المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةالدفاع عن الفلسفة والعرفان
التوضيح
هو العليم
حقيقة التوحيد عند الفلاسفة والعرفاء
الدفاع عن الفلسفة والعرفان – الجلسة الأولي
محاضرة ألقاها
آية اللـه الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس اللـه سره
أعوذ بالله الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على خير خلقه وأشرف بريّته
محمد الحميد المحمود وعلى آله أمناء المعبود
هذه المسألة مِن أهم المسائل العرفانيّة والفلسفيّة، وأنا اعتقد أنّ ليس هناك مسألةٌ أهمّ مِنها. والعلماء في تفسير وبيان هذه المسألة على مناهج مختلفة.
فالفلاسفة يعبّرون عن هذه المسألة بوحدة الوجود. ومسألة (وحدة الوجود) هي مسألة أساسيّة في الحكمة الإسلاميّة، خصوصًا في الحكمة المتأخّرة، أي حكمة صدر المتألّهين، وإن كانت هذه المسألة موجودةً قَبل صدر المتألّهين. والحكماء الإسلاميّون والعرفاء يعبّرون عن هذه المسألة بوحدة الأفعال والصفات والأسماء ...؛ فهذه المسألة، إذا لاحظناها مِن ناحية فلسفيّة، نعبّر عنها بوحدة الوجود. وهنا قواعد تدلّ جميعها على ذلك المعنى، (عباراتنا شتى وحُسنك واحد، وكلٌ إلى ذلك الجمال يشير)۱؛ فتارة يعبّرون عنها بوحدة الوجود، وتارة يعبّرون بمسألة (بسيط الحقيقة كلّ الأشياء)، وتارة يعبّرون عنها بمسألة (تشكيك الوجود)، بحسب ما أفاده والدنا رحمه الله بأنّ العبارات مختلفة في ذلك، ولكن في لسان العرفان والعرفاء، يُعبَّر عن هذه المسألة بالتوحيد الأفعاليّ والتوحيد الصفاتيّ والتوحيد في الأسماء.
(وحدة الوجود) على ألسنة الفلاسفة والحكماء الإلهيّين
لتبيين هذه المسألة ملخّصًا، [بناء على ما ورد على] الألسنة المتعارفة وفي مؤلّفات أهل الحكمة والفلسفة، [نقول:] إنّ مسألة وحدة الوجود تقول أنّ كلّ موجودات العالَم، سواء في عالَم المادّة، مِن جماد ونبات وحيوان وأجرام سماويّة وأرضيّة، أو في عوالم الغيب السبعة – الّتي ذكرتها لكم في الأيّام الماضية، المِثال وما فوقها كعالَم اللاهوت – مِن مجرّدات كالملائكة والعقول؛ فإنّ كلّ هذه الموجودات المجرّدة وغير المجرّد كالمادّيات، هي نوعٌ واحد وحقيقةٌ واحدة مِنَ الوجود.
فرغم أنّنا نرى أشكالًا مختلفة، إلّا أنّ حقيقتها واحدة؛ ومثال ذلك مِن باب التقريب، هو أنّكم ترون [ضوء] الشمس [يتلوّن] بألوان الزجاجات المختلفة [عندما ينعكس عليها]، كما لو كان هناك زجاجٌ ملوّنٌ بالأحمر وآخر بالأصفر وآخر بالأبيض وآخر بالأسود وغير ذلك، إلّا أنّ الشمسَ واحدةٌ والضوءَ واحدٌ، فهذه الشمس عندما تنعكس على هذه الزجاجات، سترون ألوانًا مختلفة باختلاف [ألوان] الزجاجات، ولكن حقيقة الضوء حقيقةٌ واحدة ...
فالفلسفة الإسلاميّة تُثبت أنّ كلّ الموجودات في العالَم – الّتي نرى منها آثارًا مختلفة وأفعالًا مختلفة، إذ فعل هذا الجسم غير فعل ذاك الجسم – مِن حيوانات على اختلافها ونباتات على اختلافها وجمادات، فجميعها يختلف بعضها عن بعض، وما ترونه في الفاكهة مثلًا، فبعضها مُرّ وبعضها حلو وبعضها حامض وغير ذلك، وكذلك جميع الأجسام والمواد، والمواد الأوليّة والعناصر، والمواد الثانويّة الّتي تتركّب منها الأشياء وتتكوّن منها، كالمياه وغيرها؛ فإنّ حقيقة الجميع واحدة.
سأبيّن لكم هذه المسألة بمثال آخر، مِن باب المثال فإنّ مادّة هذا الفرش هو الوَبَر طبعًا، وإنّ مادّة الإنسان والغنم والماعز هي اللحم، ولكن إذا أحرقتم – على سبيل المثال – هذا الفرش فلن يصير إلّا ترابًا طبعًا، وإذا أحرقتم الماعز والغنم فلن يصيرا إلّا ترابًا كذلك، والتراب هو نفسه هذا التراب، يعني أنّ حقيقته وخصوصيّته الحيوانيّة قد تبدّلت إلى [مادّة] ترابيّة، فهذا الغنم قد تبدّل إلى [مادّة] ترابيّة، بحيث إذا خلطنا ترابه مع هذا التراب لن نميّز بين الترابين، فليس هناك فرقٌ بين هذا وذاك إلّا في الخصوصيّات الّتي تعلّقت بالشيء في مرحلته الثانية، إذ هو في المرحلة الأولى كان ترابًا، ثمّ تصرّف الله تعالى في هذا التراب فصار [في مرحلته الثانية] فراشًا وصار غنمًا وصار حلاوةً وصار حموضةً، وصار فاكهة وشجرًا، وصار صابونًا مثلًا، فكلّ هذه الأشياء الّتي بين أيدينا وإلى جانبنا، كلّها ذات حقيقة واحدة. هل اتضح الأمر؟ هذا بالنسبة إلى عالَم المادّة.
