المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم الفقه والأصول
الخلاصة
[مُقَدِّمَةُ المُعَلِّقِ]
...
صورة سماحة آية الله الحاج الشيخ حسين الحلي رضوان الله عليه
...
صورة سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد الحسين الحسينى الطهرانى قدس الله سره فى مكتبة منزله فى مشهد المقدّسة
بسم الله الرحمن الرحيم
يمثّل هذا الكتاب أحد تقريرات البحث الخارج التي دوّنها العلامة قدّس سرّه لأستاذه آية الله المحقّق الشيخ حسين الحلّي أعلى الله مقامه باللغة العربيّة، ولمّا كانت هذه الرسالة تحوز على أهميّةٍ خاصّة في العصر الحاضر وخصوصًا بعد إيراد المقدّمة والتعليقات والخاتمة القيّمة من قبل نجله سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله؛ لذا فقد قامت لجنة ترجمة وتحقيق «دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع» بتحقيق وإعداد أصل الرسالة، بالإضافة إلى تعريب كلٍّ من المقدّمة والخاتمة والتعليقات التي سطِّرت باللغة الفارسيّة، والعمل على نشرها ليستفيد منها الإخوة المؤمنون، ويستنيروا من بركات الأنفاس الطاهرة لكلمات المرحوم العلامة رضوان الله عليه.
وهنا نودّ أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى بعض الملاحظات والتنبيهات حول عملنا في تحقيق هذا الكتاب:
أوّلًا: قامت اللجنة باستخراج النسخة الخطيّة للكتاب وتنضيد حروفها على الحاسب، ومن ثمّ مراجعته لغويًّا وتصحيح بعض المواضع الطفيفة، وإضافة بعض الإضافات لإتمام سبك العبارة مع الحفاظ على المعنى، وقد وضعنا كلّ إضافةٍ بين معقوفتين هكذا: [...]، كما أضاف المعلّق خلال تعليقه على الكتاب بعض الإضافات التوضيحيّة لأصل المتن، وضعت كذلك بين معقوفتين، وميّزت بالهامش بالإشارة إليها بأنّها من قبل المعلّق حفظه الله.
ثانيًا: قامت اللجنة بتحقيق وتخريج المصادر التي ذكرت من آيات وروايات وإرجاعات في الكتب الفقهيّة والأصوليّة، مضافًا إلى المواطن التي يمكن الاستزادة فيها في نفس الموضوع من كتب العلامة، وأغلب التخريجات الواردة في الهوامش هي من قبل اللجنة، ولكن في
بعض المواطن كان هناك تخريجات من قبل نفس العلامة قدّس سرّه، فأشرنا إلى ذلك بعبارة [منه رضوان الله عليه].
ثالثًا: إنّ جميع العناوين الواردة في متن هذا الكتاب- بلا استثناء- قد وضعت من قِبل اللجنة، وليست من قبل المؤلّف قدّس سرّه، ولا من قبل المعلّق حفظه الله.
رابعًا: أورد المؤلّف قدّس سرّه بعض عبارات الاحترام فيما يتعلّق بأستاذه المحقّق الحلّي قدّس سرّه من قبيل: (مدّ ظله)، وقد آثرت اللجنة الإبقاء عليها كما هي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
لجنة ترجمة وتحقيق
«دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع»
مُقَدِّمَةُ المُعَلِّقِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الَلهمّ يا ذا العرشِ المجيد والمَنِّ القديم والعَطاء العَميم والصراط المُستقيم يا ذا الكلمات التّامَّات والدَّعَوات المُستَجابات، أفِض صِلَةَ صلواتِك وسلامةَ تسليماتِك على أوّل التَّعَينات المُفاضة من العَماءِ الربّاني وآخِرِ التنزّلاتِ المُضافة إلى النّوع الإنساني، كان اللهُ ولم يَكُن مَعهُ شيءٌ ثاني، وَعَلى آلِهِ الأطهار المُنتَجَبين الأخيار الّذين أذهَبتَ عَنْهم الرّجسَ أهلَ البيت وطَهَّرتَهُم تَطهيرًا
الحمدُ والثناءُ الدائمُ لذات ذي الجلال الذي منَّ على هذا الحقير المسكين ووفّقه للقيام بطبع ونشر أحد أنفس وأرقى الآثار العِلميّة للعالم بالله وبأمر الله؛ سماحة العلّامة آية الله على الإطلاق السيِّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ روحي له الفداء.
يرجع هذا السِّفر القويم إلى فترة تحصيل سماحته وإقامته في النجفِ الاشرفِ؛ مهبطِ الملائكة الحارسة لمقام حضرةِ مولى الموالي صاحبِ الولاية الإلهية المُطلقة غير المتناهية؛ أمير المؤمنين عليه السلام، والتي تسمّى رسالة الاجتهاد والتقليد. وهذه الرسالة ثمرةٌ من ثمار حضوره لدرس العالم العابد الورع والعلّامة الخبير المتضلّع أستاذ الأساتذة آية الله العظمى المرحوم الحاج الشيخ حسين الحلّي أعلى الله مقامه.
أحوال آية الله الشيخ حسين الحلّي رضوان الله عليه
أوّلًا: امتيازه بصفاء النفس والإحاطة العلميّة والثقافة المعاصرة
لقد كان المرحوم العلّامة الطهراني رضوان الله عليه في حياته يتحدّث عن هذا العالم جليل القدر، ويذكر علوّ روحه وصفاءَ ضميره وخلوص نيّته، ويمتدح قدرته العلميّة واطّلاعه الواسع على المباني والفروع، وإحاطته العجيبة بأحاديث المعصومين عليهم السلام وآثارهم، وذلك بالإضافة إلى إشرافه على التاريخ والتفسير والكلام، ووقوفه على الأفكار المعاصرة التي كانت تطرح في زمنه والقضايا التي جاءت من ثقافة الغرب وحضارته. وكان يرى أنّ هذه المسألة أثرت في تشكّل ذهنه الوقّاد وإدراكه المتين، وإتقانه للمسائل والمباني. وكان المرحوم الوالد يتعجّب من مطالعاته للكتب الماركسيّة وعقائدهم، وكذلك اطّلاعه على المباني الواهية والخرافية لداروين وفلسفته حول كيفيّة خلق الإنسان .. وبشكل عامّ اطّلاعه على مباني الدهريّين كلّها.
يقول السيّد الوالد:
«ذهبت يومًا إلى منزله لاستيضاح بعض الإشكالات التي كانت لديّ ورفع الإبهام عنها، وفي أثناء البحث، وبمناسبة ما، دلّني على صندوق كبير، فلمّا فَتح غطاءه؛ رأيت أنّ هذا الصندوق كان مليئاً بأوراقٍ وكتاباتٍ لسماحته، ثمّ قال لي: لقد جمعت هذه الكتابات كلّها من كتب المادّيين».
وكان سماحته عجيبًا كذلك في تضلّعه بالتاريخ، وبالأخص تاريخ الإسلام، حيث كان كثيرًا ما يستشهد في دروسه الفقهيّة والأصوليّة ببعض النكات التاريخيّة الدقيقة؛ لإثبات مطلب معيّن.
وأمّا تضلّعه في الفقه والأصول؛ فكان جاريًا على كلّ لسانٍ من ألسنة أهل الفنّ في حوزة النجف، فقد كان من أبرز تلامذة المرحوم النائيني قدّس سرّه، بل كان الكثير من العلماء يرجّحونه على أستاذه.۱ وقد وصلت دقّة نظره وإحاطته بالمدارك الفقهيّة أحيانًا إلى حدّ يُثير الإعجاب، فكثيرًا ما كان يأتي أثناء بحثه بروايةٍ أو كلامٍ من أبحاثٍ أخرى؛ لم يكن أحدٌ يتوقّع أن يكون لها دخالةٌ في إثبات المطلب الذي هو فيه أو تأييده. وفهم هذه النكتة ممّا لا يتيسّر لغير الخبراء بمباني الاستنباط والمجتهدين المتضلّعين، وسوف نُشير إلى مواطنها في هوامش هذا الكتاب إن شاء الله.
ثانيًا: ابتعاده عن حطام الدنيا وحذره من المحيطين به
وأمّا ابتعاده عن المسائل الاجتماعية ومنصب المرجعيّة والأمور الحسبية، والتزامه التقوى والابتعاد عن حطام الدنيا وهوى النفس؛ فتلك حكاية مفصّلة.
لقد كان السبب في تردّد هذا العظيم في التصدّي لهذا المنصب أو عدمه منحصرا في حفظ كرامة الإسلام وشؤون الشريعة، بل كان هذا هو الهدف المحرّك له في كلّ خطوةٍ خطاها. وفي كلّ مورد كان يتوقّف فيه، كان يرجّح مصالح الإسلام على منافعه الظاهريّة ومصالحه الدنيويّة، ولم يكن يُعير اهتمامًا لإغواء أهل الدنيا وإغراء المتملّقين، بل كان حريصًا على نفسه أن لا يغلبها الهوى فتتكالبَ على جيفة الدنيا والرئاسات. ولم يكن يسمح لأحد أن يتدخّل في أموره الخاصّة، إذ كان شديد الحذر من المحيطين به ومن أصحاب بيوت الفتنة.
سيرة العلماء العظام وتحذيرهم من المحيطين بهم
وهكذا كان منهج جميع الأعاظم والمنتجبين الإلهيين؛ حيث كانوا يحذَرون من أعمال المحيطين بهم والمتنفّذين من أصحابهم، وبالأخصّ الأقارب والمنتسبين إليهم، ولم يكونوا يغفلون عن أدنى حركة وتصرف منهم.
تحذير المرحوم العلّامة
وكان المرحوم الوالد رضوان الله عليه يحذّر الحقير من الوقوع في مثل هذه الفتنة، ويقول:
«كن شديد المراقبة للمحيطين بك والمقرّبين منك، فهؤلاء المريدون والحواريون يُرْدون الإنسان في الهاوية من حيث لا يشعر، ويلقون به في طريق الشيطان دون أن ينتبه، وذلك باعتمادهم لطائف الحيل وتشويه الأفكار وبيان خلاف الواقع، ويعملون على تغيير الأحداث وتأويلها بما يتوافق مع ميولهم النفسانيّة، ويحاولون دائمًا بالوسوسة والتملّق والمكر أن يجذبوا ذهن الإنسان ونفسه، ويدنوها من أفكارهم وتلبيساتهم الشيطانيّة، ويقومون في هذا الصدد بأعمال ماهرة ويسلكون سبلًا ماكرة؛ لكي يقدّموا أنفسهم أمام الإنسان كالأب الرؤوف والأخ الشفيق والصديق الرفيق، إلى درجة أنّه لا يعود يحتمل في كلامهم أيّ مكرٍ ونفاق، ولا يتوقّع في تصرفهم أيّ تزوير؛ فيقرّبهم منه ويأخذهم معه في سفره وحضره، ويستفيد من مكرهم وتزويرهم في تنظيم الأمور الدنيويّة وتنسيق النظام الاجتماعي، ويرجّح آرائهم وأفكارهم على آراء الأشخاص المشفقين البعيدين عن الهوى النفسي والهوس الشيطاني، فلا يترك مجالًا لنصح الناصحين ووعظ المشفقين أن يترك أيّ أثرٍ عليه، بل يحاول الابتعاد عن اللقاء بهم قدر الإمكان».
فإذا استمرّ أمره بهذا الشكل؛ فلن يطول الأمر به حتّى تتبدّل ذهنيّته وطريقة تفكيره، وينقلب أسلوب تصوّره وترتيب قياساته إلى أسلوب تفكير أولئك الشياطين، بل قد يسبقهم في ذلك، وعندها سوف يقع في المهالك والخسران الأبدي. وفي نهاية الأمر سيصبح من السبّاقين في مواجهة شدّة الغضب الإلهي والمبادرين إلى الورود في نار جهنم و دار النكبة والبوار الأبديّ.
طرد آية الله السيّد عبد الهادي الشيرازي أحد المنتسبين إليه
يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
«لقد كان المرحوم آية الله السيد عبد الهادي الشيرازي أعلى الله مقامه من جملة أعاظم النجف الأشرف والفقهاء المعروفين فيها، ومن الذين وصلت
إليهم المرجعية العامّة، وكان قد طوى مراحلَ في تهذيب النفس وتحصيل الحالات المعنوية والدرجات الروحانيّة والمكاشفات البرزخيّة، بحيث أنّه كان في كثيرٍ من الليالي يفقد القدرة على النوم، فيبقى مستقيظًا إلى الصباح؛ بسبب غلبة الواردات الملكوتيّة والبوارق الإلهيّة، فكان يصِل الليل بالنهار لغلبة تلك الجذبات الربانيّة.
هذا الرجل عندما شاهد أن بعض المنتسبين إليه يتدخّلون في أمور مرجعيّته وكيفيّة علاقاته الاجتماعيّة؛ طردهم من بيته، وأبعدهم عنه، ولم يفتح لهم المجال بالعودة إلى آخر عمره».۱
نعم، هكذا كانت سيرة الرجال الإلهيّين الذين كانوا يرجّحون المحافظة على حريم الشرع وصيانته على مصالح هذه الدار الفانية وتعيّناتها، ولم يكونوا يرضون ببيع لؤلؤ الفلاح والحياة الأخرويّة بزبارج الرفاهية الدنيويّة واللذّة الشهوانيّة الدنيّة:
«صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِيْرَةً أَعْقَبَتْهُم رَاحَةً طَوِيْلَةً»
٢.
ثالثًا: إعراضه عن المرجعيّة ودعمه لمرجعيّة السيّد الحكيم
لقد كان المرحوم آية الله الحاج الشيخ حسين الحلّي أعلى الله مقامه من هؤلاء الأشخاص، فعندما شاهد هذا الرجل العظيم- الذي كان يُعدّ بطل ميدان العلم والفقاهة، والشخص الفريد في مضمار المرجعيّة- أنّ المرحوم السيّد الحكيم قدّس سرّه قد تقدّم عليه وسبقه في الحصول على هذا المنصب من الناحية الظاهرية؛ أعرض عن إدامة السعي للوصول إلى المرجعية، وأعلن تركه للاستمرار في التصرفات
المؤديّة إلى هذه الورطة، وحذّر المحيطين به والمتصدّين لتنظيم هذه المسؤولية من الاستمرار في هذه الحركة، وقال: إنّ استمرارنا في متابعة قضيّة المرجعيّة يعدّ من الآن فصاعدًا سببًا لإضعاف الإسلام وتوهين الدين المبين.
ومع أنه كان- بلا شك- متفوقًا قطعًا من الناحية العلميّة على المرحوم السيّد الحكيم، إلّا أنّه صار يُشارك في مجالسه العلميّة، ويحضر جلسات الاستفتاء التي كان يُقيمها، ويُجيب على الرسائل والأسئلة الواردة إليه، وبقي إلى آخر عمره الشريف مؤيّدًا ومسدّدًا للمرحوم السيّد الحكيم، ومستمرًا في الحضور في هذه المجالس.۱
رابعًا: تواضعه أمام الأولياء الإلهيين والعرفاء بالله
وكان المرحوم العلامة الشيخ حسين الحلّي يذكر مراتب الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله بتواضعٍ خاصّ، وكان يرى نفسه لا شيء في مقابلهم، بل كان يعترف بعظمة روحهم وعلوّ منزلتهم وحقارته أمامهم، ويعتقد بأنّ الوصول إلى المدارج الراقية للتوحيد والتجرّد إنّما هو نصيب المنتجبين من العرفاء الشامخين والعلماء بالله وبأمر الله، بينما كان يرى نفسه فاقدًا لمثل هذه المراتب من القرب والتجرّد.
يقول المرحوم الوالد رضوان الله عليه:
«كان المرحوم الحلّي- عند ذكر مقام المرجعية العامّة وشروط التقليد في درسه- يتطرّق أحيانًا إلى ذكر الرواية المعروفة:
«وأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ صَائِنًا لِنَفْسِهِ، حَافِظًا لِدِينِهِ، مُخَالِفًا عَلَى هَوَاهُ، مُطِيعًا لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوه»
٢، وكثيرًا ما كانت دموعه تتساقط من عينيه عند قراءته لها، ويقول: هذا المقام إنّما يليق بشأن خواصّ السالكين للطريق، الواصلين إلى الحريم
الإلهي، لا بأمثالي أنا ال- ...۱ الذي لا خبر له بهذه المقامات ولا معرفة لديه؛ فهذه المقامات لا علاقة لنا بها، بل نحن غرباء عن كنهها وحقيقتها».
كانت هذه شمّةً من أحوال المرحوم الحلّي رضوان الله عليه وأوصافه، فقد كان شخصيةً نادرة الوجود في حوزة النجف العلميّة، حيث اتّفق الجميع على تفوّقه العلمي على أقرانه وأمثاله، ولم يكن لدى أحدهم أيّ تردّد في صفاء باطنه وخلوص أفعاله؛ حتّى أن المرحوم الوالد- قدس سره- كان يُطلق عليه «العلّامة الحلّي الثاني».
قدَّس الله سرّه، ورضوانه عليه، وحشره مع أوليائه المقرّبين، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرَ جزاء المعلّمين والمربّين، بمحمّد وآله الطّاهرين.
أحوال آية الله العلّامة الطهراني رضوان الله عليه
وأمّا الشخصيّة الأخرى في هذا الكتاب والذي كان على عاتقه تقرير مطالب الدروس، والذي تتلمذ على المرحوم الحلّي، فهو سماحة آية الله العُظمى وحجّته الكبرى افتخار مدرسة التشيّع والإسلام ومحيي أركان الشريعة الغرّاء، حامل لواء مدرسة التوحيد والعرفان، زعيم مدرسة الولاية والإمامة، الكامل بالكمالات الربّانيّة، الوافد على حريم الكبرياء السبحاني، المتحقّق بفقه الله الأكبر، حسنة الدهر، وفريد العصر، العالم بالله وبأمر الله، سيّد الفقهاء والمجتهدين، المرحوم الوالد المعظّم الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني- أفاض الله عليه من نفحات قدسه، وأنار الله براهينه في المعارف الحقّة الإلهيّة- إنسان العين وعين الإنسان.
گرچه تفسير زبان روشنگر است *** ليك عشق بىزبان روشنتر است
***
چون قلم اندر نوشتن مىشتافت *** چون به عشق آمد قلم بر خود شكافت
عقل در شرحش چو خر در گل بخفت *** شرح عشق و عاشقى هم عشق گفت
آفتاب آمد دليل آفتاب *** گر دليلت بايد از وى رو متاب۱
كلُّ شىءٍ قاله غيرُ المُفيق *** إن تَكلّف أو تسلَّف لا يَليق
من چه گويم يك رگم هشيار نيست *** شرح آن يارى كه او را يار نيست
چون سخن در وصف اين حالت رسيد *** هم قلم بشكست و هم كاغذ دريد٢ و٣
***
لقد كان قطعًا ويقينًا من المصاديق التي لا تُنكر لكلام المولى أمير المؤمنين عليه السلام، حيث قال:
«هَجَمَ بِهِمُ العِلمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَبَاشروا رُوحَ اليَقِينِ، وَاسْتَلانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهِ آهِ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِم».
٤
أوّلًا: حياته العلميّة
لقد كان المرحوم العلّامة الوالد- قدّس الله رمسه- من الفقهاء المعدودين الذين يأخذون حقيقة ملاكات الأحكام وكنه مباني التشريع وموازينه من مصدر الولاية ومنبع الرسالة، ومن هنا يمكن عدّه عديم النظير في عصره.
على صعيد الفلسفة والحكمة، استفاض سماحته واستفاد من محضر فيلسوف الشرقّ وأستاذ الكلّ في الكلّ العلّامة الطباطبائي قدّس سره، وذلك لمدّة سبع سنواتٍ ليلًا ونهارًا، بحيث صار يُعرف بين فضلاء وعلماء حوزة قم بزميل وأليف بيت العلّامة الطباطبائي. ثمّ إنّه بواسطة ذهنه الوقّاد واستعداده الذي يقلّ نظيره وحافظته المدهشة، حصل على عمق الحكمة المتعالية وكنهها، وعلى مبانيها الرصينة الرشيقة. وكان بنفسه صاحب نظر في الآراء الحِكَميّة، بحيث أنّ العلّامة الطباطبائي، ولتحقيق مزيد من الإفاضة والإفادة لتلميذه؛ رأى نفسه مُلزمًا بعقد جلساتٍ ثنائيّةٍ خاصّةٍ بهما. وكان يقول:
«لا يمكنني أن أجيب على أسئلتكم في مجلس الدرس؛ فهو لا يحتمل طرح مطالبكم، ولذا فإنّنا سنطرحها في الجلسة الخاصّة».
وفي ذلك الحين انتظم تحت إرشاد المرحوم العلّامة الطباطبائي السلوكي والعرفاني لمدّة سبع سنين، ولم يكن ليتوانى طيلة هذه المدّة عن الالتزام بالبرنامج السلوكي، والاشتغال بالأذكار والأوراد، وقيام الليل والمراقبة. وبعد الهجرة إلى العتبة المقدّسة لأمير المؤمنين عليه السلام وباب مدينة علم سيّد المرسلين، استفاد العلامّة الطهراني لمدّة سبع سنين من محاضر أساتذة ذلك الزمان آية الله الحاج الشيخ حسين الحلّي والسيّد الخوئي، والسيّد الشاهرودي والشيخ آقا بزرك الطهراني، حتّى صار مشارًا إليه بالبنان بين كافّة علماء النجف وفضلائها، وكما يذكر فضلاء النجف، فإنّه لو بقي في حوزتها؛ لآلت إليه مرجعيّة الشيعة المطلقة.
ثانيًا: حياته المعنويّة
وفي زمان إقامته في النجف كان- إضافةً إلى جِديّته واهتمامه الفائق بالأبحاث العلميّة والفنون الظاهريّة- مستمرًّا على العمل بالبرامج السلوكيّة للمرحوم الأستاذ العلّامة الطباطبائي، وكان يتشرف بمجالسة ومؤانسة الفقهاء الصالحين والعباد المكرمين: المرحوم آية الله السيّد جمال الدين الموسويّ الگلپايگاني، وآيةالله السيّد عبد الهادي الشيرازي، وآية الله هاتف القوچاني، وغيرهم. وفي تلك السنوات انفتح له باب التواصل مع العارف الواصل ومربّي النفوس المرحوم آيةالله الأنصاري الهمداني قدس سرّه، فكان من مريديه واستفاد واستنار من محضره لسنواتٍ متماديةٍ.
لقاؤه بالعارف الكامل السيّد الحداد رضوان الله عليه
ثمّ إنّه في السنة الأخيرة من إقامته في النجف عثر على ضالّته، ووصل إلى مراده ومطلوبه الذي كان لسنوات طِوال ينتظر رؤيته وملازمته، وكان قد أوكل أمر ذلك إلى يد التقدير. فبعد مشاهدته للجمال عديم النظير للعارف الكامل سماحة الحاج السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله عليه، الذي كان من تلاميذ سماحة سيّد الفقهاء والصدِّيقين وسند الأولياء الكاملين؛ المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّدعلي القاضي رضوان الله عليه في السلوك والعرفان، نعم بعد مشاهدة جماله؛ لم يبقَ في قلبه وفكره وضميره موضعٌ لسواه، فأوكل قلبه ودينه كاملًا لهذا الوليّ الربّانيّ، فوصل إلى أوج المقصود وذروة المطلوب.
كان المرحوم العلّامة الطهراني يقول مرارًا:
«عندما وصلت إلى الحدّاد وصلت إلى كلّ شيء، لقد كان رجلًا مختلفًا عن سواه بالنسبة لي».
إنّ التتلمذ على يد أستاذٍ كهذا لمدّة ثمانية وعشرين عامًا، والوصول إلى مراتب الشهود والفناء في الله والرجوع إلى عوالم البقاء، قد جعل منه عارفًا وفقيهًا وحكيمًا عديم النظير، بحيث أضحى «سيّد الطائفتين» على حدّ تعبير أستاذه.
ثالثًا: نشاطه في التبليغ والتأليف بعد عودته من النجف
وبعد عودته من النجف، كرّس المرحوم العلّامة الطهرانيّ همّه للوعظ والإرشاد وتربية النفوس المستعدّة، والأخذ بأيدي المتحيّرين في سيرهم وسلوكهم إلى الله، وذلك طيلة اثنتين وعشرين سنة في مدينة طهران. وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران التجأ سماحته إلى العتبة المقدّسة لثامن الحجج عليه السلام، فقضى ما تبقّى من عمره في التأليف والتصنيف لـ «دورة العلوم والمعارف الإسلاميّة». وفي هذه الكتب والمقالات، أوضح سماحته مباني مدرسة التشيّع وأصولها وبيّنها، وحقّاً يمكن أن نقول مذعنين بأنّ ثقافة الشيعة لم تشهد حتّى الآن مؤلّفاتٍ جذّابةً وغنيّةً ورفيعةَ المضامين كهذه.
امتياز مؤلفاته بالترشّح من الأفق الأعلى والتأثير المتكرّر في النفس
لقد ترشّحت أبحاث سماحته وكتاباته ومحاضراته من ذلك الأفق الذي تحدّث منه حملة راية الدين الحنيف، وحملة الوحي، وهذه هي نتيجة اندكاك وانمحاء نفسه المقدّسة في ساحة الوِلاية الكبرى. ولذلك فإنّ القارئ لا يملّ من تكرار مطالعتها والتحقيق فيها. ويعترف هذا الحقير بعد مضيّ عمرٍ من الاشتغال بكتب عظماء الدين وزعمائه، بأنّي كلّما قرأت بحثًا من بحوثه، ولو تكرارًا، انفتحت أمامي حقائق جديدةً مختلفةً عمّا كان لديّ، تمامًا كما كان المرحوم القاضي رضوان الله عليه يقول:
«لقد قرأت كتاب مثنوي لمولانا جلال الدين الرومي قدس الله سرّه ثماني مرّات، وفي كلّ مرّةٍ كان ينكشف لي معنىً جديدًا يختلف عن المعاني السابقة».
امتياز منهجه الفقهي بكشف الستار عن آفاق التوحيد والولاية
لقد كان العلّامة الطهرانيّ في طرحه للمباني الفقهيّة يكشف الستار عن آفاقٍ لا يمكن أن يطلع عليها إلّا من كان قلبه وضميره فانيًا في عوالم التوحيد والولاية.
ومثل هذه المباني والمطالب العالية والحقائق الراقية لم يكن ليقبل بها ويدركها كلّ إنسان، فحتّى أساتذته الموقّرون كالعلّامة الطباطبائي كانوا على خلاف معه في بعضها.
وكان الحقير شاهدًا في بعض الجلسات مع العلّامة الطباطبائي، حيث كان بينهما اختلاف في بعض المسائل السلوكيّة والفقهيّة ومسائل التقليد، وكان كلّ منهما ينظر إليها من أفقٍ معيّنٍ. والآن حيث حصل لهذا القلم توفيق ذكر الصالحين؛ فإنّني حين أنظر إلى تلك الأبحاث والمسائل؛ أحني رأسي تعظيمًا وانكسارًا أمام ساحة المرحوم العلّامة الوالد قدس سرّه، وأبعث السلام إلى الروح العظيمة لذلك الرجل الإلهي وبطل عرصة المعرفة والإتقان، رضوان الله عليهما.
