10

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

10137
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالورد و الذكر


التوضيح

تدرس هذه المحاضرة حقيقة كلّ من الدنيا والآخرة مقدّمة لفهم حقيقة الذكر حيث جُعل بدلاً من الدنيا في حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وتخلُص إلى أنّ الدنيا ليست هي عالم المادّة والكواكب والمخلوقات الموجودة من حولنا، بل هي نوع من النظرة إلى الأشياء تقطعها عن ارتباطها بالله وتجعلها مستقلّة تُستعمَل للتفاخر والمباهاة والشهوة... والآخرة هي جانب ارتباطها بالله، والذكر هو الالتفات إلى حقائق الأشياء وجانب ارتباطها بالله (الأخروي الأمريّ)، وقد فصّلت ذلك من خلال بيان طبيعة علاقة الموجودات بالله، ممثّلة ببعض الأمثلة كارتباط حركة المصنع بالطاقة الكهربائیّة مقارنة له بارتباط السيّارة والبيت بالمصنَع والبنّاء...
وقد استشهدت المحاضرة لبيان تلك النقاط بالعديد من الشواهد القرآنيّة والروائیة والتاريخيّة، وكلمات الأولياء، وطبّقت مفهوم الدنيا والتكاثر على العديد من المصاديق المعاصرة كالتفاخر بالقوميّات والصراع على الشخصيّات وأسماء بعض الأماكن ومحاربة اللغة العربيّة.

/۱٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • حقائق الدنيا والآخرة والذكر

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۰

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

2
  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد للـه ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

  • ورسول ربّ العالمين

  • أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين 

  •  

  • لا تشغلني عن وردي! 

  • كان البحث في هذه الفقرة الشريفة من كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول الإمام: 

  • "مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تَشغَلني عَن وِردي" 

  • تقدّمت إشارة إلى كلام الإمام عليّ في نهج البلاغة حول علّة لزوم الذكر ودوره في ترقّي الإنسان، وبقي البحث ناقصًا. 

  • يقول أمير المؤمنين في نهج البلاغة حول خصوصيّة الذكر: 

  • "وإنَّ لِلذِّكرِ لَأهلًا أخذوهُ مِنَ الدّنيا بَدَلًا، فَلَم تَشغَلهُم تِجارَةٌ ولا بَيعٌ عَنهُ." 

  • الدنيا المذمومة في الروايات: إعطاء الاستقلال للموجودات عن الله 

  • ما نستفيده من عبارات نهج البلاغة وكلمات الأعاظم حول الدنيا المذمومة يختلف عن المعنى الذي يتبادر إلى أذهاننا، لأنّ المراد من الدنيا المذمومة في عبارات الأعاظم ليس مجرّد الحياة وطيّ العمر في عالم المادّة، أو الكرة الأرضيّة والشمس والنجوم السيّارات والثابتات والمجرّات. إنّ مراد الأئمّة والأولياء من الانغماس في الدنيا في أمثال الروايات المرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: "الدنيا ملعونة ملعون من فيها" لیس هو الحياة الدنيا، وبالطبع فإنّ شخص رسول الله والأئمة عليهم السلام كانوا يعيشون في هذه الدنيا، فلو كان المراد هو الحياة في هذه الدنيا، لقيل إنّ هذه الحياة (الولادة والحياة والموت) لم تكن باختيار الناس وليست باختيارهم الآن. 

  • إذا غضضنا النظر عن جهات العليّة ومراتبها في موضوع التوالد والتناسل فلا بدّ أن نقول على الأقل بأنّ ولادتنا كانت بيد أبوينا، حينها كيف يمكن لله تعالى أن يكون يأتي بنا إلى هذه الدنيا ثمّ يذمّها؟! هذا المعنى مخالف للغائية في الصنع والهدف من العليّة. فلا بدّ أن يكون المراد من الدنيا التي هي مشتقة من "الدناءة" بمعنى الانحطاط والوضاعة هو إعطاؤها الاستقلال وعدّها منفصلة عن سائر العوالم العلويّة. 

  • حقائق الأشياء في ارتباطها بالله 

  • إنّ ما يكشف الأشياء بواقعيّتها وحقيقتها للإنسان هو جانب ارتباط المخلوقات بحضرة الحقّ الذي حقّقها جميعًا وأوجدها من العدم وكساها خلعة الوجود، بحيث أنّا لو ألغينا من الأشياء هذا الجانب من الارتباط فلن يبقى شيء منها. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

3
  • ولا اختصاص لذلك بعالم المادّة، وكافّة مخلوقات العوالم العلويّة والماديّة مشمولة لهذه القاعدة، فحيث إنّ خلقتها هي من حضرة الحقّ تعالى، فإنّها بغير عنايته ستكون عدمًا محضًا حدوثًا وبقاءً. كافّة العوالم سواء من حيث أصل ظهورها وخلقتها، أو من حيث حياتها ودوامها معتمدة على ذاته المقدّسة، وبلحظة واحدة من عدم العناية يحكمها العدم بشكل كامل: 

  • .... ..... .....***اگر نازی كند از هم فرو ریزند قالب‌ها 
  • إذا أبدى الدلال والامتناع لانهارت واندثرت كلّ القوالب. 

  • والآن تترتّب على هذه الموجودات التي أصل وجودها من حضرة الحقّ آثار، فمثلاً تترتّب على الملائکة ـ التي أصل وجودها جميعًا من حضرة الحقّ ولها وجود في عالم الأعيان الخارجيّة ـ آثار كالعلم والنور والبهاء والعقل والتدبير والصفاء والعبادة والمجد والكرامة والعظمة وجميع هذه الآثار بتبع ذلك الوجود هي من جناب الحقّ تبارك وتعالى. 

  • أمثلة لبيان کيفيّة ارتباط الموجودات بالله 

  • وبالالتفات إلى هذه النقطة يتّضح أنّ كافّة الموجودات التي في عالم الوجود تترشّح من حضرة الحقّ، فهي موجودات متدلّية ومتّكئة على حضرة الحقّ، فهی لیست کالسيّارة التي إذا ما تجاوزت مرحلة الصناعة في المصنع فإنّها حركتها لا ترتبط به، بل بالوقود والسائق، ولا هي كالبيت الذي لا يحتاج بعد إتمام البناء إلى المهندس والبنّاء. 

  • كما أنّ اعتماد الموجودات على حضرة الحقّ ليس كاعتماد الطفل على أمّه، بحيث يمكن بعد الولادة أن يحافظ عليه من خلال المربيّة أو الحليب الصناعي والغذاء المناسب بل إنّ ارتباط الموجودات بحضرة الحقّ هو كارتباط أجهزة الإنتاج بمصدر الكهرباء، فما دامت الكهرباء جارية في الجهاز فإنّه يعمل، وما إن ينقطع التيّار الكهربائي حتّى يتوقّف الجهاز عن الحركة وينتهي عمله. 

  • العلاقة بين الله والإنسان هي من هذا النحو، فما دام المحرّك منصوبًا على السدّ فإنّه ينتج التيّار الكهربائي ويعمل الجهاز، وما إن يتوقّف المحرّك عن العمل حتّى يتوقّف الجهاز عن العمل ولا يتأخّر حتّى لثانية واحدة وذلك لأنّ حركة هذا الجهاز معتمدة على حركة التيّار الكهربائي المتناوبة وما إن ينقطع هذا التيّار، سيتوقّف الجهاز عن العمل والإنتاج والتأثير وإعطاء البركات والخيرات. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

4
  • هذا المثال لتقريب الفكرة إلى الذهن، والأمر بين كيفيّة الارتباط بين الموجودات وحضرة الحقّ هو أرفع من ذلك، وذلك لأنّه في هذه الحالة سيحكم العدم وجودنا، لا أنّ العدم سيحكم نشاطنا وآثارنا فحسب. فلو فرضنا أنّ التيّار الكهربائيّ فضلاً عن تحريك الجهاز وإنتاجيّته يؤثّر على أصل حياة العجلات وسائر أجزاء الجهاز، وحينها إن لم يكن التيّار الكهربائي، فسينعدم أصل وجود الجهاز أيضًا. إنّ ارتباط جبرائيل والنبيّ الأكرم وأمير المؤمنين بحضرة الحقّ هو من هذا القبيل، وهذه الحقيقة والواقعيّة الكامنة وراء ستار غفلتنا، واختفت عن أبصارنا. 

  • نحن كطفل يتعجّب من النظر إلى كيفيّة عمل الجهاز في الظاهر ويقول: کم هو جهاز عجيب ويا لها من أعمال رائعة التي يقوم بها، فالطفل لا يدرك شيئًا عن حقيقة الكهرباء، فلو أنّ إنسانًا قطع التيّار الكهربائي وتوقّف الجهاز فإنّا مهما قلنا له إنّ عمل هذا الجهاز العظيم هو بواسطة الكهرباء، فإنّه لا يدرك هذا الأمر، ويقول لا يوجد كهرباء، وهذه الحركة والإنتاج هي من العجلات ومن نفس هذا الجهاز. 

  • إنّ هذه الساعة التي في يدي تتحرّك بواسطة الطاقة الميكانيكيّة الموجودة في أسلاكها وعجلاتها الصغيرة ولكنها غير قابلة للرؤية، وفقط يمكن رؤية الأسلاك والعجلات المحرّكة. 

  • إنّ أبصارنا أيضًا لا يمكنها أن تبصر الحقيقة التي تغطّي كافّة موجودات العالم وتحميها؛ وذلك لأنّ هذه الحقيقة مختبئة وراء الستار ومختفية عن أبصارنا. إنّ ما نراه نحن هو زيد الذي يرتدي لباسه في الصباح ويسرّح شعره، ويمضي نحو الشارع، ويتظاهر بالقول إنّي أمشي وأمتلك طاقة وقدرة. ولكن هل یمکنه أن يحفظ هذه الطاقة إلى المساء، وأن لا يقع على الأرض وأن لا ينقل إلى المستشفى إذا ما اصطدم بدرّاجة ناريّة؟! 

  • قصّة إهانة "تيمورتاش" للملا الرومي 

  • في أيّام حكومة رضا شاه كان هناك رجل فاضل يدعى "علي أصغر حكمت" يشغل منصب وزير الثقافة والمعرفة، وكان "محمّد علي فروغي" رئیس الوزراء، وكان وزيرَ البلاط أيضًا رجلٌ يُدعى "تيمورتاش" من منطقة بجنورد، وكان له نفوذ يفوق نفوذ "فروغي" رئیس الوزراء. ينقل علي أصغر حكمت في مذكّراته حكاية فيقول: في يوم من الأيّام أردت أن أزور الشاه لأسلّم عليه وأهنّئه، وضمن ذلك كنت أودّ أن أستأذن منه إقامة مؤتمر تجليل لمولانا جلال الدين محمّد البلخي بمناسبة مرور بضع مائة سنة على ولادته. وعندما دخلت إلى القصر لم يكن "رضا شاه" قد حضر بعد، وكان "تيمورتاش" يمشي ممسكًا بعصا التعليم في يده، ويبعُد عنه حوالي المتر "فروغي" الذي لم يكن يجرؤ أن يقترب منه، وبينما هو يسير أمام الجميع، كان يقول لـ "فروغي" الذي كان خلفه: لقد أمرنا أن تقوموا بكذا وكذا من الأعمال فما هي الخطوات التي قمتم بها؟ ثمّ يتوقّف ويتوقّف أيضًا "فروغي" بعيدًا عنه مسافة متر ويقول: أجل سيّدي نحن قمنا بكذا وكذا ويتحرّك من جديد ويسير خلفه "محمد علي خان فروغي" محافظًا على مسافة متر تفصله عنه 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

5
  • مشیت نحوهما، عندها اقترب منّي "فروغي" وصرنا نمشي معًا، وما إن وقعت عينا "تيمورتاش" عليّ حتّى سألني: "هل جئت أنت إلى هنا لحاجة ما؟" 

  • قلت: "نعم سیدي! كنت أودّ أن أستأذنكم حول إقامة مؤتمر بمناسبة مرور بضع سنوات على ولادة مولانا جلال الدين الروميّ." 

  • فقال تيمورتاش: "مولانا؟! ومن هو هذا الرجل لتقيم له مؤتمرًا؟!" 

  • وحیث إنّ هؤلاء كانوا يهتمّون إلى حدّ ما بالشعر والأدب الفارسي، كنت أودّ أن ألفت نظره فقلت: "على أيّ حال كان من رجال الشعر والأدب الفارسي." 

  • قال تیمورتاش: " وما ذاك الشعر الذي قاله!" 

  • سألته: "أيّ شعر تقصد؟" 

  • قال: ذلك الشعر الذي يقول فيه: 

  • ما همه شیران ولی شیر عَلَم‌***حمله‌مان از باد باشد دم‌به‌دم‌ 
  • حمله‌مان از باد و ناپیداست باد***جان فدای آن كه ناپیداست باد 
  • وترجمته: 

  • نحن جميعنا أُسُودٌ ولكنّا أسود الرايات *** من الريح حركتنا لحظة بعد لحظة 

  • من الريح حركتنا والريح لا تُرى *** روحي الفداء لذاك الذي لا يُرى 

  • ثمّ يقول في النهاية: ما معنى "نحن جميعنا أسود ولكنّا أسود الرايات؟" إنّنا نحن الذين نمتلك القدرة، نحن الذين نحكم، نحن الذين نفعل كذا وكذا! فما هذا الكلام الذي يقوله هذا الرجل في كتابه؟ ! 

  • قلت: سیّدي هو في النهاية من الرجال الفرس، أرجو منكم أن تأذنوا لنا أن نقوم بهذا المؤتمر. 

  • قال: لا بأس، قوموا بما تريدون. 

  • مرّت على هذه الحادثة سنوات حتّى وقع خلاف بينه وبين رضا شاه فأمر رضا شاه بسجنه ومنع اللقاء معه. 

  • كان العميد الركن "مختاري" القاسي القلب رئیس الشرطة آنذاك ، فذهبت إليه وطلبت منه السماح باللقاء بتيمورتاش، فسمح لي. سرت نحو زنزانة تيمورتاش، وقبل أن أصل إليها إذا بصوت يتناهى إلى سمعي، اقتربت من الزنزانة أكثر ونظرت من ثقبها فإذا به جالس يقول: 

  • ما همه شيران ولي شير علم***حمله مان از باد باشد دم به دم 
  • نحن جميعنا أُسُودٌ ولكنّا أسود الرايات *** من الريح حركتنا لحظة بعد لحظة
  • دخلت وقلت: سيّد تيمورتاش! هل أدركت الآن كلام مولانا؟! 

  • قال: نعم أدركت وفهمت أنّه يقول صوابًا!" 

  • أجل إنّ كلّ ما حقّقه الله وأوجده في عالم الوجود، له إضافة إلى الجانب الخلقيّ جانب واقعيّ وأمريّ هو عبارة عن جانب مشيئة الحقّ، وإرادته، وبعبارة أخرى إنّ جانب إرادة الحقّ يشكّل حقيقة وجود جميع الأشياء، بحيث أنّه لو لم تكن هذه الإرادة فإنّ العدم سيكون حاكمًا على كلّ الأشياء، ولا وجود لشيء من الأشياء. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

6
  • بناء على ذلك، فإنّ تلك الإرادة والمشيئة التي كانت في بداية خلق الأشياء هي بعينها جارية وسارية بالنسبة إلى بقائها، وبعبارة أدقّ فإنّ كلّ خلق يستتبع خلقًا جديدًا، لا أنّ الشيء يوجد ثمّ تصدر عنه آثار. 

  • فمثلاً منذ اللحظة التي تنعقد فيها النطفة، في كلّ لحظة هناك خلق جديد مغاير للخلق السابق: الثانيةُ الثالثةُ هي خلق جديد مغاير للثانيةِ الثانية، والثانيةُ الرابعةُ هي خلق جديد مختلف عن الثانية الثالثة، وتستمرّ الخلقة على هذا النحو حتّى يولد الطفل، وفي هذه الدنيا أيضًا تستمرّ عمليّات الخلق الجديد في كلّ لحظة، بحيث إنّ الإنسان في كلّ لحظة هو مخلوق جديد مغاير للمخلوق السابق. 

  • انعدام أجسام الموجودات وأرواحها عند انقطاع عمليّة الفيض الإلهيّ 

  • أنا الآن أرفع هذا الكتاب من هنا وأضعه هنا، وهذه القوّة التي ترفع الكتاب من نقطة البداية ليست قوّة منقطعة، بل هي قوّة واحدة مستمرّة ترفع الكتاب عن سطح الأرض إلى ارتفاع عشرين سنتيمترًا، وتحرّكه إلى النقطة التالية، بحيث أنّ هذه القوّة لو لم توجد للحظة واحدة، فإنّ هذا الكتاب سيسقط على الفور. ووجودنا أيضًا منذ بداية الخلقة إلى الآن، ومن الآن فلاحقًا هو بواسطة قوّة واحدة مستمرّة، بحيث أنّه لو انقطعت هذه العمليّة في أيّة لحظة فلن يبقى بعد ذلك منّا لا جلد وعظم وبدن، ولا نفس وروح. کما لو أنّ الإنسان الذي يجلس أمامكم ينمحي دفعة واحدة من أمام أعينكم وينعدم بحيث لا تجدونه بعد ذلك. 

  • ويمكن أن نشبّه هذه العمليّة بعالم أمر الله وعالم خلقه، فعندما تتعلّق مشيئة الله بالخلق فإنّ هذه الإرادة هي إرادة واحدة مستمرّة تكون في كلّ لحظة مع جميع الأشياء، وليست إرادة دفعيّة ومنقطعة. 

  • وهذه الإرادة لها آثار خارجيّة كهذا الكوب والإبريق اللذين أمامنا، ولكنّا لا نرى عين هذه الإرادة، تمامًا كما لا نرى التيّار الكهربائي الموجود في أجهزة مصنع من المصانع، وما يقبل المشاهدة من قبلنا هو ظهور وبروز التيّار الكهربائيّ فيه، نحن يمكننا أن نرى حركة العجلات وأنواع الآلات التي تقوم كالرجل الآلي بالتقاط القطعات واحدة تلو الأخرى وتضعها في مواضعها وترتّبها. في حين أنّ ما يوجب الحركة هو الطاقة التي تسري في وجود هذا الجهاز. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

7
  • إنّ موجودات عالم الوجود هي كرجل آليّ تشكّل وجودًا واحدًا مستمرًّا تحرّكها جميعًا إرادةُ الحقّ، بحيث أنّه لو انقطع هذا الوجود لحظة واحدة لسیطر العدم على كامل عالم الوجود، وسينثر غبار الموت على مهد عالم الوجود. 

  • عندما تكون إرادة الحقّ ومشيئته هي القوّة الوحيدة التي يتحقّق بها كلّ عالم الوجود، فلا بدّ أن نعدّ حقيقة كافّة الأشياء من تلك اليد المستترة والقوّة الخفيّة والجانب الأمريّ؛ لذا فإنّ الآية الشريفة: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ} تقول: نحن نرید أن نريد أن نريهم آياتنا في الموجودات والحوادث الخارجيّة والأمور النفسيّة، حتّى يتبيّن لهم أنّه فقط وفقط المشيئة والإرادة الإلهيّة هي الحقّ، وبعبارة أخرى: فإنّ {حتّى يتبيّن لهم} تبيّن الغاية من إراءة الآيات وتقول إنّ الهدف من الآيات الإلهيّة هو أن يتّضح لهم أن لا يروا خلف الستار شيئًا سوى إرادة الحقّ. 

  • فما هي تلك الآيات؟ 

  • نماذج من الآيات الإلهيّة 

  • إنّ كافّة موجودات وحوادث العالم هي آيات إلهيّة... 

  •  فأن نرى شابًّا قويًّا يمكنه أن يرفع ثلاثمائة كيلوغرامًا يقع ميّتًا دفعة واحدة ولا يمتلك القدرة على تحريك يده، فهذا آية إلهيّة. 

  • وأن يظهر فجأة مانع في طريقنا ومهما نسعى إلى التخلّص منه لا نتمكّن هو آية إلهيّة. 

  • وأن يدرس أحدهم ويغدو علاّمة الدهر ولكن فجأة يعرض له النسيان بشكل يجعله لا يميّز بين يده اليمنى ويده اليسرى، فإنّ ذلك هو آية إلهيّة. 

  • وأن يرى الإنسان كافّة السبل مسدودة أمامه للوصول إلى مبتغاه ولكن فجأة ومن حيث لا يحتسب ينفتح أمامه باب لم يكن يفكّر به أصلاً، فإنّ ذلك من آيات الله وعلاماته. 

  • بناء على ذلك فإنّ {حتّى يتبيّن لهم} تعني أن يا أيّها العمي ويا أيّها الذين أغمضوا أعينهم عن الحقّ، ولم ينظروا إلاّ إلى الظاهر، يا من لم يروا القدرة والمشيئة إلا في الظواهر، ويا من لم يروا حقائق الأشياء إلا في هذه الصور والظواهر اعلموا أنّ وارء هذه الظواهر باطنًا وحقيقة وارتباطًا وتعلّقًا. 

  • ألم تروا صرخات ونداءات وادعاءات فلان كيف سقطت أرضًا بورقة واحدة؟! ألم تروا كيف كان ذلك الرجل يقول ما يشاء على المنابر ويدّعي ما يشاء ثمّ فجأة استيقظ من النوم فوجد أن لم يعد هناك دير ولا ديّار؟! ألم تروا تلك الألقاب والأوامر والنواهي في زمان الشاه؟! 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

8
  • لقد كان الشاه السابق يتحدّث بنحو من التبختر والتفرعن والأنانيّة وكأنّ الدنيا كلّه ملك له وليس فقط إيران، وأنّه يمسك بزمام عالم الوجود: "نحن نقول هذا! ومشيئتنا تعلّقت بكذا!" ولكن وصل به الأمر إلى أنّه كان يلتمس من الدول ولم يجد دولة واحدة تستقبله. فلو أنّ هذه الأحداث حكيت لنا لكان من الممكن أن نتردّد في التصديق بها، ولكنّ ذلك هو تلك الآيات التي رأيناها بأعيننا. والله تعالى يري تلك الآيات {حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ} أي يتّضح أنّ الحقّ والمشيئة الإلهيّة شيء آخر. 

  • زوال ملك كسرى من آيات الله 

  •  جاء في التاريخ حول رسالة النبيّ الأكرم لخسرو برويز أنّه عندما وصلت رسالة رسول الله إلى قصر كسرى أبرويز على يد عبد الله بن حذافة، أخبروه أنّ رجلاً عربيًّا جاء يحمل رسالة. فقال كسرى أبرويز الذي كان متكبّرًا ومغرورًا جدًّا: على أيّ حال أدخلوه ولو للتسلية لنرى ما يقول. أدخلوا عبد الله بن حذافة وأعطوا الرسالة للمترجم ليترجمها. وكان رسول الله قد كتب في تلك الرسالة: 

  • "بِسم اللَه الرّحمن الرّحيم 

  • مِن محمّدٍ رسولِ اللَه، إلى كسرى عَظيمِ فارسَ. سلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدى وآمَنَ بِاللَه و رَسولِهِ وشَهِدَ أن لا إلهَ الّا اللَه وحدَهُ لا شريكَ لَه وأنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُه وأدعوكَ بِداعيَةِ اللَه عَزَّ وَجَلَّ؛ فإنّي أنا رسولُ اللَه إلَى النّاسِ كافَّةً لِأُنذِرَ {مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ} 

  • فأَسلِم تَسلَم؛ فإن أبَيتَ فإنَّ إثمَ المَجوسِ عليك." 

  • لم يسمح كسرى أبرويز للمترجم بأن يكمل الرسالة، فمزّقها وداسها وقال: لماذا قدّم هذا الرجل العربيّ اسمه على اسمي وهو عبد لي؟! 

  • ولمّا وصل هذا الخبر إلى رسول الله قال: "مزّق الله ملكه كما مزّق كتابي"

  • ثمّ كتب كسرى إلى باذان وهو على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتياني به . 

  • فكتب معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبانوبه: ويلك انظر ما الرجل وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وكلمه بانوبه، وقال : إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرّب بلادك، وكانا قد دخلا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما، وقال: " ويلكما من أمركما بهذا ؟ " قالا: أمرنا بهذا ربنا ـ يعنيان كسرى ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " لكنّ ربّي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي " ثمّ قال لهما: "ارجعا حتّى تأتياني غدًا " وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله الخبرُ من السماء أنّ الله عز وجلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا لكذا وكذا من الليل، فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله قال لهما: إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بعد ما مضى من الليل كذا وكذا. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

9
  • فخرجا من عنده حتّى قدما على باذان وأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإنّي لأرى الرجل نبيًّا كما يقول، ولننظر ما قد قال، فلئن كان ما قد قال حقًّا، ما فيه كلام أنّه نبيّ مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد فإنّي قد قتلت كسرى... فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وأَنظِرِ الرجلَ الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تُهجْه حتى يأتيَك أمري فيه. فلمّا انتهى كتاب شيرويه باذان قال: إنّ هذا الرجل لرسول فأسلم. فأبقاه النبيّ على ملكه. 

  • والبحث حول كسرى وبيان خصوصيّاته خارج عن قدرة هذا المجلس، وإجمالاً كان له ملك وسلطان لم يكن لأحد من السلاطين وكان له سبعة كنوز منها كنز "باد آورد" ولكنّ الكلام هو في أنّ هذا المسكين كان ينظر إلى الظاهر فحسب، ولم يكن ينظر إلى مشيئة الله، فلو كان ينظر إلى جهة "عالم الأمر" لما مزّق رسالة النبيّ الأكرم. 

  • إنّ قصّة غلبة الروم على الفرس وانقراض حكومة كسرى الجائرة  كان أمرًا ممتنعًا ولا يمكن التصديق به من حيث الأسباب الظاهريّة، ولكن ينبغي ألاّ نغفل عن الإرادة الإلهيّة. لقد سيطرت الغفلة على كسرى إلى حدّ جعلته لا يرى ما وراء الستار، فابتلي بهذا المصير. 

  • أجل إنّ هذه الحكاية أيضًا هي من الآيات التي يقول عنها: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ}" كلّ ذلك هو عبرة لنا. 

  • قتل المتوكّل العبّاسي بسيفه المميّز من آيات الله 

  • جاء في التاريخ حول المتوكّل العبّاسي أنّه كان يومًا جالسًا بين ندمائه يتحدّثون حول أنواع السيوف والمواضع التي تصنع فيها. فقال أحدهم: عند أحد رجال البصرة سيف هنديّ لا نظير له، ولم يُرَ مثله قط. وبيّن خصائص ذلك السيف. 

  • أصيب المتوكّل من كلامه بالهوس وشعر برغبة شديدة في امتلاكه، فأرسل رجلاً لإحضاره، وفي النهاية وجدوه في اليمن واشتروه بثمن خياليّ. 

  • جاؤوا بهذا السيف العديم النظير إلى سامرّاء عاصمة المتوكّل، فتحلّق الجميع حوله وتعجّبوا من كيفيّة صقله وحدّته ومتانته. وفي النهاية استقرّ رأي المتوكّل على أن يمسك بهذا السيف أحد غلمانه الخواصّ ويدعى باغر التركي ویقف عند رأسه ولا يصنع به شيء سوى حراسة المتوكّل. ورغم أنّهم اتّفقوا أنّه عندما يجلس المتوكّل على العرش فإنّ على هذا الغلام أن يحرسه بهذا السيف، ولكن كان من آيات الله أنّ هذا السيف لم يهو إلا على رأس المتوكّل نفسه. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

10
  • ولهذه القضيّة قصّة مفصّلة، وخلاصتها أنّ المتوكّل أهان أمير المؤمنين في أحد المجالس، ورغم أنّ ابنه لم يكن شيعيًّا ولكنّه كان محبًّا لأمير المؤمنين عليه السلام ولم يستطع أن يتحمّل، فاعترض على أبيه، فسبّه المتوكّل، فحقد الولد على أبيه. وفي النهاية وبالتعاون مع بعض الرجال هاجموا المتوكّل وقطّعوه بذلك السيف إربًا إربًا. 

  • يقول الله نحن في هذه الدنيا نري آياتنا وعلاماتنا على الدوام للنّاس لكي يغدو واضحًا ذلك الحقّ وذلك البعد الباطني من الارتباط والذي هو وراء عالم الخلق هذا. فإن أعمل إنسان ما عقله وفتح عينيه فإنّه سيرى هذه الآيات والعلامات في كلّ شيء وسيعتبر، ولكن حيث إنّا أغمضنا أعيننا فإنّا لا نرى بُعد الارتباط هذا ما وراء الستار. 

  • يقول القرآن: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} فالناس لا يرون سوى ظاهرٍ من الحياة الدنيا (الرئاسة، البطش، الوزير والمحامي، المدير العام والنائب، الأمر والنهي، الحرب والسلام، الجمال والكمال، المال والقوّة) ويغفلون عن ذلك المعطي للقدرة والقوّة والعظمة وينسون ذلك التيّار الكهربائي الذي هو وراء الجهاز. 

  • حقيقة كل من الدنيا والآخرة 

  • بناء على ذلك، فإنّ الدنيا هي ذلك الجانب الظاهريّ، والآخرة هي الجانب الباطنيّ الذي يغفل عنه الإنسان. الدنيا عبارة عن: الخداع، الهوى والهوس، التخيّلات والتصوّرات، الخواء والمجاز. والآخرة عبارة عن: كبرياء الحقّ، جمال الحقّ، علم الحقّ، قدرة الحقّ، إرادة الحقّ ومشيئته، تدبير الحقّ، لطف الحقّ وعنايته وكرمه تبارك وتعالى. 

  • إنّ رؤية علم العالم وعدم رؤية علم من أعطاه العلم هو الدنيا؛ رؤية قوّة البطل وعدم رؤية من أعطاه القوّة هو الدنيا. نحن نرى من يرفع الأثقال بوزن ثلاثمائة كيلوغرامًا ونشجّعه ونمنحه وسامًا ونضع على رأسه تاجًا، ونرفعه على الأكتاف، ولكنّا غافلون عن تلك القدرة التي هي وراء ذلك، هذا ظاهر ومجاز، وذاك باطن وحقيقة. 

  • فالنتيجة هي أنّ المقصود من رواية (الدنيا ملعونة) ليس هذا الإبريق والكوب، فهذا الكوب نعمة الله ووسيلة يستفيد منها الجميع، لا هو ملعون ولا مذنب، وحتّى النبيّ يشرب به الماء كغيره. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

11
  • هل الثمرة التي اجتمعت الملائكة كلّها لخلقها في هذا العالم ملعونة وكان لا ينبغي أن تخلق؟! حتمًا ليس الأمر كذلك. فالثمرة هي نعمة من نعم الله ولا ذنب عليها. إن أكلت هذه الثمرة بنيّة أن تعطيك الطاقة والقوّة لتكون في طريق الله ورضاه، فهي من الآخرة ومستحسنة، أمّا لو أكلتها لتحصل القوّة على استغابة أخيك وطعنه والتعدّي عليه، فهي دنيا وملعونة. 

  • كما أنّك لو هيّأت سيّارة لكسب عيشك وعيش صديقك، وهدُفك منها تحصيل رضى الله وجانب عالم الأمر، فهذا من الآخرة ورحمانيّ. ولكن لو هيّأت تلك السيّارة بعينها لأجل الفخر على أقرانك فذلك من الدنيا وملعون. 

  • بناء على ذلك فإنّ تلك السيّارة ليست ملعونة، بل الأهداف والنوايا التي خلفها هي الملعونة. السيّارة هي عبارة عن المطّاط والحديد والجلد والمصابيح وأمثال ذلك، وقد جمعت بطريقة خاصّة فخرجت بهذا الشكل، فهذه السيّارة ليست فقط غير ملعونة بل لو كان النبيّ وإمام الزمان لركباها! 

  •  الوسائل الحديثة ليست من الدنيا وأهل العرفان أحقّ بها 

  • لقد كانت كافّة شوارع النجف في السابق ترابيّة، فقيل للمرحوم القاضي: يا سيّد يريدون أن يعبّدوا هذه الطرق ويغيّروا حالتها الترابيّة هذه، ويقال إنّ هناك وسائل نقل تنقل الناس سريعًا من مكان إلى آخر. فقال: "مهما صنعوا من ذلك فإنّ عملنا سيكون أسهل." 

  • يعني نحن لا نريد هذه الوسائل لأجل الدنيا، وبواسطتها سنصل إلى الآخرة أسرع. فلو أنّ الإنسان ركب سيّارة بدلاً من الحمار فإنّه سيطوي الطريق الذي كان يطويه بعشر ساعات في ربع ساعة وسينتهي إلى عمله بسرعة، رغم أنّ هناك جماعة يستفيدون منها للفخر والمباهات والوصول إلى حطام الدنيا. فلو أراد الإنسان أن يسافر لزيارة الإمام الرضا عليه السلام عبر الجمل والهودج لبقي لثلاثة أشهر في الطريق وابتلي بقطّاع الطرق والقتل والإغارة، ولكنّه الآن يتشرّف بالحضور إلى مشهد بالطائرة خلال ساعة واحدة، ويقضي تلك الأشهر الثلاثة بالزيارة، فهذا أمر مرغوب ومريح. فهذه الأمور لا تعدّ من الدنيا، الدنيا هي التفاخر على الآخرين والنظر إلى الأشياء على أنّها مستقلّة. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

12
  • الذكر هو التوجّه إلى الحقّ والدنيا هي الانصراف عن الحقّ 

  •  فمقصود أمير المؤمنين عليه السلام حين قال: "وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً." هو أنّ في عالم المادّة هذا جماعة استبدلوا ذلك البعد الظاهر بذكر الله وذلك البعدِ الباطن، فأهل الذكر يستفيدون من ذلك الخبز والأرزّ اللذين يأكل منهما أهل الدنيا، ولكنّ أهل الدنيا يأكلونهما لأجل الشهوة والترفّع والمفاخرة، أمّا أهل الذكر والآخرة فإنّهم يستفيدون منهما بغرض سدّ الجوع وتقوية البنية في سبيل العبوديّة والتقرّب إلى الله. 

  • وبالالتفات إلى هذه النكتة فإنّ الدنيا تصبح ذات مفهوم أوسع ممّا نتصوّره، فحسب هذا التعريف فإنّ الدنيا عبارة عن: "انصراف الإنسان عن الحقّ بغير حقّ؛ الانصراف عن عالم التوحيد إلى عالم الكثرة." وهذا الانصراف ليس منحصرًا بعالم المادّة، بل يمكن أن يكون في العوالم الأخرى. فربّما يكون الإنسان في مرتبة عالم البرزخ والمثال وتصرفه الصور المثاليّة والجماليّة عن التوجّه إلى ذات الحقّ؛ فهذا دنيا أيضًا، ولا فرق بينه وبين مظاهر عالم المادّة. 

  • يمكن للتوجّه إلى الصور الجماليّة للحور العين والمناظر العجيبة واللطيفة في تلك العوالم أن تلهي قلب الإنسان بالنظر إلى تلك الصور، وتمنعه من طريقه وهدفه والوصول إلى الحقّ. بناء على ذلك فإنّ الدنيا ليست هي هذه الكرة الأرضيّة والنعم الموجودة فيها، بل كلّ ما يؤدّي إلى صرف الإنسان عن التوحيد هو دنيا، وإن كان جبرائیل الأمين والقوى العقليّة المجرّدة، وذلك لأنّ الحقّ وتلك العلّة الموجدة التي خلَقَتها كائنة خلفها. 

  • كلام حضرة الحاج السيّد هاشم الحدّاد عند البحث عن عظمة جبرائیل 

  •  ینقل المرحوم العلامة قدّس الله سرّه: «كنّا بمعيّة المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه وسائر الرفقاء والأحبّة في منزل أحد الأصدقاء في الكاظمين، ودار الحديث حول عروج مقام حضرة جبرائيل‌ إلى عالم الوحي، وكيفيّة نزوله على قلوب الأنبياء والرسل الإلهيّين، وكيفيّة انتقال الحقائق العلميّة من حقيقتها الكلّية إلى نفوس البشر الجزئيّة، وحول قدرة هذا المَلَك المقرّب وقوّته وإشرافه على جميع العلوم والصور الكلّية والجزئيّة للحقيقة العلميّة لحضرة الحقّ جلّ وعلا، وفي هذه الأثناء تحدّث كل شخصٍ طبق فهمه وعرض الأمر ضمن إدراكه، وكان كلٌّ منهم يبرز تعجبّه من هذه المسألة، وبقي المرحوم السيّد الحدّاد ساكتًا يستمع إلى كلام هؤلاء الأشخاص، وبعد مدّةٍ رفع رأسه وقال بلهجة جادّة تحكي عن حقيقةٍ منكشفةٍ لديه بشكلٍ عميقٍ ووضوحٍ جليٍّ:" أيّ بحثٍ هذا الذي تبحثونه وتتحدّثون فيه عن علوّ درجات ومقامات حضرة جبرائيل‌ وسعته الوجوديّة؟! إنّنا في مقامٍ ومرتبةٍ لا يستطيع جبرائيل‌ أن يتصوّرها، ولا يقدر على إدراك تلك المرتبة أو حقائقها الوجوديّة، فلماذا توقّفتم عند صعود الملائكة ونزولهم؟ تعالوا وانظروا ماذا يوجد فوق ذلك! هناك حيث لا يتمكّن الآلاف من أمثال جبرائيل‌ من الوصول إلى ذاك المكان، بل يبقون دون ذلك المقام؛ فعلى السالك أن لا يرضى بما دون الذات، وألّا يتنزّل عنها ويحرم نفسه من الارتواء من الماء المعين لتلك الحقيقة، ولا أن يشغل نفسه بحقائق هي دون حقيقة ذات حضرة الحقّ تعالى فيفنيَ عمره دون جدوى"». 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

13
  • يعني يا أيّها الإنسان لو أعملت عقلك لرأيت أنّك موجود أعظم من جبرائیل، في حين أنّك تلهي نفسك الآن بالسكاكر والألعاب! 

  • أجل فإنّ الذين اختاروا ذكر الله بدلاً من الدنيا كانوامصداقًا لفقرة "وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه... يهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين" فهؤلاء يرفعون أصواتهم في تنبيه أهل الغفلة على ذلك البعد الباطنيّ والأمريّ، ويحذّرونهم من محارم الله ويقولون: يا أيّها الناس نحن موجودات مثلكم لم نأت إلى هذه الدنيا من كواكب أخرى، ولكن صمّت أسماعكم وعميت أبصاركم. 

  • ولكنّ لهؤلاء علومًا ويدركون أمورًا لا ندركها نحن، ولذلك فإنّهم يضربون على رؤوسنا لكي نفتح أعيننا، ولكن عندما يصل الأمر إلى أن نقول: يا للعجب! إنّ هؤلاء يقولون حقًّا! فإنّه سيكون قد مضى على عمرنا خمسون عامًا، وربّما لن نعيش بعد ذلك أكثر من عشر سنوات. في حين أنّ مدركاتنا اليوم لا تختلف عن مدركاتنا حين كنّا أبناء عشرين عامًا، ولم نحصل على شيء، فاليوم أيضًا نأكل ما كنّا نأكله قبل عشرين عامًا، ولم تختلف حياتنا، بل أصبحنا أكثر تلفًا. 

  • إنّ هؤلاء يعملون مبضعهم ويحثوننا حتّى تتحرّك تلك القوى الباطنيّة والاستعدادات الكامنة التي لم تزل مخفيّة في وجود الناس. فالإنسان الذي يهتمّ فقط بقوّة سواعده وجماله الظاهريّ لكي يمكنه أن يظهر علمه وجماله وقوّته أمام الناس بصورة أفضل، يدرك أنّ هناك جمالاً وكمالاً باطنيّين أيضًا لم يلتفت إليهما بعد، إنّ فيه علومًا كامنة لا يمكن أن يعثر عليها في كتاب أو دفتر. 

  • فالذكر هو تذكّر الله والحركة نحو الله والتوجّه إلى الحقيقة التي هي وراء عالم المادّة والظاهر. وعلى هذا الأساس فإنّ معنى الدنيا هو: التخيّلات والنظر الاستقلالي إلى هذا العالم والغفلة عن تلك الحقيقة، وليس مجرّد ظواهر عالم المادّة. 

  • تعريف أمير المؤمنين للدنيا في تفسير سورة التكاثر 

  • إذا نظرنا إلى نهج البلاغة لرأينا أنّ غاية أمير المؤمنين عليه السلام فيه من أوّله إلى آخره هي أن يوضّح هذه المسألة للناس، وللإمام خطبة حول سورة التكاثر المباركة لا يمكن لأحد أن يعرّف الدنيا بخير منها، لذا على جميع المتقنين للّغة العربيّة أن يطالعوا شرح ابن أبي الحديد الجيّد نسبيًّا على هذه الخطبة، وأمّا غير المطّلعين على اللغة العربيّة فليراجعوا الشروح الفارسيّة لها. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

14
  • لقد كان شأن نزول هذه السورة أنّ قبيلتين كانتا تتفاخران في عدد أفرادهما، وكانت كلّ واحدة منهما تعدّد عظماءها وشعراءها وأدباءها وأبطالها، حتّى بلغ بهم الأمر أن جاؤوا إلى المقابر وعدّدوا موتاهم بهدف تفوّق كلّ منهما على الأخرى بعدد أفرادها. 

  • التكاثر هو العيش في التوهّم والمجاز 

  • يحكى أنّه أعطي لقرد قالب من الجبن، وقالوا له: قسّمه إلى قسمين! فقسّمه فوجد أنّ أحد القسمين أكبر من الآخر، فأكل ذلك المقدار الزائد، فرأى أنّ القسم الآخر صار أكبر، فأكل من جديد المقدار الزائد منه، فرأى أنّ القسم الأوّل صار أكبر... وفي النهاية أكل وأكل حتّى أفنى القسمين جميعًا. هذا العمل يعني طلب الكثرة والعيش في التوهّم والمجاز، لذلك يقول الله في هذه السورة: 

  • {ألهاكم التكاثر حتّى زرتم المقابر}

  • لقد أوقع بكم الافتخار والمباهات وطلب الزيادة والنظر إلى الكثرة في الغفلة المطلقة وصرفكم عن ذكر الله، حتّى وصل بكم الأمر أن هرعتم إلى المقابر لإحصاء أسلافكم. 

  • فيا أيّها المسكين التعيس! ما لك ولهذا الذي مات من قبيلتك قبل مائتي عام، اشتغل بمشكلاتك ورفع نقائصک! 

  • من مفردات التكاثر الصراع على جنسيّة السيّد جمال الدين الأسدآبادي 

  • يثار اليوم حول شخصيّة السيّد جمال الدين نزاع بين الأفغان والإيرانيين، وكلّ منهما يقول: هو منّا. فلنفترض أصلاً أنّ السيّد جمال هنديّ، فماذا ينفعنا كونه إيرانيًّا؟! وهل یدرى كيف كان وضع السيّد جمال؟! حتّى إنّ بعضهم يقول إنّه كان ماسونيًّا. فمن هو وما هو الفخر الذي منحنا إيّاه حتّى صرنا نتنازع عليه، ونثير الضوضاء ونشكّل المؤتمرات لنعرف ما إن كان أفغانيًّا أم أسدأباديًّا أم همدانيًّا أم من بوركينا فاسو. 

  • إنّ كلّ شرفنا هو بهؤلاء المعصومين الأربعة عشر الذين لا نظير لهم منذ أوّل الخلقة وحتّى نهاية العالم، فمن هو السيّد جمال الأفغاني، كم هم حيرى أولئک الناس! وكم نحن تعساء! 

  • افتخار مولانا وحافظ بتربة الأئمة عليهم السلام 

  • يقولون مولانا وحافظ منّا نحن الإيرانيّين، في حين أنّ كلّ افتخار مولانا وحافظ هو بأنّ تراب باب بيت أمير المؤمنين والإمام المجتبى والإمام السجّاد هو كحل عيونهم. إنّ كلّ معارف مثنوي التي هي فريدة من نوعها بين كتب الأعاظم والأولياء هي مجموعة ومستخرجة من مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يأت بها مولانا من عند نفسه، فلماذا نجعله نحن كالسوط على رؤوس العرب نقول: إنّ عندنا مولانا؟! فيا أيّها الأحمق إنّ مولانا ليشعر بالعار من أنّك تتلفّظ أنت باسمه، وإنّ حافظًا ليشعر بالخزي إن ينظر إليك، وإنّه لينادي من باطن قبره أنّ كلّ افتخاري ومباهاتي بذلك الرسول الأميّ وأمير المؤمنين ذاك، والأئمة عليهم السلام الذين كانوا جميعًا من العرب. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

15
  • الافتخار بالقوميّة من التكاثر 

  • إنّ تكاثرنا بأنّا من القوميّة الإيرانيّة وأصحاب الثقافة واللغة الفارسيّتين، وأنّه لا بدّ من الحفاظ على ثقافة أسلافنا، قد سيطر علينا وتمكّن فينا، أولم يكن هؤلاء الأسلاف سوى جماعة من أهل السكر والفحشاء؟! 

  • اقرؤوا شاهنامة الفردوسي وشاهدوا أنّ هؤلاء كانوا بضعة من الناس الفاحشين من أهل السكر المستبدّين ونحو ذلك . ففي النهاية هل تجدون لدى إسفنديار الذي لا يساوي فلسًا أو قصّة رستم ذوي اليدين الضخمتين وصاحب التاج والعنق والعصا والمكانة، أو بهمن وتوران، هل تجدون عند هؤلاء كلمة واحدة من الحكمة؟! 

  • إنّ كياني ليأنف أن ينتسب إلى أسلاف كهؤلاء، ولا أريد لمائة ألف عام أن يكون أسلافي أناس كرستم وإسفنديار. 

  •  شاهنامة الفردوسي والتكاثر 

  • أحضرت قبل عشرين عامًا نسخة من الشاهنامة للفردوسي، وحتّى الآن كلّما أردت أن أطالع فيها شعرت بالأسف أن أقرأ صفحة منها بدلاً من روايات الأئمة. يقول في الشاهنامة: 

  • چنین گفت رستم به اسفندیار***كه كردار مانَد ز ما یادگار 
  • كنون داده باش و بشنو سخن‌***از این نامبردار مرد كهن‌ 
  • اگر من نرفتی به مازندران‌***به گردن برآورده گرز گران 
  • وترجمته: 

  • كذا قال رستم لإسفنديار***إنّ عملنا هو التذكار 
  • فكن سخيًّا واسمع الكلام***من هذا العجوز العالي المقام
  • إذا ما كنت قاصدًا مازندران***وما كنت حاملاً للصولجان 
  • حتّى نهاية هذه القصّة الفارغة التي ليس فيها إلا القتل والفتك والرقص واللهو. 

  • أو يقول: 

  • بسی رنج بردم در این سال‌ سی‌***عجم زنده كردم بدین پارسی
  • وترجمته: 

  • تعبت كثيرًا في هذه السنوات الثلاثين *** فأحييت الأعجميّة بهذه الفارسيّة

  • لقد أخطأتَ حين أحييت الأعجميّة بهذه الفارسيّة، أنحّيت لغة القرآن جانبًا، وأحييت الأعجميّة؟! إنّ خير اللغات في الدنيا هي العربيّة التي تمتلك أفضل وأكمل الكنايات والإشارات واللطائف، وأقوى اللغات من حيث المنطق والبيان والقانون هي اللغة العربيّة.و وماذا صنعت لنا اللغة الفارسيّة وماذا قدّمت حتّى صرنا إن لم نروّجها تسقط السماء على الأرض؟! 

  • انظروا إلى الألفاظ التي تتداول اليوم من قبل مجمع اللغة الفارسيّة وغيره تحت شعار التخلّص من العربيّة كم هي واقعًا خالية من المضمون وسخيفة ولا أساس لها وخالية من الذوق السليم؛ فمثلاً وضعوا بدلاً من "اجتماعات" "گردهمایی" وبدلاً من "تظاهرات" "همايش" وبدلاً من "وسايل ارتباطات جمعى" "رسانه هاى گروهی". واقعًا عندما أقرأ هذه التعابير لا بدّ من مراجعة كتب اللغة كي أصل إلى معانيها. فما مشكلتكم؟! وما هو عیب هذه الكلمات الرشيقة الفصيحة العربيّة حتّى تستبدلوها وتستعملوا هذه المفردات الشنيعة المثيرة للسخرية؟! ما هي النتيجة المترتّبة على هذا العمل وماذا ستحصلون منه؟! أفهل أعيا الناسُ في تفاهمهم حتّى صرتم تضعون الكلمات الجديدة؟! أفهل عجز الناس الذين يتكلّمون مع بعضهم بأفضل أسلوب حتّى جئتم لإنقاذهم بواسطة هذه الكلمات؟! أنتم على عداوة مع لغة القرآن وتريدون أن تحذفوها شيئًا فشيئًا. إن حذفتم الكلمات العربيّة من حوار بين اثنين فإنّ الجمل المتبادلة ستكون بلا معنى. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

16
  • التخلّص من العربية معركة لها جذورها 

  • باعتقادي إنّ كلّ ذلك هو عقدة وطلب للتفاخر والتكاثر، واعلموا أنّه لا شكّ أن ثمّة أيد خفيّة تدير وتدبّر ذلك عن علم أو عن غير علم، وحتّى المراكز الدينيّة أيضًا وقعت في هذا الفخّ شاءت أم أبت وأسرعت إليه. فما هو عيب اسم "مركز تحقيقات علوم اسلامی" الذي يحمل كلّ هذا الجمال والحسن حتّى نستبدله به "پژوهشکده دانش های اسلامی"؟! لیس هذا إلا إقبالاً على التكاثر. 

  • إنّ المصيبة والمشكلة هي في أنّ عددًا من الناس يجتمعون وبمستوى عقلهم ودرايتهم وذوقهم المعلوم يضعون مفردة ويأمرون الناس بطاعتهم في ضرورة استعمالها! ربّما لا أحبّ أنا أن أستعمل هذه الكلمات ولديّ كلمات أخرى أفضل منها؛ فما هذا القانون الذي يلزم بوجوب إطاعة أحد مجامع اللغة أو الأكاديميّات؟ ما هذا القانون الذي يلزمني باتّباع مجعولاتكم؟! هل هذا التحكّم صحيح في الواقع؟! أنا لست حاضرًا أن أتّبع نتاجات أذهانكم وأستحيي من استعمال هذه الألفاظ. 

  • ضعف النتاجات الأدبيّة الفارسيّة عند حذف الكلمات العربيّة منها 

  • لو أنّ رجلاً كمولانا الذي تفتخرون به إلى حدّ كبير استعمل هذه الترّهات في شعره بدلاً من الكلمات العربيّة فأنا على الأقل لم أكن لأقرأه! لو حذفنا الكلمات العربيّة والاستعارات والكنايات والتشبيهات من كتاب مثنوي وديوان حافظ لرأيتم أنّه لا يبقى شيء من هذه الأشعار التي تفاخرون وتباهون بها وتشكّلون من أجلها المؤتمرات. 

  • إنّ افتخاركم في الطبّ والعلوم هو بعلماء كابن سينا والفارابي وأبي ريحان البيروني، وإذا نظرنا إلى آثارهم نرى أنّ كافّة كتبهم أو ثلثيها قد كتب باللغة العربيّة ولم يتكب بالفارسيّة إلا ثلثها. فلماذا لم يكتب هؤلاء كتبهم باللغة الفارسيّة وحدها كالشاهنامة؟! لقد سخر هؤلاء من هذا الكلام وخبروه جيّدًا، ولكنّكم تريدون أن تروّجوا له! والمشكلة الأخرى هي أنّكم لا تمتلكون الذوق الكافي للقيام بهذا العمل! 

  • التكاثر يعني التظاهر والغوص في عالم الكثرة. الإسلام يقول لنا: دعوا هذه المسائل جانبًا فإذا ما سيطرت روح الإيمان فلا فرق بين عربيّ وأعجميّ وفارسيّ وتركيّ وانجليزي وصينيّ، والحاكم بين الجميع هو الأخوّة. انظروا إلى هذا العلوّ والرفعة والقوّة التوحيديّة، وبعد ذلك دقّقوا في طريقتكم أنتم ولاحظوا كم أنتم بعيدون عن الواقع. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

17
  • التمييز بين العرب والعجم من نماذج التكاثر 

  •  وصلنا في أحد الأسفار إلى مطار سوريا، ورأينا أنّه كتب على مكاتب مراقبة الجوازات ثلاثة عناوين على اللائحات: المواطنون (أهل سوريا)، العرب، الأجانب. وهذا بعينه موجود في مطار لبنان وسائر الدول العربیّة. إنّهم يعدّون هؤلاء الإيرانيّين المسلمين الشيعة من الأجانب ويقولون أنت أجنبيّ ونحن مواطنون سوريّون وعرب. فعندما تقول أنت: إيران والفرس، فإنّه يقول هو أيضًا: سوريا والعرب، والثالث يقول أيضًا شيئًا آخر، فهذا ما صنعناه نحن بأيدينا. 

  • الخليج الإسلاميّ خير مفردة بدلاً من الخليج الفارسي والعربي 

  • قال لهم أحد الأصدقاء من هناك: لماذا تعدّون الإيرانيّين من الأجانب؟ فقال: ألا يصنعون هم أنفسهم ذلك أيضًا فيقولون الخليج الفارسي؟! فنحن نقول الخلیج العربيّ أيضًا! 

  • فبدلاً من أن تستمرّوا على نزاع الخليج العربيّ والفارسي اتركوا الأمرين معًا وقولوا: الخليج الإسلاميّ وأريحوا أنفسكم. فنحن الآن نصنع كما كان يصنع الشاه في العهد السابق. لقد أدرك المستعمرون والأعداء نقطة ضعف جيّدة فينا، فعندما يرون أنّ الأوضاع هادئة بنحو من الأنحاء والعلاقات جيّدة نسبيًّا يشرعون بإثارة النزاع فيقول أحدهم: الخليج العربيّ! وعندها يثار جناب الشاه أن لماذا قيل للخليج الفارسيّ الخليج العربيّ؟! فلا بدّ من قطع العلاقات وإغلاق السفارات. وكم كانت توجد من المشكلات فهذا الأمّة المسكينة تقف عند مشكلة الخليج العربيّ والخليج الفارسي وأنّه إذا ما قطعت العلاقات ماذا سيحدث؟! 

  • إنّهم يا مسكين يتلاعبون بك فلماذا لا تدرك، قل لهم: نحن نقبل بالخليج العربيّ ضمن حدود مياهكم الإقليميّة (فكما أنّ لأراضي كلّ دولة حدودًا معيّنة فإنّ للبحار أيضًا حدودًا) وأمّا اسم المنطقة إلى حدودنا هو الخليج الإسلاميّ، فهذه أفضل مفردة لا تسبّب اعتراضًا. 

  • لقد قام الشاه بواسطة هذه الكلمة بألاعيب، ولا تزال هذه الأمور مستمرّة إلى الآن. فبدلاً من الخليج الفارسيّ والخليج العربيّ قولوا الخليج الإسلاميّ وأنهوا المشكلة، وإلاّ فسيعدّوننا من الأجانب! 

  • معيار المواطن والأجنبيّ في الإسلام 

  • الإسلام يقول: كلّ من يقرّ ويعترف بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله فهو من المواطنين. فالمواطن وابن البلد هو من تشهّد بالشهادتين، ولذلك فلا فرق بين التركي والإنجليزي والأسباني والهندي والصيني والعربي والعجمي والفرنسي والألمانيّ، كلّ ذلك كثرات وتخيّلات. فما دام لهؤلاء أعين وآذان وحواجب وأنوف وأيد وأرجل كما لك أنت فلم يفرّق بينكم شيء سوى التخيّل والمجاز وانعدام الفهم والجهالة. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

18
  • لو كان من نصيب جنابك امرأة جميلة من العرب والإنجليز وغيرهما كما تقتضيه مصالحك فلماذا لا تتنازل عنها بل تتزوّجها ولا تقول هي عربيّة وأنا لا بدّ أن أتزوّج من العرق الفارسيّ؟! 

  • إنّ هذا الكلام الذي يجلس بعض الناس ويقرّره لنا هو كلام فارغ لا يبتني على المنطق، الكلام المنطقيّ هو الذي نطق به الإسلام. يقول نبيّ الإسلام: 

  • أيُّها النّاسُ، إنَّ ربَّكُم واحدٌ و إنّ أباكُم واحدٌ. لا فَضلَ لِعربىٍّ على عجمىٍّ و لا لِعجمىٍّ على عربىٍّ ولا لِأحمَر على أسوَد و لا لِأسوَد على أحمَر إلّا بِالتَّقوى. قالَ‌ اللَه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَه أَتْقاكُمْ}

  • لا بدّ أن يقال: مرحى لهذا النبيّ! مرحى لهذا الإنسان الذي كان كلامه في عالم البشريّة على أساس منطق التوحيد. 

  • أيّهما هو المنطق الذي يجمع الناس المنطق الذي اتّبعناه اليوم أم هذا المنطق؟! علينا نحن أن لا نسمّي المسلم الذي يعيش خارج إيران بالأجنبيّ الخارجيّ، فالمسلم ليس أجنبيًّا ولا خارجيّا. فإن قلنا نحن لهم أجانب قالوا لنا أيضًا أجانب! 

  • الأجنبيّ والخارجيّ هو من خرج عن دين الإسلام، ولو كان يعيش داخل دولة إسلاميّة، والمواطن هو من كان داخلاً في دين الإسلام ولو كان خارجًا عن الدولة والحدود. حتّى لو أنّ مسلمًا كان يعيش في تلك الناحية من الأرض فإنّه شريكنا في الوطن، سواء كان أسود أم أحمر أم أبيض. المسلم من أيّة قوميّة كان هو مسلم وشريكنا في الوطن، وإن كان هناك غير مسلم حتّى في إيران فهو أجنبيّ، وإن كان لا بدّ من رعاية حقوقه وحمايته لأنّه في ذمّة الإسلام. 

  • لقد كانت مدرسة العلامة الطهراني قدّس سرّه ترتكز إلى هذا الأساس، فمن المباني المهمّة عند المرحوم العلامة ومن جملة اعتراضاته على الخطباء الذين يستعملون لفظة الأجانب والخارجيّين على غير الإيرانيّين هذا الأمر حيث كان يقول: 

  • الخارجيّ في الإسلام يقال على من كان خارجًا عن دين الإسلام، والشريك في الوطن هو من كان داخلاً في الإسلام ولو كان من خارج إيران. 

  •  هذا النداء هو نداء الوحدة، وذاك النداء هو نداء الكثرة وفي النقطة المقابلة للتوحيد، فامرؤ وما يختار. 

حقائق الدنيا والآخرة والذكر

19
  • اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.