139

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

7552
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتقوى ومراتبها

التاريخ 1428/02/06


التوضيح

ما هو المعيار للمظاهر الممدوحة والمظاهر المذمومة؟ وهل الظهور بمظهر حسن ونظيف مذموم؟ وهل يجوز الفرار من الحكم الشرعيّ بوجوب حلق الرأس للحفاظ على المظهر؟ ما نتيجة الاهتمام بالمظاهر والاهتمام برضا الله؟
هل هناك قيمة لمجالس العزاء التي تقام على أساس المظاهر؟
هل لعمل الوسواسيّ قيمة عند الله؟
تجيبك هذه المحاضرة عن هذه التساؤلات ضمن شرح فقرة فهذا أول درجة التقى من حديث عنوان البصريّ.

/۲۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

  • شرح حديث عنوان البصري - المحاضرة ۱٣٩

  •  ألقاها:

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • كان البحث حول كلام الإمام الصادق عليه السلام في رعاية التقوى حيث يقول عليه السلام لعنوان البصري: فهذا أول درجة التقى.

  • ضرورة التدقيق فيما يطرح في المحاضرات والربط بينه

  • لا شكّ أنّ الرفقاء يقرؤون هذه الرواية بشكلٍ منتظم، ويدقّقون فيها بحيث يتمكّنون من الربط بين الأبحاث التي تُطرح عليهم، وتكون الأمور في أيديهم، وهي تدور حول رعاية الموازين التي توصل الإنسان إلى تلك المرتبة من الكمال والمعرفة بحيث لا يؤثّر عليهم الجوّ والمحيط والناس في أيّ مرتبةٍ ومن أيّ نوعٍ كانوا.

  • تلخيص ما سبق في المحاضرات

  • كيف تؤثّر الأجواء المحيطة والدعايات على الإنسان؟

  • الأمر المهم الذي طُرح على الرفقاء يتمحور حول أنّ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام التي هي مدرسة الفهم لا التقليد، مدرسة الفقه لا التحجّر، مدرسة الحرية لا العصا والسوط، مدرسة العبوديّة لله لا للنّاس، في هذه المدرسة ما هو الأمر الذي يجب أن يقوم به الإنسان؟ الهدف وتلك المرتبة العليا هي الوصول إلى هذا الأمر الذي لا يحصل إلا بالعمل بما قاله الإمام الصادق لعنوان البصري فيصل الإنسان إلى هذه المرتبة والدرجة من العلم والمعرفة التي تصون الإنسان من تأثير المحيط فيه.

  • ما معنى المحيط؟

  • ما معنى المحيط؟ إنّه جميع أفراد الناس والأحداث التي تقع سواء في هذا البلد أو في غيره، الأمور التي تطرح، الأخبار التي يسمعها الإنسان، الأمور التي يراها ويشاهدها، الأجواء الحاكمة على فئةٍ ما، المسائل والأحاسيس التي تتشرّبها جماعةٌ فتسيطر على قواها العقليّة وتعيقها، تجعل عقلها تابعًا للأحاسيس، والأحاسيس محكومة للجوّ الحاكم على ذلك المحيط. الإمام الصادق عليه السلام بهذه البيانات التي تقدّمت للرفقاء يريد أن يُخرج الإنسان من هذه الأجواء، ثمّ يقول: هذا أوّل درجة التقى. إذا وصلت إلى هذه المرتبة التي لا يستطيع أحد أن يؤثّر عليك فيها، ولو حلف لك بأبي الفضل العبّاس۱ لما أثّر بك، ولو أقسم لك بالله لما أثّر. 

  • ولحسن الحظ كنت أقرأ بالأمس لمناسبة ما كتابًا لأحد الفلاسفة الغربيين، وكان كلامه جيّدًا جدًّا، وهو ديكارت. كان يقول: على الإنسان أن يكون له يقين إلى درجة يقينه بهذه الشمس، إلى هذه الدرجة عليه أن يهتمّ بالأمر. فهذا كلام القرآن بعينه، كلام الإسلام بعينه، كلام مدرسة أهل البيت التي تقول: {ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً}٢. لقد نادى القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة باتّباع اليقين بنسبة مائة بالمائة، لا بنسبة تسعة وتسعين ونصف، هذا الاتّباع نادى به الإسلام في ذلك الزمان الذي كان جميع الناس قد أسسوا مجتمعهم على أساس التوهّم والتخيّل، كانوا قد نحتوا الأصنام وجعلوها على سطح الكعبة وجعلوها وسيلةً للتبرّك، وكانوا يسجدون لها، في ذلك الوقت يأتي الإسلام ويقول إنّ مدرستي هي مدرسة اليقين بنسبة مئة في المئة: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، لا تتبع، لا تخطُ لا تتقدّم في موضعٍ الحاكم فيه هو الظنّ. والآن يعمل الناس بنسبة ثلاثين وأربعين بالمئة، أتدرون ما هو الظن؟ يعني نسبة ثمانين في المائة وتسعين في المائة وخمسة وتسعين في المائة وثماني وتسعين وحسب ما يؤدي إليه الظنّ من المراتب.يجب أن تصل إلى اليقين فإذا وصلت إلى اليقين صار الأمر لازمًا عليك.

    1. الحلف بأبي الفضل العبّاس مضرب مثل لليمين الشديد. ويقال ذلك على نحو الملاطفة (م) 
    2. سورة الإسراء الآية ٣٦

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

3
  • يريد الإمام الصادق أن يوصلنا إلى هذا الموضع، فالإمام بهذه المعاني التي بُيّنت يقول: لقد وصلتم للتوّ إلى أول درجةٍ من التقوى، وإذ وصلتم إليها فبعنايةٍ من الله، وبالاتّصال بذلك المبدأ لا من دون اتصال، لأنّه لو كان من دون اتّصال فإنّه وهم أيضًا، بالاتصال والتلقين من ناحية الله والعلم بأنّ الله تعالى يُنزل على النفس والعقل ما هو حقّ، فلو حكم الناس جميعًا باتّجاهٍ معيّن، فإنّ ذلك الذي وصل إلى مرتبة التقوى يحكم بأخرى، ليس من الضروريّ أن يثير الضجيج، ليس من الضروريّ أن يتظاهر بين الناس بهيئةٍ خاصّة، ليس من الضروريّ أن تترافق الأفكار التي يراها مع الضجيج والأجواء والمظاهر وأمثالها، هو يفهم الأمر بنفسه ويطأطئ رأسه ولا شأن له بالآخر أنّه هل وصل إلى هذه الفكرة أم لا؟ هل لديه القدرة على إدراكها أم لا؟ هو يأخذ هذه الفكرة ويسير ويتقدّم، فإذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة فهي مرتبة التقوى.

  • ما الفرق بين التقوى الحقيقيّة والزهد الظاهري؟

  • كما يذكر الرفقاء والأصدقاء فقد تقدّم بعض الكلام حول التقوى في الجلسات السابقة وذكرنا أنّ التقوى في اصطلاح المجتمع وعرفه لها معنى في حين أنّ لها معنى آخر عند أهل المعرفة وأهل العرفان وأهل العقل والمنطق والواقع، فالمعروف بين الناس حول التقوى أنّه كلّما كان الإنسان مطأطئ الرأس أكثر وكلّما كانت الخطى أقرب والكلام أقلّ، وإذا جلس على المائدة أكل من الأطعمة الأدنى والأخف، واشتغل بالعبادة أكثر، وقضى وقته بالأذكار والعبادات أكثر، وجعل ملبسه تحت الدرجة الوسطى، وكانت ثيابه في نظر الناس والعرف في حدٍّ متدنٍ جدًّا واستفاد من سيّارةٍ متدنيّة المستوى ولا يبالي بها أحد، فإنّ هذا الإنسان معروفٌ بالتقوى. وهذه المسألة وهذه الثقافة كانت منذ الزمان السابق فمنذ ذلك الزمان كان هناك هذا النحو من التفكير، غاية الأمر أنّه يظهر في كلّ زمانٍ بصورة وفق آداب ذلك الزمان، ومن هنا فإنّ حقيقة التقوى تعادل لدى المجتمع الزهد سواءٌ من ناحية المفهوم أو من ناحية الوجود الخارجي وكما يُسمّى حسب الاصطلاح الحمل الشائع الصناعي۱، فالتقوى هي بمعنى الزهد في صفٍّ واحد ومستوى واحد فهذه هي التقوى.

    1. اصطلاح في علم المنطق يقصد به ملاحظة المفهوم كمرآة للأفراد والمصاديق الخارجيّة لمفهوم ما كقولنا الإنسان ضاحك، فإنّ الضحك هو لأفراد الإنسان لا لمفهومه، ومقابل ذلك اصطلاح آخر هو الحمل الأولي أي النظر إلى المفهوم في نفسه لا كمرآة للأفراد والمصاديق التي تحته كقولنا الإنسان حيوان ناطق. راجع في ذلك منطق المظفر ص٥٦. (م)

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

4
  • ما هي الدواعي المختلفة للعمل؟

  • وقد ذكرت سابقًا للرفقاء أنّ للإنسان في أعماله التي تصدر عنه في الخارج دواعٍ مختلفة، وهذه الدواعي هي العلل لظهور أفعالنا الخارجيّة وبروزها، فربّما يلقي الناس أنفسهم بالمشقّات لأجل الوصول إلى تلك الأهداف، ولكن ذلك الهدف في الواقع ليس عقلائيًّا ومنطقيًّا وتلك الغاية ليست عقلائيّة ومنطقيّة، فكثير من الناس يفعلون تلك الأعمال لكي يظهروا أمام الناس بصورةٍ مقبولة، لكي يجعلوا أنفسهم أمام الناس مميّزين عن الآخرين، لكي يجعلوا أوضاعهم بنحوٍ يجذب الناس أكثر. وهناك حكايةٌ في كتاب "گلستان سعدي= روضة سعدي" لا زلت أذكرها من ذلك الوقت الذي كنّا ندرسه فيه. يقول إنّ زاهدًا ذهب برفقة ابنه إلى ملكٍ، وحين الصلاة بدأ بالصلوات المستحبّة وحين تناول الطعام تناول من تلك المائدة الواسعة مقدارًا قليلاً جدًّا وقام جائعًا، وحين وصل إلى البيت قال لابنه: ضع الطعام من جديد فإنّي لم آكل نصيبي منه عند السلطان. 

