المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالورد و الذكر
التوضيح
بعد أن تبيّن في المحاضرات السابقة أنّ حقيقة الحياة الدنيا هي بُعدها الباطن وارتباطها بالله، وأنّ الذكر هو النظر إلى هذا البعد، تطرح هذه المحاضرة آليّة الجمع بين الخوض في الحياة الدنيا وبين الحفاظ على ذكر الله وعدم الانشغال عنه، وذلك من خلال النظرة الآليّة إلى مظاهر الحياة، وقد تعرّضت إلى مظهر من أهمّ تلك المظاهر، وهو الحكم والسياسة، متّخذة من تاريخ الخلفاء في التعاطي معه ومع الأئمة عليهم السلام أنموذجًا للنظرة الاستقلاليّة التي تجيز الكذب والاتّهام والتهديد والإلغاء للوصول إلى الحكم والبقاء فيه. كما تعرّضت إلى ضرورة تعميم النظرة الآليّة إلى مختلف مظاهر الحياة من الزوجة والأولاد والعمل، وإلى طريقة تحقيقها مشيرة إلى الشعور بالرقابة الإلهيّة وفريضة الحجّ ومشهد الموت والقبر.
هو العليم
النظرة الآليّة والجمع بين الذكر والحياة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
لا تشغلني عن وردي!
تقدّم أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال لعنوان البصريّ:
"مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تَشغَلني عَن وِردي"
وقد وصل الكلام إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في كلام له حول خصوصيّات الذكر في نهج البلاغة:
وإنَّ لِلذِّكرِ لَأهلًا أخذوهُ مِنَ الدّنيا بَدَلًا، فَلَم تَشغَلهُم تِجارَةٌ و لا بَيعٌ عَنهُ.۱
كيفيّة ذكر الله في خضمّ الحياة الاجتماعيّة
لا شكّ أنّ من لوازم الوجود في الدنيا الاشتغال بالأمور الدنيويّة والأخذ والردّ والعلاقة مع الناس، غير أنّ أمير المؤمنين يقول: لقد رسخ ذكر الله فيهم رسوخًا لا تشغلهم معه هذه الانشغالات ولا تردعهم.
والآن كيف تطبّق هذه الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين للذاكرين في الحياة الاجتماعيّة للإنسان؟
النظرة الآليّة والنظرة الاستقلالية وآثارهما على حياة الإنسان
إنّ حقيقة المسألة وأصل المطلب هو في نظرة الإنسان الاستقلاليّة ونظرته الآليّة إلى الأشياء، فعلى الإنسان أن ينظر إلى ما حوله نظرة آليّة وعلى أنّها واسطة للوصول إلى المطلوب، فالنظرة الاستقلاليّة وعدّ هذه الأمور هي الأصل وهي كلّ شيء، يؤدّي إلى انحطاط الإنسان في الدنيا، والانغماس في الشهوات والابتعاد عن الحقّ، ويستتبع الخسران والحرمان من النعم الإلهيّة.
لو أنّا اعتبرنا ما نشتغل به خلال الأربع والعشرين ساعة وسيلة وواسطة للصعود إلى الغاية فإنّ نظرتنا إلى المسائل الدنيويّة ستتغيّر وتغدو أدق وألطف.
أثر النظرة الاستقلاليّة في عالم الحكم والسياسة (الخلفاء نموذجًا)
فمثلاً من كانت لديه رغبة في الوصول إلى الحكومة والسلطة الدنيويّة، فإنّه يستفيد من أيّة وسيلة للوصول إلى هذا الأمر المهمّ، وينحّي خصومه جانبًا كمقدّمة ويجمع الناس من حوله بالفتنة والخداع، ويستقدم الأموال لجذب النفوس من حوله.
