزبير، و في رواية أخرى عن ابن عباس: أنها نزلت في عشرة: أبي بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن مسعود.
و الروايات على ما بها من الاختلاف تطبيقات من الرواة، و الآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ و هي في جملة آيات تقص ما قضاه الله و حكم به يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثم قضى ما قضى، و لا تعلق لذلك بأشخاص بخصوصيتهم هذا.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ٤٩ الی ٨٤ ]
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ٤٩ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ
اَلْأَلِيمُ ٥٠وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٥١ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ٥٢ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ ٥٣ قَالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ٥٤ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْقَانِطِينَ ٥٥ قَالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ ٥٦ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ ٥٧ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ٥٨ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ٥٩ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ ٦٠فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ ٦١قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ٦٢قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ٦٣ وَ أَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ ٦٤ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ٦٥وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ٦٦ وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ٦٧ قَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ٦٨وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ ٦٩ قَالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعَالَمِينَ ٧٠قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ٧١ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ٧٢ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ٧٣ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ٧٤ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ٧٥ وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ٧٦ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ٧٧ وَ إِنْ كَانَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ٧٨ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ٧٩ وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ ٨٠وَ آتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ٨١ وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ٨٢ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ٨٣ فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٨٤}
(بيان)
بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما أنزل إليه من الكتاب و اقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة و هم ليسوا بمؤمنين و إن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير و الإنذار و هو ما في قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي} إلى آخر الآيتين ثم أوضحه و أيده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للأمرين معا و هي قصة ضيف إبراهيم و فيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة و عذاب قوم لوط بأشد أنواع العذاب.
ثم أيده تعالى بإشارة إجمالية إلى تعذيب أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب و أصحاب الحجر و هم ثمود قوم صالح (عليه السلام).
قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ} المراد بقوله: {عِبَادِي} على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد و لا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون.
و تأكيد الجملتين بالاسمية و إن و ضمير الفصل و اللام في الخبر يدل على أن الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة و الرحمة و ألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدر بقدر و لا يقاس بها غيرها، فما من مغفرة أو رحمة إلا و يمكن أن يفرض لها مانع يمنع
من إرسالها أو مقدر يقدرها و يحدها، لكنه سبحانه يحكم لا معقب لحكمه و لا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته و رحمته شيء و لا يحدهما أمر إلا أن يشاء ذلك هو جل و عز، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه و رحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلا أن يخافه تعالى نفسه كما قال: {لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلىَ رَبِّكُمْ}: الزمر: ٥٤.
و ليس لأحد أن يحقر عذابه أو يؤمل عجزه أو يأمن مكره و الله غالب على أمره و لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قوله تعالى: {وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الضيف معروف و يطلق على المفرد و الجمع و ربما يجمع على أضياف و ضيوف و ضيفان لكن الأفصح كما قيل أن لا يثنى و لا يجمع لكونه مصدرا في الأصل.
و المراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين أرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد و لهلاك قوم لوط سماهم ضيفا لأنهم دخلوا عليه في صورة الضيف.
قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ} ضمير الجمع في {دَخَلُوا} و {فَقَالُوا} في الموضعين للملائكة فقولهم: {سَلاَماً} تحية و تقديره نسلم عليك سلاما و قول إبراهيم (عليه السلام): {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون و الوجل: الخوف.
و إنما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقر بهم المجلس و قدم إليهم عجلا حنيذا فلم يأكلوا منه فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصة مذكورة على نحو التلخيص.
و قولهم: {لاَ تَوْجَلْ} تسكين لوجله و تأمين له و تطييب لنفسه بأنهم رسل ربه و قد دخلوا عليه ليبشروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاما و عليما، و لعل المراد كونه عليما بتعليم الله و وحيه فيقرب من قوله في موضع آخر: {وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا}: الصافات: ١١٢.
قوله تعالى: {قَالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلىَ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} تلقى إبراهيم (عليه السلام) البشرى و هو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه و قد أيئسته العادة الجارية
عن الولد و إن كان يجل أن يقنط من رحمة الله و نفوذ قدرته، و لذا تعجب من قولهم و استفهمهم كيف يبشرونه بالولد و حاله هذه الحال؟ و زوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.
فقوله: {أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلىَ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ} الكبر كناية عن الشيخوخة و مسه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه و إذهاب قواه، و المعنى إني لأتعجب من بشارتكم إياي و الحال أني شيخ هرم فني شبابي و فقدت قوى بدني، و العادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.
و قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} تفريع على قوله: {مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ} و هو استفهام عما بشروه به كأنه يشك في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذي تبشرون به؟ فإن الذي يدل عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب، و هذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا أخبر بما يستبعده أو لا يصدقه: ما تقول؟ و ما تريد؟ و ما ذا تصنع؟
قوله تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} إلى قوله {إِلاَّ اَلضَّالُّونَ} الباء في {بِالْحَقِّ} للمصاحبة أي إن بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله و هذا، جواب للملائكة و قد قابلهم إبراهيم (عليه السلام) على نحو التكنية فقال: {وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ} و الاستفهام إنكاري أي إن القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين و لست أنا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ} الخطب الأمر الجليل و الشأن العظيم، و في خطابهم بالمرسلين دلالة على أنهم ذكروا له ذلك قبلا، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلىَ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إلى قوله {لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ} قال في المفردات: الغابر الماكث بعد مضي من هو معه قال تعالى: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ} يعني فيمن طال أعمارهم، و قيل: فيمن بقي و لم يسر مع لوط، و قيل: فيمن بقي بعد في العذاب، و في آخر: {إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ} و في آخر: {قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ} إلى أن قال و الغبار ما يبقى من التراب المثار و جعل على بناء
الدخان و العثار و نحوهما من البقايا. انتهى و لعله من هنا ما ربما يسمى الماضي و المستقبل معا غابرا أما الماضي فبعناية أنه بقي فيما مضى و لم يتعد إلى الزمان الحاضر و أما المستقبل فبعناية أنه باق لم يفن بعد كالماضي.
و الآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا} من عند الله سبحانه {إِلىَ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} نكروهم و لم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه و مستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا و قالوا: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} و هم لوط و خاصته و ظهر به أن القوم قومه {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} أي مخلصوهم من العذاب {أَجْمَعِينَ} و ظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا.
ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أن النجاة لا تشملها و أن العذاب سيأخذها و يهلكها فقالوا {إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ} أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.
و قد تقدم تفصيل قول في ضيف إبراهيم (عليه السلام) في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و عقدنا هناك بحثا مستقلا فيه.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} إنما قال لهم لوط (عليه السلام) ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان و كان يشقه ما يراه منهم و شأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَ أَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ} الامتراء من المرية و هو الشك، و المراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط و هم يشكون فيه، و المراد بإتيانهم بالحق إتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم: {وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}: هود: ٧٦ و قيل: المراد «و أتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه» و ما ذكرناه هو الوجه.