ولكنّ الفارق بينه وبين سائر أساتذته؛ سواءً في قم أم النجف غير قابل للقياس. وهذا الحقير، وبعد سنواتٍ قضاها في الحوزات العلميّة، وبعد ثلاثين سنةٍ من الدراسات والأبحاث العالية، قد بدأ الآن بفهم مبانيه وآرائه في الفلسفة والعرفان والفقه بما يتناسب وحدود قدرتي وفهمي. وسأعمل بحول الله وقوّته على نشرها وتفسيرها وتبيينها لعشّاق مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وطلّاب مدرسة الولاية والإمامة، بما تتيحه لي الظروف إن شاء الله تعالى.
نموذج: جواز هدمِ الوقف من أجل توسيع الحرم الرضوي
ولأجل اتّضاح المسألة، وتذكيرًا وتنبيهًا للإخوة الفضلاء والمجتهدين وأهل العلم، أرى من المناسب أن أتعرّض لقصّة شهدتها بنفسي، وكنت ناظرًا على مجرياتها، فأدركت من خلالها عيانًا حقيقة المباني المتقنة والدقيقة لمدرسة الولاية وزعمائها الحقيقيين الذين يليقون بها.
في السنوات التي حطّ المرحوم الوالد قدّس سرّه رحل إقامته في مشهد المقدّسة، واعتكف في حريم وحرم كبرياء ثامن الأئمّة أرواحنا فداه، جاء لزيارته ذات يومٍ، أحد علماء طهران المعروفين الذي تشرف بزيارة مشهد، وكنت حاضرًا في المجلس، فتطرّق الحديث لهدم مدرسة «خيرات خان» وضمّها إلى الحرم المقدّس تحقيقًا لراحة الزائرين. وكان هذا العالم في غاية الغضب، ويُدين هذا العمل بعباراتٍ شديدةٍ وغير مألوفةٍ، إذ كان واضحًا أنّه من مسؤولي هذه المدرسة، فقال:
«لقد ذهبت إلى طهران قبل أن يعملوا على هدمها، وعرضت الأمر على المرحوم آية الله الخميني وقلت له: انظروا ما الذي يصنعونه في زمان مسؤوليّتكم وسلطتكم، إنّهم يخالفون الشرع جهرًا ويهدمون وقفًا ويبدّلون عنوانه. فتأثّر لكلامي بشدّةٍ، وأخذ يرتجف، وقال:" اتصلوا بمسؤول الحرم المطهّر فورًا وقولوا له أن يُقلِع عن ذلك"».
قال ذلك العالم:
«فخرجت من عنده واتصلت بمشهد لأبلغ رسالته إلى المسؤول، لكن مهما سعيت، لم أكن لأحظى بالحديث معه، وفي النهاية سبق السيف العذل، وهُدِمت المدرسة، وزال الوقف وانعدم».
بعد أن أنهى كلامه قال المرحوم الوالد قدّس سرّه:
«ذهب المنصور الدوانيقيّ عليه اللعنة، إلى مكّة في عهد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وعند الطواف رأى أنّ صحن المسجد الحرام لا يسع الحجّاج، لذا قرّر أن يشتري البيوت التي حوله ليوسّعه، فطلب من أربابها أن يشتريها منهم، فقبل بعضٌ وامتنع آخرون، عند ذلك احتار المنصور الدوانيقيّ في شأنهم، فدعا الفقهاء واستفتاهم، فحكموا مجمعين بأنّه لا يمكنه أن يقوم بتوسيع المسجد؛ لأنّ هؤلاء هم المالكون الشرعيّون للبيوت، وأخذها منهم بالقوّة والقهر غصبٌ محرّمٌ، فلا سبيل سوى صرف النظر عن أخذ هذه المنازل.
فلم يجد المنصور طريقًا للحل سوى أن يسأل الإمام الكاظم عليه السلام، فكتب إليه الإمام عليه السلام: قُل لهؤلاء الفقهاء هل بناء الكعبة كان متقدّمًا على تملّك أصحاب البيوت، أم تملّك البيوت كان متقدّمًا، وبعبارةٍ أخرى: هل كانت الكعبة في جوارهم أم هم كانوا في جوارها والتجأوا إليها متبرّكين؟
فإن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها. أي أنّهم لو كانوا قد سكنوا المكان قبل بناء الكعبة ثمّ بنيت الكعبة في جوارهم، فالحقّ لهم. وإن كانت الكعبة بنيت قبلهم وقد لجأوا إليها هم وآباؤهم وأصحاب هذه البيوت، فالحقّ للكعبة ولبيت الله الذي هو للناس كلّهم إلى يوم القيامة، ولا يحقّ لهؤلاء أن ينقصوا من حقّ الكعبة، ويحدّوها. وإن لم يرضَ هؤلاء الناس بترك بيوتهم فتصرف بها وأعطهم عوضًا عنها منازل في أماكن أخرى.
جمع المنصور الدوانيقي الفقهاء وقرأ عليهم فتوى الإمام موسى بن جعفر فتحيّر الجميع أمام فتواه المتينة والعجيبة».۱
وبعد أن نقل المرحوم الوالد رضوان الله عليه هذه القصّة قال ذلك العالم فورًا:
«يا سيّد كيف تقايسون بين حادثة مكّة حيث الحجّ واجبٌ، وبين زيارة الإمام الرضا- عليه السلام- المستحبّة؟
ولو كانت هذه المسألة صحيحةً! فهل يمكن أن نحكم بجواز السرقة لمن لم يتمكّن من تحصيل الماء لغسل الجمعة المستحب، وذلك ليحصل له توفيق اغتسال غسل الجمعة».
ثمّ تابع في بيانه للمطلب بضحكةٍ تحكي عن نوع من الاستخفاف قائلًا:
«إنّ زيارة الإمام عليه السلام مستحبّةٌ، وتخريب الوقف حرامٌ شرعًا، ومتى أمكن أن نقارن بين المستحبّ والحرام ونقدّمه عليه؟! فما هذا الكلام الذي
تتفضّلون به؟
إضافةً إلى ذلك، فإنّ ما نحن فيه يختلف عن قضيّة مكّة، فهناك الكعبةُ بُنيت أوّلًا، ثمّ جاء الناس فسكنوا حولها، أمّا ما نحن فيه فقد كان هناك قرية تسمّى سناباد، ثمّ جيء بالبدن المطهّر للإمام الرضا عليه السلام ودفن فيها، فهنا حقّ الناس هو المقدّم على حقّ الإمام عليه السلام».
هنا لم ينبس المرحوم الوالد رضوان الله عليه ببنت شفة، وظلّ صامتًا، وبقيت أنا في حيرةٍ واستغرابٍ! إذ كيف سيطر الجهل وعدم الاطلاع على هؤلاء حتّى لم يعودوا يميّزون بين استحباب زيارة الإمام الرضا، وبين استحباب غسل الجمعة وأكل الجوز مع الجبن؟! وا أسفاه! وا مصيبتاه! واجهلاه!! فلمن يُشتكى هذا المصاب بأنّ: ناموس التشيّع ووجود مدرسة الحقّ بل كلّ حياة المسلم وكلّ ما يملكه المسلم؛ هو هذه الولاية والإمامة، وبدونها لسنا جميعًا سوى صفر صفر صفر.
وفي اليوم التالي كنّا نتشرف بدخول الحرم المطهّر برفقة المرحوم الوالد فقلت له: مولانا! إنّ هؤلاء أصلًا لا يدركون ما تفضّلتم به لكي يتفكّروا فيه، ولا يمكن لأفقِ إدراكِ هؤلاء الأفراد وفهمهم أن يصل إلى هذه المباني والمطالب.
فقال سماحته:
«بلى، هؤلاء يتصوّرون أنّ زيارة الإمام الرضا عليه السلام مثل سائر المستحبّات، ومثل زيارة أيّ مكانٍ آخر هنا أو هناك. إنّ ألف وقفٍ لا قيمة له في مقابل زيارةٍ واحدةٍ للإمام الرضا عليه السلام، فالوقف فانٍ ومنمحٍ فيها، وكلّ شيءٍ هو في الولاية، وينبغي أن تكون الولاية رأس وتاج كلّ شيء، وينبغي أن نقيّم كلّ شيءٍ على ضوء دوره في تحقيق الولاية».
ثمّ قال:
«إنّ هؤلاء لا يفقهون شيئًا من الدين والشريعة سوى بعض المفاهيم والألفاظ».
وهنا يقول الحقير: ليس هذا الكلام منّي ومن أمثالي، إنّه كلام منْ كان معروفًا بين الجميع في حوزة النجف بالكياسة والدِراية والاحتجاج والحكمة والإتقان. وهذا هو الفرق بين الفقيه العارف الذي انكشفت لناظره عين الوحي ومنبع الأحكام، وبين من يسير بمعرفةٍ سطحيّةٍ عاميّةٍ في أدنى المراتب.
وهنا تغدو المسألة في غاية الخطورة والحساسيّة، وخصوصًا بالنسبة للأخلّاء الروحيين والفضلاء المكرّمين الذين يتولّون أمور أيتام آل محمّد، حيث عليهم أن يكونوا في غاية الانتباه والحذر لموقعيّتهم، وللظروف التي تحيط بهم، كيلا يغلبهم- لا قدّر الله- الهوى ووسوسة الشيطان والتوهّمات، فيسيروا في غير طريق الحقّ والصدق، وكيلا يحملوا من المسؤوليّات ما لا يحتملون. بل يراعوا دائمًا الاحتياط والحزم.
رابعًا: الاهتمام الشديد بمسألتي التقليد والمرجعيّة
لقد كان للمرحوم العلّامة اهتمامٌ شديدٌ بموضوع التقليد والمرجعيّة، والذي يمثّل أمرًا أساسيًّا في حياتنا، فكان يرى أنّ الشخص المؤهّل الوحيد لذلك هو من اتصلت نفسه بعالم الملكوت ومنبع التشريع، وكان يرى أنّ تصدّي من لم يتّصف بذلك تجاوزٌ لحريم هذه المسؤوليّة الإلهيّة الخطيرة، وإبّان حياة المرحوم العلامة الطباطبائي- قدس سرّه- كان يرى أنّه هو الوحيد الذي يحوز مرتبة التقليد والمرجعيّة والإفتاء.
تنبيهه لآية الله الشيخ بهجت قدّس سرّه على مخاطر المرجعيّة
وأذكر أنّه في يومٍ من الأيّام، زار المرحومُ الشيخ بهجت قدّس سرّه المرحومَ الوالدَ قدس سرّه، فجرى الحديث عن مسائل مختلفة، وفجأة التفت المرحوم الوالد إلى المرحوم الشيخ بهجت وقال:
«لفتت نظري مسألةٌ وهي: لو كانت أغسال الإنسان باطلةً مدّة ثلاثين سنةٍ، فما هو حكم الصلوات التي صلّاها خلال هذه المدّة؟»۱
الدر النضيد في الإجتهاد و التقليد و المرجعية ؛ ص٥۱
فقال المرحوم الشيخ بهجت:
«لا إشكال فيها؛ لأنّه لا يشترط الموالاة في غسل أجزاء البدن، بل يصحّ الغسل حتّى مع التراخي، وعليه فيكون قد غسل رأسه قهرًا ضمن الغسل الأول، والجانب الأيمن في الغسل الثاني، والأيسر في الثالث، فيكون قد اغتسل غسلًا كاملًا!!»
لم يتمكّن الحقير في ذلك المجلس من كتمان الاستغراب من هذا الجواب، ففي النهاية كيف صحّت الصلوات المأتيّ بها ما بين الأغسال التي قد تفصل بينها عدّة أيام؟!
وثانيًا: إنّ التراخي الجائز في الغسل هو الذي يكون في حدود التراخي العرفي، لا بشكل مطلقٍ ولا محدود.
وثالثًا: إنّ الترتيب بين أجزاء الغسل لا بدّ أن يكون مقرونًا بالنيّة كالوضوء، وحيث أنّه فيما نحن فيه قد تمّ بغير نيّةٍ، فلا أثر يترتّب عليه، خلافًا للغسل الارتماسي الذي يتمّ بنيّةٍ واحدةٍ.
لقد تعجّبت من طرح المرحوم الوالد لهذا السؤال، ولم أكن أعلم ما هو الدافع الذي دفعه إلى ذلك. ولم يكن المرحوم آية الله بهجت قد تصدّى رسميًّا للمرجعيّة آنذاك، بل حتّى لم تكن قد شرعت بعدُ مقدّمات ذلك.
وبعد أن خرج من المنزل، قلت للمرحوم الوالد: ما قصّة هذا السؤال الذي طرحتموه عليه، وهذه الإجابة التي أجاب بها؟
فقال في الجواب:
«كنت أريد أن أفهمه أنّ التصدّي للمرجعيّة والقبول بمسؤوليّة الإفتاء العام هي مسألةٌ خطيرةٌ جدًّا وحسّاسةٌ، وأنّ على الإنسان أن يلتفت جيّدًا، ويعلم ما هي الموارد والمصاديق التي تتوفّر فيها ملاكات الأحكام ومباني التكليف، لكنّه لم يلتفت، وأجاب بنحوٍ آخر».
تنبيه السيّد الحدّاد أحد علماء النجف على مخاطر المرجعيّة
ونظير هذه القصة وقعت مع أستاذه السلوكي والعرفاني المرحوم الحاج السيد هاشم الحداد رضوان الله عليه، وذكرُها لا يخلو من فائدةٍ ولطفٍ.
نقل لي أحد أولاد المرحوم السيد الحداد، وهو جناب السيّد قاسم- أيده الله وسدّده- قائلًا:
«لقد ذهبت يومًا برفقة المرحوم الوالد السيد الحداد قدس سره إلى النجف، وبعد زيارة مولى الموحّدين عليه السلام، دخلنا منزل آية الله الحاج السيد عبدالكريم الكشميري رحمة الله عليه، ورأينا أنّ أحد العلماء والسادة المعروفين كان قد سبقنا إليه قبل مجيئنا. وبعد مدّة بدأ المرحوم السيد الحداد بالتحدّث عن الأخطار العظيمة للمرجعيّة وتبعات هذه المسؤوليّة، وعن وساوس الشيطان في هذا المورد وكيفية انحراف مسير الإنسان، وعن ابتلاء المرجع بالآفات النفسانيّة وشدّة حسابه يوم القيامة. وفي هذه الأثناء بقينا نحن في حالةٍ من الحيرة؛ لعدم وجود مناسبةٍ لهذا الكلام مع هذا المجلس، والحال أنّ المرحوم الحداد كان يبيّن ذلك بجدٍّ وحزمٍ. وبعد دقائق أنهى سماحته كلامه، وودّع المرحومَ السيد عبدالكريم وذاك السيدَ العالم الموجّه ثمّ خرجنا. وبعد هذه الحادثة، التقيتُ بالمرحوم الكشميري في كربلاء، فقال لي: بعد أن خرجتم من عندي، سألني ذاك السيد: هل هذا الشخص الذي ذكر هذه المطالب هو إمام الزمان؟
فقلت له: كلا! ليس إمام الزمان.
فقال: قل لي الحقيقة، حتمًا إنّه إمام الزمان.
قلت: إمام الزمان لا يهرم ولا يشيخ، هذا ما ورد في الآثار، والحال أن هذا السيّد يبلغ من العمر أكثر من سبعين سنةٍ.
فقال: ليكن من كان، فلقد أخبر هذا السيد عن جميع ما في نيّتي والأمور التي تجول في ذهني وقلبي واحدةً واحدةً، ونبّهني على عواقب المرجعيّة التي كنت في صدد إعلانها، والحال أنّ أحدًا لم يكن مطلعًا على ذلك غير الله تعالى، فهو إمّا إمام الزمان أو مرتبط بإمام الزمان».
الغرض من التعليق على التقريرات ونشرها باللغتين العربيّة والفارسيّة
عندما كان المرحوم العلامة الوالد متوطّنًا في النجف الأشرف، كان يحضر دروس المرحوم العلّامة الحاج الشيخ حسين الحلّي أعلى الله مقامه. ومن جملة ما حضره عنده مبحث الاجتهاد والتقليد، فقرّر هذه الأبحاث بأجمل وجه.
وبعد أن تصفّح الحقير بضع صفحاتٍ من هذه الرسالة، التفت إلى أنها تبتني على أُسسٍ متينةٍ وأصولٍ قويمةٍ، لكنّها قد تكون خارجةً عن الفضاء المتداول والمتعارف بين الفضلاء وأهل العلم، لذا وبعد أن صمّمت على طبعها ونشر مطالبها، رأيت أن أزيد بعض المطالب التوضيحيّة والبيانيّة في الهامش. وإن كان ينبغي الإقرار بأنّه: أين الثرى من الثريا وأين الأرض من الأفق الأعلى؟!
والأمر الآخر هو أنّ هذه التقريرات دوّنها الوالد قدّس سرّه باللغة العربيّة، ولكن بما أنّ بعض أهل الفضل قد يواجهون صعوبة في دراسة هذه المباحث؛ ومن جهةٍ أخرى، نرى مع الأسف الشديد أن الفضلاء في الحوزات العلميّة يرغبون بدراسة المباحث العلميّة بالفارسيّة أكثر من اللغة العربيّة؛ فقد عمل الحقير- بالإضافة إلى تذييل المباحث باللغة الفارسية- على ترجمة نص الرسالة العربيّة نفسه إلى اللغة الفارسيّة، ونشرهما في مجموعةٍ واحدةٍ. ولأجل المحافظة على الأمانة والدقّة، ولإتاحة الفرصة لمزيدٍ من التأمّل في أصل الرسالة؛ فقد قررت طبع ونشر أصل الرسالة باللغة العربيّة بإملاء نفس المرحوم الوالد، وتذييل الحقير باللغة العربيّة أيضًا.
والجدير بالذكر: إنّ المرحوم الوالد كان قد ألّف في النجف الأشرف رسالةً في وجوب صلاة الجمعة مقتبسةً من تقرير بحث المرحوم آية الله الحاج السيّد محمود الشاهرودي رحمة الله عليه، وكان الحقير قد نشرها بهذه الكيفيّة بعد إيراد تذييلات
عليها باللغة العربيّة، ولكن حتّى الآن لم يستفد منها الفضلاء والعلماء الاستفادةَ المتوقّعة والمطلوبة، خلافًا للكتابات الأخرى التي دُوّنت بهذا القلم باللغة الفارسية؛ حيث قد نفدت من الأسواق سريعًا، وهذا يُعدّ من الفرص الفائتة على الحوزات والمجامع العِلميّة، التي ينبغي أن تتوجّه أكثر إلى هذه الأمور.
فقد نزل ديننا وشريعتنا باللغة العربيّة، وكتابنا القرآن وصلاتنا جميعها باللغة العربيّة. كما أن جميع ما وردنا من رأسمال السعادة والمأثور عن المعصومين عليهم السلام بأجمعه وصلنا باللغة العربيّة، لكن مع ذلك نرى أن التسامح والتساهل في الاهتمام بهذه المسألة يزداد مع مرور الزمن.
مضافًا إلى أنّ أكثر الآثار العلميّة والمعرفيّة- إن لم نقل جميعها- التي دوّنها العلماء والحكماء والفقهاء والفضلاء في تاريخ الإسلام كانت باللغة العربيّة، ولسنا في غنى عن التحقيق والتدقيق في تلك المطالب. وسوف نتعرّض لهذه المسألة في موقعها إن شاء الله.
وهنا نختم الكلام في هذه المقدّمة، ونحيل البحث في المطالب الباقية إلى الأبحاث الواردة في هذا الكتاب، بحول الله وقوّته، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
قم المقدّسة
الثالث عشر من شعبان سنة ألف وأربعمائة وثلاثة وثلاثين للهجرة
وأنا الراجي عفو ربّه
السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
القِسْمُ الأوّلُ: مَبَاحِثُ الاجْتِهَادِ
الفصل الأول: تعريف الاجتهاد وحدّه
الفصل الثاني: وجوب الاجتهاد
الفصل الثالث: حجيّة فتوى المجتهد
الفصل الرابع: حجيّة حكم المجتهد
الفصل الخامس: التجزّي في الاجتهاد
الفصل السادس: مبادئ الاجتهاد
الفصل السابع: تغيّر رأي المجتهد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته سيّدنا ونبيّنا محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
أمّا بعد، فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربّه الغنيّ: إنّ هذه جملةٌ ممّا استفدته من تحقيقات بحث شيخنا العلّامة الشيخ حسين الحلّي أدام الله ظلّه الشريف في الأصول، ونستمدّ منه سبحانه التوفيق لتحرير ما أفاده وتقرير ما أفاضه تامًّا، ونسأله تعالى أن يُوفّقنا لما يحبّ و يرضى.
** *
الفصل الأوّل: تعريف الاجتهاد وحده
المبحث الأوّل: تعريفات العُلماء
قال دام ظلّه: البحث في الاجتهاد والتقليد:
اعلم أنّه قد عُرّف الاجتهاد بتعاريف شتّى:
۱. مثل: ملكةاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.۱
٢. ومثل: استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي.٢
٣. ومثل: استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الحكم.٣
٤. ومثل: استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة.٤
٥. ومثل: تحصيل العلم بالحُجّة الشرعيّة.
٦. ومثل: ما قاله شيخنا الأستاذ [المرحوم النائيني]٥ قدّس سرّه مِن أنّه: هو
الملكة التي يقتدر بها على ضمّ الكبريات إلى الصغريات لاستنباط الحكم الشرعيّ الفرعيّ.۱
تقييم التعريفات: من باب شرح الاسم
لكن لا مجال لنا في النقض والإبرام في طرد هذه التعاريف وعكسها؛ لأنّ اختلاف تعابيرهم ليس من جهة اختلافهم في حقيقته، بل معناه واضحٌ عند الجميع واتّفقوا عليه، لكن لمّا كانوا بصدد تحرير المراد، فقد عبّر كلّ بتعبيرٍ كان نظره في هذا التعبير مجرّد الإشارة إليه بلفظٍ آخر، وإن لم يكن هذا التعريف مساويًا له في مفهومه.
ولَنِعمَ ما قال صاحب «الكفاية» قدّس سرّه مِن أنّهم:
«ليسوا في مقام بيان حدِّه ولا رسمه، بل إنّما كانوا في مقام شرح الاسم والإشارة إليه بلفظٍ آخر، وإن لم يكن مساويًا له في مفهومه؛ كاللغويّ في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظٍ بلفظٍ آخر ولو كان أخصّ مفهومًا أو أعمّ»٢.
وعلى كلّ حال، البحث عن معنى الاجتهاد وتعريفه؛ كالبحث عن كونه مصدرًا أو اسم مصدر، والبحث عن كونه مشتقًا من الجُهد بالضمّ حتّى يكون معناه بذل الطاقة والقدرة في تحصيل الحكم، أو أنّه مشتقٌ من الجَهد بالفتح بمعنى التعب حتّى يكون معناه تحمّل المشقّة في تحصيل الحكم، وجميع هذه الأبحاث تطويل لا طائل تحته، بل مضرٌّ بالمقصود، مخلّ بالمطلوب، يُوجب تفويت الأوقات بلا ثمر، وتبعيد المسافة مبعِّدًا عن الحقّ.
المبحث الثاني: التعريف المختار: تحصيل العلم بالحكم
والحقّ الإغماض عن تعريفه رأسًا، مضافًا إلى أنّه ليس في دليلٍ شرعيٍّ حتّى يكون موضوعًا لحكم، بل هو معنى اصطلاحيٌّ، فما أدري ما الفائدة في تحقيق طرده وعكسه ثمّ النقض والإبرام، مع عدم ترتّب أثرٍ شرعيٍّ عليه؟! وإن أبيت إلّا عن تعريفٍ له، فقل: إنّه عبارة عن «تحصيل العلم بالحكم».
وذلك؛ لأنّه من الضروريِّ من الدين مِن كوننا مكلّفين بتكاليف لا بدّ لنا من العمل عليها، ولا نكون كالمطايا بلا حكمٍ وتكليفٍ، وتحصيل العلم بهذه التكاليف يسمّى اجتهادًا. نعم كيفيّة تحصيل هذا العلم يختلف على حسب مرور الزمان والبعد عن مدارك الأحكام من المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين؛ فمن يكون في زمان النبيّ أو أحد الأئمّة عليهم السلام، كان الاجتهاد بالنسبة إليه هو سؤالهم والأخذ منهم.
وقد يحتاج هذا الشخص إلى النظر في الناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاصّ، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيّد وما شابهها، لكن حيث كان سؤالهم بلا واسطة، لم يُحتَج إلى النظر في الراوي و جِهة صدور الرواية من تقيّةٍ أو غيرها. ولكن كلّما بَعُد الزمان عن زمان المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين كانت مباني الاجتهاد أكثر، فلذا تصير أشكل؛ فلا بدّ حينئذٍ من الاطّلاع على رجال الأسانيد، والاطّلاع على علم الدراية، والأُنس بمفاد الروايات ولحن الأئمّة وفهم معاني كلامهم، وكذا لا بدّ من تمييز جهة صدورها تقيّةً عن غيرها، مضافًا إلى الاجتهاد في القواعد الأُصوليّة، وأخذ الحكم المظنون وطرح المشكوك أو الموهوم على فرض الانسداد حكومةً أو كشفًا.
لكنّ هذا كلَّه إنّما هو لأجل انطفاء نورهم عليهم السلام بحسب الظاهر، وعدم إمكان الوصول إلى قائمهم عجّل الله فرجه الشريف. وأمّا في زمان الحضور فالاجتهاد لم يحتج إلى هذه المُقدِّمات، بل كلّ من أخذ الحكم من النبيّ أو أحد الأئمّة عليهم السلام كان مجتهدًا؛ أي محصِّلًا للحكم الشرعيّ والحجّة الفعليّة القطعيّة.
وعلى هذا يمكن أن يُقال: إنّ المقلّدين السائلين عن فتاوى مقلَّديهم يكونون مجتهدين أيضًا؛ لأنّ طريق تحصيل العلم بالحكم في حقّهم إنّما هو هذا.
** *
الفصل الثاني: وجوب الاجتهاد
المبحث الأوّل: الاجتهاد بالمعنى المختار
أوّلًا: اتفاق الأخباري والأصولي على وجوبه
وإن شئت، فأسقط ألفاظ الاجتهاد والتقليد عن المقام رأسًا، لكن لا بدّ من أن يُلتزم بأنّه لا بدّ لكلّ أحدٍ من أن يُحصّل العلمَ بما هو وظيفته الشرعيّة حكمًا واقعيًا أو ظاهريًا. ولا يختلف أحدٌ في هذا المعنى من الأخباريّ والأصوليّ، بل لا يختلف فيه كلّ أحدٍ علمَ بموازين شريعتنا وكيفيّة الأخذ من أحكامها، حتّى أنّي رأيت أنّ بعض المستشرقين كانوا مجتهدين في الفقه الحنفي والحنبلي بل الجعفري؛ لِمكان اطّلاعهم على موازين كيفيّة تحصيل الأحكام من هذه المآخذ!
فعلى هذا لا وجه لاعتراض الأخباريّ على الأصوليّ؛ بأنّ الاجتهاد هو إعمال الرأي، وهو ممنوعٌ شرعًا؛ لأنّ إعمال الرأي إن كان بمعنى القياس والاستحسان وما شابههما ممّا ذهب إليه العامّة، فالأصوليّ يفرّ منها جميعًا، وإن كان معناه هو النظر في الأدلّة وإعمال النظر والدقّة في كيفيّةاستخراج الحكم مِن بين الروايات المتعارضة واستنباطه من الأدلّة؛ فهذا معنىً لا بدّ منه، ولا أظنّ أنّ أحدًا من الأخباريّين أنكر
ذلك. وعلى كلّ حالٍ، لا خلاف ولا إشكال في جواز الاجتهاد، بل لا خلاف في وجوبه؛ لتوقّف العمل عليه.
ثانيًا: وجوبه العيني والدليل عليه
لكن يقع الكلام فعلًا في أنّ وجوبه: هل هو عينيّ أم كفائيّ؟
فنقول: إنّك بعد ما عرفت حقيقةَ الاجتهاد بأنّه عبارة عن تحصيل العلم بالحكم الشرعي؛ بأيّ نحوٍ من أنحاء التحصيل ومِن أيّ طريقٍ يُتصوّر، وبعد ما عرفت أن هذا معنى يشترك فيه جميع المكلّفين من المجتهدين اصطلاحًا ومن المقلّدين، تعرف أن وجوبه عينيٌّ لا محالة.
أ: بيان الاستدلال على العينيّة
ولتوضيح المراد، لا بدّ لنا من تفصيل المرام:
المقدّمة الأولى: ضرورة تحصيل العلم بالأحكام
فاعلم أنّ الأحكام الواقعيّة الثابتة لجميع الناس ممّا لا ريب فيه؛ لأنّ من ضروريّات المذهب والدين أنّ الناس لم يُخلقوا كالبهائم، بل إنّما خُلقوا لأجل وصولهم إلى درجة الإنسانيّة. ولا يُمكن نيل هذه الدرجة إلّا بعد تهذيب النفس، وتكميل الأخلاق الفاضلة، والمعرفة بخالقهم وربّهم حقَّ المعرفة. ولا يمكن هذا إلّا بالعمل على طبق أحكامٍ جعلها الله تعالى العالم بالمصالح والمفاسد. ولا يمكن العمل إلّا بالعِلم، فهذه مقدّماتٌ ثلاثٌ لا يمكن أن ينكرها أحد.
المقدّمة الثانية: انحصار الأدلّة على الأحكام في الأدلة الأربعة
ثمّ اعلم أنّ الأدلّة المعتبرةالدالّة على الأحكام الشرعيّة تنحصر في أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، وأمّا سائر ما جعل مِن الأدلّة في مذهب العامّة من:
القياس والاستحسانات والاستقراء الناقص والأولويّة الظنّية؛ فلا بدّ وأن تُضرب على الجدار؛ لأنّ هذه الطرق لا يمكن أن تُوصلنا إلى الحكم، ولم يدلّ دليلٌ شرعيٌّ على التعبّد بها، بل تواترت الأدلّةعلى بطلانها۱، والظاهر أنّ الذاهب إلى هذه الطُرق خصوص أبي حنيفة، لا غيره من العامّة.
المقدّمة الثالثة: تحصيل العلم مع الغض عن نورانيّة النفس وصفاء الباطن متوقّف على العلم بأصولٍ عقلائيّةٍ
فحيث علمتَ أنّ الطُرق الموصلة إلى الأحكام منحصرةٌفي هذه الأربعة، فنقول:
أمّا الكتاب، فسنده وإنّ كان قطعيًا، إلّا أنّ دلالته تكون ظنّيةً، إذ لا يوجد حكمٌ من الأحكام الثابتة فيه إلّا وتكون الآية الدالّة عليه ظاهرةً فيه [لا نصًّا]٢ و٣، فإذن نحتاج إلى الأصول العُقلائية مِن: أصالة الظهور، وأصالةعدم القرينة، والتمسّك بمقدّمات الحكمة وغيرها. ومع ذلك لا يوجد في الكتاب إلّا أصول الأحكام التي يكون العلم بها من الضروريّات التي لا تحتاج إلى الاكتساب؛ كتشريع أصل الصلاةوالصوم والحجّ، وجواز البيع والنكاح والإرث والطلاق.
وأمّا السنّة، فأسنادها ظنيّةٌ في الغالب؛ إذ الأخبار القطعيّة السند عندنا أقلّ القليل، مضافًا إلى ظنيّة دلالتها دائمًا؛ إذ لا يوجد لدينا خبرٌ نصٌّ في المراد لا من النبيّ صلوات الله عليه، ولا من الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين؛ لأنّ طريق العلم العادي من غير نورانيّة النفس وصفاء الباطن ينحصر في التفهيم
والتفهّم۱، ومِن المعلوم أنّهما يمتنعان إلّا بإجراء الأصول العُقلائيّة مِن: أصالة
الظهور، وعدم القرينة، وعدم التورية، وما شابهها.
فإذن يمتنع تحصيل العلم القطعيّ الوجدانيّ من الكلام، حتّى لو فُرض أنّ أحدًا سمع من رسول الله- صلّى الله عليه وآله وسلّم- أنّ الوصيّة واجبةٌ مثلًا فبضمّ هذه القرائن العُقلائيّةيُعلم بوجوبها، فإذا كانت لهذه الأصول مدخليّةٌ في حصول العلم، فالعلم بالأحكام الحاصلة منها لا يكون علمًا قطعيًّا، بل علمٌ عاديٌّ غير منافٍ لاحتمال الخلاف، فالتّمسك بجميع هذه الأصول العُقلائيّة ممّا لا بدّ منه، وإلّا لانسدّ باب تحصيل العلم بتًّا.
وأمّا الإجماع، ففي الحقيقة ليس دليلًا في قبال السنّة، بل هو من السنّة إن كان كاشفًا عن رأي المعصوم، وأمّا إذا لم يكن كاشفًا فليس بدليلٍ۱، بل هو دليلٌ عند العامّة؛ لتوقّف أصل مذهبهم عليه؛ إذ غصبُ الخلافة لم يتحقّق إلّا بما ادّعوا من إجماع المسلمين.
ولَنِعمَ ما قال السيّد المرتضى رحمة الله عليه:
«إنّ الإجماع هو أصلٌ للعامّة، وهُم الأصل للإجماع»٢.
هذا مع أنّه لا يوجد في الفقه مسألةٌ واحدةٌ مستفادةٌ مِن الإجماع؛ إذ المنقول منه ليس بحجّةٍ؛ لعدم كونه كاشفًا، والمحصَّل مِنه على تقدير كشفه غير موجودٍ في مسألةٍ أصلًا.٣
وأمّا العقل، فلأنّ القطعيّ منه إنّما هو ما استقلّ به من حسن الإحسان وقبح الظلم والعدوان، وجميع المستقلّات العقليّة لا بدّ وأن ترجع إلى هاتين المسألتين، ثمّ انكشاف الحكم الشرعي بواسطته إنّما هو بقاعدة الملازمة بين الحكمين، لكنّا لم نجد إلى الآن موردًا لهذا الاستكشاف؛ إذ حسنُ الإحسان وقبح الظلم من ضروريّات الدين، وكذلك الفروع المتفرّعة عليهما إنّما هي منصوصة مطلقًا. وبالجملة إنّا لم نجد موردًا لم يكن لنا حكمٌ شرعيٌّ موصولٌ بالكتاب أو السنّة؛ حتّى نحتاج إلى التمسك بهذه القاعدة لاستنباط الحكم.
فعلى هذا تنحصر الأدلّة المعتبرة في الكتاب والسنّة، ويكونان طريقين إلى الإيصال إلى الأحكام، وطريقيّة هذين الطريقين ليست مجعولة، بل الطرق عقلائيّةٌ ممضاةٌ عند الشرع؛ لأنّك قد عرفت أنّ استفادة الأحكام من الكتاب والسنّة تحتاج إلى إجراء الأصول العُقلائيّة، وكذلك تحتاج إلى حُجيّة خبر الثقة الممضاة شرعًا.۱
المقدمة الرابعة: عموم حجية الاصول العقلائيةو عجز العامي عن تحصيلها
ثمّ إنّ هذه الطرق والحجج ليست مختصّةً بخصوص المجتهدين المطّلعين على الأحكام؛ للزوم الدور؛ لأنّ المجتهد والمستنبِط للحكم إنّما اجتهد بمعونة هذه الحجج، فكيف يمكن اختصاصُ حجّيتها بخصوصهم؟! وكذلك ليست مختصّةً بمن يقدر على الاستنباط من مدارك الأحكام، بل الطرق والحجج تكون طرقًا وحججًا على الاطلاق بالإضافة إلى جميع الناس: المجتهد والعامّي. نعم، العامّي غير قادر على الرجوع إلى هذه الطرق والحجج، ولكن هذا لا يوجب تقييد الحجّيّة بالنسبة إلى
خصوص القادرين على الاستنباط.
وبالجملة، إنّ الطرق العقلائيّة والحجج العقلائيّة والشرعيّة كالأحكام الواقعيّة مشتركةٌ بين القادر والعاجز، نعم لمّا لم يقدر العامّي على اكتساب الأحكام من هذه الطرق، فتح العقلاء لهم بابًا آخر مساعدًا لهم، وهو باب الرجوع إلى العالم، وقد أمضى الشارع هذا المعنى بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.۱ و٢
ومن هذا ينفتح باب الإفتاء أيضًا الذي حقيقته جواز رجوع الجاهل إلى العالم، ومن هذا تعرف أنّ أدلّة الأحكام والطرق المقرّرة للوصول إليها إنّما هي ثلاثة: الكتاب والسنّة والإفتاء؛ لأنّ تحصيل العلم أو العِلميّ بالأحكام- الذي سمّيناه اجتهادًا- ينحصر في هذه الثلاثة.
نتيجة المقدّمات الأربع: الاجتهاد بالمعنى المذكور واجبٌ عينيٌ
فجماعةٌ من المكلّفين يرجعون إلى الكتاب والسنّة، وجماعةٌ يرجعون إلى فقيهٍ
عالمٍ بالحكم، فالاجتهاد بهذا المعنى واجبٌ عينيٌّ لا محالة۱.
دفع توهُّمِ حرمة الاجتهاد والفرق بين اجتهاد العامّة والخاصّة
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الرجوع إلى الكتاب والسنّة يحتاج إلى العلم بالمطلق والمقيّد، والخاصّ والعامّ، والمتشابه والمحكم، والعرفان بلحن الأئمّة وموارد التقيّة ووجوه الروايات، والعلم بمراتب حجّيّة الأصول والأمارات، وتمييز الطرق المعتبرة
عن غيرها، إلى غير ذلك ممّا يتوقّف عليه الاستنباط. فإذن لا بدّ وأن ينظر المكلّف إلى هذه الموازين، ويطّلع عليها اطّلاعًا تامًّا؛ حتّى يقدر على الاستنباط. وأنت خبيرٌ بأنّ هذا ضروريٌّ لكلّ من يريد الاطّلاع على الأحكام الشرعيّة ولو لم يكن مسلِمًا بل كان من المستشرقين مثلًا؛ لأنّ هذا ليس جريًا على خلاف الطرق والحجج العقلائيّة الممضاة شرعًا، وليس عملًا بالرأي حتّى تشمله الروايات المتواترة على بطلان الرأي وعدم الاعتماد عليه، بل العمل بالرأي إنّما هو جَعلُ النظر دخيلًا في الحكم؛ كالقياس والاستقراء وما شابههما، فلا مانع لنا من النظر في الكتاب والسنة، فلم ينسدّ باب الاجتهاد، والحمد للّه.
نعم سَدّ أبوابَه العامّةُ في القرن الرابع في عصر السيّد المرتضى رحمة الله عليه حيث جعلوا المدار على فتاوى أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي، فجعلوا الجريَ على خلاف هذه المذاهب كفرًا۱؛ فعلى هذا لا يمكن لأحدٍ منهم أن ينظر في الكتاب والسنّة ويستنبط الحكم من قِبل نفسه، وإن كان أعلمَ من أبيحنيفة. نعم، عندهم مجتهدُ المذهب، أي: المجتهد في خصوص مذهب أبي حنيفة أو الشافعي مثلًا.
وأمّا ما سُمع في زماننا هذا من ميلهم إلى افتتاح باب الاجتهاد، فليس مرادهم الاجتهاد المطلق كاجتهادنا في الأحكام ونظرنا في أصل الكتاب والسنّة، بل مرادهم تطبيق الأحكام على وفق مقتضيات العصر من جواز السفور والربا وأمثالهما ممّا لا يقول به أبو حنيفة، وهذا أفسد من كلّ شيءٍ.
المبحث الثاني: الاجتهاد بمعنى النظر في الأدلة
أوّلًا: كفائيّة وجوبه
وعلى كلّ حالٍ، الاجتهاد (بمعنى تحصيل الأحكام) واجبٌ عقلًا لكلّ أحدٍ، و (بمعنى النظر في الكتاب والسنّة واستنباط الحكم) جايزٌ بلا خلافٍ، بل هو واجبٌ أيضًا وجوبًا كفائيًّا. وذلك لأنّك قد عرفت أنّ الاستدلال على الحكم الشرعيّ واجبٌ على جميع المكلّفين عقلًا؛ لأنّه لا يكون العمل بدون الاستدلال حجّةً في مقام الامتثال، بل لا بدّ أن يستند المكلف في عمله إلى حجّةٍ قاطعةٍ ويستدل عليه. فإذا قيل له مثلًا: لم ذهبت إلى طهارة ماء الغسالة؟ فلا بدّ وأن يستند في الجواب إلى استظهاره من الأدلّة، وإمّا أن يستند إلى فتوى الفقيه. فالاستدلال مشتركٌ بين الفقيه والعاميّ، غاية الأمر أنّ استدلال العامّي سهلٌ لا يحتاج إلى مؤونة، وأمّا استدلال الفقيه فهو من أعظم المشكلات؛ لأنّ المجتهد لا بدّ وأن يكون عارفًا بالأعمال الأربعة، مطّلعًا عليها حقّ الاطّلاع وجاعلًا كلًا منها في مورده.
ثانيًا: حقيقته وأعماله
[العمل] الأوّل: هو إعمال الأدلّة الاجتهاديّة، وهي الأمارات الكاشفة عن الحكم الواقعيّ في مواردها.
العمل الثاني (الذي هو مترتّبٌ على الأوّل): هو إعمال الأصول المحرزة في مواردها. وهذا مترتّبٌ على الأوّل؛ بمعنى أن وصول النوبة إلى إعمال هذه الأصول إنّما هو على تقدير عدم وجود دليلٍ اجتهاديٍّ في المسألة، وإلّا فهو مقدّمٌ بلا ريب.
العمل الثالث (الذي هو مترتّبٌ على الثاني): هو إعمال الأصول الغير المحرزة في مواردها.
العمل الرابع: إعمال الأصول العقليّة، وهو مترتّبٌ على الثالث.
وكلُّ واحدٍ من هذه الأعمال الأربعة يحتاج إلى النظر والتأمّل التامّ، حتّى أن جريان الأصول العقلائيّة يحتاج إلى تشخيص موضوعها بنحوٍ دقيقٍ؛ من أنّ المورد: هل هو من موارد القطع بعدم البيان حتّى يُتمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أم هو من موارد احتمال العقاب حتّى يكون المورد مورد التمسّك بوجوب دفع الضرر المحتمل، أم هو من موارد دوران الأمر بين المحذورين حتّى يكون من موارد التخيير العقليّ.۱ إذ ربّ رجلٍ يرى أنّ دفع الضرر المحتمل أولى من جلب المنفعة، فيقدّم جانبَ الحرمة على الوجوب، فيخرج المورد بهذا عن موارد التخيير.
ثالثًا: تعيينيّته وتخييريّته
أ: وجوبه تعيينيًا مقدّمةً لحفظ الشريعة وعدم جواز تقليد الميّت
وهذه الأعمال الأربعة التي نسمّيها اجتهادًا في الاصطلاح؛ إذا توقّف حفظ الشريعة عليها فلا محالة تجب عينًا؛ لأنّه من البديهي اندراس الشريعة عند سدّ باب الاجتهاد رأسًا؛ لأنّ حياة الشريعة إنّما هي بحياة الكتاب والسنّة، فإذا لم يكن أحدٌ نظر فيهما واستنبط الحكم فقد ماتت الشريعة حينئذٍ.
والتزام المكلّفين جميعًا بالتقليد عن رسالة مجتهدٍ ميّتٍ يكون في حكم إماتة
الدين؛ لأنّهم يتّخذون رأيه المستنبط من الكتاب، فالحياة حينئذٍ إنّما هي في رأي المجتهد الميّت لا في الكتاب.
الاعتراض على القائلين بانقضاء مدّة الكتاب والسنّة
فما يُسمع ربّما من البعض ممن ليس لهم الاطّلاع: من كفاية فتوى فقيه في جميع الأعصار، وعدم الاحتياج إلى تجدّد الاجتهاد في كلّ زمان؛ ككفاية فتوى الأئمّة الأربعة من العامّة، كلام غنيٌّ عن بيان فساده؛ لأنّه هو بنفسه ينادي بفساده، وذلك لأنّ مرجع هذا الكلام إلى انقضاء مدّة الكتاب والسنة وانحصار الدين في رأى مجتهدٍ ميّتٍ، فالعمل على طبق فتاويه من جميع المكلّفين مستلزمٌ لهذا المحذور.۱
وبالجملة لا بدّ وأن يكون الاجتهاد متجدّدًا دائمًا في كلّ عصر، حتّى تبقى الشريعة الغرّاء حيّةً- أدام الله حياتها- إلى يوم القيمة، فإذا لزم اندراس الشريعة بترك الاجتهاد من جماعةٍ في كلّ عصر؛ وجب عينًا. هذا بالنسبة إلى حفظ الشريعة.
ب: وجوبه تخييرًا مقدّمةً للعمل، وجواز الاحتياط والتقليد
وأمّا بالنسبة إلى كونه مقدِّمةً للعمل، فلا يخفى عدم وجوبه العينيّ؛ إذ الاحتياط معذِرٌ عند الشارع. فما قيل من عدم جوازه في العبادات؛ للزوم التكرار أو عدم الجزم في النيّة فقد أجبنا عنه في مبحث القطع. لكنّ الاحتياط بالنسبة إلى العامّي متعذّرٌ؛ لأنّ الاحتياط متوقّفٌ على معرفة موارده وكيفيّته، ولا يطّلع الإنسان على هذا إلّا بعد أن يصبح مجتهدًا، لكنّ الاحتياط بالنسبة إلى المجتهدين أمرٌ ممكنٌ، فيجوز إذا لم يستلزم اختلال النظام أو العسر والحرج الشديد.۱
وإذا أغمضنا النظر عن الاحتياط، فباب التقليد واسعٌ؛ لأنّ الأدلّة الآتية من
الكتاب والسنة الدالّة على جواز التقليد وافيةٌ بالمطلوب. فإذن لا دليل عقلًا ولا شرعًا على وجوب الاجتهاد عينًا بل يتخيّر المكلّف بينه وبين التقليد، فعلى هذا يكون الاجتهاد واجبًا كِفائيًّا في نفسه، وواجبًا تخييريًّا بالنسبة إلى كلّ مكلّفٍ لعمل نفسه، وقد يُستفاد هذا المعنى من الكريمة المباركة: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ۱ حيث أفادت الآية أن التفقّهَ في الدين إنّما وجب في حقّ جماعةٍ لا في حقّ الكلّ، وهذا هو معنى الواجب الكفائي.
الفصل الثالث: حجية فتوى المجتهد
المبحث الأوّل: بيان الإشكال في حجيّة فتوى المجتهد على العامي والنظريّات في الإجابة عنه
لكن في المقام مشكلًا لا بدّ من حلّه، وهو أنّ اجتهاد المجتهد إنّما يكون دليلًا وحجّةً على نفسه، فبأيّ وجهٍ يكون حُجَّةً ودليلًا على العامّي؟ وبعبارةٍ أخرى: أيّ واسطةٍ ونسبةٍ بين العامّي والمُفتي؟ وأيّ حظٍ للعامّي في مقلَّده؟
أوّلًا: نظريّة الشيخ الأنصاري: نيابة المجتهد عن العاميّ
فاعلم: أنّ الظاهر من جملةٍ من كلمات العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّ المجتهد نائبٌ مناب العامّي في استنباطه الحكم الشرعي، فكأنّ العامّي قد استنبط الحكم لكن لا بِعَين نفسه بل بعين نائبه، فيكون المجتهد حينئذٍ كالراية للقوم، ومقدّم الجيش الذي يذهب مقدّمًا ثمّ يُخبر الباقين عن الطريق وخصوصيّاته.۱
ثانيًا: نظريّة الشيخ النائيني: عينيّة استنباط المجتهد لاستنباط العاميّ
واعترض عليه شيخنا الأُستاذ قدّس سرّه: بأنّ نيابة المجتهد عن العامّي تحتاج إلى دليلٍ [وهو] مفقودٌ، فبأيّ دليلٍ أدخله في باب النيابة؟ بل استنباط المجتهد وإعمال نظره في الأُمور الأربعةالمذكورة هو عين استنباط جميع العوام المكلّفين. فبالوجود التنزيلي يكون العامّي عين المجتهد، ويكون نظرُه نظرَه بلا نقيصة.۱
مناقشة نظريّة الشيخ النائيني
هذا ولا يخفى عليك أنّه يَرِد على ما ذكرَه قدّس سرّه عين ما أورده قدّس سرّه على الشيخ: بأنّ هذا (أي: تنزيل المجتهد منزلة العامّي) أيضًا يحتاج إلى دليلٍ وهو مفقودٌ في المقام. والمحصّل مما ذكرنا: أنّه لا دليل على نيابة المجتهد عن العامّي فيما استنبطه من الأحكام، كما لا دليل على أنّ المجتهد بوحدته منزّلٌ منزلة جميع المكلّفين؛ كما عبّر بهذه العبارة شيخنا الأُستاذ قدّس سرّه في أوائل بحث الاستصحاب. هذا، مضافًا إلى أنّا لم نفهم معنىً محصّلًا لـ «التنزيل» الذي ادّعاه شيخنا الأستاذ إلّا معنى «النيابة» الذي ذكره الشيخ قدّس سرّه لأنّ حقيقة النيابة هو التنزيل، فما ردّه شيخنا الأُستاذ قدّسسرّه على الشيخ مِن عدم وفاء الدليل على النيابة، ثمّ ادّعاؤه قدّس سرّه تنزيلَ المجتهد بوحدته منزلة جميع المكلفين، فهو من أغرب الغرائب.
المبحث الثاني: نظريّة الشيخ الحلّي في الجواب عن الإشكال
الفرع الأوّل: حجية فتوى المجتهد بناء على الانفتاح
أوّلًا: في موارد الأمارة:
أ: الصور المحتملة لرجوع العاميّ إلى المُفتي وتفصيل القول في حجيّتها
الصورة الأولى: أن يكون علم المفتي وجدانيًا والعاميّ عالمٌ بذلك: فتواه حجّة للزوم علم العامي بالحكم الواقعي
فإذن لا بدّ من التماس دليلٍ آخرَ وافٍ بجواز رجوع العامّي إلى الفقيه؛ لأنّك قد عرفت أنّ الاجتهاد، عبارةٌ عن: الأعمال الأربعة في مواردها، والمفتي إن كان عالمًا بالحكم الواقعي بالعلم الوجداني، و [كان] المقلّد أيضًا عالمًا أنّ المفتي عالمٌ به، فلا إشكال في جواز رجوعه إليه، ولا نحتاج في هذا المورد إلى التماس دليلٍ؛ لأنّ العامّي عالمٌ حينئذٍ بأنّ الحكم الواقعي هو ما حكم به المفتي، فلا بدّ وأن يرجع إليه لتحصيل العلم بالحكم الواقعي.۱
الصورة الثانية: أن لا يكون علمه وجدانيًا وفيه تفصيلٌ بين الانفتاحي والانسدادي
وأمّا إذا لم يكن المفتي عالمًا بالحكم، بل يحتاج لاستنباط الحكم إلى التفحّص عن الأمارات، وعند عدمها عن الأصول المحرزة، وعند عدمها عن الأصول غير المحرزةالشرعيّة، وعند عدمها عن أنّ المورد: هل هو من موارد أصل الاشتغال العقلي، أم من موارد أصالة البراءة أم التخيير العقليّين؟ فعلى جميع هذه المراتب الأربعة لا يكون المفتي عالمًا بالواقع.
نعم تكون هذه الأمارات والأصول حجّةً بالنسبة إليه، ولا معنى لكونها حجّةً [بالنسبة] إلى العامّي أيضًا؛ لأنّ حجّيّة الأمارات وخبر الواحد إنّما هي بالنسبة إلى مَن قامت عنده الأمارة، وكذلك الأصول المحرزة وغيرها حُجّةٌ بالنسبة إلى مَن تفحّص عن الأمارة ولم يجدها، والاستصحاب يكون حُجّةً بالنسبة إلى من كان متيقّنًا بالحكم ثمّ شكّ فيه؛ ومِن المعلوم أنّ العامّي لم يتفحّص عن موارد قيام الأمارة، ولا يكون متيقّنًا وشاكّاً، بل لا عبرة بيقينه وشكّه لو فرض تحقّقهما بالنسبة إليه. فإذن لا معنى لكون الأمارة القائمة بالنسبة إلى المفتي أو الاستصحاب الذي يكون حجّةً بالنسبة إليه حجّةً بالنسبة إلى العامّي بوجهٍ من الوجوه؛ سواءً ذهبنا إلى أنّ الحجّيّة من الأحكام الوضعيّة؛ نظير الملكيّة والزوجيّة، وكان التنجيز والتعذير من آثارها ولوازمها المترتّبةعليها، كما ذهب إليه صاحب «الكفاية» قدّس سرّه في أوائل بحث الظنّ، حيث ردّ استدلال الشيخ بعدم جريان «استصحابِ عدم الحجّيّة»؛ لكفاية الشكّ في الحجّيّةفي القطع بعدمها۱، قال قدّس سرّه ردًا عليه:
«إنّ الحجّيّة مِن الأحكام المجعولة نظير الملكيّة، فإذن لا مانع من جريان استصحاب عدمها»٢.
أو ذهبنا إلى أنّ الحجّيّة عبارةٌ عن: نفس التنجيز والتعذير؛ كما ذهب إليه صاحب «الكفاية» قدّس سرّه أيضًا في موارد عديدةٍ منها هذا المقام۱. ولذا اعتُرض عليه٢ من أنّه لا معنى لجعل التنجيز والتعذير.٣
وعلى كلا التقديرين، إنّ الحجّة حجّةٌ بالنسبة إلى المجتهد، لا بالنسبةإلى العامّي، ومع عدم حجّيّة رأي المجتهد بالنسبةإلى العامّي مع فرض عدم حكم المجتهد حكمًا واقعيّا قطعيّا، لا يكون رجوع العامّي إلى المجتهد رجوع الجاهل إلى العالم، بل يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل.