  • فقال له ابنه: فإذن عليك أن تعيد الصلاة أيضًا؛ فإنّك لم تأخذ حظّك ونصيبك اللازم منها، فقد صليت لأجل الملك وهذه هي حقيقة المسألة.

  • وقد أكّدنا في الجلسة السابقة على أنّ الفعل في حدّ نفسه ليس له قيمةٌ واعتبار مجرّدًا، وينبغي أن ننظر إلى تلك النيّة والغرض الذي وراء هذا الأمر ما هو، فما هي الغاية من القيام بهذا الفعل وما هي النية؟ ما علّة قيام هذا الإنسان بما يقوم به وكيف هي هذه العلة؟ 

  • ما هو الدافع الموجود عند أغلب الناس؟

  • وللإنسان مراتب مختلفة من الفكر والعقلانية والقدرة على التفكير وبصورةٍ عامة وغالبًا فإنّ العلة والغاية التي تدعو الإنسان للقيام بعملٍ ما تستند إلى مبادئ وبعبارةٍ أوضح إلى أسس وركائز، هذه الأسس ليست يقينيّة ومنطقيّة ومعتبرة غالبًا، فلدى الإنسان أمورٌ مختلفة من الأغراض والصفات والخصائص والخصال منها: حبّ النفس والاعتداد بالنفس وموقعيّتها. ففي كثيرٍ من الأعمال تكون هذه الأغراض هي المحور والأساس في سلوك الإنسان وحركاته، فالإنسان يريد دائمًا أن يجعل نفسه تحت الأنظار وموضع اهتمام فالهدف الأساسيّ هو الظهور ثمّ الأمور الأخرى التي ترتبط بحياته.

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

5
  • ما هو المقدار الممدوح من حبّ الظهور بمظهر حسن؟ 

  • طبعًا هناك مقدارٌ من ذلك مطلوبٌ جدًّا وهو مقتضى العلاقات الاجتماعيّة، ومطابق للذوق الإنسانيّ وللقضايا الفطريّة والأمور الواقعيّة والحقيقيّة التي أودعها الله في الإنسان، وخلقه على أساسها، وجعله يسعى ويجهد من خلالها، فمسألة أن يكون الإنسان جميلاً وأن يكون الإنسان في حالةٍ وزيٍّ جميلٍ ومطلوب لا إشكال فيها، بل يجب أن يكون كذلك وقد تحدّثنا عن ذلك سابقًا، فيجب على الإنسان أن يكون في الدائرة التي هو فيها ويتعاطى فيها مع الناس. بل لو لم يكن يتعاطى معهم يجب أن يكون من ناحية حاله ووضعه وشكله لا يسبّب الاشمئزاز والنفور للناس والذين يشاركون في المجالس ويتردّدون عليه. إنّ ارتداء الثياب النظيفة أمرٌ يقتضيه طبع الإنسان وفطرته دون ارتداء الثياب القذرة والمثيرة للاشمئزاز. 

  • أحيانًا أذهب إلى بعض الأماكن، فإن كان المكان قريبًا أذهب ماشيًا، وإلا ركبت في وسائل النقل العام وأحيانًا أتصل بسيارت الأجرة فإذا كان للإنسان عمل ما فإنّه يذهب مع هؤلاء، وقبل أيام اتصلت بسيارةٍ فجاءت وما إن ركبت فيها ومن شدّة الرائحة التي كانت في السيارة قلت للسائق: توقف أريد أن أنزل هنا، وإذا أردت أن ترسل إلي سيارةً في المرة القادمة فأرسل إليّ سيّارةً نظيفة، سيارةً فيها اهتمام، قلت له: أنت بنفسك ألا تتأذّى من الجلوس في هذه السيارة؟ واقعًا ألا تتأذى؟ قلت له لماذا لا تنظفها؟ لماذا لا تنظف مقاعدها، لماذا لا تغسلها؟ فترجّلت ودفعت له مبلغًا لأجل الانصراف. قلت له خذ هذا المبلغ وانصرف، فسأذهب في سيارة أخرى.فكم يقبح أن يسير الإنسان بين الناس وهم هكذا وأن يتعاطى معهم وهم على هذه الحال! وذلك اللباس النظيف الذي يلبسه إذا جلس في سيّارة كهذه على المقعد انتقلت إليه القاذورات الموجودة على المقعد.

  • وفي المقابل تجد أنّ الإسلام كم يهتمّ بمسألة النظافة! إذا دخل الإنسان إلى هذه المساجد وهذه المصلّيات وتكلّم مع بعض فإنّه يتأذّى من بعد مترين ويحبّ أن ينهي الموضوع ويخرج. فهذا وضع مؤسف جدًّا. لماذا لا يهتمّ الناس بهذا؟! هذا كلّه بسبب ما نبتلى به نحن من عدم الاهتمام بالأمور الفطريّة والعلاقات الاجتماعيّة، ثمّ بعد ذلك يعترضون علينا. 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

6
  • لقد كان رسول الله يمشّط لحيته كلّما أراد الخروج من المنزل، وكان يمشّط شعره، كان ينظر في ثيابه كيلا يكون في موضع منها بقعة، حتّى إذا رأى بقعة، لدينا في الرواية أنّه كان يبدّل ثوبه ويعطيه لأهله ويقول لها: نظفّيه أو كان ينظّفه هو بنفسه، ولدينا في كثير من الموارد أنّ النبيّ كان ينظّف ذلك اللباس بنفسه، صحيح أنّ هناك بقعة صغيرة في طرف العباءة ولكن يمكن أن تُرى، ولم يكن النبيّ يفعل ذلك لكي يتظاهر أمام الناس بشكل مقبول، كلاّ ففي المقابل كان يركب الحمار أيضًا وكان يركب خلفه أيضًا، وفي المقابل كان النبيّ يقوم بأعمال لم تكن تليق به في نظر المجتمع وكانت أمورًا اعتباريّة، وكانت على أساس الأنانيّات الشخصيّة والتوهّمات الباطلة ؛ فما هي علاقة النظافة بموضوع الزهد وما شابهه؟ لقد كان النبيّ ينظّف نفسه ويمشّط شعره وينظر في المرآة، وكان من الأمور التي يقوم بها النبيّ أنّه يكحّل عينيه وطبعًا هذه المسألة الآن ليست مطروحة اجتماعيًّا مع غضّ النظر عن الخواص التي لذلك.

  • وقد ذكرت للرفقاء قصة سفيان الثوري ذلك الدرويش المخادع، الصوفيّ المخادع، الصوفي الذي يظهر نفسه أمام الناس بأشكال مألوفة فقط لشدّ الأنظار ويجعل نفسه في هيئة مخالفة لما هو عليه في الواقع، فقد كان من هؤلاء سفيان الثوريّ الذي جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام وقصّته معروفة وكان من اعتراضاته على الإمام الصادق أنّه كان يقول له: لماذا تلبس لباسًا نظيفًا؟! 

  • فقال له الإمام: وهل أرتدي لباسًا قذرًا إذن؟! ۱

  • فقد كان هذا الإنسان أحمق إلى درجةٍ يقول فيها إنّ على الإنسان أن يلبس ثوبًا.. أن يكون زاهدًا.. أن يكون على حالةٍ بحيث يملؤه القمل من رأسه إلى أخمص قدميه وتأتيه العقارب من أعلى إلى أسفل، حينها يكون هذا الإنسان معروفًا بين الناس بالزهد ويحبّه الله والملائكة! 

  • لقد كان النبيّ يكحّل عينيه ويلبس أفضل الثياب وأنظفها عندما يريد الخروج، ويضع العطر ويخرج بين من؟ بين أفرادٍ ربّما لا يزورون الحمام من شهرٍ إلى شهر، لم يكونوا يبالون، لقد كان النبيّ والأئمة عليهم السلام هكذا بين الناس، وكانوا يتعاملون مع أصحابهم بهذا الشكل ويرغّبونهم به.

    1. ورد حديث الإمام الصادق عليه السلام مع سفيان الثوري وأصحابه في الكافي (ج٥ ص ۷۰) وهو حديث طويل يشتمل على مضامين رفيعة نورده هنا تتميمًا للفائدة: علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال : دخل سفيان الثوري على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فرأى عليه ثياب بيض كأنها غرقئ البيض [أي الجلدة الرقيقة التي تحت قشره] فقال له : إن هذا اللباس ليس من لباسك. 
      فقال له : اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على بدعة. أُخبِرك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان في زمان مقفر جدب، فأما إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفارها، فما أنكرت يا ثوري؟! فوالله إنّني لمع ما ترى ما أتى عليّ مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعًا إلا وضعته . 
      قال : فأتاه قوم ممن يظهرون الزهد ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف ، فقالوا له : إنّ صاحبنا حصر عن كلامك ولم تحضره حججه.
      فقال لهم : فهاتوا حججكم. 
      فقالوا له : إنّ حججنا من كتاب الله. 
      فقال لهم : فأدلوا بها فإنها أحقّ ما اتبع وعمل به.
      فقالوا : يقول الله تبارك وتعالى مخبرًا عن قوم من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). فمدح فعلهم وقال في موضع آخر : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما وأسيرا) فنحن نكتفي بهذا. 
      فقال رجل من الجلساء : إنا رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تمتّعوا أنتم منها ؟ 
      فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : دعوا عنكم ما لا تنتفعون به. أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الأمة ؟ 
      فقالوا له : أو بعضه فأما كله فلا. 
      فقال لهم : فمن هنا أُتيتم. وكذلك أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله ). فأما ما ذكرتم من إخبار الله عز وجل إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه و ثوابهم منه على الله عز وجل وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم. وكان نهي الله تبارك وتعالى رحمة منه للمؤمنين ونظرًا لكيلا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا فمن ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه ، ثم الثانية على نفسه وعياله ، ثم الثالثة على قرابته الفقراء ، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا. 
      وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للأنصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار : لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنوه مع المسلمين يترك صبية صغارا يتكففون الناس. 
      ثم قال : حدثني أبي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ابدأ بمن تعول الأدنى فالأدنى. ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه مفروضا من الله العزيز الحكيم ، قال : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون الناس إليه من الأثرة على أنفسهم وسمى من فعل ما تدعون الناس إليه مسرفًا وفي غير آية من كتاب الله يقول : ( إنه لا يحب المسرفين ) فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير ولكن أمر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ، ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( إن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم : رجل يدعو على والديه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عز وجل تخلية سبيلها بيده ، رجل يقعد في بيته ويقول : رب ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق فيقول الله عزو جل له : عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ولكيلا تكون كلا على أهلك ، فإن شئت رزقتك وإن شئت قترت عليك وأنت غير معذور عندي ، ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل : ألم أرزقك رزقا واسعا فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف ، ورجل يدعو في قطيعة رحم . 
      ثم علم الله عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وآله ) كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدق بها فأصبح وليس عنده شئ وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا فأدب الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) بأمره فقال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) يقول : إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال . 
      فهذه أحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له : أوص فقال : أوصي بالخمس والخمس كثير فإن الله تعالى قد رضي بالخمس فأوصى بالخمس وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته ولو علم أن الثلث خير له أوصى به.
      ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل فقيل له : يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا؟! 
      فكان جوابه أن قال : مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء ، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمانت.
      وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم ، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما قال؟! ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم . 
      واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه ( عليهم السلام ) : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال يوما : ما عجبت من شئ كعجبي من المؤمن أنه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له وكل ما يصنع الله عز و جل به فهو خير له ، فليت شعري هل يحيق فيكم ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم؟ أما علمتم أن الله عز وجل قد فرض على المؤمنين في أول الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوء مقعده من النار ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عز وجل للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة وأخبروني أيضا عن القضاة أجورة هم حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال : إني زاهد وإني لا شئ لي فإن قلتم : جورة ظلمكم أهل الإسلام وإن قلتم : بل عدول خصمتم أنفسكم وحيث تردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث . أخبروني لو كان الناس كلهم كالذين تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم فعلى من كان يتصدق بكفارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الذهب والفضة والتمر والزبيب وسائر ما وجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك؟ إذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة. فبئسما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل وردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي . 
      وأخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود ( عليه السلام ) حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك وكان يقول الحق ويعمل به ، ثم لم نجد الله عز وجل عاب عليه ذلك ولا أحدا من المؤمنين ، وداود النبي ( عليه السلام ) قبله في ملكه وشدة سلطانه.
      ثم يوسف النبي ( عليه السلام ) حيث قال لملك مصر : ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن وكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحق ويعمل به ، فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه.
      ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه الله وطوى له الأسباب وملكه مشارق الأرض ومغاربها وكان يقول الحق ويعمل به ، ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه. فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عز وجل للمؤمنين واقتصروا على أمر الله ونهيه ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به، وردوا العلم إلى أهله توجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالى، وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه وما أحل الله فيه مما حرم فإنه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل ، ودعوا الجهالة لأهلها فإن أهل الجهل كثير و أهل العلم قليل وقد قال الله عز وجل : ( وفوق كل ذي علم عليم ).

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

7
  • ومن الوصايا التي كانت للإمام الصادق عليه السلام في العلاقات الاجتماعيّة والأسرية والتي كان يدعو أصحابه إليها أنّه إذا رأى واحدًا من أصحابه على هيئةٍ رثّة كان يقول له: كيف تعيش مع عائلتك هكذا؟ فيتعجّب ذلك الرجل من كيفيّة كلام الإمام عليه السلام معه! فالإمام يقول له: كيف تتوقّع أن تتزيّن لك زوجتك وتلفت نظرك وتشدّ اهتمامك وأنت هكذا؟! أليس لها قلب؟! أليس لها إحساس؟! أليس لديها توقّعٌ أن يكون زوجها على الأقل على هيئةٍ يمكنه أن يقترب منها ويعيش معها؟! 

  • أنظروا كم يهتم الإمام بهذه الدقائق ويحسب لها حسابًا، هذا الإمام الصادق الذي هو رئيس مدرستنا ورئيس فقهنا يهتّم بكلّ جانبٍ وبكلّ أمرٍ مهمٍّ ربّما لا تكون له أهميّة في نظرنا ولا نلتفت إليه في علاقاتنا، ولكنّ الإمام يريد من كلّ واحدٍ من أصحابه ومن تلامذته أن يصل إلى تلك المرتبة من الكمال في كلّ مجال وفي المسائل الاجتماعيّة، فيكون إنسانًا في ما يظهر منه من أفعال، فكما أنّ الإنسان يرغب أن يكون محيط منزله على هيئةٍ معيّنة فإنّ الآخرين يتوقّعون منه ذلك أيضًا، يتوقّعون ذلك. ولكننا نلاحظ أنّ هذه الأمور لا يُعتنى بها في بعض الموارد، ويعدّ ذلك مخالفًا لشؤون الإنسان، ومخالفًا للتقوى، ومخالفًا للزهد والعبوديّة.

  • ما هو التظاهر المذموم؟ 

  • فإذن الاهتمام بهذه الأمور في هذه الدائرة هو واحدٌ من الجوانب وواحدٌ من الأصول التي على الإنسان أن يهتمّ بها والتي لها أهميّتها في مكانها الخاصّ، ولكنّ الكلام هو في أن يجعل الإنسان هذه الطبيعة من محبّة الجمال والتظاهر به، عنوانًا أساسيًّا للعلاقات الاجتماعيّة، فهذا مذمومٌ حيث يكون كامل الهدف والتفكير منصبًّا على هذا الأمر، وأن يُظهر الإنسان نفسه للآخرين، وأن يبرز نفسه للآخرين ويعرضها أمامهم، وأن يكون بنحوٍ من ناحية العلاقات الاجتماعيّة والنظرة التي يمتلكها الآخرون عنه على نسقٍ واحدٍ دائمًا.

  • ما نتيجة الاهتمام بالتظاهر؟

  • ونتيجة ذلك أنّه إذا صادف الإنسان حكمًا في أن يقوم بعملٍ ما، وكان هذا العمل يتعارض مع هذه النظرة، كأن يقال له: عليك أن تحجّ وأن تقصّ شعرك في الحجّ، فتأتي فجأة تلك النظرة وتتعارض مع الحكم الإلهيّ فيُبرز نفسه، ويقف أمام ذلك ويمتنع عن طاعة الأمر الإلهيّ، وتصبح تلك النظرة مانعًا من الوصول إلى تلك الحقيقة وذلك الواقع فماذا يجب أن نصنع هنا؟

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

8
  • هنا على الإنسان أن يقيّم الظروف المحيطة به دائمًا على أساس تلك الطريقة من التفكير الصحيح ويجعلها مطابقةٍ لذلك التفكير، لا أن يجعل نفسه خاضعةً لتلك الظروف ثمّ يأتي بذرائع مختلفة ووسائل مختلفة من النصوص الدينيّة والكلمات الصادرة من الأئمة عليهم السلام ويطبّقها على نفسه في تلك الظروف.

  • هل يجوز الفرار من الحكم الشرعيّ للحفاظ على المظهر؟ (مثال حلق الرأس في الحج)

  • فذاك واحدٌ من المواقف، وهو أن يواجه الإنسان الحكم الإلهيّ ويقف في مقابله، وإن قام به في النهاية بنحو من الأنحاء فهذا أمر آخر، ففي كثير من الموارد يرى الإنسان أنّه إذا واجه أمرًا كهذا فإنّ أوّل ما يخطر في باله هو أن يجد طريقًا للفرار لكي يصل إلى مطلوبه، فمنذ تلك اللحظة التي يبدأ فيها الإنسان بالبحث عن ذلك فإنّ ارتباطه ينقطع، لقد كان هناك ارتباط إلى الآن، لقد كانت هناك صلة، إلى الآن كانت هناك هذه الواردات، وبمجرّد أن جعل الإنسان أمر الله جانبًا وجعل فكره يبحث عن طريق للفرار، وللوصول إلى مطلوبه، فإنّ الله يقول أيضًا: بما أنّك هكذا فنحن نغلق أيضًا من جانبنا، نغلق ثمّ نجعلك في طريق تصل فيه إلى مرادك ومقصودك ونواياك، فيذهب ويسأل فلانًا ويقول له: من هو مرجعك؟ من تقلّد؟ يقول: فلانًا. ما هو رأيه في حلق الرأس؟ 

  • يقول: احتط.۱ 

  • ـ ها! هذا جيّد فلنذهب إليه! 

  • فانظروا الله يجعل في الطريق إنسانًا من الذين يوصلونه إلى مراده. لماذا؟ لأنّ نفسه في حالة صراع، في حالة تلاطم وتضارب. نفسه في حال فرار. نفسه تبحث عن ذريعة، إن لم يحلق رأسه لامته نفسه أن خالفت الحكم الإلهيّ، عصيت، يمكن أن يكون في حجّك مشكلة، لقد عصيت الله. فالنفس تلاحظ كلّ ذلك ثمّ تبحث عن طريق آخر للفرار بحيث يمكنها فيه أن تهدأ، وأن تكون في سكينة واطمئنان، وتخرج من حالة القلق والتضارب والحوار في هذين الأمرين، فيجعل الله له مخرجًا ويقول له: تفضّل! أتبحث عن مهرب ممّا أمرتك به لتصل إلى مبتغاك؟! كان من الممكن أن لا تلتقي بهذا الرجل وأن لا تتعامل معه، ولكن ما إن وصلت إلى هذا مفترق الطرق هذا وبدلاً من أن تمشي في ذاك الطريق ألقيتُ في فكرك أن تمشي في هذا، فإذا وصلت إلى منتصفه وقف أمامك إنسان كهذا، فتسأله أنت وتحلّ مشكلتك. 

    1. إشارة إلى ما هو معروف عند بعض الفقهاء من أنّه إذا كانت رأي مرجع التقليد في مسألة هو الاحتياط الوجوبي أمكن للمقلّد أن يرجع إلى غيره من الفقهاء مع مراعاة الأعلم فالأعلم. ولسماحة السيّد رضوان الله عليه نظر في هذا الاحتياط من جهة وأنّه يكشف عن عدم أهليّة المفتي للإفتاء، كما أنّ نيّة المكلّف حين البحث عن هكذا أمور إذا كانت هي الفرار من الحكم الشرعيّ فإنّها لا يمكن أن تكون مقرّبة إلى الله. (م)

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

9
  • ولكن لو كنت أوكلت الأمر إليّ من البداية وكان في بالك أن تحصّل رضاي، لما سلكت بك هذا الطريق من البداية، ولألقيت في ذهنك أن اسلك ذاك الطريق، ولما التقى بك إنسان كهذا. نعم! {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}۱. فهؤلاء يريدون أن يمكروا أمام الله، والمكر يعني الحيلة والعثور على مهرب، يريدون أن يجدوا مهربًا من حكم الله. ما أريد أن أذكره هو نموذج والأمر هو كذلك في جميع الموارد، فهذا نموذج، وله نماذج أخرى كثيرة ذكرتها للرفقاء، وكثير منها على الإنسان أن يصل إليه بالتجربة. والله يأتي بكلّ هذه الموارد للإنسان في حياته، يأتي له بكلّ ذلك. 

  • من نتيجة الاهتمام بالمظاهر والاهتمام برضا الله؟

  • فبماذا يفكّر الإنسان في مثل هذه الأمور؟ بأيّ الطريقتين يفكّر؟ وأيّهما يعتمد في ذهنه وفي قلبه وفي فكره؟ هل يلاحظ أولاً ما هو رضا الله ثمّ يلاحظ الأمور الأخرى التي تحيط بحياته؟ 

  • هذه الطريقة هي ذلك النور الذي يلقيه الله في قلب الإنسان، وبهذا النور تأتي وتتكلّم مع إنسان فترى أنّ كلامه لا ينسجم مع قلبك فتمضي، وبهذا النور تذهب إلى مكان ما فتتكلّم مع إنسان من أهل العلم والدراسة فلا يدخل كلامه إلى قلبك. وبهذا النور تذهب إلى رجل ثالث أرفع شأنًا فتجد أنّ كلامه لا يدخل إلى قلبك، لا يدخل، لا يدخل، لا يدخل. لماذا لا يدخل؟ لأنّه ليس لديه هذا النور، وليس لديه هذا الاتّصال. هو أكثر علمًا منك، ولكن لا اتّصال لديه، فلا يدخل كلامه إلى قلبك. اطّلاعه على الكتب يفوق اطّلاعك، ولكن عندما تتكلّم معه ترى أنّه لا يمكن أن تتكلّم أمامه، لا يمكن أن تردّ استدلاله، ولست مقصّرًا لأنّك لست من أهل الاختصاص في هذه الأمور، فلا يكتب عليك تقصير، ولا إشكال في ذلك ولا تلام عليه. ولكنّ نور الله لا يختصّ بأهل العلم وحدهم، لا يختصّ بأهل الكتب والدفاتر، لا يختصّ بالذين مضى عليهم حين من الدهر وصار عمرهم سبعين وثمانين سنة وهم يسيرون في هذه الأمور. يحتاج نور الله إلى قلب قد طهّر نفسه، فيتقدّم ويتقدّم ويصل إلى ذاك. 

    1. سورة آل عمران الآية ٥٤

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

10
  • قصّة الذي تغيّرت أفكاره بسبب قراءة كتب المرحوم العلاّمة

  • قبل مدّة كتب إليّ أحد الأصدقاء ـ ولم أره بعد ـ رسالة يبيّن فيها حالاته، فقد قيل له: طالع تلك الكتب فبدأ بمطالعة كتب المرحوم العلاّمة ـ وما أقوله لكم أمر وقع وليس اختراعًا ـ فبدأ بمطالعتها، وفي الرسالة التي أرسلها كان يقول: منذ أن بدأتُ بقراءة كتب والدكم شعرت أنّي أختلف عمّا كنت عليه بالأمس. وهو محقّ فيما يقول، فهناك الكثير ممّا يكتب وفي كلّ كتاب كلام والجميع يتكلّم عن ذلك. 

  • ما هو سرّ تأثير كتب العلاّمة الطهراني والعرفاء بالله في النفوس؟

  • فلماذا يختصّ هذا الكتاب بهذا الأمر؟ لأنّ تلك النفس التي كتبت تلك المطالب بقلمها وبيّنتها ببيانها وبنانها وحرّرتها هي بعينها تشرف على هذا الإنسان أثناء مطالعته، فتلك الروح وسيطرتها من عالم البرزخ وعالم القيامة ترافق كلّ حرف من الحر وف وكلّ كلمة من الكلمات، وهذا الرجل يتّصل بها من خلال هذه الكلمات. وتلك الحقيقة هي حقيقة الولاية، إمام الزمان الآن يؤيّده، وهذا الأمر يأتي الآن من عنده، طهّر قلبه وصفّاه، فلمّا صار صافيًا... فالقلب إمّا أن يحلّ فيه الرحمن أو الشيطان ولا يمكن أن يبقى خاليًا، فالقلب لا يكون خاليًا، إذا خرجت الشياطين جاءت الملائكة، إمّا أن يكون مكانًا للملاك أو للشيطان. ولا معنى من دونهما، إمّا أن يكون هناك توهّم وتخيّل وإمّا عقل. إمّا ميل إلى الدنيا والكثرات أو ميل إلى الرحمن والتوحيد والمعنويّات، لا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد. نعم يمكن للإنسان أن يلتفت إلى التوحيد وأن يلتفت إلى التجرّد وإلى القرب ويجعل رضا الله هو المحور لجميع أعماله وفي الوقت نفسه يقوم بأعمال دنياه، لا منافاة بين ذلك، ولم يقل أحد إنّ من يسير إلى الله عليه أن يعيش في الغار، بل هناك نهي عن ذلك وهو مذموم، وورد فيه عتاب وخطاب أيضًا، وليس مجرّد نهي وذمّ، كلاّ ليس الأمر كذلك. ولكنّ الكلام هو في أنّ المحور ما هو؟

  • كان يقول منذ أن بدأت بمطالعة هذا الكتاب رأيت أنّ أحوالي قد تغيّرت، ومع مضيّ الوقت رأيت أنّ أفكاري قد تغيّرت بالنسبة إلى هذه الأمور وصارت شيئًا آخر، وصارت لديّ أفكار أخرى. لقد كتب هذا الكتاب حول موضوع معيّن وقد تغيّرت أفكاري حول موضوع آخر، ولا علاقة للكتاب بها أساسًا. فما هذا؟ إنّه الاتّصال. 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

11
  • يقول: كانت قد حصلت لديّ شبهات فكم يحسن بي أن أذهب إلى أهل الفنّ وأهل العلم وأطرحها عليهم. فجئت إلى رجل معروف ومشهور في تلك المدينة والناس يهتمّون به، فتكلّمت معه ولكنّ كلامه لم يدخل إلى قلبي. أمّا هذا فيقول شيئًا وأنا أفهم شيئًا آخر، هو يتكلّم في واد ـ انظروا! نعم نحن نقترب من تلك الأمور نعم. فالرفقاء يقتربون من تلك الحقيقة ومن تلك النتيجة التي نريد أن نجنيها سواء اليوم أم في يوم آخر ـ أتحدّث مع إنسان مؤلّف يهتمّ به الناس ويرجعون إليه في شؤونهم ومعتقداتهم، ولكن أتكلّم معه دون أن يدخل كلامه إلى قلبي، وقلبي لا يقبل كلامه، لم يتمكّن من إعطائي ما أطلب، وأن يرويني ممّا أريد. كان يقول: إلى أن ذكرت أمرًا فقلت إنّه في الكتاب كذا، فقال: دع هذا الكتاب جانبًا، إنّهم جماعة من الدراويش، ولا يدرى مدى صدقهم. 

  • فقلت: أجل! الآن فهمت، الآن فهمت لماذا لم يدخل كلامه إلى قلبي. فانظروا إنّه لا علم له بحاله، لا يعرفه، لا خبر لديه عنه. ولكن ماذا؟ هناك اتّصال، وهذا الاتّصال يؤيّده، يسير معه وله معيّة معه. كان يقول: ذهبت إلى آخر لأتكلّم معه فرأيت أنّه في أجواء وأحوال أخرى، ثمّ تكلّمت مع ثالث فرأيت أنّه لا ينفع. فجئت وفتحت الكتاب فرأيت أنّه ومنذ الصفحة الأولى قد أجيب عن جميع إشكالاتي.

  • إنّها تلك الحقيقة التي على الإنسان أن يوصل نفسه إليها، عليه أن يصلَ نفسه بها. لقد مضى مقدار كبير من عمرنا الآن، وصار لدينا اطّلاع ما زاد أو نقص على الأمور. فلماذا لا نجد ما نجده في بعض الأماكن في أماكن أخرى؟ لأنّ المحور والأساس في الظروف المختلفة والأماكن المختلفة يختلف وليس واحدًا. الأساس والمحور هو للمظاهر وللكثرة، ولكن بعض الأماكن ليس الأمر فيها على أساس التظاهر. انتهى الأمر. 

  • هل لمجالس العزاء التي تقام على أساس المظاهر من قيمة؟

  • الأساس والمحور على أساس التظاهر، فالمجالس تشكّل على هذا الأساس والمحافل تقام على هذا الأساس والإعلان يجري على هذا الأساس، يكتب في الجرائد ويعلّق على الجدران والأبواب ويعلّقون اللافتات والإعلانات لأنّه سيقام مجلس كذا وهذا المجلس معلومٌ ما هو، إنّه ذاك المجلس وبتلك الطريقة على أساس تلك النوايا. فلو أقيم مجلسٌ بهذه الطريقة ولم يكن المشاركون كما هو المتوقّع بل شارك ربع المتوقّع تجد أنّ السماء قد وقعت على الأرض أن لماذا حصل ذلك لماذا؟ لأنّه لم يحصل ذلك التوقع ولم تتحقّق تلك النيّة.

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

12
  • ولكن يذهب الإنسان إلى مجلس [من نوع آخر]... فقبل أيّامٍ ذهبت إلى مجلسٍ كم كان نورانيًّا! كم كان على درجةٍ من الإخلاص! وكان لبعض أساتذتي، كان قد شارك فيه سبعةٌ أو ثمانية وكان معتادًا أن يقام في ليالي الجمعة فكان جميع المشاركين فيه سبعة وتلك الحالة التي شعرت بها هناك والصفاء الذي عشته لا وجود له في مكانٍ آخر لماذا؟ لأنّ الأساس ليس الشهرة، ليس هناك أعلامٌ ورايات ولائحات وإعلانات بل كان على أساس سنّةٍ من آبائه بأن يقام في ليالي الجمعة مجلسٌ للتوسل والزيارة والعزاء بمناسبة ولادات وشهادات ووفيات الأئمة عليهم السلام، بل حتى لو لم يكن ذلك فقد كان مجلس عزاء سيّد الشهداء والتوسل به بهذا النحو، وكان هو مستمرًا عليه وكم كان مجلسًا ذا صفاء وخلوص لماذا؟ لأجل تلك النيّة التي هي وراء هذا العمل.

  • وهناك مجالس أخرى إذا ذهب إليها الإنسان يجد أنّهم من البداية ينظرون من الذي حضر ومن لم يحضر؟ كم عدد الذين جاؤوا كم عددهم؟ وتجد من يحصي في الزاوية عدد المشاركين: هذه الليلة ازدادوا، الليلة كانت جيدة، ماذا حصل الليلة؟ يأتون بآلة التصوير ويلتقطون صورًا عن كلّ واحدٍ من المشاركين ليُحفظ أنّهم شاركوا في مجلسنا.

  • لقد شاركت في أحد المجالس يوم عاشوراء في طهران لمناسبةٍ ما، فقد يذهب الإنسان إلى بعض المجالس مجاملةً فإن لم يذهب قالوا لم يأت فلان، لم يحترمنا، لم يعتن بنا، فكثير من هذه المجالس هي لأجل المجاملة فلذلك الإنسان حقٌّ علينا قبل ثلاثين سنة وخمسة وثلاثين سنة فقلت أداءً لحقّه فلأشارك في بعض السنوات في مجلس العزاء الذي يقيمه في أحد شوارع طهران، فالناس يأتون ويذهبون عصر عاشوراء ـ ولم أشارك فيه بعد ذلك اليوم ـ فلديه في يوم عاشوراء محاضرة وتوسّل ومجلس، وجاء رجلٌ يحمل آلة تصوير طولها متران ونصف، فأخذ يدور بها فوق رؤوس كلّ واحدٍ من المشاركين في المجلس، الأوّل، الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، وأثار الضجيج وسط المشاركين وأثناء قراءة مجلس عزاء الإمام الحسين وفي يوم عاشوراء وبتلك الطريقة والأطوار الخاصّة... ألا يخجلون؟ ألا يخجلون من الإمام الحسين أيضًا؟ كم يجب أن يكون الإنسان عديم الحياء؟ فلتقم ألف مجلسٍ من الرقص والموسيقى ولتصنع ألف فيلمٍ منها ولكن لماذا تتعامل مع الإمام الحسين بهذه الطريقة؟! لماذا تتعامل مع الأئمة بهذا النحو؟! 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

13
  • لقد كنت بالأمس برفقة الأصدقاء في مكانٍ ما فذكرت لهم أنّ هؤلاء الذين يقيمون مجالس كهذه ألا يعلمون بأنّ ذلك الحبل الذي ألقي في عنق عليّ بن أبي طالب فأخرج به من المنزل إلى المسجد هو بعينه يلقونه في عنق الإمام الحسين ويجرّونه إلى مجالسهم؟ إنّه بعينه ولا يختلف عنه، والحبل عينه يلقونه الآن في عنق إمام الزمان، ويجرّون به إلى هذه المجالس بهذه الطريقة وبهذه الحالة وهم لا يخجلون، فهناك آلاف المجالس وآلاف الدواعي وآلاف الأنواع من المسائل، وهذا الخطيب الآن يقرأ من على المنبر مجلس الوداع وكيفيّة المسير فيأتي رجلٌ ويمشي في وسط المجلس وهذا يتحدّث من هنا وذاك يتحدّث من هناك: لا تنسَ أحدًا يجب أن تصوّر الجميع! يجب أن يسجّل في التاريخ وفي الشريط وأمثال ذلك... فماذا حصل؟! لقد شارك فلانٌ في مجلسه، مرحى لهذه المجالس وهذه التوسلات أليس هذا سخرية واقعًا؟! ألا ينبغي أن نفكّر؟! ألا ينبغي أن تنتهي هذه الأمور يومًا ما؟! لا أعتقد أنّها ستنتهي، أتدرون لماذا؟ أخبروني بسرعة! لأنّ الأغراض النفسيّة موجودة دائمًا، والشيطان موجودٌ دائمًا، والنفس موجودة وما دامت النفس موجودة فهذه المجالس باقية، وما لم يتربّ الإنسان فهذه المجالس باقية، وحتّى ظهور الحجّة باقيةٌ أيضًا وسترون.

  • وفي المقابل هناك أناسٌ من ذلك النوع الذي بيّنته لكم سبعة أو ثمانية يأتون ويجتمعون حول بعضهم ويقرأون مجلسًا ولا شأن لهم بغيرهم، من جاء فليأت ومن لم يأت فلا مشكلة هذا فيه إخلاص وإن لم يسمّ نفسه سالكًا وإن لم يسمّ نفسه عارفًا، العمل عمل سلوكٍ، العمل عملٌ فيه تقرّبٌ إلى الله، العمل على أساس رضا الله، فهل الناس مدينون لنا لكي نلقي في أعناقهم حبالاً ونجرّهم إلى مجالسنا فمن شاء فليأت ومن شاء لم يأت.

  • نحن لا يمكننا أن نظهر مقامنا بين الناس إلا بالاقتراض من الأئمة، فنجرّهم إلى الميدان بذرائع مختلفة ودواعٍ مختلفة، ونكرّر إقامة الجلسات والمجالس. ذلك المجلس إنّما تقيمه لنفسك، وذلك البكاء الذي تمثّله سيتحوّل يوم القيامة إلى قطعةٍ من نار ولهيبٍ من نار، وسيّد الشهداء نفسه الذي تقيم له مجلسًا سيكون أوّل خصمٍ لك ويقف أمامك يوم القيامة وينتقم من ظلمك له، فلهذا الإمام الحسين مظلوم، والآن إمام زماننا مظلوم، هذه هي حقيقة الأمر.

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

14
  • جئت إلى المرحوم العلامة فقلت له: الناس كثيرون فاسمح لنا أن نضيف غرفةً أو طابقًا في الأعلى. فقد جاء الرفقاء وطلبوا منّي ذلك فذهبت لأبلّغه به. وحقًا كان يأتي الكثيرون أحيانًا وكانوا يجلسون في الفناء وقد ذهبت يومًا من قم إلى مشهد ووصلت عند الصباح فذهبت إلى مجلس المرحوم العلامة فرأيت أنّ الناس يجلسون في قسمٍ من الزقاق، لم يكن هناك مكان فجلست معهم في الزقاق، وعندما انتهى المجلس ذهبت إلى الطابق العلويّ. قلت: إنّ الرفقاء يقولون: لنبنِ طابقًا في الأعلى يجلس فيه الناس. فقال: هذا يكفي، من أراد فليأت باكرًا، من أراد فليأت باكرًا. تكفي هذه الحسينيّة وهذه الصالة حتّى لم يضف تلك الغرفة المجاورة، كانت هناك حسينيّة والرفقاء الذين كانوا يتشرّفون بالذهاب إلى مشهد حينها رأوها، فقط هذه وبعد وفاة المرحوم العلامة قالوا لنا: لنبنِ طابقًا في الأعلى فقلت: ما دام والدنا لم يبن أفنبني نحن؟! لماذا؟! 

  • عمله هذا عملٌ حتّى المخالفون يعترفون به، فالذين كانوا يخالفونه في مشهد ويتكلّمون عنه في غيابه ويرسلون إليه من تلك الرسائل، عندما كنّا نسألهم بينهم وبين أنفسهم قال أحدهم لآخر ـ وهو ممّن انتقل إلى رحمة الله ـ : إن كان هناك في مشهد رجلٌ مخلص فهو السيّد محمّد حسين. لماذا؟ لأنّ العمل يثبت ذلك. فمن يجعل مجلسه بين الطلوعين الوقت الذي يكون فيه الجميع نيامًا ولا يخرجون إلى مكان أو يستيقظون يتناولون الفطور يجعله بين الطلوعين حتى إذا انتهى المجلس يكون الناس قد استيقظوا فمن يفعل ذلك بهذه الطريقة؟! 

  • فمن أراد أن يقيم مجلس عزاءٍ إما أن يقيمه في الليل حيث يكون الناس قد رجعوا من أعمالهم فيقولون: بما أنّه ليس لدينا عمل فلنحضر مجلسًا من مجالس الإمام الحسين. أو أنّهم يقيمونه بعد الشروق بساعةٍ أو ساعتين لماذا؟ ليشارك "المعمنون" بالعين۱، فالإمام الحسين يحتاج إليهم، الإمام الحسين يحتاج إلينا. الإمام الحسين يحتاج إلى الفهم لا إلى العزاء وضرب الرؤوس والصدور، يحتاج إلى الفهم، الإمام الحسين يحتاج إلى رجل كأبي الفضل العباس الذي كان أمامه جيشٌ من ثلاثين ألفًا بل هو لا شيء لو كان أمامه جيش من ثلاثين مليونًا فكأنه ليس موجودًا، ثلاثون مليون حشرة، ثالثون مليون بعوضة، الإمام الحسين يريد هذا، الإمام الحسين يريد زهيرًا، الإمام الحسين يريد حبيبًا، الإمام الحسين يريد مسلم بن عوسجة.

    1. إذا تكلّم الناطقون باللغة الفارسيّة بعض الكلمات العربيّة بشكل تلقائي قلبوا العين همزة، ثمّ إذا أرادوا أن يتكلّفوا النطق بشكل عربيّ صحيح تلفّظوا حتّى بالعين حتّى في الكلمات التي ليس فيها عين بل فيها همزة، ومنها كلمة مؤمنون، وعادة ما يقوم بذلك المتزمّتون الواقفون على الظاهر. وسماحة السيّد هنا ينقل ذلك عنهم على سبيل الملاطفة وتسلية المخاطبين، وقد آثرنا الحفاظ عليها كمتن مكتوب لمحاضرة بكلّ ما تحتويه من إشارات (م) 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

15
  • فلنجعل حادثة كربلاء أمامنا ونعمل بها، فما هذه الألاعيب؟! فكم كان لدى الإمام الحسين من الناس؟! ثلاثون أربعون؟ فالآخرون كانوا من بني هاشم في النهاية. الإمام الحسين يعني أنّ لديّ ثلاثين من الأصحاب، الآن نحن نقيم مجلسًا ويجب أن يشارك فيه ألفان، ماذا حصل؟! فليُقم المجلس وليأت عشرة أو عشرون لماذا ألفان؟ لماذا؟ هؤلاء العشرة الذين يأتون يأتون بنيّةٍ، يأتون ليستفيدوا من الإمام الحسين ليرتووا من نفسه، أمّا هؤلاء الألفان فإنّهم يأتون فقط لينظروا إلى هذا وذاك، الخطيب يتكلّم، هذا يتكلّم مع الذي إلى جانبه حول الأمور والقصص والقضايا والمسائل.

  • يقول المرحوم العلامة: أنّه شاركت في واحدٍ من هذه المجالس في طهران زمان الشاه في "مسجد چهل ستون= مسجد الأربعين عامودًا" المسجد الجامع في سوق طهران حيث كانت هناك فاتحة عن روح أحد العلماء كان قد انتقل إلى رحمة الله فذهبنا لنشارك في مجلسه...

  • من أحوال الشيخ حسين الحلّي

  • هو نفسه طبع إعلانًا للمجلس الذي أقامه عن روح أستاذه الشيخ حسين الحلّي رحمه الله، وقد كان رجلاً عظيمًا جدًّا، كان من الناس العديمي الهوى، ورغم أنّه كان أعلم من جميع مراجع زمانه لم يسع إلى المرجعيّة، كان أعلم من الجميع وكان يشارك في مجلس إفتاء السيّد الحكيم رحمه الله، في حين أنّه كان أعلم منه. لم تكن لديه نفس لم يكن لديه هوى، كان يقول أريد أن أقوم بخدمة الناس وليس مهمًّا أن أكون أعلم من هذا أو لا أكون. وقد درس المرحوم العلاّمة عنده سبع سنوات، وكان رجلاً غزير العلم نحريرًا في فنّه، واقعًا كان نحريرًا، أحيانًا أطالع بعض تقريرات المرحوم العلامة أو مخطوطاته ـ وأنا الآن أقوم بتحقيق أحد البحوث وإن شاء الله إذا وفّقني الله سأنهيه وأقدّمه لأهل الاختصاص وطبعًا هو كتابٌ عربيّ ومسائله تخصصيّة۱ ـ عندما أطالع هذه المخطوطات أرى أنّه كم كان إنسانًا مشرقًا في ذلك الزمان وفي تلك الأجواء الخاصّة بالنجف، كم كان رجلاً متنوّرًا، كم كان رجلاً من أهل المطالعة، كم كان خبيرًا بالفلسفة الغربيّة، كان مطّلعًا على الأفكار التي تُطرح هناك، ولم يكن ذلك الأمر معروفًا حينها وكان خبيرًا جدًّا له قيمته رحمة الله عليه. 

    1. وهو كتاب الاجتهاد والتقليد وقد طبع بحمد الله باللغتين العربيّة والفارسيّة مع مقدّمة وتعليقات وخاتمة من سماحته، وأصله تقرير العلاّمة الطهراني لبحوث الشيخ حسين الحلّي رضوان الله عليهم أجمعين. (م)

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

16
  • هل كتابة بسم الله بدلاً من باسمه تعالى هتك لحرمة اسم الله؟

  • وقد طبع المرحوم العلامة إعلانًا لمجلس الفاتحة كتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمةٌ لا يسدّها شيء۱، وكان ذلك المجلس سيقام بعد بضعة أيّام وشارك هو بنفسه أيضًا في أحد المجالس التي أقيمت بهذه المناسبة في المسجد الجامع، كان يقول إنّه جلس وكان أمامه أحد العلماء وقد وضع إلى جنبه نرجيلةً ينفخ فيها وفي المقابل كان القارئ يقرأ القرآن ـ التفتوا ألا نكون بذلك قد سخرنا من دين النبيّ؟! ـ ثم نظر إلى العلامة وقال له: أيّها السيّد الطهراني يا سيّد محمّد حسين! لقد طبعت إعلانًا وكتبت في رأسه بسم الله؟! 

  • ـ نعم كتبت.

  • ـ هذا هتكٌ للحرمة.

  • ـ ما هو هتك الحرمة؟!

  • ـ بسم الله.

  • ـ يجب أن نكتب بسم الله.

  • ـ كلاّ، بسم الله هذه هتك للحرمة، ستقع تحت الأيدي والأرجل.

  • ـ كلّ من وقعت أمامه عليه أن يرفعها فهذا ليس هتكًا للحرمة.

  • ـ كلا لا يمكن يجب أن يكتب باسمه تعالى أو تجعل ثلاث نقاط.

  • أليسوا يجعلون الآن ثلاث نقاط ولا يكتبون بسم الله الرحمن الرحيم؟! إنّ هؤلاء الحمقى يجعلون بدل لفظ الله ثلاثة نقاط ويكتبون الرحمن الرحيم إن كان هناك إشكالٌ في اسم الله فالرحمن الرحيم أيضًا فيهما إشكال وليست المشكلة فقط في كلمة الله بسم ا... ! والله لم نسمع حتى الآن أنّ اسم الله هو ثلاث نقاط. لقد قال الله في القرآن إنّ اسمي هو الله ألف لام هاء وقد سميّنا الله نحن ا... بسم ا... فهذا اسمٌ جديد، اسم الله الذي اخترعناه حديثًا، طبعًا كان موجودًا.

  • كلّ هذا خطأٌ يا عزيزي! يجب أن تُكتب كلمة الله! يجب أن تنتشر كلمة الله، يجب أن يكون لها حضورٌ بين الناس وأينما رأى الإنسان هذه الكلمة يأخذها وإن لم يرها وداس عليها فلا إشكال، ما المشكلة في ذلك لا مشكلة أبدًا.

  • قال: هذا هتكٌ للاحترام، متى فعل النبي ذلك؟!

  • قال العلامة: ألم يرسل النبيّ رسالةً إلى كسرى وكتب في أعلاها بسم الله؟ ألم يكتب للآخرين رسالةً؟ لملك مصر، لليمن؟ الرسائل الموجودة الآن من النبي كلّها تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في أعلاها، والعجيب إنّ الختم الذي كان يختم به رسول الله في نهاية الرسالة كانت كلمة الله في بدايته، عجيبٌ جدًا، في الوسط كلمة رسول وفي الأسفل اسمه المبارك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد كان النبي يراعي الأدب والعبوديّة وسلسلة مراتب التربية وعالم الوجود إلى تلك الدرجة، كان يكتب اسمه كعبدٍ في الأسفل وفي الوسط مرتبة الرسالة والتنصيب الإلهيّين وكلمة الله في ذلك الموضع، فهذه أمورٌ علينا أن ندركها هذه أمورٌ تزيد من فهمنا، الإمام الصادق يريد أن يعلّمنا ذلك.

    1. المحاسن، ج ۱، ص ٢٣٣.

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

17
  • فقال له: ألم تكن كلمة بسم الله في تلك الرسائل التي كان يكتبها النبيّ للملوك؟ فقال ذلك الرجل: كلا، لقد كانوا يحترمون ويعظّمون هذه الرسائل، فقال له: أفهل كان تمزيق كسرى الرسالة وجعلها تحت قدميه تعظيمًا؟ هل هذا تعظيم؟ هل معنى التعظيم أن يمزّق الرسالة ويجعلها تحت قدميه وأمر حاكمَ اليمن أن يُرسل هذا الرجلَ الذي يدّعي الرسالة ويقدّمُ اسمه على اسمي وأن يرسله مكبّل اليدين ألم يفعل ذلك؟ أرسل إليه اثنين فجاءا وقالا: أين رسولكم؟ 

  • فقالوا لهم: جالسٌ في المسجد فجاءا إلى المسجد قرب النبيّ إلى مسجد المدينة فقالا: نحن مأموران فلم يستقبلهما النبيّ في ذلك اليوم وقال لهما ائتيا غدًا، فجاءا في اليوم التالي وقالا: نحن مأموران أن نأخذك، فقال النبيّ أتدريان لماذا قلت ائتيا اليوم ولم أستقبلكما بالأمس؟ قالا لا، قال: لأنّ جبرائيل أخبرني ليلة أمس أنّ ملككم كسرى قد قتله ابنه ليلة أمس فأردت أن أخبركم بذلك اليوم. 

  • قالا: يا للعجب سنصبر قليلاً. مضى أسبوعٌ فجاءت رسالةٌ من شيرويه ملك إيران إلى ملك اليمن بأن يعيد هذين الرجلين وينهي المسألة وبعد أسبوعٍ وصل الخبر أنّه في ليلة كذا، الليلة عينها التي ذكر فيها النبيّ هذا الأمر قُتل كسرى على يد ابنه شيرويه، فقال النبيّ حينها رغم أنّ قتله كان ضروريًا لأنّه ظالم، ولكن لأنّ ابنه فعل ذلك فإنّه لن يدوم أكثر من ستة أشهر، فقد ذكر ذلك النبيّ أيضًا حينها وبعد ستة أشهر مات شيرويه أيضًا بمرض.

  • قال المرحوم العلامة لذلك الرجل: هل كان هذا احترامًا؟ فلم ينبس ببنت شفة. لم يستطع أن يتكلّم بعد ذلك، ثم بعد مدّةٍ التفت إليه وقال: لديّ سؤالٌ يا سماحة الشيخ، قال: أيّهما أعلى قيمةً كلامكم أم كلام القرآن وكلام الله؟ فقال كلام الله، ماذا تقول؟ قال: لو كنت الآن على المنبر تتكلّم إلى الناس وكان هناك رجلٌ يمجّ النارجيلة تحت منبرك ألم تكن لتنزعج؟! أليس لكلام الله تلك القيمة حتّى صار هذا القارئ يقرأ {وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}۱ وأنت جالس تمجّ النارجيلة وتبعث بدخانها في أفواه الناس، هكذا كان تعبيره. بمن تسخر؟ عن أيّ دينٍ تتحدّث؟ فقط كتابة بسم الله هي هتكٌ للحرمة وقارئ القرآن يقرأ الآن وأنت تمجّ النارجيلة وتتحدّث مع جليسك أليس هذا إساءةً للأدب؟! فقط كتابة بسم الله هي إساءة للأدب؟!

    1. سورة الأعراف، الآية ٢۰٤

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

18
  • انظروا نحن نشارك في المجالس ولكن ليس لدينا فهم، لو كان لدينا فهم لما تكلّمنا أثناء قراءة القرآن... شاركت في مجلسٍ في طهران حيث توفّي أحد الأقارب قبل ثلاثة أشهر فكان القارئ يقرأ القرآن وأنا جالس فجاء رجلٌ يسألني عن أحوالي قلت: اسمح لي أن ينهي القارئ قراءته ثمّ أجيبك فاستاء. قلت: الحمد للّه شكرًا لك، اسمح لي أن ينهي هذا القارئ قراءته، فهو يقرأ القرآن الآن {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} ويجب على الإنسان أن يسكت ويعي ويسمع لا أنّه لا يختلف الأمر لدينا بين أن يقرأ القارئ الشعر أو القرآن، كلا أنصتوا واصمتوا ماذا تقول هذه الآيات القرآنيّة حينها تستفيد من مجلس الفاتحة ذلك، تستفيد منه أيضًا، لماذا؟ لأنّ النيّة نيّة الفهم لا نيّة المجيء والاستماع والروتين والتفكير والتحرّك دون الاهتمام بما يُقرأ من القرآن، دع المجلس ينقضي سواءٌ قرأ الشعر، دعه ينقضي أو قُرئت رواية ففي النهاية سينقضي بنحوٍ من الأنحاء وينتهي مجلس الفاتحة ونعود إلى المنزل. كلا هذا القرآن يختلف عن القصّة {وإذا قُرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم تُرحمون}، اهدؤوا واسكتوا تفهموا وتزداد معارفكم.

  • والمرحوم العلامة نفسه عندما كان يقيم مجلس عزاء كان يلزمنا أن نقرأ مجلس العزاء من على المنبر وعندما كان يقف جميع الناس من أجل اللطم كان يقف قبلهم ويلطم ثم يقف الآخرون لماذا؟ لأنه يريد أن يكون مجلسه مجلس الإمام الحسين، أن يكون مجلسًا للّه، لا لأجل التظاهر، عندما يكون لأجل التظاهر فإمّا أن لا نلطم أصلاً بل نجلس هكذا أو نلطم بجعل أيدينا زاويةً قدرها ثلاثة سانتيمترات ونقول: هذه تكفي، ولا نُتعب أنفسنا أكثر من ذلك، فاللطم يذهب بالطاقة فما هو هذا؟ إنّه الواقع، وما ذاك؟ إنّه الظاهر، هنا يوجد ارتباط وهناك لا شيء، لا يحصل شيء.

  • من أين تأتي قيمة العمل؟ وهل لأعمال الوسواسيّ من قيمة؟ 

  • فإذن المهم هو أنّه ما الذي يكمن وراء هذا العمل؟ كان الإمام الصادق عليه السلام جالسًا ذات يوم ويبدو أنّ الرواية عن أحمد بن إدريس على ما أذكر، فسأل رجلٌ التفت إلى الإمام الصادق وقال له إنّ فلانًا من أصحابك يهتمّ بوضوئه اهتمامًا بالغًا، مبتلى بالوضوء ومصابٌ بوسواس الطهارة رغم أنّه رجلٌ عاقل، رجل عاقلٌ جدًّا ولا أدري لماذا صار هكذا، فقال الإمام هو عاقلٌ؟! أين عقله؟! فهذه ليست طريقةً للوضوء. انضح كفّين من الماء وانتهى الأمر، ثمّ إذا نضحنا الماء ومسحناه بأيدينا يستحبّ أن ينضح مرّة ثانية وينتهي الأمر. أنا الآن يمكن أن أتوضّأ لكم بهذا الكوب من الماء لولا أن يتبلل المكان، يمكنني أن أتوضّا بكوب واحد. 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

19
  • لقد كنت بنفسي مع المرحوم العلاّمة في صحراء عرفات وكنت أنا أريق الماء وهو يغتسل، فغسل يوم عرفة مستحبّ، ويوم عيد الأضحى مستحبّ، فكان يغتسل قبل الظهر غسل يوم عرفة، كان هناك إبريق من الماء ـ وكان عمري حينها سبعة عشر عامًا وذلك في العهد السابق عهد الشاه حيث لم يكن هناك ما هو متوفّر الآن من الخدمات فقد تغيّرت الأحوال الآن كثيرًا ـ كان هناك إبريق من الماء وكنت أنا أسكب على رأسه وهو يغتسل ويمسح بيده وهو في حال الإحرام، اغتسل فبقي نصف الإبريق دون استعمال. مجتهد، عالم، مرجع تقليد اغتسل هكذا، ثمّ نحن نفرغ فوق رؤوسنا صهريجًا من الماء، ونقول: لا ندري ربّما لم يصل الماء إلى تحت أظافرنا! لا ندري هل وصل الماء تحت الوبر الذي تحت أذننا، هل دخل الماء في طبلات آذاننا، هذا كلّه خطأ يا عزيزي! 

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام: أين عقله؟ أنت تقول عاقل ثمّ يكون مبتلى بالوضوء فأين هو عاقل؟ فيتعجّب ذلك الرجل. ينظر إلى سلوكه، إنّه مبتلى بما نحن مبتلون به، مبتلى بالأحاسيس، مبتلى بالاهتمام بالعمل الظاهر، فيتعجّب من كلام الإمام الصادق حيث قال: أين عقله؟ أنت تقول هو عاقل لا عقل له، لا عقل له، أين عقله؟ 

  • ـ حسنًا فماذا أصنع؟ 

  • ـ اذهب واختبره اذهب واسأله قل له هذا العمل الذي تقوم به لماذا تقوم به؟ من أين يأتيك؟ لماذا تفعله؟ ماذا يحصل عندك حتّى تقوم به؟ اذهب واسأله. فإذا سألته سيقول لك: يأتي الشيطان ويوسوس لي. فاذهب واسأله وإن لم يقل ذلك... فجاءه ولمّا رآه يتوضّأ قال له: لا زلت أنظر إليك منذ مدّة وأنت تريق الماء على نفسك فماذا تصنع؟ لماذا تفعل ذلك؟ فقال: ما إن أفعل ذلك حتّى يأتي الشيطان ويوسوس لي أنّه ربّما يكون هذا الجانب الأعلى جافًّا، فأصبّ الماء إلى هنا، ثمّ يأتي الشيطان من جديد يقول: ربّما كان هذا الموضع جافًّا، وما إن أصبّ الماء حتّى يأتي الشيطان مرّة أخرى ويقول: بما أنّ هذا الموضع صار مبلّللاً فالتفت إلى هذا أيضًا في الأسفل... لقد قال الإمام الصادق الشيطان يأتي ويوسوس. أفهل كان الإمام الصادق يتوضّأ هكذا أيضًا؟! 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

20
  • لقد كنت أرى بعيني أنّ بعض تلامذة المرحوم العلاّمة إذا ذهبوا إلى الحوض ليتوضّؤوا عند الظهر فإنّهم يبقون حتّى الساعة السادسة بعد الظهر، ستّ ساعات! وقد سمّوا أنفسهم سلاكًا أيضًا. فما هذا؟ إنّه كذاك بعينه. فمن يكون في هذه الحالة يأتي الوسواس ويأخذ القدرة على التعقّل منه في سائر الموارد، وهنا المشكلة والشقاء والخطر. لذلك يقولون إنّ الوسواس خطر إلى هذه الدرجة، لأجل هذا يقولون إذا شعرت أنّك مبتلى بالوسواس فحاربه بكلّ قواك، واعمل بخلاف ما يخطر في ذهنك. والعجيب هنا، أنّ الارتباط بالإنسان الوسواسيّ يجعل الإنسان وسواسيًّا. 

  • لقد سافرت مرّة أثناء شبابي ـ وهذا لا يعني أنّي الآن عجوز!! ـ سافرت في عنفوان شبابي حين كان عمري عشرين عامًا أو اثنين وعشرين عامًا برفقة رجل وسواسيّ مدّة، وكان وسواسيًّا بدرجة عجيبة، مضت عدّة أيّام فرأيت أنّي أتحوّل إلى مثل حالته. رأيت أنّي لم أكن كذلك، لم أكن أفعل ذلك، لقد كنت أتوضّأ وضوءًا وأمضي إلى عملي ولم يكن لا وضوئي صحيحًا ولا صلاتي! ـ قال: كيف حالك؟ قال: جيّد جدًّا؛ لا مال لديّ ليسرق، ولا دين لديّ ليأتي الشيطان فيأخذه، وأنا هكذا ـ كنت أتوضّأ وضوءًا وأصلّي صلاة ثمّ أمضي إلى عملي. ثمّ رأيت أنّ الأمر لم يعد كذلك، وكأنّ شيئًا ما قد حلّ بي، وكأنّ أمرًا ما قد حدث. وما إن حصل ذلك شرعت في المواجهة وتذكّرت ما قاله المرحوم العلاّمة من أنّه إذا شعرت أنّ الوسواس يأتيك فقم بخلاف ما يوسوس به ولا إشكال في ذلك أبدًا، حاربه، ما إن تشكّ في أنّك غسلت هذا الموضع أم لا دعه من الأساس، فالله أراد منّا أن نبقى بلا وضوء. ليس من الواجب عليك أن تغسل اليد اليمنى فلتجفّفها هكذا، ليس عليك أن تغسل اليد اليسرى، لقد سامحناك الليلة. علينا فورًا أن نواجهه، ما إن رأيت أنّي أفكّر في حال يدي، تركتها كما هي، وربّما كان بعضها جافًّا أو لم يكن جافًّا لا أدري، ففي النهاية أنا كنت قد غسلتها، حينها وقفت أمامه، فعلت ذلك ليومين فرأيت أنّه انتهى وذهب. 

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

21
  • فهذا الوسواس ماذا يفعل؟ يسيطر على ذهن الإنسان. قال الإمام لا تنظر إلى هذا الوضوء الذي يتوضّؤه ويبقى إلى ستّ ساعات... هو نفسه كان يقول لي هذا المسكين، ستّ ساعات من الساعة الثانية عشرة إلى السادسة بعد الظهر ثمّ وبحالة من الشكّ كنت أرى أنّ الصلاة ستقضى فأذهب وأصلّي! فماذا يدرك هذا من هذه الصلاة؟! أيّ شيء يعي هذا من الصلاة يا عزيزي؟! أيّ حال يحصل لدى الإنسان في هذه الصلاة؟! هو يفكّر أثناء صلاته دائمًا بالوضوء وأنّه هل كان صحيحًا أم لا؟! ويفكّر في صلاته أنّها في أيّة حالة؟! هل كان وضوؤه صحيحًا أم خاطئًا؟ هل كانت صلاته صحيحة؟! وهذا الخطر يحصل للإنسان بحيث يسري لاحقًا شيئًا فشيئًا إلى الموارد الأخرى، ثمّ يشكّ ويصيبه الوسواس في الأستاذ، هذا ما يحصل. 

  • انتقال الوسوسة إلى المسائل المهمّة

  • ذلك الوسواس يتقدّم إلى الأمام ويتقدّم فماذا يصنع؟ لقد جاء هذا الرجل إليّ وقال لي: أريد أن أسألك سؤالاً: فلان المرجع ـ وكان من مراجع النجف ـ أليس هو أعلم من والدك؟ ألا يجب أن نقلّده؟ 

  • قلت: ما شاء الله ما شاء الله! الفاتحة مع الصلوات! ـ هذه لا تحتاج إلى صلوات! فلنضحك قليلاً اليوم فهذا جيّد! كان أحدهم يقول: كنت على المنبر هو نفسه قال لي ذلك، أردت أن أقول للنّاس أيّها الناس على الإنسان أن يفكّر في كلّ ما يسمعه، ولا يعمل هكذا بكلّ ما يسمعه. فكانوا يقولون له: كلاّ نحن هكذا. كان يقول: كلاّ هذا ليس صحيحًا، وبدأ بالحديث قال: وما إن تحدّثت وقلت: إنّ محمّد بن الأشعث... قال الجميع اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد. فقلت لهم: لذلك على الإنسان أن يفكّر قليلاً محمّد هذا أيّ محمّد هو؟ هل هو محمّد بن عبد الله أم من جاء لقتال الإمام الحسين؟ أيّهما؟ ـ قلت: عجيب عجيب! انتهى الأمر فهل نقلّد هذا أم ذاك؟ ثمّ ذهب هذا المسكين ثمّ انتهى إلى حال... كيف تصبح الأمور؟! إلى أين تصل؟! وإلى أين ينتهي الإنسان بالطريق؟!

هل تجتمع التقوى مع المظاهر والانقياد للأجواء الاجتماعيّة؟

22
  • الساعة الآن الحادية عشرة والنصف، وأنا متعب أيضًا، ولم أنم ليلة أمس حتّى الصباح وكان رأسي يؤلمني. وكنت أحتمل أن لا أوفّق لأن أكون في خدمة الرفقاء، فقلت أتوكّل على الله والحمد للّه نمت في الصباح ساعة حتّى جاء الطبيب وطرق الباب فجئت إلى الرفقاء، وتحسّنت أحوالي وأنا الآن في خدمتكم وزالت تلك الآثار والعوارض كليًّا والحمد للّه. وواقعًا أنا أعدّ هذا من النعم الإلهيّة عليّ فبواسطة هذه النوايا الصافية التي أشاهدها تغيّرت أحوالي، فهذه النوايا الصافية هنا تؤثّر جميعها في حال الإنسان ووضعه، والله تعالى بنفسه هو من يجب أن يأخذ بأيدينا، فالطريق دقيق جدًّا ولكنّه في الوقت نفسه متقن. ومن أراد أن يوكل نفسه إلى الله سيكون الأمر بالنسبة إليه أسهل بكثير، أسهل من شربة الماء، ومن أراد أن يمضي هو بنفسه ويعتمد على نفسه فليس هناك أصعب من ذلك. لأنّ الشيطان سيأتي عند كلّ أمر، ويوسوس للإنسان في كلّ أمر. 

  • أسأل الله أن يوفّقنا للالتفات إلى هذا الأمر. وإن شاء الله تتمّة الكلام إلى الجلسة القادمة. 

  • كنت أودّ أن أذكّر الرفقاء بأمر كان قد طرح سابقًا ولكن يبدو أنّ أهميّته لم تبيّن كما ينبغي. إنّ هذه المجالس هي مجالس ـ بصورة عامّة وليس هذا المجلس فقط ـ يذكر فيها الله والصالحون وهي مصداق لـ عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة۱ وتحصل النورانيّة، ويشعر الإنسان بشعور آخر في نفسه وأحواله. والحركة والكلام بعد المجلس يضعف هذا الحال في الإنسان، فرجائي من الرفقاء أنّه إن كان لديهم أمر فلا يأتوا بعد المجلس ليتحدّثوا معي، لأنّ حالي بعد المحاضرة التي ألقيها لا يحتمل أن أجيب على الأسئلة، وإذا جاء الرفقاء وتحدّثوا فإنّ ذلك يترك تأثيرًا سيئًا عليّ، فلا يتحدّثوا، وليبقوا جالسين هكذا في أماكنهم، إن كان لأحد أمر ضروريّ فليكتبه على ورقة وليعطها إلى الرفقاء والأفراد المتكفّلين بإيصالها، وإن شاء الله تقضى الحاجة. وفّقكم الله إن شاء الله. 

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

    1. . مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، ج ٥، ص ٢۷٥.