لماذا انتزعوا فدكًا من يد أمير المؤمنين عليه السلام؟٢ لأنّ من كان بغير مال ولا أساس فلا يجتمع حوله أحد، فالعوام يحتاجون إلى الحلوى والأمور التي تؤمّن لهم دنيا شهواتهم وما يلائم نفوسهم، فأبو بكر ليس على شيء وهو خال من الصفات الحسنة والقيم العقليّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة، فبأيّة جاذبيّة يمكنه أن يتّكئ على مسند الخلافة؟ فالناس ليسوا عشّاقًا لأعين وملامح عجوز لا مزية له إلاّ أنّه كان أبا زوج النبيّ، وحتّى ليس له علم لكي يتّبعه الذين يبحثون عن العقل والفهم اعتناء بوزنه العلميّ لكي يستفيدوا منه إلى حدّ ما.
وقد جاء في رواية في إرشاد الشيخ المفيد: أنّ حبرًا من أحبار اليهود جاء أبا بكر فقال: أنت خليفة نبيّ هذه الأمة؟ فأجاب نعم [لم أكن راضيًا ولكن كان هناك تكليف شرعيّ ولم يكن بدّ من ذلك، وأصرّ الناس وأجلسوني في مكان رسول الله، ولو لم أقبل لما كان هناك أحد غيري يتحمّل هذه المسؤوليّة۱ وتبريرات من هذا القبيل والتي صارت من المكرّرات وقد حفظها الجميع]
فقال [اليهودي]: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم أممهم؛ فأخبرني عن الله تعالى أين هو؟ في السماء أم في الأرض؟ فقال أبو بكر: هو في السماء على العرش٢. فقال اليهوديّ فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة. اغرب عنّي وإلا قتلتك، فولّى الحبر متعجّبًا يستهزئ بالإسلام، فاستقبله عليّ، فقال يا يهوديّ قد عرفتُ ما سألتَ عنه وما أجِبْتَ به وإنّا نقول: إنّ الله عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له، جلّ أن يحويَه مكان، فهو في كلّ مكان بغير مماسّة ولا مجاورة، يحيط علمًا بما فيها ولا يخلو شئ من تدبيره، وإنّي مخبرك في كتاب من كتبكم يصدّق ما ذكرتُه لك فإن عرفته أتؤمن به؟ فقال اليهودي: نعم. قال ألستم تجدون في بعض كتبكم أنّ موسى بن عمران كان ذات يوم جالسًا إذ جاءه ملك من المشرق فقال له موسى: من أين أقبلت؟ قال: من عند الله عزّ وجلّ، ثمّ جاءه ملك فقال له: قد جئتك من السماء السابعة من عند الله عزّ وجلّ. فقال موسى: سبحان من لا يخلو منه مكان ولا يكون من مكان أقرب من مكان. فقال اليهودي: أشهد أنّ هذا هو الحقّ وأنّك أحقّ بمقام نبيّك ممن استولى عليه.٣
هذا هو منطق أبي بكر، في مقابل السؤال الضرب والعصا، وأمثال هذه القضيّة التي كان يعجز فيها أبو بكر وعمر عن الجواب كثير.٤ وفي مثل هذه المواقع كان بعض أصحاب أمير المؤمنين من أهل الفهم يأتون٥ ويقولون: إنّ ما قيل لا أساس له، اصبر لنأتيك بمن يجيبك. فكانوا يأتون إلى عليّ ويقولون: يا عليّ أدرك الإسلام فقد قرئت فاتحته، وأراق الخليفة ماء وجهه.٦
واقعًا كم كان هؤلاء الخلفاء على جرءة حتّى يستطيعوا أن يقولوا لأمير المؤمنين عندما يجيب بأحسن جواب ويصحّح ما أفسدوا: "سلمت يداك يا عليّ، عد إلى دارك من جديد ولا تخرج بعد هذا." فهذا هو معنى عبارات التاريخ، معنى تلك الجملة التي كان عمر يقولها: "لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن".۱ وقد استجاب الله دعاءه وفارق الدنيا قبل أمير المؤمنين وانتهى إلى الجحيم!
من معالم سياسة النفاق: التهديد والإلغاء
إنّها سياسة النفاق، يريدون عليًّا مبرّرًا لأفعالهم، ولكن ما إن يردْ أن يبرُز بهذه الأعمال، يوجّهون إليه ضربة ويتابعون أعمالهم. فأهل الباطل والنفاق يراعون الحدود ما لم تتوجّه إليهم أنفسهم ضربة، ولكن ما إن يصبهم ضرر فإنّهم على الفور يقومون بالإلغاء، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه لما خطب عمر أمّ كلثوم من أمير المؤمنين قال له أمير المؤمنين عليه السلام: "إنها صبيّة" فلقيَ العبّاس فقال له: مالي؟! أبي بأس؟! قال: وما ذاك؟ قال: خطبت إلى ابن أخيك فردّني. أما والله لأعورنّ زمزم، ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها، ولأقيمنّ عليه شاهدين بأنّه سرق، ولأقطعنّ يمينه، فأتاه العبّاس فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه.٢
وفي رواية أخرى:
يا عباس، أيأنف من تزويجي! (والله لئن لم يزوجني) لأقتلنّه، فرجع العبّاس إلى عليّ عليه السلام فأعلمه بذلك، فأقام عليّ عليه السلام على الامتناع، فأخبر العبّاس عمر، فقال له: يا عبّاس احضر يوم الجمعة في المسجد، وكن قريبًا منّي لتعلم أنّي قادر على قتله، فحضر العبّاس المسجد، فلمّا فرغ عمر من الخطبة، فقال: أيها الناس إنّ ها هنا رجلاً من علية أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله قد زنى وهو محصن، وقد اطلع عليه أمير المؤمنين وحده، فما أنتم قائلون؟ فقال الناس من كل جانب: إذا كان أمير المؤمنين قد اطلع عليه فما حاجته أن يطلع عليه غيره، فلمّا انصرف عمر قال للعباس: امض إليه فأعلمه ما قد سمعت، فوالله لئن لم يفعل لأفعلن.٣و٤
أجل ذاك هو الحقّ وهذا هو الباطل؛ فرجل الحقّ لا يخاف، ولا يدعو الناس أبدًا بالعصا، ومن كان مع الحقّ فإنّه يلاحظ الحقّ ولا يلاحظ الناس، من شاء فليأت ومن شاء فليذهب، هو يبيّن المطلب وفق تكليفه، فمن أراد فليقبل ومن لم يرد فليرفض.
من معالم سياسة النفاق: عدم الوفاء بالوعود
الأحزاب السياسيّة في الخارج عندما تريد أن توصل أحدًا إلى الحكومة فإنّها تقوم بجمع الناس من هنا وهناك بالدعاية وبالوعود الكاذبة التي لا تفي حتّى بواحد منها، وبتشكيل احتفالات الرقص والموسيقى، ولا تكتفي بذلك، بل تخرج عيوب خصمها من السجلاّت وتقول إنّ ذلك الخصم تكلّم قبل خمسة عشر عامًا بهذا الكلام وقام بهذا العمل، في حين أنّه لو مضى على قضيّة ما شهر واحد فلا يمكن للإنسان أن يحاكم غيره بها بهذا الشكل؛ أضف إلى ذلك أنّه عيب لا اطّلاع لأحد عليه.
فإن لم يتمكّنوا بهذا العمل من الوصول إلى أيّة فائدة فإنّهم يشرعون بالتهمة، ويستخرجون من خلال كلماته نقاط الضعف، ويكبّرونها ويقدّمون للنّاس الأمور التي حتّى لم ينوها ولم يفكّر بها.
كلّ هذه الجهود هي لكي يصبح إنسان ما رئیسًا للجمهوريّة ويشبع نفسه بذلك، في حين أنّه لم يصل إلى شيء.
هذه النظرة إلى الحكومة والسلطة هي نظرة استقلاليّة، حيث يظنّ الإنسان أنّ كامل القضيّة هي في هذا المسند والرئاسة، ولا يرى وراء هذه الحكومة أيّة حقيقة أو قيمة لكي يعدّل بواسطتها سلوكه في الانتخابات.
لقد كانت نظرة عمر وأبي بكر ومعاوية هذه النظرة الاستقلاليّة، لقد صالح معاوية الإمام الحسن عليه السلام ولكن ليته حارب الإمام الحسن برجولة بقصد الانتصار كما جمع جيش الشام وحارب أمير المؤمنين، لكنّه يسمّى خائنًا لأنّه صالح الإمام الحسن ثمّ جعل وثيقة الصلح تحت قدميه وقال: "إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون.
ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ لا أفي بشيء منها قطّ."۱
في هذه النظرة الاستقلاليّة تدور الحقيقة مدار الدنيا فحسب.
معاوية والإمام الحسن في سلوكنا في كلّ زمان
علينا أن لا نقول إنّ هذه المسائل کانت لمعاوية، فكلّ واحد منّا في كلّ عمل نقوم به، إمّا في جيش الإمام الحسن وإمّا في جيش معاوية. فمن باب المثال عندما تتحدّث مع أحد في الشارع فانظر أنّك في تلك الحالة من جيش معاوية أم جيش الإمام الحسن؟ عندما تتعامل في البيت مع عيالك وأبنائک فانظر هل أنت من جيش معاوية أم من جيش الإمام الحسن؟ وعندما تكون في محلّ عملك وتتعامل مع الذين يتردّدون أو عندما يكون لك لقاء مع أحد فانظر أنّك من أيّ الجيشين؟ ولو كان الإمام المجتبى عليه السلام في تلك المواقع فماذا كان يصنع وبماذا يأمرك؟
علينا أن لا نخادع أنفسنا ونقول: "معاوية يرجع إلى ألف وثلاثمائة عام". إنّ عمر ومعاوية ويزيد موجودون الآن، وأمير المؤمنين والإمام المجتبى وسيّد الشهداء موجودون أيضًا. تلك الحقيقة التي كانوا مصاديق لها موجودة الآن أيضًا، تلك الحقيقة التي كان عليّ صاحب لوائها في الصدق لم تنعدم.
النفاق هو دائمًا نفاق، والصدق هو دائمًا صدق، والخداع هو دائمًا خداع، والصوا ب هو دائمًا صواب، ومع مرور الزمان لا يتبدّل الصدق كذبًا ولا الكذب صدقًا، وإلى قيام الساعة الصدق صدق، والكذب كذب، وفي الجنّة والنّار سيكون الأمر كذلك أيضًا. بناء على ذلك فإنّ معنى ما نقول من أنّ أمير المؤمنين موجود على الدوام وعمر موجود على الدوام، هو أنّا دائمًا نرى أنفسنا مخيّرين بين أحد هذه الطريقين.
من معالم سياسة الحقّ: عدم التمييز بين القريب والبعيد
لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام مع أصحابه وحدهم على هذا النحو، فالصاحب والغريب عنده سواء، يقول الإمام الباقر عليه السلام في رواية عنه: "إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر قنبرًا أن يضرب رجلاً حدًّا فغلظ قنبر فزاده ثلاثة أسواط فأقاده عليّ عليه السلام ثلاثة أسواط". ۱٤ فما دام التاريخ حيًّا فإنّ عليًّا هذا حيّ.
أمّا الآخرون فإنّهم عندما يثبت جرم ابن لهم أو قريب ثبوتًا يقينيًّا فإنّهم يعدّون آلاف الخطط والسجلاّت والرشاوي ليبرّئوه.
أجل أمير المؤمنين موجود على الدوام، ومعاوية ونظام النفاق أيضًا موجود على الدوام، على كلّ إنسان أن يرى هو في أيّ مكان، مع النفاق أم الصدق؟ والله يرتّب سجلّ الإنسان بسرعة للقضاء والمحاكمة؛ فبمجرّد أن يفكّر الإنسان ويتصوّر المخالفة، تحيط به الكدورة بلا أيّ تأخير، تصرّف واحد خاطئ يسلب من الإنسان نعمة. إنّ الله أسرع في حسابه من الضوء، وليس لديه مراوغة، لذا على الإنسان أن يرى هل نظرته إلى الأمور استقلاليّة أم آليّة كوسيلة وذريعة للوصول إلى المطلوب؟
النظرة الآليّة إلى الحكومة الإسلاميّة
لماذا يجب شرعًا على كلّ واحد من المسلمين أن يسعى إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة؟
لأنّه في ظل الحكومة الإسلاميّة تقام العدالة ويعمل بالأحكام الإلهيّة، فإن كانت الحكومة مسيحيّة أو شيوعيّة فلا تطبّق فيها الأحكام الإسلاميّة، ولا يكون المؤمنون فيها في راحة ورفاهية وأمان، ولا يمكنهم أن يعملوا طبق مبادئهم. ورغم أنّ إقامة الحكومة الإسلاميّة من أهمّ الواجبات الشرعيّة، ولكن لا بدّ أن تكون الحكومة الإسلاميّة وسيلة للوصول إلى المطلوب، ومقدّمة لتطبيق الأحكام، فهل يمكن بعد ذلك أن يكون في الحكومة الإسلاميّة غشّ وخداع ونفاق وكذب واتهام وافتراء؟!
ينبغي أن تكون الحكومة حكومة أمير المؤمنين وينظر إليها كوسيلة ولا ينظر إليها بعين الاستقلال.
طريق تحقيق النظرة الآليّة: الشعور بالرقابة الإلهيّة
افترضوا أنّ حارسًا قال لكم: خذوا هذا المال وانطلقوا من هذا الزقاق وأوصلوه إلى ذاك المنزل. وما دام هو طوال الطريق يحمل السلاح فوق رأسك فهل تفكّر بسرقة هذا المال أو بالفرار بنحو ما؟! هذا الإحساس بعدم التعلّق بهذا المال الذي في يدك هو مرهون بالنظر الآليّ وانعدام النظر الاستقلالي إليه، وسبب عدم تفكيرك إلا بما يقوله الشرطيّ هو أنّك تعيش بوجدانك كون هذا المال وسيلة، عندما ترى أنّك لو التفتّ نحو اليسار لأطلق الرصاصة فهذا يعني الوسيليّة، فالرصاصة ستدخل إلى الدماغ ولا تخرج بعد ذلك أبدًا!
لو أنّا نقتنع إلى هذا الحدّ أنّ هذه الحكومة هي وسيلة ومقدّمة، فانظروا حينها أيّة جنّة ستكون! فما نقوله من أنّا أحسسنا بأنّه لا يليق بتلك الوزارة أحد غيرنا على وجه الأرض، وأنّ علينا تكليفًا شرعيًّا عينيًّا تعيينيًّا لا تخييريًّا كفائيًّا لقبول ذلك المنصب... هو كلّه هزل.
يقول الله: {إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد}۱ أي إن أردت أن تخدع هؤلاء الناس فاخدعهم، ولكنّ لا یمکنک بعد الآن أن تخدع الملكين اللذين على كتفيك الأيسر والأيمن! لا يمكن إذا جاء هذان الملكان بسجلّ الإنسان أن يقول: لقد كذبا عليّ. ولن يقولا: الآن نذهب إلى القاضي وهو يقضي على أساس الشواهد والمستندات، بل يحضرون السجلّ ومهما قال الإنسان: "لقد كان هذا الملَاك على خلاف معي وكتب عليّ الاتّهام والغيبة والخداع بغير سبب". فلن تكون لهذا الكلام أيّة فائدة. إنّهم يحضرون تلك الواقعة التي كانت في منزله في يوم الجمعة عند الساعة الحادية عشرة والنصف حيث كذب أو اتّهم زوجته تهمة فظلمها ولم تتمكّن من الدفاع عن نفسها، يحضرون تلك الواقعة ويرونها للإنسان.
وبالطبع ما قلته من أنّهم يرون تلك الواقعة للإنسان فليس بمعنى أنّهم يرونه فيلمًا ليقول ذلك الإنسان: "إنّهم اقتطعوا هذا الفيلم من مواضع مختلفة وركّبوها ونسّقوا بينها وأنا لا أثق بهذه المحكمة". بل يحضرون وجود ذلك الإنسان في تلك الواقعة.
فجلوسكم الآن هنا ورؤيتكم للمصابيح والأصدقاء هو حقيقة واقعيّة تحسّونها بأعينكم وآذانكم وكامل وجودكم، وهذه الحقيقة للحضور ليست فيلمًا وشريطًا.
الساعة الآن هي الثانية وثلاثة عشر دقيقة وبضعة ثوان۱ ونحن نحسّ بحضورنا في هذا المجلس، فلو قالت لكلّ واحد منكم زوجته عند رجوعه: "أنت مشتبه إذ تقول إنّك كنت في ذلك المجلس. وقد أُريتَ فيلمًا مصوّرًا". فإنّك ستقول: "ما هذا الكلام؟! لقد أحسست بوجودي بهؤلاء الحاضرين ولا يمكنني أن أنكر وجودي!" ولذلك تسمّي لها كلّ الأفراد الذين كانوا هناك.
ليس سجلّ الإنسان في يوم القيامة كالسجلاّت الورقيّة التي في المحاكم، فعندما يحضرون سجّلنا فإنّهم يحضرون حضورنا في هذا المجلس ويشيرون لنا. فحينها من الذي يمكنه أن ينكر؟!
ومعنى الآية التي تقول: {يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدًا بعيدًا ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد}.٢ هو أنّهم يحضرون العمل نفسه وكلّ إنسان يرى كلّ عمل عمله من خير أو سوء.
الآن هذه المسجّلات تسجّل صوتي، وعندما تشغّلون هذه الأشرطة فإنّكم ستسمعون كلامي، ولكن لن يكون بعد ذلك نفس كلامي حاضرًا، إنّ كلامي الراهن هو قائم بي، وشريط التسجيل هو حكاية لهذا الكلام لا ارتباط له بي، وهو موجود مستقلّ في نفسه. وبعبارة أخرى فإنّ هذا الكلام يستبدل بأمواج إلكترونيّة ويحفظ في هذا الشريط المغناطيسي، فلو متُّ لبقي صوتي، ولكنّ هذا الكلام القائم بي لن يبقى.
ويوم القيامة عين هذا الكلام يحضر لا شريطه، لذلك فإنّ هذه الآية تقول: {يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء}.
فإن نظر الإنسان إلى النظام الإلهيّ فلو طلبوا منه ألف سنة أن كن وزيرًا أو رئیسًا للجمهوريّة، فإنّه سيقول: "أبدًا لا أريد!" نعم لو أنّ الله كلّف بذلك فالأمر يختلف. ومن هنا فإنّا لا نمتلك هذه الرؤية إلى الحكومة لأنّا لم ننظر إليها نظرة آليّة، وننظر إلى كافّة أمورها نظرة استقلال وأعطيناها بعدًا حقيقيًّا.
النظرة الآليّة إلى مختلف مظاهر الدنيا
ونظرتنا إلى أمور الدنيا الأخرى كالزوجة والأولاد والسيّارة والمنزل والمال والمكانة وقس على ذلك هي نظرة استقلاليّة. في حين أنّ علينا أن ننظر إلى كلّ أمور الدنيا على أنّها واسطة، ونعلم من نحن وأين نعيش؟ لكلّ إنسان في هذه الدنيا نصيب فعليه أن يقوم بواجبه فيها وأن لا يتخطّاه قيد أنملة، وبعد هذا النصيب عليه أن يغادرها في يوم من الأيّام.
إنّ قول أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها الناس إنّما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار فخذوا من ممرّكم لمقرّكم.۱ يعني: يا أيّها الإنسان إنّ الله قد جعل لكلّ فرد من أفراد البشر نصيبًا يتناسب واستعداد كلّ منهم وظروفه للوصول إلى الكمال؛ لئن قصّرت في عالم الدنيا، فلا تتوقعنّ منّي تلك الكمالات في الآخرة، وأمّا إن لم تقصّر في هذه الدنيا وبحثت عن الحقيقة وانتهى نصيبك من الدنيا، فسنتيح لك فرصة في عالم البرزخ.
يقول الله: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.٢ فعندما يأتي أجل الإنسان، فلا تأخير له ولا تقديم ولا يمهلون حتّى ثانية واحدة، ولا فرق في هذا الأمر بين الكافر والمسلم والشيعي والسالك وحتّى النبيّ.٣
ينظر عزرائيل إلى هذا السجلّ ويقول: "لو أنّ الله كلّفني اليوم بقبض روح إنسان واحد أو بقبض مائة مليون فهو بالنسبة إليّ يحتاج إلى المقدار نفسه من الجهد؛ فعندي من الجنود والعمّال بحيث لو ازداد المائة مليون أيضًا بعدد أفراد الكرة الأرضيّة فلا يؤدّي ذلك إلى إتعابي."
بالنظرتين الآليّة والاستقلاليّة يتمّ الجمع بين كلام أمير المؤمنين في ذمّ الدنيا وفي الحثّ على العمل فيها
ممّا تقدّم يصبح من المقبول جدًّا الجمع بين كلمات أمير المؤمنين عليه السلام حيث ينهى الناس من جهة في العديد من الموارد عن الدنيا والغوص فيها، ومن جهة أخرى يقول: أيّها الناس اغتنموا هذا العمر، ولا تقضوه بالبطالة وتزوّدوا منه، فلو مضت منه لحظة فلن تعود! ويمكنكم في يوم واحد من أيّام الدنيا أن تحصّلوا سعادتكم، ويمكن في لحظة منه أن تغرسوا لأنفسكم شجرة في الجنّة.٤ فالمراد من النهي عن الدنيا هو عدم امتلاك النظرة الاستقلاليّة وعدم الاهتمام بالدنيا واعتبارها، والمراد من الأمر بالتزوّد من الدنيا هو امتلاك النظرة الآليّة.
علينا أن نعلم قيمة هذه النعمة وأنّا أحياء الآن، وأن لا نؤجّل عمل يومنا إلى غدنا، فلو أنّا رحلنا اليوم عن الدنيا فلا رجوع، ولا يمكن أن نقوم بأيّ عمل، وإن قمنا بما علينا اليوم فهناك في الآخرة ربّ كبير، أمّا لو لم نعمل بما علينا فهناك تدابير أخرى ستّتخذ في حقّنا وسيلحق بنا الهلاك.
بعد الثورة، جاء رجل من أصدقاء المرحوم العلامة المميّزين من الخارج إلى إيران لمساعدة الناس۱ كان عمره آنذاك أربعين عامًا، وربّما لم يكن قد مضى على تعرّفه على المرحوم العلاّمة أكثر من خمسة أشهر، وفي يوم من الأيّام استيقظ قبل صلاة الصبح من نومه يقول لزوجته: "أشعر بالتعب." فيذهب إلى المستشفى، ويجلسه الطبيب المناوب على الكرسيّ لكي يحضر جهاز فحص الضغط، وما إن يرجع يجد أنّه انتقل إلى رحمة الله! وقد شاركت بنفسي في تشييعه، فدعا له المرحوم العلامة كثيرًا بالرحمة والمغفرة وقال:
"كم كان خفيف الجناح! جاء واتّصل ويتابع باقي أعماله في ذلك العالم."
لقد مضى هذا الرجل بكلّ بساطة دون أن يكون له في هذه الدنيا آلام ومشقّات وتشويش في تأمين مصارف زوجته وعياله، وخلاف مع الزبائن والزملاء، وهو يكمل سيره في ذلك العالم ويبلغ المراد، فلو كنّا نعلم نحن أيضًا أنّهم سيبلغون بنا في ذلك العالم تلك المرتبة فهل في ذلك مشكلة؟! افرضوا أنّا نعيش سنة أخرى، فهل ستتغيّر هذه الشوارع والأشجار من حولنا؟ فهذه السماء هي السماء!
وقد قلت يومًا لأحد الناس: "لقد رأينا كلّ الأماكن، فالسماء هي السماء وقد تعبنا، فلنذهب إلى ذلك العالم ونرى ماذا هناك!"
في ذلك العالم لا وجود للنفاق والخداع والنظرة الاستقلاليّة، لأنّ وجود الحقّ هناك هو المستقلّ والنظرة إلى كلّ الأشياء هي نظرة آليّة. هناك تُصحَّح النظرات، ولو مات كافر فإنّ نظرته أيضًا ستصحّح بالمطرقة. الأوامر والنواهي وحفر الأنفاق وأقواس النصر وإنفاق الأموال هو لهذه الدنيا، أمّا هناك فأنت وكفنك والسلام!
الحجّ والقبور والنظرة الآليّة التوحيديّة
على الإنسان أن يكون عاريًا في الحجّ؛ يجب أن لا يكون مع الحاجّ جواهر وخاتم٢ وساعة٣ وحتّى النظارات التي هي للزينة، فلو كانت النظارات لأجل الزينة فيجب استبدالها ولبس نظارة بسيطة.
الحجّ نسيم من الوحدة ومظهر للوحدة. هناك لا فرق بين طالب العلم ورئیس الجمهوريّة ومن يرتدي القميص والسروال والقبّعة، فعلى طالب العلم أن ينزع عمامته وجبّته وعباءته، وعلى الآخرين أن ينزعوا أيضًا سراويلهم وقمصانهم وقبّعاتهم، يجب أن لا يلبس أحد لباسًا مخيطًا، بل يجب أن يلفّ على خصره منشفة، ويلقي بأخرى على كتفه. والسلام.
لقد جعل الله الحجّ على هذا النحو لكي يقول لنا: يا أيّها الإنسان المسكين الذي أسرته الدنيا تعال وانظر كيف هو حال القرب منّي في عالم التوحيد؟! أنا إله أجعلك مع الفقير جنبًا إلى جنب! رغم أنّك كنت إلى الآن ترى نفسك مختلفًا عن الآخرين، لا علاقة لي بذلك، فبما أنّك جئت الآن إلى الحجّ فتعال واشهد هذه الحقيقة!
به قبرستان گذر كردم كموبیش | *** | بدیدم قبر دولتمند و درویش |
نه درویش بیكفن در خاك رفته | *** | نه دولتمند برده یك كفن بیش۱ |
وترجمته:
ولقد أمرّ على القبور أزورها | *** | فأرى قبورا للغنيّ وللفقير |
فلا الفقير بغير تكيفن دفن | *** | ولا الغنيّ حاز أكثر من كفن |
حال الإنسان في عالم القبر وحاله في الإحرام واحدة، ويقرأ على الميّت هذا الدعاء:
اللَهمَّ إنَّ هذَا المُسَجّى قُدّامَنا عَبدُكَ و ابنُ عَبدِكَ و ابنُ أمَتِك؛ نَزَلَ بِكَ و أنتَ خَيرُ مَنزُولٍ بِه ... اللَهمَّ إن كانَ مُحسنًا فَزِد فى إحسانِهِ، و إن كانَ مُسيئًا فَتَجاوَز عَن سَيّئاتِهِ!٢
ففي النهاية سيضعوننا على الأرض ويصلّون علينا صلاة الميّت، فحالة الرجوع هذه تشبه حالة التوحيد في الحجّ.
ممّا سبق اتّضح أنّ المراد من الوصايا الأكيدة لأمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام حول الابتعاد عن الدنيا هو النظر الاستقلالي الذي يلقي بالإنسان في البئر. ووصاياهم الأكيدة حول العمل في الدنيا والتزوّد منها هو النظر الآلي إليها، فكلّما ازداد هذا النظر عند الإنسان كان نصيبه ونفعه أكثر.
نرجو أن يجعل الله نصيبنا من البصيرة والعلم بالتكليف والمسؤوليّة الملقاة على عاتقنا أكثر وأكثر، وأن يجعل عاقبتنا ومصيرنا في العلاقة به أعظم وأعظم! نرجو أن لا يكلنا الله إلى أنفسنا لحظة من اللحظات، وأن يكون هو كافل أعمالنا على الدوام، هو يحدّد لنا طريق الصلاح ويوفّقنا للسير فيه.
اللَهمّ صَلّ علی محمّدٍ و آل محمّد