المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةالدفاع عن الفلسفة والعرفان
التوضيح
هوالعليم
تفسير قوله تعالى «فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»
و حجيّة العقل
الدفاع عن الفلسفة والعرفان – الجلسة الرابعة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام عل سيّدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
نحن مأمورون بالعِلم واليقين ومزجورون عن الظنّ والتقليد بلا دليل
{فَبَشِّرْ عِبَادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}۱، إنّ هذه المسألة مع كونها نظريّة وعمليّة هي وجدانيّة وفطريّة، فهذه المسألة فطريّة، وهي أنّ العِلم هو الغاية القصوى والثروة الإنسانيّة في تكاملها، يعني أنّ تكامل الإنسانيّة ينحصر في العِلم؛ {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ}٢، يعني أنّ خلق السموات والأرض جميعها وخلق الإنسان إنّما [غايته] العِلم، أي العِلم بحقّانية الله تعالى، كما في الآية الكريمة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}٣. وعمدة التمايز بين الإنسان وغيره هو في العِلم، فنحن نرى التساوي بين الإنسان وغير الإنسان مِنَ الناحية الماديّة كالجسم وغيره، وإنّما الفرق بيننا وبين الحيوان هو في العِلم.
العلم هو انكشاف الواقع وانكشاف الحقيقة، بحيث لا يكون شيءٌ مِنَ المسائل الواقعيّة مشكوكةً عند الإنسان. وعلى هذا، فإنّ هذه المسألة فطريّة، فكيف يمكن لنهج مِنَ المناهج ولشريعة مِنَ الشرائع أن تمنع العِلم وتمنع مِن بلوغ الحقيقة؟! كيف يمكن ذلك؟! هذا مستحيل، [أي يستحيل] أن يُمنع اتّباعُ العِلم في الشريعة وفي الإسلام، فإنّ هذا محال، وهو ينافي القضايا الطبيعيّة والفطريّة، والوجدان والعقل ينفي ذلك.
ونحن نجد في الآيات الكريم في القرآن ذمًّا للأفراد الّذين يتّبعون الظن، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}٤ {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}٥، وذمًّا للتقليد كذلك، {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}٦ [فيردّهم] قائلًا {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}۷، وفي آية يقول {قُلْ فَلِلهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}۸؛ يعني أنّنا نجد أنّ الشريعة الإسلاميّة تحثّ على العِلم والعمل بما يقتضيه العقل والقضايا العقليّة، [وتحثّ على] اتّباع العِلم وعدم اتّباع الظنّ والتقليد. فإنّ التقليد بلا دليل [هو عبارة عن] الورود في المهالك؛ {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}٩، هذا هو التقليد الصِّرف.
إنّ جميع هذه المسائل هي مقدمة للمطالب الّتي سنتكلّم فيها وحولها.
إنكار الحكمة هو إنكار للحجّة والفطرة ولأساس أصولنا الاعتقاديّة
مِنَ الأمور البديهيّة أنّ الله تعالى قد قرّر في أنفسنا ونفوسنا العقل، وهذا العقل هو ما يميّز الإنسان عن الحيوان. على هذا، فهل يمكن أن ينهانا [أحد] عن اتّباع العقل؟! هل يمكن؟! مِنَ الواضح والبديهيّ أنّه لا يمكن ذلك. كما أنّ التقليد في المسائل الاعتقاديّة ليس مشروعًا، أعني في الأصول الخمسة، فلا يجوز التقليد فيها، كالتوحيد والمَعاد وغير ذلك. كلّ ذلك يدلّ على أنّ العقل حجّة، والله تعالى قد خلق العقل في أنفسنا لنتبيّن الحقّ به ونميّز الحقّ مِنَ الباطل، فمَن أنكر الحقّ كأنّه أنكر الإنسانيّة، وأنكر الكرامة الإنسانيّة، وأنكر التمايز بين الإنسان والحيوان.
وقول أولئك الكفرة {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، وجوابه عليهم بقوله {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}، يدّل على ذلك، يدلّ على أنّهم تركوا العقول الّتي في أنفسهم وأخذوا وتمسكوا بالتقليد، أي التقليد الأعمى، التقليد الّذي ليس بشيء في نفسه أبدًا، فلمجرّد أنّ آباؤهم قاموا بتلك الأعمال، جوّزوا لأنفسهم اتباعهم واتّباع أعمالهم! هذا ممّا ينفيه الوجدان، وهذا يعني أنّها مسألة بديهيّة، ولا تحتاج إلى تأمّل، بل حتّى غير المسلم كاليهود والنصارى وكلّ مَن ليس له دين، يؤيّد ذلك، فكيف يجوز لنا اتّباع شيء لمجرّد عمل الآباء به؟! مثلًا، نحن نرى هذه القضيّة بيننا، فالجيل السابق، مِن آبائنا وأجدادنا، قد قرّروا بعض القوانين في هذه المملكة وفي هذه البقعة مِنَ الأرض، فهل يجب علينا اتّباع قوانينهم؟! لماذا ذلك؟! لماذا يجب علينا اتّباع القوانين الّتي دُوّنت في مجلس [انعقد] قبل زماننا بمئتَي سنة؟! لماذا يجب علينا اتّباع تلك القوانين؟! فلكلّ شيءٍ قانونٌ مختصّ به، والناس مختارون في هذه القوانين، [فالقول بوجوب اتّباع تلك القوانين] يقتضي عدم الحريّة، والحريّة تتنافى مع ذلك.
وعلى هذا، لا يمكن للنهج القويم ولجميع الشرائع، سواء عند اليهود أو النصارى وخصوصًا في الشريعة الإسلاميّة، أن ينهى عن اتّباع العقل، فهذا يستحيل [أن يصدر] مِنَ الشريعة، أي يستحيل أن ينهى النبيّ عن العقل، كأن يقول: لا بدّ، ويجب عليك أن لا تتّبع عقلك! فالتوحيد هو أسُّ النبوّة، والنبوّة هي أساس الإمامة، والحال أنّ مسألة التوحيد تبتني على العقل، والآيات القرآنيّة تُنبئ عن ذلك، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا}۱، فهذه القضيّة قضيةٌ عقليّة، وهي تُنبئ عن برهان النظم المدوّن في الفلسفة الإسلاميّة، [وهو يُثبت] امتناع واستحالة وجود إلهين ومبدئين مستقلّين في خَلق عالَم الإيجاد، أي عالَم الممكنات، وهذه المسألةُ عقليّةٌ.
على هذا، كيف يمكن [لأيّ] شريعة وللشريعة الإسلاميّة، أن تُنفي الفلسفة والحِكمة؟! فإنّ موضوع الفلسفة والحّكمة هو انكشاف الواقع في عالَم الوجود، [فالحِكمة تتعرضّ وتجيب عن المسائل التالية:] ما هو عالَم الوجود؟ وما هو رابط العالَم بالمُوجِد، يعني بالله تعالى؟ وما هي صفاته تعالى وأسماؤه؟ وكيف خُلِق العالَم، وكيف خُلِق عالَم الإمكان؟ هذه المسائل هي المسائل الفلسفيّة، فهل يمكن للشريعة أن تنفي ذلك؟! هل يمكن للشريعة أن تنفي العقل وتقول: لا بدّ أن لا تتّبع عقلك، هل يمكن ذلك؟! كيف يمكن ذلك؟!
فالأفراد الّذين ينفون الفلسفة والحِكمة، هم ينكرون البديهة بذلك! يقولون إنّ الفلسفة كانت قَبل زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أي في زمان سقراط وأفلاطون، وبالتالي فإنّ هذا العِلم لم يصدر مِنَ الشريعة الإسلاميّة، وعليه يجب طرد وترك الفلسفة!
نحن نسألهم: هل المسائل الرياضيّة نشأت وصدرت مِنَ الأئمّة عليهم السلام؟ لا [لم يُنشئها الأئمّة عليهم السلام]. وهل المسائل الفيزيائيّة صدرت ونشأت مِنَ الشريعة؟ مثلًا، إنّ نتيجة ضرب الإثنين في الإثنين هو أربعة، فهل النبيّ هو مَن قال ذلك؟ حسنًا، فقد كانت كذلك قَبل النبيّ، فضرب الاثنين في الاثنين كان أربعًا، وضرب الأربعة في الأربعة هو ستّة عشر، سواء قاله النبيّ ذلك أم لم يقله؛ فهل لا بدّ أن نترك هذه المسائل الرياضيّة، لمجرّد أنّها لم تصدر مِنَ الشارع؟! فهذه واقعًا مسائل عقليّة والعقل يتفوّه بها. ماذا تقولون في ذلك؟! لا بدَّ أن يتأمّل الإنسان في هذه القضايا. ونحن نجد أنّ الشريعة تشجّع الإنسان على هذه التعاليم، فلماذا تُفوَّت هذه المسائل ويُمنع مِن تعليمها؟! والحال أنّ الآيات القرآنيّة تقول {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}۱، فالآية تشجّع الإنسان على هذا النظم وعلى هذا النظام، [وكذلك قوله] {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}٢.
وكذلك هو الحال في باقي المسائل والعلوم، كالعلوم الفيزيائيّة والعلوم الطبيّة، فهل يمكن للشريعة وللإسلام أن يمنع الإنسان وينهاه عن الرجوع إلى الأطباء في هذا العصر، وذلك لمجرّد أن هذه العلوم لم تصدر مِنَ الشارع، ولمجرّد أنّ مبدأ هذه العلوم كان مِنَ اليونان مثلًا أو غيرهم؟! أبدًا [لا يمكن ذلك]. فهؤلاء القوم الّذين يمنعون هذه المسائل، هم [بأنفسهم] يرجعون إلى الأطباء في هذا العصر، مع أنّ الطبّ لم يصدر مِنَ الشارع، أعني الطبّ العصريّ في هذا العصر، فهو لم يصدر مِنَ الشارع، كالطبّ الأوروبيّ، [فالتشريع] ليس موجودًا الآن حتّى يصدر منه هذا الطبّ. نعم، يوجد في كتبنا المدوّنة، طبًّا [واردًا] عن الرضا وعن الصادق عليه السلام، وكذلك مِنَ الإمام السجّاد وأمير المؤمنين وغيرهم، فمسائل الطبّ القديم موجودة بأجمعها، ولكن المسائل الطبيّة في هذا الزمان لم تكن بأيدينا [في زمن الشارع]، ومع ذلك لا بدّ مِنَ الرجوع إلى هؤلاء الأفراد الخبراء في ذلك، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}٣. فإنّ هذه القضايا عقليّة، فكيف يمكن للإسلام أن ينفي هذه القضايا؟! كيف يمكن للإسلام أن ينفي الطبّ العصريّ؟! كيف يمكن للإسلام أن ينفي المسائل الرياضيّة؟! كيف يمكن ذلك؟! أبدًا [لا يمكن ذلك]. فمَن أنكر هذه القضايا، لا بدّ – ومِنَ الطبيعيّ – أنّه مجنونٌ.
والمسائل الحكميّة جميعها مسائل عقليّة؛ يعني أنّ العقل ينظر إلى المادّة وإلى تطوّراتها وإلى الحوادث الّتي تجري عليها، فيرى العقل بنفسه أنّه لا بدّ أن يكون هناك رابط بين عالَم المادّة وبين مبدئه، ويجد العقل بنفسه علّة لهذا الأمر، ويجد أنّ هذا العالَم معلولًا، وبالنسبة يربط بين هاتين القضيّتين، يعني بين العلّة والمعلول، فيستنتج أنّه لا بدّ أن يكون لهذا العالَم – أي لهذا الأثر – مِن مؤثّر وسبب. والمسائل الحكميّة بأجمعها تجري على هذه الطريقة، كمسائل العلّة والمعلول والمبدأ والمَعاد. جميع هذه المسائل عقليّة. فلا يمكن للإسلام أبدًا، أن يرفض هذه المسائل والقضايا، لأنّها مِنَ المسائل العقليّة البديهيّة. كيف يمكن مثلًا للإمام الصادق عليه السلام أن يرفض المسائل العقليّة كأن يقول: لا بدّ مِن عدم الالتفات إلى المسائل العقليّة؟! [أقول: إن كان الأمر كذلك] فإلى ماذا نلتفت إذن؟!
إنّ إثبات الولاية معلول لإثبات النبوّة، فلو لم يُرسَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يأتي بالرسالة، فلن تكون الولاية موجودةً حينئذ، لأنّ النبوّة هي منشأ الولاية، وإنّ منشأ الرسالة هو التوحيد، والتوحيد يثبت بالعقل، هذا يعني أنّه لا بدّ لعقل الإنسان أوّلًا أن يُثبت التوحيد، ومِن بعد ذلك تثبت له الرسالة بالآيات والمعجزات، ثمّ بكلام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تثبت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأئمّة مِن بعده. فكلٌّ مرتبط بسلسلة واحدة، وعليه فإذا نفينا العقل سينتفي التوحيد؛ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}۱؛
نحن بأيّ دليل نتمسّك بكلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بأيّ دليل؟ [نتمسّك به] بدليل العقل، يعني أنّ عقل الإنسان أوّلًا يُثبت التوحيد، وإذا ثبت التوحيد تثبت الرسالة، لأنّ الرسالة تتفرّع على التوحيد، أي إن لم يكن الله موجودًا لن يبعث رسوله طبعًا. فإذا رفعنا الأصل وهو العقل، فلا بدّ أن ننفي جميع المسائل المترتّبة عليه [والواقعة] تحته، سواء التوحيد والرسالة والولاية وهلمَّ جرًّا.
على هذا، فإنّ الّذين يقولون: لا بدَّ أن نترك العقل، وأن ترك العقل في المسائل العقليّة. فعليهم أن يؤيّدوا هذه القضيّة، وهي نفي مسائل التوحيد والرسالة والولاية جميعها.
... الفلسفة والحكمة هما العِلم المعنيّ بكشف الحقائق والواقع بالاستدلال العقليّ؛ يعني أنّ الإنسان يقوم بالتفكير في المسائل الموجودة حوله، ويضمّ هذه القضايا [بعضها إلى بعض] ويستنتج منها نتيجة، وهذه النتيجة تُسمّى مسألة فلسفيّة. مثلًا، مِنَ المسائل الفلسفيّة أنّ للعالَم صانعًا، وأنّ هذا الصانع لا بدّ فيه مِنَ التوحيد، وأنّه لا يجوز للصانع أن يكون مثلنا في الجسم والشوائب الجسميّة، وأنّه لا بدّ مِن رابطة بين العلّة [وبين معلولها]، وبين الخَلق وبين الخالق. فجميع هذه المسائل هي مِن منتجات العقل، يعني أنّ العقل يضمّ القضايا [بعضها إلى بعض] ويستنتج هذه النتائج.
ومِنَ البديهيّ أنّه يمكن أن يصيب العقل في النتيجة وأن يُخطئ. فيقول أولئك الأفراد والعلماء [المعارضون للحكمة]: إنّ في الفلسفة مسائل مختلف فيها. ونحن نقول: أليس في الفقه مسائل مختلف فيها؟ أنتم تعلمون أنّ الفقهاء بأجمعهم، مِنَ الأزمنة السابقة حتّى الآن، يختلفون في جميع المسائل. كم رسالة [عمليّة] موجودة عندكم الآن، يوجد في إيران ما يقارب مئة رسالة، مئة رسالة عمليّة في توضيح المسائل العمليّة والأحكام الشرعيّة. فنحن لا نجد مِن صدر الإسلام حتّى الآن، فقيهين متّفقين في جميع الأحكام والمسائل. ومع ذلك هل يمكن أن نردّ الأحكام الشرعيّة؟ أبدًا [لا يمكن ذلك]. فهذا الفقيه، بحسب الاستدلالات والأحكام الشرعيّة والمصادر، يستنتج نتيجة، يعني يستنتج حكمًا، وذاك الفقيه يستنتج نتيجة أخرى، والله يثيبهم ويؤجرهم جميعًا إذا كان عملهم بغير دواعٍ نفسانيّة. فهل يمكننا ترك الأحكام الشرعيّة بحجّة أنّ في الأحكام الشرعيّة [المُستنبطة] اختلافات؟! لا يمكن [ترك الأحكام الشرعيّة].
كم مِنَ المفسّرين جاء وذهب مِن عصر الإسلام إلى الآن، فمِنَ الشيعة ما يزيد عن خمسين مفسّرًا للآيات، جاؤوا وذهبوا ودوّنوا، والكتب موجودة بين أيدينا، وفيها اختلافات كثيرة في بيان وتفسير الآيات القرآنيّة.
فهذه المسيرة [والحالة] واضحة، إذ مِنَ البديهيّ أنّ الإنسان [العاديّ] ليس بإمام، فالأئمّة المعصومون هم اثنا عشر فقط، وباقي الأفراد بأجمعهم غيرُ معصومين ويجوز لهم الخطأ، ولذا نجد اختلافات بين التفاسير. وكذلك في الطب، وأيضًا في المسائل الرياضيّة، إنّ جميع المسائل الرياضيّة ليس فيها أخطاء، ولكن الشخص العامل في المسائل الرياضيّة يُخطئ. مثلًا، قد يقول المنجِّم [أي عالِم الفلك]: سيظهر القمر في هذه الدرجة مِنَ الأفق وفي اليوم الكذائي. ويقول منجّم آخر: لا، بل بعد ساعة – أو بعد يوم – سيظهر القمر. فيحصل الاختلاف، مع أنّ المسائل الرياضيّة [في نفسها] ليس فيها اختلاف، وإنما الاختلاف وقع في كيفيّة التعامل بالمسائل الرياضيّة وبالمسائل الحيويّة؛ يعني أنّ الأفراد يختلفون في خصوصيّاتهم وتفكّراتهم وسعة علومهم، وعلى هذا كانت فعالهم مختلفة. وهذا ما نراه في الطبّ أيضًا؛ فأنتم ترون أنّ الطبيبين والحكيمين، كلٌّ منهما يحكم بشيء، مع أنّ كليهما مِنَ الخبراء جدًّا.
فهذا أمرٌ واضح [ومشهود]، وهو موجود في جميع العلوم التجريبيّة وفي المسائل العقليّة أيضًا. على هذا، [فإنّ الاختلاف في الآراء] لا يوجب إهانة وَوَهْنَ الحِكمة. فإن كان الحكماء يختلفون في مسائلهم، ألا يختلف الفقهاء أيضًا، وكذلك المفسّرون؟ كثيرة هي المسائل الفلسفيّة الّتي اختلف الحكماء في حكمها، ونحن لا نجد فقيهين مِن صدر الإسلام حتّى الآن اتّفقا في مسألة واحد، لا نجد ذلك أبدًا، ألا يوجب ذلك إهانة وَوَهْنًا بالنسبة إلى الفقهاء؟! مع أنّ الاختلاف في الفقه [أكثر] بكثير منه في الحِكمة والفلسفة. هذا الاختلاف أمرٌ طبيعيٌّ وعاديٌّ، هذا عاديٌّ.
بناء على هذا، فإنّ الأفراد والعلماء الّذين يقولون – وهذه عمدة أدلّتهم – بردِّ الفلسفة والعرفان، بدعوى أنّهم يجدون اختلافاتٍ في المسائل الصادرة مِنَ الحكماء، فهو إشكال واردٌ عليهم جدًّا وبدوًا، لأنّا نجد هذا الاختلاف بشكل أكبر في المسائل الفقهيّة وفي المسائل الشرعيّة، فماذا يقولون في ذلك؟! وذلك مع أنّ المصادر واحدةٌ، وهي القرآن الكريم وروايات الأئمّة المعصومين والإجماع۱ والعقل، فماذا يقولون في هذا الأمر؟! هذا أوّلًا.
جهة الافتراق بين العرفان والفلسفة والشرع والتصوّف واتّحادهم في الحقيقة
أمّا الفرق بين العرفان والفلسفة والشرع والتصوّف؛ فهنا أربع مسائل، الأولى الفلسفة والحكمة والثانية العرفان والثالثة التصوّف والرابعة الشرع.
مِنَ البديهيّ أنّ الحقيقة واحدة لا يُختلف فيها، وهي أنّ الله تعالى واحد، وليس في الله تعالى اختلاف، وأنّ العالَم واحد ليس فيه اختلاف، وكذلك كلٌّ منّا ذو حقيقة واحدة لا اختلاف فيه، مثلًا إنّ هذا رجل الّذي نراه لا اختلاف فيه. فهذه حقائق، لا بدّ أن نُذعن لها ونؤيّدها، فكلّ الأفراد هنا ذوو حقائقَ وألوانٍ وأشكالٍ، وكذلك العالَم بأسره، مِن أرض وسماء وأجرام سماويّة، كلّها حقائق لا نختلف فيها أبدًا.
وعلمنا ومعرفتنا بهذه الحقائق تحصل بوسائل متعددة؛ مثلًا، يمكنني أن أعرف بوجود شخصٍ في هذا المكان بالرؤية كأن افتح عيني وأراه أمامي، فهذه إحدى مراتب وطرق العِلم بوجود شخصٍ في هذه المحطة والمحلّة. ويمكنني أن أغمض عيني أو إذا كنتُ أعمى، فأسمع كلامه وهو في هذا المكان، فأعلم بوجوده هنا بواسطة الأذن، فهذه إحدى الطرق. وقد يكون المرء مثلًا أعمى وأصمّ، [فبحاسّة] اللمس يجد شخصًا في هذا المكان، هذه إحدى الطرق. فلمعرفة حقيقةٍ واحدةٍ هناك طرق متعددة [تُحدَّد] بحسب الخصوصيّة والمورد. فعلى هذا، إذا رأى شخصٌ أحدًا، فهل يحقّ لهذا الشخص أن يردّ مَن سمع صوته، ويقول له إنّك أخطأت؟ لا، لا يجوز له ذلك، لأنّ الأوّل قد وصل إلى هذه الحقيقة بالعين، والثاني وصل إلى نفس الحقيقة بالأذن، وثالث وصل إلى نفس الحقيقة باللمس، وكذلك غيرهم. فلا يجوز لأحد أن يردّ الآخر ويقول له: إنّك أخطأت (...)٢ فالطرق متعدّدة إحداها بالعين وأخرى بالأذن وأخرى باللمس وغير ذلك، فلا يجوز لأحدِ هؤلاء الأفراد، الّذين يأخذون ببعض الطرق [دون البعض الآخر]، أن ينفون الباقي، لا يجوز لهم ذلك؛ يعني هذا مستحيل، يعني أنّه ليس مِنَ العقل.
على هذا، فإنّ إثبات وجود الله تعالى مثلًا، يمكن أن يكون بالعقل، وذلك بأن يضمّ قضايا عقليّة [ويستنتج منها تلك النتيجة]؛ مثلًا، كأن يرى العقلُ العالَم والحوادث في العالَم، فيضمّ هذه القضايا ويستنتج مثلًا أنّ العالَم متغيّرٌ، كالتغيّر في [فصوله] بين الصيف والربيع والشتاء والخريف، [ثمّ يقول العقل:] وكلُّ متغيّر حادث، فيصل العقل إلى هذه النتيجة وهي أنّ العالَم يجب أن يكون حادثًا، [ثمّ يقول:] لا بدّ لكلّ حادث مِن مُحدِث ومُوجِد، لأنّ المتحرِّك لا يكون بنفسه متحرِّكًا [بل لا بدّ له مِن مُحرّك]، مثلًا إنّ السيّارة متحرِّكة، فلا بدّ أن يكون لها محرِّكٌ وهو النفط مثلًا، لأنّ السيارة ليست متحرّكةً بنفسها، هذه قاعدة عقليّة، أو أنّ كلّ ما بالقوّة ينتهي إلى ما بالفعل لا بدّ له مِن سبب، يعني أنّ كلّ شيء فيه استعداد للتبدّل مِن حالة إلى حالة، لا بدّ أن يكون هناك ما يحوّله، لأنّ هذا الشيء لا يقدر بنفسه أن يحوّل نفسه، فلا بدّ أن يحوّله شيء آخر، وهذه قضية فلسفيّة وبديهيّة. على هذا، فإذا أثبت العقل مِن هذه القضايا أنّ الله تعالى موجود، فهل يمكن أن نردّ العقل ونقول: هذا العقل أخطأ في نتيجته؟! لا يمكن ذلك أبدًا، ولا يمكن للإمام عليه السلام أو للشارع أن ينفي هذه الطريقة ويقول: هذه الطريقة خطأ! فلأيّ شيء يقول ذلك! فإنّ أثبت العقل أنّ للعالَم مبدأ وأنّ للعالَم مُوجِدًا وأنّ للعالَم علةً، فلا يجوز للشرع أن ينفي ذلك، فلأيّ شيء ينفيه؟! أبدًا لا يمكن ذلك. فالعقل هو إحدى طرق [للعلم والمعرفة بالحقائق].
ويوجد طريق آخر، ما هو هذا الطريق؟ هو أن يقوم المرء بالرياضات ويترك الشهوات ويؤدّي الفرائض ويصون نفسه مِن الذنوب والشهوات وغير ذلك، فيرى في نفسه نورانيّةً، فيشاهد تلك الحقائق ويُخبر عنها، يعني أنّه يُخبر عن تلك المشاهدات الّتي هي قضايا واقعيّة؛ ففي روايةٍ أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دخل في يومٍ مِنَ الأيّام إلى المسجد فرأى شخصًا يُدعى زيد بن الحارث، كان وجهه مصفرًّا مِنَ اليقظة والسهر ليلًا وجسمه نحيفا، فقال: يا زيد، كيف أصبحت؟ قال: أصبحت موقنًا. فقال: ما علامة يقينك؟ قال: علامة يقيني أنّي أرى النار ومَن فيها وأرى الجنّة ومَن فيها، يا رسول الله، أ أُخبرك عن هؤلاء القوم مِن حولك، مَن منهم في النار ومَن منهم في الجنّة. فقال رسول الله: اسكت.۱ فهذا الشخص يرى، ونحن نقول عن هذا (عرفانًا)، فالعرفان هو المشاهدة. وهذه قضيّة واقعيّة، فهذا الشخص يرى الآن كما أنّنا نرى أنفسنا، فرأى أنّ فلانًا مِن أهل الجنّة وفلانًا مِن أهل الجنّة وآخر مِن أهل النار، هو الآن يرى، والرسول أيّده في ذلك وقرّر له ذلك. هذه إحدى الطرق.
وإحدى هذه الطرق هو أن يُخبر رسول الله بأنّ هناك نارًا وهناك جنّة، فنتمسّك نحن بهذه الشريعة [ونأخذ بها]. فالشريعة المنقولة تقول بوجود النار وبوجوب الاحتراز منها، وتقول بوجود الجنّة وبوجوب القيام بأعمال تُدخلنا إليها.
على هذا، كيف يحقّ لشخص ولعالِم فقيهٍ وهو مِن أهل الشريعة، أن ينفي ذلك ويقول: إنّ هذه المسائل جزافيةٌ وخرافيّة و لماذا [كلّ هذا]! فهذه القضيّة مشهورة في الكتب، وكم لها مِن نظير.. فالعرفان هو مشاهدة الحقائق بالوجدان وبالعين الباطنيّة، والعقل والفلسفة والحِكمة يُنبؤون عن المسائل الحقيقيّة عن طريق العقل أي بضمّ المقدّمات العقليّة، والشرع هو الإخبار عن هذه الحقائق بالمنقولات والروايات والآيات وغير ذلك.
على هذا، نجد أنّ الحقيقة واحدةٌ، والطرق إلى هذه الحقيقة مختلفة. فهل يحقّ لشخص أن ينفي الطرق الأخرى، كأن ينفي الفلاسفة [الشرعَ] مثلًا، ويقولوا: إنّ الشرع جزافٌ ولا تهتمّوا به؟! لا [يمكن ذلك]. وهل يحقّ لأهل الشريعة كالفقهاء والعلماء أن ينفوا الفلسفة، ويقولوا عنّها: إنّها مسائل خرافيّة؟! [أقول:] لماذا هي خرافيّة، لماذا!! فإنّ الله تعالى هو مَن أودع فينا العقل، وفي روايةٍ أنّ الله تعالى خاطب العقل وقال له «بك أثيب وبك أعاقب»۱، يعني أنّ الله تعالى يُسائل ويعاقب ويثيب بمقدار عقل كلّ إنسان. فعلى هذا كيف يمكن لأهل الشرع كالفقهاء أن ينهوا عن أهل الفلسفة ويقولوا: إنّ هذه خرفات وفيه إشكالات؟! كيف يمكن للفقهاء أن ينفوا طريق العرفان والمشاهدة؟! فمَن [تنكشف له الحقائق بالشهود]، يرى الآن، هو واقعًا يرى، ويُخبر عمّا في الواقع، فيُخبر عن الجنّة وعن بعض المسائل وعن الحوادث، ونحن نشاهد وقوع وتحقّق كلّ ذلك.
على هذا، فإنّ هذه الطرق الثلاثة، الحِكمة والعرفان والشرع، جميعها تُنبئ عن حقيقة واحدة، وهي حقيقة العالَم، أي عالَم الوجود، عن الله تعالى وعن عالَم القيامة والمبدأ وعن الموادّ وكيفيّة الوجود في هذا العالَم؛ ولكنّ الشرع يُنبئ بالمنقولات، يعني أنّ الأئمّة والنبيّ والمعصومين ينبؤون عن هذه القضايا ويخبرون عنها بالمنقولات فقط. وأهل العرفان يرون تلك الحقائق في أنفسهم، بعد الرياضات الشرعيّة الّتي يقومون بها، إذ لو عملنا بالشرع وبالأوامر والنواهي الشرعيّة فإنّ هذا الأثر [وهذه القدرة] ستوجد في أنفسنا، وبهذا الأثر نستطيع أن نرى كلّ ما أخبر به الشارع، مثل زيد بن الحارث ذاك، فإنّه عمل بما قاله النبيّ، أمّا باقي القوم فلم يعملوا، فشاهد هو [الحقائق]، وهم لم يروا، [هذا هو] الفرق بين هذا وبين أولئك.
كان الناس في الكوفة مجتمعين، فجاء شخص ناحيتهم وجاء آخر كذلك، كان أحدهما ميثم التمّار والآخر حبيب بن مظاهر، فتكلّما والناس يستمعون، فقال ميثم لحبيب: إنّي أراك وعبيد الله بن زياد قد أخذك وقتلك. وقال حبيب لميثم: إنّي أرى عبيد الله قد أخذك وقطع لسانك مِن قفاه. ثّم تركوا الجمع [وافترقوا]، فقال الناس: تكلّم هذان الرجلان بكذا وكذا، فهذه أمور عجيبة، فهما مجنونان، ما هذا!! ثمّ جاء شخص ثالث اسمه رشيد الهجريّ، فقالوا له: إنّا رأينا ميثم التمّار وحبيب بن مظاهر يتكلّما بأمور خرافيّة، أحدهما يقول للآخر: إنّي أراك وعبيد الله بن زياد يصلبك، والآخر يقول له: إنّي أراه يقطع لسانك ويخرجه مِن قفاه، ما هذا! فقال لهم رشيد: إنّ ميثم نسي [أن يقول أيضًا] إنّ الرجل ذو الوجه الأحمر – يعني حبيب بن مظاهر إذ كان وجهه أحمر – سيُقتل مع سيّد الشهداء ابن أمير المؤمنين ويُرسل رأسه إلى الشام، وإنّ الجائزة مقابل رأسهم ستكون [مئة] درهم أزيد مِن باقي الرؤوس. فقال الناس: إنّ هذا ساحر جدًّا وهو أكذب الكذّابين!۱ هذه المعرفة هي بهذا الشكل، هذه المعرفة هي الوجدان والشهود، فأهل العرفان يرون الوقائع والحوادث. على هذا، هل يمكننا أن نُنكرهم ونستنكرهم؟! أبدًا لا يمكن ذلك، فهذا إنكار للبديهة وإنكار للظاهر.
فعلى هذا، ما الفرق بين الحكمة وبين العرفان وبين الشريعة؟! مِن هذه الحيثيّة، فإنّ كلّ هذه العلوم تُنبئ عن حقيقةٍ واحدةٍ وعن مبدأ واحد.
الجهل هو علّة رفض بعض العلماء للحكمة والفلسفة والعرفان
فالسبب الوحيد لنفي علماء الفقه هذه العلوم [أي الحِكمة والعرفان] هو الجهل بالقضيّة، "الناس أعداء ما جهلوا"٢، فهم لا يعلمون شيئًا. فهؤلاء الّذين يتكلّمون [ضدّ] المسائل الحِكميّة، إذا سألتموهم عن مسألةٍ واحدةٍ لن يقدروا على إجابتكم ولو بكلمةٍ واحدةٍ، لا يقدرون أبدًا. كيف يمكن لشخص أن يتكلّم [ضدّ] هذه المسائل وينفيها، مع كونه عالمًا بها، كيف يمكن ذلك؟! [لا يمكن ذلك] أبدًا.
يروون رواية أنّ رجلًا رأى في المنام النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فسأله عن ابن سينا، فقال النبيّ للرجل: أراد [ابن سينا] أن يصل إلى الله تعالى بلا واسطتي، فألقيته في النار. هذا مع أنّه واقعًا ومِنَ المؤكّد أنّ ابن سينا كان مِن أفخر مفاخر عالَم الإسلام، وله اعتقاد عميق بالرسالة والنبوّة، وفي بعض المسائل الّتي لم يصل فيها إلى نتيجة صدّقَ النبيَّ [وأخذ بكلامه] وقال: إنّ عقلي لم يصل إلى المسألة الكذائيّة، ولكنّا نصدّق النبيّ، وبما أنّ الرسول الصادق المصدّق قد جاء بها، فلا بدّ أن نعمل بها وأن نعتقد بها. هذا موجود في كتبه، وهذا الإقرار موجود في كتبه، وهو واقعًا مِن شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وله أشعار في ذلك. ولكن هؤلاء الأفراد عنادًا وحقدًا بابن سينا، نسبوا إليه أمورًا وقحةً وقبيحةً، قالوا إنّه كان شاربًا للخمر وزانيًا، [أقول:] نعوذ بالله، فهذا واقعًا هو الحدّ الأقصى مِنَ الفظاعة والوقاحة، كيف [يُعقل] أن يفعل ابن سينا ذلك، مع ما له مِن معلومات وأمور وعلوم و...؟! واقعًا هذا مستحيل قطعًا.
ومضوا على هذه الطريقة، فكلّ مَن كان منعزلًا عن طريقتهم، نسبوا إليه الفضائح والقبائح والوقائح. مع أنّنا نرى الكثير مِنَ العلماء الربانيّين والفقهاء، قد كانوا مِنَ العرفاء، وأحدهم العلّامة الوحيد آية الله العظمى السيّد مهدي بحر العلوم، فقد كان واقعًا مِن مفاخر الشيعة، وقد ألّف كتابًا في السير والسلوك العرفانيّ، وذيّله السيّد الوالد رحمه الله ورضوان الله عليه، وطُبع هذا الكتاب تحت عنوان (رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم). فالسيّد بحر العلوم هذا، لا ينكره أحدٌ مِنَ العلماء، في العِلم والقداسة ونيله مراتب التجرّد والعرفان، وكان كثيرًا ما يتشرّف بخدمة مولانا صاحب الزمان، وكانت هذه المسألة مِنَ المسائل البديهيّة، ولا ينكر أحدٌ أنّه متى ما أراد يستطيع أن يصل إلى خدمة صاحب الزمان. وذكر العلّامة السيّد محسن الأمين العامليّ في (أعيان الشيعة) هذه المسألة، وعلى ما في خاطري أنّه قال [عن السيّد مهدي بحر العلوم]: واعتقد السواد الأعظم إلى الآن، أنّه مِن ذوي الأسرار الإلهيّة الخاصّة، ومِن أولي الكرامات والعنايات والمكاشفات. هذا كلام السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة، وبعد يقول – وهذه المسألة والجملة [الآتية الذِّكر] لا بدّ أن تتأمّلوا فيها – وممّا لا ريب فيه أنّه كان ذا نزعة مِن نزعات العرفاء والصوفيّة، وهذا يبدوا مِن ميله إلى العبادات والزهد والسياحة. يعني أنّ هذا العلّامة [السيّد مهدي بحر العلوم] لم يكن مِثله في التاريخ وهو نادرٌ، والسيّد محسن الأمين العامليّ أيّد ذلك، وكان يؤمن أنّه مِنَ العرفاء والصوفيّة.۱ إنّ السيّد مهدي بحر العلوم لا ينكره أحد، يعني أنّ جميع العلماء والفقهاء يعترفون بذلك ويعترفون بجلالة قدره ويعترفون بمرتبته. والشيخ جعفر كاشف الغطاء هو أحد العلماء والفقهاء الّذين قيل في حقّه: لو دُفنتْ جميع الكتب الفقهيّة واضمحلت، لكان الشيخ جعفر كاشف الغطاء قادرًا على تأليف الفقه مِن رأسه ومِن أوّله. فهذا الشيخ الجليل، أي الشيخ جعفر كاشف الغطاء – الّذي هو في تلك المرتبة – كان معاصرًا للسيّد بحر العلوم، فكان يمسح عمامته بغبار السيّد مهدي بحر العلوم، ويمسح عينه بغباره تبرّكًا٢. والميرزا القميّ صاحب القوانين وصاحب جامع الشتات، ففي أحد المؤلّفات الضخمة مِنَ الكتب الفقهيّة الشيعيّة، كان يقول أمام الفقهاء: بأبي أنت وأمّي – مخاطبًا السيّد مهدي بحر العلوم – بأبي أنت وأمي ماذا فعلت حتّى وصلت إلى هذه المرتبة. كان السيّد مهدي بهذا المقام والمرتبة، وهو الّذي أقرّ له السيّد محسن العامليّ في أعيان الشيعة أنّه مِن أعاظم العرفاء والصوفيّة، وعبارته موجودة في كتاب (أعيان الشيعة) راجعوها، مع أنّه كان مِنَ الفقهاء، وكان مِنَ الحكماء، فهل علينا [والحال هذه] أن نشكَّ في أنّ طريق السيّد مهدي كان طريقًا خاطئ؟! هل يجوز لنا ذلك؟! فماذا يقول أولئك العلماء في هذا الأمر، وبماذا يُجيبون؟! [فإنكارهم] هو واقعًا إنكار للبداهة.
ومن علماء هذا الصفّ وهذه المرتبة الشيخ الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ – واتفاقًا توجد قضيّة مِنَ المناسب أن أذكرها، ولكن مع ضيق المجال الآن نؤجّل ذكرها، وهي مرتبطة بالسيّد مهدي بحر العلوم، ففيها مطالب نذكرها إن شاء الله في الأيّام الآتية – فقد كان الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ مِن أعاظم الفقهاء والعلماء في النجف الأشرف، ولمّا هاجر إلى موطنه القريب مِن همدان، كتب بعض العلماء إلى المامقاني المعروف في النجف، وهو صاحب كتاب في الرجال، قالوا فيها: إنّ الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ هذا مِنَ الصوفيّة. فردَّ عليه [المامقاني] صاحب تنقيح المقال قائلًا: إن كان الآخوند مِنَ الصوفيّة، فيا ليتني كنتُ مِنَ الصوفيّة.
هناك جمعٌ كبير مِنَ العلماء الفقهاء، كانوا مِنَ الحكماء واقعًا، ومِنَ العرفاء. وباعتقادي أنّ جميع الأمور [الّتي يقول بها المخالفون للحكمة والعرفان] ناشئةٌ مِن الجهالة، يعني أنّ كلّ مَن تفوّه وردّ الحكمة والعرفان، هو لم يفهم مِنَ الحكمة والعرفان شيئًا أبدًا أبدًا، إذ كيف يردّ العرفانَ مَن له عِلم بالعرفان والحقائق؟! العرفان هو مشاهدة الله تعالى، ومشاهدة صفاته بالوجدان، ومشاهدة المبدأ والمَعاد، هذا هو العرفان، فهل يمكننا [حينئذ] أن ننكره؟! هل يمكننا أن ننكر المنام، والرؤية في المنام؟! أبدًا [لا يمكن ذلك]، والعرفان – الّذي هو مشاهدات – هو أعلى مِنَ الرؤية في المنام. فنحن لا ننكر الرؤية، أي الأمور الّتي نراها في المنام والّتي يتّفق تحقّقها وحدوثها بعد أسبوع أو سنة مثلًا أو غير ذلك، والحال أنّ العرفان – وهو مشاهدات [الحقائق] – هو أعلى مِنَ الرؤية في المنام، فكيف لنا أن ننكره؟!
حسنًا، حان وقت الصلاة الآن، وبقيت مسائل، وباعتقادي أن الباقي منها هو الأكثر، يعني أنّنا تكلّمنا عن ثلث المسائل المرتبطة بالعرفان والحكمة والشريعة، فإن شاء الله نتكلّم عن الباقي في اليوم الآتي، كعلّة مخالفة الفقهاء والعلماء للحكمة والعرفان، وردودهم على أهل الفلاسفة والعرفان والجواب على ذلك، فإن شاء الله وبحول الله تعالى [نتكلّم حول ذلك].۱
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد