المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
هو العليم
رسالة التشيّع إلى البشريّة كافّة
بحث منتخب من آثار الأعاظم
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى االله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجْمَعِينَ من الآن إلى قيام يوم الدين
ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم
الإمامة والإمام عند الشيعة
مقام الإمام ودوره
الإمام هو الذي صار له ـ بوصوله إلى مقام اليقين وكشف الملكوت ـ الهيمنة على عالم الأمر، وصار باطن الأفعال مكشوفاً له، وصار بإمكانه ـ بسيطرته على الباطن ـ أن يهدي القلوب إلى المقاصد والغايات.۱
كما أنّ هناك لظاهر الشريعة مبيّن ومحام، فكذلك يلزم باطن الشريعة ـ التي هي مرحلة الحياة المعنويّة للإنسان ومقامات القرب والولاية ـ وجود حام وحافظ وقائد يتقدّم الركب والقافلة...
إنّ الله عزّ اسمه يختار في كلّ عصر واحدًا من أفراد النوع الإنسانيّ ليرشد بواسطته الآخرين إلى مختلف درجات هذا المقام.
والإمام تنكشف له الحقيقة من وراء حجب الغيب بلا واسطة وبالتأييد الإلهيّ، فيطوي درجات قربه وولايته، والآخرون يهديهم الإمام إلى مقاماتهم الكماليّة المختلفة على قدر استعداداتهم المتفاوتة التي اكتسبوها.٢
ولايتاه التكوينية والتشريعيّة
معنى الولاية التكوينيّة: أنّ رسول الله حقًّا هو الواسطة والحجاب بين العبد وربّه؛ وأنّ جميع الفيوضات تفاض من الله على العباد، كالحياة والعلم والقدرة وغيرها بواسطته حيث يمثّل مرآة الحقّ، وهو في مقام الولاية وبدون واسطة.
ومعنى الولاية التشريعيّة: أنّ إرادة رسول الله مقدّمة على كلّ إرادة في مقام اتّخاذ القرار والاختيار للمؤمنين، وتحلّ إرادته بديلة عن إرادة المؤمن. أي: إنّ المؤمن إذا أراد أن ينجز عملًا، ومنعه رسول الله، أو إذا لم يرد، وأمره به، فيجب عليه أن يقدّم أمر الرسول ونهيه على إرادته وخيرته، ويطبّق أوامره، سواء في الحرب أو في السلم، وسواء في أخذ المال أو إعطائه، وسواء في النكاح أو الطلاق أو الجلاء عن الوطن، أو كسب الرزق، أو سائر الشؤون الحياتيّة. وإنّ التعاليم الدينيّة والتكاليف الإلهيّة، كلّها تصدر عن رسول الله، وطاعتها واجبة.٣
كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هوالرائد على طريق الولاية المطلقة، والسبّاق الفريد في هذا المضمار، ومن مشكاة نوره استمدّ الأنبياء السابقون المكرّمون، بما فيهم أولو العزم.
وقد فتح طريق التوحيد المطلق والعرفان المحض والشهود الأسمائيّ والصفاتيّ والذاتيّ۱ لأمّته بشكل مطلق ومرسل؛ وقد حظيت أمّته بمواهب لم تحظ بها أمم الأنبياء السابقين.
وانتقل هذا الفيض من بعده لمولى الموحّدين وأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام وبنيه الكرام الأحد عشر واحدًا بعد الآخر، وأصبح هذا المقام بشكل أكمل وأتمّ لبقيّة الله الحجّة بن الحسن العسكري أرواحنا له الفداء. ووجود سائر الأولياء والعرفاء الإلهيّين الحقيقيّين من بركات وجود أولئك العظام، وفي عصر الغيبة ينالون نصيبهم من بركات هذه المرآة الإلهيّة التامّة؛ فيبلغون الكمال؛ ويقطفون ثمرة الوصول والفناء.
أجل، فإنّ نبيّنا المقدّس صلّى الله عليه وآله وسلّم هو فاتح هذا الطريق لأمّته، وكان ولا يزال لأئمّة الحقّ والهدى عليهم السلام جميعًا هذا المقام؛ فالولاية التكوينيّة أمر بسيط من منظار أهل البصائر والفضائل والعرفاء الحقيقيّين؛ ويظفر بها كلّ من وطأت قدمه هذا المضمار بفضل الحقّ ورحمته.
وحينئذٍ أفلا نأسف أن ننكر على رسول الله والأئمّة هذا المقام؟ ونكتفي بالألفاظ الجوفاء وحدها لبلوغ المقامات، ونخال أنّ كلّ فضيلة وكرامة هي أمر اعتباريّ وهميّ فحسب؟
إنّ الولاية التكويـنيّة هي من الأمـور الضروريّة واللوازم الحتميّة للسـير في طريق المعرفة، والعرفان، وشهود الحقّ. والمنكرون لها أيديهم خالية من المعارف الإلهيّة؛ ولم تترطّب شفاههم بماء حياة الولاية، ولم ينهلوا من الماء المعين للشهود والوجدان، أكبادهم حرّى، مثلهم كالكلاب العاوية في البيداء القاحلة، حائرة في تيه الجهل وأرضه الحصباء٢:
{وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَئهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}٣
المقصود بالهداية الإلهيّة في هذه الآية الأنبياء والأئمّة الذين تألّقت قلوبهم وتلألأت ضمائرهم بنور الله، وكشف لهم الغطاء عن الأسرار المكنونة في عوالم الغيب، ولم يضِنّوا على من يلتحق بركبهم أن يبلغوا به الغاية المنشودة. ولو تيّسر لأبناء النوع الإنسانيّ أن يتحرّروا من ربقة متطلّباتهم في شُؤونهم التكامليّة لبلوغ الغاية والكمال البشريّ، ويسلّموا لمثل أولئك الهداة تسليمًا حقيقيًّا، فمن البديهيّ أنَّ إرادة المربّي ذي البصيرة النافذة، الخبير بجميع ميّزات السير والسلوك، ومصالح الطريق ومفاسده ستكون بديلة عن إرادتهم الضعيفة المظلمة في كيان وجودهم. ومثل هذه الحالة، تكون متمّمة لنقاط ضعفهم وفتورهم. تعالج آلامهم المعنويّة وتجتاز بهم عقبات النفس الكؤودة، وتمرّنهم على مجاهدة النفس وطرق الإخلاص، والهيمنة المعنويّة والملكوتيّة على قلوبهم، وتشعّ على أذهانهم ونفوسهم بقبس النور الحقيقيّ، وتبلغ بهم محطّة النجاح والتمتّع بجميع المواهب الإلهيّة، وتنضج لهم فاكهة وجودهم الفجّة، لتجعل منها فاكهة رويّةً حلوة المذاق، ذلك من خلال التربية التشـريعيّة، والتموين بالنور التكوينيّ.٤
[لقد] سوّغت هذه النظريّة [ولاية الإمام التكوينيّة] التي استفادها الشيعة من الكتاب والسنّة ـ عبر المنهج التعليميّ لأئمة أهل البيت عليهم السلام۱ ـ لبعضٍ اتّهامهم بالغلوّ. وهؤلاء جماعة اتّخذت موقفًا تحت تأثير (حلول الألوهيّة)٢... وراحوا يفكّرون بالحقائق الدينيّة بنمط التفكير الماديّ والمنطق الحسّي؛ فكان مآلهم الاعتقاد أن لا شيء غير المادّة في عالم التكوين والوجود، وأنّ ارتباط الأعمال بالثواب والعقاب، وكذلك الجانب المعنويّ، ومدارج القرب والولاية ما هي سوى مجموعة من المفاهيم الاعتباريّة وغير الواقعيّة، وبذلك اضطروا لأن يفترضوا أنّ ربّ الخلق هو وحده المجرّد من المادّة الذي يتحلّى بالأصالة. والشيء الطبيعيّ أنّ لازمة هذا النظر ستتمثّل في أنّ إثبات أصالة أيّ شيء ما وراء المادة من قبيل النفس الإنسانيّة أو المقامات المعنويّة، والصِّلات فيما بينها هو شرك وغلوّ.٣
الميتة الجاهليّة لمن لم يرتبط بالإمام الحيّ
الإمام منبع النور والعلم، وإذا أرغمنا القلب المظلم على التسليم له واتّباعه، فإنَّه سيـستضيءُ بنوره. وستترع العين الجافّة بالماء، وتنبعث الروح في الجسد الذي لا حراك فيه، والإمام هو الذي ينفخ الروح فيه. وأمّا إذا لم نتّصل بالإمام، فإنَّ العين الجافّة ستظلّ على جفافها، والقلب المظلم على ظلمته، والجسد على سكونه وجموده.
روى النعمانيّ في كتاب «الغيبة» عن الكلينيّ بإسناده المتّصل، عن أبي النصر، عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام أنَّه قال في تفسير الآية الكريمة: {وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ}: مَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ ورَ أيَهُ بِغَيْرِ إمَامٍ مِن أئِمَّةِ الْهُدَى.٤ وهذه هي الجاهليّة الواردة في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة»
تحدّثنا بالتفصيل حول سند هذه الأحاديث٥، أمّا مفادها ودلالتها فممّا ينبغي التوقّف عندهما طويلًا:
حقيقة الميتة الجاهليّة: عدم الارتباط بالإمام
و ينبغي قبل كلّ شيء أن نعرف ما معنى الميتة الجاهليّة؟ وما هي الدرجة التي كان عليها أهل الجاهليّة من الشقاء والتعاسة بحيث أنَّ الذي يموت بلا إمام، فإنَّه يموت كموتهم؟ ومع أنَّ هذا الشخصِ يتّبع القرآن والسنّة النبويّة، بَيدَ أنَّه في نفس الوقت لا يرى الإمام مربّيًا له؛ ويقيم أحكام الإسلام وفق ما يمليه عليه هواه فهو كأهل الجاهليّة.٦
فاذا كانت ممارسات أحد المسلمين وأعماله طاعةً لهواه ومشتهياته وكان متمرّدًا على الإمام الحيّ عاصيًا له، فما الفرق بينه وبين أهل الجاهليّة؟ إنَّهم معاندون وهو معاند أيضًا، وعنادهم خاصّ، وعناده بنمط خاصّ أيضًا. فإذا لم يكن هناك انشداد حقيقيّ إلى الإمام، فما هو الفرق- إذًا- بين ذلك النمط وهذا النمط؟ لأنَّ حقيقة عدم الانشداد، حيث ظلمة الهوى والميل النفسانيّ، واحدة عند الاثنين. والكمال والسموّ الذي ارتقى إليه المسلمون كان بسبب الانشداد إلى النبيّ، ولو انفصم عقد الانشداد إلى الإمام بعد النبيّ، فتلك هي حقيقة الجاهليّة التي تجلّت بهذا النمط، لذلك فإنَّ الإنسان بلا إمام، ستكون حياته وموته كحياة أهل الجاهليّة وموتهم. فالإمام هو الذي يحيي الإنسان بالتعليم والتربية الخارجيّة، وعلى أثر إشراقات الأنوار الملكوتيّة يحيى الباطن، ويرتبط القلب المظلم بمبدأ النور والإشعاع، ويبلّ غليل الإنسان ويرويه.۱
اشتراط الحياة في الإمام المربّي
والجهة الأخرى من البحث حول الحديث المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هي أنَّ الإنسان يجب أن يعرف الإمام الحيّ الظاهر لِئلّا يموت ميتة جاهليّة فالإمام الحيّ، هو المعلّم والمعين وصاحب الولاية الفعليّة المطلقة، والقادر على إفاضة الأنوار الملكوتيّة في قلب المؤمن، والمُسَيطر على عالم المُلك. وإنَّ اتّباع تعاليم الرسول الأكرم وسننه فقط، أو اتّباع الأئمّة الذين ماتوا، سوف لن يؤتي أُكُله بدون الرجوع إلى الإمام الحيّ، وتلقّي التعليم منه، والتربّي على يديه. وإلّا فما هي الحاجة إلى النبيّ الأكرم نفسه في حين يمكن السير على تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام الذي مات وكان صاحب شريعة؟! وما هي الحاجة إلى مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات والسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله؟! ألَمْ يَقل ذلك الرجل: كَفَانَا كِتَابُ اللهِ نعمل به ولا نحتاج إلى إمام؟ إنَّ هذا الكلام ليس له قيمة عند أهل الاختصاص. فاتّباع التعاليم الصادرة عن النبيّ أو عن الإمام الذي مات دون الرجوع إلى الإمام الحيّ، هو اتّباع لهوى النفس والميول الشخصيّة إذا استحسن تلك التعاليم، وأوّلَها كيفما تشتهيه نفسه، ثمّ عمل بها حسب هواه. ولكنّ اتّباع الإمام الحيّ في الحقيقة هو اتّباع الحقّ.
مضافًا إلى ذلك فإنَّ الولاية والقدرة الروحيّة هي في الإمام الحيّ. ولذلك فإنَّ جميع استشفاعات أصحاب اليقين وتوسّلاتهم بأولياء الله والأئمّة الطاهرين عليهم السلام هي استشفاعات وتوسّلات بالإمام الحيّ.۱
غيبة الإمام الثاني عشر: حقيقتها وأسبابها، وكيفيّة الانتفاع به أثناءها
عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنَّه قال: لمّا أنزل الله عزّوجلّ على نبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله: أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولِي الأمْرِ مِنكُمْ٢، قلتُ: يا رسول الله، عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: هُمْ خُلَفَائِي يَا جَابِرُ وأئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِي، أوَّلُهُمْ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ، ثُمَّ الْحُسَينُ، ثُمَّ عَلِيّ بنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيّ الْمَعْرُوفُ في التَّوراةِ بِالْبَاقِرِ، وسَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُ، فَإذَا لَقِيتَهُ فَاقرَأهُ مِنِّي السَّلامَ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ موسى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيّ بْنُ موسى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ، ثُمَّ عَلِيّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ، ثُمَّ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ سَمِيِّي وكَنِيِّي حُجَّةُ اللهِ في أرْضِهِ وبَقِيَّةُ اللهِ في بِلادِهِ، ذَلِكَ الذي يَفْتَحُ الله تعالى ذِكْرُهُ على يَدِهِ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبَهَا، ذَلك الذي يَغيبُ عَن شِيعَتِهِ وأولِيائهِ غَيْبَةً لَا يَثبُتُ فِيهَا على الْقَولِ بِإمَامَتِهِ إلّا مَنِ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ.
قال جابر: فقلتُ له يا رسول الله، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيْ والذي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ إنَّهم يَستَضِيئؤنَ بنوره، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاسِ بالشمس وإن تجلّاها سحاب. ثمّ قال: يَا جَابِرُ، هَذَا مِن مَكْنُونِ سِرِّ اللهِ ومَخْزُونِ عِلْمِ اللهِ، فَاكْتُمْهُ إلَّا عَن أهْلِهِ.٣ و ٤
حقيقة الغيبة وأسبابها
إنَّ الذين يعيشون في عصر غيبة الإمام محرومون بلا شكّ من أكثر الفضائل والفواضل. وما عليهم إلّا إعداد المقدّمات لظهور الإمام كي يتخلّصوا من ميتة الجاهليّة، وكذلك يمهّدوا الأرضيّة اللازمة لظهوره من خلال العمل بتعاليم القرآن، والجهاد في سبيل الله، وتآلف القلوب؛ لأنَّ سبب الغيبة هو النقص والفتور الذي عليه الناس، وعدم استعدادهم، وليس سببَها نقص في الإمام نفسه. ولو تضاءل ذلك النقص، ونشطت القلوب شيئًا فشيئًا، وترسّخت التعاليم القرآنيّة فيها بشكل صحيح، فإنَّ ظهور الإمام سيكون حتميًّا، كما نلاحظ ذلك في رسالة الإمام نفسه إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه حيث ذكَّر بهذه الحقيقة. فهو عليه السلام يقول فيها:
«وَ لَوْ أنَّ أشْيَاعَنَا -وَفَّقَهُمُ اللهُ لِطَاعَتِهِ- على اجْتِماعٍ مِنَ الْقُلُوبِ في الْوَفَاءِ بِالعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأخَّرَ عَنْهُمُ الْيُمْنُ بِلِقَائِنَا».۱
إذًا، يتّضح أنَّ سبب عدم الظهور هو افتراق الآراء وعدم اجتماع القلوب على الوفاء بالعهد الذي قطع معهم. وهذا تقصير عظيم من الشيعة بل من الأمّة جميعها. وإنَّ ضروب الحرمان كلّها نحو: فقدان الإنصاف وسيادة الظلم والشرك والتعسُّف، مع جميع مظاهر قبحها، منبعثة عن الفتور والارتخاء، وبالتالي تكون علّة لغيبة الإمام.٢
فينبغي هنا أن نأخذ بعين الاعتبار ثلاث نقاط:
الأولى: أنّ غيبة الإمام هي من جانبنا لا من جانبه. أي: أنّنا حرمنا أنفسنا من زيارته بسبب ذنوبنا وأنانيّاتنا وتوجّهاتنا الاستكباريّة، لا أنّه هجر نفسه وأخفاها عنّا، وبعبارة أخرى، هو غائب عنّا، ونحن غير غائبين عنه.
الثانية: أنّ قدرة الإمام وعلمه وإحاطته وسيطرته على الأمور، كلّ ذلك لا يتوقّف على عصر الظهور بحيث نتصوّر أنّها ليست له قبل الظهور، وإذا ما ظهر فسوف تكون له. بل هو في الحالين يتمتّع بالهيمنة والسيطرة والإحاطة التكوينيّة، وهي كلّها لازمة لولايته الكلّيّة؛ إلّا أنّ هذا الأمر محجوب عن أنظار الناس، وعن إدراك العقول والنفوس قبل الظهور، وسيتجلّى بعد الظهور.
الثالثة: أنّ القدرة العمليّة للإمام وسعته العلميّة وإحاطته التكوينيّة بالأمور لا تنحصر في أعمال الخير والبرّ والإحسان التي نراها خيرًا؛ بل هي الهيمنة والسَيْطَرة على جميع الأمور خيرها وشرّها، وبشكل عامّ على كلّ عمل، وكلّ فعل، وكلّ موجود من الموجودات؛ لأنّ العالم كلّه خيرات على أساس النظام الكلّيّ لعالم التكوين، ولا شرّ فيه أبدًا، والشرّ أمر عَدَميّ ليس من الله، وليس من وليّه؛ والشَّرُّ لَيْسَ إليك.٣
كيفيّة الانتفاع به أثناءها
التوفيق بين واقع خسارة البشر بسبب غيبته وحديث الانتفاع به كالشمس
لا منافاة بين ما ذكرناه هنا [من حرمان الناس في عصر الغيبة]، وبين الحديث المأثور عن رسول الله إذ أخبر فيه جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنَّ شيعته تنتفع به في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّاها سحاب؛ لأنَّه عليه السلام موجود بنفسه الزكيّة وصدره الرحب وولايته التكوينيّة، غائبًا كان أو ظاهرًا؛ غاية الأمر ليس له إرشاد ظاهريّ في عصر الغيبة ولا يخضع الناس لتوجيهات الإمام وتعاليمه في سيرهم التكامليّ. وهذا ممّا يبعث على الأسف، والأسف الشديد طبعًا.
و ثمّة فارق كبير بين الشمس التي تبسط أشعّتها على الطبيعة، فتكسو الأشجار خضـرة، وتمنح الأرض نورًا وحرارة أكثر، وتعقّم الطبيعة بالقضاء على الأمراض والجراثيم، فتستبدلها بالصحّة والسلامة، وتظهر بواطن الأشياء، وبين الشمس المحتجبة خلف السحاب، تملأ السماء ضبابًا، وتنغّص على الناس حياتهم بالأجواء الموبوءة بجراثيم الزكام وغيره. أجل، فإنَّ الناس ينتفعون في عصر الغيبة، وينتفعون في عصر الظهور أيضًا، ولكن شتّان بين الاثنين!
ظهور الإمام عامّ وخاص، وانفتاح باب الظهور الخاص لمهذّبي النفوس
هذا مع أنَّ بعض الأشخاص القلائل المتحلّين بالهمّة العالية في عصر الغيبة قد دخلوا ميدان العمل بإرادة وطيدة وعزم راسخ ونيّة قويّة، فنالوا إلى حدٍّ ما شرف معرفة الإمام بسبب صفاء قلوبهم وطهارة أرواحهم. وهذا ـ طبعًا ـ ظهور شخصيّ لهم، مثلهم بذلك مثل راكب الطائرة في سماء غائمة فيحلّق فوق الغيوم ليصل إلى إشعاعات الشمس المشرقة. لذلك فإنَّ سبيل التكامل في عصر الغيبة غير مسدود أمام التوّاقين إلى حريمه المقدّس. وأيّ فرق بين الظهور والغيبة عند من بلغ مقام المعرفة وأدرك ذلك الوجود المقدّس بحقيقة الولاية والنورانيّة. سُئل أحد الأعاظم: متى يتشرّف الإنسان بالحضور عند الإمام؟
فأجاب: حينما لا يكون هناك فرق بين الغيبة والظهور عند الإنسان.
و سُئل عظيم آخر أيضًا: هل تشرّفت برؤية إمام العصر والزمان؟ فأجاب: عميتْ عينٌ تستيقظ من نومها وقت الصباح، فلا تراه في أوّل نظرتها.
ذكر البرقيّ في كتاب «المحاسن» بإسناده المتّصل عن فضيل، أنَّه قال: سَمِعْتُ أبا جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ ولَيْسَ لَهُ إمَامٌ فَمَوتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، ولَا يُعْذَرُ النَّاسُ حتّى يَعْرِفُوا إمَامَهُمْ، ومَن مَاتَ وهُوَ عَارِفٌ لإمَامِهِ لَا يَضُرُّهُ تَقَدَّمَ هَذَا الأمْرُ أوْ تَأخَّرَ، ومَنْ مَاتَ عَارِفًا لإمَامِهِ كَانَ كَمَنْ هُوَ مَعَ الْقَائِمِ في فُسطاطِهِ.۱ و ٢
إنّ الظهور الخارجيّ والعامّ لم يقع للإمام بعد؛ ومرتبط بأسباب وعلامات لابدّ من تحقّقها؛ إلّا أنّ الظهور الخاصّ والباطنيّ ممكن للبعض؛ وبكلمة بديلة: إنّ سبيل الوصول إلى الإمام والتـشرّف بخدمته مفتوح للجميع، غاية الأمر أنّه يحتاج إلى تهذيب الأخلاق وتزكية النفس.
وكلّ من نوى لقاء الله هذا اليوم، وجاهد نفسه لهذا الهدف، فسيحظى بظهور الإمام الشخصيّ والباطنيّ دون أدنى شكّ، ذلك لأنّ لقاء الحقّ لا يتحقّق بدون اللقاء الآيتيّ والمرآتيّ للإمام.
ومُحَصَّلُ الْكَلَامِ هو: أنّ طريق التشرّف بحقيقة ولاية الإمام مفتوح؛ وهذا هو المهمّ؛ إلّا أنّه يحتاج إلى مجاهدة النفس الأمّارة وتزكية الأخلاق وتطهير الباطن؛ وكذلك يحتاج إلى السير والسلوك في طريق عرفان الحقّ سبحانه وتعالى وتوحيده؛ سواء تحقّق الظهور الخارجيّ والعامّ للإمام عاجلًا أو لم يتحقّق.
وذلك لأنّ الله جلّ شأنه غير ظالم؛ ولا يمنع فيضه؛ ولم يوصد طريق الوصول أمام المشتاقين التوّاقين.
هذا الباب مفتوح دائمًا؛ ويرحّب بدعوة المحبّين والمشتاقين والعاشقين ملبيًّا لها.
فما على عشّاق الجمال الإلهيّ والمشتاقين إلى لقائه جَلَّ وَعَلَا إلّا أن يجدّوا في طريق سير عرفانه وسلوكه بخطى ثابتة وطيدة، ويوصلوا أنفسهم إلى النقطة المنشودة بالتهذيب والتزكية والمراقبة الشديدة، والاهتمام بالواجبات الإلهيّة، والتكاليف السبحانيّة، وحينئذٍ ـ شاء الإنسان أم أبي ـ فإنّهم سيحبرون بالطلعة المنيرة لإمام الزمان وقطب دائرة الإمكان الذي يمثّل وسيلة الفيض وواسطة الرحمة الرحمانيّة والرحيميّة للحقّ، ويتمتّعون بكلّ السبل المفيدة لتكميل نفوسهم؛ ويستثمرون جميع الاستعدادات الفطريّة من أجل التطبيق العمليّ لها بغية الوصول إلى نقطة الكمال.۱
جواب الاعتراض على الشيعة في اعتقادهم بغيبة الإمام
ويعترض مخالفو الشيعة بأنّ الشيعة تعتبر لزوم وجود الإمام لبيان أحكام الدين وحقائقه، وإرشاد الناس وهدايتهم، فإنّ غيبة الإمام تناقض هذا الغرض، لأنّ الإمام الذي قد غاب عن الأنظار ولا توجد أيّة وسيلة للوصول إليه، لا يترتّب على وجوده أيّ نفع أو فائدة، وإذا كان الله سبحانه يريد إصلاح البشريّة بواسطة شخص، فإنّه قادر على خلقه عند اقتضاء الضرورة لذلك، ولا حاجة إلى خلقه قبل وقته وقبل الاحتياج إليه بآلاف السنوات.
الجواب: إنّ مثل هؤلاء لم يدركوا حقيقة معنى الإمامة، واتّضح في مبحث الإمامة، أنّ وظيفة الإمام ومسؤوليّته لم تنحصر في بيان المعارف الإلهيّة بشكلها الصوريّ، ولم يقتصر على إرشاد الناس من الناحية الظاهريّة، فالإمام فضلا عن تولّيه إرشاد الناس الظاهريّ، يتّصف بالولاية والإرشاد الباطنيّ للأعمال أيضًا وهو الذي ينظّم الحياة المعنويّة للناس، ويتقدّم بحقائق الأعمال إلى الله جلّ شأنه. بديهيّ أنّ حضور أو غيبة الإمام الجسمانيّة في هذا المضمار ليس له أيّ تأثير، والإمام عن طريق الباطن يتّصل بالنفوس ويشرف عليها، وإن بعد عن الأنظار وخفي عن الأبصار، فإنّ وجوده لازم دائمًا، وإن تأخّر وقت ظهوره وإصلاحه للعالم.٢
هنري كوربان وقراءته للإمامة والغيبة: الأمل لأهل السنّة والغربيّين
بدأت معرفة كوربان۱ بالعلّامة الطباطبائيّ ومحادثاته سنة ۱٣۷۸ هـ ، واستمرّت لأكثر من عشرين سنة... قال العلّامة [الطباطبائيّ عنه]: الأستاذ هنري كوربان هو أُستاذ الدراسات الشيعيّة في جامعة السوربون؛ وقد توفي منذ حوالي شهرين٢؛ وكانت له جلسات تحقيق عديدة معي حول مذهب الشيعة.
كان رجلًا منصفًا وسليم النفس. وكان يعتقد: أنَّ المذهب الوحيد في كلّ العالم الذي ما زال حيًّا ومتحرّكًا هو مذهب الشيعة؛ أمّا بقيّة المذاهب فقد أنهت عمرها بدون استثناء، وليس فيها أيّ نوع من التكامل والتنافس.
فاليهود لا يؤمنون بإمام ووليّ حيّ (وكذلك المسيحيّون والزردشتيّون) فهم لا يعتمدون على مبدأ حيّ، بل يكتفون بالعمل بالتوراة والإنجيل والزند وأفستا؛ وهم يبحثون عن تكاملهم ضمن هذه الدائرة فقط. وكذلك سائر فرق السنّة الذين يرون تكاملهم محصورًا بالقرآن والسنّة.
أمّا التشيّع، فهو دين الحياة والحركة؛ لإيمانه بضرورة وجود الإمام والقائد للأمّة الذي ما زال حيًّا، ولا يحصل الكمال للإنسان إلّا بالوصول إلى مقامه المقدّس؛ ولأجل هذا المقصد فإنَّه لا يبخل بأ يّ تحرّك وسير وعشق.٣ يعتقد كوربان أنّ المذهب الوحيد الذي ظلّ حيًّا أصيلًا لم يمت في العالم هو المذهب الشيعيّ؛ لقوله بوجود الإمام الحيّ، وجَعْلِه أساس اعتقاده على هذه الدعامة. فهو حيّ دائمًا وأبدًا لاتّكائه على المهديّ قائم آل محمّد: محمّد بن الحسن العسكريّ. ذلك أنّ دين اليهود قد مات بموت موسى ودين النصارى قد مات بعروج عيسى. وسائر مذاهب المسلمين بوفاة النبيّ. بَيدَ أنّ الشيعة تذهب إلى أنّ إمامها وصاحب ولايتها المتّصل بعالم المعنى والإلهامات السماويّة حيّ يُرزق. فما هو إلّا مذهب الشيعة فقط حيّ خالد.
كان كوربان قريبًا جدًّا إلى التشيّع، وغالبًا ما كان يقرأ أدعية «الصحيفة المهدويّة» ويبكي.٤
يقول كوربان: نستطيع أن نسعى للبحث في ثنايا الفكر الشيعيّ عن رؤية واضحة ونهج معنويّ، رؤية تتفوّق على الإحباط واليأس الذي يساور البشريّة اليوم وتزيلهما...
ويتابع حديثه بهذا الشأن حول محاور ثلاثة:
النبوّة والإمامة: لا تواجه النبوّة والإمامة في الرؤية التي صاغها التشيّع حول شخصيّة الأئمّة الإثني عشر لا حلولًا يستبطن هبوط الإله في مضمار التاريخ التجريبيّ [كما هو الحال في اللاهوت المسيحيّ]، ولا عقائد لا أدريّة تضع الإنسان في عالم تَرَكَهُ الله واعتَزَلَهُ [كما في النزعة العلميّة الغربية]، كما لا تستتبع التوحيد الانتزاعيّ المجرّد في الإسلام السنّي الذي يتسبب بوضع فجوة لا نهاية لها بين الله والإنسان. إنّ واقع عالمنا المعاصر يحثّنا على التفكير مرّة أخرى بـ "الصراط المستقيم" بين "التشبيه" و"التعطيل". ٥
الغيبة: لم يؤخذ أصل "الغيبة" وحقيقتها أبدًا على نحو التفكير العميق في إطار احتياجات العالم المعاصر... إنّ معنى هذا الأمر ـ الغيبة ـ فيما أؤمن به هو بذاته منبع لا ينضب من المعاني والحقائق المتدفّقة أبدًا دون أن تعرف النهاية أو الانقطاع، وهو في الحقيقة الدواء الشافي في مواجهة سموم الاشتراكيّة والمادية وتسطيح الحقيقة المعنويّة وأصلها...
حقيقة الغيبة في عقيدة هذا المتواضع [إشارة إلى نفسه] هي الأساس والقاعدة الأصليّة التي تقوم عليها بنية المجتمع الإسلاميّ، ويجب التعاطي معها كقاعدة معنويّة وغيبيّة...
كذلك فإنّ الحقيقة المذكورة تعدّ دواء شافيًا لظاهرة الكنيسة (المؤسسة الروحانية في الغرب) وما تبديه من ميول لجهة تمظهر الحقيقة الإلهيّة وتجسمّها الاجتماعي، مع جميع العواقب التي يستتبعها هذا النمط من التفكير ويجرّ إليها...
وبنظري أنّ معنويّة الإسلام تستطيع أن تعيش وتدوم وتنمو من خلال التشيّع فقط، وهذا هو المعنى الذي يستطيع الصمود في وجه أيّ تحوّل وتغيير قد تبتلى به المجتمعات الإسلاميّة.
إمام الزمان: وهذا مفهوم مكمّل لمفهوم الغيبة، بيد أنّه يرتبط ارتباطًا كاملًا بشخصيّة الإمام الغائب. بالنسبة لي شخصيًّا رحت أدرك مفهوم الإمام الغائب، وأحسّه ـ مع روحي الغربيّة ـ على نحو جديد وبكر، ألهمني وألقى في روعي بأنّ له صلة حقيقيّة بالحياة المعنويّة للبشر، حتّى كأنّ هذه الصلة أخذت لها مستقرًّا مكينًا في خاطري.
هذه الحقيقة هي بمنزلة دستور باطنيّ وبرنامج معنويّ يعتبر كلّ مؤمن مع الإمام قرينًا به، ويستعيد سلسلة الذخائر المعنويّة ومظاهر الفتوّة الضائعة، بشـرط أن نوفّق بينها وبين الظروف والإمكانات الروحيّة المعاصرة.
والذي أراه أنّ هذه الصلة الخاصّة للأرواح مع الإمام الغائب هي لوحدها الترياق الأعظم لمواجهة تشويه حقيقة الدين.
وبنظري أنّ حياة وحضور الإمام الغائب هو بمعنى نداء النفي المطلق الذي يتعزّز عموديًّا وصعوديًا ويأخذ موقعه مقابل جميع مظاهر الرياء والعمى الباطنيّ للبـشر، وما هو عليه من نسخ الحقيقة المعنويّة ونفيها.۱
إن رسالة التشيّع والإمام الثاني عشر الغائب من أسمى الرسالات وأرفعها وأبلغها واقعيّة وأكثرها إمدادًا بالحياة. وهي التي تعالج مشاكل البشريّة ليس في زمن الظهور فحسب، بل في زمن الانتظار والفرج أيضًا، وتنقذها من المآزق التي لا محيد عنها وتأخذ بأيديها إلى الصـراط المستقيم بفكر هادئ وبالٍ رخيّ وقلب مطمئن، وترشدها إلى الهدف الأعلى الذي تنشده الإنسانيّة.٢
مظاهر العلاقة الساذجة بالإمام: التوسّل به للمادّيات، توقيت زمان ظهوره، والاهتمام بلقائه الظاهريّ
إنّ مجالس التوسّل بوليّ العصر ومحافله هي في غاية الحسن والجودة، بَيدَ أنّ التوسّل الذي يُقْصَدُ من ورائه الحقّ، والوصول إلى الحقّ، ورفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة، وكشف حقيقة الولاية والتوحيد، وحصول العرفان الإلهيّ والفناء في ذاته المقدّسة، هو التوسّل المرغوب والمحمود. ولذلك فإنّ انتظارالفرج حتّى في عصر الأئمّة عليهم السلام أنفسهم كان يعتبر من أعظم الأعمال وأكثرها فضيلة.
إنّ التوسّل بحقيقة ولاية الإمام لكشف حجب الطريق من أفضل الأعمال؛ لأنّ توحيد الحقّ من أفضل الأعمال. كما أنّ انتظار الظهور الخارجيّ للإمام بوصفه مقدّمًا على ظهوره الباطنيّ وكشف ولايته مفيد، وانتظار الظهور الخارجيّ محبوب ومحمود في ضوء ذلك.
وإذا كنّا نرمي إلى الظهور الخارجيّ وحده دون القصد إلى تلك الحقيقة ومحتواها، فقد بعنا الإمام بِثَمَنٍ بَخسٍ حينئذٍ؛ وبالتالى فنحن المتضرّرون كثيرًا؛ لأنّ المراد والمقصود ليس التشـرّف بحضوره الطبيعيّ؛ وإلّا فإنّ كثيرًا من الناس كانوا يرون الأئمّة في عصورهم ويحضـرون عندهم؛ ويتكلّمون معهم؛ بَيدَ أنّهم كانوا لا خلاق لهم من حقيقتهم. ولو كنّا في مجالس التوسّل، أو عند الاختلاء بأنفسنا توّاقين إلى لقائه؛ ورزقنا الله ذلك، ولم تكن غايتنا لقاء الله وحقيقة الولاية، فإنّنا نتشرّف برؤيته على نفس النسق الذي كان الناس به يتشرّفون برؤية الأئمّة والحضور عندهم آنذاك. وأنه لغَبْن وضرر كبير أن نتشرّف بخدمته بعد الجدّ والجهد والكدّ والسعي، بينما ليس لدينا هدف أعلى وأسمى من اللقاء الظاهريّ ـ وهذا اللقاء في الحقيقة لرفع الشكّ والشبهة عن وجوده وطول عمره ـ أو أن نتوجّه إليه في قضاء حوائجنا المادّيّة ورفع ما يهمّنا من أمورنا الخاصّة أو العامّة؛ وهو أمر كان متيسّرًا لجميع الناس الذين شهدوا عصر الأئمّة عليهم السلام بدون مشقّة التوسّل.
على أنّ الشيء القيّم حقًّا هو التشرّف بحقيقة الإمام وبلوغها، والشوق إلى لقائه من حيث آيتيّة الحقّ سبحانه وتعالى؛ وهذا هو المهمّ؛ وهو من أفضل الأعمال؛ ومثل هذا الانتظار للفرج يحيى القلوب وينعش النفوس ويطيّب الأرواح رَزَقَنَا اللهُ وإيّاكُمْ إن شَاءَ اللهُ بِمحمّد وآلِهِ الطّاهِرِينَ.
ما هي القيمة من وراء العلم بزمن ظهوره الخارجيّ لنا؟ ولذلك فقد ورد في الأخبار النهي عن التفحّص والتجسّس في مثل هذه الامور.
افرضوا أننا عرفنا زمن ظهوره عن طريق علم الجَفْر والرَمْل الصحيح، فماذا نفعل حينئذٍ؟ وما هو واجبنا؟ إنّ واجبنا هو تهذيب النفس الأمّارة وتزكيتها وإعدادها للقبول والتضحية والإيثار.
إنّنا مكلّفون بهذه الأمور دائمًا؛ وما علينا إلّا أن نعيش أجواء تهذيب النفس وتزكيتها، وتطهير الضمير؛ سواء عرفنا وقت ظهوره أو لم نعرف ذلك؛ ولو أخلصنا نيّاتنا وتأهبّنا لذلك فسيحالفنا الحظّ والتوفيق بلقائه الحقيقيّ؛ ولو لم نكن كذلك، فإنّنا لن نقطف شيئًا ذا بال من وراء لقاء جسمه العنصريّ والمادّيّ؛ ولا نحصل على نتيجة من هذا اللقاء.
ولذلك نرى كثيرًا من الأشخاص الذين أقاموا في مسجد السَهْلَةَ أو في مسجد الكوفة أو في غيرهما من الأماكن المقدّسة أربعينيّات متعدّدة لزيارة الإمام وظفروا بذلك، إلّا أنّهم لم يحصلوا على شيء مهمّ من تلك الزيارة.۱
وَفَّقَنَا الله تعالى وإيَّاكُم بِمَحَمَّدٍ وآلِهِ صَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.
إذَا سَفَرَتْ في يَومِ عِيدٍ تَزَاحَمَتْ | *** | على حُسنِهَا أبْصَــارُ كُلِّ قَبِيــلَةِ |
فَأرْوَاحُهُمْ تَصْبُو لِمَعْنَى جَمَالِها | *** | وَأحْدَاقُهُمْ مِنْ حُسْنِهَا في حَدِيقَةِ |
وعِنْدِيَ عِيدِي كُلُّ يَوْمٍ أرى بِهِ | *** | جَمَــالَ مُحَيــَّــاهَا بِعَـيْنٍ قَرِيــرَةِ |
وكُلُّ اللَّيالي لَيْلَةُ الْقَدْرِ إنْ دَنَتْ | *** | كَمَا كُلُ أيـَّــامِ اللِّقَـا يـَـوْمُ جُمْعَةِ |
وَسَـعْيِي لَهَا حَجٌّ بِــهِ كُلُّ وَقْفَةٍ | *** | على بَابِهَـا قَـدْ عَادَلَـتْ كُلَّ وَقْفَةِ |
وأيّ بِــلَادِ اللهِ حَلَّـتْ بِهَـا فمَا | *** | أرَاهَا، وفي عَيْنِي حَلَتْ، غَيْرَ مَكَّةِ |
وأيّ مَكَانٍ ضَمَّــهَا حَرَمٌ كَـذَا | *** | أرى كُلَّ دَارٍ أوطَنَتْ دَارَ هِجْـرَةِ |
ومَا سَـكَنَتْهُ فَهْـوَ بَيْتٌ مُقَـدَّسٌ | *** | بِقُرَّةِ عَيْنِي فِيــهِ أحْشَــاي قَرَّتِ |
ومَسْجِدِيَ الأقْصَى مَسَاحِبُ بُرْدِهَا | *** | وطِيبي ثَرَى أرْضٍ عَلَيْــهَا تَمَشَّتِ |
نَهَــاري أصِيلٌ كُلُّهُ إنْ تَنَسَّمَتْ | *** | أوَائِيــلُهُ مِنْهَــا بِـرَدِّ تَــحِيَّــتي |
ولَيْلِيَ فِيهَا كُلُّــهُ سَــحَــرٌ إذَا | *** | سَرَى لِيَ مِنْهَــا فِيهِ عَرْفُ نُسَيْمَـةِ |
وَإ نْ طَرَقَتْ لَيـْـلًا فَشَـهرِيَ كُلُّهُ | *** | بِهَا لَيـْـلَةُ الْقَدْرِ ابْتِهَــاجًا بِزَوْرَةِ |
وإِنْ قَرُبَتْ دَاريَ فَعَــامِيَ كُلُّهُ | *** | رَبِيعُ اعْتِــدَالٍ في رِياضٍ أريضَـةِ |
وَإنْ رَضِـيَتْ عَنِّي فَعُمْرِيَ كُلُّهُ | *** | زَمَانُ الصَّبَا طِيبًا وعَصْرُ الشَّبِيْبَةِ٢ و ٣ |