143

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

7150
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتقوى ومراتبها

التاريخ 1428/05/23


التوضيح

ما علاقة المعرفة بالتقوى؟ وما هي طرق المعرفة الظاهريّة والباطنيّة؟ ما هي طريقة المعرفة عند الإمام عليه السلام وكيف يشرف على الحقائق؟ وكيف يمكن الوصول إلى مرتبة العلم الحضوري؟ وهل يمكن لغير الإمام أن يصل إلى مرتبة العصمة وكمال التقوى؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة ضمن شرح فقرة فهذه أول درجة التقى من حديث عنوان البصري.

/۲٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

  • شرح حديث عنوان البصري - المحاضرة ۱٤٣

  •  ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربِّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد

  • (اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}‌۱ 

  • إن كان الرفقاء يذكرون فقد كان الكلام مختصرًا جدًّا في ختام الجلسة السابقة وبقيت هناك نقاط غامضة لدى الرفقاء، ورغم أنّا وعدنا أن نتجاوز عن هذه الفقرة الشريفة وننتقل إلى فقرة أخرى ولكن يبدو أنّه ربّما يكون من الأنسب أن تكون هذه الجلسة أيضًا في إتمام الكلام السابق وزيادة توضيحه لنرى ماذا يريد الله. 

  • طرق المعرفة الظاهريّة والباطنيّة

  • تقدّم أنّ معرفة الإنسان وإدراكه إمّا أن يكونا عن طريق الباطن أو عن طريق الظاهر ولا يخلو الأمر من هذين. فإمّا أن يصل الإنسان إلى أمر بواسطة الحجّة الباطنة والدليل القطعيّ... وهذا بدوره إمّا يحصل عن طريق الوحي الإلهيّ على الأنبياء أو عن طريق الإلهام وانكشاف الحقائق في النفس كالإمام عليه السلام، وبذلك يصل إلى تلك الحقيقة.

  • الطريق الأوّل للمعرفة الباطنيّة: الوحي

  • وهذا الوحي حجّة والنبيّ نفسه لا يشكّ فيه أبدًا، لأنّ هذا الشكّ هو بنفسه دليل على بطلان نبوّته، فالشكّ والتردّد في أنّ هذا الوحي كيف هو وهل ما أدركته صحيح أم أنّ الحقيقة شيء آخر؟! هذا بنفسه هو دليل البطلان. 

  • سنتجاوز عن هذه المسألة الآن ونكتفي منها بالإجمال، لأنّ هنا أسئلة كثيرة وشبهات كالشبهة المرتبطة بالنبيّ إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه وجوابها أنّها تختلف عمّا نحن فيه، لأنّه وفق ما في بعض الروايات لم يكن للنبيّ أيّ تردّد، غاية الأمر أنّه لم يكن قد اتّضح له بعد كيفيّة تحقّق هذا الأمر. 

  • وكذلك بالنسبة لبعض الأنبياء الآخرين، فإنّ حالهم لم يكن على نحو يتأمّلون أحيانًا في القيام بالوظائف أو يتردّدون، وهكذا الحال بالنسبة إلى إعلان الولاية والوصاية والخلافة المباشرة لأمير المؤمنين عليه السلام ـ وهذا الحكم من ضروريّات الإسلام وهو أشدّ ضروريّة من الصلاة والصيام ـ فإنّ النبيّ لم يكن لديه أيّ تردّد وشكّ في أصل المسألة، بل كان يتأمّل في ضرورتها في ظرف معيّن، ومن هنا يستفاد أنّ مسألة ضرورة إبلاغ الولاية والخلافة في ذلك اليوم في واقعة غدير خم قد أبرمت وصارت لازمة، وقوله: {... وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته...}٢ هو إشارة إلى هذا الأمر، فمن الآن فصاعدًا فإنّ تأخير إعلان موضوع ولاية أمير المؤمنين وإبلاغ خلافته المباشرة يساوي بطلان الدين. فقد انتهى الأمر، {فما بلّغت رسالته} إن بلّغت اليوم أمر ولاية أمير المؤمنين إلى الناس فبها، وإلا فأنت لم تبلُغ برسالة الله منتهاها. أمّا أنّهم هل سيقبلون بهذه الولاية أم لا؟ فهذا ليس بيدك، من أراد أن يقبل فليقبل، ومن لم يقبل فشأنه!

    1. سورة القصص، الآية ۸٣
    2. سورة المائدة، الآية ٦۷. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

3
  • وقد جاء أحدهم إلى النبيّ هناك وقال: {اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء...}۱ وقد استجاب الله دعاءه وأرسل حجرًا من السماء على رأسه فخرج من دبره، وقد نزلت الآيات الأولى من سورة المعارج في هذا الشأن. فبعضهم هكذا، لو أنّ الله تعالى نزل إلى الأرض على صورة إنسان وقال: افعل كذا، لقال: لا أفعل! 

  • رحم الله الشيخ جواد مغنيّة، ينقل عنه أحد الأصدقاء بلا واسطة أنّه كان يقول: كنت في المدينة أصلّي قرب محراب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاعترض عليّ واحد من أفراد شرطة الأمر بالمعروف عندهم حول كيفيّة صلاتي ودخلنا في نقاش وانتهى به الأمر أن قال: لو أنّ النبيّ المدفون هنا الآن خرج من قبره وقال: عليٌّ مقدّم على عمر فإنّي لا أقبل كلامه! فقال: عندما سمعت منه هذا الكلام صفعته صفعة شديدة على وجهه حتّى أخذونا إلى المحكمة للمحاكمة، فقلت للقاضي: إنّه يكفر. فقال: ماذا يقول؟

  • قلت: يقول: لو جاء النبيّ وقال لي كذا وكذا لما قبلت منه. وكلّ من يردّ كلام النبيّ فهو مرتدّ وكافر! فإذن لم أصفع إلا كافرًا وقد قبلوا هم بكلامي وقالوا له: نعم أنت مخطئ إذ قلت لو أنّ النبيّ جاء وقال هذا لما قبلت منه! وطبعًا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا كان من عون صاحب الولاية وإلاّ فإنّ قضاتهم مثل شرطتهم لا يختلفون عنهم. 

  • لا قدّر الله أن يأتي ذلك اليوم الذي يرى فيه الإنسان الحقّ كالمصباح ثمّ يردّه، وكثيرًا ما يحدث ذلك، نحن الآن جالسون هنا نضحك على هذا الأمر وهذه الأحداث، ولكن ربّما يحدث لنا نحن أن نرى الحقّ كهذا المصباح ثمّ نرمي به بعيدًا ونصطنع لأنفسنا العذر، ونتصفّح لأجل ذلك الكتب لنرى هل يمكن أن نستخرج منها شيئًا؟ يا عزيزي لماذا تتعب نفسك هكذا؟ قل نعم للحقّ وأرح نفسك والناس معًا، ولا تسبّب لنفسك المشقّة والعناء والعذاب! على كلّ حال، هذه أمور على الإنسان أن يتّعظ بها جيّدًا ويلتفت إلى أنّها لا تختصّ بفئة دون أخرى بل هي سنّة تاريخيّة تجري في كلّ برهة على فئة معيّنة، وقد كان بالأمس دور جماعة واليوم دورنا نحن، وغدًا دور جماعة أخرى، فجميعنا مسؤولون أمام الحقّ بأي شكل تجلّى، ولم تكن قضيّة الأمس مختصّة بما قبل ألف وأربعمائة عام وبأمير المؤمنين، بل هي قضيّة ممتدّة إلى يوم القيامة. 

    1. سورة الأنفال، الآية ٣٢. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

4
  • كلامنا الآن حول وظيفة الإنسان أمام الحقّ، فمن يرى الحقّ اليوم في مشكلة ما ويعلم أنّه مع فلان ومع ذلك يعطيه إلى الآخر فهذا هو من وقف خلف عمر قبل ألف وأربعمائة عام، وهو نفسه الذي استكبر أمام أمير المؤمنين، غاية الأمر أنّ الزمان أخّره وبدلاً من أن يكون قبل ألف وأربعمائة عام، فإنّه يعيش في سنة ألف وأربعمائة وثمانية وعشرون للهجرة وقد ابتلي بهذه القضيّة، فمن يرى أمرًا ما من صديقه ويعلم أنّ الحقّ مع الأجنبيّ وأنّ صديقه يقول باطلاً ومع ذلك يجعل الحقّ معه لأنّه صديقه فهو في صفّ عمر وإن كان يعيش في سنة ألف وأربعمائة وثمانية وعشرين للهجرة، إنّه لا يختلف عنهم أبدًا، فمن يصادف أمرًا يخالف ميوله النفسيّة ويدرك حقيقته جيّدًا ولكنّه يدور حول نفسه دائمًا لكي يجد طريقًا ومنفذًا لجرّ المصلحة إلى نفسه فعليه أن يعلم بأنّه هو عين من إذا رأى أمير المؤمنين يختفي بين الناس، ويقف خلف ذلك الصحابيّ ويختبيء كيلا يراه الإمام ويطلب منه أداء الشهادة حول كلام النبيّ في الغدير وأمثال ذلك. إنّه عين ذاك الرجل الذي ذهب ودار حول الأصحاب وجلس جانبًا، وهذا أيضًا يذهب إلى هنا وهناك ويتوسّل بهذا القانون وذاك وهذا الكتاب وذاك لكي يحصل بنحو من الأنحاء على طريق على شاهد أو دليل لكي يتمكّن من أن يدوس على الحقّ! الأمر هو عينه، ولا يختلف أبدًا! 

  • إنّ المشايع لأمير المؤمنين عليه السلام هو الذي يسير خلفه ولو كان نصرانيًّا في الظاهر. والمخالف لأمير المؤمنين هو الذي يسير فيما يخالف طريق ولايته الذي هو طريق الحقّ ولو كان شيعيًّا ويقول أشهد أنّ عليًّا وليّ الله ولكنّه يكذب، لقلقة لسان فحسب، عندما يكذب فإنّه يحشر يوم القيامة بصورة المخالف لأمير المؤمنين!

  • يقول أحد الرفقاء والأصدقاء: دخلت ذات يوم إلى أحد المجالس في أحد البلدان، وكان الكلام حول ولاية أمير المؤمنين وكان الخطيب يتكلّم حول الولاية. يقول: نظرت فرأيت صفّ الشيعة ـ فقد حصلت لديه حالة يشاهد فيها الصور الملكوتيّة للناس ـ ورأيت أنّ هناك عددًا من غير الشيعة فرأيت صفّ السنّة، وطبعًا لن أقول كم كانت نسبة السنّة! لقد كنت أرى الذين يقولون في الظاهر والاسم علي، ولكن نور عليّ ليس متحقّقًا على جبينهم، ليست ولاية أمير المؤمنين فيهم، والاستماع ليس بشيء، فالإنسان يصغي إلى أيّ كلام ويسمع هذا وذاك، إنّها مجرّد أذن تأتي موجة صوتيّة وتذهب، ويحصل فعل وانفعال في الدماغ وينتهي الأمر، فالمجيء والمشاركة في مجلس من المجالس ليس بالأمر ذي البال، المهمّ أنّ القلب إلى أيّ حدّ يوافق هذا الكلام؟! كم ينسجم الوجدان والضمير مع هذه الأمور؟! نحن علينا أن نبحث عن ذلك ونسعى إليه! مجرّد المجيء والمشاركة في المجلس والاستماع إلى الكلام وجعله في الذاكرة والحافظة لا يحلّ مشكلة! 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

5
  • الطريق الثاني للمعرفة الباطنيّة: الإلهام

  • أجل، لقد ذكرنا في بداية الجلسة أنّ على الإنسان أن يصل إلى الحقائق بواسطة الحجّة الباطنة والدليل القطعيّ، وهذا إمّا عن طريق الوحي وهو ما يصل الأنبياء عن طريقه إلى الحقائق، وإمّا بواسطة الإلهام وانكشاف الحقائق في النفس، مثل الأئمّة عليهم السلام الذين يصلون إلى الحقائق من هذا الطريق. 

  • كيف يشرف الإمام على الحقائق؟

  • وبحثنا اليوم يرتبط بهذه النقطة المهمّة، وهي أنّه كيف يشرف الإمام عليه السلام على الحقائق والوقائع؟ لأنّهم هم أيضًا يصلون إلى ما يصل إليه النبيّ وحجّتهم أيضًا حجّة شرعيّة، والذين ساروا في النفس عن طريق الباطن والإلهام وانكشاف الحقائق قد وصلوا إلى مرتبة هي عبارة عن مرتبة العصمة! أي مرتبة الصيانة من الخطأ والاشتباه. تلك المرتبة مرتبة ليست انكشافاتها بواسطة المعادلات الظاهريّة! وليست بواسطة نقل قول زيد وعمر، وبواسطة قراءة الجرائد والمجلاّت والاطّلاع على وسائل الإعلام العامّة، وليست بواسطة التخيّل والتصوّر والوساوس والأهواء الشيطانيّة والتعلّقات الماديّة! وليست بواسطة التركيز على سلسلة الأسباب والمسبّبات، بل بالاطّلاع على أساس سلسلة العلل، والاطّلاع على المبادئ الأوليّة للمشيئة والتقدير، والاطّلاع على اللوح المحفوظ، وكما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال إنّ الإمام مطّلع على اللوح المحفوظ، ولذلك فإنّه مشرف على ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.۱ 

  • ما معنى اللوح المحفوظ؟

  • والآن لا بدّ من النظر في أنّه ما معنى اللوح المحفوظ؟ هل هو من قبيل هذه السجلاّت التي يكتبونها بأيديهم ويمكن الزيادة عليها والإنقاص منها؟ لأنّ هذه اليد التي تكتب إمّا يد أمينة أو خائنة، وقلمها يبحث عن كلّ حرف وكلمة تنبع من تلك النيّة الباطنة، فإن كانت النيّة نيّة أمانة فإنّ ذلك القلم يكتب الأمر صحيحًا، وإن كانت النيّة نيّة خيانة فإنّه يكتب أنّها خيانة، فمثلاً الأرض قد تُكتب باسم غير صاحبها، ولكن اللوح المحفوظ ليس سجلاً ودفترًا ودائرة تسجيل الممتلكات، اللوح المحفوظ هو عبارة عن الحقائق الخارجيّة للأشياء الخارجة عن ذات الله وكلّ ما سوى الله. اللوح المحفوظ يعني كلّ ما هو غير الله ممّا تحقّق في الخارج وتنزّل وترشّح عن سلسلة أسمائه وصفاته الكليّة وظهر في العالم سواء كان من المجرّدات أو غيرها. 

    1. بحار الأنوار، ج٢٥، ص ٣۸٥: عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: لو أذن لنا أن نعلم الناس حالنا عند الله ومنزلتنا منه لما احتملتم. فقال له: في العلم؟ قال عليه السلام: العلم أيسر من ذلك، إن الإمام وكر لإرادة الله عزّ وجلّ لا يشاء إلا ما شاء الله. (خ ل إلا من شاء ـ إلا يشاء)
      مشارق أنوار اليقين، ص ٢٦۷: عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنا مع القلم قبل القلم، أنا مع اللوح قبل اللوح، أنا صاحب الأزلية الأولية ... أنا مدبر العالم الأول حين لا سماؤكم هذه ولا غبراؤكم...
      لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى ، وما تحت السابعة السفلى ، وما في السماوات العلى ، وما بينهما وما تحت الثرى . كل ذلك علم إحاطة لا علم إخبار.
      بحار الأنوار ج٢٥ ص ٣۷٢: خرج عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أنه قال : إن الله جعل قلوب الأئمة موردا لإرادته فإذا شاء الله شيئا شاؤه ، وهو قول الله : وما تشاؤن إلا أن يشاء الله

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

6
  • اللوح المحفوظ عبارة عن حقيقة عالم الوجود الذي ظهر بواسطة إرادة الله ومشيئته في قوالب مختلفة أعمّ من الملائكة والشياطين والجنّة والناس والحيوانات، وأعمّ من الصور الكليّة والنفوس الكليّة والعقول، وأعمّ من الجماد والنبات والسماء والأرض والمادّة وغير المادّة، وجميع السماوات السبع، فمجموع هذا العالم هو عبارة عن اللوح المحفوظ، وما دام الأمر كذلك فهل يمكن أن يزول ما يتحقّق في هذا العالم؟! الآن نحن الموجودون هنا كلّ منّا له إدراك وشعور يصغي إلى هذا الكلام هل يمكن أن ننكر أنفسنا ونقول: نحن لسنا هنا؟! هل المتّكئون الآن على الجدار يمكنهم أن ينكروا وجودهم ويقولوا: كلاّ هذا كذب وهذا الوجود وجود كاذب؟! هل هذا الكلام الذي يجري الآن يمكن إنكاره؟! من الواضح أنّه لا يقبل الإنكار! الآن هناك مئات المسجّلات في العالم تسجّل صوتي، فإن أنكر إنسان ما جيء بالمسجّل الثاني وقيل له: هل هذا كذب أيضًا؟ وبالمسجّل الثالث، فإن قال: كذب، جيء بالعشرين، ففي النهاية عشرة منها كاذبة أمّا أن تكون كلّها كاذبة فلا يمكن!

  • ما يحتويه عالم الوجود هذا في باطنه ـ وليس المراد السماء والأرض والمجرّات، بل ما يشمل المادّة وغير المادّة وكلّ ما هو متحقّق من القوالب والتعيّنات الخارجيّة والتشخّصات والأشياء المتشخّصة المتلبّسة بلباس الوجود والمتحقّقة في الخارج. وما أقوله للرفقاء هو مقدّمة لذلك الأصل الذي نودّ الوصول إليه في موضوع التقوى ونعلم على من يطلق عنوان التقيّ؟ وهل يطلق فقط على من يتبادرون إلى الأذهان؟ ـ كلّ ذلك جميعًا يعني اللوح المحفوظ! لذلك فإنّ اللوح المحفوظ لا يقبل المحو والإصلاح والتعديل وأمثال ذلك، ليس في اللوح المحفوظ قابليّة لأن يمحى ويزال، لا يمكن أن يمحى منه أيّ سجلّ! لا يمكن لإنسان في هذا اللوح المحفوظ أن تبحث عنه الملائكة ليعلموا أين هو، إنّه ليس كهذا العالم الذي إن لم نجد فيه شيئًا ما في هذا الشارع وجدناه في شارع آخر، وإن لم نجده هناك وجدناه في شارع غيره، فالإنسان الذي يتحقّق في هذا العالم، والحقيقة التي تتحقّق في هذا العالم لا تقبل الزوال، نعم يمكن أن يمرّ عليها الزمان، ويمكن أن يحصل فيها تغيّر وتحوّل في المكان، ولكنّ وجودها لن يمحى ويزال، نعم تزول من أمام أعيننا لأنّنا نحن موجودات ماديّة، فمثلاً الموجودون هنا الآن إذا خرجوا من هذا الباب لن يعود بالإمكان رؤيتهم، ولكن لو نصبنا هنا جهازًا لديه القدرة على تمرير الأشعّة أو غيرها من خلال الأجسام للاحق هذا الإنسان أينما ذهب، فإذا خرج من هذا الباب رأى أنّه خلف الباب، ولو صعد الدرج لبيّن بدقّة حركته حتّى السانتيمتر والملّيمتر وهل أنّه واقف أم جالس أم نائم يبكي، يخرج من الغرفة، يخرج من الباحة، فيبيّن كلّ ذلك ويتعقّبه ويكشف عن خصوصيّاته بدقّة. لماذا؟! لأنّها لا تزول. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

7
  • اللوح المحفوظ عبارة عن حقائق عالم الوجود بعينها، لا كما يقول بعض الجاهلين بهذه الأمور من أنّه عبارة عن سجلّ تكتب فيه أسماء الناس. كلاّ فاللوح المحفوظ ليس عبارة عن سجلّ الأحوال الشخصيّة ليقول الله للملائكة: اكتبوا فيه أسماء زيد وعمر وسائر الأشياء الخارجيّة كلوحة الأسماء، يأتي كلّ واحد من الملائكة ينظرون إليه وعلى أساسه يعملون بوظائفهم، بل اللوح المحفوظ عبارة عن كلّ الوجود الخارجيّ للأشياء في عالم الوجود والخارج، وحيث إنّه ثبت بالدليل الفلسفيّ والمشاهدة القلبيّة أنّ عالم الخارج في تحقّقه ليس منوطًا بالزمان وإن كان خلقه منوطًا بمرور الزمان، ولكن هذا في نظرنا نحن، أمّا في الواقع ومن حيث العليّة فإنّه ليس للزمان تأثير في التحقّق الخارجيّ لذلك الشيء. 

  • وأمّا في المجرّدات فمن الواضح عدم الحاجة إلى الزمان، وقد تحقّق بطرفة عين وبصورة دفعيّة وإبداعيّة، وكما يقول أهل الاختصاص فإنّ كلّ عالم الوجود قد تحقّق في عالم المجرّدات وخلِق ولا حاجة إلى الزمان في خلقه، وبعبارة أخرى: إنّ عالم المجرّدات والموجودات المجرّدة قد خلق بصورة إبداعيّة، ولا حاجة فيه إلى الزمان، فالله تعالى لا يحتاج إلى الزمان في خلق الملائكة ليقول مثلاً: هذه السنة نخلق جبرائيل وميكائيل وجهازهما، وفي السنة القادمة نخلق عزرائيل وإسرافيل وسائر الملائكة! كلاّ، {وما أمرنا إلا واحدة...}۱ بدفعة واحدة نخلق كلّ عالم المجرّدات الأعمّ من النفوس الكليّة وعالم العقول وعالم الملائكة، أمّا أن نقول: متى وفي أيّ زمان؟ فالجواب هو هذا: هنا لا معنى لمتى وللزمان! 

  • هل كان ذلك قبل مليون أو مليار أو مائة مليار عام؟ لا معنى لذلك أبدًا؛ لأنّ عالم المجرّدات عالم ما فوق الزمان وفي عالم ما فوق الزمان لا معنى للزمان ليقيس الإنسان الأشياء عليه، أمّا في عالم المادّة فالزمان متصوّر، فاليوم يولد إنسان وغدًا يولد آخر، وبعد غد ثالث، وجميع هؤلاء خاضعون للزمان! كلّ ذلك يرتبط بالمجرّدات. 

  • أما حول المادّيات فالمسألة هي كذلك لأنّ ما يرتبط بعالم المادّة والحقائق الخارجيّة ـ وأقول ذلك للرفقاء رغم أنّ البحث صار معقّدًا كيلا تحدث هذه الشبهة وهي أنّه وفق هذا التعريف للّوح المحفوظ كيف توجد في اللوح المحفوظ تلك الظواهر التي لم تتحقّق بعد؟! فمثلاً الذين لم يولدوا؟ فالذين لم يولدوا وسيولدون بعد عشر سنوات أو مائة سنة، الأحداث التي ستقع لاحقًا، الزلازل والحروب المستقبليّة، التغيّر والتحوّل الذي يقع في عالم المادّة كيف هو الآن في اللوح المحفوظ؟ ـ وكلّ ما هو في عالم المادّة منوطة خلقته بمرور الزمان فهذا من وجهة نظرنا نحن، أمّا في الواقع ومن حيثيّة العلّية فليس هناك أيّ زمان يؤثّر في التحقّق الخارجيّ لذلك الشيء وهذه مسألة مشكلة جدًّا!! وليقبل الرفقاء بهذا المقدار، وطبعًا المتخصّصون من الرفقاء يدركون هذا الكلام ويعلمون أنّ ما سيتحقّق لاحقًا من الأشياء الماديّة وما يؤثّر الزمان في تحقّقه يرجع إلى إدراكنا وبصيرتنا الظاهريّة والماديّة، وهو نتيجة لنقصنا الوجوديّ والمعرفيّ، ويستند إلى عدم اطلاعنا على حقائق عالم الغيب! فنحن علينا لنعلم ماذا يجري غدًا وبعد غد أن ننتظر مرور الأيّام، وإلاّ فليس لدينا اطّلاع على المستقبل، لأنّنا ما لم نفتح أعيننا لا نرى شيئًا، وما لم تسمع آذاننا صوتًا لا نعلم شيئًا. 

    1. سورة القمر الآية ٥۰

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

8
  • ولكن بالنسبة إلى الذين لم تعد أعينهم وآذانهم وسيلة [وحيدة] للإدراك، لا فرق بين اليوم والغد. فكما تشاهدون الآن في هذا المجلس الأصدقاء وأماكنهم وترون أنّ هذا الصديق جالس هنا والآخرون يجلسون إلى جانبه، وبعضهم لديهم نظّارات وبعضهم ليس لديهم، بعضهم من السادة والمعمّمين وبعضهم ليسوا كذلك، بعضهم كبار في السنّ وبعضهم شباب أو صغار في السنّ وجميع هذه الخصوصيّات نراها نحن الآن ولا ننكرها، فإنّ هذا الأمر بعينه جارٍ لدى الذين صار لديهم القدرة على معرفة الغيب، ففي الوقت الذي هو جالس هنا يشاهد خصوصيّات جميع الناس الذين سيكونون في المستقبل في الشارع أو السيّارة أو السوق ومحلّ العمل، وكما يرى هذا الإنسان يرى خصوصيّاته أيضًا على هيئة سلسلة ويرى الحقائق المتّصلة بعضها ببعض! وكما تنظر إلى حلقات سلسلة وتراها معًا غاية الأمر أنّك ترى بعضها في البداية والآخر في النهاية، هكذا هو حال الذين فتحت أعينهم على الحقائق فإنّهم يرون جميع حلقات السلسلة بنظرة واحدة والتفاتة واحدة.

  • ورغم أنّنا نحتاج إلى مائة عام لأجل الوصول إلى الحلقات اللاحقة للسلسلة، واليوم نرى الحلقة الأولى منها، ولأجل الوصول إلى الحلقة الثانية يجب أن نعيش عشر سنوات في هذه الدنيا، ولأجل الوصول إلى الحلقة الثالثة يجب أن نعيش عشرة أخرى وهكذا... ولكنّه هو يرى الحلقة الأخيرة أيضًا من الآن، لأنّ عينه قد فتحت على الغيب! فهو يرى كلّ ما له تحقّق خارجيّ في عالم الوجود وليس الصورة الظاهريّة فقط، وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من رؤية الموجودات ليس مجرّد صورها الظاهريّة، لأنّ رؤية الصورة الظاهريّة لا أهميّة لها، بل المقصود هو هذا الوجود الخارجيّ للأفراد بهذه الخصوصيّات بعينها وبكميّتها وكيفيّتها.

  • فالصورة لا وزن ولا ظل لها، ولكن نحن لنا ظلّ، ولو وقفنا أمام النور وقع ظلّنا في الجهة المقابلة، فالمتحقّق إذن هو وجودنا الخارجيّ بهذه الكيفيّة التي ستكون غدًا وبعد غد، ورغم أنّها ليست موجودة الآن ولكن هذا الوجود سيكون غدًا، ولكن بشكل آخر ونحن لا نراه. 

  • الإنسان الذي اطّلع على الغيب يرى هذا الوجود بهذا الوزن، فحسن هذا الجالس هنا وزنه ستون كيلوغرامًا مثلاً وغدًا يسير في طريق معيّن في إحدى المدن، يُرى بوجوده وخصوصيّاته، لا أنّه تُرى صورتُه. ولكن نحن لا يمكننا أن نراه، لأنّ علينا أن نطوي الليل، ونراه في المستقبل في ظرفه الخاص. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

9
  • وبهذا البيان الذي قدّمته فإنّ عالم الوجود كلّه ليس فيه أيّ خفاء، نعم هو خفيّ عن أنظارنا نحن، وفي أحسن الأحوال حاله حال الذين هم خلف هذا الجدار ليس لهم عين وبصيرة على الموجودين هنا، هل يمكنهم أن يقولوا ليس في هذه الحسينيّة أحد؟! بديهيّ أنّهم لن يمكنهم أن يقولوا ذلك، لأنّ وجود مائة رجل هنا هو أمر وجدانيّ، فكما أنّ ذلك الرجل لا يمكنه أن يقول: لا أحد هناك لأنّي لا أرى أحدًا! بل هم موجودون ولكن نحن لا نراهم! فهذا هو اللوح المحفوظ!

  • فإذن ما دام الإمام الصادق عليه السلام يقول: الإمام مطّلع على اللوح المحفوظ فعليك أنت بنفسك أن تقرأ تفاصيل ذلك ولوازمه. وما معنى ذلك؟ معناه أنّي مطّلع على الحقائق الخارجيّة للأشياء! لا على الصور والأسماء والاعتبارات والألقاب والعناوين! فكما أنّك أنت أيّها الصحابيّ جالس قربي تسألني هذا السؤال فإنّ جميع الأشياء حاضرة عندي إلى يوم القيامة، وهذه مرتبة دنيا من علم الإمام، وهناك مرتبة أعلى من ذلك سأتحدّث عنها. فهذه هي المرتبة الأولى. يريد الإمام أن يقول: أنت أيّها الراوي الذي يسألني: يا ابن رسول الله كيف هو علم الإمام؟ وأنت جالس قربي ولا يمكنك أن تنكر قربك هذا منّي! أفهل أرى صورتك؟ هل أرى الأمواج؟! أم أنّي أرى وجودك إلى جانبي وأشعر به؟! فهذا الشعور ليس مجرّد صورة جزمًا. فكما أرى وجودك إلى جانبي فإنّي أشعر بوجودك إلى يوم القيامة وما بعد يوم القيامة ـ لم يقل الإمام ما بعد يوم القيامة هذا ما أقوله أنا ـ أشعر بكلّ ما سوى الله الآن! رغم أنّه لا يختلف الأمر، فجميع تجليّات الله في الصور الجماليّة وجميع تجليّاته في الصور الجلاليّة للنار والبرزخ و... تتحقّق جميعها بواسطة ولاية أمير المؤمنين يوم القيامة! ولا يختلف الأمر! ومن يدخل الجنّة يومئذ إنّما يدخلها تحت مظلّة عليّ بن أبي طالب عليهما السلام وليس خارجًا عنها والنعيم الذي يحصله هو وجود متنزّل لنسمة من النعيم الذي لدى أمير المؤمنين تصل إليه، ولو قطع ذاك لما كانت هناك من جنّة. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

10
  • "اگر نازى كند از هم فرو ريزند قالبها"

  • يقول: لو أظهر الدلال وأراد أن يقطع فيضه لتحطّمت جميع القوالب وانعدمت الموجودات. 

  • فالجميع هو، فجنّته ونعيمه هو، وجهنّمه وعذابه أيضًا هو، والجميع من ولاية أمير المؤمنين، يقول الإمام الصادق لصاحبه: كما أنّي أشعر بوجودك الآن وأنّك تسألني فإنّي أشعر بجميع الأشياء ممّا سوى الله إلى يوم القيامة، أشعر بها لا أنّي أراها، ولا أنّه يخطر في ذهني ونفسي شيء ما يمكن أن يكون خطأ أو صوابًا! هل يمكن أن أقول إنّي مشتبه في كونك جالسًا إلى جانبي؟! فإذن كلّ ما سيتحقّق إلى يوم القيامة أنا أشعر به الآن وهذا هو اللوح المحفوظ، فإذن اللوح المحفوظ عبارة عن الحقائق الخارجيّة لعالم الوجود! والمقصود من اطّلاع الإمام على اللوح المحفوظ هو اطّلاع ذلك الإمام على كلّ حقائق العالم بالعلم الحضوريّ في نفس الإمام! 

  • كيف يحصل العلم الحضوريّ؟

  • وأمّا أنّه كيف يمكن لإنسان أن يحصل لديه علم حضوريّ ومعرفة بحقائق عالم الوجود وأن يشعر بذلك؟ 

  • فجوابه أنّ امتلاك الإحساس بذلك يعني فناء جميع التعيّنات الخارجيّة في وجود تلك الحيثيّة العلّية وفي وجود ذلك الموجود الذي له إشراف علّي على هذا الأمر. 

  • وهذا هو معنى الإشراف على حقيقة الباطن، فإمّا أن يصل الإنسان إلى ذلك الباطن بواسطة ذلك (فناء جميع التعيّنات الخارجيّة في وجود الحقيقة العِليّة)، وإمّا بواسطة العقل، وقد قدّمنا توضيحًا حول العقل في الجلسة السابقة، وذكرنا أنّ على الإنسان أن يبلغ في عقلانيّته درجة لا يخطئ عقله معها في الأمور والمقدّمات التي يرتّبها، وأن يبلغ في قضائه وحكمه مرحلة العصمة ويكون معصومًا، يجب أن يصل العقل إلى هذه المرتبة من العصمة بحيث لا يخطئ بعدها، فهل وصلنا نحن إلى هذا المستوى؟ هل بلغنا في محاكماتنا التي نقوم بها كلّ يوم إلى هذا المستوى؟ هذا لو فرضنا أنّ القاضي والحاكم هو إنسان جيّد لا غرض له ولا عناد عنده. طبعًا يمكن أن يخطئ الإنسان في أمر ما لأنّ الإنسان جائز الخطأ ويمكن أن يخطئ في أمر ما، ويعطي الحقّ لزيد مثلاً ثمّ يُعلم لاحقًا أنّ الحقيقة شيء آخر، فالإنسان خطّاء، وقد وقع في كثير من الموارد لكثير من الأعاظم من العلماء والفقهاء الذين نعرفهم أمور أدركوا بعدها أنّهم كانوا مخطئين، فهذا لا إشكال فيه، وليس من الضروريّ أن يكون الخطأ ناشئًا على الدوام من العداوة والخصومة والإنكار والمواجهة للحقّ، كلاّ بل يمكن أن تكون المعلومات التي وصلت إلى الإنسان والتصوّرات التي لديه والميول النفسيّة التي عنده غير واضحة ولا يدري بجذورها، والقضايا التي يتعامل معها الإنسان تسبّب له صورة ذهنيّة يحكم على أساسها بأمر ما، وفي اليوم التالي إذا ما تغيّرت الأحوال يقول: عجيب! الحقّ هنا كان مع هذا وأنا أخطأت وأعطيت الحقّ لغيره، ثمّ يحاول التصحيح والتعويض، حسنًا فلا مشكلة في أن يخطئ الإنسان في أمر ما ثمّ يصحّح!

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

11
  • قبل بضعة أيّام كنت أقرأ في إحدى المقالات مخالفةً نقِلت عن أحد الناس، حيث ذكر في إحدى الجرائد كلامًا خاطئًا فاتّصل صاحب الشأن وقال: هذا الكلام الذي نقل عنّي ليس صحيحًا وهو تهمة وأنا لم أقل ذلك، وثبت لديهم أنّه لم يقل ذلك. قال لهم: فإذن تراجعوا عن كلامكم في الجريدة نفسها وكذّبوا ذلك الكلام. فأجابوه: كلاّ، لا نتراجع. 

  • ـ هذا إنكار للحقّ، لماذا لا تتراجعون؟ حسنًا لقد أدركتم أنّ هذا الكلام مجرّد شائعة وخلاف الواقع وأنّكم سمعتموه خطأ وحصل لكم يقين فنشرتموه، وبعد أن أدركتم فلماذا لا تكذّبونه؟! كلامنا هو هنا، وإلاّ فإنّ الوقوع في الخطأ بالنسبة إلى الناس العاديّين هو أمر طبيعيّ ـ طبعًا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ أساس هذا العمل كان خطأ لأنّه كان يجب القيام بالمزيد من التحقيق ـ فحيث تبيّنت حقيقة الأمر فلا بدّ من تكذيب ذلك الكلام. وهذا الأمر يحصل لنا في كثير من الأمور حيث نبدي رأيًا حول أمر ما، ثمّ نلتفت إلى أنّه خطأ، ولكن للحفاظ على مكانتنا ولكي لا يقال بين الناس: لماذا أخطأ فلان؟ فإنّا نجعل الحقّ تحت أقدامنا لا سمح الله. حسنًا فأنا أيضًا أخطئ، فلا معنى لأن أقول: إذا قلت إنّي أخطأت فماذا سيقول الناس؟ ما هذا الكلام من أنّي إذا قلت إنّي أخطأت أسأت إلى مكانتي وسُمعتي وهبطَتْ مرتبتي وزالت تلك المحبّة والمودّة التي يكنّها الناس لي وعدّوني إنسانًا كغيري من الناس؟ ـ وهنا علينا أن نكون ملتفتين بقوّة ـ فلا نقول ولا نقرّ وعدم إقرارنا إضافة إلى الضرر النفسيّ علينا ومنعه إيّانا من الترقّي إلى مراتب أعلى يؤدّي إلى سقوطنا إلى مراتب الحيوانيّة، والويل لنا ثمّ الويل، وهنا تبدأ الخيانة للآخرين وأفكارهم واعتقاداتهم!

  • أمّا إذا كانت للناس نظرة مناسبة ومنطقيّة إلى الإنسان فإنّه يصحّح كيفيّة سلوكه وأفعاله في العلاقة معه ولا يقع في الخطأ! ولا يستمرّ في طريق الخطأ! وكلّ ذلك هو لأجل ملاحظة الأعمال النفسيّة والاجتماعيّة والشأن والشخصيّة فهي التي تسبّب هذه الأمور!

  • إنّ الإنسان خطّاء ويقع في الاشتباه، فما المشكلة في أن يصحّح خطأه ويعوّض عنه إن لم يكن لديه عناد؟! أمّا إذا غرق العقل في العلاقة بهذه الأمور قبل أن تكتمل لديه الحقائق الروحيّة والنفسيّة خضع هذا العقل للتغيير والتحوّل والخطأ ـ وأؤكّد من جديد أنّه ليس المراد حالة العناد والإنكار، بل عندما يقع الإنسان في الخطأ ـ ففي هذه الحالة فإنّ تلك الميول والرغبات الباطنيّة النفسيّة تسبّب أن لا يتمكّن الإنسان من الحكم بشكل إيجابيّ مائة في المائة، لأنّ تلك المراتب الوجوديّة التي يعدّ العقل واحدًا منها لم تكتمل بعد، لكي تتمكّن من الحكم والاستنتاج بشكل صحيح!

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

12
  • لذلك نرى أنّ كثيرًا من الناس قد وصلوا إلى مراتب روحيّة، ولكن لأنّهم لا يزالون في حال من النقص في هذه المرتبة فإنّهم يخطئون في الأمور الظاهريّة! فرغم أنّهم يمتلكون حالات ومراتب، فقد حدث لبعض الأصدقاء أمر كنت مطّلعًا عليه، فقد كان هناك أحد الأعاظم من تلامذة السيّد القاضي وكنت أكنّ له الاحترام ولا زلت وقد توفّي قبل سنوات وكان معروفًا ببعض الأمور والمكاشفات والإخبارات وقد رأيت مؤخّرًا كتابًا كتب حوله، فانظروا أيّ خطأ أخطأ في قضيّة لم يكن له فيها اطلاع، فهذا الذي لديه إشراف ونظر في بعض الأمور وحالاته معروفة عند الكثيرين، انظروا أيّ خطأ يخطئ هنا، ولولا أنّ هذه الحكاية تسبّب الانتقاص منه لذكرت اسمه، وقد ذكرت أنّي بنفسي كنت ولا زلت أكنّ له الاحترام، ولكن الأمر دقيق جدًّا، وليس بهذه السهولة، صحيح أنّ هذا الرجل ذو شأن وصاحب مكاشفات وحالات روحيّة ولكنّ لم يكتمل الأمر لديه بعد، ولم تصل مراتب وجود نفسه إلى الكمال، تطلب إحدى النساء منه استخارة فتأتي جيّدة جدًّا، في حين أنّها حول طلاق، وبسبب احترامها له تنفصل تلك المرأة عن زوجها، ثمّ يلتفت ذلك الرجل إلى أنّ تلك الاستخارة كانت حول الطلاق فتقع السماء على رأسه ولا يتمكّن من النوم ولا يقرّ له قرار، عجيب لقد أدّت خيرتي إلى دمار أسرة! وقد بذل كامل ما يمكن أن يبذل لإعادتهما وكنت مطّلعًا على تفاصيل ذلك، ولكن لم يفلح، إلى أن أرسل إليّ عبر واسطة، فتأثّرت كثيرًا بدوري، لأنّي كنت مطّلعًا على التفاصيل ولم أعلم بالطلاق، فلو كنت أعلم لمنعت منه، أرسل إليّ أن قل لها: لديّ رسالة من جانب الإمام أن أتدخّل وأعيد الأمور كما كانت، فقلت للواسطة: قل له: عندما استخرت أين كان الإمام؟!

  • لمَ كلّ ذلك؟ التفتوا جيّدًا أيّها الرفقاء، لأنّنا نطرح تلك الحالة وتلك الأوضاع التي نحن فيها وتلك المرتبة وتلك المشاهدات والتي ربّما تكون صحيحة أحيانًا ولها واقع ولا مشكلة فيها، نطرحها بشيء من الإفر اط فيحصل لدى الناس توقّع كبير بمستوى التوقّع من الإمام المعصوم، فيعملون على أساس ذلك التوقّع ثمّ يقعون في خطأ، والحال أنّنا لم نصل بعد إلى مرتبة العصمة! 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

13
  • أنت إذ لم تبلغ إلى تلك المنزلة فلماذا تطرح الأمور بنحو يصبح معروفًا وشائعًا أنّ فلانًا يفعل هذه الأفعال! أنت إذ لم تبلغ تلك المنزلة فلماذا تستخير بطريقة تجعلك مشهورًا بذلك، في كثير من الأحيان يتّفق أن تكون صحيحة، ولكنّها تخطئ مرّة واحدة أيضًا فيقع ما وقع، حتّى إنّه اتّصل بالوالد لأنّه كان يحتمل أن يتدخّل ويأمر وينهي المشكلة. فقال له: لا يمكن أن أفعل ذلك لأنّ الأمر ليس بيدي. فهل هذا صحيح؟! 

  • في مثل هذا المورد كان المرحوم العلاّمة يقول: أولياء الله أذكياء ولا ينقادون! في مثل هذا المورد. الذين ينقادون ليس لديهم اطّلاع، المعروفون شيئًا ما في المجتمع هم لديهم اطلاع بمقدار ضئيل بنسبة بضع في المائة بل الأفضل أن نقول بضع في المليار، وأمّا الذين لديهم اطّلاع كامل فهم لا ينبسون ببنت شفة. 

  • الذين وصلوا إلى مقام العصمة هم الذين إذا قالوا افعل كذا أو لا تفعل أو قم فلا شكّ بكلامهم، ويجب أن يطاعوا، هؤلاء وحدهم المطّلعون على اللوح المحفوظ، هؤلاء كالذي يقول عنه الإمام الصادق كما أنت جالس إلى جانبي تسألني فإنّ كلّ شيء إلى يوم القيامة حاضر عندي.۱

  • فالآن تعالوا وانظروا ماذا يقولون عن علم الإمام؟! هؤلاء يقولون: الإمام كأيّ إنسان لا يختلف عنّا كثيرًا! أحيانًا يكون على ارتباط بالله وأحيانًا لا يكون، وأحيانًا يُلهَم وأحيانًا لا يلهم. ولكن نرى في مدرسة العرفان يقولون: كلّ ما سوى يوجد من نافذة نفس الإمام، وهو محيط بجميع شراشر وجزئيّات العالم! أمّا ذاك فيقول: الإمام مثلنا! ولكن أحيانًا يريد الله فيعلم ويريد فلا يعلم! مثل طفل ابن سنتين أو خمس سنوات أو عشر سنوات في كلّ يوم يزيد علمه وينقص. فانظر إلى الفارق كم هو كبير. 

  • الإمام يقول: جميع الحقائق إلى يوم القيامة هي في نفسي، ألا نقرأ في زيارة الأئمّة عليهم السلام: إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم... ٢ فمجاري الأمور والإرادة والمشيئة الإلهيّة تمضى بواسطة وجودكم ونفوسكم وتجري في هذا العالم! فكلّ ما يتحقّق في عالم الوجود هو بواسطة ولايتكم التي هي إرادة الله ومشيئته عينها!

    1. بحار الأنوار، ج٢٥، ص ٣۸٥: قال أبو عبد الله عليه السلام لحمران بن أعين : يا حمران إنِ الدنيا عند الامام والسماوات والأرضين إلا هكذا - وأشار بيده إلى راحته - يعرف ظاهرها وباطنها وداخلها وخارجها ورطبها ويابسها . بيان : إن الدنيا : إن نافية أو حرف النفي ساقط أو مقدر أو إلا زائدة .
    2. كامل الزّيارات، طبع مكتبى الصّدوق، ص ٢۱٩؛ كافى، ج ٤، ص. ٥۷۷

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

14
  • عندما سأل سلمان وأبو ذرّ أمير المؤمنين عليه السلام أن يا عليّ كيف نعرفك؟ قال في جوابهما: معرفتي بالنورانيّة معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة الله عزّ وجلّ معرفتي بالنورانيّة.۱ 

  • هذا الحديث معروف بحديث النورانيّة، وإذا وفّقنا الله لديّ نيّة في أن أترجم هذا الحديث وأفسّره وأبيّن ما معنى المعرفة بالنورانيّة وما المراد بها. فالإمام هنا يوضّح أنّ ذات الله لا يمكن أن تعرف إلا بالله نفسه، وأنّ معرفتي هي معرفة الله بذاته، فمن عرفني فقد عرف الله بالنورانيّة، ومن عرف الله بالنورانيّة فقد عرفني، وهذا هو اتّحاد الولاية والتوحيد! وهو الإشراف العلّي على اللوح المحفوظ فيما يرتبط بجميع عالم الوجود، وقد ورد هذا المعنى في الزيارة الجامعة كما ذكرنا من أنّ مجاري جميع الأمور الإلهيّة إنّما تنشأ من ناحية أياديهم ونفوسهم ومشيئتهم. 

  • فأمير المؤمنين يقول لسلمان: هذه المعرفة هي المعرفة بالنورانيّة، وأنا واسطة عالم الوجود، لذلك يقول: أنا من أوصل سفينة نوح إلى مأمنها، وأنا من أنجى إبراهيم من النار، وأنا من جاوز بموسى البحر، وأنا من رفع عيسى إلى السماء، وأنا من أنجى نوحًا.٢ وكلّ ما يبيّنه أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الرواية هو حقيقة الولاية، وهو عبارة عن مقام العصمة الذي لا معنى للخطأ في التصوّر فيه، لأنّ حضور الأشياء الخارجيّة عند النفس ليس حضورًا تصوّريًّا وذهنيًّا! بل حضور علّي وعينيّ وبالعلم الحضوريّ. 

  • فعندما يقول أمير المؤمنين أنا من أنجى سفينة نوح يعني أنّ حقيقتي هي التي خلقت هذه الحادثة، وأوجدت نوحًا، وخلقت هذه الأحداث، وأنا من جاء بالسفينة وجعلها تستوي على الجوديّ. فنجاة موسى وعيسى وو... ناشيء من حقيقة وجودي أنا، وهذا المقام هو مقام العصمة، وفي هذا المقام سيكون العقل مساويًا للنفس من حيث المرتبة، وما تراه النفس يقضي به العقل، وما يقضي به العقل هو عين ما تراه النفس حاضرًا. 

  • فلم يعد القضاء هنا بترتيب الصغرى والكبرى من القضايا واستنتاج النتيجة، بل الأمر هنا هو بيان الحقائق النفسيّة التي تراها النفس في وجودها، ثمّ تخرجها على شكل العقل في قالب البرهان والدليل، فوراء هذا الدليل والبرهان ذاك الشهود الباطنيّ كشهود عينيّ خارجيّ، لا على نحو الشهود العلميّ والحصوليّ المتعارف والمعتاد! وهذه المرتبة عبارة عن مرتبة العصمة ومرتبة التقوى. 

    1. بحار الانوار، ج ٢٦، ص ۱، باب نادر فى معرفتهم بالنّورانيّه ( ۱٣)، حديث: ۱.
    2. مشارق أنوار اليقين، ص ٢٦۷ ـ ٢۷۰: أنا صاحب الطوفان الأول ، أنا صاحب الطوفان الثاني ، أنا صاحب سيل العرم ، أنا صاحب الأسرار المكنونات ، أنا صاحب عاد والجنات ، أنا صاحب ثمود والآيات ، أنا مدمرها ، أنا مزلزلها ، أنا مرجعها ، أنا مهلكها ، أنا مدبرها ، أنا بانيها ، أنا داحيها ، أنا مميتها ، أنا محييها ...
      أنا صاحب إبليس بالسجود ، أنا معذبه وجنوده على الكبر والغرور بأمر الله ، أنا رافع إدريس مكانا عليا ، أنا منطق عيسى في المهد صبيا...
      أنا المسيح حيث لا روح يتحرك ولا نفس يتنفس غيري ، أنا صاحب القرون الأولى ، أنا الصامت ومحمد الناطق ، أنا جاوزت بموسى في البحر ، وأغرقت فرعون وجنوده ، وأنا أعلم هماهم البهائم ، ومنطق الطير ، أنا الذي أجوز السماوات السبع والأرضين السبع في طرفة عين ، أنا المتكلم على لسان عيسى في المهد ، أنا الذي يصلي عيسى خلفي ، أنا الذي أنقلب في الصور كيف شاء الله ، أنا مصباح الهدى ، أنا مفتاح التقى ، أنا الآخرة والأولى

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

15
  • هل يمكن أن نصل نحن إلى مرتبة العصمة وكمال التقوى؟

  • ثمّ هل يمكن أن نصل نحن إلى تلك المرتبة؟ الجواب هو أنّه لماذا لا يمكننا؟ يقول أمير المؤمنين لسلمان وأبي ذرّ: لا يصل إلى هذه المرتبة إلا من امتحن الله قلبه للإيمان وسلّم لولايتنا، فهو يصل إلى هذه المرتبة، وهذه المرتبة هي مرتبة العصمة. فإذن ما المشكلة في أن يصل المشايع لأمير المؤمنين إلى مرتبة العصمة؟!ما المشكلة في أن يصل وليّ الله والعارف المسلّم للولاية والذي لمس حقيقة الولاية بكامل وجوده إلى مرتبة العصمة هذه؟! هل سيبقى هناك شكّ وترديد وخطأ في كلامه؟ لذلك فإنّنا نرى في أشعار العرفاء والتي ذكرنا بعضًا منها في الجزء الثاني من أسرار الملكوت على ما يبدو ومنها أشعار ابن الفارض المصري العجيبة جدًّا حيث يقول: لقد رأيت جميع عالم الوجود في وجودي ورأيت نفسي مسيطرًا وجميع الأشياء تعبر من نفسي، فهذا كلّه إشارة إلى أنّ المشايع لأمير المؤمنين قد صار في طريق ولاية المولى واتّحد بها، ولا أدري هل ذكرت ذلك للرفقاء أم لا، وسأنهي الموضوع بها البيان: 

  • رواية الفتح بن يزيد الجرجاني حول عدم إمكان وصف المؤمن

  • هناك رواية عجيبة جدًّا عن الفتح بن يزيد الجرجاني أحد أصحاب الإمام الهادي عليه السلام حول مقامات المؤمن حيث يقول إنّه التقى بالإمام في طريقه من المدينة إلى سامرّاء حين أبعد بأمر المتوكّل، وقد جرى بينه وبينه كلام مفصّل وطرح عليه أسئلة، ومرادنا هو جزء من هذه الرواية التي نقلت عن الإمام الهادي عليه السلام حيث يقول للفتح: يا فتح! إنّ اللهَ جلّ جلاله لا يوصَفُ إلّا بما وصف به نَفسَهُ فَأنّى يوصَفُ الذّى يعجِزُ الحواسُّ أن تُدركَه، و الأوهامُ أن تَنالَه، و الخطراتُ أن تحدّه و الأبصارُ أن تُحيطَ به جَلَّ عمّا يصفه الواصفونَ و تعالى عمّا ينعتُه النَّاعِتون نَأى في قُربه، وقَرُبَ فى نَأيِهِ فهو فى نَأيِهِ قريبٌ و فى قُربه بعيدٌ كيَّف الكَيفَ فلا يُقالُ: كيفَ؟ و أيَّن الأينَ فلا يقال أين؟۱ 

  • يريد أن يقول له: يا فتح إنّ الله تعالى لا يوصف، ولا يمكن لذات أن تصف الله وتنعته وتعدّد صفاته؛ لأنّ هذه الصفات التي نبيّنها للّه إنّما هي بحسب مرتبتنا نحن وبحسب مستوى علمنا عن عالم الوجود، وأصحاب الاطّلاع على المسائل الفلسفيّة والعرفانيّة يمكنهم أن يعرفوا ذات الله بشكل أدقّ وأعمق، والذين لا اطّلاع لهم على هذه الأمور من الطبيعيّ أن تكون مدركاتهم ناقصة جدًّا وإن كان لهم نصيب من المراتب العلميّة الأخرى، أمّا معرفة الله وخصوصيّات الأسماء والصفات الكليّة والمراتب الوجوديّة وكيفيّة تجرّد الله والتيامه وتوافق ذاته مع العوالم المختلفة وخصوصًا عالم المادّة، فهي أمور ليست مما يمكن أن تجد له أثرًا في العلوم الأخرى، بل لا بدّ من البحث عنها في مكانها المناسب، لذلك فإنّ جميع الأمور التي يبيّنونها في وصف الله تنتهي إمّا إلى الثنويّة وإمّا إلى الجبر وإمّا إلى الانعزال، لأنّنا لا يمكن أن نوفّق بين عالم التجرّد وعالم المادّة، فنقول: الله في مكان وعالم المادّة في مكان آخر. 

    1. إثبات الوصيّ، ص ۱٩۸، طبعة النجف؛ أسرار الملكوت، ؛ و بحار الأنوار، ج ٥۰، ص ۱۷۷، حديث: ٥٦ نقلاٌ عن كشف الغمّة مع اختلاف یسیر في اللفظ.

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

16
  • يقول الإمام الهادي عليه السلام: الله لا يوصف وهو أعلى من الأوهام والعقول، وكما أنّ الله لا يوصف، فإنّ رسوله أيضًا لا يوصف، فانظروا فالإمام الهادي يريد أن يقول هنا: كما أنّ الله هو الذي يصف نفسه ولا يمكن لأحد غير الله أن يصفه، كذلك فإنّه ينسب العجز عن توصيف النبيّ إلى غير النبيّ ويقول: النبيّ أيضًا لا يوصف، أي إنّ حقيقة النبيّ الأكرم كالله لا تقبل التوصيف. 

  • والآن يجب أن ننظر كيف يمكن أن نتصوّر هذا الأمر؟ هل المقصود أنّ رؤيتنا للنبيّ لا يمكن أن توصف؟! حتمًا ليس كذلك لأنّ كون النبيّ له خصوصيّات ككونه ابن عبد الله بن عبد المطّلب مثلاً وآمنة بنت وهب، أو خصوصيّات أخرى من قبيل طول قامته ولونه وشعره وأسنانه وخلُقه الكريم وو... فإنّ جميع ذلك يقبل الوصف كما جاء في القرآن الكريم: {وإنّك لعلى خلق عظيم} ۱ فأن نقول إنّ النبيّ كان رؤوفًا ورحيمًا جدًّا، وكان عطوفًا في تعامله مع الناس، وكان يعفو ويصفح كثيرًا وأمثال هذه الأمور الكثيرة التي لدينا، وجميعنا يدرك ذلك ونصف النبيّ على أساسه، فإذن ما هو مراد الإمام الهادي من قوله إنّ النبيّ لا يقبل التوصيف؟ فلو قصدتكم أيّ عالم وطلبتم منه أن يصف النبيّ فإنّه بتصفّح بضعة كتب يأتي بصفات النبيّ وأنّه كان يتميّز بهذه الخصوصيّات. ومضامين هذه الكتب صحيحة إلى حدٍّ ما، فمثلاً كان عمره بضعًا وستّين سنة، حياته، حروبه، أخلاقه، سلوكه، عبادته، تهجّده، معاشرته مع الناس كانت هكذا، وجميع الناس كانوا يثنون عليه ويمدحونه بمكارم الأخلاق، ولا يمكن لأحد أن يجد في النبيّ نقطة ضعف. 

  • ولكنّ الكلام هو في أنّ هذه الأمور هي أعلى وأرقى وصف وتمجيد ومنتهى ما يصل إليه علم أكبر علماء الدين حول النبيّ وفكره؟!

  • ألم يقل بعضهم استنادًا إلى الآية المباركة: {قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ}٢ أنّ النبيّ مثلنا ولا يختلف عنّا في الكمالات والعلم والفهم و... فمعنى هذه المقارنة هو أنّا كما لا ندرك شيئًا فهو أيضًا لا يدرك، ولو شاء الله أفهمنا وهو كذلك، فهذه نهاية علمنا بالنسبة إلى النبيّ، غير أنّ الإمام الهادي عليه السلام ليس كذلك، الإمام الهادي يختلف عنّا. الإمام الهادي يقول للفتح بن يزيد الجرجاني: ما تصفون به النبيّ هو بمستوى فهمكم أنتم وإدراككم، فكما أنّ ذات الله لا تقبل الوصف، فإنّ ذات رسول الله لا تقبل الوصف. ثمّ يقول: كما أنّ ذات الله ورسول الله لا تقبل الوصف فإنّ ذات الإمام عليه السلام أيضًا لا تقبل التوصيف، فأنت الآن إذ تسير معي ليس لك اطّلاع على ذاتي أنا الإمام الهادي، ولا تعلم بما يجري في قلبي، فأنت لا ترى إلا ظاهرًا وبدنًا فكلّما سألتني أجبتك، وتظنّ أنّنا نعلم الغيب بنسبة ما، لأنّ الإمام الهادي عليه السلام كان يبرز بعض المعجزات، فمثلاً عندما جاء عدد من الرجال من قبل المتوكّل بإمرة يحيى بن هرثمة لإحضار الإمام الهادي عليه السلام إلى سامرّاء يقول يحيى بن هرثمة: ناظر أحد رجال الشرطة ممّن كان معي وهو من الخوارج كاتبي الشيعيّ، وأنا كنت من أتباع مذهب الحشويّة، وكنت أستمع إلى المناظرة من باب الاستراحة لتهون عليّ الطريق. 

    1. سورة القلم الآية ٤. 
    2. سورة الكهف، الآية ۱۱۰. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

17
  • وفي هذه الأثناء وعندما وصلنا إلى منتصف الطريق قال ذلك الشرطيّ لكاتبي: أليس هذا كلام صاحبكم عليّ بن أبي طالب من أنّه ما من بقعة من بقاع الأرض إلا وقد دفن فيها أحد أو يدفن؟ حينها قلت أنا أيضًا لكاتبي مستهزئًا: حقّ ما يقوله، كيف يمكن ذلك؟! وبتأييدي صار كاتبي منكسرًا مهزومًا وبقينا نضحك بسبب هذا الكلام مدّة إلى أن وصلنا إلى المدينة وإلى منزل أبي الحسن عليّ الهاديّ عليه السلام فسلّمناه رسالة المتوكّل فوافق. 

  • وفي اليوم التالي حين تشرّفنا بمحضر الإمام، وبينما كنّا في شهر تمّوز وفي أعلى درجات الحرارة رأينا متعجّبين خيّاطًا يفصّل للإمام وغلمانه ثيابًا غليظة من الصوف تلبس في الحرب أو البرد الشديد والمطر والثلج، عندها قال الإمام للخيّاط: أحضر على الفور عددًا من الخيّاطين لخياطة هذه الثياب، ويجب أن ينهوا ذلك في نهاية هذا اليوم، ثمّ أحضرها لي غدًا أوّل النهار، ثمّ قال لي الإمام: يا يحيى أَنْهِ ما يلزمك في المدينة واغدُ عليّ مستعدًّا للسفر. 

  • يقول يحيى: فخرجت من عنده متعجّبًا أقول في نفسي: نحن في حرارة تمّوز وليس بيننا وبين العراق أكثر من عشرة أيّام من المسير، فلأيّ شيء يريد الإمام هذه الثياب الخاصّة؟! ثمّ قلت في نفسي: ليس لهذا الرجل كثير تجربة في السفر، وهو يأخذ هذه الثياب احتياطًا لنفسه وغلمانه، وأنا أتعجّب من الرافضة القائلين بإمامة إمام كهذا وبهذا المستوى من الفهم. يقول يحيى: في اليوم التالي حضرنا في الوقت المحدّد إلى الإمام وكانت تلك الثياب جاهزة بأجمعها فقال الإمام لغلمانه خذوا لنا هذه الثياب والقلانس الخاصّة وقال لي: اركب يا يحيى وانطلق. فقلت: إنّ فعل الإمام هذا أعجب من فعله ذاك، أفهل يخاف أن يصل الشتاء ونحن في منتصف الصيف حتّى صار يجهّز مرافقيه بهذه الثياب الخاصّة؟! فخرجت برفقته من المدينة وأنا أستصغر فهم الإمام فكنّا نطوي المنازل الواحد تلو الآخر إلى أن وصلنا إلى ذلك الموضع حيث كانت المناظرة بين أحد شرطتي وبين كاتبي حول الأموات، وفجأة ارتفع في السماء سحاب مركوم وأظلمت السماء وحصل رعد وبرق شديدان، وعندما صارت الغيوم فوق رؤوسنا تساقط برَد كالحصى على رؤوسنا وجاء برْد شديد، وبينما كان الإمام وغلمانه في أمان من الأخطار بسبب ثيابهم الغليظة قال الإمام لغلمانه: أعطوا يحيى ثوبًا وأعطوا كاتبه قلنسوة، ورغم أنّه بذلك أنجانا إلا أنّ البرد الشديد كان يؤذينا من كلّ ناحية حتّى إنّ ثمانين رجلاً من أصحابنا قتلوا، ثمّ زالت الغيوم وعاد حرّ تمّوز كما كان. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

18
  • حينها قال الإمام لي: يا يحيى ترجّل عن مركبك لتدفن الموتى من أصحابك، واعلم أنّ الله يملأ الصحاري بالموتى هكذا. 

  • يقول يحيى: ألقيت بنفسي عن الخيل وأسرعت نحو الإمام أقبّل ركابه ورجليه وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله وأنّكم أنتم خلفاء الله في الأرض وقد كنتُ يا مولاي إلى الآن كافرًا، والآن أسلمتُ على يديك. 

  • يقول يحيى: ومنذ ذلك الحين تشيّعت وصرت ملازمًا للإمام حتّى مات.۱

  • فالإمام يقول للفتح بن يزيد الجرجاني إنّه كما أنّ ذات الله لا توصف وليس هناك ذات يمكنها أن تصفها سوى ذات الله، وكما أنّ ذات رسول الله لا يمكن أن توصف فإنّ ذات الإمام أيضًا لا يمكن أن توصف، والإمام عندنا هكذا، فالإمام يريد أن يقول للفتح: أن تكون الآن قربي وترى أنّي أبيّن لك علم الغيب وترى ما جرى لذلك الشرطيّ فعليك أن تعلم أنّ كلّ ذلك ليس بالأمر المهمّ وهو بالنسبة لنا حطّ لمقامنا ويسبّب لنا العار، أنت لا تدري ماذا يجري في أعماق قلبي، لا تدري أين هي نفسي، لا علم لك بذلك أبدًا، أنت تسأل بمقدار فهمك، وأنا أجيبك بهذا المستوى أيضًا، ولو رفعت الستار قليلاً لقُطِّعْتَ إربًا وانفجرت، أو لجننت أو لمضيت إلى الجبال والصحاري، لذلك فإنّي أجيبك بمستوى فهمك وإدراكك لا أرفع من ذلك، نعم ارفعْ مستوى فهمك لكي أرفع مستوى جوابي أنا أيضًا.

  • هنا يتابع الإمام الكلام ويصل إلى نقطة تستحقّ الكثير من التأمّل حيث يقول: كما أنّ ذات الله ورسول الله وذات الإمام لا يمكن أن توصف فإنّ ذات المؤمن المسلّم لأمرنا أيضًا لا يمكن أن توصف، وهذا هو مقام العصمة. 

  • لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا الكلام ليس من الحقير، بل هو كلام الإمام الهادي عليه السلام الذي يقول إنّ العجز عن وصف ذات الله مساوٍ للعجز عن وصف المؤمن والشيعيّ المسلّم لأمرنا، ومعنى التسليم لأمرنا هو أنّه جعل ذاته فانية في ذاتنا، ولم يعد ذلك الإنسان كأيّ إنسان نراه، نعم هو في الظاهر هكذا وله خصوصيّات فمثلاً لون شعر رأسه ولحيته كذا، وممشاه كذا، ولكنّه مصداق لهذا البيت من الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام: 

    1. بحار الأنوار، ج ٥۰، ص ۱٤٢، حديث: ٢۷، نقلاً عن الخرائج للراوندي.

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

19
  • أتزعَمُ أنَّك جِرمٌ صغيرٌ***و فيك انطوى العالَمُ الأكبَر
  •  

  • فهذا المؤمن المسلّم لأمرنا هو المؤمن الذي وصل إلى مقام العصمة، أي إلى المقام الذي تظهر فيه جميع الحقائق بشكل خارجيّ في نفس الإنسان، غاية الأمر أنّ ذلك تحت ولاية الإمام، وفي كلّ زمان تحت ولاية إمام ذلك الزمان، اليوم وفي هذا الزمان فإنّ إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه هو وليّ العالم، وهو المشرف على اللوح المحفوظ وعالم الوجود، وهو بذلك معصوم عن الخطأ، لا لأنّه صاحب علم، بل لأنّ اللوح المحفوظ في نفس الإمام ولأنّ نفس الإمام لها وجود خارجيّ، فبواسطة ذلك إمام معصوم، لا أنّ الله يقول له شيئًا ويخبره ببعض الأسماء وببعض الأمور، كلاّ بل حيث إنّ عالم الوجود هو في نفس الإمام المعصوم، فلا معنى للخطأ عنده، وجميع الحقائق عنده، فذاك الآخر جالس هناك وهو مشرف على الجميع إشرافًا عليًّا. 

  • وهنا يرتقي الأمر عمّا كان عليه فيما يرتبط بالأمر الأوّل، لأنّ الأمر الأوّل كان الحضور المحسوس، أمّا فالمشيئة وعمليّة نزول الفيض الإلهيّ من أسماء وصفات ولاية الإمام نفسه، وهذا أرفع من ذاك، فذلك الوليّ الذي هو شيعيّ وموال للإمام ومسلّم لأمره بهذا المعنى وفان في ولايته، فقد خرج من مرتبة البشريّة، ووصل عقله إلى مرتبة العقل الفعّال المدبّر لكافّة التعيّنات الخارجيّة في حقيقة عالم الوجود، فعقله ونفسه قد وصلا في مقام الشهود إلى مرتبة من التوازن والتساوي والاتّحاد، لذلك فإنّ الحكم الذي يحكم به يستند إلى العصمة، والوليّ هو إنسان كهذا، وهذا هو الشيعيّ التابع لأمير المؤمنين والشيعيّ التابع لإمام الزمان، إنّه معصوم في حكمه وقضائه ورؤيته التي يطرحها كالإمام نفسه لا يختلف عنه أبدًا. 

  • وهذه المرتبة عبارة عن أعلى مراتب التقوى التي يقول الإمام الصادق عنها لعنوان البصري: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتّقين. فالعاقبة للمتّقين، وهم الذين يصلون في النهاية إلى مرتبة العصمة كما وصل الإمام عليه السلام إلى مرتبة العصمة، غاية الأمر أنّ الفرق هو أنّ عصمة الإمام عليه السلام هي عصمة في ظلّ ولاية الحقّ، وعصمتهم هي عصمة في ظلّ ولاية وإشراف الإمام لأنّه هو أيضًا يمتلك هذه العصمة.

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

20
  • هذا العصب الذي يحرّك الآن أصابع يدي من أين جاء؟ افترضوا أنّه جاء من الفقرة الثالثة من الظهر، وخرج من النخاع، وجاء بواسطة مركز هذا العصب إلى هنا، فإذن أصل هذا العصب هو من ظهر الإنسان وهو متّصل بالدماغ، فهل يمكن أن نقول إنّه اتّصال العصب بالدماغ مقطوع؟ كلاّ لأنّه لو انقطع لحظة لما تحرّكت اليد وتوقّفت عن العمل، فهي دائمًا متّصلة بما أنها تتحرّك. 

  • فأصل عالم الوجود وعصبه الأساس هو وجود الإمام عليه السلام، هو الذي يأتي كحقيقة واحدة ـ لا حقيقتين لأنّ هذه الحقيقة مرتبطة بتلك الإرادة والفعل والانفعالات الفزيائيّة وليست منفصلة عنها ـ فتحرّك جميع عالم الوجود كعصب الجسم الساري في كلّ واحد من أصابع اليد وكلّ واحد من الأعضاء وفي كلّ رأس إبرة من الجسم وكلّ ظفر وشعرة، لماذا تتألّم إذا ما اقتلعت شعرة؟ لأنّها متّصلة بالعصب وبالدماغ أليس كذلك؟ لو حصل في ذلك النصف من الدماغ اختلالات لما عملت هذه اليد ولو حصلت في هذا النصف اختلالات لما عملت اليد الأخرى. 

  • ولاية الإمام عليه السلام هي عين إرادة الله ومشيئته كما ورد في الأدعية والزيارات۱، فتلك الإرادة هي الولاية التي أوجدت اللوح المحفوظ، لا أنّها تشرف عليه بل هي توجده، أفهل يمكن أن يوجد إنسان شيئًا ولا يكون مشرفًا عليه؟! هو نفسه أوجد اللوح المحفوظ، يقول أمير المؤمنين لسلمان وأبي ذرّ: أنا من أرسى السفينة، فمن قال إنّه نوح؟ أنّى لنوح أن يقوم بذلك من دون ولايتي؟! فالعمل الذي يقوم به نوح إنّما يقوم به بولاية أمير المؤمنين وليس منفصلاً عنه. 

  • وأشعار مولانا عجيبة جدًّا ولها حكايات، وهناك لطائف وإشارات يجب أن تتّضح لأهل المعنى، فحيث إنّ النبيّ نوحًا فان في ولاية أمير المؤمنين استطاع أن يريد، ولأنّ موسى كان فانيًا في ولية أمير المؤمنين استطاع أن يشقّ البحر ويبدّل العصا إلى ثعبان، ولأنّ عيسى كان فانيًا في ولاية أمير المؤمنين استطاع أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والمجذوم بإشارة منه، فكلّ ذلك يحصل بسبب الفناء في الولاية، وهكذا المؤمن إذا فني في الولاية يمكنه أن يحصل على هذه المراتب والكمالات. 

    1. كما في أدعية شهر رجب في مفاتيح الجنان: اللهم انّى أسألك بمعانى جميع ما يدعوك به ولاة امرك ....

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

21
  • وبناء على ذلك فإنّ تلك المرتبة من التقوى التي يشير إليها الإمام الصادق في آية {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقّين}.۱ لقد جعلنا الدار الآخرة للذين لا يبحثون عن الإنكار، يقبلون الحقّ ولا يفرّون إلى هنا وهناك، إذا رأوا الواقع قبلوا به ولم يفكّروا بأنّهم إن قالوا ماذا سيجري، حينها يجب أن يقال له: لقد خسرت وانتهى الأمر، خسرت، ومن البداية علينا أن لا نسمح لهذا الإنكار أن يأتي إلى الذهن، وقد كان المرحوم العلاّمة يقول هذا، وهذا هو الحقّ. 

  • لا بدّ أن نعلم أنّ هذا الأمر وتحصيل هذه التقوى ليس بالدراسة، ولو قرأنا من الكتب مدّة عمر نوح فلا فائدة، بل هذا الطريق يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى مراقبة، فالسلوك يحتاج أن يتحرّك الإنسان وأن يعمل بهذه الأمور الواحد تلو الآخر، وإذا ابتلي بهذه الأمور لا يتوقّف، حينها سيكون قد خسر، وهذا العبور يؤدّي إلى حصول مرتبة أعلى، وهكذا العبور من المرتبة الأعلى، أمّا لو توقّف في مرتبة فإنّه سيتوقّف، وقد جاء في الآية القرآنيّة: {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد}٢ علينا أن نداوم ونحافظ كثيرًا على هذه الآيات ولا نظنّ أنّ أوضاع الدنيا هكذا بغير حساب وعلى أساس الصدفة، كلاّ، بل لكلّ شيء حساب، فالعاجلة تعني الدنيا من العجلة، من أراد الدنيا عجّلنا فيه فيها ما نشاء لمن نريد، أعطيناه ما يريد بقدار ما نريد نحن لا أكثر، فلا يتصوّرنّ أنّه لو أراد أن يفتح الدنيا كلّها قلنا له: تفضّل. كلاّ. فلسنا نجعل السماء والأرض والملائكة تحت تصرّف من كان في مقام الإنكار، وإلاّ فإنّ كثيرًا من الظالمين يريدون أن يبيدوا الدنيا كلّها! فليس هذا العالم متروكًا سدى لكي نعطيه كلّ ما يريد، كلاّ، بل نعطيه مقدارًا من الأهواء والرغبات النفسيّة والفرعونيّة والنمروديّة ونقول له: مباركة عليك. ولا نعطيه كلّ شيء، وإلاّ لما بقي شيء على وجه الأرض قال: 

  • گربه مسكين اگر پر داشتى‌***تخم گنجشك از زمين برداشتى‌
    1. سورة القصص الآية ۸٣. 
    2. سورة الإسراء، الآية ۱۸. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

22
  • لو كان لك أيّتها الهرّة المسكينة أجنحة لقضيت على بيوض الطيور في الأرض

  • فلو كان المقرّر أنّ كلّ إنسان يفعل ما يريد لما بقي حجر على حجر، كلاّ ففي النهاية لكلّ شيء حسابه، من أراد أن يكن نمرود في هذه الدنيا أو فرعون فإنّه نعطيه مجالاً بمقدار ما، فلتكن نمرود وفرعون! لا إشكال في ذلك، مبارك عليك! {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً}۱ فهذا للدنيا، وهناك يوم آخر أمامنا، اليوم تفرعنت هنا، وأبرزت الأنانيّة، ولكن التفت سيأتي الغد وستجيب عن أعمالك! ومن أراد الآخرة من طلب الآخرة ـ الإمام الصادق يستشهد بآية تلك الدار الآخرة ـ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيهاولم يجلس فقط ويقرأ الكتب، لم يقتصر على المشاركة في هذا المجلس وذاك، ولم يؤنس قلبه بمجرّد استماع الأحاديث وأمثال ذلك، كلاّ، وسعى لها سعيها فعندما سمع الكلام عاهد أن يعمل به من حينه، منذ أن سمع قرّر أن يعمل به منذ ذلك اليوم، فهذا هو السعي، لأنّ الإنسان المهتمّ يتابع، {وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا}.٢ {كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك...}٣لقد أعطينا هذا ونعطي ذاك أيضًا! نعطيه الفرعونيّة التي كان يريدها! الآخرة التي كان يريدها نجعلها بين يديه أيضًا، فهو لم يأت بحكومة هذا البلد من عنده، ففي النهاية ذهب الناس وانتخبوه، فمن الذي ألقى في أذهان الناس أن ينتخبوه؟ نحن الذين ألقينا في أذهانهم أن اذهبوا وانتخبوه! إنّه يريد أن يصبح فرعون فانتخبوه! هذا يريد أن يصبح نمرود فانتخبوه! 

  • أمّا من لا يريد أن يصبح نمرود بل يريد أن يكون تحت طاعة الله، ولكن الظروف صارت بنحو يجرّه نحو ذاك الاتّجاه فإنّا لا نسمح له أن يحرز الأصوات! وننحّيه جانبًا، ونحدث له أمورًا وأحداثًا ليخرج عن المسرح، يصيبه حجر على رأسه فيذهب إلى المستشفى، تنكسر رجله ويبقى في البيت، أو يفلس ويبقى في البيت، يحدث له حادث في حياته يستتبع ألف مشكلة ونحن لا اطّلاع لنا، وهذا بسبب اتّباع الولاية! فمن كان يريد اتّباع الولاية فإنّنا نحن نتحكّم به في هذا الجانب وذاك، اليوم من هذا الجانب، وغدًا من ذاك، اليوم يتوقّف هنا، واليوم يتحرّم هنا، حتّى لا تحصل له هذه الأخطار وتمنعه من الوصول إلى المقصود، لذلك فإنّ الآية تقول بكلّ وضوح: إذا خطرت في ذهنك فكرة شيطانيّة وأردت أن تكون ذكيًّا، فلا تظنّ أنّك أنت تقدر! كلاّ بل كلاًّ نمدّ... فنحن نمدّك أنت تريد أن تفعل ذلك حسنًا، لما أنّك تريد ذلك، لا نقول للملائكة شيئًا فهم لا يفعلون هذه الأعمال، بل نقول للشياطين: أيّها الشياطين اذهبي وساعديه! بما أنّه يريد أن ينحرف عن طريقنا فاذهبي وساعديه ولا تدعيه وحيدًا! لا تتركوه في منتصف الطريق، فالشيطان لا يترك في منتصف الطريق، يأتي ويقول له: لنفعل هذا ولنفعل هذا! لنتّصل بهذا وبذاك، لنغتب، لنتّهم، فيفتح الطرقات الواحد تلو الآخر، حتّى يصل إلى الهدف حينها يقول ما أجمل هذا لقد وصلنا، فلنحتفل! و...

    1. سورة الإسراء، الآية ۱۸. 
    2. سورة الإسراء، الآية ۱٩. 
    3. سورة الإسراء، الآية ٢۰. 

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

23
  • طبعًا مرادنا من الانتخابات هو الكفر والظلم والجور وأمثال ذلك، أمّا الأمور الحقّة وحكم الله والأمور الحقيقيّة فليست هي المقصودة، هنا على الإنسان أن يرى بنفسه هو في أيّ صف؟ نحن لا يمكن أن نخدع أنفسنا والآخرين، كلاًّ نمدّ فإذا رُفضنا هنا فسنُرفض هناك، ثمّ يأتي الله أيضًا بالاختبار اللاحق ويقول: لم تقبل الحقّ هنا، لقد أمرنا الشياطين أن يساعدوك، أن يكتبوا عنك الرسائل والإعلانات، وأن يبعدوا هذا وأن يجمعوا حولك الناس ويفعلوا كذا وكذا وقد ساعدوك لتصل إلى هدفك، حسنًا، الآن يشجّعونك لتصل إلى المرحلة اللاحقة، فيا أيّها المسكين سنرسل الشياطين أيضًا في المرحلة الثانية لمساعدتك، فيساعدونك، هذه الأمور التي أذكرها لا أذكرها من عندي، وإنّما سمعتها من الأعاظم والأولياء والعرفاء، وفي المرحلة اللاحقة أيضًا نرسل ونرسل وهكذا نرسلهم حتّى يساعدوك ويوصلوك شيئًا فشيئًا إلى المستوى الذي نريده نحن لا أكثر... عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد... إلى المستوى الذي نريده..ثمّ جعلنا له جهنّم يصلاها مذمومًا... أمّا لو لم يكن هكذا، لو أراد أن يكون طريقه طريق الحقّ وطريق ولاية إمام الزمان وطريق الطاعة، فإنّ الإمام يقول للملائكة: اذهبوا ساعدوه! يأتي جبرائيل ملاك العلم مع الجنود الذين تحت يده ويقولون له: افعل كذا! لا تذهب إلى هذا المكان! اجلس هنا! لا تتكلّم بهذا الكلام! لا تفعل كذا! قل هذا! وهنا قل هذا! فهذا الإنسان يسير في طريق الراحة والانبساط واطمئنان البال وفي طريق الطمأنينة! أليس كذلك؟! ألا يشعر الأصدقاء بذلك؟! فلينظروا إلى الدنيا ليشاهدوا ما فيها، اضربوا رؤوس بعضكم، فهذا يرسل إلى هذا صاروخًا وذاك يرسل له قنبلة، وهذا يرسل كذا وذاك يتّهمه. 

  • «جان همه روز از لگد كوب خيال***»
  • والنفس كلّ يوم من ضربات الخيال...۱ تأتيهم أنواع الخيالات حتّى إذاأرادوا أن يناموا ليلاً قالوا: غدًا أذهب وأصفّي حسابي معه، لقد كتب عنّي في إحدى الجرائد كذا وكذا، فعليّ أن أجيبه! عليّ أن ألعن آباءه! وذاك أيضًا يقول مثله: عجيب! هل قال هذا الكلام؟! أعلم ماذا سأقول له، وتنتهي الدنيا كلّها وأيّام هؤلاء ولياليهم بهذه الأمور، لا نوم لديهم ولا يقظة، يرون الكوابيس دائمًا... أمّا أنت فإنّك تغطّي رأسك باللحاف وتنام بهدوء حتّى الصباح ويجب أن يوقظوك بالقوّة لتستيقظ، وليس نومك بهدوء يعني كونك عاطلاً عن العمل، بل بمعنى الاطمئنان والسكينة وامتلاك الملجأ والمعتمد والثبات، فهذا ما يعطي للإنسان سكينة، يعمل الإنسان بواجبه وبتكليفه، يقول التكليف هنا قم بهذا، فيقوم به، وهنا لا تقم به فلا يقوم، وليقل الناس ما شاؤوا، ولتقل الدنيا كلّها: لماذا لم تسلك هذا الطريق؟! أو تقول: لماذا سلكت هذا؟! فلا فرق عنده. 

    1. مثنوى معنوى، دفتر اول، ص ٢٢: 
      بر خيالى صلحشان و جنگشان‌ *** از خيالى‌ فخرشان و ننگشان‌ 
      جان همه روز از لگدكوب خيال‌ *** وز زيان و سود و از خوف زوال‌
      نى صفا مى‌ماندش نى لطف و فرّ *** نى به سوى آسمان راه سفر 
      یقول مولانا جلال الدين الرومي: 
      صلحهم وحربهم على الخيال فخرهم وعارهم من الخيال
      والنفس كلّ يوم من ضربات الخيال ومن الربح والخسارة ومن خوف الزوال
      لا يبقى لها صفاء ولا لطف ولا يبقى لها طريق إلى السماء

كيف تحصل أعلى مراتب التقوى؟

24
  • وهذا هو السبب في أنّه لا بدّ من اتّباع المعصوم لا غير، سواء كان النبيّ أو الإمام عليه السلام أو ذلك الشيعيّ الذي قال عنه الإمام الهادي عليه السلام: لقد وصل إلى هذه المرتبة من التقوى والعصمة وأمّا غيره فجميعهم يحتمل فيهم الخطأ والانزلاق. 

  • نسأل الله تعالى أن يحفظنا من جميع الأخطار في ظل الولاية وأن يحقّق فينا ما يريده أولياء الدين وقادتنا بحوله وتوفيقه وعناية وليّه، وأن يحفظنا من فتن آخر الزمان هذه. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد