المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالتقوى ومراتبها
التاريخ 1427/06/11
التوضيح
هو العليم
الهمّة الأولى وأثرها في مصير السالك
شرح حديث عنوان البصري - المحاضرة ۱٣٣
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
كيف تؤثّر الهمّة الأولى للسالك في مصيره ومرتبته؟
تناسب الهمّة مع الهدف
كان الحديث في الجلسات السابقة عن مستوى ومقدار الهمّة والإرادة والنيّة التي يجب على الإنسان أن يمتلكها في مسيره وهدفه ومقصوده.
وذكرنا أنّ لكلّ هدفٍ مقداراً من الهمّة والإرادة يبذله الإنسان بما يتناسب مع أهميّة ذلك الهدف والوصول إليه، فمثلاً من يريد أن يقطع فرسخاً ويأخذ دواءً إذا أراد أن يذهب بوسائل النقل العام كفاه مائةتومان أو مئتان، فالهدف الذي هو في فرسخٍ يُبلَغ بهذا المقدار من المال، وهكذا من حيث وضع الإنسان وحاله، فإنّ القدرة اللازمة لقطع فرسخٍ والعودة لا تعدّ شيئاً يُذكر. ولو كان رأسه أيضاً يؤلمه فإنّه يقول أذهب وأرجع لا مشكلة، ولو كانت بطنه تؤلمه أيضاً يقول: لن يضرّني الذهاب والإيّاب مدّة ربع ساعة، هذا المقدار يمكن التساهل فيه والتسامح، أمّا إذا كان لدى الإنسان سفرٌ لأجل الزيارة أو رحلةٌ طويلة فابتلي ليلاً بألمٍ في البطن فلا يقول: نتوكّل على الله ونذهب. بل يقول: ربّما تحدث لي مشكلة. وهكذا بالنسبة إلى مستوى النفقات والمال الذي ينبغي أن يعدّه فإنّه لا يكتفي بخمسمائة تومان وألف تومان بل يأخذ مبلغاً كبيراً.
وبصورةٍ عامة كلّ شيءٍ جعله الله شغلاً شاغلاً للإنسان في هذه الدنيا سواءٌ كان من الأمور الدنيويّة أو الأخروية له برنامجه ومنهاجه الخاص، فلا يختلف الأمر سواءٌ في المسائل الدنيويّة أو الأخرويّة.
أقول هذا للرفقاء لكي أوضّح الأمر حول اهتمام الأعاظم بطريقهم ومسيرهم، وبعبارةٍ أخرى حول عدم اتّخاذهم الأمر مزاحاً ولعباً وعدم تركه ينقضي كيفما كان، وقد طُرحت هناك أسئلةٌ وإبهاماتٌ حول هذه الجملة التي كنت قد ذكرتها وهي: أنّ كلّ إنسانٍ سيكون مآله موافقاً للحالة التي جاء عليها. فقد طرح الأصدقاء أسئلةً حول ذلك وخطر في أذهانهم أمورٌ قلت نوضّحها قبل أن ندخل في بحثٍ جديدٍ حول موضوع التقوى ومراتبها والفرق بين التقوى في مفهومها العرفي والتقوى الحقيقية.
إنّ الطريق الذي جعله الله للإنسان سواءٌ فيما يرتبط بأمور الدنيا أو الآخرة هو طريقٌ واحدٌ وعلى منوالٍ واحد، وكلاهما يستندان إلى منطقٍ واحد ويتمتّعان بقانونٍ واحد. فإن كانت المسألة الأخرويّة والمعنويّة مسألةً عاديّةً فينبغي أن يكون الاهتمام بها بهذا المستوى أيضاً، وأمّا إذا كانت المسألة الأخرويّة مهمّةً، فينبغي أن يكون الاهتمام بها أيضاً كبيراً جدّاً.
ما هو العمل الأكثر تأثيرًا في تقدّم السالك؟
فمثلاً لدينا في بعض البرامج، والمرحوم العلامة نفسه أيضاً أشار إلى هذا الأمر في كلامه وكتبه وأنّه سأل بعض أساتذته أن ما هو العمل الأكثر تأثيراً والأقوى والأهمّ لأجل تقدّم السالك في الأمور السلوكيّة؟
فكان بعضهم يقول: بعد إتيان الفرائض والواجبات سيكون رفع حوائج الناس أهمّ عاملٍ في سرعة طيّ الطريق وقوّته، وفي الاستقامة والتقرّب في الطريق والمسير.
وقال بعضهم: إنّ المراقبة هي أهمّ الأمور في هذا المجال.
وقال بعضهم: الإحسان إلى الوالدين وبرّهما هو أهمّ العوامل ومفتاح الطريق لحركة السالك.
ولكن إذا أردنا أن نجعل جميع هذه الأمور في قالبٍ واحد يمكن أن يكون هذا القالب مختصراً في هذه النقطة وهي أنّه لا فرق عند السالك بين القلّة والكثرة والصغر والكبر، يجب على السالك أن يجعل مسيره وطريقه تحصيل رضا الله، وهذه الجملة تكفي لكلّ شيء. طبعاً يمكن أن يكون لذلك المورد في الخارج آثارٌ أكثر لا أن يكون للإنسان اهتمامٌ أقلّ بإيذاء قلوب الآخرين ولكن يكون لديه اهتمامٌ أكثر بوالديه، كلاّ، فكلا الأمرين خاطئ، فأحياناً يمكن أن يكون هناك أثرٌ أقلّ في أذيّة الآخرين بينما يكون الأثر أكبر في أذيّة الأبوين. لا أنّه لا مشكلة فيه ولا يؤدّي إلى نقصٍ في الطريق، كلاّ، فقد رأيت بنفسي أنّ المرحوم العلاّمة أو بعض الأعاظم كانوا يقولون لواحد ما إنّ فتح الباب بالنسبة لك وحلّ مشكلاتك هي أن ترفع تلك المشكلة بينك وبين فلان، والحال أنّهم ليسوا من أقاربه أو أرحامه وهذا الإنسان لم يوفّق للقيام بهذا الأمر بسبب المشكلات النفسيّة، ثمّ وقع في المهالك ووصل إلى ما لم يكن مُتوقّعاً، فالأمر لا يختصّ بالوالدين، نعم أمرهما أكثر أهميّةً، ولكنّ الكلام هو في أنّ النظام التربوي والتشريعيّ في عالم الأسماء والصفات مطابقٌ للنظام التكوينيّ والحقائق الخارجيّة ولا فرق بينهما، فحركة الإنسان من عالم النفس والكثرات إلى عالم التجرّد والتقرّب تحتاج إلى قواعد وقوانين، فإذا سار الإنسان وفقها طوى عوالم النفس الواحد تلو الآخر، وإلا لو عمل في هذا المورد وفق المطلوب وفي موردٍ آخر وفق ما يريد زيادةً عن المقدار المطلوب، وفي موردٍ ثالثٍ وفق ما يريد أقلّ من المطلوب، وفي موردٍ رابعٍ أبدى حساسيّةً لأمرٍ ما زائدةً عن المطلوب وفق هواه، فإنّه لن يتحرّك خطوةً واحدةً، لماذا؟ لأنّ جميع هذه الحركات والسكنات والمشاغل في هذه الدنيا قد تحقّقت وفق ما يريد الإنسان ويهوى، لا وفق إرادة الله ورضاه.
يريد أن يوفّق بنحوٍ ما بين جانبين، فمن جهةٍ يريد أن ينفّذ إرادة الله ورضاه في هذه المشيئة وهذه الحركة ليقول له: أرأيت فقد أدّيت. ومن جهةٍ أخرى يريد أن ينتهي الأمر بما لا يضرّ بشخصيّته ومكانته في الواقع، وكما يُقال: بما يحافظ على صورته الخارجيّة وشؤونه، إضافةً إلى رضا الله. فما هي النتيجة؟ النتيجة أنّ الخطوة الأولى إلى السطح والثانية في الهواء، النتيجة هي الجمع بين الأمور المتنافية، فالإنسان يريد أن يهتمّ برضا الله ورضا الله لا مزاح فيه، فأحياناً يكون قاطعاً وأحياناً يكون مرّاً، وأحياناً يكون قاتلاً. وأحياناً ـ وليس أحياناً بل غالباً ـ كلّما اهتمّ الإنسان بشأن نفسه ومقامه قلّ اهتمامه بشأن الآخرين وكرامتهم فأصلاً لا يخطر في ذهنه أنّ هذا العمل الذي يقوم به وهذا الخطأ الذي ارتكبه يريق ماء وجه إنسانٍ آخر، قلّة المبالاة بمسؤوليّتي تريق ماء وجه إنسانٍ آخر، ولكن ما إن يعود الأمر إليه ويأتي دوره هو فإنّه يفعل المستحيل كيلا يُراق ماء وجهه، أفهل هذا سلوك؟! لماذا؟! بماذا تختلف كرامة الآخرين عن كرامة الإنسان؟! بماذا تختلف شؤون الآخرين وشخصيّتهم عن شؤون الإنسان؟ بماذا يفوق الإنسان الآخرين؟! وبماذا يختلف الأمر من وجهة نظرٍ توحيديّة وإلهيّة؟ إن كنت أنت عبداً للّه فالآخرون أيضاً عباد فبماذا تختلف عنهم؟! إن كنت في حالةٍ ما مشكلةٍ وتعرّضت كرامتك للخطر أمام الزملاء والشركاء بسبب نقصٍ ما فماذا يحدث لك؟ وماذا تصنع حتى لا تقع في هذا الخطر؟ كيف تتصرّف؟ تجري ألف مكالمة من الصباح حتّى المساء كي لا تقع في هذه المعضلة ولا يُراق ماء وجهك أمام الآخرين، كي لا يقال إنّ هذا الإنسان عديم المنطق ولا أبالي في تعهّداته، ولكن بمجرّد أن يقع ذلك للآخرين فإنّك تتجاوز عن الأمر بالضحك والمزاح لماذا؟ أفهل هذه مراقبة وتحصيلٌ لرضا الله؟ هذا واحد من الموارد التي يبتلى بها الكثيرون.
معنى أنّ بعض الناس سلاّك وإن لم يطووا الطريق
للمرحوم العلامة عبارةٌ دقيقة جداً فقد كان يقول: بعض الناس هم سلّاكٌ وإن لم يطووا الطريق، وإنّها لكلمةٌ مليئةٌ بالمعاني، فإذا نظرت إلى أعمالهم تجد أنّهم لا يُخلفون وعدهم ولو على قطع رؤوسهم، قال إنّه سيدفع هذا المبلغ في هذا اليوم فلو قُطع رأسه لا يُخلف، قال أشارك في هذا المكان ويشارك، قال أنا أتعهّد بهذا الأمر فيأتي ويعمل، يقول سأقوم بهذا العمل فيقوم به، كان يقول: هؤلاء هم سلّاك وإن لم يسلكوا، يعني هم ليسوا سلاكاً من حيث التسمية، يمكن أن تكون حركاتهم غير مناسبة، يمكن أن تكون ظواهرهم غير لائقة، وحالاتهم غير مناسبة. وهم من وجهة نظر التزمّت الظاهري ـ وسنتحدث عن هذه المسألة لاحقاً إن شاء الله ـ مرفوضون ومن منظار تديّن العوام يمكن أن يكون هؤلاء خارجين عن التديّن، ومن وجهة نظر الفقه الظاهري يمكن أن يكون هؤلاء الناس في أسفل مراتب جهنّم، ولكن ما هو مقام هذا الإنسان من وجهة نظر الواقع والارتباط الحقيقيّ بين الإنسان وربّه، وهذا الأمر لا اطلاع لأحدٍ عليه، العمل الذي يقوم به لا يقوم به ألف مسلمٍ. فمن هو المسلم الآن؟ يقوم بعمل لا يقوم به ألف سالك، فمن هو السالك إذن؟ أفهل صار السلوك مجرّد كلام وانتهى! نحن سلاّك وتلامذة فلان، وفي مدرسة فلان! نقوم بهذا العمل! لا معنى لهذا الكلام.
يمكن أن يكون الظاهر غير مناسب، ولكن الكلام هو في ذلك التعهّد وتلك النيّة والهمّة وتلك الإرادة التي تجعل إنسانًا ما يعمل في المجتمع وفق قواعد التربية الإلهيّة، فهذا هو السلوك وغيره كلّه "دلوك" وليس سلوكًا. وهذا الكلام كلّه فارغ، أوّل عمل يجب أن يقوم به السالك هو أن يكون أسوة لهذا الذي في الأزقّة والشوارع والذي يرتكب ما يريد، فعندما تقع عينه على هذا السالك يطأطئ رأسه خجلاً، وليس السلوك باللحية وبالذكر والمسبحة والتلفّظ بالأذكار، ليس السلوك بهذا! هذه الأمور لها دورها، ولكن يجب أن يكون السالك سالكًا في عمله.
لماذا تحترم الدنيا أمير المؤمنين عليه السلام؟
لماذا تحترم الدنيا كلّها أمير المؤمنين عليه السلام؟ ألا يقبل المسيحيّ بأمير المؤمنين؟ فجورج جرداق رجل مسيحيّ لا يقبل بالإسلام. يقول في حقّ أمير المؤمنين كلمة: إن كان هناك إنسان على مرّ تاريخ البشريّة يمكن أن نجعله أمامنا ونقول: إن كان الله خلق إنسانًا فهو عليّ بن أبي طالب. فلا يقول المسيح حتّى، رغم أنّه لا يقبل بأمير المؤمنين من حيث الدين والعقيدة، ولكن ماذا عن الإنسانيّة؟ فقد عمل أمير المؤمنين أعمالاً لو نظر إليها اليهوديّ لطأطأ رأسه، ولو نظر إليها النصرانيّ لطأطأ رأسه، لا يمكن لأحد أن يحدّق في عيني أمير المؤمنين بجرأة. لا يمكن لأحد أن يحدّق في عيون أولياء الله بجرأة، فإذا وصل إلى أولياء الله طأطأ رأسه لماذا؟ لأنّ وليّ الله لا نقص في عمله ولا عيب، وعمله لأجل رضا الله. لأنّ عمله على أساس رضا الله، فإنّ فطرة الناس تقبل هذا العمل الموافق لفطرتها.