و في آيات القصة تقديم و تأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم و بالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي و تعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.
و ترتيب القصة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود و غيرها و الاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ} إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثم قوله: {وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ} إلى تمام ست آيات. ثم قوله: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ} إلى تمام أربع آيات. ثم قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} إلى آخر الآيات.
و حقيقة هذا التقديم و التأخير أن للقصة فصولا أربعة و قد أخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأول و الثاني أعني أن قوله: {وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ} إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره و هو قوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} بأول الفصل الأخير: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} و ذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة و ينجلي أوضح الانجلاء و هو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم و أمن منه لا يخطر ببالهم شيء من ذلك و ذلك أبلغ في الدهشة و أوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.
و نظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة أصحاب الحجر الآتية من اتصال قوله: {وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} بقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} كل ذلك ليجلي معنى قوله تعالى في صدر المقال: {وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ} فافهم ذلك.
قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ} إلى آخر الآية، الإسراء هو السير بالليل، فقوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ} يؤكده و قطع الليل شطر مقطوع منه، و المراد باتباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلف عن السير و يحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله: {وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}.
و المعنى: و إذ جئناك بعذاب غير مردود و أمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا و تأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير و لا يساهلوا فيه و لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه و امضوا حيث تؤمرون، و فيه دلالة على أنه كانت أمامهم هداية إلهية تهديهم و قائد يقودهم.
قوله تعالى: {وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} القضاء
مضمن معنى الوحي و لذا عدي بإلى كما قيل و المراد بالأمر أمر العذاب كما يفسره قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} و الإشارة إليه بلفظة {ذَلِكَ} للدلالة على عظم خطره و هول أمره.
و المعنى: و قضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط و هو أن دابر هؤلاء و أثرهم الذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل و بناء و عمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا، إلخ.
قوله تعالى: {وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} إلى قوله {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} يدل نسبة المجيء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم أهل المدينة لكثرتهم.
فالمعنى {وَ جَاءَ} إلى لوط {أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ} جمع كثير منهم يريدون أضيافه و هم {يَسْتَبْشِرُونَ} لولعهم بالفحشاء و خاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه {قَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} بالعمل الشنيع بهم {وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ قَالُوا} المهاجمون من أهل المدينة: أ لم نقطع عذرك في إيوائهم {أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعَالَمِينَ} أن تؤويهم و تشفع فيهم و تدافع عنهم فلما يئس لوط (عليه السلام) منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهن كما تقدم بيانه في سورة هود {قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} إلى قوله {مِنْ سِجِّيلٍ} قال في المفردات: العمارة ضد الخراب. قال: و العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، و إذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإن البقاء ضد الفناء، و لفضل البقاء على العمر وصف الله به و قلما وصف بالعمر قال: و العمر بالضم و العمر بالفتح واحد لكن خص القسم بالعمر بالفتح دون العمر بالضم نحو {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ}، انتهى.
و الخطاب في {لَعَمْرُكَ} للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو قسم ببقائه و قول بعضهم: إنه خطاب من الملائكة للوط (عليه السلام) و قسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.
و العمه هو التردد على حيرة و السجيل حجارة العذاب و قد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.
و المعنى أقسم بحياتك و بقائك يا محمد إنهم لفي سكرتهم و هي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء و المنكر يترددون متحيرين {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ} و هي الصوت الهائل {مُشْرِقِينَ} أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها و فوقها تحتها و أمطرنا و أنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} إلى قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ} (الآية) العلامة و المراد بالآيات أولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار و بالآية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الإنذار و الدعوة الإلهية و التوسم التفرس و الانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.
و المعنى: أن في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط و في بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرسين و إن تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف و لم تنمح بالكلية بعد، إن في ذلك لآية للمؤمنين تدل على حقية الإنذار و الدعوة و قد تبين بذلك وجه إيراد الآيات جمعا و مفردا في الموضعين.
قوله تعالى: {وَ إِنْ كَانَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} إلى {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} الأيكة واحدة الأيك و هو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا كما قيل في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.
و هؤلاء كما ذكروا هم قوم شعيب (عليه السلام) أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة، و يؤيده قوله تعالى ذيلا: {وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي مكانا قوم لوط و أصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإن الذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط و قوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم و تكذيبهم لدعوة شعيب (عليه السلام) و قد تقدمت قصتهم في سورة هود و قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} الضمير لأصحاب الأيكة و قيل: لهم و لقوم لوط. و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ} إلى قوله {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح و الحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها و عدهم مكذبين لجميع المرسلين و هم إنما كذبوا صالحا المرسل إليهم إنما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة و المكذب لواحد منهم مكذب للجميع.
و قوله: {وَ آتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} إن كان المراد بالآيات المعجزات و الخوارق - كما هو الظاهر - فالمراد بها الناقة و شربها و ما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن أهلكوا، و قد تقدمت القصة في سورة هود، و إن كان المراد بها المعارف الإلهية التي بلغها صالح (عليه السلام) و نشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقة و الآية المعجزة فالأمر واضح.
و قوله: {وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} أي كانوا يسكنون الغيران و الكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضية و السماوية بزعمهم.
و قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي صيحة العذاب التي كان فيها هلاكهم، و قد تقدمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات: {وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ}.
و قوله: {فَمَا أَغْنىَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ناس من أصحابه يضحكون قال: اذكروا الجنة و اذكروا النار فنزلت: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ}.
أقول: و في معناه روايات أخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.
و فيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله: «إن في ذلك لآيات للمتوسمين» قال: هم المتفرسون.
و فيه أخرج البخاري في تاريخه و الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن السني و أبو نعيم معا في الطب و ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال المتفرسين.
و في اختصاص المفيد بإسناده عن أبي بكر بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: ما من مخلوق إلا و بين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر و ذلك محجوب عنكم و ليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم أحد إلا عرفوه مؤمنا أو كافرا ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} فهم المتوسمون.
أقول: و الروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة، و ليس معناها نزول الآية فيهم (عليه السلام).
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن مدين و أصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا.
أقول: و قد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصة بشرى إبراهيم و قصص لوط و شعيب و صالح (عليه السلام) في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و اكتفينا بذلك عن إيرادها هاهنا فليرجع إلى هناك.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ٨٥ الی ٩٩ ]
{وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ ٨٥ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ ٨٦ وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ ٨٧ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ٨٨ وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ ٨٩ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ ٩٠اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ ٩١ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٩٢ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩٣ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ ٩٤ إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ ٩٥
اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٩٦ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ ٩٨ وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ ٩٩}
(بيان)
في الآيات تخلص إلى غرض البيان السابق و هو أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصدع بما يؤمر و يأخذ بالصفح و الإعراض عن المشركين و لا يحزن عليهم و لا يضيق صدره بما يقولون فإن من القضاء الحق أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا و الآخرة و خاصة يوم القيامة الذي لا ريب فيه و هو اليوم الذي لا يغادر أحدا و لا يدع مثقال ذرة من الخير و الشر إلا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإن الله عليم به سيجازيه، و لا يحزن عليه فإن الاشتغال بالله سبحانه أهم و أوجب.
و لقد كرر سبحانه أمره بالصفح و الإعراض عن أولئك المستهزءين به و هم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة و الاشتغال بتسبيحه و تحميده و عبادته، و أخبره أنه كفاه شرهم فليشتغل بما أمره الله به، و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} الباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للمصاحبة أي إن خلقها جميعا لا ينفك عن الحق و يلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى: {إِنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلرُّجْعىَ}: العلق: ٨ و لو لا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}: الدخان: ٣٩ و قال: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً}: ص: ٢٧ و من الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله: {وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} و هو ظاهر.
و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن المراد بالحق العدل و الإنصاف و الباء للسببية و المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل و الإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.
و ذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل و الإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أن الذي ذكره من المعنى إنما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية.
و كذا ما ذكره بعضهم أن الحق بمعنى الحكمة و أن الجملة الأولى {وَ مَا خَلَقْنَا} إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيوي و الثانية {وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} إلى العذاب الأخروي و المعنى و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا متلبسا بالحق و الحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد و استقرار الشرور، و قد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم و إرشادا لمن بقي إلى الصلاح، و إن الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها من أمثال هؤلاء.
و في الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر و التفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.
و استدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإن المعاصي و قبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق و الباطل لا يكون مخلوقا بالحق.
و الحق أن الحجتين جميعا من الباطل فإن جهات القبح و المعصية في الأفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة و المعصية كالنكاح و الزنا و أكل المال من حله و بالباطل و أمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل و إنما تختلف طاعة و معصية بموافقة الأمر و مخالفته و المخالفة جهة عدمية، و إذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإن ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات و الأرض حتى تشمله الآية، و لا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.
على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل و المعلولات في الوجود و أن قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة و المعصية و حسن الفعل و قبيحه هو الإنسان دون الذي خلقه و يسر له أن يفعل كذا و كذا كما ـ
أن المتصف بالسواد و البياض الجسم الذي يقوم به هذان اللونان دون الذي أوجده.
و قد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦ الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ} قال في المفردات: صفح الشيء عرضه و جانبه كصفحة الوجه و صفحة السيف و صفحة الحجر و الصفح ترك التثريب و هو أبلغ من العفو و لذلك قال: {فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} و قد يعفوا الإنسان و لا يصفح قال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ} {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ} {أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً}.
و صفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب، و قوله: {إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ} فأمر له (عليه السلام) أن يخفف كفر من كفر كما قال: {وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.
و سيأتي ما في الرواية من تفسير علي (عليه السلام) الصفح بالعفو من غير عتاب.
و قوله: {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ} تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإن ربك الذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.
و من هنا يظهر أن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ} تعليل لقوله: {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ}.
و هذه الآيات الحافة لقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب لنفسه ليأخذ قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} موقعه فقد عرفت في أول السورة أن الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضا بالتدبر في الآيات السابقة أنها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته (صلى الله عليه وآله و سلم) عما لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلص من ذلك إلى الأمر المطلوب.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ} السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم: أنها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنها الحواميم السبع، و ما قيل: إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شيء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنة.
و قد كثر اختلافهم في قوله: {مِنَ اَلْمَثَانِي} من جهة كون {مِنَ} للتبعيض أو للتبيين و في كيفية اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.
و الذي ينبغي أن يقال و الله أعلم أن {مِنَ} للتبعيض فإنه سبحانه سمى جميع آيات كتابه مثاني إذ قال: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}: الزمر: ٢٣ و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلها.
و الظاهر أن المثاني جمع مثنية اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}: هود: ٥ و سميت الآيات القرآنية مثاني لأن بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في صفة القرآن: «يصدق بعضه بعضا» و عن علي (عليه السلام): فيه: «ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض» أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.
و لعل في ذلك كفاية و غنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سميت آيات القرآن مثاني لتكرر المعاني فيها، و كقولهم: سميت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لأنها تثنى في كل ركعة بما يقرأ بعدها من القرآن، أو لأن كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمن و الرحيم و إياك و الصراط و عليهم، أو لأنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأن الله استثناها و ادخرها لهذه الأمة و لم ينزلها على الأمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.
و في قوله: {سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ} من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة {سَبْعاً} و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.
و الآية كما تبين في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أن في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الإلهية الهادية إلى كل كمال و سعادة بإذن الله عدة أن تحملك على الصفح الجميل و الاشتغال بربك و التوغل في طاعته.
قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} إلى قوله {اَلْمُبِينُ} الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الذي تقدم الأمر به، و لذلك جيء بالكلام في صورة الاستئناف.
و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيان و مثبتان فقوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عما أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متعنا به أزواجا قليلة أو أصنافا من الكفار.
و ربما أخذ بعضهم قوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أن الغرض على أي حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلق القلبي بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الذي يكنى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.
و قوله: {وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.
و قوله: {وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أن الطائر إذا أراد أن يضم إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثم
خفضه لها هذا.
و الذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيد بآيات أخر كقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}: آل عمران: ١٥٩ و قوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}: التوبة: ١٢٨ لكن الذي وقع في نظير الآية مما يمكن أن يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه و قصر الهم على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أن الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى: {وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا} (الآية): الكهف: ٢٨.
و قوله: {وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ} أي لا دعوى لي إلا أني نذير أنذركم بعذاب الله سبحانه مبين أبين لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شيء.
فهذه الأمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزءوا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنه نذير مبين هو الصفح الجميل الذي يليق بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لو أسقط منها واحد لاختل الأمر.
و من ذلك يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ} منسوخ بآية السيف غير وجيه فإن هذا الصفح الذي تأمر به الآية و يفسره قوله: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} باق على إحكامه و اعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.
قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ} قال في المجمع: عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضيت الشيء أي فرقته و بعضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضي، انتهى موضع الحاجة.
و قوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ} لا يخلو السياق من دلالة على أنه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله: {وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ} أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد: {اَلَّذِينَ
جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ} و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزءوا القرآن أجزاء فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأولين، و قالوا: مفترى، و تفرقوا في مداخل طرق مكة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله.
و قيل قوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا} متعلق بما تقدم من قوله: {وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي} أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الذين فرقوا القرآن أجزاء و أبعاضا و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.
و فيه أن السورة مكية نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهَارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ}: آل عمران: ٧٢ مما قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.
و ربما قيل: سموا مقتسمين لأنهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أن الآية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.
فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعضوه أبعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ} قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى.
و الآية تفريع على ما تقدم، و من حقها أن تتفرع لأنها الغرض في الحقيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و أمرت بالصفح الجميل و كنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق و أعلن الدعوة.
و بذلك يظهر أن قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ} في مقام التعليل لقوله: {فَاصْدَعْ} إلخ كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون
المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيرا بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} و أعلن الدعوة و أظهر الحق {وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِنَّا} أي لأننا {كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ} بإنزال العذاب عليهم و هم {اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
قوله تعالى: {وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} رجع ثانيا إلى حزنه (صلى الله عليه وآله و سلم) و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصة في السور المكية من ذلك لشدة الأمر عليه (صلى الله عليه وآله و سلم).
قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ} وصاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضا من قوله: {وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ} فإن ظاهره الأمر بالصبر على العبودية حتى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مر الحوادث: {اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ}: البقرة: ١٥٣.
و بذلك يتأيد أن المراد بالساجدين المصلون و أنه أمر بالصلاة و قد سميت سجودا تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظي منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد أو بهما و بالسجود المعنى اللغوي و هو تنزيهه تعالى عما يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلل له تذلل العبودية.
و أما قوله: {وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ} فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبودية كما هو ظاهر السياق، و خاصة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ} أمرا بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبودية.
و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الذي يتبدل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله: {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ} على قوله: {وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} فإنه بالحقيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأن لهم يوما ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مر ما يقولون حتى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.
و في التعبير بمثل قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ} إشعار أيضا بذلك فإن العناية فيه بأن اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربه حتى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الذي هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذي ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة.
و بذلك يظهر فساد ما ربما قيل: إن الآية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأن المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله أنه من الموقنين و أنه على بصيرة و أنه على بينة من ربه و أنه معصوم و أنه مهدي بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.
و سنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن علي بن أبي طالب: في قوله {فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ} قال: الرضا بغير عتاب.
و في المجمع حكي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): أن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.
و في العيون بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا (عليه السلام): في
الآية قال: العفو من غير عتاب.
و في التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهن.
أقول: و هو مروي من طرق الشيعة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و غير واحد من أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و من طرق أهل السنة عن علي و عدة من الصحابة كعمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود و ابن عباس و أبي بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.
و في الدر المنثور أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، قال: أ رأيت قول الله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ}؟ قال: اليهود و النصارى. قال: {اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.
أقول: و قد عرفت فيما مر أن مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية.
و في تفسير العياشي عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قوله: {اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ} قالا: هم قريش.
و في المعاني بإسناده عن عبد الله بن علي الحلبي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر حتى أمر الله عز و جل أن يصدع بما أمر فأظهر حينئذ الدعوة.
و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مستخفيا حتى نزل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو و أصحابه.
و في تفسير العياشي عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اكتتم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا: كذاب امض عنا.
و في تفسير العياشي عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال: كان المستهزءون خمسة
من قريش: الوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي و الحارث بن حنظلة۱ و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري و الأسود بن المطلب بن أسد فلما قال الله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ} علم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قد أخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات.
أقول: و رواه الصدوق في المعاني بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضا و الطبرسي في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام): ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن علي و عن ابن عباس مع سبب هلاكهم.
و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الذي اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه.
و في الدر المنثور أخرج ابن مردويه و الديلمي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ما أوحي إلي أن أكون تاجرا و لا أجمع المال متكاثرا و لكن أوحي إلي: أن {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ}.
أقول: و روي ما في معناه أيضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله و سلم).
و فيه أخرج البخاري و ابن جرير عن أم العلاء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دخل على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين إني لأرجو له الخير.
و في الكافي بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من صبر صبر قليلا و من جزع جزع قليلا.
ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك فإن الله عز و جل بعث محمدا و أمره بالصبر و الرفق فقال: {وَ اِصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ} و قال تبارك و تعالى: {اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله: {وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ}.
(بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف و دوامه)
قد تقدم في خلال أبحاث النبوة و كيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب أن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النمو قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدم أيضا أن الحرمان من بلوغ الغايات إنما هو في أفراد خاصة من الأنواع و أما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك.
و أن الإنسان و هو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها إلا بالاجتماع المدني كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الأنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.
و أن تحقق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنساني يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات أمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضرورية و يقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجودي، و هذه الأحكام و القوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التي تهتف بها خصوصية وجود الإنسان و خلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية و الروحية كما أن خصوصية وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيات العلل و الأسباب التي تكون وجود الإنسان من الكون العام.
و هذا معنى كون الدين فطريا أي أنه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العام فلو أقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و أبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العام في نظامه.
و أن هذه الأحكام و القوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع
و يجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنها جميعا يجب أن يتلقاها الإنسان من طريق نبوة إلهية و وحي سماوي لا غير.
و بهذه الأصول الماضية يتبين أن التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما و عملا: أما لو كان ناقصا فظاهر، و أما لو كان كاملا فلأن معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعاملية ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهية الهادية للإنسان إلى سعادته.
و من المعلوم أن تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهية تأباه. و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فإن الأفعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثارا لها تصدر عنها صدورا لا تخلف فيه.
و من هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم أن الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.
وجه الفساد: أن تخلف الإنسان عن التكليف الإلهي و إن كان كاملا، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهية بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضا إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أن الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.
(١٦) (سورة النحل مكية، و هي مائة و ثمان و عشرون آية) (١٢٨)
[سورة النحل (١٦): الآیات ١ الی ٢١]
{بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ} {أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ١ يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ ٢ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٣ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ٤ وَ اَلْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٥ وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ٦ وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلىَ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ٧ وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغَالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨ وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ٩ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ١٠يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنَابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ١١ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٢ وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً
أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ١٣ و َ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٤ وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥ وَ عَلاَمَاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ١٦ أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ١٧ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٨ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ ١٩ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ٢٠أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ٢١}
(بيان)
الغالب على الظن إذا تدبرنا السورة أن صدر السورة مما نزلت في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبيل الهجرة، و هي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماوية و الأرضية مما تقوم به حياة الإنسان و ينتفع به في معاشه نظاما متقنا و تدبيرا متصلا يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته.
و يحتج في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين و خيبة مساعيهم و أنه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الأمم الماضية و سيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.
و قد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله: {أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} مفرعا آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه و التسبيح و من ذلك يعلم أن عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهي و دنوه منهم و قرب
نزوله عليهم، و فيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيرا نزول أمره تعالى و ينذرهم به و فيه مثل قوله للمؤمنين: {فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ} و ليس إلا أمره تعالى بظهور الحق على الباطل و التوحيد على الشرك و الإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبر في صدر السورة.
و أما ذيلها و هي ثمان و ثمانون آية من قوله: {وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} إلى آخر السورة على ما بينها من الاتصال و الارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون مما نزلت في أوائل عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة بعيد الهجرة فصدر السورة و ذيلها متقاربا النزول و ذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ} (الآية)، و قوله: {وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (الآية) النازلة على قول في سلمان الفارسي و قد آمن بالمدينة، و قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} (الآية) النازلة في عمار كما سيأتي و كذا الآيات النازلة في اليهود و الآيات النازلة في الأحكام كل ذلك يفيد الظن بكون الآيات مدنية.
و مع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله: {وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا} (الآية): الآية - ٤١ و قوله: {وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (الآية): ١٠١ إلى تمام آيتين أو خمس آيات، و قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} (الآية): ١٠٦ و عدة آيات تتلوها.
و الإنصاف بعد ذلك كله أن قوله تعالى: {وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا} (الآية): ٤١ إلى تمام آيتين، و قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} (الآية): ١٠٦ و بضع آيات بعدها، و قوله: {وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} (الآية): ١٢٦ و آيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك، و الباقي أشبه بالمكية منها بالمدنية. و هذا و إن لم يوافق شيئا من المأثور لكن السياق يشهد به و هو أولى بالاتباع. و قد مر في تفسير آية ١١٨ من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل و هي مكية. و الغرض الذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أن فيها أمرا بالصبر و وعدا حسنا على الصبر في ذات الله.
و غرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله و هو ظهور الدين الحق عليهم و يوضح
تعالى ذلك ببيان أن الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أن الخلقة قائمة به و لانتهاء جميع النعم إليه، و انتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبد الله و لا يعبد غيره، و بيان أن الدين الحق لله فيجب أن يؤخذ به و لا يشرع دونه دين و رد ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوة و التشريع و بيان أمور من الدين الإلهي.
هذا هو الذي يرومه معظم آيات السورة و تنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة و في ضمنها آيات تتعرض لأمر الهجرة و ما يناسب ذلك مما يحوم حولها.
قوله تعالى: {أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين لأن الآيات التالية مسوقة احتجاجا عليهم، إلى قوله في الآية الثانية و العشرين: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} و وجه الكلام فيها إلى المشركين، و هي جميعا كالمتفرعة على قوله في ذيل هذه الآية: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} و مقتضاه أن يكون الأمر الذي أخبر بإتيانه أمرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته، و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة و أمر، الفتح و أمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَا ذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ} إلى قوله {وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: يونس: ٥٣ إلى غير ذلك من الآيات.
و على هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الذين آمنوا و أوعد المشركين مرة بعد مرة في كلامه أنه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذبهم و يظهر دينه بأمر من عنده كما قال: {فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ}: البقرة: ١٠٩. و إليه يعود أيضا ضمير {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقق و قربه من الظهور، و هذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء و قد دنا مجيئه و لم يجيء بعد.
و على هذا أيضا يكون قوله: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم و مشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم و لم يستعجلوا نزول الأمر إلا لشركهم استهزاء و سخرية.
و بما مر يندفع ما ذكره بعضهم أن الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين و المشركين جميعا فإن السياق لا يلائمه.
على أنه تعالى يخص في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين و ينفيه عنهم قال: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ}: الشورى: ١٨.
و كذا ما ذكروه أن المراد بالأمر هو يوم القيامة و ذلك أن المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى: {مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: يس: ٤٨ لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.
و من العجيب ما استدل به جمع منهم على أن المراد بالأمر يوم القيامة أنه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر: {فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم قال في مفتتح هذه السورة: {أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ} فأخبر بقرب يوم القيامة و كذا قوله في آخر الحجر: {وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ} و هو مفسر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة و مما يؤكد المناسبة قوله هناك: {يَأْتِيَكَ} و هاهنا: {أَتىَ}. و أمثال هذه الأقاويل الملفقة مما ينبغي أن يلتفت إليه.
و نظيره قول بعضهم: إن المراد بالأمر واحدة الأوامر و معناه الحكم كأنه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد و اليمين و محرمات الأكل و غيرها و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصة و هو كما ترى.
قوله تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إلى آخر الآية. الناس على اختلافهم الشديد قديما و حديثا في حقيقة الروح لا يختلفون في أنهم يفهمون منه معنى واحدا و هو ما به الحياة التي هي ملاك الشعور و الإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.
و أما حقيقته إجمالا فالذي يفيده مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا}: النبأ: ٣٨ و قوله: {تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ}: المعارج: ٤ و غيرهما أنه موجود مستقل ذو حياة و علم و قدرة و ليس من قبيل الصفات و الأحوال القائمة بالأشياء
كما ربما يتوهم، و قد أفاد بقوله: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أنه من سنخ أمره، و عرف أيضا أمره بمثل قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: يس: ٨٣ فدل على أنه كلمة الإيجاد التي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الذي يفيضه عليها لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادة و لا زمان و لا مكان كما يفيده قوله: {وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}: القمر: ٥٠فإن هذا التعبير إنما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادة و لا حركة له، و ليكن هذا الإجمال عندك حتى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.
فتحصل أن الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته، و لذلك سماه وحيا و عد إلقاءه و إنزاله على نبيه إيحاء في قوله: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}: الشورى: ٥٢ فإن الوحي هو الكلام الخفي و التفهيم بطريق الإشارة و الإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبي (عليه السلام) وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.
فقوله تعالى: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} الباء للمصاحبة أو للسببية و لا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فإن تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنما هو لإلقائه في روح النبي (عليه السلام) ليفيض عليه المعارف الإلهية و كذا تنزيلهم بسبب الروح لأن كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة و تحييهم كما تحكم في الإنسان و تحييه، و ضمير {يُنَزِّلُ} له تعالى و الجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة: {سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
و المعنى: أن الله منزه و متعال عن شركهم أو عن الشريك الذي يدعونه له و لتنزهه و تعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الذي هو من سنخ أمره و كلمته في الإيجاد أو بسببه على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون.
و ذكر بعضهم أن المراد بالروح الوحي أو القرآن و سمي روحا لأن به حياة القلوب، كما أن الروح الحقيقي به حياة الأبدان. قال: و قوله: {مِنْ أَمْرِهِ} أي
بأمره، و نظيره قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} أي بأمر الله لأن أحدا لا يحفظه عن أمره، انتهى.
أما قوله: إن {مِنْ} في قوله {مِنْ أَمْرِهِ} بمعنى الباء استنادا إلى قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ} أي بأمر الله إلخ فقد مر في تفسير سورة الرعد أن {مِنْ} على ظاهر معناه و أن بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ {مِنْ أَمْرِهِ} بمعنى «بأمره» بل قوله {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} معناه بالروح الكائن من أمره على أن الظرف مستقر لا لغو كما في قوله: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} و معناه ما تقدم.
و أما قوله: إن الروح بمعنى الوحي أو القرآن و كذا قول بعضهم: إنه بمعنى النبوة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أن نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوة، و أما في نفسه و هو أن يسمى الوحي أو النبوة روحا باشتراك لفظي أو مجازا من حيث إنه يحيي القلوب و يعمرها، كما أن الروح به حياة الأبدان و عمارتها فهو فاسد لما بيناه مرارا أن الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف و ما يراه في مصاديق الألفاظ.
و المتحصل من كلامه سبحانه أن الروح خلق من خلق الله و هو حقيقة واحدة ذات مراتب و درجات مختلفة منها ما في الحيوان و غير المؤمنين من الإنسان و منها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى: {وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: ٢٢ و منها ما يتأيد به الأنبياء و الرسل كما قال {وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ}: البقرة: ٨٧ و قال: {وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}: الشورى: ٥٢ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
هذا ما تفيده الآيات الكريمة و أما أن إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي حقيقة أو مجاز و ما أمعنوا في البحث أنه من الاستعارة المصرحة أو استعارة بالكناية أو أن قوله: {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على كون {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَمْرِهِ} بيانية كما صرحوا في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ} بقره - ١٨٧ أنه من التشبيه للتصريح بالمشبه
في متن الكلام فكل ذلك من الأبحاث الأدبية الفنية التي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقائق.
و ذكر بعضهم أن {مِنْ أَمْرِهِ} بيان للروح، و {مِنْ} للتبيين، و المراد بالروح الوحي، كما تقدم.
و فيه أنه مدفوع بقوله تعالى: {قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فإن من الواضح أن الآيتين تسلكان مسلكا واحدا، و ظاهر آية الإسراء أن {مِنْ} فيها للابتداء أو للنشوء، و المراد بيان أن الروح من سنخ الأمر و شأن من شئونه و يقرب منها قوله تعالى: {تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}: القدر: ٤.
و ذكر بعضهم أن المراد بالروح هو جبريل و أيده بقوله: {نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ}: الشعراء: ١٩٤ فإن من المسلم أن المراد به في الآية، هو جبريل و الباء للمصاحبة و المراد بالملائكة ملائكة الوحي و هم أعوان جبريل، و المراد بالأمر واحد الأوامر، و المعنى ينزل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره و إرادته.
و فيه أن هذه الآية نظيرة قوله تعالى: {يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاَقِ}: المؤمن: ١٥ و ظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.
و أردأ الوجوه ما ذكره بعضهم أن المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلا و معه واحد من الأرواح، و هو منقول عن مجاهد، و فساده ظاهر.
و قوله: {عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي إن بعث الرسل و تنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقف على مجرد المشية الإلهية من غير أن يقهره تعالى في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر أفعاله تعالى فإنه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
فلا ينافي ذلك كون فعله ملازما لحكم و مصالح و مختلفا باختلاف الاستعدادات لا يقع إلا عن استعداد في المحل و صلاحية للقبول فإن استعداد المستعد ليس إلا كسؤال السائل، فكما أن سؤال السائل إنما يقربه من جود المسئول و عطائه من غير أن يجبره على الإعطاء و يقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعد لإفاضته تعالى و حرمان غير المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير أن يوجبه عليه شيء أو يمنعه عنه شيء
لكنه لا يفعل شيئا و لا يفيض رحمة إلا عن استعداد فيما يفيض عليه و صلاحية منه.
و قد أفاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال: {وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}: الأنعام: ١٢٤ فإن الآية ظاهرة في أن الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة و أن الله سبحانه أعلم بالمورد الذي يصلح لها و يستأهل لتلك الكرامة و هو غير هؤلاء المجرمين الماكرين و أما هم فليس لهم عند الله إلا الصغار و العذاب لإجرامهم و مكرهم. هذا.
و من هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالآية على نفي المرجح في مورد الرسالة و محصل ما ذكره أن الآية تعلق الرسالة على مجرد المشية الإلهية من غير أن تقيدها بشيء، فالرسول إنما ينال الرسالة بمشية من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهله لذلك و يرجحه على غيره و وجه الفساد ظاهر مما تقدم.
و نظيره في الفساد الاستدلال بالآية على كون الرسالة عطائية غير كسبية، و ذلك أنه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل إلا ما يشاء، و الأمور العطائية و الكسبية في ذلك سواء، و لا شيء يقع في الوجود إلا بإذنه.
و قوله: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} بيان لقوله: {يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ} لكونه في معنى الوحي أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحي، و الإنذار هو إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير هو إخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو إعلام بالمحذور كما ذكره غيره، و التقدير على الأول أخبروهم مخوفين بوحدانيتي في الألوهية و وجوب تقواي، و على الثاني أعلموهم ذلك، على أن يكون {أَنَّهُ} مفعولا ثانيا لا منصوبا بنزع الخافض.
و قد علم بذلك أن قوله: {فَاتَّقُونِ} متفرع على قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} و الجملتان جميعا مفعول ثان أو في موضعه لقوله: {أَنْذِرُوا} و يوضح ذلك أن لا إله و هو الذي يبتدئ منه و ينتهي إليه كل شيء أو المعبود بالحق من لوازم صفة ألوهيته أن يتقيه الإنسان لتوقف كل خير و سعادة إليه، فلو فرض أنه واحد لا شريك له في ـ
ألوهيته كان لازمه أن يتقى وحده لأن التقوى و هو إصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد و النظر، فعبادة الآلهة الكثيرين و الخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد بإله واحد لا شريك له الذي هو القيوم على كل شيء و بيده زمام كل أمر و لذا لم يؤمر نبي أن يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد، قال تعالى: {وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}: الأنبياء: ٢٥.
فالذي أمر الرسل بالإنذار به في الآية هو مجموع قوله: {أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} و هو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقة في التوحيد و الأحكام العملية جميعا في التقوى، و لا يعبأ بما ذكره بعضهم أن قوله: {فَاتَّقُونِ} للمستعجلين من الكفار المذكورين في الآية الأولى أو لخصوص كفار قريش من غير أن يكون داخلا فيما أمر به الرسل من الإنذار.
قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ} تقدم معنى خلق السماوات و الأرض بالحق، و لازم خلقها بالحق أن لا يكون للباطل فيها أثر، و لذلك عقبه بتنزيهه عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله و يهدوهم إلى الخير و يقوهم الشر فإنهم من الباطل الذي لا أثر له.
و في الآية و الآيات التالية لها احتجاج على وحدانيته تعالى في الألوهية و الربوبية من جهتي الخلق و التدبير جميعا فإن الخلق و الإيجاد آية الألوهية و كون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لأن الشيء لا يكون نعمة بالنسبة إلى آخر إلا عن ارتباط بينهما و اتصال من أحدهما بالآخر يؤدي إلى نظام جامع بينهما و تدبير واحد يجمعهما، و وحدة التدبير آية وحدة المدبر فكون ما في السماوات و الأرض من مخلوق نعما للإنسان يدل على أن الله سبحانه وحده ربه و رب كل شيء.
قوله تعالى: {خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} المراد به الخلق الجاري في النوع الإنساني و هو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم و عيسى (عليه السلام).
و الخصيم صفة مشبهة من الخصومة و هي الجدال، و الآية و إن أمكن أن تحمل على الامتنان حيث إن من عظيم المن أن يبدل الله سبحانه بقدرته التامة قطرة من ماء مهين إنسانا كامل الخلقة منطيقا متكلما ينبئ عن كل ما جل و دق ببيانه البليغ لكن كثرة
الآيات التي توبخ الإنسان و تقرعه على وقاحته في خصامه في ربه كقوله تعالى: {أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ}: يس: ٧٨ ترجح أن يكون المراد بذيل الآية بيان وقاحة الإنسان.
و يؤيد ذلك أيضا بعض التأييد ما في ذيل الآية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم.
قوله تعالى: {وَ اَلْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} الأنعام جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلاف الحافر الذي يصلب كذا في المجمع، و في المفردات: الدفء خلاف البرد. انتهى. و كأن المراد بالدفء ما يحصل من جلودها و أصوافها و أوبارها من الحرارة للاتقاء من البرد، أو المراد بالدفء ما يدفأ به.
و المراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدفء من أصوافها و أوبارها و جلودها و ألبانها و شحومها و غير ذلك، و قوله: {لَكُمْ} يمكن أن يكون متعلقا بقوله: {خَلَقَهَا} و يكون قوله: {فِيهَا دِفْءٌ وَ مَنَافِعُ} حالا من ضمير {خَلَقَهَا} و يمكن أن يكون {لَكُمْ} ظرفا مستقرا متعلقا بالجملة الثانية أي في الأنعام دفء كائنا لكم.
قوله تعالى: {وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ} الجمال الزينة و حسن المنظر، قال في المجمع: الإراحة رد الماشية بالعشي من مراعيها إلى منازلها و المكان الذي تراح فيه مراح، و السروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة، يقال: سرحت الماشية سرحا و سروحا و سرحها أهلها. انتهى.
يقول تعالى: و لكم في الأنعام منظر حسن حين تردونها بالعشي إلى منازلها و حين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها.
قوله تعالى: {وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلىَ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} الأثقال جمع ثقل و هو المتاع الذي يثقل حمله و المراد بقوله: {بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ} مشقة تتحملها الأنفس في قطع المسافات البعيدة و المسالك الصعبة.
و المراد أن الأنعام كالإبل و بعض البقر تحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر
لكم بلوغها إلا بمشقة تتحملها أنفسكم فرفع عنكم المشاق بخلقها و تسخيرها لكم إن ربكم رءوف رحيم.
قوله تعالى: {وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغَالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} معطوف على الأنعام فيما مر أي و الخيل و البغال و الحمير خلقها لكم لتركبوها، و زينة أي إن في خلقها ارتباطا بمنافعكم و ذلك أنكم تركبونها و تتخذونها زينة و جمالا، و قوله: {وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان و غيره، و سخرها لكم لتنتفعوا بها، و الدليل على ما قدرناه هو السياق.
قوله تعالى: {وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} القصد على ما ذكره الراغب و غيره استقامة الطريق و هو كونه قيما على سالكيه أوصلهم إلى الغاية، و الظاهر أن المصدر بمعنى الفاعل و الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها و المراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله: «و منها جائر» أي و من السبيل ما هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها و يضلهم عنها.
و المراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة و الفلاح و إذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الذي أوجب على نفسه أن يجعل لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه أما الجعل فهو ما جهز الله كل موجود و منها الإنسان من القوى و الأدوات بما لو استعملها كما نظمت أدته إلى سعادته و كماله المطلوب قال تعالى: {اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ}: طه: ٥٠و قال في الإنسان خاصة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ}: الروم: ٣٠.
و أما الهداية فهي التي فعلها من ناحية الفطرة و تناهي بما من طريق بعث الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع قال تعالى: {وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا}: الشمس: ٨ و قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً}: الدهر: ٣.
و إنما أدرج سبحانه هذه الآية بين هذه الآيات التي سياقها عد النعم العلوية و السفلية من السماء و الأرض و الأنعام و الخيل و البغال و الحمير و الماء النازل من السماء و الزرع و نظائرها لما أن الكلام انجر في آيتي الأنعام و الخيل إلى معنى قطع الطرق ـ
و ركوب المراكب فناسب أن يذكر ما أنعم به من الطريق المعنوي الموصل للإنسان إلى غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما أنعم بمثله في عالم المادة و نشأة الصورة.
فذكر سبحانه أن من نعمه التي من بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم و هداهم إليه.
و قد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لأن سبيل الضلال ليس سبيلا مجعولا له و في عرض سبيل الهدى و إنما هو الخروج عن السبيل و عدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة و إنما هو عدم السبيل.
و كيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى و ترك نسبة السبيل الجائر المؤدي بسبب المقابلة إلى نفي نسبته إليه تعالى.
و إذ كان من الممكن أن يتوهم أن لازم جعله قصد السبيل أن يكون مكفورا في نعمته مغلوبا في تدبيره و ربوبيته حيث جعل السبيل و لم يسلكه الأكثرون و هدى إليه و لم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: {وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين و ظهورهم عليه بل لأنه تعالى لم يشأ ذلك و لو شاء لم يسعهم إلا أن يهتدوا جميعا فهو القاهر الغالب على كل حال.
و بعبارة أخرى السبيل القاصد الذي جعله الله تعالى هو السبيل المبني على اختيار الإنسان يقطعه بإتيان الأعمال الصالحة و اجتناب المعاصي عن اختيار منه، و ما هذا شأنه لم يكن مما يجبر عليه و لا عاما للجميع فإن الطبائع متنوعة و التراكيب مختلفة و لا محالة تتنوع آثارها، و يختلف الأفراد بالإيمان و الكفر و التقوى و الفجور و الطاعة و المعصية.
و الآية مما تشاجرت فيها الأشاعرة و المعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت المعتزلة بأن تغيير الأسلوب بجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز إضافته إليه تعالى و ما لا يجوز كما ذكره في الكشاف.
و تكلفت الأشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بأن السبيلين جميعا منه تعالى و إنما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا، و من مجيب بأن المراد بقوله: {وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ
اَلسَّبِيلِ} أن عليه تعالى بيان السبيل الحق فضلا و كرما منه دون بيان السبيل الجائر و أما أصل الجعل فهما جميعا مجعولان له تعالى، و من منكر أن يكون تغيير الأسلوب في الآية لأمر مطلوب.
و الحق أن دلالة الآية على كون قصد السبيل مضافا إليه تعالى دون السبيل الجائر مما لا ريب فيه لكن ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقا لغيره تعالى لما تقدم أن سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما أن الضلال عدم الهدى فليس بأمر موجود حتى ينسب خلقه و إيجاده إليه تعالى و إنما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضال أي عدم إيجاده الهدى في نفسه.
و مع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}: فاطر: ٨ و قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً}: البقرة: ٢٦ هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائي، كما يفسره قوله: {وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ}: البقرة: ٢٦ فإذا فسق الإنسان و خرج بسوء اختياره عن زي العبودية بأن عصى و لم يرجع و هو ضلاله الابتدائي من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن أثبته على حاله و لم يقض عليه الهدى.
و أما الضلال الابتدائي من الإنسان فإنما هو انكفاف و قصور عن الطاعة و قد هداه الله من طريق الفطرة و دعوة النبوة.
قوله تعالى: {هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} شروع في نوع آخر من النعم و هي النعم النباتية التي يقتات بها الإنسان و غيره و ما سخر له لتدبير أمرها كالليل و النهار و الشمس و القمر و ما يحذو حذوها، و لذلك غير السياق فقال: {هُوَ اَلَّذِي} إلخ، و لم يقل: و أنزل من السماء.
و قوله: {تُسِيمُونَ} من الإسامة و هي رعي المواشي و منه السائمة للماشية الراعية و {مِنَ} الأولى تبعيضية و الثانية نشوئية و الشجر من النبات ما له ساق و ورق و ربما توسع فأطلق على ذي الساق و غيره جميعا، و منه الشجر المذكور في الآية لمكان قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} و الباقي واضح.
قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنَابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ} إلخ، الزيتون شجر معروف و يطلق على ثمره أيضا يقال: إنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة، و كذا النخيل، و يطلق على الواحد و الجمع، و الأعناب جمع عنبة و هي ثمرة شجرة الكرم و يطلق على نفس الشجرة كما في الآية، و السياق يفيد أن قوله: {وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ} تقديره و من كل الثمرات أنبت أشجارها. و لعل التصريح بأسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها و عطف الباقي عليها لكونها مما يقتات بها غالبا.
و لما كان في هذا التدبير العام الوسيع الذي يجمع شمل الإنسان و الحيوان في الارتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
قوله تعالى: {وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ} إلى آخر الآية قد تكرر الكلام في معنى تسخير الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم، و لكون كل من المذكورات و كذا مجموع الليل و النهار و مجموع الشمس و القمر و النجوم ذا خواص و آثار في نفسه من شأنه أن يستقل بإثبات وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فجمع الآيات في هذه الآية بخلاف الآيتين السابقة و اللاحقة.
قوله تعالى: {وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} الذرء الخلق، و اختلاف ألوان ما ذرأه في الأرض غير ما مر كما يختلف ألوان المعادن و سائر المركبات العنصرية التي ينتفع بها الإنسان في معاشه و لا يبعد أن يكون اختلاف الألوان كناية عن الاختلاف النوعي بينها فتقرب الآية مضمونا من قوله تعالى: {وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقىَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلىَ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ}: الرعد: ٤ و قد تقدم تقريب الاستدلال به.
و اختلاف الألوان فيما ذرأ في الأرض كإنبات الشجر و الثمر أمر واحد يستدل به على وحدانيته في الربوبية و لذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} و لم يقل: لآيات.
و هذه حجج ثلاث نسب الأولى إلى الذين يتفكرون، و الثانية إلى الذين
يعقلون، و الثالثة إلى الذين يتذكرون، و ذلك أن الحجة الأولى مؤلفة من مقدمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكر، و الثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها إلا لمن غار في أوضاع الأجرام العلوية و السفلية و عقل آثار حركاتها و انتقالاتها، و الثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية إنما ينالها الإنسان بتذكر ما للوجود من الأحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة و كون المادة العامة واحدة متشابهة الأمر، و وجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى أمر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة.
قوله تعالى: {وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إلخ و هذا فصل آخر من النعم الإلهية و هو نعم البحر و الجبال و الأنهار و السبل و العلامات و كان ما تقدمه من الفصل مشتملا على نعم البر و السهل من الأشجار و الأثمار و نحوها، و لذلك قال: {وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ} و لم يقل: و سخر إلخ.
و الطري فعيل من الطراوة و هو الغض الجديد من الشيء على ما ذكره في المفردات، و المخر شق الماء عن يمين و شمال، يقال: مخرت السفينة تمخر مخرا فهي ماخرة و مخر الأرض أيضا شقها للزراعة. على ما في المجمع و المراد بأكل اللحم الطري من البحر هو أكل لحوم الحيتان المصطادة منه، و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من أمثال اللؤلؤ و المرجان التي تتحلى و تتزين بها النساء.
و قوله: {وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} أي تشاهد السفائن تشق ماءه عن اليمين و الشمال، و لعل قوله: {وَ تَرَى} من الخطابات العامة التي لا يقصد بها مخاطب خاص و كثيرا ما يستعمل كذلك و معناه يراه كل راء و يشاهده كل من له أن يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.
و قوله: {وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي و لتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر و إرسال السفائن فيه و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير و ترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا و كذا و لتبتغوا من فضله، و هو كثير النظير في كلامه تعالى.
و قوله: {وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي و من الغايات في تسخير البحر و إجراء الفلك
فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد أغناكم بما أنعم عليكم في البر عن أن تتصرفوا في البحر بالغوص و إجراء السفن و غير ذلك لكنه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا الزائد فإن الإنسان قليلا ما يتنبه في الضروريات أنها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه و لو شاء لقطعها و أما الزوائد النافعة فهي أقرب من هذا التنبه و الانتقال.
قوله تعالى: {وَ أَلْقىَ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} قال في المجمع: الميد الميل يمينا و شمالا و هو الاضطراب ماد يميد ميدا. انتهى.
و قوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي كراهة أن تميد بكم أو أن لا تميد بكم و المراد أنه طرح على الأرض جبالا ثوابت لئلا تضطرب و تميل يمينا و شمالا فيختل بذلك نظام معاشكم.