المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةالولاية التكوينيّة
التوضيح
هو العليم
الولاية التكوينية للأنبياء والأئمّة عليهم السلام
محاضرات تأسيسيّة حول الولاية التكوينيّة - الجلسة الثالثة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
قدّس الله سرّه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
وخير البرية أجمعينأبي القاسم محمّد بن عبدالله
صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين المكرّمين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
في الجلسة السابقة فسّرنا الملكوت بأنّه عالَم الأمر وعالَم الغيب وعالَم العلقة والارتباط بين جميع الأشياء وبين الله تعالى.
الجمع بين الآيات الدالة على المباشَرة وبين الآيات الدالة على وجود وسائط
يقول تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾۱، يعني أنّه لا يحتاج إلى شيء ولا يحتاج إلى وسائط، كالوسائط الّتي نحتاجها نحن ونرتّبها في الخارج حتّى يحدث الأمر، فلا تأثير [ولا مؤثّر] إلّا إرادة الله تعالى، يعني أنّه [يكفي أن يريد] الله تعالى شيئًا حتّى يتحقّق في الواقع الخارجيّ. ويقول في آية أخرى في سورة يس: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾٢، يعني أنّ الله تعالى سبحانه إذا أراد أمرًا وأراد أن تتحقّق مسألة وحادثة في الخارج يقول لها ﴿كُنْ﴾، و ﴿كُنْ﴾ هذه ليست كالألفاظ الّتي نستعملها نحن، بل هي ﴿كُنْ﴾ التكوينيّة، يعني أنّها الإرادة الإلهيّة المتعلّقة بتحقُّق الأشياء، هذا هو المقصود مِن كلمة ﴿كُنْ﴾ التكوينيّة.
ومع هذا كلّه نرى أنّ الله تعالى يشير إلى وجود وسائط في الخارج، مثل الملائكة، كملائكة الرحمة وملائكة العذاب وملائكة الرزق وملائكة قبض الأرواح، كما في قوله: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾٣، وفي آية يقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾٤.
فمِن ناحية يقول: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾، [ويقول:] ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فهو لم يقل هنا إنّ الملائكة تقول كن فيكون، ولم يقل إنّ ملك الموت يقول كن فيكون، بل أُسند هذا القول إلى الله تعالى؛ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ﴾ (يعني أمر الله تعالى) ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾. ومع ذلك نرى الله تعالى يفوّض هذا الأمر إلى ملائكته [أيضًا]. فبأيّ طريقة نستطيع أن نجمع بين هذه الآيات، وكيف يمكننا أن ننفي التعارض والتناقض والتضادّ بين هذه الآيات؟ إذا تأمّلنا في مطالب الجلسة السابقة [حول] وحدة الأفعال وكيفيّة نزول الفعل مِن عالَم الوجود والإرادة إلى عالَم الخَلق والشهادة والمادّة، نفهم مِن ذلك أنّه ليس هناك إلّا فعلٌ واحد وإرادة واحدة، وهي مِنَ الله تعالى سبحانه. وما نفعله مِن أمور وتفكير وما نقوم به مِن واجبات وأشغال – كلٌّ بحسب شأنه – كما أنّ دوام الحياة في هذا العالَم، [إنّما يكون] بالآلات والأدوات والوسائط الّتي أودعها الله تعالى فينا، مِن قدرة وغرائز وصفات، فبهذه الوسائط والغرائز والصفات تستمر حياتنا في هذا العالَم. وهذه القوّة موجودة في جميع الموجودات، كالملائكة وغيرها وأفراد البشر كافّة والأنبياء وغير ذلك. وليس هناك أيّ تفاوت ولا تنافٍ [في جريان هذه القوّة الواحدة في] سلسلة الموجودات في هذا العالَم؛ فكما أنّه لا يجوز لنا أن نفترض أنّ القوّة والاستعداد الموجودان فينا هي مِن غير الله تعالى، بل يجب أن نقول أنّ جميعها مِنَ عند الله، كذلك لا يجوز لنا أن نقول أنّ القوّة الّتي في جبرائيل والقوّة الّتي في قابض الأرواح والقوى الّتي في الملائكة، ليست مِن عند الله تعالى. ولهذا، لا قوّة في البَين إلّا القوّة المستند إلى الله تعالى، وهذا ما يفصح عنه الله تعالى في قوله: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾، يعني أنّ حقيقة الإرادة في هذا العالَم هي الإرادة المنبعثة عن الله تعالى؛ فقابض الأرواح لا يقبض إلّا بإرادة الله تعالى وإذنه، وملك الموت لا يفعل إلّا بإرادة الله تعالى وإذنه، ونحن لا نفعل إلّا بإرادة الله تعالى وإذنه.
إرادة الله لا تتعارض مع اختيار الإنسان
وليس المقصود مِنَ إرادة الله تعالى هنا - هذه مسألة مهمّة وتتعلّق بالاختيار – أنّنا نفعل الأفعال بشكل معيّن بدون اختيارنا، لا، بل ما نقوله في هذا الموضع هو أنّه: لو لم تتعلّق إرادة الله تعالى باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، هل كان باستطاعة يزيد وأعوانه وعُمر بن سعد وأعوانه أن يقتلوه؟! فنحن نفترض أنّ المسألة في هذا المورد [كما يلي]: إمّا أنّ إرادة الله تعالى قد تعلّقت باستشهاد الإمام الحسين، وإمّا أنّها لم تتعلّق بذلك، بمعنى أنّ الله تعالى لم يرض بذلك، فإن كان لم يرض، فلماذا لم يمنع يزيد وأعوانه والشمر مِن فعل ذلك؟! كما هو الحال عندما لم تتعلّق إرادة الله تعالى بأن يُذبح إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾۱، فقد مرّ هذا السكين على عنق إسماعيل، فرأى إبراهيم أنّ السكّين لا يقطع [العنق]، فتعجّب، إذ لِمَاذا حصل ذلك، وقد أمرني الله تعالى بالذبح، والحال أنّ هذا السكين لا يقطع! فقال حينها «الخليل يأمرني والجليل ينهاني»٢، يعني أنت تأمرني بالذبح والله تعالى ينهاني. حسنًا، ففي هذا المورد لم تتعلّق إرادة الله تعالى بالذبح، إذ هذا السكين لم يذبح ولم يقتل إسماعيل ... فلو لم تتعلّق إرادة الله تعالى باستشهاد الإمام الحسين، كما أنّها لم تتعلّق بذبح إسماعيل، فكان يجب أن يفعل الله في يوم عاشوراء كما فعل مع إسماعيل عند ذبحه، والحال أنّنا نرى خلاف ذلك، فالإمام الحسين [حصل معه كما حصل] مع سائر الأفراد، فقد استشهد وأصابته المصائب والمِحَن كسائر الأفراد وقُطِع رأسه. ففي هذا المورد يجب على الإنسان أن يؤمن بأنّ إرادة الله تعالى قد تعلّقت باستشهاد الإمام الحسين، ولكن هل هذه الإرادة قد تعلّقت بذلك بدون اختيار الأفراد الّذين قتلوا الإمام، أم مع اختيارهم؟ هذه هي المسألة المهمّة، فهذه الإرادة لم تتعلّق بذلك بدون اختيار، بحيث كان أولئك الأفراد كالخشب والحديد والجدران، لا، بل كان لهم اختيار، وبهذا الاختيار [حصل ما حصل]، فالله تعالى قد رأى إصرار هؤلاء الأفراد، وأنّ هذا الحدث يوجب رَفْع مقام الإمام عليه السلام، إذ استشهاد الإمام يوم عاشوراء أوجب رِفْعة الإمام..
لمّا أراد الإمام عليه السلام الخروج مِنَ المدينة، سأله بعض إخوانه وأصحابه: لماذا تخرج مِنَ المدينة مهاجرًا إلى مكّة، لماذا؟ قال: «إن الله أراد أن يراني قتيلا». قالوا: ولماذا تصحب أسرتك وعائلتك معك؟ قال: «أراد الله أن يراهنّ سبايا».۱ يعني أن إرادة الله تعالى قد تعلّقت بقتلي. وفي رواية أخرى عنه عليه السلام [أنّ الرسول قال له]: «يا حسين، إنّ لك عند الله درجة لا تنالها إلّا بالشهادة»٢. فاستشهاد الإمام عليه السلام ليس مضرًّا بحاله، بل هو رافعٌ لدرجته، وسيكون شفيعًا للأمّة بأجمعها٣. يعني أنّ هذا المقام هو المقام الّذي يجب أن يصل إليه الإمام عليه السلام بالشهادة، والله تعالى هو مَن أختار له هذا، وأختار له هذه المصائب، فجميع هذه المصائب كانت شيئًا حسنًا للإمام عليه السلام، وكانت مضرّةً لمعانديه وقاتليه، كلٌّ بحسبه؛ فهذا اختار الشهادة، فرفعه الله تعالى بهذا الاختيار، وأولئك اختاروا عداوةَ ومواجهة ومعاندة الإمام عليه السلام، فأذلّهم الله تعالى وأدخلهم [جنّهم] بهذه المعاندة؛ وكِلا الأمرين مِن عند الله تعالى، يعني أنّ إرادة الله تعالى قد تعلّقت بهذه الحادثة وهذا الفعل في الخارج وبهذه الخصوصيّات، أي خصوصيّة انتساب كلّ فعل إلى صاحبه، أي انتساب هذا الفعل إلى الإمام، وهو ما أوجب له الرضوان والسعادة والمراتب العالية الّتي هيّأها الله تعالى له، وانتساب ذاك الفعل إلى الأفراد [الّذين واجهوا الإمام]، وهو ما أوجب لهم الذلّة مِنَ الله تعالى.
القدرة المُعطاة للجميع واحدةٌ فمنهم مِن يُحسن الانتفاع بها ومِنهم مَن يُسيء
على كلّ حال، هنا سؤال: هل تعلّقت إرادة الله تعالى بهذه الحادثة أم لم تتعلّق؟ لو قلنا أنّها لم تتعلّق، فلماذا حصل هذا الحدث في الخارج؟! وإذا قلنا أنّها تعلّقت، فإنّ القوّة الّتي كانت في الإمام عليه السلام، والقوّة الّتي في معانديه، كلاهما مِن عند الله تعالى، إلّا أنّ الإمام عليه السلام استفاد مِن هذه القوّة لإصلاح وتحسين حاله ورَفْع مقامه، ومعاندوه استفادوا مِن هذه القوّة للخذلان والهلكة، أمّا نفس القوّة فهي مِنَ الله تعالى.
فما أمر به عمر بن سعد في يوم عاشوراء عندما قال: يا خيل الله اركبي، اهجموا على الحسين وأتمّوا أمره٤، وركوب القوم الخيل وهجومهم على الإمام عليه السلام، كلّ ذلك كان بالقوّة والاختيار وبرفع الموانع وإيجاد الاستعدادات والمقتضيات لتحقيق هذه الحادثة في الخارج، الّتي كانت جميعها مِن عند الله تعالى. فالمهمّ هو أنّ هذا استفاد بهذا الشكل، وذاك استفاد بذاك الشكل؛ مثلًا، إنّ هذا السكّين الموجود الآن بيدي، مكنني أن أستعمله واستفيد منه في أمور نافعة، ويمكنني أن أستفيد منه استفادة سوءٍ مُوجبٍ للهلكة والفساد والتخريب وغير ذلك. فالسكّين واحد والاختيار في الإنسان واحد، فيمكنه أن يستفيد مِن هذه الآلة في الموارد النافعة، ويمكنه أن يستفيد منها في أمور مُفسدة [وفي إحداث] أثرٍ سيّءٍ وسلبيّ؛ هذه قضيّة على حِدَةٍ.
على كلّ حال، فالقوّة مِنَ الله تعالى، وهذه القوّة موجودة في جميع الأشياء، وكلّ شيء إنّما يفعل بهذه القوّة، أي بالقوّة الّتي أعطاه الله تعالى إيّاها، ولذا نرى في الآيات أنّ الله تعالى عندما يحكي عن معجزات الأنبياء، فهو ينقلها على أنّ هُم مَن فعل ذلك، يعني أنّ النبيّ عيسى كان يفعل ذلك بنفسه وبيده، ولكنّها جميعها كانت بإذْن الله تعالى.
ويمكن أن يستفيد المرءُ مِن تلك القوّة في غير ما يريده الله تعالى [ويرضى عنه]، بمعنى أنّ الله تعالى قد أعطاه هذه النعمة ووفّقه لبلوغ هذه المرحلة، ولكنه [استفاد منها بنحو سيّء]، كما في قصّة موسى مع بلعم بن باعورا، الّذي كان في زمن موسى عليه السلام، الّذي تقول عنه الآية: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾۱، أنا نسيت بداية الآية، ولكن مضمونها أنّ الله تعالى علمّه علمًا، فلم يستفد مِن ذلك [العِلم في الأمور الصالحة]، وإنّما استفاد منه ضدّ النبيّ ولمواجهة نبيّنا موسى عليه السلام. فقد أعطاه الله عِلمًا ووصل إلى بعض المراتب، وكان يعمل ويدعو الله تعالى فيستجيب له، ولكن لَمّا وقعت حادثةٌ مع موسى عليه السلام في المدينة – كانت قصّة عجيبة – اجتمع حوله الناس وطلبوا منه أن يدعو على موسى، فاحترز واجتنب ذلك، وبعد الإلحاح دعا على موسى وقومه، فأهلكه الله تعالى وأخذ منه هذه النعمة،٢ لماذا؟ لأنّ هذه مِن نِعَم الله تعالى، فلِمَ تستعملها الآن في مواجهة الله تعالى، فالله تعالى هو مَن أعطاك، وأنت تستعمل ذلك الآن ضدّ نبيّ الله تعالى، فلزِم على الله أن يقطع عنك ذلك، وأن يسلبه هذه القوّة والإرادة والنعمة الّتي أعطاه إيّاها. فبلعم بن باعورا هذا كان أيضًا يفعل بإرادته وبقوّته الّتي منحه الله إيّاها، ولكنّه لم يستفد منها [إلّا في إحداث] أثرٍ سيّء، فسلبه الله تعالى ذلك. صحيح!
المعنى الحقيقيّ للولاية التكوينية وأنواعها ومراتبها
حسنًا، بناء على هذا نفهم أنّ الولاية عبارة عن الولاية على الشيء، أي السيطرة [والقدرة] على فعلِ شيءٍ في الخارج؛ فهذه الولاية بالنسبة إلينا، تكون في الأمور الّتي نفعلها، كالمشي والاشتغال، كلًّا فيما يشتغل به، وهذه الولاية بالنسبة إلى الملائكة، هي في الأمور الّتي يفعلونها، ولكن أفعالهم جميعها هي بأمر الله تعالى، وهذه الولاية هي قدرة الأنبياء على فعل المعجزات في الخارج.
مِنَ المهمّ أن نعلم إنْ كانت أفعال الأنبياء هذه، هي بسبب التغيّر والتبدّل الواقع في نفوسهم، أم لا بل هي [مجرّد] أمور بسيطة وعاديّة وتعبديّة، بمعنى أنّ النبيّ يدعو الله تعالى أو يفعل فعلًا ما ثمّ يدعو الله تعالى أن يحقِّق له شيئًا في الخارج [فيُحقّقه اللهُ له]، فيكون دعاؤه وطلبه حينئذ مثل طلبنا ودعائنا، فكما نحن ندعو الله تعالى هو أيضًا يدعو، لا أنّ تغيّرًا وتحوّلًا حصل في نفسه وبهذا التغيّر والتحوّل قَدِرَ على فِعل ذلك بإذْن الله تعالى؟ يجب علينا أن نفكّر في هذا المسألة ... مثلًا، إذا رفعنا الآن شيئًا أو تحرّكنا، فنحن نرى أنّ هذه الحركة [ناشئة] مِن أنفسنا، نعم، نحن نرى هذه القدرة في أنفسنا، وبهذه القدرة استطعنا أن نرفع حجرًا يزن مئة كيلو أو ثلاث مئة كيلو مثلًا، فالشخص الّذي يرفع هذا الحجر، هل يرى أنّ هذه القوّة في نفسه، أو لا يرى هذه القوّة في نفسه بل إنّه دعا الله تعالى وطلب منه فرفع هذا الحجر؟ لا، بل الكافر والمسلم وكلّ شخص يرى أنّه قد فعل ذلك بالقدرة الّتي في نفسه، فهو يرى ذلك. ولكن إذا تأمّل، سيرى أنّ هذه القدرة هي مِن عند الله تعالى، وهذه مسألة أخرى. فهو يرى أنّ في نفسه هذه القدرة الآن، وأنا أرى في نفسي القدرة الّتي أرفع بها هذا الشيء الآن، وأحرّك بها يدي، وكيف لا! واقعًا، هل أنتم مَن أعطاني هذه القدرة الّتي فييّ، فهل هي مِن عندكم؟! لا، بل هذه القدرة والحركة والفكر وهذه الخصائص والخصوصيّات، نراها بأجمعها في أنفسنا، وأنّه بناء على كلّ غريزة وخصوصيّة [موجودة فينا] يمكننا أن نفعل أمورًا في الخارج، ويرى ذلك كلٌّ مِنَ المؤمن والمنافق والمشرك. ولكنّا نقول إنّ هذه القدرة ليست مِن عندك، لأنّ الله تعالى يمكنه أن يسلبها منك، كما في حالة النوم، فأنت لا تقدر على تحريك يدك أبدًا، فإلى أين فَرّت هذه القدرة مِن روحك وجسمك، إلى أين ذهبت؟ حصل ذلك بالمنع والحجز، وبواسطة الميكروب أو بسبب المرض، فانتفت القدرة كلّيًّا، [فتراه] يستلقي على الفراش بلا قدرة على الحراك أبدًا؛ فأين القدرة!
لذا، نحن نرى أنّ القدرة هي مِن عند الله تعالى، أمّا ذاك فيرى أنّ هذه القدرة [موجودة] فيه بنحو الاستقلال، [فتراه يقول:] أنا قادر، أنا كذا وأنا كذا، أنا سلطان ورئيس المجتمع مثلًا، والمُلك لي – كما قال فرعون – وأنا ربّ السماوات والأرض، ولا يستطيع أحدٌ أن يسلب هذا الملك منّي. فيقول الله تعالى حينئذ: لا تغترّ بهذا الملك الظاهريّ، فأنا مَن أعطاك هذه القوّة والمُلك، وباستطاعتي أن أسلب منك هذه السيطرة وهذا الملك: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾۱، ما هو الملك؟ الملك هو السلطة الظاهريّة والسلطنة في العالَم؛ فأنا مَن يُعطي هذا الملك لِمَن أريد، وأنا مَن ينتزع هذا الملك مِمّن أريد، فيوم لهذا ويوم لذاك بحسب ما أراه مناسبًا. وهذا ما نراه بأعيننا؛ كان الشاه في زمننا في إيران يتكلّم وكأنّه مالك ملوك العالَم، فيقول: مَن يقدر أن يفعل معنا كذا، ومَن يقدر أن يتكلّم عنّا كذا، ومَن يقدر أن.. كنّا نسمع بعض خطاباته، فكان واقعًا يرى أنّه فرعون، واقعًا كان يرى أنّه مالك الملوك، وقد لقّبه البعض بـ (شاهنشاه) بالفارسيّة، ومعناها بالعربيّة هو (مالك ملوكنا)، يعني مالك ملوك العالَم، والحال أنّنا إذا أردنا رفعه وتعظيمه [فأقصى ما يمكن أن] نقول عنه ونلقّبه به هو (ملك إيران)، فهو ليس بملك الشرق الأوسط حتّى، فكيف بملك آسيا، أو ملك أمريكا أو ملك أفريقيا ... ثمّ كيف أصبحت أحواله؟! فقد فرّ مِن إيران، [بطريقة] لم يفرّ بها أحد، ولم تقبل به أيُّ مملكة مِنَ الممالك وأيُّ حكومة مِنَ الحكومات في العالَم، فكان يفرّ مِن بلد إلى بلد، ومِن مملكة إلى مملكة أخرى، دون أن يقبل به أحد. لماذا؟ وأين ذهب ذاك المُلك؟! أين ذهبت الفرعونيّة والربوبيّة الّتي زعمتها، [فقد زعمتَ] أنّك ربّ الأرباب؟! [الجواب عن ذلك كلّه في قوله تعالى:] ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾، فتُعطي الأموال لِمَن تشاء وتنزعها مِمّن تشاء، وتأتي بالصحّة لِمَن شئت وتنزع الصحّة عمّن شئت، [كما في قوله:] ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾٢، [وقوله:] ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾٣، يعني أنّ أصل الشفاء هو مِن عند الله تعالى، ثمّ يمكن أن يكون هذا الشفاء بلا واسطة، ويمكن أن يكون بواسطة، أي بواسطة الأدوية، نعم. ونحن نرى في بعض الأحيان، بل في كثير مِنَ الأحيان، أنّ هذه الأدوية لا تفيد، لماذا لا تفيد؟ لأنّ الله تعالى لا يريد ذلك، فهذا الشخص يجب أن يرتحل ويموت، وحينئذ لو تناول في كلّ دفعةٍ مئةَ حبّة دواء، لن يفيده ذلك شيئًا، وأحيانًا تجد الشخص قد مات فجأةً [دون الآخر]، فهذا يعني أنّ الله تعالى أراد أن يكون هذا الشخص في هذا العالَم، ولم يرد حياة الأوّل، فمات ببساطة وارتحل.
نعم، فعلى هذا، نفهم أنّ ليس في العالَم إلّا إرادةٌ واحدة، وهي إرادة الله تعالى. فنحن إذا فعلنا فعلًا، نرى أنّ القدرة موجودة في أنفسنا، نعم هذا ما نراه، حسنًا، وإذا تأمّل الشخص وفكّر قليلًا، سيفهم أنّ هذه القدرة الّتي في أنفسنا، ليست قدرةً استقلاليّةً، بل هي مِن مِنَحِ الله تعالى لنا، ومِن نِعَم الله تعالى علينا، فإذا أراد أن يسلب هذه القدرة وينتزعها منّا لَفَعل، وإذا أراد أن يُبقي هذه القوى فينا لَفَعل، نعم، هذه هي الولاية التكوينيّة المحدودة بلحاظنا نحن، هذه هي الولاية [في هذا المورد].
وهذا الشيء نفسه موجود في الملائكة، ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾۱، فهناك ملائكة العذاب وملائكة الرحمة وملائكة الغضب والملائكة الّذين أُرسلوا إلى قوم لوط والملائكة الّذين أُرسلوا إلى قوم صالح، والملائكة الّذين أُرسلوا إلى قوم شعيب، والملائكة الّذين أُرسلوا إلى قوم يونس، جميعهم يرَون هذه القدرة في أنفسهم، فهم واقعًا مَن يقوم بالفعل. فالمَلَك المُرسل إلى قوم كذا، يرى هذه القدرة في نفسه وهو مَن يقوم بالفعل الكذائيّ، ولكن مع أنّه يرى هذه القدرة في نفسه، يرى أيضًا أنّها مِن عند الله تعالى، فنحن مَن يغفل عن ذلك، فنرى هذه القدرة فينا ولا نراها مِن عند الله، ولكن إذا فكّرنا، سنصل إلى هذه المسألة، وهي أنّ القدرة الّتي فينا هي مِن عند [الله]. فصحيح أنّ القدرة موجودة فينا، وهذا لا شكّ ولا شبهة فيه، فنحن لسنا خشبًا ولا حديدًا وما شاكل ذلك، ولكن مع ذلك، فإنّ القدرة هي مِنَ الله تعالى؛ وهذا [ما يُعبّر عنه بـ] النظر الاستقلاليّ والنظر الآليّ، أمّا النظر الاستقلاليّ فباطل، أمّا النظر الآليّ فجيّدٌ، إذ النظر الآليّ يُثبت أنّ هذه القدرة موجودة في الفرد، ومع ذلك يُثبت أنّها مِنَ الله تعالى. كما هو [الحال فيما يلي]: نحن الآن نُثبت أنّ فينا قوّة، كقوّة الحركة و[القدرة على] العمل وغير ذلك، وهذه القوّة حصلت بسبب شيء، وهو الموادّ الّتي نستعملها ونستفيد منها، كالأكسجين مِنَ الهواء وكالماء والخبز والفواكه وكلّ الأطعمة، لأنّه إن لم نأكل لخمسة أيّام لن نقدر على الحركة، وإن لم نشرب الماء ليومين لن نقدر على الحركة، وإن لم نتنفّس لدقيقةٍ واحدة سنموت. فهذه القوّة الّتي فينا، هي قوّة تركّزت بسبب هذه العوامل، الهواء والماء والأطعمة، وهذا ما نراه، ومع أنّنا نرى هذه القوّة فينا نرى أيضًا أنّ هذه القوّة [جاءت] مِن تلك المواد الّتي استعملناها. فهذا شيء وذاك شيء آخر، فمِن ناحية نرى أنّ هذه القوى موجودة فينا والحياة موجودة فينا، ومِن ناحية نرى أنّ هذه القوى والحياة الّتي فينا ناشئة عن استعمال هذه الأطعمة. وهذا بعينه ما نفهمه، إذا فكّرنا في كيفيّة عالَم العلّة والمعلول، سنفهم حينئذ أنّ هذه القوى الّتي فينا هي مِن عند الله تعالى، وهي شيء واحد. نعم، هذا هو المقصود مِن التوحيد الأفعاليّ، فهو يعني أنّ القوّة واحدة، وهي سارية وجارية في جميع الأشياء على نحو سواء، فالقوّة الّتي فينا، هي نفس القوّة الّتي في جبرائيل، والقوّة الّتي في جبرائيل هي نفس القوّة الّتي في عيسى (...)٢.
إنّ أجزاء [بدن الإنسان] متعدّدة، كاليد والرِّجل وغير ذلك، ولكلّ جزء مِن أجزاء الإنسان خاصيّةٌ؛ مثلًا، إنّ ما يختصّ به العين هو البصر، والأذن تختصّ بالسمع، واللسان بالتكلّم، واليد بالحركة، والرِّجل [بالحركة]، وهكذا. نعم، إذا نظرنا واقًعا إلى أنفسنا، سنجد أنّ لكلّ جزء قدرة خاصّة، وهي قدرة واحدة منتشر في جميع الأجزاء؛ فهي قدرة واحدة، وهذه القدرة تظهر أحيانًا في الأذن، وأحيانًا في العين فيُبصر الإنسان، وأحيانًا في اليد فتتحرّك اليد، ولكن نفس القوّة فهي واحدة انتشرت في جميع الأجزاء؛ فقوّة الروح وقوّة النفس تستفيد مِن أجزاء [البدن] بالقوّة الموجودة فيها، نعم!
المعنى الواقعيّ للإِذْن وارتباطه بالولاية التكوينيّة للمعصوم
وبهذا، يتبيّن معنى الإِذْن في آية: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾۱، فالإِذْن هو الاستعداد والتهيّؤ الموجود في المرء، هذا هو الإذْن. وإذ تخلق بإذني، يعني تخلق بقدرتي، وتنفخ فيه بقدرتي، لا بقدرتك، فأنت لا شيء، لا شيء، فبدون إذني وإرادتي وقدرتي لكنتَ حجرًا أو شجرًا وخشبًا، فجميع ذلك هو مِن عند الله تعالى.
مثلًا، كثيرًا ما يحصل أن يُقال: لا يجوز أن تذهبوا إلى الأشخاص المبتلين بالوباء والطاعون والأمراض المسرية. لماذا؟ لأنّ ليس في الإنسان وقايةٌ تؤهّله للاحتكاك بهم، [فإن احتكّ بهم] سيسري هذا المرض إلى نفس الإنسان. أمّا إذا حُقن الإنسان بإبرةِ وقايةٍ مِن هذه الأمراض، مثل الدفتيريا والطاعون والهيباتيد وغيرها مِنَ الأمراض، يمكنه حينئذٍ أن يجلس مع أولئك الأشخاص ويتكلّم معهم، حتّى أنّه يمكنه أن يشرب مِن مائهم ويأكل مِن طعامهم وهكذا، دون أن يؤثّر ذلك عليه شيئًا، لماذا؟ يقولون: لأنّه مأذون، أي أنت مأذون في أن تذهب إليهم، لماذا؟ لأنّ فيك وقايةً، وبسبب هذه الوقاية أُذِنَ لك أن تذهب إلى مثل أولئك الأشخاص.
مثلًا، [تراهم] يقولون لشخص: أنت غير مأذون في هذه الدراسة، وذلك لأنّه يجهلها. ويقولون لآخر: أنت مأذون [في هذه الدراسة]، وذلك لأنّه درسها وأصبح معلِّمًا لها. ويقولون لهذا: أنت لست مأذونًا لفتح عيادةٍ. لماذا؟ لأنّه جاهل في الطبّ. ويقولون: أنت مأذون [لافتتاح عيادة]، وذلك لأنّه درس الطبابة وأصبح طبيبًا حاذقًا في الأمراض ومداواتها.. فمسألة الإذْن ناشئة مِن عدم المانع مِنَ القيام بهذه الأفعال الخارجيّة، والمانع هو الجهل وعدم القدرة وعدم الاختيار في هذه الأفعال. فإذا كان الشخص مهيّأً ومستعدًّا لعملٍ ما في الخارج، سيقول الناس: هذا الشخص مأذونٌ. ولكن هذا الإذْن ليس مِن عند الناس، بل هذا الإذْن هو مِن نفس الشخص، أي مِن تلقاء نفسه، فقول الناس بأنّه مأذون [يعني] أنّ الشخص قد صل إلى هذه المرتبة.
وقضيّة المعجزة، أي معجزة الأنبياء والأفعال الّتي تحصل في الخارج بواسطة الملائكة، والكرامات الّتي نراها مِنَ الأولياء والأئمّة عليهم السلام، جميعها تحصل بلحاظ الإذن الموجود فيهم، والإذْن هو التهيّؤ والاستعداد. فهذا الاستعداد الموجود في أيّ شخص، هو في الواقع إِذْنٌ لكي يفعل [المعجزة] في الخارج، فإن لم يكن لهذا الشخص استعدادٌ، فهو غيرُ مأذونٍ، كما هو حالنا، فنحن غير مأذونين، لماذا؟ لأنّنا لم نصل إلى هذه المرحلة، أمّا الإمام عليه السلام فقد وصل، فهو مأذون حينئذ، نعم، هذا هو معنى الإذن في الآية وفي المقام.
على هذا، فإنّ الأمر المهمّ في الولاية التكوينيّة للأئمّة عليهم السلام – والّتي ورد فيها روايات كثيرة، دالة على قدرة الإمام عليه السلام على كلّ شيء، ودالة على معجزات الإمام عليه السلام ومعجزات النبيّ، ودالة على الأفعال الّتي يمكن للأئمّة عليهم السلام فعلها – وهو المقصود مِنَ الولاية التكوينيّة، هو أنّ الإمام عليه السلام بواسطة توفيق الله تعالى، قد وصل إلى مرتبةٍ أصبح فيها مستعدًّا للقيام بهذا الأمر في الخارج، أي أصبح مستعدًّا لإيجاد هذه الأمور في الخارج. هذه هي الولاية التكوينيّة.
بعض الأدلّة على الولاية التكوينيّة للمعصومين وغيرهم
مِنَ العجيب أنّنا لا نتفاجأ – كما قلت لكم [في المحاضرة السابقة] – إذا قامت الملائكة بفعلٍ ما [خارق للعادة]، ولا نتعجّب ولا نستنكر ذلك، أمّا إذا فعل شخص ذلك، كالإمام عليه السلام، [تراهم] يقولون: لا، هذا الشخص لا قدرة له، وإنّما الله تعالى هو مَن أجابه على ذلك! هذا والحال أنّ كثيرًا مِنَ الآيات قد ذكرت أفرادًا كانوا يفعلون ذلك، كما في قصّة آصف بن برخيا، فالقرآن يفصح عن هذه القصّة حيث يقول: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾۱، كان آصف بن برخيا وزير سليمان، ولم يكن نبيًّا، والله تعالى أقدره على هذا الأمر، فبلحظةٍ واحدة جاء بعرش بلقيس مِن نواحٍ بعيدةٍ إلى هنا، بلحظةٍ واحدة، وذلك إمّا بإعدام وجوده في المكان الّذي كان فيه، ثمّ خلقه مِن جديد بالقرب منه، وإمّا أنّه جاء به بلحظة واحدة بواسطة طيّ السماء أو طيّ الأرض؛ وعلى كلّ الأحوال، هي مسألة غريبة وهي مِنَ الكرامات والمعجزات، ونحن نرى أنّ حدوث ذلك كان بواسطة الولاية التكوينيّة، يعني أنّ الولاية التكوينيّة هي العامل لهذا الحدث، ونحن لا نقدر على فعل ذلك.
حسنًا، لماذا عندما نرى في الروايات أنّ الله تعالى قد اعطى آصف بن برخيا حرفًا مِن حروفه، بمعنى أنّه علّمه، [وقولنا:] علّمه، ليس بمعنى التعليم، بل [بمعنى أنّه] ربّاه لينال هذا الأثر الإلهيّ الخاصّ والاسم الإلهي الخاصّ، حتّى أقدره على إيجاد هذه الأمر الخارجيّ في الخارج، ففعل ما فعله، فلا نستنكر ذلك، [ولكن نستنكره على الأئمّة المعصومين الّذين] أعطاهم الله تعالى اثنين وسبعين حرفًا [كما هو صريح الروايات]۱، والّذي يعني أنّهم أعلى مِن آصف بن برخيا باثنين وسبعين مرّة؟ فآصف بن برخيا بواسطة هذا الأمر كان قادرًا على كلّ شيء، فالّذي جاء بلحظةٍ واحدةٍ بعرش بلقس مِن تلك المناطق البعيدة إلى هنا، يكون قادرًا على فعل كلّ شيء، كقلع الأشجار وتغيير العالَم كلّه، نعم يمكنه ذلك طالما هو قادر على كلّ شيء..
ما هو معنى الولاية التكوينيّة واقعًا، فإذا كان آصف مستعدًّا لذلك، فنحن [الأئمّة المعصومين] مستعدّون لأضعاف ذلك باثنين وسبعين مرّة، هذا هو المقصود مِنَ الولاية التكوينيّة.. يقول الإمام عليه السلام: نحن وسائط الله تعالى، يعني أنّ روحنا وولايتنا هي الواسطة بين الله تعالى [وبين ما سواه]٢.
قلتُ في الجلسة الأولى – بحسب الظاهر – أو في الثانية، أنّ الله تعالى إذا أراد أن يفعل أمرًا في الخارج وأن يُحدث أمر ما، فإنّه يستفيد مِن اسم خاصّ مِن أسمائه؛ فإذا أراد أن يَرزق العباد فيستعمل اسم الرازق، وإذا أراد أن يعطي عِلمًا لشخص فيستعمل اسم العِلم، وإذا أراد الله تعالى أن يُحيي الأفراد أو أن يُبقيهم أحياءً فيستفيد مِن اسم المُحيي، وإذا أراد الله تعالى أن يميت الأفراد فيستفيد مِن اسم المُميت. نعم، فلكلّ حادثٍ ولكلّ أمر في الخارج اسم خاصّ يستفيد اللهُ تعالى منه لإحداث ذلك الحدث والأمر؛ ﴿وللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾٣، يعني ادعوا الله تعالى في كلّ مسألة باسمها الخاصّ بها.
حسنًا، وولاية الإمام عليه السلام هي الواسطة بين أسماء الله تعالى وبين صفاته وبين الأفعال في الخارج، أي الأفعال الحادثة [في الخارج]؛ يعني إذا أراد الله تعالى مثلًا أن يُحيي الموتى، فيستفيد مِن اسم المُحيي، وذلك بجعل الإمام عليه السلام واسطة في تحقيق هذا الاسم في الخارج، فالإمام عليه السلام هو واسطة بين أسماء الله تعالى وصفاته وبين الأشياء في الخارج. هذا هو المقصود مِنَ الولاية التكوينيّة. مثلًا، إذا أراد الله تعالى أن يقبض المؤمنين، [أو أراد] أن يقبض الأرواح، سواء كانت أرواح المؤمنين أو الكفّار، فيستفيد مِن قابض الأرواح، ومَن هو قابض الأرواح؟ إنّ قابض الأرواح هو عزرائيل والملائكة الّذين تحت حكومة عزرائيل، [كما في قوله تعال:] ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾٤، نعم! فالله تعالى يستفيد مِن اسم القابض واسم المميت بواسطة عزرائيل، يعني أنّ عزرائيل يكون الواسطة بين استعمال هذا الاسم وبين التحقّق الخارجيّ [لهذا الاسم]. وهذا بعينه ما نقوله بالنسبة للإمام عليه السلام، فنفس الإمام عليه السلام والولاية الّتي فيه – كما تشير إليه وتصرّح به الروايات وتصرّ عليه – وحقيقة الإمام عليه السلام، هي أنّه الواسطة بين أسماء الله تعالى وبين الخلائق؛ مثلًا، إذا أراد قابض الأرواح أن يقبض النفس، فيجب أن يرجع إلى نفس الإمام عليه السلام ويستفيد مِن نفسه، وإذا أراد ملائكة العذاب أن يعذّبوا، فلا بد أن يرجعوا إلى نفس الإمام ويستفيدون مِن نفس الإمام؛ يعني أنّ الإمام عليه السلام هو الّذي يجعل هذه الملائكة قادرة على إيجاد هذا الفعل في الخارج، فنفس الإمام عليه السلام تجعل ملائكة الرحمة قادرة على إيجاد هذه الأمور في الخارج، ونفس الإمام – الّذي هو في زماننا الإمام المهديّ عليه السلام وعجّل الله تعالى فرجه وجعلنا اللهُ مِن شيعته ومواليه والذّابين عنه – هي الواسطة بين الله تعالى وبين ملائكته. فملائكة القبض الآن، هم قادرون على القبض بواسطة الإمام المهديّ عليه السلام، [وكذلك] ملائكة الحياة [فهم قادرون على وهب الحياة للخلائق] بواسطة الإمام المهديّ، وملائكة الرزق [يرزقون الخَلْقَ] بواسطة الإمام المهديّ. فالولاية التكوينيّة عبارة عن الوساطة بين الله تعالى وأسمائه، [وواسطة] في تنزُّل هذه الأسماء في الخارج وتعيّنها في الخارج، نعم. هذا ما يتعلّق بالولاية التكوينيّة.
وهنا مسائل أخرى، الأولى أنّه: هل في القرآن آيات تدلّ على نفي هذه المسألة [أي نفي الولاية التكوينيّة] أم لا؟ والثانية عن كيفيّة الجمع بين هذه الآيات [أي بين الآيات المُثبتة للولاية التكوينيّة وبين الآيات النافية لها]. وهل كلّ ما ليس في القرآن، هو ليس موجودًا حتمًا، فهل يجب أن يكون كلُّ شيءٍ موجودًا في القرآن بالتفصيل وبجميع خصوصيّاته؟ بالإضافة إلى مسائل أخرى، سنبحث عنها في جلسات آتية إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله
ما هو معنى خوف النبيّ موسى الوارد في الآية القرآنيّة
هذا صديقنا يسأل أنّه: إذا كان النبيّ موسى يعلم أنّ العصا ستتحوّل إلى حيّة، فكيف يخاف منها؟
جواب سماحة السيّد: حسنًا، القضيّة هي أنّ النبيّ موسى في بداية الأمر كان يستبعد في نفسه حصول ذلك، لأنّه غير معتاد عليه، وهذا أمر واضح [لا غرابة فيه]، فهي مسألة تتعلّق بالنفس، والنفس حتّى الآن لم تكن معتادة على هذا الأمر، فلذا خاف منها في بداية الأمر، ولمّا أصبح معتادًا على ذلك [ذهب عنه] الخوف والرعب. وهذا يدلّ على أنّ هذه القوّة هي مِن عند الله تعالى، فأراد الله تعالى أن يقول له: يجب أن لا يعجبك هذا الأمر، فأنت كسائر الأفراد، وهذا مِن نِعَم الله عليك، فأنت تخاف مِنَ الحية مع ما في يدك مِن قدرة على جعل هذه العصا حيّةً. كما هو الحال فيما روي عن [أحوال] النبيّ سليمان (على نبيّنا وآله وعليه السلام)، أنّه عندما أعطاه الله تعالى قدرة السيطرة على الرياح، فتجري بأمره حيث يشاء – كما صرحت الآيات القرآنيّة۱ – أحسّ سليمان (على نبيّنا وآله وعليه السلام) في نفسه شيئًا، وهو أنّه قادرٌ على تحويل الرياح إلى أماكن بعيدة وغير ذلك، فنطقت الرياح – يعني أنّه انكشف للنبيّ سليمان – قائلةً: هل تعلم لماذا جعلني الله تعالى تحت سيطرتك وتسلّطك؟ قال: لا. قالت: لكي تعلم أنّ كلّ المسائل والقضايا الخارجيّة والحوادث، مثل الرياح، لا أصل لها أبدًا، ولا استقلال لها أبدًا، وإنّما [هي إرادة الله تعالى] فإذا أراد شيئًا تحقّق، وإذا لم يُرد فلا يتحقّق، فلا تعجبكَ سيطرتُك على الرياح. فأعلمه الله تعالى ذلك بهذه الوسيلة، ومسألة خوف موسى عليه السلام بهذه المثابة.٢