ويذكرون في الفلسفة أنّ عالَم الجواهر والأعراض، جميعها مع عالَم المجرّدات وعالَم المادّة، ذوو حقيقة واحدة، كيف ذلك؟ إنّ الخصوصيّة الّتي بها نسمّي هذه المادّة، هي كتلته الخاصّة وثقله ووزنه وخفّته ومثقاله ولونه الخاصّ، فأسألكم؛ كيف خُلقت هذه المادّة بهذا الشكل، فهل هناك عالَم آخر مدّ اللهُ تعالى يده إليه – والعياذ بالله – وأخذ منه قبضةَ ترابٍ فخلق منها الإنسان مثلًا، ثمّ مدّ يده مرة أخرى وأخذ منه قبضةَ ترابٍ وخلق مِنها الحيوان، وكذلك مع باقي الموجودات؟! [فإن كان الأمر كذلك] فأين هو ذاك العالَم! [هذا] يعني أنّ ليس مِن الله تعالى وجود غير الله تعالى، فالوجود مختصّ بالله تعالى. فأين هو ذاك العالَم الّذي أخذ الله تعالى منه [تلك الأتربة]؟! وهل خلَقه غير الله تعالى؟! هذا مستحيل. على هذا، ليس الأمر أنّ هناك عالَمًا موجودًا قَبْل الله تعالى، فأخذ الله تعالى منه [أتربةً] ليخلق منها المجرّدات والمادّيات كلٌّ بحسبه، [كلّا]، بل إنّ الله تعالى يَخلق مِن إرادته ومشيئته. مثال ذلك؛ لا بدّ أنّكم تعلمون أنّ مِن معاجز الإمام علِيّ بن موسى الرضا عليه السلام – وكذلك موسى بن جعفر – أنّه أمر صورة الأسد الّتي على الستار قائلًا: يا أسد الله خذ عدوّ الله. وإذ بهذه الصورة – أعني فقط الصورة الّتي على الستار – تتبدّل إلى جسم حيوان، هو أسد له وزنٌ بمقدار ثلاثمئة أو أربعمئة كيلو مثلًا، وشَعرٌ وذنَب ومخالب وأسنان، يعني أنّه كان [أسدًا] كالأسد الّذي نراه في حديقة الحيوانات مثلًا، بدون أي فرق أبدًا أبدًا أبدًا، فقام الأسد بافتراس الشخص [الّذي أمره الإمام أن يفترسه].۱ فالسؤال هو، مِن أين وكيف وبأيّ نحو، بدلّ الإمام عليه السلام هذه الصورة إلى حيوان واقعيّ أمام الناس والأفراد، فهل قبض مِن ناحية ما ترابًا ونفخ فيه فتبدّل إلى أسد؟ لا، لم يقبض الإمام مِن أيّ ناحية [شيئًا].
هل فكرتم كيف تصرّف الإمام عليه السلام بهذا الستار وبهذه الصورة– وهي واقعًا صورةٌ لا [شيءٌ آخر] – فبدّلها إلى حيوان واقعيّ؟ هذا ليس شعوذةً ولا سحرًا، فهذه واقعةٌ وحكاية واقعيّة، فلو كان هناك كاميرا مثلًا لسجّلت هذه الحادثة وشاهدناها [الآن، ورأينا أنّها واقعيّة]، ولكن لم يكن هناك وجودٌ للكاميرا [وقتها]. فكيف فعل الإمام عليه السلام ذلك؟ فإنّ نفس إرادة الوليّ، ونفس إرادة الإمام عليه السلام تُوجِد [الأشياء]، يعني أنّ الإمام عليه السلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}۱، [فالمسألة مسألةُ] أمرٍ فقط وإرادةٍ فقط، ولا شيء غير ذلك. فإن تعلّقت إرادة الله تعالى بهذا الشيء، وتعلّقت إرادة الله تعالى بخلق هذا الشيء، فسيُخلق، ولا حاجة إلى شيء آخر، وكذلك إرادة الوليّ، أي إرادة الإمام عليه السلام. والمقصود مِن الوليّ هو مَن وصل إلى مرتبة الفناء، فهو الّذي يجوز له هذا التصرّف، أي يمكنه [أن يقوم] بهذا التصرّف، أمّا غيره فلا يمكنهم ذلك.فنفس إرادة الإمام عليه السلام والنبيّ، هو عبارة عن تحقّق هذا الأمر في الخارج؛ فنفس إرادة الرسول بانشقاق القمر موجبٌ لانشقاق القمر، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}٢، يعني أنّ نفس إرادة الرسول موجبة لذلك، ولا [حاجة] لشيء أزيد مِن ذلك.
تحقُّق الشيء يتوقّف على مرحلتين طوليّة وعرضيّة
كيف فعل الإمام عليه السلام ذلك في عالَم الإمكان؟ إنّ إرادة الإمام عليه السلام هي إرادة الله تعالى، فإذا أراد الله تعالى أن يخلق شيئًا، فلِخِلقة الشيء الماديّ مراتبٌ؛ نحن نرى الأمور الماديّة، ولا نرى ولا نعلم أيَّ مراتبٍ قد طواها هذا الشيء الماديّ، حتّى صار بهذا الشكل، نحن لا نرى ذلك؛ فما ترونه هو ولادة طفلٍ مِن أمّه، ولكن هذا الطفل قَبْل ولادته لم يكن بهذا الشكل، بل كان له شكل خاصّ في رحم أمّه، فمرّ بهذه الصور؛ أوّله نطفة ثمّ علقة وغير ذلك [مِن صور] حتّى صار طفلًا، ثمّ وُلد بعد تسعة أشهر، يعني لا بدّ مِن طيّ هذه المراحل مِن أوّل الأمر إلى نهايته حتّى يولد.٣ هذا ما نسمّيه بالسير العرضيّ، فالسير العرضيّ، هو السير الّذي [تحصل معه] هذه التبدّلات والتغيّرات حتّى يصير هذا الشيء [كما نراه]. ماذا كان أوّل أمر هذه الفاكهة الّتي ترونها؟ كان أوّل أمرها ماءً وترابًا، فدخل الماء والتراب في الشجر وأَوجدا أوراقًا، ومِنَ الأوراق زهرة، وفي الزهرة فاكهةٌ صغيرة تأخذ بالنمو شيئًا فشيئًا حتّى تصير إجاصًا أو برتقالًا مثلًا، هذا ما نعبّر عنه بالسير العرضيّ.
ثمّ هاهنا سير نقول عنه (السير الطوليّ)، والسير الطوليّ مخالف للسير العرضيّ؛ بمعنى أنّه إن كان لا بدّ مِن وقوع حادث ما في هذا العالَم، حتّى لو كان هو وُجود هذه الفاكهة المادّية، لا بدّ له مِن سير عرضيّ، كالماء والتراب والشمس وغيرها مِن مُعدّات وشرائط [بالنسبة إلى الفاكهة مثلًا]، [ولا بدّ له مِن سير طوليّ، وهو] أنّ هذا معلولٌ لعالَم المِثال، ما هو عالَم المِثال؟ إنّ حقيقة عالَم المِثال مربوطة بعاَلم [الدنيا]، وهذه الحقيقة لا تتبدّل ولا [تتغيّر] أبدًا، بحيث أنّه لو رأى واطّلع الوليُّ على عالَم المِثال في السنة الماضية [مثلًا] سيقول: إنّ هذه الحديقة ستثمر هذه الثمار. كيف يمكنه ذلك؟ ذلك لأنّه يرى، فحقيقة هذه الثمار في السنة الماضية موجودةٌ. قد ذكرتُ لكم – إن كنتم تتذكّرون – وأشرت في الأيّام الماضية إلى هذه المسألة. فنفس هذه الثمار موجودةٌ في السنة الماضية [في عالَم المِثال]، وستوجد بعد سنة أو بعد ستّة أشهر [في عالَم الدنيا]، فالثمار الّتي تنضج الآن في هذه الحديقة، موجودة في عالَم المِثال، والوليّ يرى الآن عالَم المِثال ويُخبر منه، وما سيتحقّق هو مطابق لإخباره دون أيّ فرق، ولو بمقدار مثقال ذرّة، فلا فرق أبدًا بين هذا الخبر وما [سيتحقّق في عالَم الدنيا].
كان أمير المؤمنين عليه السلام جالسًا في مسجد الكوفة، وإذا برجل مِنَ الأصحاب جاء إليه وقبّل يده وكرّمه عليه السلام، فالتفت إليه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: إنّي أراك تخرج مِن هذا الباب ومعك راية عبيد الله بن زياد، وتذهب وتقتل ابني الحسين بن علِيّ. هو مَن قال هذا. فقال ذلك الرجل: يا علِيّ، أأنا أذهب وأقتل ابنك الحسين؟! قال عليه السلام: نعم، إنّك لتخرج مِن هذا الباب، ومعك راية جيش عبيد الله بن زياد .. ثمّ استشهد أمير المؤمنين عليه السلام، وجاء بعده الإمام الحسن المجتبى ثمّ ذهب [واستشهد]، وتحوّلت الأوضاع إلى أن أرسل عبيد الله جيشًا لقتال الإمام الحسين بن علِيّ، واعطى راية الجيش لذلك الشخص، على ما في خاطري أنّ اسمه عبد الرحمن، أمّا لقبه فلا اذكره. فلمّا أراد أن يخرج مِن ذاك الباب [حاملًا راية ابن زياد]، خاطبه صديقه قائلًا: أتذكر أنّ أمير المؤمنين علِيّ بن أبي طالب قال لك قبل ثلاثين عامًا – مثلًا – إنّك ستخرج مِن هذا الباب ومعك راية جيش يزيد وجيش عُبيد الله، وتقتل ابن فاطمة. [وكأنّه استذكر قائلًا:] آآه، الآن [تذكّرت]. ثمّ ذهب وقاتل.
فما الّذي رآه أمير المؤمنين عليه السلام؟ إنّ نفس هذه الحادثة، نفس هذه الحادثة الّتي ستقع بعد ثلاثين عامًا، نفسها موجودة الآن، ولكنّنا لا نستطيع أن نراها، لماذا؟ لأنّ أعيننا ماديّة، والمادّة لا بدّ لها – حتّى ترى – مِن مرور الزمان، فأنتم لا تقدرون [الآن] على [رؤية] الأشياء الّتي ستكون بعد خمسة دقائق أو أربعة أو ثلاثة دقائق أو دقيقة واحدة، أو حتّى بعد خمسة ثوانٍ، إذ لا بدّ مِن مرور ذلك الزمن حتّى تراها أعيننا. أمّا بالنسبة إلى الّذي يرى بعينه الباطنيّة وعينه المثاليّة، فهو يرى الآن ما سيقع في هذا البيت بعد نصف ساعة، وما سيقع غدًا في هذا البلد، وما سيقع بعد أسبوع، فكلّ الأحداث إلى يوم القيامة موجودة الآن في عالَم المِثال. فلو لم تكن موجودة، فعمّا يُخبر الوليّ إذن؟! إذا أخبر الوليّ عن حادثة، فهل كان قد شاهد صورة الحادثة؟ [لا]، لأنّ صورة الحادثة لم تكن موجودة. أو أنّه شاهد وقوع الحادثة؟ [لا]، لأنّ الحادثة لم تقع في الخارج حتّى الآن، بل ستقع بعد سنة. فمِن أين أخبر الوليّ بذلك؟ إنّ حقيقة هذا الحادث وعلّته – إذ الحادث معلول – موجودةٌ الآن، فإذا اتّصل هذا الشخص [أي الوليّ] بهذه المرحلة وهي العلّة، سيرى حينئذ [الحادث]، وإن كان الناس لا يرون. هذا هو عالَم المِثال.
وعالَم المِثال نفسه معلولٌ لعالَم فوقه وهو ملكوت الأولياء؛ وحقيقة هذه الصورة الموجود في هذا العالَم [موجودةٌ في عالَم الملكوت]، ولكن بدون الصورة، إذ ليس في عالَم الملكوت صورة، بل الموجود هناك هو المعنى، ولكن ليس هو المعنى التامّ، بل المعنى [الّذي] هو شبه الصورة؛ مِن باب المثال، عندما تُظهرون مثلًا لأولادكم الرحمة والعطف، فهل يمكنكم أن ترسموا هذا العطف وهذه الرحمة؟ لا، إذ ليس للعاطفة صورة ما، فلن تقدروا أن ترسموا لها صورةً، وكذلك الرحمة ليس لها صورة، [بل هما] معانٍ، نعم، فليس لهما صورة طبعًا. فعالَم الملكوت هو العالَم الّذي ليس فيه صورة ولكنّه شبيه بالصورة. وعالَم الملكوت هو أيضًا معلول للعالَم الّذي فوقه، وهو الجبروت الّذي هو علّته، وعالَم الجبروت معلول للعالَم الّذي فوقه، وهو عالَم اللاهوت الّذي هو علّته، وهو بالنسبة إلى عالَم الذات معلول، وعالَمُ الذات علّته. ونحن نسمّي هذه المراحل بالسلسلة الطوليّة.
فلا بدّ مِن مرحلتين لتحقّق هذه الحادثة في عالَم [الدنيا]؛ المرحلة الأولى المقدَّمَة هي السلسلة الطوليّة. والمرحلة الثانية هي السلسلة العرضيّة. مِن باب المثال، إذا أراد أن يَخرج زيد مِن بطن أمّه، فلا بدّ أن يطوي السلسلتين؛ السلسلة الطوليّة، وهي إرادة الله تعالى لعالَم [اللاهوت]، الّذي هو علّة للعالَم [الّذي تحته] حتّى يصل إلى عالَم المِثال، ومِن عالَم المثال – الّذي هو علّة لعالَم الدنيا – إلى عالَم المادّة. هذه هي السلسلة الطوليّة. أمّا بالنسبة للسلسلة العرضيّة، فلا بدّ أن يكون نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، إلى أن يولد .. فلا بدّ لكلّ حادثة في العالَم الماديّ مِن هاتين السلسلتين الطوليّة والعرضيّة.
فعلى هذا، إذا لاحظنا كلَّ ما في عالَم المادّة، فهو ينتهي إلى علّته، وعلّته هي سلسلة عالَم المِثال وما بعده، الّذي ينتهي إلى الله تعالى. فهل الله تعالى مجرّد أم ماديّ؟ إنّه مجرّد، فليس هاهنا مادّةٌ ولا شكلٌ ولا لون ولا طعم وغير ذلك، أبدًا أبدًا، إنّ الله تعالى مجرّد. فعلى هذا، إنّ كلَّ ما في عالَم الوجود مندّك في ذات الله تعالى، واللهُ تعالى أصلُه. هذه هي مسألة وحدة الوجود على ألسنة الحكماء والفلاسفة.
(التوحيد الأسمائيّ والصفاتيّ والأفعاليّ) في ألسنة العرفاء
أمّا المسألة بلحاظ ألسنة العرفاء، فيُعبَّر عنها بوحدة الأفعال ووحدة الصفات ووحدة الأسماء. [ولبيانها نقول:] مثلًا إنّ لنا أعضاءً مختلفة، كاليد والرِّجل واللسان والعين والأذن وغيرها، ولكلِّ عضوٍ منها فعلٌ خاصّ وعملٌ خاصّ؛ فاليد والرِّجل يتحرّكان، واللسان يتحرّك ويتكلّم، والأذن تسمع، والعين تُبصر، والقلب ينبض، وهكذا باقي الأعضاء المختلفة، فلكلّ عضو تكليف خاصّ وفعل خاصّ. وكلّ هذه الأفعال – طبعًا – ناشئةٌ مِن فِكر الإنسان وإرادته، فلا بدّ لحركة اليد مِن إرادة، إذ لو لم أُرِد فستكون اليد ساكنةً، فهذه اليد الساكنة إن أردتُ رفعها ووضعها وتحريكها يمينًا وشمالًا، فإنّ كلّ ذلك سيحصل بإرادتي. نعم، وبإرادتي أغمض هذه العين وأفتحها حتّى تُبصر أو لا تُبصر، والأذن بإرادتي تسمع أو لا تسمع، واللسان [محكوم أيضًا] لإرادتي، وكلّ هذه الأفعال إنّما تحصل بإرادتي، إلّا الأمعاء والأحشاء، فإنّ عملهما ليس بإرادتي.
على هذا، فإنّ الإرادة هي أُسّ وأساس الأفعال، بحيث أنّ الإرادة هي العلّة الوحيدة لوجود أفعال الإنسان في الخارج، أي لوجود حركة اليد والرِّجل والسمع. على هذا، فإنّ كلّ هذه الأفعال مندكّةٌ في إرادة الإنسان، في الإرادة. وهذا ما نسمّيه بالتوحيد الأفعاليّ؛ فالتوحيد الأفعاليّ يعني أنّ لكلِّ أفعال الإنسان – مِن باب المثال – منشأً واحدًا، وهذا المنشأ هو النَّفْس، وهذا المنشأ هي الإرادة، وهذه العلّة هي المشيئة، أي مشيئة الإنسان. فمشيئة الإنسان هي الموجب الوحيد لفعل وعمل الأعضاء والجوارح، وهذه المشيئة مشيئةٌ واحدة. على هذا، فإنّ كلّ الأعمال والأفعال تنتهي إلى فعل واحد، وهذا الفعل هو الإرادة، أي إرادة الإنسان. هذا ما نسمّيه بالتوحيد الأفعاليّ. هذا بالنسبة إلى الإنسان.
أمّا بلحاظ جميع الموجودات، فإنّ التوحيد الأفعاليّ يُثبت أنّ كلّ الأفعال في العالَم، كلّ هذه الأفعال والأعمال الّتي نراها، سواء مِنَ الحيوان أو الإنسان أو الجماد أو الملائكة – كنزول جبرائيل وهبوطه، وإياب الملائكة وذهابهم، وأفعال عزرائيل وملائكة قبض الأرواح – جميع هذه الأفعال مِنَ المادّيات والمجرّدات، هي فعلٌ واحد. وماذا يعني الفعل الواحد؟ يعني أنّ المريدَ لهذه الأفعال هو مريد واحد، والإرادة هي فقط إرادة الله تعالى، هذا هو التوحيد الأفعاليّ.
هذا بالنسبة إلى الأفعال، أمّا بالنسبة إلى الصفات؛ فإنّ أفعالنا جميعها منبعثة مِنَ الصفات؛ مثلًا، إذا كان الشخص يدرِّس، فإن هذا التدريس والتعليم ينشأ عن العِلم، أي ينشأ عن علمه، وإذا ضحك المرءُ، فضحكه هذا ناشئ عن الرحمة والعطف، وإذا ضَرَب، فهذا الفعل ناشئ عن القسوة والغضب والقوى الغضبيّة، وكذا الحال في جميع الأمور؛ فإذا فكّر المرءُ في معلوليّة شيءٍ، فذلك منبعث عن قوّة التفكير في الإنسان؛ فهذه الصفات، أي صفات الإنسان مثلًا، كالتفكّر والغضب والشهوة والرحمة والعطف والقسوة والتعقّل، هي صفات موجودة في الإنسان، وهي منشأُ وجود الأفعال. [إنّ وراء كلّ فعل صفات خاصّة، فالأفعال تختلف] طبعًا باختلاف الصفات؛ مثلًا، إن كنتم تفكّرون في مسألة رياضيّة، فهل تحلّون عقدتها بالفكر أم بالرحمة والعطف؟ طبعًا بالفكر. وإن كنتم تتودّدون إلى أولادكم وتحنوّا إليهم، فهل فعلكم هذا [ناشئٌ] مِنَ العقل أو مِنَ الفكر أو مِنَ الغضب؟ [هو ناشئ] مِنَ الرحمة والعطف طبعًا. وإن واجهتم عدوّكم بالضرب والشتم وغير ذلك، فهل ذلك [ناشئ] مِنَ الرحمة والعطف أو مَن الغضب والقوى الغضبيّة؟ على هذا، فإنّ الأفعال الّتي تصدر عنّا في الأحوال والمجالات والموارد والمواقع المختلفة، كلُّ واحد منها منبعث عن صفة خاصّة في النفس، فهذه الصفة الخاصّة [هي لهذه الأفعال الخاصّة] فلا تظهر في موضع آخر، بل لكلّ فعل صفة خاصّة وراءه؛ فإن كنّا مثلًا نُطالع الكتب ونحلّ العُقد، فنحن نستخدم صفة التفكّر والتعقّل في هذا الأمر. وإن كنّا نواجه شخصًا بالرحمة والعطف، فنحن نستخدم صفة نفسانيّة نسمّيها (الحمة والعطف)، وكذلك في غيرها مِن أمور ومواضع. جيّد! وهذه الصفات على اختلافها منبعثةٌ مِنَ النفس الإنسانيّة ومعلولةٌ لها.
ما هي النفس الإنسانيّة؟ إنّ النفس هي علّة تلك الصفات، كالغضب. ما هو الغضب؟ الغضب صفة للنفس، يعني أنّ نَفْس الإنسان علّة لهذه الصفة، وكذلك فإنّ نفس الإنسان وذاته علّةٌ للتفكير، وذات الإنسان علّة للشهوة. فلو كان الإنسان ميتًا، فلن تكون له شهوةٌ ولا غضبٌ أبدًا، ولا عقلٌ ولا رحمة ولا عطف، فلا بدَّ أن يكون الإنسان حيًّا حتّى تبرز هذه الصفات وتتواجد فيه هذه الصفات المختلفة. على هذا، فكلّ هذه الصفات معلولة لذات واحدة، وهذه الذات الواحدة هي ذات زيدٍ مثلًا، وذات عمرو، وذات خالد، وغير ذلك. فعلى هذا، إنّ لجميع هذه الصفات منشأً واحدًا وعلّةً واحدةً، نسمّيها التوحيد الصفاتيّ. هذا بالنسبة للإنسان، وهذه [القاعدة نفسها] نعمِّمها على جميع الموجودات. [ثمّ إنّ] للصفات في عالَم الموجودات، مِن صفات الإنسان وصفات الحيوان وصفات الملائكة، لجميع هذه الصفات، منشأً واحدًا وهو الله تعالى. فعلى هذا، إنّ كلّ ما في عالَم الوجود مِن صفات، أصلُه واحدٌ ومنشؤُه واحدٌ، نسمّيه التوحيد الصفاتيّ، دون أيّ فرق أبدًا.
وأما بالنسبة [للتوحيد] الأسمائيّ؛ فالأسماء هي الذات، أي الذوات المختلفة، فأنا لي ذات واحدة، ولك أنت ذاتٌ واحدةٌ، ولكلّ منكم ذات واحدة. وهذه الذوات مختلفةٌ، فلذا ترى فلانا يطلب منّي ولا يطلب مِن صديقي، وترى فلانا يرجع إليكم ويطلب منكم لا مِن صديقكم، [ولهذا السبب أيضًا] تعاتبون فلانا وتطلبون منه الرجوع إليكم وتقولون له بأنّه لا فرق بينكم وبين صديقكم، ذلك [كلّه] لأنّ الذوات مختلفة. وتسمية فلان بزيد وتسميتي بعمرو وتسمية آخر بخالد، وكونه مِن أبوين وأنا مِن أبوين آخرين، [كلّ] ذلك لأنّ الذوات جميعها مختلفة. فأنتم لن تروا في عالَم الوجود ذاتين [عين بعضهما البعض، أي] هذا عين ذاك ومِثله، [نعم] يمكن أن يكون شبيهًا له، ولكن ليس عينه أبدًا، فهذا ممتنعٌ ومستحيل. حتّى أنّ [الصوت المسجَّل] في آلة التسجيل هذه، هو شبيه [الصوت الأصليّ] وليس عينه، فأنتم ترفعون هذا المسجّل [الصوتيّ، وتضعونه] وهو ساكن [ليس بمتحرّك، فهناك فرق بينه وبيني]، وكذلك هذا الكوب [فإنّه يختلف] عن ذاك الكوب، وغير ذلك. فكلّ ما في عالَم الوجود يمكن أن يكون له شبيه، وأن يكونوا أشباه بعضهم البعض، ولكن لا يمكن أن يكون هذا الوجود عين ذاك الوجود وعين هذا الموجود الآخر، لأنّ الذوات مختلفة. فالأخوَان ذواتهما مختلفتان، فهذا الأخ ذاته مختلفة عن هذا الأخ، وكذلك الأخ مع أمّه، والابن مع أبيه، والزوج مع زوجته، كلّهم ذواتهم مختلفة. صحيح.
والذات نسمّيها ونقول عنها (اسمًا)؛ والاسم هو المشخصِّ لاختلاف الذوات، فنقول اسم هذا الشخص (زيدٌ)، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه يوجد في العالَم الخارجيّ شخصٌ بهذه الخصوصيّة اسمه زيد. ونسمّي هذا الشخص عمرو، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه يوجد شخص في الخارج له ذات نسمّيها عمرو. ونسمّي هذا الشخص خالدًا، فماذا يعني خالد؟ يعني أنّه يوجد في الخارج شخصٌ اسمه كذا وذاته كذا. فهذه الذوات (أي زيد وعمرو وبكر وخالد) مختلفة [بعضها عن بعض]، جميعها مختلفة.
نعم، وقد قلنا أنّ حقيقة هذه الأسماء وواقعيّة هذه الأسماء والذوات، جميعها مرتبطٌ بالله تعالى، يعني أنّ الله خلَقهم بإرادته، يعني أنّ الله خلَق زيد بإرادة، وخلَق عمرو بإرادة، وخلّق بكر وخالد وغير ذلك بإرادة، بإرادات متعددّة، نعم، وما هي الإرادة؟ إنّ الإرادةَ واحدةٌ، وهي إرادة الله تعالى.
على هذا، فإنّ كلَّ الذوات في عالَم الوجود، مِنَ الماديّات والمجرّدات، جميعها خُلقت بإرادة الله تعالى، يعني مِن نفس ومِن ذات الله تعالى. وعليه، فإنّ كلّ ما في عالَم الوجود، مِن ذوات مختلفة، منشؤُه واحدٌ، وهذا المنشأ هو إرادة الله تعالى. مثلًا، [مِن باب] المثال، لو كان [أمام] الإمام علِيّ بن موسى الرضا عليه السلام عشرة أستارٍ مختلفة، على إحداها صورة أسد وعلى الآخر صورة قرد، وعلى الآخر صورة هرّة، وعلى الرابع صورة كلب مثلًا، وعلى الخامس صورة حصان وهكذا، فأشار الإمام إلى صورة الأسد فصارت أسدًا [أي حيوانًا واقعيًّا في الخارج]، وأشار إلى صورة القرد فصارت قردًا، وأشار إلى صورة الهرّة فصارت هرّةً، وكذلك مع صورة الكلب والحصان والحيّة، فبإرادة الإمام عليه السلام صارت هذه الصورة أسدًا وتلك حصانًا والأخرى هرّةً والأخرى حيّةً وهكذا، فالإرادة إرادة واحدة وهي إرادة الإمام عليه السلام، أمّا الأشياء والذوات في الخارج فمختلفة، فهذا أسد له خواصّ وأفعال خاصّة، وهذا حصان له آثار خاصّة ووزن خاصّ ولون خاصّ، وتلك حيّة وهذه هّرة وذاك كلب وهذه ماعز؛ فكلّ هذه الذوات، على اختلافها، منشؤُها إرادة واحدة وهي إرادة الإمام عليه السلام.
على هذا، فإنّ كلّ ما في عالَم الوجود مِن اختلاف في الأسماء والذوات، كلّها ذات منشأ واحد، وهذا في اصطلاح العرفاء يقولون له التوحيد الأسمائيّ، يعني توحيد الذات، يعني أنّ الذوات – على اختلافها – واحدةٌ، أي هي في الحقيقة واحدة، [يعني] أنّ منشأها هو إرادة الله تعالى. نعم، وبعد الذات نسير إلى مرتبة الفناء، ومرتبة الفناء هي المرتبة الّتي ليس فوقها مرتبة أخرى، وهي ذات الله تعالى فقط.
فإن تعلّقت إرادة الله بخلق الأشياء، فهو بإرادته سيخلق أولًا الذات [كذات زيد مثلًا]، وبتبع الذات الصفات، وبتبع الصفات أفعال زيد. وإن تعلّقت إرادة الله تعالى بخلق خالد مثلًا، فسيكون خَلْق خالدٍ بهذا الشكل أيضًا، وبتبع ذلك يُعِدّ له صفاتٌ خاصّة، ومِن هذه الصفات تصدر عنه أفعالٌ خاصّةٌ. وعلى هذا، فإنّ نفس هذه الذات تنشأ مِن إرادة الله تعالى، وبتبع الذات صفاته الّتي هي مِن إرادة الله تعالى، وبتبع الصفات أفعاله الّتي هي مِن إرادة الله تعالى. هذه السلسلة هي السلسلة الطوليّة، فكلّ ما في عالَم الوجود ينتهي إلى هذه النقطة وهذا (الحرم)، هذه النقطة هي ذات الله تعالى؛ وبهذا الشكل، كلّما نزل تصير قاعدته أوسع، وكلّما صعد تصير قاعدته أدقّ، وهذه النقطة هي ذات الله تعالى وهو مقام الفناء، يعني أنّ كلّ ما في عالَم الوجود يفنى، وتنمحي استقلاليّته وتسقط، في مرحلة الذات وفي مرحلة الفناء.
إن كان هناك إشكال فتفضلوا به!
على هذا، تصير هذه المسألة مسألة عرفانيّة، يعني أنّ التوحيد الأفعاليّ بالنسبة للعرفاء يُثبت أنّ كلّ فعل في عالَم الوجود هو فعل واحد، وهو فعل الله تعالى، وأنّ التوحيد الصفاتيّ يعني أنّ كلّ الصفات في عالَم الوجود هو صفة الله تعالى، يعني أنّها مظاهر صفة الله تعالى؛ فإذا ما وجدنا في أنفسنا عِلمًا بحدود قدرتنا واستعدادنا، فلا بدّ أن نعلم أنّ هذا العِلم هو مِن عِلم الله تعالى، فهذا ليس علمنا، لأنّه إذا لم يُردِ الله ذلك سنكون جهّالًا، فهذا العِلم مِن عِلم الله تعالى. وإذا وجدنا في أنفسنا قدرةً مثلًا، فهذه القدرة القليلة والقصيرة هي مِن قدرة الله تعالى، يعني أنّها ناشئةٌ مِن قدرة الله تعالى. على هذا، فإنّ العِلمَ ينتهي إلى عِلم الله تعالى، وكلّ قدرةٍ في العالَم ينتهي إلى قدرة الله تعالى، وكلّ جمالٍ في العالَم ينتهي إلى جمال الله تعالى، وكلّ فكرٍ وعقلٍ في العالَم ينتهي إلى تدبير الله تعالى، وهذه الصفات تنتهي إلى صفات الله تعالى، والصفات معلولة للذات، والذات – على هذا – واحدةٌ. فعلى هذا، ليس في عالَم الوجود إلّا الله تعالى. هذا هو ملخّص القضيّة وملخّص كلام العرفاء الشامخين وكلام الفلاسفة المتألّهين.
مناقشة بين سماحة السيّد وأحد الحضور حول القدرة والاختيار والاندكاك
أحد الحضور: إذا صدرت مثلًا مِن إنسان وبَشر رذيلةً، كيف يمكن أن تُنسب هذه الصفة أو فعل الرذيلة إلى الله تعالى، كيف يمكن ذلك؟
جواب سماحة السيّد: هذه المسألة [ترجع إلى] مسألة الاختيار، فإنّ حقيقة المسألة هي أنّ القدرة هي فقط بيد الله تعالى، يعني أنّ الله تعالى يُقْدِر العباد على عمل الخير ويُقْدِرهم على عمل الشر. والقدرة طبعًا هي منشأ الأثر ومنشأ الفعل، وهو ما يُنسب إلى الله تعالى، أمّا هذا الفعل الّذي فعله هذا الشخص، فهو يُنسب إلى الشخص نفسه. فالله هو مَن أعطاه القدرة [إلّا أنّ الفعل الناشئ عن هذه القدرة فهو باختيار الإنسان، فيُنسب الفعل إلى الإنسان]؛ كما لو أعطيتك مالًا، فإمّا أن تصرفه في الخير وإمّا أن تصرفه في أمور غير مناسبة، فالمال مِن عندي، ولكن الصرف [يعود] لك وهو باختيارك.
أحد الحضور: على هذا، فإنّ وحدة الأفعال تأتي مِن ناحية مُسبّب الأسباب، وهذا يعني أنّ مسبّب الأسباب هو الله سبحانه وتعالى، فمعنى [وحدة الأفعال] هو مسبّب الأسباب؟
جواب سماحة السيد: إنّ مسبّب الأسباب هو الله تعالى.
السائل: أقصد أن فلسفة وحدة الأفعال أو الصفات وأساسها، هو أنّ مسبّب الأسباب هو الله سبحانه تعالى؟
جواب سماحة السيّد: نعم.
السائل: هل [ما ذكرتُه أنا] هو المعنى الّذي تفضلتم أنتم به أم ماذا؟
جواب سماحة السيّد: نعم، يعني أنّ ليس هناك فرق بين مسألة وحدة الوجود وبين المسألة الّتي طرحها العرفاء.
السائل: على هذا، يصبح الفرد أكثر اندكاكًا بالله سبحانه وتعالى، أم أنّ أساسه هو .. ؟
جواب سماحة السيّد: الأساس يعني العلّة؛ مثلًا، ما هي العلّة لحركة يدكم؟ هي إرادتكم، إذ لو لم تريدوا، لن تحرّكوا يدكم طبعًا، فعلّة حركة اليد وعلّة الحركة [هي إرادتكم]. وكذلك إن أردتم أن تأتوا إلينا أو أن تبقوا في مكانكم أو أن تذهبوا بأرجلكم وتخرجوا مِنَ الباب، فعلّة المشي وعلّة الحركة هي الإرادة؛ والتوحيد الأفعاليّ والصفاتيّ يُثبتان أنّ كلّ ما في عالَم الوجود يرجع إلى إرادة الله تعالى.
السائل: هذا في المسبّبات وليس في الأصل، يعني أنّ هناك فرق بين الإنسان وبين الله تعالى، [وإن كان كذلك] فلا يوجد اندكاك، أم أنّ هناك اندكاك أو [أمر آخر]؟
جواب سماحة السيّد: اندكاك نعم، اندكاك نعم، وهو بمعنى أنّ ليس للإنسان شخصيّة مستقلة عن الله تعالى، فحقيقة الإنسان مندكّة في ذات الله تعالى، فإذا أرد الله تعالى [أن] يُوجِد هذا الإنسان في الخارج [سيوجَد]، وإذا أراد الله أن يُنفي هذا الإنسان في الخارج [سينتفي]. فعلى هذا، ليس للإنسان اختيار أبدًا في أن يعيش [ويحيا]، بل حياته هي بإرادة الله تعالى، فهو فانٍ في الله تعالى. طبعًا [إنّ قولنا] ليس له اختيار، يعني ليس له استقلال، فنحن لا نقدر أن نطرد شيئًا صغيرًا عن أبداننا. فالإنسان يكون الآن سالمًا وغدًا مريضًا، ونحن غير قادرين على هذا ولا على ذاك، فكلّ العيش والحياة هي بإرادة الله تعالى، فنموّنا وذهابنا وولادتنا وكلامنا وموتنا، جميعها بإرادة الله تعالى. [وكذلك الملائكة] دون أي فرق أبدًا، فمع أنّها تقبض الأرواح، كعزرائيل وغيره مِنَ الملائكة، إلّا أنّ إرادة الله تعالى جارية في هذا المَلَك المعظَّم، وجارية في الملائكة الّذين تحت أمره، يعني [أنّ الجاري فيهم] إرادة واحدة. فإرادة ذات الله تعالى هي على صدر القمّة، وهذه الإرادة تنزل في ملائكته المقرّبين، ومنهم إلى الملائكة الجزئيّين؛ هذا ما نسمّيه بالتوحيد الأفعاليّ والصفاتيّ طبعًا، يعني ليس هاهنا إرادتان مختلفتان، بأن تكون هذه إرادة غير [تلك]، كالاختلاف بين مشيكم وجلوس صديقكم، ونمومكم واستيقاظ صديقكم، وذهابكم وجلوس صديقكم، فإنّ هذه الأفعال مختلفة [بهذا اللحاظ]، أمّا بالنسبة إلى السلسلة الطوليّة فهناك إرادة واحدة تنزل مِن مقام المشيئة في مراحل مختلفة، حتّى تنتهي إلى آخر مرحلة، فالإرادة واحدة.
أحد الحضور: سيّد، إنّ الوقت ضاق، فما اتّفقنا عليه مِن وقت قد انتهى، ولكن بما أنّ الموضوع مهمّ، فهل تحبّ أن نُثير سؤالًا بعد، إن كان هناك مجال؟
سماحة السيّد: إن شاء الله فيما بعد.
السائل: نعم، وبهذا الشكل يكون عندنا مجال للراحة، حتّى نقدر على الاستيعاب أكثر، لأنّه يوجد موضوعان مهمّان بعدُ، هما؛ قضيّة الخير والشر، وقضيّة التوحيد الّتي يذكرونها في الكتب ولعلّهم يسمّونه (التشكيك)، لا اعلم اسمها [الدقيق]، فهي ممّا لم نفهمه جيّدًا ونريد أن نفهمه. كما يوجد موضوع آخر وهو: لماذا يُعاقب الإنسان ويُثاب؟ فهذه ثلاثة مواضيع مهمّة، وإن شاء الله [توضّحها لنا] عندما نكون نحن مرتاحون وأنتم في راحة.
سماحة السيّد: نعم [يسمّونه] التشكيك .. إن شاء الله تعالى.
السائل يعلّق مازحًا: ربما إذا تكلّمتم الآن [حول هذه الموضوعات] لن نقدر أن نستوعب أكثر، آجركم الله.۱