المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالورد و الذكر
التوضيح
هو العليم
لماذا يورث الذكر الطمأنينة والصفاء؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
لا تشغلني عن وردي!
قال الإمام الصادق عليه السّلام لعنوان البصريّ:
إنّي رَجُلٌ مطلوبٌ، ومَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تَشغَلني عَن وِردي وخُذ عَن مالكٍ واختَلِف إليهِ كَما كُنتَ تَختَلِفُ إليه.۱
مقدّمة في الحيثيّات المختلفة لدراسة الذكر والورد
يمكن أن تدرس مسألة الذكر والورد من حيثيّات مختلفة، منها الثمرة المترتّبة على الذكر ومدى فائدتها، وأنّ الذكر لأيّ الناس هو مفيد؟ وهل الإنسان يحتاج الذكر في كافّة الأوقات؟ أم أنّه يمكن أن يصل إلى مرتبة تجعله مستغنيًا عنه؟
وقد تحدّثنا في المجلس السابق إجمالاً عن أنّه يطلق الذكر على ذكر الله الأعمّ من اللساني والقلبي والسرّي.
لماذا يؤدّي ذكر الله إلى السكينة وطمأنينة القلب وانجلائه؟
لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة بيانات في مواضع عديدة حول لزوم ذكر الله، وهو يبيّن هذا الأمر بعبارات مختلفة.٢ ويقول القرآن: {أَلا بِذِكْرِ اللَه تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.٣
والآن لماذا يؤدّي ذكر الله إلى السكينة واطمئنان القلب؟ ولماذا لا يؤدّي ذكر غيره إلى ذلك؟
عدم ثبات الدنيا وابتناؤها على مفارقة الأحبّة
لو نظرنا إلى كافّة المسائل المطلوبة للإنسان في هذه الدنيا، لوجدنا أنّ أكثرها لا فائدة منه وهي مسائل لاغیة، واليسير منها ـ ممّا يمكن الاعتماد عليه ـ لا دوام له.
فممّا يعتمد الإنسان عليه الرفيق، وليس هناك إنسان مستغنٍ عن اتخاذ رفيق؛ لذلك فإنّ كلّ إنسان في أيّ عمل وحرفة ومهنة ـ من التجارة والدراسة والبحث العلميّ ـ يجد بالطبع أصدقاء ورفاقًا. وتحصيل الرفيق المفيد ليس أمرًا محلّ خلاف، وقد أُكِّد عليه في الروايات وفي الشرع، یقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أعجَزُ النّاسِ مَن عَجَزَ عن اكتِسابِ الإخوانِ، و أعجَزُ مِنهُ مَن ضَيَّعَ مَن ظَفَرَ بِهِ منهُم."٤
وإجمال الموضوع هو أنّ المراد من الرفيق ليس من يُخرجُ الإنسانَ عن الطريق، ويؤدّي به إلى الانحطاط والانحراف، ويُحقّق له الاحتياجات الدنيويّة، بل المقصود هو الرفيق الذي طرح معه الإنسان المسائل المختلفة، وامتحن مستوى تهيئه للمجالسة والعشرة من جميع النواحي، فمرافقة إنسان كهذا غنيمة.
ومع ذلك، نرى أنّ مرافقة الرفيق المناسب للإنسان من كافّة النواحي والذي يمكن الاعتماد عليه والوثوق به، لا ثبات لها ولا دوام؛ ففي النهاية وبعد مرور مدّة إمّا أن تُبعِده عنه يد الأجل، وإمّا أن يترك الإنسانَ لأمر بسيط، ومهما قال الإنسان: ماذا صنعنا نحن وأيّ خطأ أخطأنا؟ فلا فائدة من كلامه هذا.
ولا شكّ أنّ على الإنسان في هذه الدنيا أن يتزوّج عملاً بقاعدة حفظ النسل والاستمرار به. ولكن يمكن أحيانًا ومن البداية ألاّ يتحقّق التوافق ويواجه الزوجان المشكلات، أو أنّهم رغم قولهم في الأيّام الأولى: لقد فهم كلّ منّا الآخر. ولكن بعد مدّة ينتهي هذا الفهم إلى المشكلات والمشاجرات وتتحوّل حلاوة شهر العسل إلى مرارة! وأحيانًا قد تكون حياة كلّ من الزوجين موافقة لما يريدان، ولكن بصورة عامّة فإنّ سنّة الحياة الدنيا هي عدم الثبات، فيومان صحبة واقتران، ويوم آخر بُعد وفراق. يقول كليم الكاشي:
فصل گلم، تمام به آه وفغان گذشت | *** | چون بگذرد خزان، كه بهارم چنان گذشت |
بدنامی حیات دو روزی نبود بیش | *** | آنهم كلیم با تو بگویم چه سان گذشت |
يك روز صرف دادن دل شد به اینوآن | *** | روز دگر به كندن دل زین و آن گذشت |
يقول:
مرّ فصل ورودي بالآه والأنين | *** | ومضى ربيعي كما يمضي الخريف |
لم تكن الحياة أكثر من يومين أيّها التعيس | *** | سأخبرك يا كليم كيف مرّت |
يومًا بالتعلّق بهذا وذاك | *** | ويومًا بفراق هذا وذاك |
يتوجّهون يومًا نحو الرئاسة، ويشكّلون الأحزاب للوصول إلى هذا المسند ليتغلّب حزب على آخر، ويستحصلون على أصوات الناس الانتخابيّة، ولكن قبل أن تمضي مدّة طويلة وقبل أن يستمتعوا بطعم السلطان والرئاسة العذب، تنتهي المهلة فجأة أو يقولون لقد أصيب فلان بسرطان الدم أو أمراض أخرى.
حكاية النبيّ عيسى وتزويجه الشابّ الحطّاب من ابنة الملك
جاء في رواية لا يخلو نقلها عن فائدة أنّ عيسى عليه السلام كان مع بعض الحواريّين في بعض سياحته، فمرّوا على بلد، فلمّا قربوا منه وجدوا كنزًا على الطريق، فقال من معه: ائذن لنا يا روح الله أن نقيم ههنا ونحوز هذا الكنز لئلا يضيع٥، فقال عليه السلام لهم: أقيموا ههنا وأنا أدخل البلد ولي فيه كنز أطلبه، فلمّا دخل البلد وجال فيه رأى دارًا خربة فدخلها فوجد فيها عجوزة، فقال لها: أنا ضيفك في هذه الليلة، وهل في هذه الدار أحد غيرك ؟ قالت: نعم لي ابن مات أبوه وبقي يتيمًا في حجري، وهو يذهب إلى الصحاري ويجمع الشوك ويأتي البلد فيبيعها ويأتيني بثمنها نتعيّش به، فهيّأت لعيسى عليه السلام بيتًا، فلمّا جاء ولدها قالت له: بعث الله لنا في هذه الليلة ضيفًا صالحًا يسطع من جبينه أنوار الزهد والصلاح، فاغتنم خدمته وصحبته، فدخل الابن على عيسى عليه السلام وخدمه وأكرمه، فلمّا كان في بعض الليل سأل عيسى عليه السلام الغلام عن حاله ومعيشته وغيرها، فتفرّس عليه السلام فيه آثار العقل والفطانة والاستعداد للترقّي على مدارج الكمال، لكن وجد فيه أنّ قلبه مشغول بهمّ عظيم، فقال له: يا غلام أرى قلبك مشغولاً بهمّ لا يبرح فأخبرني به لعلّه يكون عندي دواء دائك، فلمّا بالغ عيسى عليه قال: نعم في قلبي همّ وداء لا يقدر على دوائه أحد إلا الله تعالى، فقال: أخبرني به لعلّ الله يلهمني ما يزيله عنك، فقال الغلام: إنّي كنت يومًا أحمل الشوك إلى البلد، فمررت بقصر ابنة الملك، فنظرت إلى القصر فوقع نظري عليها، فدخل حبّها شغاف٦ قلبي وهو يزداد كل يوم ولا أرى لذلك دواء إلا الموت، فقال عيسى عليه السلام: إن كنت تريدها أنا أحتال لك حتى تتزوّجها ، فجاء الغلام إلى أمّه وأخبرها بقوله ، فقالت أمه: يا ولدي إنّي لا أظنّ هذا الرجل يعد بشيء لا يمكنه الوفاء به، فاسمع له وأطعه في كل ما يقول. فلمّا أصبحوا قال عيسى عليه السلام للغلام: اذهب إلى باب الملك، فإذا أتى خواصّ الملك ووزراؤه ليدخلوا عليه قل لهم: أبلغوا الملك عنّي أنّي جئته خاطبًا كريمته، ثمّ ائتني وأخبرني بما جرى بينك وبين الملك، فأتى الغلام باب الملك، فلمّا قال ذلك لخاصّة الملك ضحكوا وتعجّبوا من قوله ودخلوا على الملك وأخبروه بما قال الغلام مستهزئين به، فاستحضره الملك، فلمّا دخل على الملك وخطب ابنته قال الملك مستهزئًا به: أنا لا أعطيك ابنتي إلا أن تأتيني من اللآلئ واليواقيت والجواهر الكبار كذا وكذا، ووصف له ما لا يوجد في خزانة ملك من ملوك الدنيا، فقال الغلام: أنا أذهب وآتيك بجواب هذا الكلام، فرجع إلى عيسى عليه السلام فأخبره بما جرى، فذهب به عيسى عليه السلام إلى خربة كانت فيها أحجار ومدر كبار، فدعا الله تعالى فصيرها كلها من جنس ما طلب الملك وأحسن منها، فقال: يا غلام خذ منها ما تريد واذهب به إلى الملك، فلما أتى الملكَ بها تحيّر الملكُ وأهل مجلسه في أمره، وقالوا: لا يكفينا هذا، فرجع إلى عيسى عليه السلام فأخبره، فقال: اذهب إلى الخربة وخذ منها ما تريد واذهب بها إليهم، فلمّا رجع بأضعاف ما أتى به أولاً زادت حيرتهم ، وقال الملك: إنّ لهذا شأنًا غريبًا، فخلا بالغلام واستخبره عن الحال، فأخبره بكلّ ما جرى بينه وبين عيسى عليه السلام وما كان من عشقه لابنته، فعلم الملك أنّ الضيف هو عيسى عليه السلام، فقال: قل لضيفك يأتيني ويزوّجك ابنتي، فحضر عيسى عليه السلام وزوّجها منه، وبعث الملك ثيابًا فاخرة إلى الغلام فألبسها إيّاه وجمع بينه وبين ابنته تلك الليلة. فلمّا أصبح طلب الغلام وكلّمه فوجده عاقلاً فهما ذكيًّا. ولم يكن للملك ولد غير هذه الابنة فجعل الغلام وليّ عهده ووارث ملكه، وأمر خواصّه وأعيان مملكته ببيعته وطاعته. فلمّا كانت الليلة الثانية مات الملك فجأة وأجلسوا الغلام على سرير الملك وأطاعوه وسلّموا إليه خزائنه، فأتاه عيسى عليه السلام في اليوم الثالث ليودّعه، فقال الغلام: أيّها الحكيم إنّ لك عليّ حقوقًا لا أقوم بشكر واحد منها لو بقيت أبد الدهر، ولكن عرض في قلبي البارحة أمر لو لم تجبني عنه لا أنتفع بشيء ممّا حصلته لي، فقال: وما هو؟ قال الغلام: إنّك إذا قدرت على أن تنقلني من تلك الحالة الخسيسة إلى تلك الدرجة الرفيعة في يومين فلم لا تفعل هذا بنفسك، وأراك في تلك الثياب وفي هذه الحالة؟ فلمّا أحفى في السؤال قال له عيسى عليه السلام: إنّ العالم بالله وبدار كرامته وثوابه والبصير بفناء الدنيا وخسّتها ودناءتها لا يرغب إلى هذا الملك الزائل وهذه الأمور الفانية، وإنّ لنا في قربه تعالى ومعرفته ومحبّته لذّات روحانية لا نعدّ تلك اللذات الفانية عندها شيئًا. فلما أخبره بعيوب الدنيا وآفاتها ونعيم الآخرة ودرجاتها قال له الغلام: فلي عليك حجّة أخرى: لم اخترت لنفسك ما هو أولى وأحرى وأوقعتني في هذه البليّة الكبرى؟ فقال له عيسى: إنّما اخترت لك ذلك لأمتحنك في عقلك وذكائك، وليكون لك الثواب في ترك هذه الأمور الميسّرة لك أكثر وأوفى، وتكون حجة على غيرك. فترك الغلام الملك، ولبس أثوابه البالية، وتبع عيسى عليه السلام. فلما رجع عيسى إلى الحواريّين قال: هذا كنزي الذي كنت أظنّه في هذا البلد فوجدته. والحمد لله.۷
أجل تلك هي عاقبة الدنيا، والذين يتعلّقون بها لا بدّ أن يعلموا أنّها لا ثبات لها ولا دوام؛ ولذا فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام يرفع صوته قائلاً: "الدنيا دار ممرّ لا دار مقرّ".۸ رغم أنّه يمكن أن يكون هذا الممرّ أقلّ من شهرين بالنسبة إلى بعض الناس، وأن يكون أكثر من مائتي عام، ولكن لو أنّ إنسانًا كان له عمر الخضر فإنّ الدنيا لن تكون دار مقرّر له أيضًا، ولا بدّ أن يعبر منها. والآن وبالالتفات إلى هذه المسألة، هل يمكن للإنسان العاقل أن يعتمد على غير تلك الحقيقة الثابتة الدائمة التي لا يمكن لأيّ مانع أو رادع أن يؤدّي إلى فنائها وزوالها؟ أيمكن واقعًا للإنسان العاقل أن يأمل بالدنيا ويعتمد عليها؟!
قيمة الدنيا عند أمير المؤمنين عليه السلام
لقد سار أمير المؤمنين نحو البصرة لدفع أصحاب الجمل، ونزل في الربذة، وما كان يدور في ذهن ابن عبّاس هنا هو الانتصار في المعركة، ولكن ما كان يدور في ذهن أمير المؤمنين عليه السلام فقط هو أداء التكليف لا الانتصار. لم يكن اعتقاد أمير المؤمنين أنّه لا بدّ حتمًا من اقتلاع رأس الفتنة من مكانها وبأيّ نحو من الأنحاء، وذلك لأنّه قد تكون إرادة الله أن يبقى في مكانه، وفي هذه الحالة فإنّ هذا التفكير هو تدخّل في شأن الله، لقد كان اعتقاد أمير المؤمنين هو أنّه يجب علينا أن نقوم بالتكليف ولو هُزِمنا.
وفي ذلك الحين وبينما كان عدد من الناس راجعين من الحجّ أرادوا أن يلتقوا بالإمام وانتظروه خارج الخيمة، وكان عليه السلام مشغولاً بخصف نعله، وجاء في الرواية أنّ ابن عبّاس دخل الخيمة وقال: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منّا إلى ما تصنع، فلم يكلّمني حتّى فرغ من نعله ثمّ ضمها إلى صاحبتها ثمّ قال لي: قوّمها فقلت: ليس لها قيمة، قال: على ذاك. قلت: كسر درهم، قال: "والله لهما أحبّ إليّ من أمركم هذا، إلا أن أقيم حقًّا أو أدفع باطلاً". ٩
فلو أنّي أقسمت أنّ هاتين النعلين المخصوفتين كانتا عند أمير المؤمنين خيرًا من تحصيل الحكم والسلطة، لما قلت جزافًا؛ لأنّ النعل المخصوفة تحمي رجل أمير المؤمنين من الأشواك والحجارة والإصابة بالجراح. أمّا هذا الحكم فلا يتأتّى منه سوى المشكلات والمتاعب وتجهيز الجيوش والحروب والمصائب في مواجهة الناس الجهلاء، ونصب العمّال وعزلهم. لذا أقسَمَ بالله العظیم أنّ هذه النعل المخصوفة أهمّ عنده من تجهيز الجيوش، وهذا الأمر يستفاد أيضًا من كلماته عليه السلام.
إنّ ما نمتلكه من دماغ وجهاز شعوريّ لا يختلف عمّا لدى أمير المؤمنين، والفرق بيننا هو أنّه عليه السلام كان قد وصل إلى اعتباريّة الدنيا وحقيقة ما له دوام وثبات. ولكنّنا نجد الثبات والدوام في هذه الدنيا وفي الرئاسات والعلاقات، والمسألة عندنا قد انعكست تمامًا عمّا هي عليه في الواقع.
لذا فإنّ نداء أمير المؤمنين عليه السلام في معظم خطب نهج البلاغة هو أيّها الناس إنّ الدنيا محلّ عبرة واعتبار! أيّها الناس إنّ الدنيا مكان للتأمّل والتفكّر! أيّها الناس سيأتي يوم تمضون فيه جميعًا من هذه الدنيا.۱۰
لقد مضى إلى اليوم أكثر من أربعين سنة من عمرنا، والحال أنّه في يوم من الأيام لم يكن لنا من العمر أكثر من عشرين سنة وفي يوم لم يكن لنا أكثر من عشر، وفي يوم لم نكن قد ولدنا أصلاً. وهكذا سيستمرّ الفلك الدوّار ويتقدّم نحو الأمام، ففي النهاية كيف يفهموننا أنّ ذلك اليوم قد يتقدّم أو يتأخّر ولكنّه آت لا محالة.
هنا يقوم الذين اتّضحت لديهم حقيقة الدنيا وواقعها ببيانها لأمثالنا نحن الذين حجبت أعينَنَا الحُجُب، فيقبل البعض ويصدّقون كلامهم، بينما يرفض أغلب الناس، وحتّى إن لم يصرّحوا بألسنتهم، فإنّهم يمرّون من جانب هذه المواضيع بالمزاح والهزل، وينظرون إليها بهذه النظرة. أمّا لو فكّرنا واقعًا بطريقة عقلائيّة وفكّرنا بطريقة الاهتمام بالاحتمالات۱۱ فحتّى لو لم يكن هناك شيء بعد الدنيا فإنّا لن نخسر شيئًا. أمّا لو عشنا وفق الطريقة الطبيعيّة التي تستتبع الصحّة والسلامة وهدوء الأعصاب وراحة البال، ولم نلقِ بأنفسنا في كلّ تعاسة وهلاك من أجل بعض الأغراض الخياليّة، بل قنعنا، وفي الوقت نفسه لاحظنا المسائل الأخرويّة، فهل نكون بذلك قد أصبنا بضرر؟! لا شكّ أنّنا نحن الذين عشنا حياة طبيعيّة والذي ألقى نفسه في كلّ تعاسة وهلاك سنفارق الدنيا على السواء، والفرق هو في أنّا عندما نموت سنترك مثلاً مليون تومان، وعندما يموت هو سيترك مائة مليار تومان. فبعد افتراض أنّ الأمر سينتهي عند الاثنين، فإنّ المائة مليار لا فائدة منها بعد الموت كالمليون. وحينئذ فلأنّنا بقينا في هذه الدنيا مدّة معيّنة ثمّ خرجنا منها لا نحمل عنها أيّة ذكرى، فإنّنا لن يصيبنا أيّ ضرر. أمّا لو كان هناك بعد الموت شيء ما، فالويل لمن لم يستعمل عقله!
الإمام الصادق عليه السلام وابن أبي العوجاء: يكفي احتمال وجود إله وآخرة
تختلف محاجّات الأئمة المعصومين عليهم السلام مع الناس بحسب مستوى علم كلّ فرد وبصيرته، فالإمام الصادق عليه السلام في إحدى محاجّاته مع الدهريّ۱٢ لم يدخل إلى البحث من طريق القواعد والمسائل الفلسفیّة، بل يطرح البحث بطريقة تنسجم كثيرًا مع التفكير العقلائيّ والعرفيّ، فيقول:
"إن يكنِ الأمرُ كما تَقولُ ـ ولَيسَ كَما تَقولُ ـ نَجَونا و نَجَوتَ؛ و إن يكنِ الأمرُ كما نَقولُ و هو كما نقول نَجَونا و هَلَكتَ!"۱٣
فالإمام يقول إن كان الواقع أنّه ليس هناك إله ففي النتيجة لا فرق بيننا نحن المعتقدون بوجود الإله وبينك أنت الذي لا يعتقد بوجوده؛ لأنّنا عشنا كلانا في هذه الدنيا وقمنا ببعض الأعمال. فمن باب المثال نحن ندعو بالأموال التي حصّلناها عددًا من أهل العبادة والصلاة، ونطعم الطعام ونجلس معهم ونتبادل بعض الأبحاث، وأنت أيضًا تنفق هذا المبلغ بعينه في مجالس الفسق والفساد واللهو واللعب. فلو فرضنا أنّه ليس هناك إله ففي النهاية مضى منّا ومنكم على السواء العمر، ولم يتضرّر أحدٌ منّا.
أمّا لو كان هناك إله، فحينها أنتم ستخسرون؛ لأنّ هذه المبالغ التي دفعناها نحن ستحسب لنا في ذلك العالم، ولكن الويل لكم حيث عليكم يوم القيامة أن تسدّدوا ما دفعتموه في الدنيا.
افترضوا أنّ الطبيب يقول حول مرض خطير: استعمل هذا اللقاح للوقاية من هذا المرض؛ لأنّ استعمال اللقاح لا ضرر منه ولو كان المرض مجرّد شائعة، أمّا لو كان حقيقة فستموت بعد يومين. أفهل يعقل هنا أن يقول أحد: من رأى ومن سمع؟! هذه إشاعة وأنا لن أخضع للّقاح.
الإمام الصادق عليه السلام يقول لابن أبي العوجاء إنّ عليك أن تستعمل عقلك، ولأنّه رأى أنّ كلام الإمام منطقيّ فقد سلّم.
عندما نعرف أنّ البرامج التي وضعها الأئمة عليهم السلام لنا في هذه الدنيا برامج عقلائيّة وصحيحة ومطابقة للواقع وقد رأوها وأحسّوا بها، فكيف يمكن أن نميل بأفكارنا نحو هذا الاتجاه وذاك، ونتخلّف عن إدراك الحقائق والمعارف والوصول إلى الكمال الإنسانيّ؟!
کلام المرحوم القاضي للمرحوم القوجاني في ضرورة الاستفادة من فرصة الدنيا
نقل المرحوم الشیخ عبّاس القوجاني للمرحوم الوالد ما يلي: انطلقت صباح أحد الأيّام من منزلي إلى منزل المرحوم القاضي في منطقة الجُدَيدة لأشارك في الجلسة التي يقيمها. وعندما كنت أعبر قرب سور النجف (وهو جدار طويل في أطراف المدينة لحمايتها من هجوم الأعداء) فجأة تذكّرت هجوم الوهّابيّين الذين هاجموا فيما سبق الآلاف من العلماء والصلحاء والزوّار والمقيمين وأجروا بحرًا من الدم، حتّى أنّهم حطّموا الضريح المطهّر والصندوق الذي عليه، وصنعوا من أخشابه القهوة وجلسوا وشربوها. أمّا في النجف الأشرف فبواسطة هذا السور ومقاومة السكّان، لم يستطيعوا أن يتسلّقوه ويدخلوا من فجواته، وفرّوا بعد أيّام من الانتظار، لقد كنت غارقًا في التفكير بأنّ علينا أن نجهّز أنفسنا بالسلاح حتّى إذا هاجموا مرّة ثانية اجتثثناهم، وينبغي أن يكون سلاحنا كذا وكذا، وينبغي أن يتعلّم شبابنا فنون القتال.
وبينما أنا غارق في هجوم الوهّابيّين وقتالهم والصراع معهم، وكانت الخاطرات تهاجمني من كلّ جانب، وصلت إلى باب دار المرحوم القاضي فطرقته ودخلت فما إن وقعت عينه عليّ قال: نعم مشغول بالمعركة! تعجّبت وقلت: ماذا تفضّلتم بالقول؟ أيّة معركة؟ فقال: مرادي هو جهاد النفس. وبذلك غيّر المسألة وبدّلها.۱٤
سر في طريقك أنت يا عزيزي ولا يكن لك اشتغال بهؤلاء الوهّابيّين وحفر الخندق! فإنّك ستعيش يومين، وينبغي أن تستفيد منهما خير استفادة. نحن في مكان حسّاس للغاية، ولن تتكرّر لنا هذه الفرصة مرّة أخرى.
علّة كون ذكر الله جلاء للقلب
أجل يقول أمير المؤمنين عند تلاوة الآية الشريفة {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}۱۰: {إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب}.۱٦
وتوضيح سبب كون الذكر جلاء للقلوب متوقّف على مقدّمات:
حقيقة القلب وقدرته على قبول تجليّات الذات
إنّ القلب هو تلك الحقيقة المنطوية في وجود الإنسان، وهو دائمًا مرتبط بمبدئه وبالحقّ تعالى. وقد شوّشنا ولوثّنا وكدّرنا نحن هذه الحقيقة الشفّافة النورانيّة التي هي محلّ نزول فيض الله، وذلك بواسطة أمور لا تناسبها أبدًا. فالله تعالى يقول: إنّ قلب المؤمن هو المكان الوحيد للتجليّات الذاتيّة الإلهيّة: لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن.۱۷ وقد مزجنا هذا القلب الذي هو مكان الله بالنفس والرغبات النفسيّة.
ينبغي ألاّ نقارن سعة قلب المؤمن بسعة الكرة الأرضيّة والقمر وزحل والمشتري والمجرّات؛ وذلك لأنّ الأرض الواسعة هي من هذا التراب الذي نأخذ قبضة منه، وأصل جميع الكرات والكواكب والمجرّات هو من المادّة، وعالم المادّة والطبع هو أدنى مرتبة من المراتب الوجوديّة لحضرة الحقّ المتعال. والأكثر من هذا أنّ المراد بالسماء في عبارة لا يسعني أرضي ولا سمائي ليس مجرّد السماء الدنيا، بل يشمل أيضًا سماوات الغيب.
وبناء على ذلك فإنّ معنى الحديث هو أنّ سمائي بكافّة مراتبها وخصوصيّاتها لا يتّسع شيء منها لتجليّاتي؛ فسواء عالم المادّة أو عالم الملكوت والجبروت واللاهوت كلّها لا تتّسع، ولكنّ قلب عبدي المؤمن لديه قابليّة تلقّي تجليّاتي الذاتيّة.۱۸
ولكن ماذا نصنع نحن بهذا القلب الذي هو محلّ الله؟ إنّ تعلّقنا بالرئاسة والموقع والمقام والتعلّق بدراهم الدنيا ودنانيرها، والعلاقات مع الناس، أدّت أن يخرج الله من قلوبنا بشكل كامل.
المحاسبة والحفاظ على القلب
روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أفّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه.۱٩ والمراد من أفّ لرجل هو أنّي لا أريد أصلاً أن أرى إنسانًا كهذا، وهو ليس إنسانًا. على الإنسان أن يجلس على الأقلّ ساعة من يوم الجمعة أو من الأيّام الأخرى ويتفرّع لنفسه، لا أن يجعل فكره يجول هنا وهناك بحيث لا يجد مجالاً للتفكّر في نفسه! إن كان هذا الأسبوع قد مضى فإنّ الأسبوع الآخر سيمضي، وكذلك الأسابيع الأخرى، ففي النهاية متى تريد أن تفكّر في نفسك وأن تمرّ في خاطرك الحقائق والواقعيّات التي تأخذ بتلابيبك؟
نحن نخطّط من الآن لمعاملة ربّما تحصل بعد شهرين، فنقول: علينا أن نقوم بهذا العمل وبتلك المقدّمة ونرى فلانًا وفلانًا، ولكن هل فكّرنا يومًا بتلك المعاملة التي لنا مع الله والتي وُظّفنا بها بوظيفة في مقابل اليومين اللذين أعطيناهما من العمر؟!
وهنا ندرك حقيقة وعمق كلام أمير المؤمنين عليه السلام حين يقول:
"ولَألفَيتُم دُنياكُم هذهِ أزهَدَ عِندي مِن عَفطَةِ عَنزٍ."٢۰
أجل هذا كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الذي كان كلّ قلبه موضعًا لله، وكان ارتباطه بالله قد بلغ مرحلة الكمال، وكان سرّه قد اتّحد بالله! ولو مضت علينا مائة سنة أيضًا فلا شكّ أنّنا لن نصل من حيث المعرفة إلى غبار أقدام أمير المؤمنين عليه السلام ولا بدّ أن نجعل غبار نعله كحلاً لعيوننا، ولكن والله لو أعطينا مثقال ذرّة من معرفة أمير المؤمنين عليه السلام لقلنا نحن أيضًا هذا الكلام ولنظرنا إلى الدنيا هذه النظرة!
والآن انظروا كم نحن أشقياء ومساكين لا نمتلك حتّى هذا المقدار من المعرفة. فلو كنّا نعقل لما كنّا نتوجّه إلى هنا وهناك ولا نطرق هذا الباب وذاك لنصل إلى منافعنا؛ إنّه أمير المؤمنين عليه السلام الذي يخصف نعله ويضحك من ابن عبّاس ومن جميع تلك المقامات والأوامر والنواهي.
في شهر رمضان قبل سنوات عديدة وفي حياة المرحوم السيّد الخمينيّ، كنت في إحدى المناطق أتحدّث حول خلوص العمل، فقلت للجموع الكثيرة التي كانت حاضرة هناك:
لقد سمعنا جميعًا أنّ آية الله الخميني قد قال في إحدى محاضراته: "إن كان هناك إنسان يعلم أنّ ثمّة من هو أفضل منه في القيام بمسؤوليّته، فإنّ واجبه الشرعيّ هو أن يتنحّى عن تلك الوظيفة وأن يجعل ذلك الآخر في مكانه." فكم مرّ على هذه المسألة حتّى الآن؟ (وکان قد مضى عامان حینها) فأروني واحدًا له مسؤوليّة في الدولة وموقع ومقام يقول: "إنّ فلانًا أليق منّي بهذا المقام" ثمّ يتخلّى عن وظيفته؟
رغم أنّه يمكن أن يكون هناك واحد أو اثنان قاما بذلك، ولكنّ البحث هو أنّه هل يشعر من كان في مسؤوليّة ما أنّه هو الوحيد الذي يليق بها من بين السبعين مليون من عدد سكّان إيران؟ إنّ من يفكّر بهذا النحو لمجنون!
المسألة هي أنّنا جميعًا نظنّ أنّ هذه القضيّة أمر سهل ومزاح فنتساهل بشأنها.
ذكرُ اللهِ الثابتِ الدائمِ والتوجّه إليه علاج للاهتمام بالدنيا وسبب لصفاء القلب
إنّ القلب الذي هو مكان لتجلّي الرحمن قد لوّثناه بزعامات الدنيا والتجمّل والتخيّل والأمر والنهي، والافتراء على هذا وذاك، وعدم الاجتناب عن الأعمال التي تخطر في بالنا، كما دسنا هذا القلب بأرجلنا. إنّ العاقل هو من يدرك هذه المسائل حقّ الإدراك ويرتّب عليها أثرًا، ويكون مشغولاً بالتفكير بشقائه ومسکنته.
والآن ولكي نترك التوجّه إلى الدنيا، ولكي ترجع القلوب إلى صفائها السابق ذاك، نحتاج أن نضاعف من التوجّه إلى المبدأ في أنفسنا. وبعبارة أخرى، إنّ دواء التوجّه إلى الدنيا هو ذكر الثابتات، وليس هناك ثبات واستقرار وإتقان أكثر من ثبات حضرة الحقّ، حتّى النبيّ الأكرم والأئمّة عليهم السلام الذين هم وسيلة حركتنا نحو حضرة الحقّ، وهذا ما يجب ألاّ يغيب عن بالنا أبدًا.
ضرورة التوجّه إلى الله حتّى عند التوسّل بالأولياء
فرغم أنّ هذه المسألة لها أهميّتها الخاصّة، حيث لا يمكن التقدّم إلى الأمام بدون مقام الولاية الكليّة الإلهيّة وبدون التوسّل بالمعصومين عليهم السلام، وإذا أردنا أن تكون لنا حركة إلى الله بمقدار ذرّة، فلا بدّ أن تكون بالتضرّع إلى مقام ولاية حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، ولكن ينبغي أن لا يكون النظر مقتصرًا على ظاهر الإمام والاعتماد على حياة بدنه، لأنّ النبيّ والإمام في النهاية سيموتان، وسيقع هذا البدن على الأرض.
إذا نظرنا إلى هذا الظاهر وأنسنا به نقول: الحمد لله نحن مع أمير المؤمنين نتردّد على منزله ونتحدّث معه ونضحك، وفي النتيجة فإنّ أمرنا على ما يرام، فنكون مخطئين بذلك، لأنّ ابن ملجم سيأتي يومًا ويفلق هامة أمير المؤمنين بالسيف، فيفارق الإمام الدنيا كغيره ويستشهد؛ لذلك علينا أن نرتبط بحقيقة لا تزول، وهذه الحقيقة هي ولاية الإمام عليه السلام التي هي عين التوحيد.
عدم الفرق في مرتبة التوحيد وجريان المشيئة بين الأولياء وغيرهم وكون ابتلاءاتهم من أسرار التوحيد
إذا جرت المشيئة في مرتبة التوحيد وتجلّي غيرة الحقّ، فإنّها لا تفرّق بين مختلف الناس والنبيّ، فكما أنّ السهم والسيف يؤثّران على أجسام مختلف الناس، فكذلك هما يؤثّران على قلب سيّد الشهداء بل حتّى على هامة أمير المؤمنين الذي هو قلب عالم الإمكان وإمام الجميع، فهذا السيف يفلق رأسه ويجعله شهيدًا.
النقطة الفائقة الأهميّة والغایة في الدقّة ضمن هذه المسألة هي أنّه في مقام التوحيد وتجلّي غيرة الحقّ، وتنفيذ المشيئة الإلهيّة في عالم الإمكان، ليس فقط لا فرق بين إنسان وآخر، بل وكما يشهد التاريخ، فإنّ الابتلاءات والمصائب کانت أشدّ على الأئمة.
إنّ حلاوة القضيّة هي في هذه النقطة المهمّة للغاية، وهي ألاّ نرى نحن هذا الفارق، وإلاّ وقعنا في الثنويّة والشرك! يقول الإمام الحسين عليه السلام إنّي كسائر الناس، يتألّف بدني من لحم وعظم، وأحسّ بالآلام كالآخرين، لذا فإنّ ما أقبله للآخرين في تنفيذ قوانين عالم المادّة والخلق، أقبل أكثر منه لنفسي، ولا فرق بيني وبين الآخرين من هذه الناحية.
رغم أنّ مسألة الاهتمام بالتكليف لها أهميّتها الخاصّة، فإنّ قضيّة التوحيد وتنفيذ القوانين الإلهيّة في العوالم له أهميّته أيضًا، ولا فرق بالنسبة إلى هذه المسألة في البين.
يقول الله لنبيّه لا تظنّ أنّا حين أرسلناك بالنبوّة سنعدّ لك مهدًا من الحرير وريش النعام، بل قدّرت لك الكثير من المشكلات والبلايا في حمل هذا العبء الثقيل، لا تظنّ أنّه سيحرسك في الحروب حارس سحريّ كالطلسم، بل لا بدّ أن تمضي إلى المعركة كالآخرين، ولا بدّ أن تقاتل المشركين في الصفّ الأوّل، وأنا أيضًا سأعدّ لك ضيافة كاملة من السيوف والسهام والرماح والحجارة! لذلك فقد أصيبت جبهة النبيّ بالحجر وشجّت، وتجاوز سيف ابن القميئة خوذة النبيّ، ودخلت حلقات خوذته في عظام وجنته وكسرتها ولم تخرج.٢۱
هذا جانب من بلايا رسول الله وبلايا أمير المؤمنين حيث عدّت له في معركة أحد تسعون جراحة٢٢ وكأنّ نصيب أمير المؤمنين من هذه الابتلاءات كان أكثر! وهذه المطالب التي تطرح هي من أسرار التوحيد.
كان المرحوم العلاّمة يقول: "يقول البعض: لماذا لم يجعلنا الله كالنبيّ وأمير المؤمنين؟!" لو أنّك شعرت للحظة بما جرى عليهم لفررت فرارًا لا تنظر فيه خلفك ولقلت: إلهي لا أنا لم أطلب هذه المقامات وهذا المقدار الذي أنا فيه يكفيني.
أجل يقول الله لنبيّه نحن لم نرسلك إلا رسولاً، وأنت لا تختلف عندنا عن سائر الناس من حیث تحمّل المصائب والمشکلات والمشقات، بل نقدّر لك مشكلات أكثر وأعظم، ونسلّط عليك عددًا ليواجهوك، وهذه سنّة لا يمكن التخلّص منها، ولا بدّ من التسليم.
عدم توقّف الاهتمام بالعبادة ة والذكر على معرفة الغاية من الخلق
جاء أحد الأصدقاء من الخارج إلى إيران للقاء بي، وكان من جملة حديثه أنّه ما لم يتّضح لي لماذا خلقني الله وإلى أين يريد إيصالي؟ فإنّ قلبي لا يميل إلى العبادة.
فقلت في جوابه: لن أتحدّث معك حول هدف الله وغايته من خلقنا، ولكن سأطرح عليك سؤالاً فقط: لو أنّ سارقًا مسلّحًا دخل إلى دارك وقال: "ليس لدي مجال فإمّا أن تخبرني بمكان أموالك وإمّا أقتلك على الفور." فهل تسأله من أنت ومن أمّك وأبوك ولماذا جئت إلى منزلنا؟ أم تقول له: إنّ خزنة المال هناك فخذ ما فيها؟! بما أنّه مسلّح ويريد أن يطلق الرصاص فمن البديهي أن لا يكون مجال لهذا الكلام.
والمثال الآخر هو أنّه لو جاء إنسان وقت الظهر إلى منزلك وقال: أنا جائع فهل توقفه أمام باب المنزل وتسأله من أنت ولماذا جئت؟ من البديهي أن لا مكان لهذه الأسئلة؛ لأنّه إنسان جائع ووظيفتك الإنسانيّة تقتضي أن تسقيه إن كان لديك ماء، وإلا تقول له ليس لديّ.
وحالنا في هذا العالم هو كذلك، طالما أنّا لا نشكّ أنّ الله خلقنا، ولا نشكّ أنّ هناك عالمًا آخر بعد الموت، وكذلك لا نتردّد في أنّ ذاك العالم فيه حقائق ومراتب أعلى، فهل هناك موضع لهذا السؤال وأنّه لماذا خلقنا الله؟! إن صدّقنا أنّنا سنفارق هذه الدنيا حتمًا، وفي ذلك العالم مراتب أعلى، فلا معنى للبحث حول أنّ الله لماذا جعل هذا المقدار من العمل للوصول إلى تلك المرتبة؟
بالطبع لست أريد أنّ البحث حول أهداف وغايات الخلقة عديم الفائدة، فهذه الأبحاث مفيدة وتسبّب العشق والشوق والنشاط، بل المقصود هو أنّ على الإنسان أن يقيّم موقعيّته بشكل منطقيّ، فإن لم يكن لدينا أيّ شكّ في مراتب المعرفة والكمال واللذات المعنويّة، فإنّ هذا بنفسه كاف لطلب المراتب الأعلى، وإن كنّا لا نعلم لماذا خلقنا الله؟
افترضوا أنّ الغرض من خلقتنا كان العبث واللغو، فما علاقتنا نحن بذلك؟! هل علینا ألاّ نأكل وأن نلقي بأنفسنا من شاهق لأنّ الله خلقنا عبثًا؟!
وبهذا علينا أن ننظر أنّ الله الذي خلقنا هكذا ماذا جعل لنا من الوظائف للوصول إلى العوالم الأعلى؟
أجل لقد كان حديثنا حول أنّ الله يقول إنّ صراطي وسنّتي هي عدم التمييز بين نبيّي وغيره، وإن كنت أعطيه مرتبة وثوابًا أكثر، فإنّ برنامجه وعمله أكثر أيضًا.
حقًّا من منّا ذهب أربعين يومًا إلى غار حراء وعبَد الله في صحراء الحجاز المحرقة تلك؟! من منّا تحمّل مصائب النبيّ وبلایاه؟!
معنى كون الذكر جلاء للقلوب
بناء على ذلك فإنّ مراد أمير المؤمنين عليه السلام من قوله "إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب" هو أنّه كلّما أوجد التوجّه إلى الدنيا صدأ في قلب المؤمن، فإنّ ذكر الله والتوجّه إلى المبدأ الذي هو ضدّ الدنيا يجلو هذا الصدأ، وتلك هي فائدة الذكر التي أكّد عليها في الروايات كثيرًا.
أمّا كيفيّة مراتب ظهور ذكر الله، وأنّ الذكر في البداية يؤدّي إلى رفع الصدأ من القلب، وفي العوالم الأخرى يؤدّي إلى التجليّات، فهذه مسائل سنتعرّض لها في المجالس اللاحقة.
نرجو أن يشملنا الله بعناياته وألاّ يحرمنا من المواهب التي اختصّ بها خواصّ عباده، ونقسم على الله بالحرمة والمكانة يمتلكها الأعاظم والأولياء المقرّبون عنده، ألاّ يحرمنا نحن أيضًا من الرشحات التي يمنّ بها على المخلصين.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.