ماذا صنع أمير المؤمنين في فتنة عثمان والجمل؟
عندما تنظر إلى أعمال أمير المؤمنين وحروبه وعلاقاته... جاؤوا ليقتلوا عثمان فقال: لا تقتلوا عثمان. يقول الناس: لقد غصب عثمان هذا حقّك. يقول: لقد غصب حقّي ولكن ما هو رضا الله الآن؟ لا يقول: أنا. لا يقول: شخصيّتي. لا يقول: مصالحي. إنّ رضا الله الآن هو في أن لا يقتل عثمان. هذه هي حقيقة الأمر. رضا الله في أن لا يتحقّق هذا العمل، رضا الله هو أنّه إذا جاء الخليفة ـ هذا الخليفة الغاصب والملعون والفاسد والفاجر الذي ضرب حتّى زوجته فقتلها هذا الخليفة الثاني، والحمد للّه صار اليوم أرفع من جميع المسلمين وأشرف! فما هو الأمر الذي لا نراه في ما يكتب الآن! فهذا من علامات آخر الزمان! فهذا الفاسق والفاجر الأوّل صار مسلمًا! يقولون: من قال إنّه قتل السيّدة الزهراء؟! من قال إنّ عمر قال لا تأتوا بالكتف والدواة إنّ النبيّ ليهجر؟! فهذا الكلام لم يكن لعمر هذا، لقد افتري هذا الكلام، اخترعه الطبري، اخترعه الآخرون. إنّ مقامه أرفع من مقام أبي ذرّ وسلمان والمقداد! وجيّد أنّهم لم يقولوا إنّه أرفع من أمير المؤمنين! ـ لقد جاء هذا الخليفة إلى أمير المؤمنين: يا عليّ ماذا نصنع في هذه المعركة؟ فقال أمير المؤمنين: الصلاح أن تفعل كذا وكذا، وأرسل الإمام الحسن مع المقاتلين إلى إيران، لذلك فقد جاء الإمام الحسن مع الجيش إلى إيران. لماذا؟ لأنّه لا يقول: أنا. إنّه يقول دائمًا: هو هو هو. لا توجد أنا في كلامه. لا وجود لضمير المتكلّم في كلام أمير المؤمنين، دائمًا هناك ضمير المذكّر الغائب: هو. دائماً يقول: ماذا يقول هو؟ وماذا يريد؟ وما رأيه؟ ماذا قرّر هو؟ وماذا يصنع هو؟
وفي معركة الجمل التي خاضها طلحة والزبير جاء الزبير فنصحه أمير المؤمنين فتنحّى عن المعركة وبقي طلحة وقُتل، واعلموا أيضاً أنّ من أنهى معركة الجمل هو الإمام الحسن حيث أعطى أمير المؤمنين الرمح لمحمّد بن الحنفيّة، فقد رأى أنّ هؤلاء الناس الجهلاء يحيطون بهودج عائشة ويُقتلون جهلاً وحماقةً فلا عقل لهم، إنّها من كانت تعدّ اللحظات لقتل عثمان والآن ترفع قميصه فماذا حصل؟! واقعاً عجيبٌ! فكم يجب أن يكون الإنسان جاهلاً وأحمق ليدوس على هذه الحقائق ويجعل هذه القضايا اليقينية كلّها تحت رجليه! هكذا لأجل الشائعات. أنظر زوجة النبيّ جالسة على الجمل، الدفاع عن زوجة النبيّ وحريمه، أتدرون ماذا قالوا في حرب الجمل؟ لقد طالعت مرةً تاريخ الجمل وكان عجيباً جداً، فقد أشاعوا أنّ جيش أمير المؤمنين يريد أن يعتدي على زوجة النبي، فقد عُبّئ أجهل الناس في مواجهة أمير المؤمنين وهم يتساقطون كأوراق الشجر للدفاع عن حريم النبيّ، فرأى أمير المؤمنين أنّهم يموتون هكذا، لم يقل: دعهم يموتون، لم يقل: لنلقِ بقنبلةٍ تقتلهم جميعاً كلا، لماذا يموتون على أساس التخيّلات؟! فلنذهب ولنحافظ عليهم، لقد كان باستطاعة أمير المؤمنين أن يذروَ البصرة كلّها ذرو القمح والشعير على الأرض، ولكنّه لم يفعل ذلك؛ إنّه إمام، يقول: لماذا يموت هذا جهلاً؟! علينا أن ننجّيه، وما هو طريق نجاته؟ أن نعقر جمل عائشة فيهوي على الأرض فينتهي الأمر وبهذا يتفرّق الجمع فما دام هذا العلَم قائماً فسيقصده الجميع، وإذا ما سقط تفرّقوا وقالوا: انتهت خدعة عائشة.
أعطى أمير المؤمنين الرمح لمحمّد بن الحنفيّة وقال: تمضي إلى جمل عائشة وتعقره وترجع، فذهب ورأى عجباً! السهام والأحجار تنهال عليه! فقال: يا علي لا يسمحون لي أصلاً، فقال حقّك، لو كنت ابن النبيّ لما رجعت، قل لي لم أستطع۱، ثمّ أعطاه إلى الإمام الحسن الذي صالح معاوية والذي يكتب عنه عديمو الحياء في كتبهم أنّه صالح خوفاً، أعطاه الإمام الرمح فعقر جمل عائشة ورجع وقال: هاك الرمح، لقد عُقر جمل عائشة وانتهت الحرب. فقال الإمام لمحمّد بن الحنفية لو كان دم النبيّ يجري فيك لذهبت كالحسن وأنهيت الأمر. ثمّ ماذا صنع أمير المؤمنين بعائشة التي أشعلت هذه الحرب وسبّبت هذه الأحداث؟ لو كنّا نحن ماذا كنّا نفعل؟ لعلّقنا كلّ شعرة منها على رمح. فقال أمير المؤمنين: إنّها حرمته. ومرّة ثانية قال: هو ولم يقل أنا. قال: النبيّ. فهنا ليس الأمر أمر عائشة، لقد أساءت عائشة كثيرًا، لقد أساءت كثيرًا. لقد وقفت في مقابل الله. هتكت حريم رسول الله، وخرجت على إمام زمانها، ودم جميع المسلمين والشيعة وغيرهم في رقبتها. ولكن ما يلاحظه أمير المؤمنين الآن هو هو، الآن رضاه هو المهمّ، فاحترام النبيّ يقتضي أن تحفظ حرمته. فالحساب على الله وليس عليّ، هو أعلم ماذا يصنع وكيف يجازي. ولكن ماذا أصنع أنا الآن؟ حينها يصبح هذا الدين مساويًا للسياسة، فهذه السياسية ليست منفصلة عن الدين.
فالآن يقول أمير المؤمنين لعائشة لقد قمت بما قمت به، فنحن نترك حسابك على الله، وحرمتك محفوظة، نرسلك إلى المدينة بعزّة واحترام، عودي إلى مكانك، وقرّي في بيتك. فأمير المؤمنين هذا يصبح عمله أسوة. فإذا جاء الجميع ونظروا إلى معركة الجمل هذه إلى يوم القيامة طأطؤوا رؤوسهم. واقعًا عجيب. يطأطئون رؤوسهم، ويخجلون من جهة، ومن جهة أخرى تجري دموع الشوق من أعينهم أن أيّ أناس ربّى الله. فلو لم يكن لدينا أمير المؤمنين والإمام الحسن وأمثالهم فمن كنّا سنتّخذ أسوة وقدوة لنا؟ واقعًا عندما نصل إلى مفترق الطرق ماذا نفعل؟ هل هناك شيء سوى التمسّك بهم. أفنتمسّك بعمر أم بعليّ؟
هؤلاء الذين يكتبون الكتب ويجعلون عمر المسلم الأوّل حشرهم الله مع عمر إن شاء الله، ولكن الذين يقولون فقط وفقط أهل البيت [ثمّ يقولون هذا الكلام فهؤلاء هم المشكلة]، فالذين يقولون هذا لم يكونوا أناساً جهلاء، فهذا الذي يقول خارج إيران من قال إنّ السيدة الزهراء حلّ بها ذلك؟ ومن قال إنّ عمر... لم يكن إنساناً جاهلاً إنّه معاند، ليس إنساناً جاهلاً. فهذه المسألة يعرفها كلّ طفلٍ في المدرسة الإبتدائيّة في السعوديّة، ثمّ بعد ذلك يأتي هذا المعمّم ابن الثمانين سنة فلا يدرك المسألة أفيعقل ذلك؟ ما هذا الكلام؟ هؤلاء الذين يفعلون هذا سيكون أمرهم صعباً غداً، وأمرهم مهمٌّ جداً فلا يمكن التلاعب بمدرسة التشيّع ومع إمام الزمان، لا يمكن التلاعب بذيل الأسد، المسألة مهمّةٌ جدّاً.
ما هو الاهتمام اللازم لتحصيل رضا الله؟
على السالك أن يجعل عمله وحركته مطابقين لأعمال الأعاظم، عليه أن يسير وفق مسيرهم وأن يلاحظ رضاه هو، هذا هو السالك، فإذن وبكلمةٍ واحدة: تحصيل رضا الله في السير هو برنامج الإنسان الذي يريد أن يصل إلى مقام التجرّد ومقام التقرّب. فما هو الاهتمام اللازم لهذا الأمر، كلامنا حول هذا، كم ينبغي أن يُبذل من الهمّة هنا؟ مهما بذل الإنسان فهو قليل، هذا ما قلته من أنّ من يأتي ... وما قاله المرحوم العلامة من أنّ من أراد السير في الطريق فكلّما كان في البداية فهمه أفضل وإدراكه أدقّ وحقيقة المسألة بالنسبة إليه كان ذلك خيراً لمستقبله، هذا هو المعنى، فعند الناس آلاف التصوّرات، يتصوّرون أنّ من يريد أن يتوجّه إلى الله فعلى الله أيضًا أن يعبّد له كافّة الطرق، من يريد أن يتوجّه إلى الله فيجب أن تحلّ جميع مشكلاته، ومهما أراد فإنّه يتحقّق. فمن يتوجّه إلى الله لأيّ شيء يتوجّه؟ فمعرفة لأيّ شيء أمر أساسيّ، فلماذا يأتي؟ لكي يتخلّى عن النفس ويعبر عنها، لكي يجعل "هو" بدل "أنا" فهذا التبديل لـ "هو" مكان "أنا" هو السير إلى الله. أن يبدّل "أنا" بـ "هو" والمتكلّم بالغائب، ويجعله هو مكان النفس هو السلوك إلى الله وهذا يحتاج إلى عمل.
ما أهميّة اللغة العربية؟
عندما بدأت بدراسة العلوم الدينيّة كنت أصرّف الأفعال ضرب ضربا وهو وهما وهم، فالمتكلّم أنا ونحن، في العربيّة اثنا عشر صيغة وفي الفارسيّة ستّ صيغ، أنا هو نحن أنتم هم، ولذلك فإنّ اللغة العربيّة أبلغ من الفارسيّة، ولذلك فإنّ لغة القرآن عربيّة لا فارسيّة. لذلك علينا أن نحيي اللغة العربيّة فينا ونتعامل معها كلغة أصليّة وكلغة أم؛ لأنّها لغة ديننا. لا اللغة الفارسيّة واصطلاحاتها المعاصرة المخترعة أيضًا. فأحيانًا عندما أقرأ بعض النصوص لا أفهم المراد منها حقًّا، لا أدرك هذه الاصطلاحات المخترعة العجيبة الغريبة غير المتناسقة والتي جلس عدد من الناس وما شاء الله بعقولهم الشبيهة بعقول أفلاطون وابن سينا والفارابي ويخترعون لنا مفردات ويقولون: اتّبعونا أنتم أيضًا بها. كلاّ يا عزيزي، لا حاجة إلى هذا الكلام. فالاصطلاح اصطلاح، والهدف منه هو التفهيم والتفاهم بسهولة بين الناس. فإن جاءت كلمة من العربيّة أو من اللاتينيّة فليكن. ما المشكلة؟ فمثلاً يجعلون بدلاً من كلمة هلي كوبتر "چرخ بال" (متحرّكة الأجنحة) فما معنى چرخ بال؟ فما معنى چرخ بال ودو چرخه وسه چرخه؟ فكلمة هليكوبتر موجودة في النهاية. ويضعون بدلاً من كلمة تظاهرات كلمة "همايش"، أفلم نكن نفهم كلمة تظاهرات؟ ألم نكن نفهم كلمة اجتماع؟ "نشست" ۱أفهل يهبط البيت وتهبط الشجرة؟! لقد هبطنا مع كلمة هبوط هذه، فما معنى هبوط هذه؟! فلتقولوا مثل الناس جلسة.
اللغة العربيّة عذبة وبليغة بهذه اللطافة والبلاغة والجمال، وقد استبدلوا بهذه العذوبة والظرافة واللطافة لغة مستهجنة وفارسيّة، لقد كان كلّ هدف مولانا ونصير الدين الطوسي وأمثال ابن سينا هذا الأمر، انظروا إلى سعدي، فسعدي هذا الذي تفتخرون به في هذه الدنيا لو أخذتم منه الألفاظ العربيّة ووضعتم بدلاً منها "همايش" و"نشست" في كتاب "كلستان" ثمّ قدّموه إلى الدنيا، فإنّهم يلقونه في سطل القمامة بدلاً من أن يقرؤوه. إنّ العذوبة كلّها التي في "كلستان سعدي" هي بهذه الألفاظ العربيّة التي استعملها. انظروا إلى حافظ ومولانا، ولا أقول انظروا إلى النصوص العربيّة التي كتبوها، بل النصوص الفارسيّة هذه، فانظروا إلى مولانا ومثنوي هذا وانتزعوا منه الألفاظ العربيّة وضعوا مكانها ألفاظكم غير المتناسقة هذه فانظروا كيف سيكون؟ أنتم أنفسكم هل يمكن أن تقرؤوه؟! هل يروق لكم؟!
إنّ هذا تعسّف. فما المشكلة؟ سواء الألفاظ العربيّة أو غير العربيّة، فالأمر في اللاتينيّة كذلك أيضًا. فعندما تأتي كلمة إلى مجتمع ما فإنّها تتشكّل بصورة ثقافته، فما المشكلة حتّى يريد الإنسان أن يستبدلها؟ ألم تدخل من اللغة الفارسيّة كلمات إلى اللغة العربيّة؟! هناك الآن الكثير من الكلمات العربيّة فارسيّة، فهل يقوم هؤلاء أيضًا بحذفها انطلاقًا من النعرة العربيّة فيؤسّسوا مجمعًا ونبدأ معهم بالصراع. على أيّ شيء؟ على لا شيء، فهذه تخيّلات وهي من كثرة الفراغ والوقت الزائد عند هؤلاء وبدلاً من الاهتمام بالأمور المهمّة يهتمّون بهذه الأمور التي لا طائل منها. رزقنا الله جميعاً إن شاء الله شيئاً من العقل والفهم حتّى نعرف مصالحنا، فاللغة التي كان رسول الله يتكلّم بها لها شرفٌ أم تلك التي كان يتكلّم بها الساسانيون والأشكانيون والهاخامنشيون والكوروشيون والداريوشيون؟ أيّهما أفضل؟ هذا القرآن الذي هو الكتاب الأوّل في عالم الوجود ومعجزة رسول الله والذي بلغ من الإعجاز ما لم يبلغه التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا سائر الألواح والكتب السماويّة، لقد طُرح هذا القرآن وحاولت الدنيا كلّها أن تبدّله ولم تتمكّن رغم جميع حيلها وخدعها، أفيأتي الإنسان وينحّي لغة القرآن هذه حتى إذا جاء جيلٌ جديد لم يفهم أطفالنا بعد ذلك القرآن ولن يعود بإمكانهم أن يفهموا ما يفهمونه الآن من ثلثه ونصفه بهذه الألفاظ المتداولة والمتعارفة والتي يتكلّمون بها في محاوراتهم، فبعد مرور جيلٍ لن يمكنهم أن يفهموا حتّى هذا المقدار، وهذا هو البلاء الذي ابتلي به الشعب التركي، حتى صاروا الآن لا يفهمون من النصّ العربي شيئاً، إذا ذهب إنسانٌ إلى هناك لرأى أن الكثير من إعلاناتهم وكتاباتهم باللغة الفارسية والعربيّة وبخطّ أبجديّتنا هذه، فعندما ذهبت إلى إحدى مكتبات اسطنبول للمطالعة رأيت فقط سبعة أو ثمانية يقرأون النصوص العربيّة والفارسيّة وهذا يختصّ بأهل العلم، أمّا غيرهم فلا يفهمونها، أردت أن أرسل كتب المرحوم العلامة إلى بعض الأصدقاء ورغم أنّهم يتكلّمون معنا الفارسيّة ولكنّهم لم يفهموها، كانوا يقولون أصلاً نحن لا نفهم الفارسيّة أفرأيتم أيّ بلاءٍ أنزلوه بهم حين استبدل الاستعمار كلّ حروفهم وقطع ثقافتهم عن الثقافة الإسلاميّة، إنّهم لا يفهمون كلمةً واحدة، وعندما يتكلّمون يكتبون بالحرف اللاتيني، فكلامهم هذا يكتبونه بالحرف اللاتيني.
ما علاقة الهمّة بالسلوك؟
السلوك هو عبارةٌ عن الرؤية الصحيحة إلى تلك الهمّة التي يحتاجها الإنسان وأن تكون الإرادة التي يريد أن يستعملها في هذا الطريق إرادةً راسخةً ومتينةً ومستقيمة لا يتدخّل فيها شيءٌ، لا مشكلة في الاشتباه والخطأ فنحن خطّاؤون، والله لا يؤاخذنا على هذا الأمر، المهمّ أن لا يكون هناك عمدٌ وأن نكون قد حقّقنا الأمر بشكلٍ واضح ونظرنا في جوانب الأمر. فإذا أخطأنا فلا إشكال فهم لا يكتبون لنا بمقدار ذرّة. هم قالوا ذلك أيضاً أمّا إذا أدركنا والتفتنا وفهمنا الأمر وجعلنا أنفسنا بدلاً من الآخرين والآخرين بدلاً منّا وعددنا مشكلتنا هي مشكلة الآخرين ومشكلة الآخرين مشكلتنا، حينها لن يمكننا أن نتجاوز بسهولة، حينها لن يمكننا أن ننام مرتاحي البال وأن نأخذ الأمور ببساطة، فهذه هي المراقبة.
من أراد أن يقوم بهذا العمل فهو يقوم بالخروج من نفسه فهذه الأنا تتغيّر، هذه الألف والنون تتبدّل إلى هاء وواو، يتغيّر وجهها. إذا نظرت إليه الآن تجد الأنا في شخصيّته، وبعد سنتين تجد أنّ هذه الأنا قد بهت لونها هذا هو السلوك، فكلّما بهت لون هذه الأنا تضاعف دور "هو"، فالاختلاف بين "أنا" و"هو" يعني السلوك، يعني الطريق فتعالوا لنختبر أنفسنا.
ما مجال الهمّة ومقدار الامتحان في السلوك إلى الله؟
لقد كان المرحوم العلامة يقول: يقول البعض إنّ في السلوك إلى الله بضعة امتحاناتٍ جعلها الله، طبعاً يمكن أن تكون هناك امتحانات للإنسان أمورٌ مهمّة من قبيل النقص في النفوس والأموال والإصابة بالأمراض والشدائد أو بعض الأمور التي تمسّ الشخصيّة والشأن، فيمكن أن تحدث للسالك هذه الأمور أحياناً ولكنّه كان يقول: إمتحان السالك هو في كلّ لحظة يعيشها، هذا هو معنى الامتحان، فتلك اللحظة هي امتحان، اللحظة نفسها امتحانٌ، اللحظة نفسها تعني العبور أو التوقّف، اللحظة نفسها في كلّ أمرٍ.
منذ أن نخرج يبدأ امتحاننا، وعندما نجلس هنا فإنّنا نُمتحن، فأنا إذ أتكلّم معكم أُمتحن، فامتحاني في هذا الكلام الذي أقوله لكم هو أني إلى أيّ مستوىً عملت به ثمّ قلته لكم؟ كم كنت من أهل العمل؟ في هذه اللحظة التي أتحدّث فيها معكم بهذا الكلام أرى أنّ الأمر ليس على ما يُرام فأكون راسباً في الامتحان، كم أنا ملتزم بهذه الأمور إذ أقولها لكم، طبعاً أنا أعددت لنفسي سبيلاً للفرار أقول: إلهي إنّ حالي تعيس وهؤلاء عبادك ليسوا تعساء فنحن نقول لهم هذا الكلام وإن شاء الله بسبب صدقات السرّ منهم وبسبب أدعيتهم فإنّ الله أيضاً سيهتمّ بنا وأنا أنقل المقدار الذي أتمكّن منه إن شاء الله من الكلام الذي سمعته عن الأعاظم من دون خيانةٍ، فقط بهذا الحدّ أراعي الأمانة وأنقل ما سمعته إلى الأصدقاء والمشتاقين، وإن شاء الله أرجو أن يبيّض وجهي. أمّا الأمور التي أنا ملتزمٌ بها فلا وجود لها. فأنا بنفسي لديّ امتحانٌ أيضاً ، الآن أؤدي الامتحان، أطبّق أولاً هذا الكلام كلمةً كلمة على نفسي، هل عملت به أم لا؟ إن لم أكن قد عملت به فلأذهب من اليوم وأعمل به.
وأنتم الجالسون هنا امتحانكم هو في مدى أخذكم كلامي بجدّية، هذا امتحانكم. أو تعترضوا على هذا الكلام فتقولوا: هذا المورد منه فيه مشكلة، فإمّا أن أجيب وإمّا أن لا يكون لديّ جواب، اكتبوا رسالة حول هذا الكلام واعترضوا، فلا بدّ أن يحلّ الإشكال. فإن كانت هناك مشكلة لم تحلّ علينا أن لا نتابع، فليس شأننا أن نتكلّم ثمّ نمشي، كلاّ، إن لم يكن هناك اعتراض فإذن أنتم لديكم مشكلة، فإمّا أن يكون هناك اعتراض أو سؤال أو أنتم لديكم مشكلة، فإن لم يكن هناك اعتراض فامتحانكم هو مقدار أخذكم الكلام بجدّ واهتمام، فكم تقفون عنده وتلتفتون إليه؟ هل يكفي أن نأتي إلى جلسة الجمعة ونجلس ثمّ نفعل ما يحلو لنا؟! فهنا لدينا امتحان وحينما نخرج من هنا أيضًا لدينا امتحان، ففي النهاية نحن نتكلّم هنا ونطرح أمورًا مع الرفقاء، وهذا الكلام ينبغي أن تكون له نتيجة في الواقع وظهور، فكم هو مقدار هذا الظهور؟ كم هو؟ فهل نتلقّى الكلام الذي نسمعه كما يحلو لنا ونمزجه؟
كيف نمتحن في تلقّي كلام الأولياء؟
سأنقل هذا الأمر، عندما كنت أشارك في جلسة المرحوم العلاّمة التي يتحدّث فيها إلى رفقائه كان من الواضح بشكل دقيق ما هو الهدف من الكلام وما هو الطريق الذي يطويه كلامه وما هو مراده، ولم يكن هذا الأمر خافيًا على أحد، إلا اثنان أو ثلاثة ممّن كان لهم أجواء أخرى ورؤية أخرى بالنسبة إلى كلامه. هم أنفسهم كانوا مغرضين ومرضى، هم أنفسهم كانوا يُعملون ذوقهم الخاص وطريقتهم. فعندما انتهت الجلسة ذهب المرحوم العلاّمة ليجدّد وضوءه ورجع ليصلّي المغرب والعشاء، فرأيت أنّ هؤلاء الثلاثة قالوا: أرأيتم السيّد قال كلامنا نحن. فانظروا حقيقة الأمر. وليّ الله، ولا يتكلّم بكلامين بل بكلامٍ واحد، ولكن ما هي ردّة الفعل في النفوس والقلوب؟ من لم يكن في قلبه غلٌّ ولا غشٌّ يأخذ الكلام كما هو ولا يمزجه ولا يخلطه، لا يمزجه بنفسه ولا يتلاعب.
ما أقوله لكم حقيقةٌ، ما نقوله عن الأعاظم حقيقة، فعندما كنت أنظر إلى المرحوم العلامة وهو أمام أساتذته كنت أرى أنّه لم يكن من أهل التصنّع، لقد فتح النافذة بشكلٍ جيّد وكل ما يأتي منهم يأخذ مكانه، فنافذة النفس هذه مفتوحةٌ على مصراعيها، وكلّ ما يقوله هو يصل، نحن نغلق الباب ونفتحه بمقدار سانتيمترٍ واحدٍ، نغلق هذا المصراع وهذا المصراع وهذا، والرابع أيضاً نفتحه بمقدار سانتيمترٍ واحد، فالكلام الذي يأتي يصطدم بالباب وينعكس، وهذه الانعكاسات التي تحصل لا يظهرها لنا، ثمّ نبدأ بقلب الأمور في أذهاننا، إن كان هذا صحيحاً فما مراده؟ وكيف يصبح الأمر هنا وكيف يصبح هناك؟ يقول هذا، فهو كما قال وانتهى الأمر. قم بهذا العمل وانتهى الأمر، هكذا كان المرحوم العلامة حتّى صار المرحوم العلامة، ولو كان مثلنا يغيّر ويبدّل ثمّ يتصرّف بالكلام [ لما وصل إلى ما صل إليه]. التصرّف الأوّل، ثمّ التصرّف الثاني ثمّ إذا وصل الدور إلى التصرّف الثالث كان الأمر معلوماً كيف سينتهي.
ولكنّ الأعاظم لم يكونوا هكذا، إذا تكلّم ولي الله بكلامٍ دخل مباشرةً إلى القلب، هكذا يتفاعل مع الأمر. كلّما كان المرحوم العلامة يقول كلاماً كنت إذا نظرت إلى أعينهم أرى أنّهم يتلقّونه ثمّ يبدأون بالتصرّف به، فالقوّة الهاضمة تبدأ بالعمل، ويبدأ التصرّف من قبل المصنع، كنت أنظر إلى بعضهم فأرى أنّهم على صفاءٍ يأخذون ما جاء كما هو، واضحٌ من أعينهم، واضحٌ من شكلهم ومعالمهم ووجههم، أمّا من يريد أن يتصرّف فينظر نظرة ترديد وشكّ، هل رأيتم؟! هل اختبرتم؟! فمن يريد أن يتصرّف في الكلام نظرته نظرة شكّ، ومن المعلوم أنّ المصنع يعمل عنده، الآلات تعمل أمّا الآخر فلا، ليس لديه أجهزة لكي يشغّلها أو يطفئها. يأخذ الكلام كما هو فيستقرّ في الذهن ويحرّكه، لذلك فإنّ كلام أولياء الله يغيّره في المجلس نفسه لا عندما يخرج.
نعم، عندما يخرج هناك دورٌ آخر، حيث يرتّب الأثر ويعمل ولكنّه في المجلس نفسه يتغيّر. إن كانت هناك أربعة أبواب وأغلقت واحدةً فقد خسرت، خسرت خمساً وعشرين بالمئة، وإن أغلقت اثنين خسرت خمسين بالمائة وإن أغلقت ثلاثة خسرت خمساً وسبعين في المئة، ولو أغلقت ذاك أيضاً خسرت ثمانين وخمسةً وثمانين وهكذا دواليك. هكذا هي المسألة.
حاصل معنى كلام العلاّمة من أنّ الإنسان يكون بحسب حاله في البداية
فإذن ما كان يقوله المرحوم العلامة من أنّ الإنسان يكون بحسب حاله في البداية، فمراده هو أنّه بمقدار ما يفتح باب نفسه أمام الحقيقة يأخذ.
قبل مدّة قال أحدهم أريد منكم هذا الأمر. قلت حسنًا، قم بهذا العمل. ثمّ اتّصل وقال: إن كانت هناك مشكلة في هذا الأمر فماذا نصنع؟!
ـ ماذا حصل؟! لقد بدأ المصنع بالتصرّف، قلت الأمر كما قلت وانتهى الأمر. أنت سألت ماذا نصنع في هذا الموضوع فقلت راجع فلانًا. إن كانت هناك مشكلة... ما هي هذه المشكلة؟! المشكلة هي النفس، نفسك هي التي أوجدت المشكلة، وإلا لكنت ركبت سيّارة أجرة بخمسمائة تومان ونزلت في ذلك المكان وانتهى الأمر بلا أيّ مشكلة. تعطيه العنوان وتقول له أنا ذاهب إلى هذا المكان وينتهي الأمر. إن أردنا أن نكون هكذا، فهذا يعني أنّه من الآن جاء بمقدار عشرة بالمائة وهو حتّى النهاية سيستمرّ بهذا المقدار، لا أنّه لا يتكامل، ولكن بنسبة عشرة بالمائة، يصلّي، ويؤدّي الذكر، ولديه جلسة وأعمال. فينبغي أن تكون هناك همّة، وبمقدار هذه الهمّة شعور بالألم، لا ألم تمثيليّ بل ألم حقيقيّ.
وفي السنّة الماضية اتصل بي أحد الناس بواسطة أحد الرفقاء، وكانت له علاقةٌ مع المرحوم العلامة ولكن لم نكن نراه منذ مدّةٍ، والآن لديه في منزله جلسات ويتردّد عليه الناس ولديّه "دكّانٌ". قال: لقد كان والدكم يهتمّ بنا فقد ذهبت إليه في آواخر عمره في مشهد والتقيت به وقد كان يعاملني بلطف ثم لم ألتق به بعد ذلك، والآن أطلب منكم أن أكون في خدمتكم ومعكم، فقلت له: أولاً قلت العفو أرجو المعذرة ولم يكن مجرّد مجاملة لأنّ أمر المرحوم العلامة لا يرتبط بي أصلاً ـ وقد قلت للرفقاء أني أكون بخدمتهم بمستوى رفيقٍ لهم لا أكثر، أنقل ما سمعته من الأعاظم وغيرهم ومعلوماتي عنهم، ولا شيء أكثر من ذلك، واقعاً لا شيء والله لا شيء وبالله لا شيء، لا أني أريد أن أمازح والأصدقاء يعلمون أني لست من أهل التواضع وأعدّ التواضع في بعض الموارد تملّقاً ونفاقاً، فهذا ليس تواضعاً إنّه نفاق، التواضع هو الذي ينبع من القلب لا أنّه يكون مجرّد ظاهرٍ مزيّن في حين يكون الباطن مختلفاً، فهذا ليس تواضعاً فهذا أمرٌ واضح ـ قال أنا أقول الحقيقة فقلت له: أوقف جلساتك ثمّ تعال إلينا.
قال: لماذا؟
قلت: هكذا ألا تريد؟ أتريد أن أكون في خدمتك أم لا؟ فعندما أقول أوقف جلساتك فلماذا تقول لماذا؟! فإذن أنت تريد أن تحتفظ بها، تحتفظ بها وتحتفظ بها لنفسك وأن يكون لك حسابك الخاص وموقعك وأمرك ونهيك، تريد أن يكون لديك أتباع ومجلس يتردّدون عليه ومائدة و... كلا يا عزيزي أنا أعتذر، وأنا محبٌّ لك أيضاً، ليس لديّ الوقت فاذهب إلى مكانٍ آخر ولا معنى لهذا الكلام.
الحمد للّه لقد وفقني للصداقة مع أصدقاء يشعرون بالألم ويبحثون عن العلاج وأنا أقول ذلك بكلّ فخر، فالذين يبحثون عن العلاج هم مثلي نشترك معاً في الطريق وإن شاء الله يزيد الله من الألم ويوفّقنا لطريق العلاج، فهذه أمورٌ حصلنا عليها ببركة هؤلاء الأعاظم وهذه المدرسة، وطريق الأعاظم. والحمد للّه لا موضع عندنا لهذه الأمور: السيّد فلان وكذا وأن يكون لك سيّد كلا يا عزيزي فالسادة كُثر، اذهب إليهم. وكما يقول المرحوم العلامة: إن كان الذهاب إلى جهنّم واجباً كفائيّاً فهناك من به الكفاية. وقد كان هذا الكلام للسيد أحمد الكربلائي حيث جاؤوا إليه رحمة الله عليه، كلّما ذكرت اسمه تغيّرت حالتي، وفي هذه السفرة الأخيرة التي تشرّفت بها بزيارة العتبات المقدّسة ودعوت لكم ونبت عنكم في الزيارة، عندما كنت جالساً في مسجد السهلة ليلة الأربعاء قبل أسبوعين تقريباً لم أكن أتذكّر إلا السيّد أحمد الكربلائي وهذه القصة التي ذكرها المرحوم العلامة في أول كتاب توحيد علمي وعيني۱ إن لم يكن الرفقاء قد قرأوها فليقرأوها قصةٌ جذّابةٌ جدّاً فهذا هو الذي يقال عنه رجلٌ وحرٌّ. جاؤوا إليه لأجل المرجعيّة، فلم يكن يقبل ولم يكن يسعى إلى طرح رسالةٍ عمليّة ومرجعيّة ولم يكن الورق آنذاك كثيراً كما هو الآن والحمد للّه، لم يكن الوضع سيّئاً وكانت الأمور تسير وقد كانت رسائل المراجع تُحرق في بغداد فقد أحرقوا رسالة الشيخ محمّد حسين الكمباني في مطبخ بغداد، لم يكن هذا الأمر مخالفاً للشرع ولكن لأنّه كان يقول بوحدة الوجود كان مخالفاً للشرع، فإحراق الورق ليس مخالفةً وقد وقع الكثير من ذلك.
الانتقال من "أنا" إلى "هو" يحتاج إلى الكثير من العمل، أحياناً كلّما كبر الإنسان كبرت أناه، تتضاعف أضعافاً كثيرة فأوّلاً تكون صغيرةً فذلك الطفل المسكين عندما يولد من بطن أمّه أصلاً لا تكون لديه أنا وشيئاً فشيئاً يكبر وتتشكّل عنده الأنا وتكبر شيئاً فشيئاً حتّى تسيطر على شرق العالم وغربه.
جاؤوا إليه وقالوا أعطنا رسالةً عمليّة نريد أن نقلّدك، ففي النهاية أيضاً نحن لدينا آخرة ونصلّي، فقال لهم: هناك غيري، قالوا كلا لا يمكن يجب أن نقلّدك أنت، قال: أيرتبط دينكم بي أنا أيها المخادعون اذهبوا وشأنكم ـ طبعًا هذا قولي أنا نعم هو قال اذهبوا وشأنكم ولم يقل أيّها المخادعون ـ كم قال لنا المرحوم العلاّمة احذروا من هؤلاء الذين يحيطون بكم، من هؤلاء الذين يأتون من هذا الجانب ومن ذاك، احذروا من تقبيل الأيدي والتملّقات والرفع على الأكتاف والسلام والصلوات. هو نفسه كان مبتلى بهم طيلة حياته، كيف يأتون ويجعلون الإنسان في طريق ما، ويثبّتون الإنسان في طريق ما وفي هدف ما وتفكير ما ويسيرون به. وهو لا يدري ماذا يجري! لا يدري من هم الذين يأخذونه ذاهبًا وجائيًا. على الإنسان أن يكون ملتفتاً فهذا السلام والصلوات لها أثرٌ كبير والأمر والنهي له أثرٌ كبير وعلى الإنسان أن يلتفت جيّداً وهنا زلّت أقدام الكبار وليس الأمر بهذه السهولة والبساطة.
قال السيّد أحمد رحمه الله: أتريدون أن تخدعوني وتجعلوا المرجعيّة في عنقي؟! اعلموا أنّ لدينا نوعين من الواجب واجبٌ كفائيّ وواجبٌ عينيّ، الواجب العينيّ مثل الصلاة، فعلى الإنسان أن يصلّيها بنفسه ولا يمكن لأحدٍ أن ينوب عنه بها، يقول: لا قدرة لي الآن قم أنت وصلّ بدلاً منّي، والذِّكر يجب أن يقوم به الإنسان بنفسه، ولا يمكن أن أقول أحياناً للرفقاء أذكروا عنّي لا رغبة لي، فالذكر واجبٌ عينيّ، والصلاة يجب أن يصليها الإنسان بنفسه والصيام يجب أن يقوم به بنفسه والحجّ يجب أن يقوم به بنفسه، نعم إذا استطاع ولم يتمكّن فيجب أن يستنيب. فبعض الأعمال يجب أن يقوم بها الإنسان بنفسه.
وهناك واجبٌ آخر يسمّى الواجب الكفائي كما لو كان هناك مريضٌ يحتاج إلى مستشفى ففي النهاية يجب أن يأتي طبيبٌ ويعانيه، فإن لم يعاينه هذا يعاينه آخر لا مشكلة في ذلك، أو لو كان هناك ميّتٌ ولا بدّ من دفنه ففي النهاية لا بدّ أن يُدفن وأيّ مسلم يدفنه يكفي، وهذا ما يسمّى واجباً كفائياً، والواجب الكفائي هو الذي لا يكون في ذمّة الإنسان فقط بل يمكن للآخرين أن يؤدّوه أيضاً، فقال السيّد أحمد رحمه الله: إن كان الذهاب إلى جهنّم واجباً كفائيّاً فالحمد للّه من بهم الكفاية ينتظرون في الصفّ ولا يصل الدور إلينا حتّى ندخل جهنّم بسبب هذه المرجعيّة.
قال الإمام الصادق عليه السلام: فرّ من الفتيا فرارك من الأسد. ۱ فالأمر مهمٌّ جداً.
فأيّ همّة يجعل الإنسان لنفسه؟ تلك الهمّة التي يجعلها لنفسه تقتضي أن يفتح الله له باب نعمه، الناس الذين يوفّق إليهم، الأصدقاء الذين يوفّق إليهم، المحيط الذي يواجهه، العمل الذي يصادفه، العلاقات والأمور التي تصادف الإنسان كلّها على أساس تلك الهمّة التي بذلها، وذلك الصدق الذي رآه الله منه، فبحسب ذلك يفتح الله تلك النافذة ويهيّء تلك الظروف ويرفع الموانع ويفتح طريق الإنسان للوصول إلى نقطة "هو" والتبديل والتغيّر، هذا المعنى هو معنى الهمّة.
كيف نعرف صحّة المزاج السلوكيّة؟
فإذن كما أنّ مزاج الإنسان في حالة الاعتدال يقتضي الصحّة، والصحّة تعني الظروف المثلى للإنسان، فالإنسان الصحيح على من يُطلق؟ على من لا ألم عنده، على من لا يشعر بالتعب والاضطراب ـ وأتكلّم عن الصحّة من الناحية الطبيّة ـ فالإنسان الصحيح هو من لا يرى في نفسه ضعفاً عن القيام بالأعمال والوظائف الظاهرية طبعاً بمقدار قدرته، فهذا الإنسان يعدّ صحيحاً من الناحية الطبيّة. فإذا أحسّ الإنسان بألمٍ فهذا يكشف عن مرضٍ والتهابٍ ومشكلةٍ داخليّة، إذا أحسّ الإنسان بضعفٍ فهذا يكشف عن اختلالٍ في معادلات جهاز البدن، فإذا ارتفعت نسبة الدهن أو حمض اليوريك أو السكر ، فهذه الاختلالات تُشعر الإنسان بالألم والفتور والضعف والدوار وألم الرأس والارتخاء في الأعضاء، فهذا إنسانٌ لا يتمتّع بالصحّة.
وهكذا فإنّ الصحة والسلامة الروحيّة أن يشعر الإنسان بالعطش في جميع الحالات فهذا هو الإنسان الصحيح، فالإنسان الصحيح سلوكياً هو الذي لا يرى نفسه فرداً هازلاً لا أباليّاً أمام تلقي الأفكار، بل يرى نفسه مشتاقاً فكما نشتاق إلى تحصيل الصحّة الجسدية ونعمل من أجلها، فالأمر بعينه يجري هنا ولكن على العكس فهناك الصحة هي بانعدام الألم وهنا الصحة بامتلاك الألم. هناك الصحة بالنشاط والسكون والانبساط وهنا الصحّة بالغوص في النفس والتفكير، فعلى الإنسان أن يكون دائماً في حالة تفكير ولا يدع نفسه بغير تفكيرٍ وألمٍ وشوق، أن لا يكون لا أبالياً بالنسبة إلى الوصول إلى المطلوب والتخلّي عن النفس واستبدال "هو" مكان "أنا" فهذه هي علامة صحّة المزاج وإنسانٌ كهذا يطبّق نفسه على الظروف التي تحصل له. فهذه خلاصة الكلام الذي طرحته للرفقاء والأصدقاء.
لقد كان بحثنا حول التقوى وحقيقتها وهل المفهوم العرفيّ لها موافقٌ للمفهوم الحقيقيّ وهل ما فهمناه عن التقوى إلى الآن هو ما يريده الشرع وأولياء الله وهو تلك التقوى التي هي درعٌ وزادٌ للطريق وتوضّح الطريق للإنسان، فهذا يبقى إن شاء الله للجلسة اللاحقة.
في أجواء شهر رجب
نحن نقترب الآن من شهر رجب، الأشهر الحرم، والأشهر التي يجب أن يهتمّ بها السالكون أكثر، فليس الأمر اعتبارياً ووهميّاً بل أمرٌ حقيقيّ، جعله الله هكذا لماذا؟ نحن لا نعلم وهو يعلم. لقد جعل فرقاً بين هذه الأشهر الثلاثة وغيرها، أفهل من شأننا أن نسأل الله عن عمله؟ لماذا جعلت يا الله فرقًا بين هذه الأشهر وغيرها؟ لماذا كانت النعم والبركات في هذه الأشهر أكثر؟ يقول: ما علاقتكم أنتم؟ لقد أتينا بهذه البركات والرحمات إليكم فاجلسوا واستفيدوا من هذه السفرة. فهذه لها حقيقة، ومن الواضح أنّه إذا حلّ شهر رجب تختلف الأجواء عن شهر جمادى. فكما تدركون إذا جاء شهر رمضان أنّ الأجواء قد تغيّرت، وكما تدركون إذا حلّ شهر محرّم أنّ الأجواء قد تغيّرت، وذلك الأثر المعنويّ لهذا الحدث يغيّر الأجواء ويجعلها حزينة، فكذلك هو الحال في شهر رجب، غاية الأمر أنّ هناك نقطة في شهر رجب لا توجد في غيره، وهي أنّ ذلك الفرق هو فرق خفيّ. ففي شهر رمضان يدرك الجميع ويلتفت الجميع إلى هذا الاختلاف، فهذا الصوم الذي يقوم به يدرك ماذا يُحدث فيه من تغيير، حتّى الذين هم لا يبالون كثيراً بهذه الأمور هم أيضاً معترفون بذلك، لقد رأيت الكثير من الذين لا يصلّون ولكن يأتون ويقولون: سيّدنا لا أدري ما قصّة شهر رمضان هذا... فهم يشعرون بهذا الفرق، أمّا شهر رجب فلا أحد يشعر به وهذه هي نقطة الفرق.
شهر رجب هو للخواص، لذلك لم يدعِ الله الجميع يُدركون، هو لأجل الذين يبحثون عن الأمر، للذين هم في الطريق، للذين يبحثون عن مخرجٍ، شهر رجب هو لهؤلاء، فهذا الشهر يختلف تأثيره عن شهر رمضان، فمن يراقب في هذا الشهر ويهتّم ويغيّر كلامه وطريقة ذهابه وإيّابه وكلّ كلمةٍ يقولها يلتفت إليها، ويقلّل علاقاته مع سائر الناس، ويلتفت أكثر إلى نفسه ويصوم قدر المستطاع وبما لا يؤدّي إلى ضعفه ومرضه وإن لم يتمكّن من الصيام يقرأ ذلك الذكر الموجود في مفاتيح الجنان: سبحان الإله الجليل، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له، سبحان الأعزّ الأكرم، سبحان من لبس العزة وهو له أهل مائة مرّةٍ في اليوم، والأدعية الواردة في هذا الشهر ويلتفت إلى معانيها وليس من الضروري أن يقرأ الإنسان الكثير من الدعاء ولم يصل أحد بكثرة القراءة، فليقرأ الإنسان خمسة أسطر بتدبّر خير من أن يقرأ خمسين سطراً وهو لا يفهم. اقرأوا بتأمّل وفكّروا بالمضامين فإنّها ليست شعراً بل هي أدعية إنّه أسماء وصفاتٌ جماليّة وجلاليّة للّه تنزّلت من ذلك العالم وخرجت من نفس المعصوم لتؤثّر في نفوسنا، إنّها ليست صحيفةً فالدعاء الذي يقرؤه الإمام الصادق ليس صحيفة أخبار، الدعاء الذي يقرؤه أمير المؤمنين ليس صحيفة، المناجاة الشعبانيّة على لسان أمير المؤمنين ليست مزاحاً، مضامين هذه المناجاة مضامين عجيبة، قلّةٌ هم الذين يمكنهم أن يصلوا إلى هذه المعاني فليقرأ الإنسان هذه الأدعية. وكان المرحوم العلامة أيضاً يوصي بها ويؤكّد عليها.
وما هو مهمٌّ هنا هو أنّ برنامج السيّد القاضي الذي أكّد عليه للرفقاء المرحوم العلامة في السنوات الأخيرة من حياته، وكان يقول لا أحد يراجعني في هذه الأشهر الثلاث والمطلوب هو ما في هذا البرنامج وعلى الإنسان أن يستفيد قدر المستطاع، فالأمر مهمٌّ جدّاً وإذا وفّق الله الإنسان لهذه الأشهر الثلاثة في السنة القادمة فهذا أمرٌ جيّد وإلا فهي خسارة، إنّ مجيء شهر رجب يعني الدعوة الإلهيّة المجدّدة فقد دعوتك من جديد فإن لم تأت وتجلس على هذه المائدة فهذا الأمر يرجع إليك، نحن أرسلنا الدعوة فلا تقل من أين نعلم أنّها لنا؟! إنّها للأعاظم وأين نحن؟! لا تقل هذا، عندما كان الأعاظم مثلنا لم يكونوا يختلفون عنّا بشيء إلا برفعهم مستوى همّتهم، فالأعاظم لم يكونوا أعاظم من البداية، وأولياء الله لم يكونوا أولياء، والعلماء الربّانييون لم يكونوا علماء ربانيّين جاؤوا شيئاً فشيئاً، كانت لهم همّة وصلابة فوصلوا.
لقد تذكّرت الآن قصّة، فبعد وفاة المرحوم العلامة زرنا أحد العلماء ممن كان قد شارك في مجالس الفاتحة فذكر لنا قصّةً عجيبةً جدّاً وقد كان معه في غرفةٍ واحدةٍ في إحدى المدارس، وكانا في مستوى دراسيّ واحد ولا يزال الآن على قيد الحياة، كان يقول منذ أن جاء السيد محمد حسين حسب تعبيره إلى قم كنّا رفيقين حميمين ، ذهبنا ذات يوم إلى مجلس الشيخ عباس الطهراني ـ والذي كان من العلماء الإلهيين وأهل المراقبة والتهذيب ولكنّه لم يكن من أهل العرفان وكان من أصحاب المكاشفة وأهل المعنويات وأصحاب التزكية، من الذين لا نظير لهم الآن، ولكنّ أهل العرفان وتلك الأمور الرفيعة شيءٌ آخر، كان له درسٌ في الأخلاق ـ فشاركنا في درسه وعندما خرجنا لا زلت أذكر هذه الجملة من السيّد محمد حسين فقد قال لي: يا فلان، أحياناً كنت أشكّ في طريقي، وعندما جئت إلى مجلسه ترك كلامه فيّ أثرًا لن يغادرني إلى آخر عمري.
فهذا هو الذي يقال إنّه صاحب همّة، أي إرادة وعزم وقصد وما دام الأمر كذلك فقد انتهى. هذا هو الطريق، وانتهى الأمر، هذه هي الحقيقة وانتهى الأمر. ولا معنى لأن أنعطف هنا وأنعطف هناك، وأدرس هذا الدرس لأجل هذا وأراعيه، وأقول هذا الكلام حتّى لا يتأذّى ونشارك في هذا المجلس رعايةً لفلان، كلّ هذا الكلام انتهى، انتهى عندما كان في قم وفي النجف وبعد عودته في علاقاته ومجالسه وعندما كان إذا وصل أحدهم وقال شيئاً جعل أمامه قطنةً في أذنه وقال: قولوا ما شئتم فقد أدركت حقيقة الأمر وقد أدركها حتّى آخر عمره، فهنيئاً له.
نسألة الله تعالى أن يوفّقنا في هذه الأشهر الثلاثة لنعمه وبركاته وفيوضاته الخاصّة والعامّة التي يجعلها لأفضل أوليائه، وأن يديم علينا ظلّ وليّ العصر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء وأن يجعلنا من المتّبعين الحقيقيين والمنتظرين الواقعيين له، وأن لا يحرمنا في الدنيا من زيارته وفي الآخرة من شفاعته.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.