المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم التاريخ و الاجتماع
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- مقدّمة؛
- أولًا: مع القرآن؛
- ثانيًا: البشرى النبويّة لنساء المشرق والمغرب؛
- ثالثًا: ما يجوز للمرأة من الأعمال وضوابطه، وما يحرم عليها؛
- حرمة المشاركة في التظاهرات إلا في موارد خاصّة؛
- مناقشة الاستدلال بخطب السيدة فاطمة وابنتها عليهما السلام على الجواز؛
- رابعًا: صور من آثار التجربة الغربية على المرأة؛
- خامسًا: ملحق في أقوال بعض الباحثين وعلماء النفس.
هو العليم
أدوار المرأة على ضوء الكتاب والسنّة
بحث منتخب من آثار الأعاظم
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
مقدّمة
[تحدّث القرآن الكريم عن دور المرأة في آيتين: {الرجال قوّامون على النساء...}۱ {ولهن مثل الذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة}٢، كما بيّنت ذلك السنّة الشريفة. وقد انكشفت بذلك حقيقة تكوينيّة يقرّ بها وجدان كلّ إنسان، وتثبتها ملاحظات علماء النفس، إلا أنّ إهمال التجربة الغربيّة لها أودت بالإنسان ـ وباعتراف أصحابها ـ إلى كارثة، لم ينج منها أتباع تلك التجربة ومقلّدوها على غير هدى في مختلف بقاع الأرض...
فما أحوجنا إلى التدبّر في آيات الله عزّ وجلّ، والإصغاء إلى ما بشّر به رسوله صلوات عليه وآله، ولنسر في الأرض فننظر كيف كان عاقبة المكذّبين:]
أولًا: مع القرآن
آية الرجال قوامون على النساء
...بحول الله وقوَّته نورد نِكاتاً من البَحث فى الآية المباركة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النِّساءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ ، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} (الآية).
النُّكتةُ الأولى: قَوَّامُونَ صيغةٌ مبالغة فى القيام بالأمر، وهو أدلُّ فى المبالغة من القَيِّم والقَيَّام، والمراد منه القائِم بالأمر على المَقُوم عليه، والمُسَيْطِر والمُسَلَّط والنَّافذ الحكم فى حقِّه، مثل قيام الوالى على الرَّعيَّة، والأمير على المأمور فى الحفظ والإدارة والتَّدبير والذَّبِّ عنه فى طاريءٍ يَشينه ويُوهِنه.
فالقوَّام هو المُسَيْطِر، والمَقُوم عليه هو الَّذى يكون تحت سَيطرة القوَّام، كأنَّ حياتَه قائِمةٌ به ووجودَه محتاجٌ إليه.
و قد صرَّح بعضُ علماءِ علم النَّفسِ بأنَّ الرَّجل يَجد فى أوان بلوغه حسَّ قيمومته على امرأة يقوم بأمرها ويحفظها؛ والمرأة تَجد فى نفسها أوان بلوغها أنَّها تحتاج إلى رجلٍ تَتَّكىءُ عليه، وأصل تَعتمد إليه، ووَليجةٍ تكون لها كَهفاً ومَلاذاً.٣
النُّكتةُ الثَّانية: الألف واللَّام فى الرِّجال والنِّساءِ للعهد الذِّهنيّ؛ ولمكان دخولها على صيغة الجمع تفيد تعريف استغراق أفراد الجنس فى الخارج، فتعطي أنَّ الحكم واردٌ على كلِّ واحدٍ واحد من الأفراد من حيث تحقُّق معنى الجنس فيها؛ فيُفهَم منه أنَّ حكم القيام إنَّما هو لكلِّ واحدٍ من الرِّجال بالنِّسبة إلى كلِّ واحدٍ من النِّساءِ، ولكن لا بالمشخِّصاتِ الفرديَّة الموجودة فيهما من الأعراض والصِّفات، بل لمكان تحُّقق معنى الجنسيَّة فيهما.
النُّكتة الثَّالثة: الإتيان بالجملة الاسميَّة فى المقام يدلُّ على الدَّوام والاستمرار مضافاً إلى أنَّ الـ "قوَّامُون" من المشتقَّات، وهى تدلُّ على الثُّبوت والدَّوام، بخلاف الفعل وهو يدلُّ على معنى الحدث دون ثبوته؛ صَرَّحَ بذلك علماءُ الأدب.
فإذن هذه الآية تدلّ بأبلغ وجه على أنَّ الرِّجال قائِمُونَ على النِّساءِ بأقوى قيامٍ دائِميّ استمراريّ. والجملة وإن كانت إخباراً إلّا أنَّها وَقَعَت موقعَ الإنشاءِ، فأفادت معنى الأمر بوجهٍ بليغٍ.
النكتة الرَّابعة: تعليله عزَّ وجلَّ بقوله: {بمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} يدلُّ على أنَّ القيام إنَّما هو لعلَّة خارجيَّة واقعيَّة، لا أنَّه منوط بالاعتبار فقطّ.
و التَّفضيل الموهبيّ الإلهيّ هو ما يزيد فى الرِّجال بحسب الطَّبع على النِّساءِ، وذلك بزيادة قوَّة التَّعقُّل فيهم، وما يتفرَّع عليه من شرح الصَّدر وسعة التَّحمُّل فى الواردات النَّفسانيَّة، والخواطر القارعة، وشدَّة البأس والقوَّة والطَّاقة على الشَّدائِد من الأعمال والمصائِب.۱
و عموم هذه العلَّة يعطي أنَّ الحكم المبنى عليها أعنى قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} غير مقصور على الأزواج بأن يختصَّ القوَّاميَّة بالرَّجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرِّجال على قبيل النِّساءِ فى الجهات العامَّة الَّتى ترتبط بها حياة القبيلتين جميعاً.
فالجهات العامَّة الاجتماعيَّة الَّتى تناط بشدَّة قوَّة التَّعقُّل وشدَّة البأس، هى الَّتى ترتبط بفضل الرِّجال، كالدِّفاع الحَربيّ، والجِهاد، والحكومة، والقَضاءِ.
فعلى هذا، التَّفضيلُ {بما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يُعطي مناطاً عامّاً ومِلاكاً شاملًا ينطبقان على مورد الجِهاد والحُكومة والقَضاءِ على وضوحٍ؛ بل هذه الموارد الثَّلاثة من أوضح مصاديق لزوم قيمومتهم عليهنَّ، ولا ينافى قولُه بعدُ: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} الخ الظَّاهر فى الاختصاص بما بين الرَّجل وزوجته؛ فهو فرع من فروع هذا الحكم المُطلق وجزئِيّ من جزئِيَّاته ونتيجةٌ من هذا الأصل الكلِّيّ، من غير أن يَتَقَيَّدَ به إطلاقُه.
فالتَّمسُّك بهذه الآية المباركة هو الحَجَر الأساسيّ في الاستدلال على منع النِّساءِ عن هذه الثَّلاثة، وإن كانت هذه المسألة من مُسلَّمات الإسلام، وأجمع عليها الطائفتانِ من الخاصَّة والعامَّة؛ لكنّ الظَّاهر أنَّ معتمدَ المجمعين نصُّ الكتاب.
النُّكتة الخامسة: أنَّ التَّعليل {بما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} يكون بمعنى{فَضَّلَهُمُ اللهُ عَلَيْهِنَّ}؛ فضمير الجمع المضاف إليه في {بمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ} لكلتا الطائِفتين تغليباً؛ وإنَّما عدل عنه إلى هذا التَّعبير لا لظهور المعنى فقطُّ كما في "روح المعاني"، بل لإفادة الإشتراك في الجنس وأنَّ الرِّجَالَ والنِّساءَ جنسٌ واحدٌ والتَّفضيل إنَّما وقع في أفراد هذا الجنس لا في الأجناس المتغايرة، حمايةً لجانب المرأة حتّى لا تَتخيَّل أنَّها بسبب تفضيل الرَّجل عليها صارَت من جنسٍ آخر دون جنسِ الرَّجل.
و هذا من أدَب القرآن كي لا يقصّر في شأن المرأة بشيءٍ. كما في قوله تعالى: {المُنافِقُونَ والمُنافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}۱.
و أصرح منه قوله تعالى في سورة آل عمران بعدَ أن ذكر خمسَ آياتٍ في أحوال أوليِ الألباب بأنَّهم الَّذينَ يَذكُرون اللهَ قِيَامًا وقُعُودًا، وأنْهاه إلى قوله حكاية دعائِهم بتَوَفّيهم اللهُ مَعَ الأبْرارِ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا اضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ انْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}٢ ؛ للدِّلالة على أنَّ إعطاء أجرِ العامل يَتَرتَّب على العمل بلا فرق في المقام بين أن يكون العامل ذَكراً أو أنثى؛ فهما من جنسٍ واحدٍ لم يُلاحَظ فيه خصوصيّةُ الذُّكورة والأنوثة.
و في المقام دلَّت الآية على أنَّ القيام بالأمر للرَّجل لمكان لياقته بهذا المقام، لا يُخرجه من جنس المرأة إلى جنس أعلى من جنسها بل كان الطَّائِفتانِ من جنسٍ واحدٍ.
و أمّا ما قيل: إنَّ هذا التَّعبير للإبهام، للإشارة إلى أنَّ بعض النِّساءِ أفضل من كثيرٍ من الرِّجال فليس بشيءٍ.
هذا كلُّه مضافاً إلى أنَّ اللهَ تعالى عبَّر في الآية السَّابقة عند النَّهي عن تَمَنِّي ما فَضَّلَ اللهُ به الرِّجال على النِّساءِ في بعض الأمور كالإرث، بقوله: {وَ لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ واسْألُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}٣.
فجعل بَعْضَكُمْ مكان الرِّجال والبَعْضَ مكان النِّساءِ؛ والأمر فيما نحن فيه كذلك.
و استواؤهما في مقام الجنس والهويَّة لا يُنافي أفضليَّة بعضهنَّ على كثيرٍ منهم في مقام التَّربية والفعليَّة.
النُّكتة السَّادسة: إنَّ تفريع قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}، ومقابلته لقوله: {وَ اللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}، يفيدان أنَّ المرأة الصَّالحة، وهي التي تُرتَّب أمرَها على الحقِّ والعَدل، وتَتَّبع نظامَ الفطرة والشَّرع، هي التي كانَت مطيعةً لزوجها، وتستمرُّ إطاعتُها له في حضوره، وتحفظه في نفسِها وماله عند غيبته.
و أمّا المرأة التي تخرج عن الطَّاعة، وتَنْشُزُ عن تأدية حقوق زَوْجها، هي التي تَخرج عن مجرى حياتها الفطريَّة، فتحتاج بأن يُحْكَمَ عليها بالتَّأديب حتَّى تَعْتَدلَ وتَستقيمَ.
النُّكتة السَّابعة: أجمع الفُقهاءُ على أنَّه يُقتصُّ للمرأة من الرَّجل في الطَّرفِ من غير ردٍّ حتَّى تبلُغ ديةُ الطَّرف ثلثَ دية الحرِّ فصاعداً، فحينئذٍ يُقتصر على النِّصف؛ وهكذا الأمر في الجراح يتساويان فيها دِيةً وقصاصاً ما لم تبلغ إلى ثلثِ الدِّيَة؛ فإذا بَلَغَتْهُ رُدَّتْ ديةُ المرأة إلى النِّصف؛ ومستند هذا التَّفصيل أخبار كثيرة.
و لا فرق في هذا التَّفصيل بين الزَّوج وزوجتهِ وبينَ غيرهما من أفراد الرِّجال والنِّساءِ؛ فإذا ضرب رجلٌ امرأتَه فَلَها القصاص؛ إلَّا في مقامٍ نَشَزَتِ الزَّوجة عن تأدية حقوقه...
النُّكتة الثَّامنة: إنَّ الرَّجال لمّا كانوا قوَّامين على النساء بجهات من التَّفضيل فلا بدَّ من أن يُراعُوا جانِبَهنَّ؛ فلا يُؤذُوهنَّ ولا يشتموهنَّ ولا يضربوهنَّ، وأن يُلاحظوا فيهنَّ ما يُلاحِظ الرَّاعي في رعيَّته في المراقبة؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
قال في «الميزان» «و من أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على أسس ما بني عليه التَّشريع ما في «نهج البلاغة»، ورواه أيضاً في «الكافي» بإسناده عن عبدالله بن كثير، عن الصّادق عليهالسّلام، عن عليّ عليه أفضل السَّلام، وبإسناده أيضاً عن الأصبغ بن نباتة، عنه عليه السّلام في رسالته إلى ابنه: "إنَّ الْمَرأةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ". وما روي في ذلك عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: "إنَّمَا الْمَرأةُ لُعْبَةٌ۱ مَنِ اتَّخَذَهَا فَلا يُضَيِّعْهَا". وقد كان يتعجَّب رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم كَيْفَ تُعَانَقُ الْمَرأةُ بِيدٍ ضُرِبَتْ بِهَا؛ ففي «الكافي» أيضاً بإسناده عن أبي مريم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم: أيَضْرِبُ أحَدَكُمُ الْمَرْأةَ ثُمَّ يَظِلُّ مُعَانِقَهَا؟" وأمثال هذه البيانات كثيرةٌ في الأحاديث؛ ومن التَّأمُّل فيها يظهر رأي الإسلام فيها»٢. هذا كلُّه ما وفَّقنا اللهُ له من البحث عن الآية الأولى في المقام.٣
آية "ولَهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة..."
أمّا الآية الثانية: فقول الله جلَّ وعزَّ: {وَ لَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ واللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
المعروف هو الذي يعرفه الناسُ، ويقبله العرف من جهة الحضارة الاجتماعيّة المتداولة بينهم؛ ويقابله المنكر، وهو الذي يُنكره العرف ولا يقبله في الحياةِ الاجتماعيَّةِ. فالمعروف لابدَّ وأن يَحوي أمراً أمضاه العقل، وحكم به الشَّرع من سُنَّة الآدابِ وفضائِلِ الأخلاق.
و لمَّا كان الإسلام أسَّسَ شريعَتَه على بِناء الفطرة الواقعيَّة والخِلقةِ الأصليَّةِ، يكون المعروف عنده ما يعرفه النَّاس إذا سَلكوا مَسلكَ الفِطرة، ولم يتعدّوا عن منهاجها القويم وصراطها المستقيم.
و من الأحكام المبنيَّة على هذا الأساس، تساوي الأفراد في الحكم الوارد عليهم؛ فيكون ما عليهم مثل ما لهم.
و لا يخفى أنَّ هذا التَّساوي على الطَّريق الأحسن لا يتحقَّق إلَّا مع حفظ ما لكلٍّ من الأفراد في المجتمع من الخصوصيَّات المعطاةِ من الفطرة والآثار اللَّازمة للخِلقة في شؤون الحياة دون الاعتبارات المَوهُومة والملاحظات المجعولة على أساس الوَهم في المدينة الدنيئة الخَسيسَة.
فلابدَّ في المدينة الفاضلة من مراعاة حال الضَّعيف والقويّ، والجاهل والعالم، والمحتاج والغنيّ، وملاحظة كلِّ فطرةٍ في بنائِها الأوَّليّ؛ فتُعطى لها الموادّ الحياتيَّة على ميزان الافتقار ومرتبة الاحتياج.
و هذه هي التَّسوية الصَّحيحة الواقعيَّة، وعلى هذا جرى الإسلام في الأحكام التي جعلها للمرأة وعليها؛ فجعل لها مثلَ ما عليها، مع حفظ وزنها في الحياة الفطريَّة التي أعطاها اللهُ تبارك وتعالى مع الرَّجل في دائِرة الاجتماع، للتَّناكح والتَّناسل.
الإسلام يرى أنَّ للرِّجال عليهنَّ درجةً في هذه المواهب الاجتماعيَّة؛ فقوله تعالى: {وَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قَيدٌ مُتمِّم للحكم السَّابق؛ فالكلُّ يفيد معنًى واحداً، وهو أنَّ النِّساءَ قد سَوَّت الفطرة بينهنَّ وبين الرِّجال من الأحكام مع حفظ ما للرِّجال عليهنَّ [من] درجة في هذه المواهب الاجتماعيَّة.
فبهذا المعيار سوَّى اللهُ بينَهما وضَرَبَ لهما الأحكام، فَجَعَلَ لهنَّ مثلَ ما عليهنَّ.
وعلى هذا البناءِ المَتين سَوَّى الإسلام بين الرَّجل والمرأة من حيث تدبير شؤون الحياة في الإرادة والعمل؛ فكما أن الرَّجل مُستقلُّ الإرادة فيما يحتاج إليه البُنيةُ الإنسانيَّة في الأكل والشُّرب وغيرهما من لوازم الحياة، فكذلك المرأة فلها أن تستقلَّ بالإرادة والعمل وتتملَّك نتيجةَ مصنوعاتها؛ إلَّا أنَّه قَرَّر الإسلام فيها خصوصيَّتين مَيَّزَتها بهما الخلقةُ الإلهيَّة:
إحديهما: أنَّها بمنزلة الحَرث في تكوُّن النَّوع ونمائِه، فعليها يكون اعتماد النَّوع في بقائِه؛ فتختصُّ من الأحكام بما يختصُّ به الحَرث، وتمتاز بذلك عن الرَّجل؛ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأَتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ}۱.
و الثَّانية: أنَّ خِلقَتها مبنيَّةٌ على رِقَّة الإحساس ودقَّة العاطفة ولطافة البُنْيَة. وهذا الخصوصيَّات لها مدخليَّة تامَّةٌ في أحوالها بالنِّسبة إلى الوظائِف الاجتماعيَّة التي تكون على عُهدتها، وعليها القيام بأدائِها في المجتمعالصَّالح.
و بهذه الفلسفة المُتَّخذة من الفطرة تنحلُّ٢ جميعُ الأحكام المشتركة بينهما والأحكام التي يختصُّ بها أحدُهما في الإسلام. وقد تقدّم قولُه تعالى:
{وَ لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ واسْألُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}٣ يُريدُ اللهَ تعالى بهذا البيان أنَّ الأعمال التي حَوَّلَت إليهما الفِطرة هي الملاك الوحيد فيما يختصُّ به الرَّجل من الفضل؛ فالرِّجال قوَّامون على النِّساءِ بهذا المعيار الرَّصين.
معنى المساواة بين الرَّجل والمرأة في الحقوق
فالمرأة تشترك مع الرَّجل في جميع الحقوق الاجتماعيَّة والأحكام العباديَّة، فلها الاستقلال في التكسُّب والتملُّك والتعليم والتعلُّم وجلب منافعها ودفع مضارِّها، إلَّا ما كان خارجاً عن عهدتها بملاحظة هاتين الخصوصيَّتين اللَّتين أعطتهما الفطرةُ لبقاءِ النَّوع، وهما كونها حرثاً وفيها رقَّةٌ ولطافة؛ وبهما خرجت عن مرتبة الرَّجل في كونه فاعلًا وذا بأس وحياةٍ تعقُّليَّةٍ.
فلم تتمكَّن المرأة من الأعمال الصَّعبة المحتاجة إلى خشونةٍ حادَّةٍ وتَحمُّلٍ شديدٍ؛ وعمدتها القتال والقضاءُ والحكومة.
بخلاف الرَّجل الذي جُعل في فطرته هذا البأس وهذا التعقُّل، وهو الرّجل؛ فللرَّجل عليها درجةٌ، وهذه الدَّرجة هي درجة التعقُّل والبُنْيَة، وهي بسطةٌ في العلم والجسم، فللرِّجال عليهنَّ درجةٌ.
كما فضَّل اللهُ على معيارٍ كُلّيّ كلًّا من المجاهدين على القاعدين درجةً بقوله عزَّ وجلَّ: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} ٤.
فَفَضَّل اللهُ الرِّجال على النِّساءِ درجةً مع أنَّ ما لَهُنَّ مِثْلُ مَا عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
و هذا يوجب منعهنَّ عن القِتال والقضاءِ والحكومة بتّاً، وعن كثير من الأحكام تنزيهاً.٥
و قد ورد في «تفسير عليّ بن إبراهيم القمِّيِّ» في قوله تعالى: {وَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال: قال عليهالسلام: "حَقُّ الرِّجَالَ على النِّسَاءِ أفْضَلُ مِنْ حَقِّ النِّسَاءِ على الرِّجَالِ" وهذا لا ينافي التَّساوي في الحُقوق كما بيَّنَّا.
تنبيهان:
الأول: إغفال الحضارة الغربية لدور الأسرة في الإنجاب
الأوَّل: إنَّ الإسلام عند تقنينه جَعلَ أحكام الزَّوجيَّة على أساس خِلقة الفُحولة والإناث، لأنَّ التَّجاذُب الجنسيّ الواقع فيهما ممَّا لا يُردُّ؛ والطَّبيعة جَهَّزَت كلًّا منهما بتجهيزات خاصَّة لتوليد المثل؛ ولم تكن هباءً ولا باطلًا.
و هذا التَّجهيز لا غاية له إلّا بتوليد المثل لبقاءِ النَّوع. فَعَمَلُ النِّكاح مبنيّ على هذه الواقعيَّة؛ ولهذا رتَّب الأحكام على العِفَّةِ والحجابِ واختصاص الزَّوجة بالزَّوج وجَعلِ العِدَّة ونحو ذلك لإحكام هذا الأساس.
ولكنَّ القوانين الحاضرة ـ الغربيَّة منها والشَّرقيَّة ـ قد وَضَعَت أساس النِّكاح على تشريك الزَّوجين في الحياة المَنزليَّة، وهي نوعُ اشتراك في العيش أضيقُ دائِرةً من الاجتماع البلديّ۱ بدون لحاظ أصل التَّوليد وحفظِ الأولاد؛ ولذلك لم تكن القوانين الحاضرة مُتعرِّضة لشيءٍ ممّا تعرَّض له الإسلام من العفَّة والحِجاب والنَّفقة وغيرها.
الثاني: المساواة هي الإعطاء حسب الحاجة لا الإعطاء بالتساوي
الثّاني: زعم كثيرٌ من أبناءِ الزَّمان من الَّذين اكتفوا بظاهرٍ من القول، ولا خبرة لهم بالعلم، أنَّ معنى التَّسوية في حقوق الرَّجل والمرأة هو إعطاءُ كُلٍّ منهما من الأحكام والوظائِف والثَّمرات بعين ما يُعطى للآخر؛ وهذا شَطَطٌ من الكلام.
لأنَّهم لم يَدروا أنَّ معنى التَّسوية هو التَّعديل، والعدل إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حَقَّه لا أزيدَ ولا أنقصَ، وإلّا لأُدّيَ إلى خلاف المطلوب ونَقض الغَرَض؛ كُلُّ شَيءٍ جاوز عن حدِّه انعكس إلى ضدِّه.
فمعنى التَّسوية بين كلِّ إنسان في الأكل والشُّرب هو إعطاءُ كلٍّ منهم ما يَستحِقُّه، لا أن يُعطى كلٌّ منهم بقَدْر ما يُعطى الآخر كمًّا وكيفاً. فكيف وقد يحتاج الرَّضيع إلى قليلٍ من اللبن بامتصاصِهِ ثَدْيَ أمِّه، وأمَّا البَطَلُ المِقْدَام قد يحتاج إلى نَعجةٍ يذبحها ويأكلها عن آخرها في دفعةٍ واحدةٍ؛ فكيف يُعقل التَّساوي بينهما.
إنّ لبن الرَّضيع لا يكفي لجُرعةٍ واحدةٍ لهذا البَطَل؛ ولقمةٌ وَاحدةٌ من لحم النَّعجَةِ كافيةٌ لهلاك الرَّضيع.
المريضُ يحتاج إلى الاستراحةِ والحِمْيَة وشربِ الدَّواءِ؛ والمعافى يَسيحُ في الأرض مع أقراصِ خُبْزِهِ وماءِ كوزِهِ؛ والحكيم يُعطي كلَّ واحدٍ منهما ما هو لازم لحياتهما، فيُعطي الأوَّلَ للأوَّلِ، والثَّاني للثَّاني؛ ولو عَكَسَ لأهلكهما بلا تأمُّلٍ، وحاشا للحكيم أن يَفْعَلَه، فَتنقلب حكمتهُ إلى سَفاهةٍ، واسمُه الحكيمُ إلى السَّفيه.
و الذي تقتضيه الفِطرة في الوظائِف والحقوق الاجتماعيَّة بين الأفراد أن يساوى بينهم في الحقوق؛ وهذا التَّساوي بمعنى إعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، لا التَّساوي في الكمِّ والكَيْفِ والجِدَة۱ والأين وسائر الأعراض.
و لا يوجب أن يُحبى بعضٌ ويُضْطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكنّ مقتضى هذا المعنى من التَّسوية السَفَهيَّة أن يُبذَل كلُّ مقامٍ اجتماعيّ لكلِّ فردٍ من الأفرادِ، فيُعطى للمتعلَّم البسيط مَقامُ المعلِّم الشامخ، وللجَبانِ الضَّعيفِ مقامُ البَطَلِ الشُّجاع؛ وهل هذا إلَّا إفساد كلٍّ منهما، ثمَّ إفساد المجتمع؟!
بل الذي يقتضيه العدلُ الاجتماعيّ هو التَّساوي بين الأفراد بميزان حقوقهم الفطريَّةِ واستحقاقهم الاكتسابيّ، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}٢.
فالتَّساوي في نيل كلِّ ذي حقٍّ حقَّه لا يوجِب أن يُزاحِم حقٌّ حقّاً أو يُهمِلَ أو يُبْطِلَ حقّاً على سبيل التحكُّم والبَغي والعُدوان.
و هذا هو الذي أفاد قولُه تعالى: {وَ لَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
فالآية نَادَت بأعلى صوتِها: التَّساوي بينهما في عين تقرير الاختلاف وتثبيت التَّفاوت.
و أنت خبير بأنَّ المُساواة السَّفَهيَّة بين الرَّجل والمرأة على أنَّها لا يمكن أصلًا أن تتحقَّقَ وإلّا لانجرَّ إلى الالتزام بحمل الرِّجال النتائج٣ ووضعِهم وإرضاعِهم إيَّاها فتكون حَرثاً، وإلى فُحُوليَّةِ النِّساءِ فيُتَّخَذْنَ للضِّراب؛ وهل هذا إلَّا أضحوكةٌ للشابِّ والهَرِم؛ يُؤدِّي إلى خرابهنَّ وخرابهم وهَدمهنَّ وهَدمهم.
و ها نحن ننظر الآن إلى المَدَنيَّة الغربيَّة كيف هَدَمَت أساسَ الاجتماع المنزليّ، وأزالَت الرَّاحَةَ والسُّكونَ عن المجتمع بإدخال النِّساءِ في اجتماعات الرِّجال وإعطائِهنَّ من الحقوق ما يساوي كمَّاً وكيفاً بعين ما تعطيه الرِّجالَ من الحقوق.
أمَّا الإسلام فيُنازعُ هذا التَّفكير، ويُخاصم هذا التَّدبير، ويَحْكُم باشتراك الرَّجل والمرأة في أصول المَواهب الإنسانيّة وهي الاختيار وما يتولَّدُ منه من الفِكر والإرادة والعَمَل.
فللمرأة الاستقلال بالتَّصرُّف في جميع شؤون حياتها الفرديَّة والاجتماعيَّة؛ وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال على أتمَّ الوجوه؛ فصارت بنعمة الله وفضله مُستقلَّةً بنفسها، مُنفكَّةَ الإرادة والعمل عن الرِّجال، واجدةً لما لم يَسمح لها الدُّنيا في جميع أدوارها، وخَلت عنه صحائِفُ تاريخ وجودها؛ قال اللهَ تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ في مَا فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَ بِالْمَعْرُوفِ}٤.
لكنَّها مع وجود هذه العوامل المشتركة في وجودها تختلف عن الرِّجال من جهةٍ أخرى؛ فإنَّه ثبت في علم وظائِف الأعضاءِ، أنَّ المتوسِّطةَ من النِّساءِ تتأخَّر عن المتوسِّط من الرِّجال في الجهات الكماليَّة من بُنْيَتِها كالدِّماغ والقَلب والشَّرائِين والأعصاب والقامة والوزنِ؛ وبِإثْرِ هذا يكون جسمُها أنعَم وألطف كما أنَّ جسمَ الرَّجل أخشنُ وأصلبُ؛ وأنَّ الإحساسات اللَّطيفة كالحبِّ ورِقَّة القَلب والميل إلى الجَمال والزِّينَة أغلب عليها من الرَّجل، كما أنَّ التعقُّل أغلب عليه من المرأة.۱
و بالجملة حياتها حياةٌ إحساسيَّةٌ عاطفيَّةٌ؛ وحياة الرَّجل حياة تعقُّليَّةٌ تفكيريَّةٌ. وهذه العلَّة توجب أن يُفَرِّق الإسلام بينهما في الوظائف والتَّكاليف العامَّة الاجتماعيَّة التي يرتبط قوامُها بأحد الأمرين أعني التَّعقُّل والإحساس.
فَخَصَّ القِتالِ والقضاءَ والحكومة بالرِّجال، لاحتياجها المُبرم إلى التعقُّل؛ والحياة التعقُّليَّة إنَّما هي للرَّجل دون المرأة؛ وخَصَّ حضانة الأولاد وتربيتَها وتَدبير المنزل بالمرأة، وجعل نَفَقَتها على الرَّجل، لتتمكَّن من القيام بهذه الأمور.
فهل هذا إلَّا عدلٌ وإحكامٌ؟ {فَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ؛ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}٢ فسبحانك ما أعدلك وأحكمك؛ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُو مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}٣.
هذا كلُّه ما استفدناه ممَّا أفاده الأستاذ الأكرم العلَّامةُ الطَّبَاطبائِيّ (قده) في تفسيره٤، بتلخيصٍ وتوضيحٍ منَّا.
تمَّ بحثنا بحَولِ اللهِ وقوَّته حَوْلَ الآيتينِ الكريمتين من القرآن العظيم.٥
ثانيًا: البشرى النبويّة لنساء المشرق والمغرب
عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة أنها أتت النبي صلّى الله عليه وآله وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي إني وافدة النساء إليك، واعلم نفسي لك الفداء أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي.
إنّ الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنّا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإنّ الرجل منكم إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا أو مرابطًا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أموالكم [أولادكم]، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: "هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننّا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله إليها ثمّ قال لها: انصرفي أيّتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء: أنّ حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة وهي تهلّل وتكبّر استبشارًا"٦
يظهر من التأمل فيه وفي نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتكليمهنّ إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين، ومختلف ما قرّره الإسلام في حقهنّ أنهنّ على احتجابهنّ واختصاصهنّ بالأمور المنزليّة من شؤون الحياة غالبًا، لم يكنّ ممنوعات من المراودة إلى وليّ الأمر، والسعي في حلّ ما ربمّا كان يشكل عليهنّ، وهذه حريّة الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلامية في آخر سورة آل عمران.
و يستفاد منه ومن نظائره أيضًا:
أولًا: أنّ الطريقة المرضيّة في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير أمور المنزل الداخليّة وتربية الأولاد، وهذه وإن كانت سنّة مسنونة غير مفروضة، لكنّ الترغيب والتحريض الندبيّ و الظرف ظرف الدين، والجوّ جوّ التقوى وابتغاء مرضاة الله، وإيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا، والتربية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفة والحياء ومحبّة الأولاد والتعلّق بالحياة المنزليّة كانت تحفظ هذه السنة. وكان الاشتغال بهذه الشئون والاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهنّ يشغلهنّ عن الورود في مجامع الرجال، واختلاطهنّ بهم في حدود ما أباح الله لهنّ، ويشهد بذلك بقاء هذه السنّة بين المسلمين على ساقها قرونًا كثيرة بعد ذلك، حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربيّ المسمّى بحرية النساء في المجتمع، فجرّت إليهنّ وإليهم هلاك الأخلاق، وفساد الحياة وهم لا يشعرون، وسوف يعلمون، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء، وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولكن كذبوا فأخذوا.
و ثانيًا: أنّ من السنّة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء والولاية.
و ثالثًا: أنّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقيّة، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلًا جهادًا للمرأة، وهذه الصنائع والمكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا ـ وظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد ـ قدر، لكنّ الظرف الإسلاميّ ـ الذي يقوّم الأمور بقيمها الحقيقيّة، ويُتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضيّة عند الله سبحانه، وهو يقدّرها حقّ قدرها ـ يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندِب إليه، وللزومه الطريق الذي خُطَّ له، من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانية، وتتوازن أعمالها؛ فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج ـ على ما فيه من الفضل ـ على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة...۱
ثالثًا: ما يجوز للمرأة من الأعمال وضوابطه، وما يحرم عليها
[قال العلامة الطهرانيّ في بيانه لوظيفة الحكومة الإسلاميّة في تعليم المرأة في صفوف مستقلّة بغير اختلاط بالرجال:]
إنّ الحقير لم يكن فقط غير مُخالف لدراسة النساء وارتقائهنّ في الفنون الضروريّة لهنّ، كالطبّ والجراحة بجميع أقسامها، والتخصّص في الطبّ النسائي وأمثاله، بل إنّني كنتُ ومازلتُ أرغّب وأحرّض على هذه الأمور، بل وفوق ذلك: إنّ بعض الفنون التي يمكن للنساء القيام بها واستخدامها في الحرب ضدّ العدوّ يجب تحصيلها عند الضرورة۱ ، [فـ] عليهنّ تعلُّم سائر الأمور الفنيّة الكهربائيّة والمكانيكيّة والمخابريّة والاستعلاميّة وغيرها على كثرتها وتشعبّها اليوم، ما عدا المُقارعة والمقاتلة، حتّى يُنتفع بهنَّ في الحروب الإسلامية.٢
على عهدة هذه الحكومة [الإسلاميّة] أن تقرّر لهنّ تعلّم آداب الحرب والدفاع الواجب عن حريمهنّ [وهو ما سوى المقاتلة والمقارعة] بحيث لا يلزم المحاذير المذكورة [من الاختلاط بالرجال ]؛ كما أنّ على عهدتها أن تقرّر لهنّ تعلّم ساير الفنون من الطّبابة والجراحة والقبالة ومداواة المرضى اللاتي يحتجن إلى عمليّة الجرح عند وضع الوَلَد، بحيث لا يلزم الاختلاط المنفيّ والمنهيّ عنه.٣
حرمة المشاركة في التظاهرات إلا في موارد خاصّة
إنّ الإسلام لا يرتضي صرخات النساء، ولا يسيغ جهرهنّ بالسوء من القول، ولا يقرّ لهن الخروج من البيوت وتشكيل التظاهرات والتجمّعات، والهتاف بالشعارات، فهي تمثّل في نظر الإسلام أعمال إساءة لطائفة النساء.
لكنّ التظاهر والهتاف بالشعارات في حالة الدفاع عن حقوقهنّ، أو لاستعادة حقوقهنّ المهدورة، ولرفع المظالم التي لحقت بهنّ هو مصداق حقيقيّ لـ {لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ}٤ ، وتصبح الصراخات الهدّارة المدوّيه مقبولة وأمراً جائزاً يقرّه الإسلام ويُمضيه٥
إنّ للمرأة الحقّ ـ بشكلٍ استثنائيّ وبعنوانٍ ثانويّ ـ أن ترفع صوتها مقابل الرجال بشتم الظالم جهراً للظلم الذي ألحقه بها، لا أن يكون لها الحقّ في كلّ وقت ومكان وفي مختلف الظروف في المشاركة في المسيرات وإلقاء الخطب والسير مع الرجال كتفاً لكتف، فهذا العمل يُخالف الإسلام ويتناقض مع بُنية المرأة وكيانها الخلقيّ والفطريّ ويتعارض مع مصالحها ومنافعها.
فإعلاء صوت المرأة ـ في الظروف العاديّة ـ من خلال التحدّث مع الرجال، وإلقاء الخطب ومشاركتها في مجالس الرجال ومحافلهم، أو في الاحتفالات المختلطة، خلاف النصوص الصريحة الواردة في الإسلام. ويجب علينا الدقّة والانتباه كي لا نخطو في طريق تقدّمنا وتكاملنا الإسلاميّ خطواتٍ ـ لا سمح الله ـ تعيدنا إلى الوراء وتسوقنا القهقرى إلى الجاهليّة، وبدلًا من أن نقتطف معطيات الحياة الإسلاميّة الجميلة وثمارها الحلوة اليانعة، ونستريح في ظلّ شجرتها الغزيرة الثمر، بدلًا من ذلك تظهر فينا ـ لا قدّر الله ـ أعمال وأساليب الكفر والآداب الجاهليّة والبربريّة والغربيّة تلك باسم الإسلام وباسم القائدة الرشيدة الشجاعة، والمرأة المتفرّدة في عالم البشريّة، واللبوة الشجاعة في ساحات الجهاد مع الكفر والإلحاد، أي زينب الكبرى سلام الله عليها! فندفع نساءنا في الظروف العاديّة للمشاركة في مجالس الرجال للتربية والتعليم، أو للتفسير والتأريخ، أو للموعظة والخطابة ثمّ نقول: أي مانعٍ في هذا؟ لقد ذهبت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى المسجد وألقت خطبتها أمام الرجال، وخطبت أيضاً ابنتها زينب في شوارع الكوفة أمام جمع من الرجال المحتشدين، ثمّ خطبت في الشام في مجلس يزيد أمام الرجال وتكلّمت وحاورت، وكذا الأمر في حفيدتها المكرّمة فاطمة بنت الحسين التي خطبت في الكوفة.
وهو خطأ فادح وخبط لا يُعذر يرد على أذهاننا، ونوع من المغالطة أساسها تسلّط هوى النفس والأفكار الشيطانيّة التي تحتلّ مكان البرهان في فنّ المخاطبة.
مناقشة الاستدلال بخطب السيدة فاطمة وابنتها عليهما السلام على الجواز
ألا يقول أحد لأصحاب الهراء هؤلاء، الذين يدّعون فهم الإسلام وإدراكه، إنّ خطابة المرأة وحديثها لو كان جائزاً في الظروف العاديّة فلِمَ لَمْ تتحدّث ابنة رسول الله الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها في حياة أبيها رسول الله في المسجد ولو لمرّةً واحدة؟
لِمَ لَمْ تعقد مجلساً للدرس في المسجد أو في غير المسجد؟
و لماذا لم تبيّن للأصحاب ـ رجالًا ونساءً ـ تفسير القرآن وسيرة أبيها المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
لِمَ لَمْ يُعهد عنها، أو عن غيرها من نساء المدينة حديث واحد بين الرجال؟
و لماذا لم يشاهد عنهنّ أو عن نساء مكّة أو نساء الكوفة والبصرة مجلس درس واحد للموعظة والحديث والتفسير؟
تبصّر أيّها العزيز ولا تُخدع، فلقد كان من المطالب التي اتّضحت عند بحثنا وبياننا حول الآية القرآنيّة {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إلَّا مَن ظُلِمَ} أنّ خطبة الزهراء سلام الله عليها في المسجد كانت فقط للدفاع عن حقّها إثر الظلم الذي لحقها من الجهاز المدّعي لخلافة أبيها رسول الله، ولقد جهرت بصرختها وأثارت الضجّة والجَلَبة في المسجد على الظالم، وأدانت أبا بكر وعمر وفضحتهما بالشكل الذي يجعلنا ـ بعد مرور أربعة عشر قرناً ـ حين نقرأ كلمات خطبتها في كتب المخالفين أيضاً، نُثني على قدرها وعظمتها ومتانة منطقها وبرهانها القويم.
و لقد كان عملها عملًا قرآنيّاً، منبثقاً من أساس قرآنيّ، هو أنّ لكلّ أحد الحقّ ـ رجلًا كان أم امرأة ـ حين يلحقه ظلم أن يتصدّى لظالمه ويعدّد جهاراً سيّئات وقبائح ظلمه الذي ألحقه به، ولقد فعلت هذا، وخطبت خطبتها جهاراً، وأثبتت دعواها ثمّ رجعت إلى بيتها ولم يُسمع منها بعد ذلك خطبة أو يُعهد عنها أنّها جهرت بصوتها بين الرجال.
فكيف يمكن لأحد أن يتجرّأ على القول إنّ هذا العمل الاستثنائيّ لسيّدة نساء العالمين دليل على جواز تحدّث النساء في محافل الرجال في الظروف العاديّة غير الاستثنائيّة؟
و أمّا بالنسبة إلى ابنتها فخر نساء العالم زينب، التي خطبت وتحدّثت في الكوفة في محمل الأسر بلهجة شديدة، طليقة اللسان، وعدّدت مظالم حكومة بني اميّة وذلّ وحقارة وصَغار أهل الكوفة، فقد كان من الواجب عليها أن تتكلّم وتخطب وتذيع مساوئ بني أميّة على رؤوس الأشهاد وتُثبّت حقّ أخيها الرشيد وإمامها بالحقّ وتوصله إلى أسماع العالم. وهذا حقّ قد أعطاها إيّاه القرآن، ورسالة كُلِّفت بها من قِبَل أخيها في هذا السفر الخطير المهول.۱ ثمّ يُراد مقارنة هذا الموقف الخطير العظيم وهذا الدفاع عن الحقّ وفضح العائلة الأمويّة المعادية للدين والإنسانيّة والظلم الذي ارتكبوه بذلك الأسلوب الفظيع المفجع في صحراء كربلاء، يُراد مقارنته مع حديث وكلام الجنس النسويّ اللطيف في مجالس الاحتفالات بصوتهنّ الرقيق ولحنهنّ المليح الذي يختطف الأفئدة!
أبداً أبداً! فهذا قياس مع الفارق، لكنّه ليس بفارقٍ واحد، بل بألف فارق.
لقد كان عمل زينب سلام الله عليها عملًا استثنائيّاً، عندما تكلّمت في الكوفة وفي الشام في مجلس يزيد بسليط القول، ولم يُعهد ولم يُعرف عنها قبل ذلك ولا بعده كلام وحديث بين الرجال، إذ كيف يكون لها ذلك وهي ربيبة أسد الرجال وابنة معدن العفّة والحياء!۱
رابعًا: صور من آثار التجربة الغربية على المرأة
لقد سلبت نهضة النساء في أوروبا منهنّ حياتهنّ المقرونة بالسكينة والسعادة، وألقت بهنّ في النار. سلبت منهنّ الطمأنينة والراحة وصحّة المزاج، وأعطتهنّ بدلًا منها القلق والاضطراب ففقدن كلّ شي مجّاناً وبلا عوض باسم التحرّر.٢
و نُشير عليكم من أجل الاطّلاع على هذا الأمر بكتاب واحد فقط وهو «الإنسان ذلك المجهول» للدكتور ألكسيس كارل الفرنسي لتعلموا أنّ الغرب قد خسر الكثير من ثرواته الثمينة وألقاها بنفسه في ورطة البلاء، ولقد سلك سبيلًا لا رجعة له فيه، وتسمّر في تلك النكبات والتعاسات.٣
و لقد عاشت النساء المسلمات في بلاد الشرق الألف سنة في صحّة مزاج وطول عمر وتربية أولاد أجلّاء، وفي إدارة شؤون البيت، وراحة بال أزواجهنّ وعوائلهنّ، وطوين هذا الطريق بإيمان وتقوى وعلمٍ وعمل.
و لقد تناقص عدد المواليد في أوروبا في الستّينات في حدود ۱٢- ۱٥%، وتفككّت عُرى العوائل، وكانت الفتيات يعقدن الجلسات والاجتماعات لمطالبة الدولة بالسماح بإسقاط الجنين، ليمكنهنّ إجراء عمليّة إسقاط الجنين (كورتاج) بكلّ حريّة ويُسر.
أولم نقرأ مقولة (بريجنسكي) مستشار كارتر في شؤون الأمن القومي:
«لقد جرى نسيان القيم الأخلاقيّة في الدول الصناعيّة. إنّ الشرقيّين يتخيّلون أنّ الغربيّين يتمتّعون برفاه كامل وينعمون بكلّ أنواع الحريّة، إلّا أ نّ الحقيقة شيء آخر».٤
خامسًا: ملحق في أقوال بعض الباحثين وعلماء النفس
۱ـ حول الاختلاف الجسدي والنفسي
يقول الدكتور عبد الرحمن العيسوي٥ في كتابه سيكولوجيّة النساء: ما العيب في قولنا المرأة أكثر رقّة أو عذوبة أو عطفًا أو حنانًا أو شفقة أو مرونة أو أكثر في النواحي الانفعاليّة؟! فهل يرضى هؤلاء [وحديثه عن بعض علماء النفس الغربيين] أن نغيّر هذه الصورة النمطيّة ونقول: إنّها أكثر خشونة أو استرجالًا أو قوّة عضليّة أو أكثر جفافًا وجمودًا من الناحية العاطفيّة أو أكثر عدوانًا وسيطرة وتسلّطًا؟٦
ويقول: في دراسة أجريت في عام ۱٩۷٥ على عينة من طالبات وطلبة إحدى الجامعات الأمريكيّة باستخدام استبيان يعرف باسم الخصائص الشخصيّة وكشفت هذه الدراسة عن الصفات الآتية لكلّ من الإناث والذكور:
الذكور: الإناث:
۱ـ الاستقلال ـ مستقل ۱ـ انفعاليّة أو عاطفية أو وجدانيّة
٢ـ يؤكّد ذاته ٢ـ دافئة بالنسبة للغير
٣ـ عدواني ٣ـ مبدعة أو مبتكرة
٤ـ مسيطر أو متسلط ٤ـ ثائرة أو مثارة
٥ـ يحب العلوم والرياضيات ٥ـ سهلة الشعور بالأذى
٦ـ لديه استعداد ميكانيكي. ٦ ـ تحتاج إلى الموافقة والقبول من الغير۱
ويقول د. بيير داكو٢ في كتابه المرأة بحث في سيكولوجيّة الأعماق ضمن حديثه عن الحلّ للخروج من المأزق الذي وقعت فيه المرأة المعاصرة: نتمنّى... أن ترفض أن تستمع إلى أولئك الذين ينادون بإلغاء ما تختلف به عن الرجل، فمثل هذا الإلغاء متعذّر من جهة، وهذه الفروق من جهة أخرى مزية بالنسبة إليها وثروة بالنسبة إلى العالم في الوقت نفسه. إنّ عليها على العكس أن تجعل هذه الفروق الأساسيّة أصيلة وتعمّقها وأن ترجع إلى أصل أنوثتها التي تتصف بأنّها قوّة وذكاء عميق وحكمة ورحمة٣
ويقول: ألغى الناس ماهيّة المرأة، ماهيةً كانت قد أمضت قرونًا طويلة تسعى وراءها، وعلى هذ المنوال أغلقوا المجال الذي تمتاز فيه على الرجال بميّزات لا حصر لها ولا مجال للشكّ فيها. وأصبح المظهر الفاعل والمهنة بالنسبة إليها هدفين شبه إلزاميين٤.
ويقول: والعديدات من النساء هنّ كذلك ضدّ النساء، فهنّ إذ يرفضن أنوثتهنّ بل ويكرهن الأنوثة أحيانًا يدفعن بزميلاتهنّ إلى النضال ضدّ الرجال ولكن في عالم الرجال٥
٢ـ حول الحضارة الماديّة الغربية
قال د.ألكسيس كاريل في مقدّمة كتابه الإنسان ذلك المجهول: قبل أن أكتب هذا الكتاب كنت أدرك إدراكًا تامًّا صعوبة هذا العمل بل استحالته، ولكنّني شرعت فيه لأنّني كنت أعلم أنّ شخصًا ما لا بدّ سيؤدّيه؛ لأنّ الناس لا يستطيعون أن يتّبعوا الحضارة العصريّة في مجراها الخالي، لأنّهم آخذون في التدهور والانحطاط، لقد فتنهم جمال علوم الجماد...٦
ويقول: إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكيّة، وقد يكون من الأجدى ألا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء، فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا ضررًا مباشرًا، ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا ويستعيد أفكارنا في مملكة الجماد (الأشياء التي حولنا)، فإنه يصبح خطرًا، ومن ثمّ يجب أن يحوّل الإنسان اهتمامه إلى نفسه وإلى سبب عجزه الخلقي والعقلي، إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بما يعود علينا بالنفع؟ حقا إنه لمما لا يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالانحطاط الخلقي وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الأجناس الطيّبة... ومن ثم فإنه من الأفضل كثيرا أن نوجّه اهتمامًا أكثر إلى أنفسنا من أن نبني بواخر أكثر سرعة، وسيّارة تتوفّر فيها أسباب الراحة، وأجهزة راديو أقل ثمنًا أو تليسكوبات لفحص هيكل سديم على بعد سحيق... ما هو مدى التقدّم الحقيقيّ الذي نحقّقه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إلى أوروبا أو إلى الصين في ساعات قلائل؟ هل من الضروريّ أن نزيد الإنتاج بلا توقف حتى يستطيع الإنسان أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء لا جدوى منها؟ ليس هناك أي ظلّ من الشك في أن علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الأخلاقي والصحة والتوازن العصبي والأمن والسلام.۷
قال د. داكو: لم يسبق للمرأة أن كانت مسحوقة ومنهارة ومستعمرة وخامدة مثلما هي عليه الآن، ويمثّل عصرنا أكثر العمليّات دناءة في تاريخ المرأة؛ فالمظاهر خدّاعة والفخّ مموّه على نحو يثير الإعجاب... والورود تحفّ بمعتقل العمل في الخارج۱
وقال د. العيسويّ: أمّا تعدّد السلطات أو دعاوى التحرّر فإنّها من سمات المجتمعات الغربيّة ولقد أثبتت فشلها هناك، حيث زادت معاناة المرأة وتفشّت الأمراض النفسيّة والعقليّة والسيكوسوماتية والانحرافات السلوكيّة كالإدمان والجنوح والانحراف والجريمة والنزعات السيكوباتيّة وحتّى زيادة معدّلات الانتحار ومحاولاته، رغم ما وصلت إليه والمجتمعات الغربيّة من رخاء مادّي لم يحلّ مشكلة الإنسان المعاصر، وزادت أيضًا هناك معدّلات الطلاق.٢
٣ـ حول عمل المرأة
قال د. العيسويّ: التفرقة في العمل ليست عيبًا وأحدث المجتمعات تأخذ بمبدأ تقسيم العمل، والحقيقة أنّ قضيّة الجنس ـ أي نوع الإنسان ذكرًا كان أم أنثى ـ تتّصل بالحالة الحيويّة أو البيولوجيّة والفسيولوجيّة وتتصل بأعضاء التناسل والسيكولوجيّة والاجتماعيّة والثقافيّة... الإنسان السويّ يقرّ بطبيعته وفطرته وقواه وسماته وصفاته والتي تعدّ من مزاياه كأنثى أو كرجل. أما الدعوة للمساواة فلا تتمشّى مع طبيعة التكوين...٣
قال د. العيسويّ: المرأة لديها القدرة على الإنجاز والتحصيل ولكن ليس في مجال الإنجازات العامّة أو الأعمال العامّة.٤
قال د. داكو: يشعر كثير من النساء أنّ عملًا خارجيًّا يمكن ـ مهما كان وضيعًا ولسن بحاجة إليه في الغالب ـ أن يسوّغ وجودهنّ. بل ثمّة ما هو أكثر أيضًا: ثمّة عدد من النساء اللواتي خضعن لقانون العمل الخارجيّ، يحتقرن اللواتي يؤثرن البقاء في بيوتهن. غير أنّ النساء اللواتي يبحثن عن هويّتهنّ من خلال مهنة من المهن لن يجدنها أبدًا، ذلك أنّ الجنسين شئنا أم أبينا موجودان دائمًا أحدهما بواسطة الآخر ولن تحصل المرأة على وضعها الأساسيّ إلا بواسطة الرجل ومن أجل الرجل والعكس صحيح أيضًا كلّ الصحّة، فالمرأة التي لا تحبّ وليست محبوبة تظلّ خامدة وعابرة مهما كانت فاعليّتها، وتبقى لا متمايزة وغير بارزة ميّتة إذا صحّ التعبير. ينبغي على النساء الصاحيات المتوازنات أن يكنّ قادرات على الكلام والكشف وإعادة التنظيم وكونهنّ يعملن خارج منازلهنّ أمر عديم الأهميّة، فالأهميّة الوحيدة لفضيلة النفس.٥
[تمّ إعداد هذه المقالة من الكتب التالية: تفسير الميزان للمرحوم العلامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي قدّس سرّه. ورسالة بديعة في تفسير آية الرجال قوامون على النساء (ألّف باللغة العربيّة)، نور ملكوت القرآن، الحدّ من عدد السكّان ضربة قاصمة لكيان المسلمين، للمرحوم العلامة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني قدّس سرّه. وقد سعت الهيئة العلميّة في مدرسة الوحي إلى الحفاظ على نصوص كلماتهما بغير إضافة أو تعديل، وأشير إلى مواضع الإضافة بمعكوفتين، كما قامت الهيئة بمقابلة الكتب المترجمة مع أصولها الفارسيّة. وأضيف في الختام ملحق من كتب: المرأة بحث في سيكولوجيّة الأعماق، وسيكولوجيّة المرأة، والإنسان ذلك المجهول أشير إليها في مواضعها]