كما نبّه عليه صاحب «الكفاية» قدّس سرّه؛ حيث إنّه بعد أن ذكر أنّ رجوع العامّي إلى المجتهد الذي يكون انسداديّا يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل؛ أفاد بأنك:
«إن قلت: رجوع الجاهل إلى المجتهد بناءً على الانفتاح أيضًا يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل، فنجيب بأنّ: المجتهد وإن لم يكن عالمًا بالحكم ولكنّه عالمٌ بموارد قيام الحجّة الشرعيّة على الأحكام، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم».٤
وأنت خبيرٌ بعدم تماميّة هذا الجواب؛ إذ إنّ المفتي لا يُخبره بموارد قيام الأمارات بل يخبره بالحكم الواقعي، وبالجملة هذا الجواب أيضًا لا يُغني من جوعٍ.٥
۱- المجتهد الانسدادي: عدم حجيّة فتواه
والذي ينبغي أن يُقال في المقام: هو أنّ المجتهد تارةً يكون انفتاحيّا وأخرى انسداديّا، والانسداديّ تارةً يكون قائلًا بحجيّة الظنّ من باب الكشف، وأخرى من باب الحكومة، والقائل بالحكومة أيضًا تارةً يرى حجّيّة الظنّ من باب أنّ العقل يرى حجّيّته في مقام الانسداد كما يرى حجّيّة القطع عند الانفتاح، وأخرى يرى حجّيّته من باب التبعيض في الاحتياط؛ إذ الواجب عند عدم إمكان الوصول إلى الواقع هو الاحتياط على الإطلاق، وعلى فرض تعذّره أو تعسّره فلا بدّ من إلغاء الموهومات ثمّ المشكوكات ثمّ المظنونات على اختلاف مراتبها.
ولا يخفى أنّ رجوع العامّي إلى المجتهد الانسدادي يكون من باب رجوع الجاهل إلى الجاهل بجميع أنحاء الانسداد، وأنّ أدلّة جواز التقليد- كما سنبيّن- لا تشمل جوازه إذا كان المجتهد قائلًا بالحكومة على كلا قسميه۱، نعم لا يبعد شمولها إذا كان المجتهد الانسداديّ كشفيًا؛ لأنّ حاله حال ساير المجتهدين المدّعين للانفتاح، لكنّي لم أرَ إلى الآن من ذهب إلى الانسداد ويرى حجّيّة الظنّ، وهذا البحث بحثٌ فرضيٌّ أصوليٌّ، وأمّا في الفقه فجميع الفقهاء كان عملهم عمل الانفتاحي.
وأمّا المحقّق القمّي قدّس سرّه الذي اشتهر بأنّه انسداديٌّ لم يظهر لنا من فتاواه وجواب مسائله إلّا طريقة ساير الفقهاء؛ من الأخذ بالأخبار الصحيحة وطرح غيرها. وبالجملة كان عمله في المسائل الأُصوليّة عمل غيره من الفقهاء، بل يمكن أن يُقال إنّه يفرّ من المداخلة في الأُمور العقليّة والأمور الدِّقيّة التي ليست بمذاق العرف،
وكان دأبه في الفقه- من حيث الاعتماد على الأخبار- كدأب صاحب «الحدائق» قدّس سرّه الذي هو من الأخباريين. والذي يَقوى في النظر أنّ ذهابه إلى حجّيّة الظنّ ليس هو الظنّ الانسداديّ المصطلح، بل القول بحجّيّة الأخبار مع كونها مظنونةً، في قِبال الأخباريين الذين يدّعون القطع بصحّة جميع الروايات الواردة في الأصول الأربعة.
٢- المجتهد الانفتاحي: حجيّة فتواه
وأمّا المجتهد الانفتاحيّ، فلقيام الأمارات بالنسبة إليه أثران:
الأوّل: صحّة تطبيق عمل نفسه على مُؤدّى الأمارة، فتكون الأمارات منجِّزةً للواقع ومعذِّرةً بالنسبة إليه.
الثاني: جواز الإخبار عن مؤدّى الأمارة بإسقاط الراوي والأمارة، كما هو الحال كذلك بالنسبة إلى «خبر الواحد» و «اليَد» و «سوق المسلمين» و «الاستصحاب» و «أصالة الصِحّة» وغيرها؛ كما أنّ هذا المعنى ثابتٌ ببناء العقلاء المؤيَّد بالروايات الدالّة عليه. ولذلك وردت الرواية على ترتيب آثار الملكيّة إذ كانت العين في يد أحدٍ وجواز الإخبار بأنّها له۱، ووردت الرواية في أنّ رجلًا سافر مُدةً مديدةً وله ورثةٌ وأموالٌ كثيرةٌ فمات الرجل، [فعندها] يجوز الشهادة عند القاضي بتعداد ورثته ومقدار أمواله٢ مستندًا إلى الاستصحاب. فعلى هذا، إذا وردت روايةٌ بسندٍ متّصلٍ عن الصادق عليه السلام أنّه قال- مثلًا-: «ماء الغسالة طاهرٌ»، فمِن آثار حجّيّة هذه الرواية أنّه يجوز لمن قامت عنده الرواية أنْ يُسند طهارة ماء الغسالة إلى الإمام، بلا ذكر الرُواة الوسائط، فيقول: «قال الصادق عليه السلام: كذا».
اتفاق مسالك تفسير حجيّة الأمارة على جواز الإخبار عن مؤدّاها
ولا فرق في ذلك بين أن نقول بأنّ معنى حجّيّة الأمارة: هو الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات، أو أن نقول بأنّها: عبارةٌ عن جعل الحكم المماثل، أو أن نقول: إنّها عبارة عن المنجّزيّة والمعذّريّة. وعلى كلّ حال جواز الإخبار على مؤدّى الأمارة ممّا لاريب فيه، فإذا أخبر المُفتي أنّ ماء الغسالة طاهرٌ أو أنّ الصادق عليه السلام قال بطهارته، يجب على العامّي ترتيب الأثر على إخباره؛ بأن يُصدّق قوله بمقتضى الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، مِن: آية النبأ۱، وسيرة العقلاء، وغيرها من الأدلّة، فلا بدّ إذن وأن يعامل ماء الغسالة معاملةَ الطاهر لقيام الحجّة الشرعيّة على طهارته بالنسبة إليه.
فعلى هذا حجّيّة قول المُفتي في مؤدّى الأمارات بالنسبة إلى العامّي، إنّما هي باستخدام أدلّة حجّيّة خبر الواحد في إخبار المُفتي عن الحكم بالإضافة إلى العامّي، وجواز إخبار المُفتي إنّما يكون من الآثار المترتّبة على الأمارة التي قامت عند الفقيه على الحكم. فإذن يرتفع الإشكال وحُلّت العويصة بحمداللهتعالى.٢
ب: الاستشكال على النظريّة المطروحة و جوابه
إن قلتَ: إنّ أدلّة الحجّيّة بالنسبة إلى خبر الواحد إنّما تدلّ على حجّيتها في المحسوسات دون الحدسيّات؛ فالمُفتي الذي قامت عنده الأمارة يكون إخباره عن المؤدّى إخبارًا عن الحدس؛ لعدم إدراكه للمؤدّى بحواسّه، وإنّما إخباره الحسي هو إخباره بأنّي سمعت من فلان عن فلان عن زرارة عن الصادق عليه السلام، قال: كذا.
قلتُ: معنى الإخبار الحدسي هو الإخبار عن الأُمور التي تَحتاج إلى النظر وليست مستندةً في الأخير إلى الحسّ، نظير: إخبار المنجِّم عن رؤية الهلال، وإخبار أهل الخبرة في باب التقويم، وأمّا الإخبار عن الحكم الذي يصل إلى المجتهد بوسائط فكلّها حِسّيّةٌ فليس إخبارًا عن الحدس. وإن أردت تجديد اصطلاحٍ فلا مشاحَّة.
مع أنّه لو فُرض جعل هذا الإخبار من الأخبار الحدسيّة فإنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد تشمل هذا النوع من الإخبار الحدسي قطعًا.۱ و٢
وإن أبيتَ عن إمكان شمول أدلّة حجّيّة خبر الواحد في المقام رأساً، وذهبت إلى أنّ إخبار الفقيه بالإضافة إلى العامّي يكون إخبارًا عن الحدس دون الحسّ، فلا يخفى أنّ أدلّة حجّيّة قول أهل الخبرة وافية للمقام، فلا بدّ وأن يرجع المقلّد العامّي إلى المجتهد كما يرجع الجاهل إلى أهل الخبرة.
وإن أبيتَ عن هذا أيضًا، وقلت بلزوم التعدّد في حجّيّة أهل الخبرة، فأدلّة التقليد- بحمد الله تعالى- وافية للمقام لا مجال للخدشة فيها، كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.
ج: بيان العلّة في اختصاص هذه النظريّة بموارد الأمارات وبقاء الإشكال في موارد الأصول
إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنّ هذا الذي ذكرناه بالنسبة إلى فتاوى الفقيه في الموارد التي قامت عنده الأمارة على الحكم الواقعي واضح؛ وبعبارة أخرى: إنّ هذا هو تامّ بالنسبة إلى العمل الأوّل من الأعمال الأربعة التي يحتاج إليها الفقيه على الترتيب.
وأمّا بالنسبة إلى الأصول المحرزة والأصول التعبديّة والأصول العقليّة فلا؛ لأنّ موارد جريان هذه الأصول هو الشكّ في الحكم الواقعي، ومن المعلوم أنّه لا عبرة بشكّ العامّي؛ لأنّ الشكّ الذي يكون موردًا للأصول المحرزة هو الشكّ مع الفحص عن الأمارة وعدم الاطّلاع بها [والحال أنّ العامّي لا علاقة له بمثل ذلك]۱، والشك الذي يكون موردًا للأصول الغير المحرزة هو الشكّ مع الفحص عن الأمارة والأصول المحرزة وعدم الاطّلاع بها، وأمّا بالنسبة إلى الأصول العقليّة فموردها الشكّ مع الفحص عن الأمارات والأصول الشرعيّة جميعًا.
ثانيًا: في موارد الأصول المحرزة
أ: وجه الحجيّة في الأصول المحرزة بناءً لرأي الشيخ الحلّي
هذا، ولكن لا يخفى إمكان رجوع العامّي إلى المجتهد في جميع هذه الأصول: أمّا في الأصول المحرزة- كالاستصحاب مثلًا الذي يكون مورده اليقين السابق مع الشكّ الفعلي- فلأنّ المجتهد هو نفسه لمّا تفحّص عن الأمارات ولم يجدها فصار متيقّنًا وشاكّاً، فإذن تقوم عنده الأمارات الدالّة على الاستصحاب، فيرى أنّ الحكم الواقعي حينئذٍ هو مؤدّى الاستصحاب، فيُخبر العامّي فيكون حجّةً عليه [لأنّه ذكر سابقًا أنّ حجيّة خبر العادل تشمل هذا النوع من الإخبار أيضًا]٢ و٣.٤
الدر النضيد في الإجتهاد و التقليد و المرجعية ؛ ص۱۰۱
ب: وجهان آخران لبيان حجيّة الأصول المحرزة واستبعادهما من قبل الشيخ الحلّي
هذا، ورُبّما قيل بحجّيّة الاستصحاب بالنسبة إلى العامّي بوجهين آخرين:
الوجه الأوّل:
أنّ المجتهد يُخبر العامّي بسبب يقينه السابق، فيقول مثلًا: قامت الأمارة على أنّ الماء المتغيّر نجسٌ، فإذن يصير المقلّد بنفسه متيقّنًا كالمجتهد، ثمّ يُخبره بعدم قيام الأمارة على بقاء هذه النجاسة بعد زوال التغيّر من قِبَل نفس الماء، فإذن يصير العامّي بنفسه شاكّاً في بقاء هذا الحكم، فيجري هو بنفسه الاستصحاب. فعلى هذا، إنّ قول المجتهد ببقاء نجاسة الماء المتغيّر حين زوال التغيّر يكون بمنزلة إخباره عن أسباب يقينِه وشكِّه، فكأنّ العامّي هو بنفسه أجرى الاستصحاب. ففي هذا الوجه تكون العبرة بيقين العامّي وشكّه، فإخبار المجتهد عن مؤدّى الاستصحاب يكون بمنزلة إخباره عن أسباب يقينه وشكّه.۱
الوجه الثاني:
إنّ المفتي إنّما يُخبر العامّي بقيام الأمارة على نجاسة الماء المتغيّر، فيصير العامّي متيقّنًا بنجاسته، لكنّ العامّي هو بنفسه يكون شاكّاً في بقاء نجاسته عند زوال التغيّر، ويكون شكّه وجدانيّا. فإذن أخذ يقينه السابق من المجتهد، وضمّه إلى شكّه الفعليّ، فتتمّ أركان الاستصحاب. وفي هذا الوجه يكون مورد الاستصحاب بالنسبة إليه ملفّقًا من يقينه المتّخذ من إخبار المجتهد بقيام الأمارة، ومن شكّه الوجداني، بخلاف
الوجه الأوّل؛ لأنّ في ذلك الوجه يكون كلًا من يقينه وشكّه متّخذًا من إخبار المجتهد.
ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البُعد.۱
هذا كلّه بالإضافة إلى الاستصحاب وباقي الأصول المحرزة أيضًا كذلك.
ثالثًا: في موارد الأصول غير المحرزة
أ: بيان الإشكال في موارد الأصول غير المحرزة
نعم، يكون إشكال رجوع العامّي إلى المجتهد في العمل الثالث؛ وهو إجراء الأصول الشرعيّة الغير المحرزة؛ أقوى من الإشكال بالإضافة إلى رجوعه إليه في الأصول المحزرة، وذلك لأنّ موضوع الأصول الشرعيّة الغير المحرزة هو الشكّ في الحكم الواقعي، والعامّي وإن كان شاكّاً لكن لا عبرة بشكّه في إجراء الأصل؛ لأنّ موضوع جريان الأصل هو شكٌ خاصٌّ وهو الشكّ الموجود بعد الفحص عن الأمارات والأصول الغير المحرزة وعدم الظفر بها.
فالحائض إن شكّت مثلًا في جواز حمل المصحف في جيبها أو حمائله، لا يمكن أن ترجع إلى الفقيه فتأخذ منه الحكم الثابت على من شكّ في الحرمة بعد عدم الظفر بها؛ لأنّ المجتهد بعد عدم الظفر بحرمة حمل المصحف للحائض، وإن كان يعلم بجواز حملها إيّاه لمكان قيام الأمارة الدالّةعلى الترخيص فيما لا يُعلم، لكنّ إخباره بالجواز إنّما يكون حجّةً بالنسبة إلى من كان ممّن لا يعلم، مع فحصه عن الدليل فلم يظفر به، لا بالنسبة إلى مطلق الشاكّ.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ إخبار المفتي إنّما يكون حجّةً بالنسبة إلى من كان موضوعًا للحكم المخبَر به، والشاكّ الذي لم يفحص ليس موضوعًا لأدلة البراءة والاحتياط والتخيير، فلا معنى لكونه حجّةً بالنسبة إليه. هذا بيان إشكال جواز رجوع العامّي إلى المجتهد في الأصول التعبّديّة.
وجوابه يظهر بتمهيد مقدّمتين، وقبل الشروع في بيانهما، لا بأس بذكر كلام صاحب «الكفاية» في رفع الإشكال في رجوع العامّي إلى المجتهد في الأصول العقليّة لفائدةٍ في ذكره ينفع للمقام.
ب: جواب صاحب الكفاية عن الإشكال في الأصول العقلية
قال قدّس سرّه:
«إن قلتَ: رجوعه إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الأصول العقليّة ليس إلّا الرجوع إلى الجاهل».
ثمّ أجاب بقوله:
«قلتُ: رجوعه إليه فيها إنّما هو لأجل اطّلاعه على عدم الأمارة الشرعيّة فيها وهو عاجزٌ عن الاطّلاع على ذلك، وأمّا تعيين ما هو حكم العقل، وأنّه مع عدمها: هو البراءة أو الاحتياط؟ فهو إنّما يرجع إليه، فالمتَّبَع ما استقلّ به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده؛ فافهم»۱. انتهى.
توضيح جواب صاحب الكفاية
أقول: أوّلًا: عدم تعرّضه قدّس سرّه للأصول المحرزة وغير المحرزة التي هي العمل الثاني والثالث للمجتهد وبيان الإشكال في خصوص الأصول العقليّة؛ إنّما هو لأجل إدخاله قدّس سرّه هذين الأصلين في موارد الأمارات؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة
وهذين الأصلين إنّما هو من الأمارات، فباعتبار الدليل على اعتبارها لا باعتبار نفسها، عدّها من جملة الموارد التي قامت الأمارة عليها.
وثانيًا: إنّك ترى أنّه قدّس سرّه أجاب عن وجه الإشكال في رجوعه إليه في الأصول العقليّة، بأنّ العامّي لا يرجع إلى المجتهد في إجراء الأصول، بل لمّا كان موردُ إجراء الأصول العقليّة فَقْدَ الأمارة الشرعيّة، فالعامّي يرجع إليه لأن يستعلم مِنه: هل الأمارة موجودةٌ في المقام أم لا؟ فيخبره المجتهد بعدم وجودها. فإذن لا بدّ وأن يُجريَ العامّي الأصول العقليّة على حسب ما أدّى إليه نظره من أصل البراءة العقليّة أو أصالة دفع الضرر المحتمل، وإن كان مخالفًا مع مجتهده فيما أدّى إليه نظره.
وبالجملة ليس رجوع العامّي إلى المجتهد في مقامنا هذا رجوع الجاهل إلى الجاهل، بل يكون المجتهد حينئذٍ عالمًا بعدم قيام الأمارة، والعامّي يرجع إليه في هذا الأمر العدميّ لا في الأمر الوجوديّ، فإذا عرف بإخباره هذا الأمرَ العدميّ، (أي: عدم قيام الأمارة) يُجري هو بنفسه الأصول العقليّة.
الجواب على صاحب الكفاية
إذا عرفت هذا، نقدّم المقدِّمتين:
الأولى: إنّ الشكّ الذي أُخذ موضوعًا لأدلّة الأصول التعبّديّة ليس في جنسه أو نوعه مغايرًا لسائر الشكوك حتّى يُقال: إنّه لا عبرة بشكّ العامي، بل الموضوع لأدلّة الأصول هو شكٌّ خاصٌّ؛ بمعنى الشكّ مع الفحص وعدم الظفر بالدليل. فيكون الموضوع مركّبًا من أمرين: الفحص مع عدم الظفر بالدليل، الثاني: وجود الشكّ. ولا يخفى أنّ العامّي يكون واجدًا لجزء من الموضوع المركّب وهو الشكّ، فإذا التأم به الفحص يتمّ كلا جزئي الموضوع.
المُقدمة الثانية: إنّا نقتبس ممّا ذكره صاحب «الكفاية» من أنّ رجوع العامّي إلى المجتهد في الأصول العقليّة إنّما هو رجوعٌ إليه في فقد الأمارة الشرعيّة، فنقول بمثل ما قاله في المقام أيضًا۱، فنقول: إنّ جريان الأصول التعبّدية لمّا كان متوقّفًا على عدم قيام الأمارة على الحكم الواقعي وعلى الأصل المحرز والمجتهد مطّلع بعدم قيامها، فالعامّي يرجع إليه في استعلامه عن هذا الأمر العدميّ، فيُخبره المجتهد بعدم قيامها، فيكون هذا الإخبار حجّة بالنسبة إليه. فإذن يصير المقلّد واجدًا لتمام موضوع أدلّة الأصول: أمّا شكّه فوجداني، وأمّا عدم الدليل فقد أخذه من المجتهد الذي يكون قوله حجّة [لأنّه عادلٌ وصادقٌ ومشمولٌ لأدلّة حجيّة خبر الواحد]٢.
فأحد جزئَي الموضوع وجداني والآخر تعبّدي، فعلى هذا يكون المقلّد شاكّاً في مورد عدم الدليل. ثمّ يرجع إلى المجتهد فيستعلمه عن حكم الشاكّ مع عدم الدليل، فيُخبره المجتهد بالاحتياط أو البراءة، فيكون هذا الحكم أيضًا حجّة بالنسبة إليه. فالحائض تحمل المصحف بهذا النحو من رجوعها إلى الفقيه.
وممّا ذكرنا عرفتَ أنّ العامّي في هذه الموارد يرجع إلى الفقيه في أخذ أحد جزئَي الموضوع، ثمّ في أخذ حكم الموضوع المركّب بعد ضمّه هذا الجزء من الموضوع إلى الجزء الآخر الوجداني.
الاستشكال على الجواب:
لكن يرِد على هذا التقريب:
أوّلًا: أنّه لا دليل على حجّيّة قول المفتي بالنسبة إلى المقلِد في الأُمور العَدميّة؛ لأنّ الدليل إنّما هو أدلّة حجّيّة خبر الواحد وأدلّة حجّيّة فتوى أهل الخبرة أو أدلّة التقليد، وشمولها للأمور العدميّة محلّ نظرٍ كما أفاده بعض سادة مشايخنا المحقّقين قدّس سرّه.
وثانيًا: إنّ المجتهد لا يمكن له أن يخبر العامّي بعدم وجود الأمارة؛ لإمكان وجودها واختفائها عليه، فغاية ما يمكن له أن يخبره هو عدم الظفر على قيام الأمارة، ولا دليل على حجّيّة عدم ظفر المجتهد بالإضافة إلى العامّي؛ لأنّ العامّي لو تفحّص يمكن أن يظفر على دليلٍ مخفيٍّ عن نظر المجتهد. فعلى هذا لا يكون إخبار المجتهد بعدم ظفره بالأمارة حجّةً على العامّي، حتّى [يُصبح] العامّي أيضًا غير ظافرٍ بالدليل تعبّدًا. نعم لو أخبر المجتهد بعدم وجود الأمارة قطعًا كان إخباره حجّةً على العامّي، لكن كيف يقدر على هذا النحو من الإخبار؟
فعلى هذا لا بدّ من تقريبٍ آخر حتّى يتمّ المقصود.
محاولة أخرى في الإجابة على صاحب الكفاية
فنقول: إنّ موضوع أدلّة البراءة ليس هو الشاكّ مع الفحص عن خصوص الكتب الأربعة وعدم الظفر بأمارة فيها، بل الفحص يختلف على حسب اختلاف مراتب الناس؛ فالمجتهد يكون مورد فحصه جميع الكتب التي يُحتمل وجود أمارةٍ معتبرةٍفيها، وإذا لم يقدر أحيانًا على الفحص لأجل وجود الكتب- مثلًا- في صندوق مقفول ضاع مفتاحه، لا يتمكّن من الرجوع إلى البراءة؛ لأنّ له القدرة على الفحص وله المَلكة والاقتدار عليه، وإن كان لا يتمكن من إعمالها فعلًا؛ ولذا لا يتمكّن من الرجوع إلى البراءة في المسائل التي لم يستنبط حكمها، مع أنّ المفروض عدم اقتداره على استنباط جميع الأحكام دفعةً.
وأمّا العامّي فلا يقدر على الفحص عن مظانّ قيام الأمارة المعتبرة في الكتب أصلًا، ففحصه إنّما هو رجوعه إلى الفقيه العالم، فإذا رجع إليه وأخبره بعدم قيام الأمارة، فقد فحَص عن الدليل ولم يظفر به، فإذن يكون شاكّاً في الحكم مع فحصه وعدم الظفر بالدليل. فهذا الموضوع وجدانيٌّ بتمامه لا أنّه ملتئمٌ من الأمر الوجدانيّ والتعبّديّ، فرجوعه إلى المجتهد إنّما يكون لتحصيل الجزء الوجدانيّ الآخر من الموضوع؛ وهو الفحص وعدم الظفر بالدليل. ثمّ بعد هذا يرجع إلى المجتهد فيسأله
عن حكم الشاكّ الذي فحص ولم يظفر، فيخبره المجتهد بإجراء أصل من الأصول التعبّديّة؛ فعلى هذا يكون رجوعه إلى المجتهد إنّما هو في أمرٍ واحدٍ، وهو: السؤال عن حكمِ الشاكّ؛ فإذا أخبره، يعمل على مقتضاه. وهذا لعلّه واضحٌ.۱
هذا كلّه بالإضافة إلى رجوع العامّي إلى المجتهد في العمل الثالث؛ وهو إجراء الأصول التعبّديّة.
رابعًا: في موارد الأصول العقليّة
أ: بيان الإشكال في موارد الأصول العقليّة
وأمّا في رجوعه إليه في العمل الرابع- وهو إجراء الأصول العقليّة- فالأمر أشكل؛ إذ لا تنتهي النوبة إلى إجراء الأصول العقليّة إلّا إذا لم يظفر المجتهد بشيءٍ من الأمارات والأصول التعبّديّة، فيكون إذن صفر الكفِّ بالنسبة إلى الأدلّة الشرعيّة، فحينئذٍ يبقى هو وعقله. فإن رأى أنّ المورد من موارد «قبح العقاب بلا بيان» يُجري أصالة البراءة، وإن رأى أنّ المورد من موارد «دفع الضرر المحتمل» يُجري أصالة الاحتياط. فرجوع العامّي إليه حينئذٍ يكون رجوعًا إليه فيما يقتضيه عقله، فبأيّ دليل
يكون إدراك المجتهد ورأيه في الأمور العقليّة دون الشرعيّة حجّةً بالإضافة إلى المقلِّد؟
ب: جواب صاحب الكفاية المتقدّم
فلدفع هذا الإشكال ذهب صاحب «الكفاية» قدّس سرّه إلى أنّ العامّي لا يَرجع إليه في الأصول العقليّة، بل يرجع إليه في استعلامه عند عدم قيام الأمارة المعتبرة، فإخباره بعدم قيامها يكون حجّةً على المقلّد. فإذن يكون حال العامّي حال المجتهد في أنّ كلًا منهما يُجري الأصول العقليّة لنفسه، فلا بدّ وأن يُجريَ العاميّ هذه الأصول على حسب ما أدّى إليه نظره، وإن كان في تشخيص موردها مخالفًا مع نظر مجتهده.
وبالمثل إذا رأى المجتهد أنّ المورد من موارد «قبح العقاب بلا بيان»، ورأى العامّي أنّ المورد من موارد «دفع الضرر المحتمل»، لابدّ وأن يحتاط هو وإن لم يحتط مقلِّدُه. وكذا في موارد «دوران الأمر بين المحذورين» لو رأى المجتهد تساويَ الفعل والترك في المزيّة، لكن رأى العامّي أنّ دفع الضرر المحتمل أولى من جلب المنفعة، فلا بدّ وأن يترك العامّي [الفعل] وإن كان المجتهد مخيّرًا بين الفعل والترك.
الإشكال على جواب صاحب الكفاية: قصور العامّي
هذا، ولكن لا يخفى: أنّ إرجاع هذه الأُمور إلى نفس المقلِد العامّي أيضًا لا يخلو عن إشكالٍ؛ إذ يكون العامّي قاصرا عن درك هذه المعاني غالبًا، فيتحيّر أشدّ التحيّر؛ كالمعلّق بين السماء والأرض.
ج: الجواب على الإشكال: شمول أدلّة التقليد لموارد الأصول العقليّة
والذي ينبغي أن يُقال في المقام: إنّ عمدةأدلّة التقليد، وهي السيرة القطعيّة من بناءالعقلاء، تشمل موارد رجوع الجاهل إلى العالم في الأُمور العقليّة أيضًا، ولذلك ترى كثيرًا ما يستشير العامّي ذا لبٍّ وشعورٍ في أمورات شخصه الاجتماعيّة والانفراديّة والسياسيّة، [ومع] أنّ هذه الاستشارة [عند] بعض الأشخاص لأجل أن
يعلم المستشير مناط كلام المشير، فيدرك المطلوب ويفهمه ويعلم به كما علم به المُشير، لكنّ الغالب [في] الاستشارة أنّها تكون لاتّباع قول المُشِير وتقليده في رأيه، بلا نظرٍ إلى إدراك حقيقة المُشار به، بل [بسبب] الاطمينان بصحّةما أرشده [إليه] المُستشار، فيعمل طبقًا لما أشار به.
إذا عرفت هذا، فقد علمتَ أنّ رجوع العامّي إلى المُفتي في جريان الأصول العقليّة إنّما هو مِن صغريات رجوع الجاهل إلى العالم، فإذن للسيرة في هذا المقام غنًى وكفايةً.۱
خامسًا: في موارد الملازمات العقليّة المحضة
أ: بعض التطبيقات للملازمات العقليّة
بقي في المقام أمرٌ آخر: وهو أنّ المُفتي ربّما يحكم بشيءٍ لا من أجل الكتاب والسنّة، بل من جهة إدراكه الملازمات والاستلزامات واللوازم، وبعبارةٍأخرى: من جهة قواعد عقليّةٍ محضةٍ؛ كامتناع اجتماع الضدّين والمماثلين، وامتناع اجتماع النقيضين، واستحالةانفكاك المعلول عن العلّة والأثر عن المؤثّر، ونظائرها. بل إنّك ترى كثيرًا من الفروع الفقهيّة مبتنيةً على هذه الأُمور العقليّة، ويدور عليها كثيرٌ من المسائل الأُصوليّة التي تكون مدركًا للأحكام الشرعيّة الفرعيّة. وهذا كما فيما [إذا] رأى المجتهد امتناع اجتماع حكمين متماثلين أو متخالفين على موضوعٍ واحدٍ، فيرى أنّ الوضوء في الوقت لمّا كان واجبًا للصلاة لا يصحّ إذا أتى المكلّف به بداعي الاستحباب، فيحكم ببطلان وضوئه، مع أنّ بطلانه في هذا المورد لم يرد عليه دليلٌ من الكتاب ولا من السنّة. وكذلك يحكم ببطلان الصلاة في المسجد الذي يكون فيه
نجاسةٌ قبل إزالتها؛ لمّا ذهب إلى أنّ «الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه»، مع أنّ بطلانها حينئذٍ لم يكن منصوصًا في الكتاب والسنّة. ثمّ المجتهد الآخر لا يرى «اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه»، فيحكم بصحّة الصلاة. ثمّ المجتهد الثالث يرى الملازمة بين الأمر بالشيء وعدم الأمر بضدّه، فيستدلّ على امتناع كون الصلاة مأمورًا بها، فيحكم بالبطلان لمكان عدم الأمر. ثمّ المجتهد الرابع يرى «كفاية الملاك في صحّة العبادة» ويذهب ببعض المقدّمات العقليّة إلى وجود الملاك في هذه الصلاة، فيحكم بالصحّة. ثمّ المجتهد الخامس يرى أنّه لا طريق لإحراز الملاك إلّا الأمر، ولكنّه يُثبت الأمر بالترتّب على التفصيل المذكور في بابه، فيحكم بالصحّة أيضًا. وأنت ترى أنّ واحدًا من هذه الأحكام ليس منصوصًا في الكتاب والسنّة، ومع ذلك يحكم المجتهد على طبقها حكمًا جزميّا.۱
وهكذا الأمر في مسألة اجتماع الأمر والنهي؛ فمن يرى أنّ التركيب انضماميٌّ يذهب إلى إمكان الاجتماع، فيحكم بصحّة العبادة في الأرض المغصوبة، ومن يرى أنّ التركيب اتّحاديٌّ يذهب إلى الامتناع، فيرى بطلان الصلاة بناءً على تقديم جانب الحرمة.
ومن توسّط في أرض مغصوبة ويريد الخروج منها، فمع ذلك يُفتي المفتي بحرمة خروجه، وحرمة توقّفه فيها أيضًا، ويستدلّ بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. وهلمّ جرّا من الفروع الكثيرة التي يكون مدركها هذه الاستلزامات والملازمات العقليّة. وهكذا الأمر في كثيرٍ من أبواب المعاملات؛ فيحكم المجتهد بفساد البيع والإجارة لمكان النهي الشرعيّ، ويحكم بالخيار عند تخلّف الشرط، بدعوى أنّ العقد التزامٌ في التزامٍ، ولكن التزام الشخص الآخر مقيّدٌ بهذا الالتزام، فإذا لم يفِ الأوّل بالتزامه في ضمن التزامه لا يكون الآخر ملتزمًا بالعقد وله حلُّه وفسخُه. وهلّم جرّا؛ بل جميع أبواب المعاملات- مع كثرة فروعها- من هذا القبيل إلّا نادرًا.
ب: الإشكال الأول: اعتماد الاستلزامات العقليّة اعترافٌ بدليليّة العقل
وعلى هذا، تارةً يمكن أن يُشكَل علينا بأنّكم ادّعيتم انحصار مدرك الأحكام بالكتاب والسنّة، مع أنّ مدار جلٍ من الأحكام هذه الاستلزامات العقليّة؛ ثمّ إنّكم كلّما تستنبطون من الكتاب والسنّة يكون ظنّيًا غالبًا، إلّا في موارد شاذّةٍ ممّا قامت الضرورة على حكم، و أمّا هذه الاستلزامات العقليّة تُفيد القطع بالحكم؛ فمن يرى وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ يحكم بوجوبها وحرمته قطعًا، فإذن يلزم أن يكون مدرك الأحكام القطعيّة هو العقل ومدرك الأحكام الظنّية هو الكتاب والسنّة، فيلزم أن يكون العقل أقوى من الكتاب والسنّة بمراحل، فيكف أنكرتم دليليّةالعقل في قبال الكتاب والسنّة؟۱
ج: الإشكال الثاني: لو لم يجز الرجوع إلى المفتي في المسائل العقليّة لزم بقاء العاميّ حائرًا لصعوبة إدراكها
وأخرى يُشكل على صاحب «الكفاية» بأنّكم ذهبتم إلى عدم إمكان رجوع العامّي إلى المُفتي في المسائل العقليّة، ولذا ادّعيتم رجوعه إليه في عدم قيام الأمارة في موارد جريان الأصول العقليّة، لا رجوعه إليه في جريان نفس الأصول.۱ فعلى هذا يلزم عدم إمكان متابعة العامّي للمجتهد في هذه الاستلزامات العقليّة، وإذن لا يبقي حجرٌ على حجرٍ؛ إذ لا يمكن اطّلاع العامّي على هذه الأُمور الدِّقيّة، فيلزم بطلان الأحكام لعدم قدرته على إدراك هذه الملازمات العقليّة، فإذن يبقي حائرًا.٢
۱- الجواب عن الإشكال الثاني
ولكن يمكن أن يُجاب مِن قِبل صاحب «الكفاية» قدّس سرّه: بأنّ المجتهد المُدرِك لهذه الملازمات يقطع بالحكم، فلذا يُفتي بالحكم قاطعًا، فإذن يجوز له أن يُخبر العامّي بأنّ الحكم الواقعي يكون كذا، ولا يكون القطع أنزل درجة من الأمارات؛ حيث ذكرنا أنّ من آثار حجّيّة الأمارة هو جواز الإخبار عن مؤدّيها فكيف بالقطع؟٣
٢- الجواب عن الإشكال الأوّل
وأمّا الجواب عن الإشكال المتوجِّه إلينا، فهو أنّ المجتهد الحاكم بالحكم الواقعي لأجل هذه الملازمات إنّما يحكم به بعد ثبوت الملزومات، ضرورة أنّه إذا لم تجب الصلاة لا يقدر أن يحكم بوجوب مقدّمتها؛ ومن المعلوم أنّ جميع الملزومات تثبت بالكتاب والسنّة؛ فيصح أن يُقال: إنّ مدرك هذه الملازمات أيضًا هو الكتاب والسنّة. فالعقل لا يستقلّ باستنباط حكمٍ من الأحكام، بل يكشف الحكم الواقعي بمعونة الكتاب والسنّة، فالدليل هو الكتاب والسنّة لا محالة.
وبهذا ظهر لك عدم كون حكم المُفتي بهذه اللوازم قطعيّا، بل حكمه تابعٌ في اللوازم للحكم الثابت في الملزومات، فإذا كان وجوب الصلاة ظنّيًا يكون حكمه بوجوب مقدّمتها ظنّيًا أيضًا؛ لأنّ النتيجة تابعةٌ لأخسّ المقدّمتين. فلمّا كانت جميع الأحكام المستفادة من الكتاب والسنّة ظنّيةً، فلا محالة فإنّ جميع هذه الأحكام الثابتة بالملازمات ظنّيةٌ. نعم، إذا ثبت حكمٌ بالضرورة من الدين كوجوب الصلاة في الوقت، يكون لازمُه وهو وجوب تحصيل الإتيان بمقدّماتها قطعيّا أيضًا، فلا تغفل.
هذا كلّه بناءً على انفتاح باب العِلمي.
الفرع الثاني: حجية فتوى المجتهد بناء على الانسداد
وأمّا بناءً على انسداد باب العِلم والعِلمي، فقد عرفتَ أنّ الانسداد تارةً يُنتج حجّيّة الظنّ من باب الكشف؛ بمعنى أنّ الشارع جعله حجّةً في هذا الحال؛ كما جعل خبر الواحد والبيّنة واليد حجّةً في حال الانفتاح، وأخرى يُنتج حجّيته على وجه الحكومة، وهذا أيضًا بتقريبين:
الأوّل: أنّه عند انسداد باب العِلم والعِلمي، يحكم العقل بحجّيّة الظنّ؛ كما يحكم بحجّيّة القطع حال الانفتاح.
الثاني: أنّه بعد عدم إمكان الاحتياط بجميع المحتملات من المشكوكات والموهومات والمظنونات، يحكم العقل بوجوب عزل الموهومات أوّلًا، ثمّ المشكوكات، فإن لم يلزم من العمل بجميع الظنون- على مراتبها- العسر والحرج فبِها، وإلّا يحكم بوجوب عزل طائفةٍ من الظّنون الضعيفة، ثمّ الظنون التي تكون أقوى منها بدرجةٍ، إلى أن يصل العزل إلى حدٍّ لا يلزم من العمل بسائر الظنون محذورٌ، فالعمل على طبق هذه الظنون دون المشكوكات والموهومات يكون بحكم العقل.
فعلى هذا، إنّ هذا النحو يكون أيضًا قسمًا من الحكومة، وإن كان حقيقته التبعيض في الاحتياط.
أوّلًا: حجّية الفتوى بناءً على الكشف
أ: بيان الإشكال في الحجيّة بناءً على الكشف
إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنّه يُشكل الأمر في رجوع العامّي إلى المجتهد في جميع هذه الأقسام؛ أمّا بناءً على الكشف؛ فلأنّ المجتهد يكشف بعد إتمام مقدّمات الانسداد أنّ الشارع جعل الظن حجّةً بالإضافة إليه لا بالإضافة إلى من لم يقم عنده ظنٌّ.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ المجتهد يكشف أنّ الشارع جعل الظنّ حجّةً في حقّ من حصل عنده الظنّ، فكلّ أحد ظنّ بالحكم يكون هذا الظنّ طريقًا شرعيّا إلى الحكم الواقعيّ بالإضافة إليه؛ ولا يكشف بمقدّمات الانسداد أنّ الشارع جعل ظنّ شخصٍ واحدٍ- وهو ظنّ المجتهد- طريقًا وحجّةً بالنسبة إلى جميع المكلّفين. فعلى هذا، تكون حجّيّة الظنّ إنّما هي بالإضافة إلى خصوص الظانّ، نظير قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ۱ حيث إنّه يُستفاد من مقابلة الجمع بالجمع أنّه يجب على كلّ أحدٍ أن يفي بعقد نفسه، لا أنّه يجب على كلّ أحدٍ الوفاء بطبيعة العقد، ولو كانت متحقّقةً بالإضافة إلى عقد غيره.
وليس نظيرَ قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ٢ حيث إنّ الواجب- حينئذٍ- أنّ كلّ فردٍ فردٍ يجب [عليه] إقامة هذه الطبيعة.٣
وبالجملة لا ريب في إنتاج مقدّمات الانسداد حجّيّة الظنّ بالإضافة إلى خصوص الظانّ، فتكون الحجّيّة حينئذٍ انحلاليّةً، بمعنى: أنّ كلّ أحدٍ ظنّ بالحكم
جعل الشارع له- لظنٍّ له- حجّةً غير ما جعله حجّةً بالإضافة إلى شخصٍ آخر لو ظنّ بالحكم؛ فإذن كيف يرجع العامّي إلى المجتهد مع عدم حظٍ له أصلًا في الظنّ المختصّ حظُّه بالمجتهد؟!
ب: الإجابات المطروحة في المقام:
۱- جواب الشيخ الحلّي على الإشكال
هذا ولكنّ دفع الإشكال على ما بنينا عليه مِن جواز الإخبار في الأمارات سهلٌ؛ لأنّ نتيجة حجّيّة هذا الظنّ للمجتهد كما يكون هو التنجيز والتعذير بالإضافة إليه، كذلك تكون نتيجته أيضًا جواز الإخبار على طبق المؤدّى إلى العامّي، فيشمله أدلّة حجّيّة خبر الواحد أو أدلّة التقليد، فيكون المخبر به حجّةً بالنسبة إلى العامّي أيضًا.۱
٢- الجواب على مبنى الشيخ النائيني
وكذلك سهلٌ دفع الإشكال على مذهب شيخنا الأستاذ قدّس سرّه حيث ذهب إلى أنّ المجتهد بوحدته نازلٌ منزلة جميع الملّكفين؛ لأنّ ظنّه حينئذٍ بمنزلة نفس ظنّ المكلفين، فيكون هذا الظنّ حجّةً بالإضافة إلى جميع المكلّفين.
٣- استحالة الجواب على مبنى الشيخ الأنصاري
وأمّا على مسلك النيابة فلا مدفع لهذا الإشكال أصلًا، وذلك لأنّ حقيقة النيابة ليس هو التنزيل، بل معناها تَحَمُّلُ حِمْلِ الغير؛ إمّا بإيصاله إلى حِمْله، وإمّا بإيصال الحِمْلِ إليه، فإذن لا بدّ وأن يكون هناك حِملٌ متعلّقٌ بشخص المنوب عنه لا بدّ وأن يصل هو
إلى حمله، لكن لا يصل إليه لعجزه أو غير العجز، فيتحمّل النائب عنه فيوصله إلى حِمله أو يوصل الحِمل إليه. وهذا يُتصوّر بالنسبة إلى نيابة المجتهد في حجّيّة الأمارات وخبر الواحد، دون الظنّ على مسلك الكشف؛ وذلك لأنّ الأمارات الخاصّة وخبر الواحد لا تختصّ حجّيتها بالإضافة إلى خصوص من أدّت الأمارة إليه، أو إلى خصوص من وصل إليه الخبر، بل هي حجّةٌ بالإضافة إلى جميع المكلّفين، لكن لا حظّ لمن لم يصل إليها بها، وحينئذٍ تصحّ للمجتهد النيابة بأن يُوصل المكلّفين إلى الخبر أو يوصل الخبر إليهم.
وأمّا في الظنّ على تقدير الكشف لمّا كانت حجّيته مختصّةً [به] في حدّ نفسه، لا يعقل تحقّق النيابة أصلًا؛ لأنّ المنوب عنه لا يكون له شيءٌ حتّى ينوب عنه بإيصاله إليه، ولا حظّ له في ظنّ المجتهد أصلًا، فكيف ينوب عنه المجتهد؟!
٤- استحالة الجواب على مسلك صاحب الكفاية
وكذا لا مدفع لهذا الإشكال على مسلك صاحب «الكفاية» قدّس سرّه حيث إنّه قدّس سرّه التزم في باب الأمارات بأنّ المجتهد لا يُخبِر المكلّفين بالحكم الواقعيّ؛ لعدم علمه به، حتّى تشمل أدلّة التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم، بل يخبرهم بموارد قيام الأمارات؛ لأنّه يكون عالمًا بها، وبضميمة أدلّة التقليد لا بدّ وأن يرجع المكلّفون إليه؛ لأنّ رجوعهم إليه في هذا المعنى يكون من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم. لكن عرفت فساد هذا المبنى. وبالجملة على هذا المسلك، يكون الإشكال على حاله؛ لأنّ المجتهد العالم بظنّه إذا أخبرهم بظنّه لا يكون لهذا الإخبار ثمرةٌ بالنسبة إليهم؛ لأنّ الظنّ لمّا كان حجّةً بالإضافة إلى خصوص المجتهد، والشارع جعله حجّة بالإضافة إليه دون غيره، لا يترتّب على إخباره بظنّه بضميمة أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم أزيد من اطّلاعهم على أحكام المجتهد، ولا يحصل لهم علم بأحكام أنفسهم؛ لأنّ الظنّ حيث كان مختصًا بالمجتهد؛ فالحكم المترتّب عليه- وهو المؤدّى أيضًا- يكون مختصًا بالإضافة إليه. فإذن لا أثر في إخباره إيّاهم بظنّه، فلا يشمل أدلة التقليد للمقام أصلًا.
إشكالٌ على صاحب الكفاية وبيان فساده
وربما أَشكَل بعضٌ على صاحب «الكفاية» حيث التزم بهذا الإشكال وعدم المدفع عنه بقوله:
«وأمّا على تقدير الكشف وصحّته، فجواز الرجوع إليه في غاية الإشكال؛ لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختصّ حجّيّة ظنّه به، وقضيّة مقدّمات الانسداد اختصاص حجّيّة الظنّ بمن جرت في حقّه دون غيره، ولو سُلِّم أنّ قضيّتها كون الظنّ المطلق معتبرًا شرعًا؛ كالظنون الخاصّة التي دلّ الدليل على اعتبارها بالخصوص فتأمّل»۱- انتهى.
وحاصل الإشكال أنّه لا فرق في جواز التقليد بينما إذا قامت عند المجتهد أمارةٌ من الأمارات على الانفتاح، وبينما إذا ظنّ بالحكم بناءً على الكشف على الانسداد؛ لأنّه على كلا التقديرين يكون له حجّةٌ شرعيّةٌ مجعولةٌ بالإضافة إلى الحكم الواقعي، فكما تصحّ النيابة في موارد الأمارات أو يجوز إخباره عن موارد قيام الأمارات، كذلك تجوز النيابة ويجوز إخباره عن موارد ظنونه عند الانسداد، فتشمل أدلّة التقليد لكلا المقامين على السّواء.
وأنت خبيرٌ بفساد هذا الإشكال عليه؛ فكم فرقٍ بين الأمارات التي تكون حجّةً بالإضافة إلى كلّ أحدٍ، فيجوز للمجتهد النيابة في إيصال العامّي إلى حجّته أو إيصال حجّته إليه، وكذلك يجوز له أن يخبره بموارد الأمارات التي تكون حجّةً بالنسبة إليه، وبين الظنون التي تكون حجّيتها مختصّةً بالإضافة إلى نفسه ولا حظّ للغير فيها أبدًا.٢
جواب المحقّق الأصفهاني على الإشكال المذكور وفساد جزء منه
ولعمري ما فهمت معنى كلام المحقّق الإصبهاني قدّس سرّه في «حاشيته» ردًا عليه، حيث قال:
«والجواب- بعد النقض بالاستصحاب المتقوّم باليقين والشكّ القائمَين بالمجتهد، مع أنّه لم يَستشكِل فيه- هو أنّ المقدّمات تقتضي حجّيّة الظنّ المتعلّق بالحكم، فإذا تعلّق الظنّ بحكم الغير وكان على طبقه حكم مماثلٌ مجعولٌ، فلا مانع من شمول أدلّة التقليد له، ومع تماميّة المقدّمات بالإضافة إلى مثل هذا الظنّ، لا موجب لعدم حجّيته والاقتصار على الظنّ المتعلّق بحكم نفسه بملاحظةقيام الظنّ به، فإنّ قيامه به لا يقتضي عدم كونه حجّةً على حكم الله تعالى في حقّ الغير. ولعلّه أشار إلى بعض ما ذكرنا بالأمر بالتأمّل فتدبّر»۱- انتهى.
أقول: أمّا نقضه عليه بموارد الاستصحاب فتامٌّ؛ لأنّه يخبرهم بموارد يقينه وشكّه، مع أنّ الاستصحاب حجّةٌ بالإضافة إلى من تيقّن وشكّ [لا بالإضافة إلى الآخرين؛ لأنّ يقينه وشكّه لا علاقة له بالآخرين]٢، والمتيقّن والشاكّ خصوص المجتهد، ولا أثر لإخباره بيقينه وشكّه بالإضافة إليهم. اللّهم إلّا أن يُقال: إنّه لمّا
أخبرهم بموارد يقينه [صاروا] هم عالمين بالحكم، فبضمّ علمهم إلى شكِّهم الفعلي يصيرون موضوعًا للاستصحاب فيجري الاستصحاب.
وأمّا جوابه الحلّي غير سديدٍ بوجهٍ؛ لأنّ مقدّمات الانسداد لا تقتضي حجّيّة الظنّ المتعلِّق بالحكم مطلقًا (حكم نفس الظانّ وغيره) إلّا أن [تكون] الحجّة الشرعيّة المجعولة على طبق هذا الظنّ إنّما تَختصّ بخصوص المجتهد الظانّ، فالحكم المماثل المجعول إنّما هو بالإضافة إلى خصوص المجتهد دون غيره، فإذن لا تشمل أدلّة التقليد في المقام حتّى يصحّ أن يقال [كما استدلّ نفس المحقّق الإصبهاني]۱ تفريعًا على ما ذكره: «فإذا تعلّق الظنّ بحكم الغير، وكان على طبقه حكمٌ مماثلٌ مجعولٌ، فلا مانع من شمول أدلّة التقليد له»؛ بل كما عرفت تقتضي المقدّمات حجّيّة الظنّ المتعلِّق بالحكم بالإضافة إلى نفس الظانّ دون غيره. هذا كلّه بناءً على الكشف.
ثانيًا: حجّية الفتوى بناءً على الحكومة بكلا قسميها
وأمّا بناءً على الحكومة، فلا بدّ من التكلّم في كلّ من قسميها على حِدَة؛ وإن لم نرَ مَن تعرّض لحكم كلّ قسم منها مستقلًا؛ فلذا وقع الخلط في كلامهم في حكم هذين القسمين. فنقول:
أ: بيان الإشكال بناءً على استقلال العقل بحجيّة الظنّ
أمّا بناءً على استقلال العقل بأنّ الظن حجّةٌ عند الانسداد وتماميّة جميع مقدّماته، فقد يشكل الأمر حينئذٍ عليهم؛ وذلك لأنّ الحجّة العقليّة ليست كالحجج الشرعيّة- ممّا يكون من آثارها جواز الإخبار على طبق المؤدّى- حتّى تشمله أدلّة حجّيّة خبر الواحد وأدلّة التقليد، بل ليست حجّيته أزيد من إثبات المنجّزية والمعذّرية في حقّ نفس الظانّ.
دفع الإشكال
ولكنّ الحكم العقلي والعرفي ليس حكمًا خارجًا عن مرحلة ذهن الإنسان وأفكاره حتّى [يضطرّ في] تحصيله إلى الرجوع إلى الخارج، فيرى أنّ العقلاء أو أنّ العرف: كيف يحكمون؟ بل الأحكام العقليّة والعرفية إنّما هي أحكامٌ يُدركها كلّ شخصٍ بحسب قوّة تمييزه، وبحسب ارتكازاته الحاصلة من وقوعه في مرحلة الاجتماع. ونحن إذا راجعنا أنفسنا نرى أنّه لا فرق بين الحجّة الشرعيّة وبين الحجّة العقليّة في أنّه يجوز الإخبار على طبق المؤدّى. فعلى هذا، لا بدّ وأن يقال: إنّه في هذا القسم من الحكومة- أيضًا- يجوز إخبار المجتهد عن مؤدّى ظنونه، فتصير حجّةً على العامّي بأدلّة حجّيّة خبر الواحد أو بأدلّة التقليد؛ وإن لم نرَ- أيضًا- من وافقنا في هذا المطلب.۱
ب: بيان الإشكال بناء على التبعيض في الاحتياط
وأمّا بناءً على قضيّة التبعيض في الاحتياط، فليس حجّة في البين أصلًا؛ لا شرعيّةً ولا عقليّةً؛ لأنّك عرفت أنّ الانسداد على هذا التقريب يُنتج- أوّلًا- الاحتياط بنحو مطلق، لكن لمّا كان مستلزمًا للعسر والحرج أو اختلال النظام، [كان] لا بدّ من ترك بعض المحتملات والإتيان بباقي المحتملات. ففي هذه المرتبة، العقل يحكم بأنّ الإتيان بالمظنونات وترك الموهومات أولى من العكس؛ ففي الحقيقة إنّ العمل بالمظنونات ليس من أجل حجّيّتها [عند] العقل، بل من باب منجّزيّة نفس العِلم الإجمالي الموجب للتبعيض في الاحتياط عند عدم التمكّن من الاحتياط رأساً، والعقل إنّما يرجّح المظنونات على الموهومات والمشكوكات.
فعلى هذا لا وجه لتقليد العامّي للمجتهد في هذا المقام أصلًا؛ إذ يجب على كلٍّ منهما العمل على طبق الاحتياط، ففي هذه المرتبة يكون العامّي والمجتهد على حدٍّ سواءٍ.
ثمّ على تقدير عدم إمكان الاحتياط المطلق، يجب العمل على طبق المظنونات، ففي هذه المرتبة أيضًا يكونان على حدٍّ سواءٍ. فلا بدّ لكلّ شخص العمل بالمظنونات التي ظنّ بها- هو بشخصه- لا بمظنونات غيره.۱
فإن كان للعامي أيضًا مظنوناتٌ تفي بانحلال العلم الإجمالي فهو. وإلّا فإن كان في جميع الأحكام شاكّاً، فلا بدّ وأن يترك بعض المشكوكات ويأتي بباقيها، ولا يجوز له الرجوع إلى المجتهد مع عدم قيام حجّةٍ شرعيّةٍ ولا عقليّةٍ بالإضافة إليه.۱
۱- كلام صاحب الكفاية في ثبوت الإشكال
وإلى ما ذكرنا أشار صاحب «الكفاية» قدّس سرّه بقوله:
«بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما [أي باب العلم و العلمي]٢، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال، فإنّ رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم، بل إلى الجاهل٣، وأدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى، وقضيّة مقدّمات الانسداد ليست إلّا حجّيّة الظنّ عليه لا على غيره، فلا بدّ في حجّيّة اجتهاد مثله على غيره من التماس دليلٍ آخر غير أدلّة التقليد وغير دليل الانسداد ...»- إلى آخر ما ذكره٤.
وهذه العبارة صريحةٌ في عدم حجّيّة قول المجتهد بالنسبةإلى العامّي بناءً على الحكومة، لكن ربما يستظهر من عبارته قدّس سرّه: «وقضيّة مقدّمات الانسدادإلخ». أنّه كان بصدد بيان حكم الحكومة على القسم الأوّل؛ وهو كون الظنّ حجّةً عقليّةً، لا على القسم الثاني الذي يكون مناط الحجّيّة فيه هو العلم الإجمالي.
وبالجملة، إن كان مراده هو القسم الأوّل، فقد عرفتَ جواز إخبار المجتهد عن مؤدّى ظنونه مع كونِها حُججًا عقليّةً بالإضافة إليه، وإن كان مراده هو القسم الثاني،
فما ذكره من عدم جواز رجوع العامّي إلى المجتهد فمتينٌ جدًا كما عرفت۱، لاستواء المجتهد والعامّي في وجوب العمل بالمحتملات وترك بعضها عند التعذّر أو التعسّر.
٢- نظريّة المحقّق الأصفهاني في الجواب على الإشكال
قال المحقّق الإصبهاني في الحاشية:
«ويمكن أن يُقال: يصدق العلم والمعرفة على مجرّد قيام الحجّة شرعًا أو عرفًا أو عقلًا على أحكامهم عليهم السلام، كما يشهد له إطلاق المعرفة على مجرّد الاستفادة من الظواهر في قوله عليه السلام:
" يُعْرَفُ هَذا وأشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ الله
٢"، وقوله عليه السلام:
" أَنتُم أَفْقَهُ النَّاسِ إذا عَرفْتُم مَعانِيَ كَلامِنَا"
٣».
إلى أن قال: «مع وضوح أنّ حجّيّة الظاهر ببناء العرف ليس بمعنى جعل الحكم المماثل».
إلى أن قال: «بل بمعنى صحّة المؤاخذة وتنجّز الواقع٤».٥
تحقيق للمعلّق حول معنى جعل الحكم المماثل ومناقشة المحقّق الإصفهاني (ت)
أقول: إنّ حاصل ما أورده عليه:
هو أنّ العِلم والمعرفة يصدقان بمجرّد قيام الحجّة؛ كما يشهد إطلاق العلم على
حجّيّة الظواهر، مع أنّ حجّيتها إنّما هي بمعنى التنجيز [لا انكشاف الواقع ونفس الأمر]۱. فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من صدق العلم على قيام الحجّة العقليّة؛ لأنّ حجّيتها- أيضًا- تكون بمعنى التنجيز. والحاصل: إنّ الحجّيّة لمّا كانت بمعنى صحّة المؤاخذة وتنجيز الواقع في كلا المقامين، وقد فرض أنّ إطلاق العلم للحجّة الشرعيّة إنّما هو لمكان تنجيزه، فإذن لا بدّ من صحّة إطلاق العلم والمعرفة على الحجّة العقليّة؛ لاشتراكها مع الحجّة الشرعيّة في كون المراد بالحجّة هو المنجّز. فإذا صدق العلم على الحجّة العقليّة، فلا مانع من رجوع العامّي إلى المجتهد بهذه الحجّة وهو الظنّ؛ لأنّ المجتهد عالمٌ بالحجّة، وكلّ ما كان المجتهد عالمًا به يصحّ رجوع العامّي إليه، لكون الرجوع رجوعًا إلى العالم دون الجاهل.
٣- الجواب على نظريّة المحقق الأصفهاني
ولا يخفى ما فيه٢:
لأنّ المحقّق المزبور؛ إن كان بصدد ردّه على تقدير كون المراد من الحكومة في كلام صاحب «الكفاية» هو حكم العقل بحجّيّة الظنّ؛ نظير حكمه بحجّيّة القطع حال الانفتاح، فقد ظهر فساد كلامه ممّا سبق؛ لأنّ صاحب «الكفاية» قدّس سرّه يدّعي أنّ مقدّمات الانسداد إنّما تنتج حجّيّة الظنّ بالنسبة إلى خصوص الظانّ، وهو نفس المجتهد في المقام؛ وهو إن كان عالمًا بالحجّة على التقريب المزبور، لكنّه يكون عالمًا بالحجّة القائمة عليه لا على جميع المكلّفين.
وإن كان بصدد ردّه على تقدير كون المراد من الحكومة: هو التبعيض في الاحتياط من أجل العلم الإجمالي، فلا يخفى أوّلًا: أنّه لا يصدق العلم والمعرفة على
الاحتياط كما لا يخفى، وثانيًا: إنّه لو فرض صدق العلم والمعرفة على موارد الظنّ من باب التبعيض في الاحتياط لمكان المنجّزيّة، فلا بدّ من صدقهما أيضًا على احتمال التكليف قبل الفحص وعلى موارد العلم الإجمالي؛ لأنّ نفس الاحتمال قبل الفحص وكذلك العلم الإجمالي، يكون منجّزًا للواقع ويصحّ المؤاخذة عليه۱. فإذن لا بدّ من رجوع العامّي إلى المجتهد في نفس الاحتمال أو في موارد العِلم الإجمالي؛ لأنّ رجوعه إليه بعد فرض صدق العلم في هذه الموارد يكون رجوع الجاهل إلى العالم، وهو كما ترى.
و المحصّل من جميع ما ذكرنا: إنّه لا وجه لرجوع العامّي إلى المجتهد الانسدادي بناءً على التبعيض في الاحتياط.
ثالثًا: عودة للاستشكال على حجيّة الفتوى بناءً على الكشف وعلى استقلال العقل بحجيّة الظنّ
أ: الإشكال الأوّل
بل يمكن الإشكال في رجوعه إليه بناءً على الحكومة العقليّة والكشف أيضًا، بأن يقال: إنّ التقريب السابق في جواز رجوعه إليه على هذا المبنى غيرُ سديدٍ أيضًا؛ لأنّ رجوعه إليه يتوقّف على إخبار المجتهد عن مؤدّى ظنونه، وهذا إنّما يتمّ لو كان متعلّق ظنونه الأحكامّ الواقعيّة على الإطلاق بلا اختصاص بالنسبة إليه، بل يكون المظنون هو أحكام جميع المكلّفين، ولكن لا يخفى أنّ المظنون بالنسبة إلى المجتهد بمقدّمات دليل الانسداد هو أحكام نفسه، لا جميع المكلّفين.
زيادة بيان للإشكال الأوّل على المحقق الأصفهاني:
۱- حجّية الظنون مختصة بالظنون المكتسبة من الأصول والقواعد
ولتوضيح هذا المطلب لا بأس بتطويل الكلام على جهة المقدّميّة، بأن نقول: لا يخفى أنّ الظنّ وإن كان حجّةً عند الانسداد، لكن ليس المراد جميع الظنون من أيّ طريق ومنهج، لوضوح أنّ ظنّ العامّي الذي ربما يكون حصوله بقول عجوزةٍ أو برؤياه في المنام أو بقول منجّمٍ ورمّالٍ لا يكون حجّةً، إذ حينئذٍ يختلّ النظام، فربما ظنَّ العامّي في هذه الساعة بحكمٍ، وظنّ في ساعةٍ أخرى بخلافه، بل يكون الظنّ حجّةً بالإضافة إلى من تمّت عنده مقدّمات الانسداد. فلا عبرة بظنّ العامّي يقينًا، وكذا لا عبرة بجميع ظنون المجتهد؛ إذ ربما حصل له الظنّ من أجل القياس أو الاستحسان وما شابههما ممّا هو ممنوعٌ شرعًا.
فيمكن أن يقال: إنّ المجتهد بعد اطّلاعه على المنع الشرعيّ في القياس ونظائره، فعلم أنّه لا يكون مَدركاً للأحكام، لا يظنّ بالحكم من القياس ونظائره.۱ وعلى كلّ تقديرٍ، إنّ ظنون المجتهد التي تكون حجّة إنّما هي ظنونه المكتسبة من الأصول والقواعد، فلا يحصل له الظنّ إلّا بالرجوع إلى الكتاب والروايات، وموارد ادّعاء الإجماع المنقول والمحصّل والشُهرات روايةً وفتوىً، وكذا من تتبّع أقوال الأصحاب وآرائهم. فحصول هذا الظنّ صعبٌ لا يصل إليه إلّا من كان من الأعاظم وفحلًا في جودة الاستنباط، فعلى هذا لا تكون ظنونه مختلفةً بحسب الساعات والأيّام كما عند العامّي.
ولذلك ترى أنّه بالرجوع إلى مقدّمات الانسداد وإثبات حجّيّة الظنّ لا يلزم فقهٌ جديدٌ؛ إذ مدارك الظنون تكون عين مدارك الأحكام الواقعية بالنسبة إلى المجتهد الانفتاحي، غاية الأمر أنّ الانفتاحي يذهب- مثلًا- إلى وجوب صلاة الجمعة لمكان نهوض دليلٍ خاصٍّ، والانسدادي يذهب إليه لمكان ظنّه الحاصل من هذا الخبر، فالمقصود يتّحد وإنّما الاختلاف في الطريق.
والذي يكون شاهدًا لك لما ذكرناه: هو أنّ المحقّق القمّي قدّس سرّه من القائلين بالانسداد، مع أنّ فتاويه- كما يلاحظ في «الغنائم» و «جامع الشتات»- عين فتاوي من يدّعي الانفتاح۱، فهو لم يخرق إجماعًا ولم يؤسّس فِقهًا حديثًا، وهذا يكون شاهدًا على الاختلاف في الطريق مع الاتّحاد في النتيجة؛ ولذلك ترى أنّه يدّعي حجّيّة الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد إفهامه ويتمسّك لحجّيتها لغيره بعد الاشتراك بالظنّ المطلق الانسدادي، مع أنّ القائل بالانفتاح في باب الحُجَج اللفظيّة يذهب إلى حُجّيتها بالخصوص فيتمسَّك بالإطلاقات؛ فعملهما سواءٌ، وإنّما الاختلاف في الطريق. وبالجملة هذا كلّه شاهدٌ على أنّ مدارك ظنون المجتهد تنحصر في الكتاب والروايات، هذا.
٢- ما يدخل في مقدّمات الانسداد هو العلم الإجمالي بتكاليف النفس لا الغير
ثمّ إنّ مِن مقدّمات الانسداد هو العِلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة ولا يمكن إهماله، فإذن هذا العلم الإجمالي منجِّزٌ للتكاليف الواقعيّة. ولا يخفى أنّ المنجّز بالإضافة إلى العالم إجمالًا بالأحكام ليس هو العلم بتكاليف جميع المكلفين، بل هو العلم بتكاليف نفس العالم؛ لأنّ العلم بالإضافة إلى تكاليف غيره أجنبيٌّ في مقدّمات الانسداد، ويكون من باب ضمّ الحجر إلى جنب الانسان، فعلى هذا إنّ المُجري لمقدّمات الانسداد إنّما يُنتج حجّيّة الظنّ بالنسبة إلى أحكام نفسه لا أحكام غيره؛ لأنّه
بمقدّمات الانسداد عَلِم بأحكام نفسه، فعند عدم إمكان الاحتياط بالنسبة إليها، فلا بدّ من العمل بما يكون مظنونًا، فالحكم المظنون- وهو حكمٌ شخصيٌّ متعلّقٌ به لا بغيره- حجّةٌ بالنسبة إليه. فالمظنون الذي يكون حجّةًهو الأحكام الشخصيّة المتعلّقة بنفس الظانّ لا الأحكام الكلّيّة. فإذا كان كذلك لا يمكن للعامّي أن يرجع إلى المجتهد الانسدادي؛ لأنّ المجتهد إنّما ظنّ بأحكام نفسه، ولا ربط بها بأحكام غيره.
ولا يُدفع هذا الإشكال بإخبار المجتهد أيضًا، إذ الإخبار إنّما يكون حجّةً على العامّي لو كان المخبَر به حُكمًا كلّيًا ذا أثرٍ بالنسبة إلى العامّي، وأمّا لو كان حُكمًا جزئيّا بالإضافة إلى خصوص المجتهد فلا نفع في إخبار المجتهد للعامّي أصلًا.
٣- الفارق بين الإشكال الأوّل للشيخ الحليّ وبين إشكال صاحب الكفاية
ولا يخفى أنّ هذا الإشكال غير ما أشكله صاحب «الكفاية»؛ لأنّ إشكاله قدّس سرّه هو انحصار الحجّيّة بالنسبة إلى خصوص المجتهد، وقد أجبنا عنه: بأنّ الحجّيّة وإن كانت مختصّةً به ولكن المجتهد بقيام الحجّة عنده يجوز له الإخبار عن الحكم الواقعي، فيكون المخبَر به حجّةً بالإضافة إلى العامي.
ولكن هذا الإشكال إنّما هو انحصار الحجّيّة بالإضافة إلى الأحكام الشخصيّة، فجواز الإخبار حينئذٍ لا يفي بإثبات المطلوب؛ إذ الأحكام الخاصّة لنفس المجتهد لا تكون موردًا للأثر بالإضافة إلى العامّي، بل الأحكام الخاصّة [تكون موردًا للأثر] بالإضافة إلى نفسه، فإذا كان المظنون حكمًا كلّيًا، يكون جواز الإخبار حينئذٍ مفيدًا؛ لأنّ العامّي بإخبار المجتهد للحكم الكلّيّ يطلّع على أحكام نفسه تعبّدًا بأدلّة التقليد.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ صاحب «الكفاية» يكون محطّ إشكاله تضييق دائرة مَن يكون الظنّ حجّةً عليه، وإشكالنا هذا تضييقٌ لدائرة نفس المظنون؛ وهو الأحكام الشخصيّة، هذا.
ب: الإشكال الثاني: يلزم من كلام المحقق الأصفهاني عدم شمول أدلّة حجّية فتوى المجتهد الانسدادي للتكاليف غير الإلزاميّة
ثمّ يرد في المقام إشكالٌ آخر: وهو أنّ مِن مقدّمات الانسداد: العلم الإجمالي بتكاليف إلزاميّةٍ. فتكون النتيجة حينئذٍ هي حجّيّة الظنّ بالإضافة إلى الأحكام الإلزاميّة، فإذن لا تكون ظنون المجتهد بالإضافة إلى المستحبّات والمكروهات حجّةً، فلا يصحّ رجوع العامّي إليه في هذه الموارد.
ولا يُقال: إنّ العلم الإجمالي المذكور في مقدّمات الانسداد هو العلم الإجمالي بتكاليف إلزاميّةٍ وغيرها [وبهذا لا يعود هناك أيّ محذورٍ أو إشكال]۱.
لأنّا نقول: إنّ المراد به هو العلم الإجمالي المنجِّز للواقع الذي لا بدّ من الإتيان به كما هو مقتضى بقيّة المقدّمات، ومن المعلوم أنّ هذا العلم الإجمالي لا يشمل موارد المستحبّات والمكروهات كما لا يخفى؛ فإذن لا بدّ وأن يُلتزم بعدم حجّيّة ظنّ المجتهد بالنسبةإلى المكروهات والمستحبات، ولا يجوز للعاميّ أيضًا أن يرجع إليه في هذه الأمور، مع أنّهم لا يلتزمون به قطعًا ولا يمكن الالتزام به.
بل كما ذكرنا: حالُ الانسداديّين مثل حال الانفتاحيّين في العمل بالواجبات والمستحبّات وتركهم المحرّمات والمكروهات، وإنّما اختلافهم في طريق ادارك هذه الأحكام؛ فإذن لا بدّ من بيان حلّ هذه المشكلة أيضًا.
وإنّي كلّما تفحّصتُ في كتب القوم و تتبّعت آرائهم ومقالاتهم المكتوبة في بحث الانسداد، لم أر أحدًا تعرّض لحكم المكروهات والمستحبّات. نعم، قد يظهر من بعض كلمات الشيخ قدّس سرّه أنّ الظنّ كما يكون حجّةً في التكاليف الإلزاميّة
الوجوديّةمن الوجوب والحرمة، كذلك يكون حجّةً فيما إذا تعلّق بنفي التكليف الإلزامي؛ كما إذا تعلّق بالكراهة أو الاستحباب أو الاباحة، لكنّ حجّيته- حينئذٍ- ليست من أجل إثبات خصوص وصف الكراهة والاستحباب والإباحة؛ بل لِما في هذه الأحكام من نفي التكليف الإلزامي، فهذه الأحكام الثلاثة لمّا كانت تشترك في جامعٍ واحدٍ وهو نفي التكليف الإلزامي، فالظنّ يكون حجّةً في هذه الموارد؛ لأجل كشفه عن عدم التكليف، أو كونه معذِّرًا للواقع في هذه الموارد لو صادف التكليف الإلزامي، لا لأجل كشفه عن خصوص وصف الكراهة والاستحباب والإباحة.
ج: دفع الإشكال الثاني
ويمكن حلّ هذه العويصة المعضلة بإدراج مقدّمةٍ أخرى لهذه الأحكام في مقدّمات الانسداد، وهي أن يُقال: إنّ ثبوت التكاليف الغير الإلزاميّة من الاستحباب والكراهة معلومٌ من الشرع في جميع الأيام والدهور، بحيث إنّ انسداد الطرق المجعولة بالخصوص لا يوجب رفع هذه التكاليف في الواقع. فإذن لا بدّ وأن يقرّر الشارع في كلّ زمان طريقًا مؤدّيًا إلى هذه التكاليف، وفي زمان الانسداد، لمّا لم تصل إلينا الطرق المجعولة بالخصوص، فلا بدّ وأن يجعل لنا طريقًا آخر، ولا يتركنا سُدى ولا يهملنا بالإضافة إلى هذه الأحكام. وهذا الطريق ينحصر بالظنّ، إذ مع عدم جعله حجّةً؛ إمّا أنّه لا يريد منّا هذه الأحكام في هذا الزمان، فإذن يكون جعلها لغوًا باطلًا في هذا الزمان، ولا يصدر اللغو من الشارع الحكيم؛ وإمّا يريدها منّا ولكنّه جاهلٌ بالانسداد، بل يريده على حسب الطرق العقلائيّة الثابتة حجّيتها بالخصوص، والجهل يمتنع في حقّه؛ وإمّا يريدها منّا مع اطّلاعه [على] الانسداد، فلا محالة لا بدّ وأن يجعل الوصول إليها طريقًا، وحيث نرى الطرق المحتملة الإيصال في هذا الزمان بالسبر والتقسيم، نرى حجّيّة الظنّ متعيّنةً.
وأمّا احتمال عدم لزوم جعل الظنّ في هذه الموارد؛ لإمكان الاحتياط في التكاليف الاستحبابيّة والكراهية، فمندفعٌ بأنّ العاقل الحكيم بعد وضعه قانونًا أساسيّا لا يُرجِع إعماله إلى احتمال المكلّفين، فالعمل على طبق الاحتمال احتياطًا لا يمكن إلّا في موارد جزئيّةٍ، لا بالنسبة إلى جميع الأحكام؛ للقطع بعدم جعل الشارع الاحتياط في هذا المقام؛ لما فيه من استهجان التكليف الذي ينحصر عمله بالاحتياط عند العقلاء، فتأمل.
فلا مناص من حجّيّة الظنّ بالنسبة إلى هذه الأحكام أيضًا.
هذا، ويمكن أن نسقط مقدّمة «العلم الإجماليّ» المذكورة في طيّ مقدّمات الانسداد، ونضع هذه المقدّمة المذكورة بإزائها حتّى نستكشف حجّيّة الظنّ في التكاليف الإلزاميّة وغيرها بنهجٍ واحدٍ.
هذا كلّه بالنسبة إلى حجّيّة الظنّ بالإضافة إلى المستحبّات والمكروهات.
فإذا أثبتنا جواز رجوع العامّي إلى المجتهد، فلا فرق بين رجوعه إليه في التكاليف الإلزاميّة وغيرها.۱
د: دفع الإشكال الأول
أمّا العويصة الأخرى، وهي إنتاج مقدمات الانسداد حجّيّةَ الظنّ في خصوص الأحكام الجزئيّة الشخصيّة لنفس المجتهد المُجري لهذه المقدّمات، لا الأحكام الكلّية حتّى ينفع إخبار المجتهد إياهم بتكاليفهم، بل الثمرة لهم تنحصر فيما إذا كان المخبَر به بالنسبة إليهم أحكامًا كلّيّةً.
۱- مقدّمة: جواز الإخبار من لوازم نفس الواقع لا من لوازم العلم به
فلدفع هذا الإيراد وحلّ هذه المشكلة لا بدّ من بيان مقدّمةٍ: وهي أنّ كلّ شيءٍ ثبت في الخارج يجوز الإخبار به سواءً كان المخبِر عالمًا بثبوته في الخارج أم لم يكن؛ لأنّ جواز الإخبار لا يدور مدار العلم بالواقع حتّى ينتفي الجواز مع عدم العلم ولو حال الظنّ، بل [هو] دائرٌ مدار نفس الواقع. فهو من لوازم نفس الواقع؛ فإذا علم الإنسان بالواقعة فقد علم بجواز الإخبار وحكايته إيّاها، وإذا ظنّ بالواقعة ظنّ بجواز الإخبار، وإذا شكّ بها شكّ بالجواز.
والسرّ في ذلك: أنّه لا إشكال في حلّية الصدق وحرمة الكذب، والصدق والكذب إنّما هما عنوانان للإخبار بما أنّه مطابقٌ للواقع أو مخالفٌ له، لا بما أنّ المخبِر عالمٌ بالواقع أو عالمٌ بخلافه.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ الصدق هو الكلام المطابق للواقع ونفس الأمر؛ سواءً علم المخبِر بالمطابقة، أم لم يعلم بها، أم علم بعدم المطابقة. والكذب هو الكلام المخالف للواقع؛ سواءً علم المُخبِر بالمخالفة، أم علم بالموافقة، أم شكّ في الموافقة والمخالفة.
فبناءً على كون معنى الصدق هو هذا، فإذن يكون جواز الإخبار الذي هو بمعنى الصدق من لوازم نفس الواقع، لا من لوازم العلم بالواقع. غاية الأمر أنّ الإنسان إذا أراد الإخبار عن شيءٍ، فلا بدّ وأن يكون عالمًا بجوازه؛ إذ مع الظنّ
بالجواز أو مع الشكّ فيه، فقد أخبر بما لم يعلم جواز الإخبار به؛ فإن صادف [وتطابق] إخباره مع الواقع، كان كلامه صادقًا، لكن تجرّى في إخباره؛ لأنّه أقدم على الإخبار مع عدم العلم بالجواز، كمن أقدم على ارتكاب عملٍ حلالٍ مع عدم علمه بحلّيته، فهو لم يرتكب حرامًا ذاتيّا بل تجرّى على مولاه. وإن لم يصادف الواقع يكون كلامه كاذبًا.۱
دفع وهم: الأدلّة الناهية عن القول بغير علم نهيُها ليس ذاتيًا بل تشريعي
ولا يخفى أنّ الأدلّة الناهية عن القول بغير علمٍ لم يكن النهي فيها نهيًا ذاتيّا بل النهي فيها تشريعيٌّ، فالتشريع في الإخبار عن الأحكام الواقعيّة عين التجرّي في نفس التكاليف الخارجيّة، لكن اصطلح «التجرّي» في الأفعال الخارجيّة و «التشريع» في البناء والإخبار مع عدم العلم بثبوت الأحكام؛ وكلاهما من وادٍ واحدٍ. وما ورد من قوله عليه السلام: رَجُلٌ قَضَى بِالحَقِّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّار»۱ إنّما هو لِمكان حرمة القضاء مع عدم العلم، فلا ربط له بالمقام. [يعني: إنّ مسألة القضاء بغير علمٍ بالحكم الشرعي تختلف عن إخبار المجتهد عن الواقع حتّى لو لم يكن صحيحًا ومطابقًا للواقع]٢
وأمّا سائر الأدلّة الناهية عن القول بغير علم؛ كقوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ٣ وقوله تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ٤، إنّما يكون النهي فيها لأجل التشريع وانتساب شيءٍ إلى المولى مع عدم القطع بانتسابه إليه، وإن كانت إباحة الإخبار من لوازم نفس الواقع، لكنّ المُقْدِم على الإخبار لابدّ وأن يحصّل العلم بالجواز، وإلّا فمع الشكّ فقد أقدم على ما لم يعلم جوازه، فربما يقع في مخالفة
الواقع ويرتكب حرامًا ذاتيًا إن لم يصادف [تطابق] إخباره مع الواقع، وربما يتطابق إخباره مع الواقع؛ فإذن ارتكب ما هو جائز ذاتًا ولكنّه حرامٌ تشريعًا.۱
٢- الجواب على الإشكال الأوّل: الأحكام مشتركة والمجتهد يظنّ جواز الإخبار عنها
إذا عرفت هذه المقدّمة، فاعلم أنّ المجتهد وإن انتج بمقدّمات الانسداد حجّيّة ظنّه بالنسبة إلى الأحكام الشخصيّة المتعلّقة عليه؛ لا حجّيته بالنسبة إلى الأحكام الكلّية، لكنّ الأحكام لمّا [كانت] لا تختلف بين المكلّفين، فلا محالة يظنّ أيضًا بأحكام سائر المكلّفين.
وهذا الظنّ، وإن كان غير حجّةٍ كما بيّناه، لكنّ حصول الظنّ بالنسبة إليه مع فرض اشتراك جميع المكلّفين في الأحكام غير اختياريٍّ له، فإذا ظنّ بأحكام المكلّفين، فيظنّ- حينئذٍ- بجواز الإخبار بأحكامهم؛ لِما عرفت من أنّ جواز الإخبار من آثار نفس ثبوت المخبَر به في الواقع، فإذا ظنّ بثبوت المخبَر به وهو أحكام المكلّفين، فلا محالة يظنّ بجواز الإخبار؛ لأنّ الظنّ بأحد المتلازمين ملازمٌ للظنّ بالملازم الآخر. لكنّ الإخبار حيث كان من أفعال نفسه فلا محالة يكون جواز الإخبار من الأحكام المتعلّقة به، فإذا ظنّ به فقد ظنّ بحكمٍ شخصيٍّ متعلّقٍ به، فإذا كان هذا الظنّ المتعلّق بالحكم الشخصي حجّةً عليه، فيجوز الإخبار على طبق ما أدّى إليه ظنّه قطعًا، ثم يرجع العامّي إليه بأدلّة جواز التقليد.
وهذا باب كشفناه بحمد الله تعالى في جواز التقليد على مسلك الانسداد بلا فرقٍ بين الكشف و الحكومة العقليّة، وقد عرفت أنّ مفتاح هذا الباب هو دوران جواز الإخبار مدار نفس الواقعة ونفس الحكم الواقعي في المقام، وليس دائرًا مدار العلم بالواقع كما ربما يُتخيَّل۱؛ لأنّه لو كان دائرًا مدار العلم ففي صورة الظنّ بالواقع يحرم الإخبار، فإذن لا يجوز للمجتهد أن يخبر العامّي بتكاليفه المختصّة به٢.
فإذا كان دائرًا مدار نفس الواقع، ففي صورة الظنّ بالواقع يظنّ بجواز الإخبار، وهذا الإخبار لمّا كان من أفعال نفسه، فالظنّ المتعلّق بجوازه إنّما تعلّق بالحكم الشخصيّ المختصّ به، فبمقتضى حجّيّة الظنّ عند الانسداد يكون هذا الظنّ حجّةً عليه، فيجوز الإخبار على مؤدّاه.
والظاهر- كما تلوْنا عليك- أنّ الحقّ هو الثاني [وهو أن جواز الإخبار دائرٌ مدار نفس الواقع لا العلم بالواقع]۱؛ لأنّ العقلاء يحكمون بجواز الصدق والشارع أيضًا حلّله، والصدق هو الكلام المطابق للواقع. غاية الأمر أنّه عند الشكّ في الواقع، فإنّ العقلاءوإن لم يجوّزوا الإخبار، لكنّ عدم تجويزهم ليس بملاك نفس الكذب، بل بملاكٍ آخر وهو لزوم الاحتياط عند الشكّ في الصدق والكذب. والشارع أيضًا حرّم هذا الإخبار لكن ليس بملاك حرمة الكذب، بل بحرمةٍ طريقيّةٍ؛ كي لا يقع الانسان بارتكاب هذا الإخبار في الكذب الحقيقي. وهذه الحرمة حرمةٌ طريقيّةٌ لا نفسيّةٌ، وإن شئت فقل: حرمته تشريعيّةٌ.
وبالجملة، إنّه كما يكون للعقلاء في موارد الضرر الواقعيّ حكمٌ وهو لزوم الاجتناب عنه، وفي موارد احتمال الضرر حكمٌ آخر طريقيٌّ وهو لزوم الاحتياط؛ لِئلّا يقع في الضرر، وليس لهم حكمٌ واحدٌ وهو لزوم الاجتناب عن كلّ محتَمَل الضرر حكمًا نفسيّا، وكما أنّ الشارع أيضًا مشى على هذه الطريقة وحكم بحرمة الضرر الواقعيّ، وحكم حكمًا طريقيّا آخر عند موارد احتمال الضرر؛ فحرّم ارتكاب المحتَمَل بحرمة أخرى طريقيّةٍ إلى عدم الوقوع في الحرمة الواقعيّة النفسيّة المتعلّقة بنفس الضرر؛ كذلك يكون للعقلاء في مورد الكذب والصدق حكمٌ واقعيٌّ، وفي مورد احتمال الصدق والكذب حكمٌ آخر احتياطيٌّ، فلم يجوّزوا الإخبار مع الشكّ لئلّا يقع في الكذب. والشارع أيضًا مشى هذا الطريق؛ فحكم بحكمٍ نفسيٍّ وهو جواز
الصدق وحرمة الكذب، وحكمًا آخر طريقيّا وهو حرمة محتَمل الصدق والكذب. خلافًا لشيخنا الأستاذ قدّس سرّه حيث ذهب إلى أنّ حرمة الإخبار عند عدم اليقين بالواقع إنّما هي بمناطٍ واحدٍ، فالعقلاء والشارع ليس لهم في المقام حكمان: نفسيٌّ وطريقيٌّ، بل لهم حكمٌ واحدٌ؛ وهو عدم جواز الإخبار عند عدم العلم۱، ولكن لا يمكن المساعدة على ما ذهب إليه.
رابعًا: استشكاله على نظريّته وجوابُه
إن قلتَ: إنّه بعد البناء على أنّ الصدق والكذب أمران واقعيّان ويتعلّق بهما الحلّيّة والحرمة الواقعيّتان، فعلى هذا عند الشكّ في كون الإخبار موافقًا للواقع أو مخالفًا له يكون الشكّ في الشبهة المصداقيّة للصدق والكذب، ومقتضى القاعدة هو البراءة.
قلتُ: فرقٌ بين هذه الشبهة المصداقيّة في المقام، وبين سائر الشبهات المصداقيّة في سائر المقامات؛ وذلك لأنّ العقلاء لمّا [كانوا] يلتزمون بوجوب الاحتياط في المقام، ويُقبّحون الإخبار مع عدم العلم، فالشارع- أيضًا- جرى على مجراهم، وحكم بحرمة الإخبار حينئذٍ؛ طريقًا إلى عدم الحرام الواقعي، ولم يجوّز الإخبار حينئذٍ، وإن كانت الشبهة مصداقيّة كما ذكر.
جواب نقضيّ: لو لم نقبل بأنّ مدار جواز الإخبار هو نفس الواقع يلزم سقوط الحجيّة حتّى بناءً على الانفتاح
وإن أبيت عن ذلك كلّه، وقلتَ: إنّما حُكمهم بوجوب الاحتياط في المقام، وعدم تجويزهم الإخبار مع عدم العلم بخلاف سائر الشبهات المصداقيّة، إنّما هو لأجل جعل الحرمة أوّلًا لما لم يعلم مطابقة في الخارج، لا أنهم جعلوا حكمين: نفسيّا
وطريقيًا، وإلّا لم يكن فرقٌ بين هذه الشبهة المصداقيّة وسائر الشبهات المصداقيّة أصلًا.
وبعبارةٍ أخرى: إن أبيت من دوران جواز الإخبار مدار نفس الواقع، وكنتَ مصرًّا على دورانه مدار العلم، فإذن لا بدّ وأن نسلك في جواز رجوع العامّي إلى المجتهد وفي كيفيّة إخبار المجتهد إيّاه مسلكًا آخر، وإن كان الإباء عن ذلك مستلزمًا لعدم جواز رجوع العامّي إلى المجتهد، حتّى بناءً على الانفتاح في خصوص الأحكام المختصّة بالعامي؛ ككراهة حمل المصحف للحائض، فإذا رأى المجتهد كراهةً بالدليل الخاصّ الاجتهادي، لا يجوز له إخبار الحائض؛ وذلك لأنّ حجّيّة هذا الدليل الخاصّ بالنسبة إلى المجتهد لا بدّ وأن تكون فيما إذا كان للمخبَر به أثرٌ شرعيٌّ، وإلّا تكون الحجّيّة لغوًا؛ كما إذا أخبر أحدٌ بأنّ كفًا من رمل إفريقيا تزِن حقّةً أو أزيد [إذ لا فائدة في مثل هذا الخبر]۱، فالحجّيّة مستلزمةٌ لكون المخبَر به ذا أثرٍ، ومن المعلوم أنّه لا أثر للمجتهد في المقام لعدم كون الحكم حكمًا له [بل هو حكمٌ للعوامّ كالمرأة الحائض في المثال]٢، والأثر يكون منحصرا في جواز الإخبار، والمفروض أنّ جواز الإخبار مترتّبٌ على العلم أو ما هو منزّلٌ منزلته؛ كالحجج الكاشفة عن الواقع. فعلى هذا تكون الحجّيّة متوقفةً على الأثر، والأثر متوقّفٌ على الحجّيّة، فيلزم الدور الواضح. وفي هذا المقام أيضًا كذلك؛ لأنّ حجّيّة ظنّ المجتهد متوقّفةٌ على الأثر وهو إخباره العامّي بأحكام نفسه، فإذا كان جواز الإخبار متوقّفًا على الحجّيّة لزم الدور.٣
خامسًا: دفع الإشكال عن الحجيّة بمسلك آخر مع الإباء عن أنّ مدار جواز الإخبار هو الواقع
أ: على مسلكي الكشف والحكومة
هذا، ولكن يمكن دفع الإشكال بافتتاح بابٍ آخر لرجوع العامّي إلى المجتهد الانسدادي، ولرجوعه إليه على الانفتاح في أحكامه المختصّة به، وهو قبحُ عدم حجّيّة قول المجتهد وإخباره عن ظنونه بالنسبة إلى العامي؛ فنقول حينئذٍ: إنّ المجتهد وإن حرم عليه الإخبار حينئذٍ بالواقع، لكن لا مانع من أن يخبره بظنّه، فيقول: «إنّي ظننت بأنّ الواقعة الفلانيّة حكمها كذا»؛ لأنّه عالم بظنّه، فيجوز الإخبار له بمقتضى علمه. والعاميّ لا بدّ وأن يعمل على طبق ظنّ المجتهد؛ لأنّ الطريق بالنسبةإليه للأحكام الواقعيّة منحصر بظنّ مجتهده، فلو لم يجعل الشارع ظنّ المجتهد حجّةً على العامّي، لزم أن يتركه سُدىً ويهمله عابثًا، وهذا قبيحٌ على الشارع بعد أن قرّر له وظائف عمليّةً وتكاليف واقعيّةً، فلا محالة تشمل أدلّة التقليد لمثل المقام. هذا كلّه بناءً على الكشف والحكومة العقلية.
ب: على مسلك التبعيض في الاحتياط
وأمّا بناءً على التبعيض في الاحتياط، فلا بدّ للتبعيض في الاحتياط من أنتتمّ مقدّمات الانسداد عند العامّي، وإلّا فمع عدم تماميّتها كيف يمكن له التبعيض؟ ولكنّ، كلّ مقدّمةٍ يعرفها بالوجدان فهو، وإلّا فلا بدّ وأن يرجع إلى العالم فيقلّد المجتهد في هذه المقدّمة.
أمّا المقدّمة الأولى: وهو العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة، فأغلب العوام يعرفها بالوجدان، وإذا فرض شخصٌ جديدُ الإسلام من برّ أفريقيا مثلًا، ولا يعرفها بالوجدان، فلا بدّ وأن يرجع إلى المجتهد فيسأل عن الأحكام؛ فيخبره هو إذن بوجود التكاليف الموجودة بالعلم الإجمالي، فيكون هذا الإخبار حجّةً عليه. ولا فرق
بين أن يكون المخبَر به- وهو العلم الإجمالي في المقام- أوسع دائرةً، وبين سائر موارد إخبارات المجتهد عند علمه الإجمالي؛ كما يخبر العامّي في يوم الجمعة بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة، فكما يكون هذا حجّةً، فكذلك ذاك.
ثمّ في عدم جواز الإهمال لا يحتاج إلى التقليد؛ لأنّه بعد فرض ثبوت التكاليف، يعرف كلّ أحدٍ أنّه لا يجوز للشارع أن يُهملَ المكلّفين.
ثمّ في المقدّمة الثانية: وهو وجوب الاحتياط، لا بدّ وأن يقلّد أيضًا؛ إذ وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي ليس من الأمور البديهيّة، بل من المختلف فيه بين الأعلام؛ فالغالب ذهبوا إلى وجوبه، والمحقّق القمّي ذهب إلى عدم وجوبه۱، بل اللازم عند العلم الإجمالي هو الموافقة الاحتمالية. ثمّ في حكمه عند عدم التمكّن من الاحتياط إذا اختلّ به النظام وتعذّر بالنسبة إليه لا مجال للرجوع إلى المجتهد، وأمّا إذا لم يلزم هذا، بل لزم العسر والحرج، فلا بدّ وأن يقلّد المجتهد أيضًا في وجوبه حينئذٍ أو عدم وجوبه، فيُفتيه المجتهد بعدم الوجوب.
ثمّ في التبعيض في الاحتياط بدرجات الاحتمالات أو المحتملات أو الاتيان بما هو مقدّمٌ زمانًا وترك الباقين عند التعسّر، لا بدّ وأن يرجع إلى المجتهد أيضًا؛ إذ رُبَّ مجتهدٍ يرى لزوم الإتيان بالمظنونات عند عدم الإمكان في الاحتياط التامّ، ورُبَّ مجتهدٍ يرى لزوم الإتيان بما هو مقدّمٌ زمانًا، إلى آخر ما قيل في باب الانسداد؛ فإذا أخبره المجتهد بلزوم الإتيان بالمظنونات، يكون هذا الإخبار حجّةً عليه، لكن لمّا لم يكن له ظنٌّ بالأحكام لِما عرفت من عدم استقامة ظنونه الحاصلة من غير الأدلّة الشرعيّة، فينحصر الطريق بالنسبة إليه بظنون المجتهد، إذ لو لم يجعل الشارع ظنونه حجّةً على العامّي لزم أن يهمله عابثًا ويتركه سدىً كما عرفت.
نتيجة البحث في حجية الفتوى بناءً على الانسداد
فعلى هذا يكون إخبار المجتهد بظنونه حجّةً عليه، ولابدّ وأن يعمل على طبقها. فعلى هذا، لا بدّ وأن يرجع العامّي إلى المجتهد بلا فرق بين الانفتاح وبين الانسداد بجميع أقسامه.
هذا كله في جواز الإفتاء ورجوع العامّي إلى المجتهد في أخذ تكاليفه.
** *
الفصل الرابع: حجية حكم المجتهد
المبحث الأوّل: بناءً على الانفتاح
وأمّا بالنسبةإلى الخصومات ورفع المرافعات والأحكام التي فوّضها الشارع إلى المجتهد للمصالح العامّة أو لغيرها، فلا اشكال في جوازه بالإضافة إلى المجتهد الانفتاحي؛ لأنّه عالمٌ بالتكاليف والأحكام الواقعيّة؛ لقيام الطرق الكاشفة عن الواقع بالنسبة إليه، فيشمله التوقيع المبارك:
«وأمّا الحَوادثُ الواقِعَةُ فَارجِعُوا فِيهَا إِلى رُواةِ حَدِيثِنَا»۱.
وقوله عليه السلام في المقبولة:
«انظُرُوا إلى مَن كانَ مِنكُم قَد رَوَى حَديثَنا، ونَظَرَ في حَلالِنا وَحَرامِنا، وعَرَف أحكامَنا، فارضَوا بِه حَكَمًا، فإنّي قَد جَعلتُهُ عليكُم حاكِمًا، فإذا حَكَمَ بحُكمِنا فلَم يَقبَلهُ مِنه، فإنّما بحُكمِ اللَهِ استَخَفَّ، وعَلينا رَدَّ، والرادُّ عَلَينا الرادُّ عَلى اللَهِ، وَهُو عَلى حدِّ الشركِ بِاللهِ»٢.
فإذاً، له أن يحكمَ في الخصومات، ورفعِ المرافعات، ويتدخّل في الأُمور الحادثة التي تحتاج إلى وليٍّ؛ مِن حوادث الزمان على حسب مقتضيات الأوقات، ويتدخّل في الأُمور الحسبيّة؛ مِن تولّي أموال القُصر والغُيَّب ومجهول المالك وغيرها ممّا هي موكولة إلى نظر الحاكم.
المبحث الثاني: بناءً على الانسداد بأقسامه
وكذا لا إشكال في هذه الأُمور بالنسبة إلى المجتهد الانسدادي القائل بالكشف؛ لأنّ حاله حال المجتهد الانفتاحيّ. وهذا واضحٌ على ما ذكرنا من أنّه عالم بالواقع بمقتضى حجّيّة الظنّ بالنسبة إليه. وكذا المجتهدُ الانسدادي القائل بالحكومة العقليّة دون التبعيض في الاحتياط؛ لأنّ الظنّ حجّةٌ عقليّةٌ بالنسبة إليه، فله الحكم على طبق مظنونه بمقتضى الحجّة العقليّة.
مقدّمة في معنى حكم الحاكم وأنّه إنشاء حكم جزئيّ على موضوعه
وقبل البحث في هذا، لابدّ وأن نقدّم مقدّمةً في معنى حكم الحاكم.
فنقول: الحكم في موارد المرافعات: تارةً يكون في كبرى المسألة الشرعيّة؛ كما إذا تنازع الولد الأكبر مع الولد الأصغر في الحبوة، فأنكرها الأصغر وادّعاها الأكبر، بعد تسالمهما في الأكبريّة والأصغريّة.
وتارةً يكون نزاع المتخاصمين في الصغرى مع تسليمهما الكبرى؛ كما إذا اتّفقا على مشروعيّة الحبوة بالإرث للولد الأكبر، لكن تنازعا في الصغرى؛ فيقول أحدهما: إنّي أكبر وأنكره الآخر.
وثالثةً يكون نِزاعهما في الكبرى والصغرى معًا؛ كما إذا تنازعا في الحبوة كبرى؛۱
الدر النضيد في الإجتهاد و التقليد و المرجعية ؛ ص۱٥۱
بأن يدّعيها الأكبر وينكرها الأصغر، مع نزاعهما في الصغرى أيضًا؛ فيقول المدّعي للكبرى: إنّي أكبر ويقول منكرها إنّك أصغر، فينكر الكبرى والصغرى معًا. وفي جميع هذه الموارد إنّما يحكم الحاكم بانطباق الكبرى الشرعيّة الثابتة بالأدلّة على الصغرى الثابتة عنده بالبيّنة أو اليمين على حسب أحكام القضاء.
أمّا فيما إذا كان نزاعهما في خصوص الكبرى؛ فلأنّه لا معنى لحكم الحاكم على خصوص الكبرى؛ لأنّ الكبرى لا يحتاج ثبوتها إلى الحكم، فالحكم على طبق هذا الأمر لغوٌ. ومن المعلوم أنّ الحكم إنشاءٌ لا إخبارٌ، ولذلك لا يرتفع النزاع بينهم فيما إذا أخبر المجتهد بخصوص الكبرى بأن يقول: «قد ورد الدليل المعتبر على ثبوت الحبوة للولد الأكبر». ولا يترتّب على هذا الإخبار أثرٌ شرعيٌّ؛ لأنّ وجوب الإطاعة في باب أحكام القضاة إنّما يترتّب على حكمهم، لا على مجرّد إخباراتهم.۱
وبالجملة، إنّ الحاكم لا يخبر بالكبرى الثابتة عنده، ولا يحكم على طبق الكبرى أيضًا، بل يحكم بأنّ هذا الولد الأكبر يكون له الحبوة، وهذا حكمٌ جزئيٌّ مرجعه الحكم بانطباق الكبرى الثابتة عنده على الصغرى. وكذا الحال في ما إذا كان نزاعهما في الصغرى؛ لأنّه لا معنى للحكم بأنّ هذا الولد أكبر أو ذاك أصغر؛ لأنّ الأصغريّة والأكبريّة تدوران مدار واقعهما، ولا تعيّنان بحكم الحاكم، إلّا إذا رجع الحكم بالأكبريّة- مثلًا- إلى ثبوت الكبرى له، فيرجع الحكم إلى ثبوت الكبرى وانطباقها على ما ثبت عند الحاكم أنّه موضوعٌ للحكم؛ فحينئذٍ يكون معنى حكمه بأنّ هذا أكبر، هو
أنّه يرث الحبوة لا غيرُه.۱
وكذا الحال في ما إذا كان نزاعهما في الصغرى والكبرى معًا، فيحكم الحاكم بأنّ هذا الذي يثبت عنده أنّه هو الولد الأكبر يرث الحبوة.
والمحصّل ممّا ذكرنا: أنّ معنى حكم الحاكم إنّما هو إنشاءٌ منه على طبق الحكم الجزئيّ الشرعيّ الوارد على موضوعه بانبساط الكبرى الشرعيّة على موضوعها؛ لأنّ الكبرى الكلّية الواردة على موضوعها الكلّي إنّما تنحلّ بأحكام عديدةٍ شخصيّةٍ، على حسب ما للموضوع من الأفراد الخارجيّة، وحكم الحاكم إنشاءٌ منه على طبق هذه الأحكام الجزئيّة.
إشكالٌ على المعنى المذكور وجوابه
إن قلتَ: إن لم يكن مورد النزّاع موضوعًا لهذا الحكم الجزئيّ فلا أثر لحكم الحاكم، وإن كان موضوعًا له فالحكم ثابتٌ من قِبَل الشارع، وليس شأن المجتهد حينئذٍ إلّا الإخبار فما معنى الإنشاء؟ لأنّ الحكم الثابت من قبل الشارع لا يقبل وجودًا
آخر حتّى يوجد ثانيًا بإنشاء المجتهد.
قلتُ: إنّ المجتهد لا يحكم على عين الحكم الثابت من الشرع، بل يحكم على حكمٍ مماثلٍ له؛ فإذا لم يكن الحكم الشرعيّ ثابتًا في البين أصلًا في الواقع، فيُنشئ المجتهد حكمًا بتخيّل أنّ الشرع- أيضًا- قد حكم في هذا المقام، وإن كان الحكم الشرعي ثابتًا، فيُنشئ المجتهد حكمًا آخر مماثلًا له بإذن الشارع وإجازته؛ فيجتمع حينئذٍ حكمان:
[الأوّل:] حكمٌ شرعيٌّ أنشأه الشارع بنحو الكبرى الكليّة المنحلّة إلى الأحكام العديدة؛ منها هذا الحكم الشخصيّ.۱
[والثاني:] وحكمٌ إنشائيٌّ من المجتهد مماثلٌ لذاك الحكم، وقد أمضى الشارع هذا الحكمَ وأمر باتّباعه. وعلى كِلا التقديرين، إنّ الذي يجب إطاعته بمقتضى قوله:
«والرَّادُّ عَلَيْه رَادٌّ عَلَيْنَا وَهُو عَلَى حَدِّ الشركِ بِاللهِ»
۱، إنّما هو حكمُ المجتهد؛ سواءً أكان على طبقه حكمٌ شرعيٌّ في الواقع أم لم يكن، ولايختصّ حكمه هذا بموارد المنازعات والخصومات، بل له إنشاء الحكم في كلّ موردٍ تخيّل حكمًا شرعيّا جزئيّا، ويجب اتّباعه لساير المجتهدين ما لم يقطعوا بخطَئه واشتباهه.٢
فله الحكم لمصالح نوعيّةٍ عامّةٍ؛ كحكمه بحرمة شرب التنباك والتُتن، كما صدر من المجدّد المؤسّس السيّد ميرزا حسن الشيرازي عند معاهدة الحكومة الإيرانيّة مع بعض بلاد الكفر؛ وذلك لأجل علمه قدّس سرّه بأنّ هذه المعاهدة كانت ممّا يضرّ بمصالح المسلمين. فبمقتضى حكم الشارع بحرمة كلّ عملٍ كان مضرًا بمصالح العامّة، وحفظ بيضة الإسلام، فقد رأى قدّس سرّه أنّ الضّرر يتوجّه إلى المسلمين إذا أداموا على شرب التُتن والتنباك، فقد حصلت عنده الكبرى والصغرى [فحكم بحرمة شرب التُتن والتنباك]٣.
أمّا الكبرى فهي حرمةُ كلّ عملٍ مضرّ المجتمع واستقلال المسلمين، وأمّا الصغرى فهي أنّ شرب التُتن والتنباك في ذلك الزمان كان ممّا يقتضي انعقاد المعاهدة، ويستتبعه تسلّط الكفر على الإسلام.
فإذا حصلت عنده النتيجة وهي: حُرمة شرب التُتن والتنباك شرعًا حرمةً واقعيّةً؛ فقد علم بأنّه مرخّصٌ من قبل الشارع بأن يحكم حُكمًا على طبق هذا الحكم الشرعيّ؛ فلذا أنشأ- قدّس الله رمسه- بقوله:
«اليوم استعمال تُتن و تنباك بهر نحوي كه متصوّر شود در حكم محاربةبا امام زمان عجل الله فرجه الشريف است۱».٢
وكذلك يكون للمجتهد الحكم فيما إذا ثبت عنده حكمٌ شرعيٌّ وإن لم يكن لمصالح العامّة، كحكمه بثبوت الهلال، فإذا قامت البيّنة عنده على مضيّ ثلاثين يومًا من الشهر الماضي، أو على رؤية الهلال، فله إنشاء الحكم بأنّ غدًا أوّل الشهر فيجب اتّباعه.
والمحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ حكم الحاكم إنشاءٌ شخصيٌّ من قبل نفسه، قائمٌ بوجوده، ولكنّ هذا الإنشاء إنّما هو على طبق الحكم الشرعيّ الثابت عنده، فحقيقة الحكم يكون الحكم بانطباق الكبرى على الصغرى.
المبحث الثالث: بناءً على الانسداد على مبنى الحكومة
أوّلًا: القول في المسألة بناءً على ما تقدّم في موارد الإفتاء
إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنّ المجتهد الانسدادي إذا قامت عنده الحجّة العقليّة على الحكم الشرعيّ؛ بأن كانت نتيجة المقدّمات عنده، حكم العقل بحجيّة الظنّ عنده، فله إنشاء الحكم عند المرافعة وغيرها؛ لأنّا ذكرنا أنّ الظنّ بحكم نفسه ملازمٌ للظنّ بأحكام غيره، فكما في موارد الإفتاء يظنّ بأحكام غيره والإفتاء عملٌ من أعمال نفسه، فإذن يظن بجواز الإفتاء والإخبار ويكون هذا الظنّ حجّةً عليه؛ لتعلّقه بحكم نفسه وهو الإفتاء والإخبار، كذلك في موارد الحكومات يظنّ بأحكام المنازعة، ويلازم هذا الظنُّ الظنَّ بجواز حكمه على من قامت عنده البيّنة [بالنسبة إليه] أو حَلف أو نَكل، وهذا الظنّ لمّا كان متعلّقه من الأحكام المتعلّقة به فيكون حجّةً عليه، فإذن يجوز له الحكم لرفع النزاع وغيره.
هذا على ما بنينا عليه من دفع الإشكال في موارد الإفتاء.
ثانيًا: الإشكال بناءً على مبنى صاحب الكفاية
وأمّا بناءً على ما ذهب إليه صاحب «الكفاية» في موارد الحكومة في الفتوى، فيشكل الأمر حينئذٍ في موارد الموضوعات ودفع المرافعات أيضًا، مضافًا إلى أنّ الحاكم لا بدّ وأن يكون عالمًا بالأحكام حتّى تشمله المقبولة، والانسدادي الذي كان علمه بالأحكام منحصرًا بالضّروريات والمسلّمات وموارد عديدة من القطعيّات لا يكون من العالِمين بالأحكام، فلا يشمله قوله عليه السلام:
«يَنظُران مَنْ كانَ مِنكُم قد رَوَى حَدِيثَنا و نَظَر في حَلالِنا و حَرامِنَا ...»
۱.
ثالثًا: جواب صاحب الكفاية عن الإشكال
لكنّه قدّس سرّه تخلّص مِن الإشكال بقوله:
«إلّا أن يُقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الإجماعات والضروريّات من
الدين أو المذهب والمتواترات إذا كانت جملةً يعتدّ بها، وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه، فإنّه يصدق حينئذٍ عليه أنّه ممّن رَوى حديثَهم ونَظَر في حلالِهم وحرامِهم وعَرَف أحكامَهم، عُرفًا حقيقةً»۱.
رابعًا: المناقشة في المحاولة
وفيه أوّلًا: إنّ الغالب من العوام- بل جميعهم- عالمون بالضروريّات والمتواترات والمسلّمات، وأيضًا يعلمون أحكامًا كثيرةً بالقطع واليقين. فعلى هذا الذي ذكره قدّس سرّه لا بدّ من جواز قضائهم وحكمهم! وهو كما ترى.
وثانيًا: إنّ العلم بموارد الضروريّات وأخواتها من المسلّمات وغيرها؛ وإن سلّمنا أنّه يُوجب إدخال الشخص في قوله عليه السلام:
«رَوَى حَدِيثَنَا ونَظَر فِي حَلَالِنَا وَحَرامِنَا»
، لكنّ الحكم عند المرافعة يحتاج إلى الاطّلاع بالحكم الشرعيّ الثابت في هذا المورد، فالمجتهد لا بدّ وأنيكون عالمًا بحكم الترافع. فهل يعقل أن يتفوّه أحدٌ بأنّه يجوز للإنسان أن يحكم عند الترافع بأيّ حكمٍ شاء إذا كان مطّلعًا بضروريات المذهب أو الدين أو متواتراته ومسلّماته؟ كلّا وليس هذا إلّا لأجل لزوم الاطّلاع على خصوص الحكم الشرعيّ الثابت عند الترافع. فالمجتهد لا بدّ وأنيحكم كما ذكرنا آنفًا على طبق هذا الحكم، فليس للحاكم أن يتفوّه بحكمٍ ما لم يقطع أو لم تقم عنده الحجّة على الحكم.
وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدّس سرّه بقوله:
«وأمّا قوله عليه السلام في المقبولة:
«فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا»
، فالمراد أنّ مثله إذا حكم كان بحكمهم حكم، حيث كان منصوبًا منهم ...، وصحّة إسناده حكمَهُ إليهم عليهم السلام إنّما هو لأجل كونه من المنصوب من قبلهم»٢.
فنظير صحّة إسناد البناءإلى الأمير في قولنا: بنى الأمير المدينة؛ لمكان أنّه الآمر
والمؤسّس للمدينة. وهو كما ترى؛ لأنّ المراد بالباء في قوله عليه السلام:
«حَكَمَ بِحُكمِنا»
إمّا باء السببيّة، أو باء الآلة (نظير قولك: كتبتُ بالقلم)، وعلى كلا التقديرين؛ لابدّ وأن يُحرَز حكمٌ شرعيٌّ في موارد حكم الحاكم، حتّى يكون حكم الحاكم لدفع الخصومة بسبب هذا الحكم أو باستعانته. وهذا واضحٌ لَعلّه لا يخفى على أحدٍ ممن له فهم الكلام. ولَعَمري كيف اشتبه هذا على هذا المحقّق؛ فتَخيّل أنّ المقام من قبيل مقام الإسناد المجازي في قوله: «بنى الأمير المدينة»؟ حتّى يكون المراد من
«فإذا حَكَمَ بِحُكْمِنَا»
: فإذا حكمَ بحكمٍ أيّ حكمٍ شاء، فلمّا كان هذا الحكم مأذونًا فيه من قِبَلِنا ومُمضًى عند الشرع كان هو الحكم الشرعي.
وبالجملة، إنّ صريح المقبولة في قوله عليه السلام:
«فإذا حَكَمَ بِحُكمِنَا»
، لابدّ وأنيكون الحكم فيما إذا أحرز الحكم الشرعي، ثمّ أنشأ الحاكم حكمًا على طبقه، لا أنّه يُنشئ الحكمَ أَوّلًا، ثمّ بمقتضى إذن الشارع يصير هذا الحكم حكمًا شرعيّا.
هذا كلّه بناء على الكشف والحكومة، وأمّا بناءً على التبعيض في الاحتياط فحكم المجتهد وتصدّيه لأُمور العامّة في غايةالإشكال.
** *
الفصل الخامس: التجزي في الاجتهاد
تمهيد
اعلم أنّ المجتهد ربّما يقدر على استنباط جميع الأحكام، بحيث يتمكّن من بيان حكم كلّ مسألةٍ يُسأل عن حكمها بمجرّد الرجوع إلى أدلّتها الواردة، وربّما لا يقدر المجتهد على ذلك، بل يقدر على استنباط بعض الأحكام دون بعض، فيُسمّى الأوّل بالمجتهد المطلق والثاني بالمتجزّي. ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّ التجزّي: هل هو ممكن أم مستحيل، حتّى لا يكون للاجتهاد إلّا فردًا واحدًا؛ وهو الاجتهاد المطلق؟
المبحث الأوّل: معنى التجزّي
وقبل الدخول في البحث، لا بدّ وأنيُعلم- أوّلًا- أنّ المجتهدَيْن تارةً يكون اختلافهما في شدّة قوّة الاستنباط وضعفها، فيكون أحدهما ذا قوّةٍ قويّةٍ وجودةٍ مستقيمةٍ، والآخر يكون له مَلَكةٌ ضعيفةٌ، وأخرى يكون اختلافهما في تمكّن أحدهما من استنباط جميع الأحكام وعدم [تمكّن الآخر من] استنباط الجميع، وإن كانت
ملكتهما متساويةً قوّةً وضعفًا؛ كأن يتمكّن أحدهما من استنباط أحكام خصوص باب الطهارة أو البيع لا غير.
وبعبارةٍ أخرى: تارةًيُفرض اختلاف مَلَكتهما في الشدّة والضعف، وأخرى في القلّةوالكثرة على حسب كثرة الأبواب. والأوّل خارجٌ عن بحثنا هذا وهو «التجزّي»، بل راجعٌ إلى قضيّة أفضليّة أحد المجتهدين ومفضوليّة الآخر؛ وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
أمّا الثاني: وهو قدرةاستنباط المجتهد في بعض الأحكام دون بعض يسمّى بالتجزّي، ولايلزم أن يكون هذا لأجل ضعفِ مَلَكته، بل يُمكن أن يكون لأجل عدم الاطّلاع على بعض المباني الفقهيّة من بعض المسائل الأُصوليّة، وإن كانت مَلَكته في بعض المسائل الأخرى التي يقدر على استنباطها- للعلم بمبانيها- في غايةالقوّة.
وبعبارةٍ أخرى: يُمكن أن تكون ملَكة المتجزّي في القوّة والضعف مثل قوّة ملَكة المجتهد المطلق، بل يُمكن أن تكون مَلَكته أقوى من مَلَكته، لكنّ انحصار مَلَكته بباب دون باب جعله متجزّيًا، وأمّا عدم انحصار مَلَكة المجتهد المطلق ببابٍ دون بابٍ جعله مجتهدًا مطلقًا، وإن كانت ملكته ضعيفةً. فإذا نظرنا إلى قوّة الملَكة وضعفها، فهذا خارجٌ عن مسألة التجزّي بل راجعٌ إلى مسألةالأعلميّة وغيرها، وإذا نظرنا إلى سعة الملَكة؛ بحيث يقدر بها المجتهد على استنباط جميع الأحكام وضيقها؛ بحيث لا يقدر إلّا على استنباط البعض، فهذه هي مسألة التجزّي.
المبحث الثاني: في إمكان التجزّي واستحالته
أوّلًا: الاستدلال على الاستحالة باستحالة تجزؤ المجرّدات
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه رُبّما يُستدلّ على استحالة التجزّي: بأنّ المَلَكة من الكيفيّات النفسانيّة ولا تقبل التبعيض [لأنّها من الأمور المجرّدة، و كل مجرّدٍ لا يقبل التجزي والتبعيض]۱؛ لأنّ التبعيض من خواصّ الموادّ، وتنافيه المجرّدات كالنفس وما يعرضها من العلم والإرادة والحبّ والمَلَكات. فالتجزّي- وهو عبارةٌ عن تبعّض الملَكة وانقسامها على حسب انقسام الأبواب- ممّا هو ممتنعٌ لامحالة؛ فالرجل إمّا أن لاتحصل له الملَكة أو تحصل له الملَكة، فهو إمّا عامّيٌ أو مجتهدٌ مطلقٌ، فالمتوسّط بينهما ممّا لا معنى له.٢
إشكالٌ: التجزي تعدّد في الملكة لاختلاف مباني أبواب الفقه
لكن يرِد على هذا الاستدلال: بأنّ التجزّي ليس عبارةًعن تبعّض الملَكة البسيطة، بل عبارة عن تعدّد الملَكة، كما أنّ الإطلاق في الاجتهاد ليس عبارةً عن حصول ملَكة واحدةٍ مركّبةٍ من أجزاء، بل عبارةٌ عن اجتماع جميع الملكات التي يحتاج إليها الفقيه للاستنباط.
وتوضيحه: أنّ كلّ بابٍ من أبواب الفقه يحتاج استنباط مسائله إلى ملَكة مغايرةٍللملَكة المحتاج إليها في سائر الأبواب؛ لأنّه من المعلوم عدم وجود جامعٍ بين باب
الطهارة وباب البيع والميراث، وباب الصيد والذباحة وباب الحدود؛ لاختلاف مباني هذه الأبواب في ما يتوقّف عليه الاستنباط؛ لأنّ باب الطهارة- مثلًا- أو باب الصلاة، لمّا تواردت فيهما الروايات الكثيرة المتعارضة، لا بدّ وأن يكون المجتهد ذا قدرةٍ على علاج التعارض بينها، ولابدّ وأن يطّلع على حجّيّة خبر الواحد وحجّيّة الظهورات ونحوها، ولكن لايحتاج إلى مسائل الأصول العمليّة غالبًا. وأمّا مسائل البيع فيحتاج إلى تمييز موارد الأصول العمليّة، ولا يتوقّف على الاطّلاع على مسائل التعادل والتراجيح؛ لعدم تعارض الأخبار فيها، كما لا يحتاج إلى العلم بمسائل العلم الإجمالي، بخلاف باب الطّهارة. وكذا أبواب الميراث والحدود والدِيّات والمعاملات- غالبًا- لا تحتاج إلى العلم بمسألة التعارض والتزاحم والفرق بينهما وجريان الترتّب وعدمه، بخلاف أبواب العبادات.
فعلى هذا، إنّ استنباط الحكم في كلّ بابٍ يحتاج إلى ملَكةٍ مغايرةٍ للملكة المحتاج إليها في بابٍ آخر، فإذا حصلت للمجتهد جميع الملَكات العديدة كان اجتهاده مطلقًا، وإلّا فمتجزّيًا.
وإن شئت فقُل: إنّ باب الفقه ملتئمٌ من أبوابٍ عديدةٍ، يسمّى المجموع: بالفقه. مع فرض مغايرة الأبواب من حيث مبادي الاستنباط؛ كمغايرة علمِ الهندسة والرياضيات والكيمياء والعلوم الطبيعيّة والهيئة ونظائرها.
فكما أنّ كلّ واحدٍ من هذه العلوم يَحتاج إلى ملَكة مغايرةٍ لِما يُحتاج إليه في علم آخر، لكن إذا اطّلع الإنسان على جميع هذه العلوم بتحصيله جميع الملكات يُسمّى: «ذا الفنون»، كذلك علم الفقه إذا حصلت له بعض من هذه الملكات المحتاج إليها يُسمى: «متجزّيًا»، وإن حصلت ملكاتٌ عديدةٌ كثيرةٌ سُمّيَ: «مطلقًا».۱
وإن شئت فنظِّر المقام بباب العدالة أيضًا؛ لأنّ العادل عند الشارع هو من حصلت له ملَكة ترك المعصية، لكنّ هذا عبارةٌ عن: ضمّ ملَكاتٍ كثيرة، كملَكة ترك الحسد، وملَكة ترك الغيبة، وملَكة ترك قول الزور، وهكذا۱ ....
فالقائل بالتجزّي لايدّعي تبعّض المَلَكة البسيطة، بل يدّعي تعدّدها٢ فكلُّ واحدةٍ من هذه الملَكات نسبته إلى ملَكات المجتهد المطلق نسبة أفراد العامّ إلى العامّ، لا نسبة أجزاء المركّب إلى المركّب.
ثانيًا: نظريّة صاحب الكفاية: وجوب التجزّي لاستحالة الطفرة
هذا، واعلم أنّ صاحب «الكفاية» قدّس سرّه ذهب إلى وجوب التجزّي لدليل بطلان الطفرة۱؛ وذلك لأنّ أعلى درجة الملَكة القويّة لا يحصل للمجتهد دفعةً واحدةً، بل تحصل له- أوّلًا- ملَكةٌ ضعيفةٌ جِدًا، ثمّ بالممارسة في أبواب الفقه واستنباط الأحكام، تشتدّ هذه الملَكة شيئًا فشيئًا، حتّى يصير ذا ملَكةٍ قويّةٍ بحيث يتمكّن من إعمال الأدلّة الأربعة المذكورة سابقًا بمجرّد النظر إلى كلّ مسألة عُرضت عليه؛ فلمّا كان الوصول إلى المراتب العالية بدون طيّ المراتب الدانية ممتنعًا لبطلان الطفرة، فعلى هذا، إنّ الاجتهاد على نحو التجزّي ممّا لا بدّ مِنه، بل كلّ مجتهدٍ مطلقٍ- فعلًا- قد كان سابقًا مجتهدًا متجزّيًا لامحالة.
مناقشة صاحب الكفاية
لكنّك بما ذكرنا لك، تعرف أنّ خلطَ بابِ قوّةالملَكة وضعفها بباب التجزّي- كما قد خَلَط هو بينهما كما عرفتَ- بلا وجهٍ؛ لأنّ المتجزّي لايلزم أن تكون له ملَكةٌ ضعيفةٌ، إذ مدار التجزّي هو حصول الملَكة لاستنباط بعض الأبواب دون البواقي، مع إمكان أن يكون المتجزّي في خصوص هذا الباب ذا ملَكةٍ قوّيةٍ أعلى وأقوى من ملَكة المجتهد المطلق. فبطلان الطفرة للاستدلال بلزوم التجزّي بهذا النهج المذكور لا يجري في المقام، بل لا بدّ من أن يستدلّ ببطلان الطفرة في حصول الملكات العديدة دفعةً واحدةً في جميع الأبواب، مع أنّ ملَكة بعض الأبواب متوقّفةٌ على ملَكة سائر الأبواب، كما يُستفاد هذا من كلام المحقّق الإصفهاني في حاشيته؛ حيث ذهب إلى أنّ دليل استحالةالطفرة يجري في كلا المقامين؛ أي في باب قوّة الملَكةوضعفها وفي باب حصول الملَكات التدريجيّة في أبوابٍ متعدّدةٍ.٢
هذا، ولكنّ الصحيح أنّ دليل الطفرة لا يجري في كِلا من المقامين:
أمّا في باب القوّة والضّعف في الملَكة، فلأنّه من الممكن حصول ملَكةٍ قويّةٍ دفعةً واحدةً؛ إذ رُبّما يكون الرجل ذا جودةٍ قويّةٍ وفكرٍ عالٍ وقريحةٍ جيّدةٍ، واشتغل بتحصيل مبادئ الاستنباط من علم الأصول ونحوه، فما دام لم يخلص من هذه العلوم لم يكن ذا ملَكة الاستنباط أصلًا، وبمجرد خلاصه منها يصير ذا ملَكةٍ عاليةٍ، بل أعلى من غالب المجتهدين الذين صرفوا أعمارهم في التنقيح والاستنباط إذا لم يكن لهم فكرٌ عالٍ وقوّةٌ في الذهن. وبالجملة، إنّ حصول الملَكةللنفس يكون كحصول البياض للجسم، فكما أنّ عروض البياض الشديد ممكنٌ للجسم دفعةً بلا عروض مراتب نازلةٍمن البياض عليه أوّلًا، كذلك لا مانع من حصول الملَكة القويّة.۱
نعم، في الغالب لا تحصل الملَكة العالية دفعةً، بل تشتدّ تدريجًا كما هو الملاحظ في أحوال المجتهدين العظام.
وأمّا في باب ملَكات الأحكام العرْضيّة، فلأنّ ملَكة باب الطهارة لا تتوقّف على ملَكة باب الصلاة ولا العكس، وكذا ملَكة باب البيع لا تتوقّف على ملَكة باب الميراث، بل إنّها ملَكاتٌ عرْضيّةٌ. فيمكن أن يُحصّل المجتهد- أوّلًا- ملَكة استنباط أحكام الطهارة، ثمّ الصلاة، ثمّ البيع، وهكذا إلى آخر الدِيّات. ويمكن أنيعكس من الدِيّات إلى الطهارة، كما يمكن أن يحصِّل- أوّلًا- ملَكة استنباط أحكام البيع، ثمّ الدِيّات، ثمّ الصلاة، ثمّ الميراث، بلا ترتيب.
وبطلان الطفرة إنّما يجري، فيما إذا كان طيّ بعض المراتب متوقّفًا عقلًا على طيّ سائر المراتب. نعم، في الغالب لاتحصل جميع الملَكات المحتاج إليها لاستنباط جميع مسائل الأبواب دفعةً، لكنّ هذا غير معنى استحالةالطفرة.
وبالجملة، إنّ ما استدلّ به صاحب «الكفاية» للزوم التجزّي في استحالة الطفرة غير تامّ، وإن كان ما ذهب إليه من أنّ معنى التجزّي هو تعدّد الملَكات لا تبعّضها متينًا. ويستفاد هذا من قوله قدّس سرّه:
«وبساطة الملَكة وعدم قبولها التجزئة لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب»۱.
لأنّ المراد من هذه العبارة: أنّ التجزّي هو حصول بعض الأفراد من الملَكة، لا حصول بعض أجزائها.
فما أورده عليه المحقّق الإصفهاني من أنّ:
«البساطة مانعةٌ من التجزئة وحصولها في بعض الأبواب، بل لا بدّ من أن يُقال بإمكان تعدّد الملَكة البسيطة في دفع الإشكال، لا تبعّضها»٢.
غير واردٍ عليه؛ لأنّ مراد صاحب «الكفاية» هو هذا المعنى لا غيره، فما اعترض [به عليه] هو شرح كلامه، لا إيرادٌ عليه؛ فتأمل.
ثالثًا: نظريّة المحقّق النائيني: إمكان التجزّي
ثمّ اعلم أنّ شيخنا الأستاذ قدّس سرّه على ما في تحريرنا وتحرير فقيه العصر الآغا سيد جمال الدين الگلپايگاني، ذهب إلى إمكان التجزّي بتحصيل بعض الملَكات في بعض الأبواب دون غيرها؛ لاختلاف المباني الأصوليّة، فرُبّ مسألةٍ لايحتاج استنباط حكمها أزيد من العلم بحجّيّة خبر الواحد، ورُبّ مسألةٍيحتاج استنباطها إلى الاطّلاع على جميع موارد الأصول وتعيين مجاريها والحاكم والمحكوم، ولذا ترى أنّ ملَكة باب العبادات تكون أسهل تحصيلًا من ملَكة الاستنباط في أبواب المعاملات.
رابعًا: نظريّة الشيخ الحلّي: استحالة التجزّي
أ: الدليل على الاستحالة: اتحاد مباني الفقه وترابطها
هذا؛ ولكنّا مع ذلك كلّه لم نفهم معنىً محصّلًا للتجزّي. فإنّا وإن لمنقل باستحالة التجزّي لاستحالة تبعّض الملكة البسيطة لما عرفت فساده، بل ندّعي أنّ أبواب الفقه كلّها بابٌ واحدٌ من حيث المباني والمدارك. وليس المراد: أنّ الأبواب كلّها مرتبطةٌ؛ حتّى لا يصحّ الاجتهاد في باب الصلاة مثلًا، إلّا بعد الاطّلاع بالأدلّة الواردة في سائر الأبواب حتّى الحدود والديات؛ لأنّ هذا الاحتمال في غاية الضعف؛ لعدم دخالة الروايات الواردة في باب الدِيّات بباب الصلاة قطعًا، بعد تبويب الأبواب وإيراد كلّ روايةٍ في بابها المناسب لها كما هو المشهود فعلًا.
بل المراد: أنّ مباني الفقه ترتبط بعضها ببعض؛ بحيث لا يتمكّن المجتهد من الاجتهاد في مسألةٍ أصوليّةٍ إلّا بعد الاجتهاد في جميع المسائل. مثلًا: إذا وردت روايةٌ دالّةٌ على تنجّس الماء القليل الملاقي بالنجاسة، وروايةٌ أخرى على عدم تنجّسه بالملاقات، فاستنباط الحكم في هذه المسألة يحتاج إلى الفراغ عن حجّيّة الظواهر، والفراغ عن حجّيّة خبر الواحد، ولا يمكن الفراغ عن حجّيّة الخبر إلّا بعد التمسّك بالسيرة، ولا تتحقّق السيرة إلّا بعد استصحاب السيرة. وهذا يحتاج إلى التنقيح في مباحث الاستصحاب، ثمّ لا بدّ من تنقيح عدم معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب عدم جعل الشارع الخبر حجّةً، فلا بدّ من الملاحظة في حال الاستصحابين، ثمّ لابدّ وأن يلاحظ وجه تقدّم هذا الخبر على قاعدة الطهارة والحلّ بالحكومة. فإذن لا بدّ من تنقيح مباحث البراءة والاحتياط وتعيين محلّ كلّ منهما، ثمّ لا بدّ من الرجوع إلى أدلّة التعارض وكيفيّة الترجيح بناءً على التعارض، أو الرجوع إلى العامّ الفوق على فرض التساقط. وهكذا يحتاج إلى البحث عن حجّيّة الظنّ المطلق وعدمه؛ لأنّه رُبّما نظنّ بعد التساقط بالنجاسة أو بعدمها، ولا بدّ أيضًا من البحث في
مباحث العموم والخصوص والمطلق والمقيّد، حتّى يلاحظ نسبة هذا الدليل الدالّ على النجاسة أو الدالّ على عدمها مع العمومات والمطلقات الواردة في المقام، ولا بدّ أيضًا من البحث في الفرق بين بابَي التزاحم والتعارض والعلم بأحكام كلّ من البابين. وهكذا كلّ مسألةٍتفرض في المقام لا يتمّ تنقيحها واستنباط حكمها إلّا بعد الاستنباط وتنقيح جميع المباني الأُصوليّة، مع توقّف بعض المباني الأُصوليّة على تنقيح بعض المباني الأخرى.
ب: إشكال على الدليل: ترابط المباني يستلزم الدور
ولذا رُبّما يُقال بلزوم الدور [في استنباط الحكم]۱؛ حيث إنّ تنقيح كلّ مسألةٍ من المسائل الأُصوليّة يتوقّف على تنقيح المباحث الأخر، مثلًا: تنقيح حجّيّة السيرة في خبر الواحد متوقّفٌ على الاستصحاب، وتنقيح حجّيّة الاستصحاب متوقّف على السيرة العقلائيّة بجريانها.٢
دفع الإشكال
لكن يُدفع الدور، بأنّه في كلّ مسألةٍ من المسائل تُفرض المباني المتوقّف عليها استنباط هذه المسألة من الأصول المسلّمة الموضوعيّة، ثمّ تُنقّح هذه المباني كلّ واحدٍ منها في محلّه.
وبالجملة إنّه بالتّأمُل الصادق يعرف الإنسان عدم إمكان الاستنباط حتّى في مسألةٍ واحدةٍ، إلّا بعد تنقيح جميع المسائل الأصوليّة، فإذا استنبط الرجل جميع
المسائل من البدء إلى الختم فقد يكون ذا ملَكةٍ يقدر بها على استنباط جميع الأحكام؛ لأنّ المفروض عدم توقّف حكمٍ على غير هذه المباني، بل جميع المسائل المتوقّف عليها الاستنباط في جميع أبواب الفقه مدوّنةٌ في علم الأصول، ولا يشذّ عنه مسألةٌ واحدةٌ ممّا لها دخل في الاستنباط. وإذا لم يُنقِّح الرجل جميع هذه المباني بأسرها، لا يكون ذا ملَكةٍ حتّى بالنسبة إلى بابٍ واحدٍ؛ ولذا قال والدي قدّس سرّه في مقام نُصحي رأفةً منه ورحمةً بي:
«اختر لنفسك أستاذًا خبيرًا متضلّعًا لتدرس «الرسائل» عنده؛ لأنّك إذا نقّحت المسائل المذكورة في «رسائل» الشيخ قدّس سرّه فقد أرحت، وإلّا فإلى يوم القيامة لا تقدر على الاستنباط».
ج: لوازم باطلةٌ للقول بإمكان التجزّي
هذا؛ وإذا بنينا على التجزّي في الاجتهاد بحسب اختلاف الأبواب، نقول:
أوّلًا: إنّ كلّ مسألةٍ تحتاج إلى الملَكة، ولا وجه للقول بانحصار الملَكات بالأبواب المدوّنة، مثل: باب الصلاة والطهارة، فإذن لا بدّ للمجتهد المطلق بما لا نهاية له من الملَكات؛ لعدم تناهي الفروع؛ مع أنّه كما ترى.
وثانيًا: إنّ المجتهد الذي يريد الاستنباط في الطهارة أو الصلاة مثلًا؛ فإمّا أن يكون حصول ملَكته قبل الشروع في استنباط هذا الباب، أو يكون في حين شروعه، أو بعد الخلاص من الاستنباط.
فعلى الأوّل نسأل عن أنّه: مِن أين حصّل الملكة، مع أنّه لم يستنبط ولم يُنقّح مسألةً من هذا الباب على الفرض؟
وعلى تقدير الشروع نسأل عن أنّه: بأي ملَكةٍ شرع أوّلًا؟ وهل نفس الشروع- بما أنّه شروعٌ بلا خبرةٍ- موجبٌ للملَكة؟
وعلى تقدير [حصولها بعد] الاستنباط وفراغه من الحكم، نسأل عن أنّه: بأيّ ملَكةٍ استنبط الحكم، مع أنّ الفرض حصول الملكة بعد الاستنباط؟ فمرجع هذا هو أنّ الاستنباط بلا ملَكةٍ موجِبٌ لحصول الملَكة! وهو كما ترى.
فلا بدّ من الالتزام بالشقّ الأوّل بعد بطلان الشقّين الأخيرين، وهو حصول الملَكة قبل الاستنباط. فإذن لا مناص من الالتزام بأنّ الاستنباط في المسائل لا دخل له في حصول الملَكة.
فلا يُقال: إنّ ملَكة استنباط باب الصلاة تحصل بنفس استنباط باب الطهارة، وكذا ملَكة استنباط أحكام الحجّ تحصل من استنباط أحكام الصلاة؛ لوضوح اتّحاد هذه الأبواب من حيث الاحتياج إلى الملَكة.
نعم، بالممارسة واستنباط بعض الأبواب رُبّما تشتدّ درجة قوّة الملَكة، لكنّ هذا خارجٌ عن محلّ الكلام؛ لأنّ الكلام في التجزّي والإطلاق، لا في الأعلميّة وغيرها.
وبالجملة، إنّ التأمّل الصادق يقضي بأنّ حصول الملَكةالمتوقّفة على تنقيح جميع مباحث الأصول؛ إذا تحقّق فيتمكّن المجتهد من استنباط جميع الأحكام، وإلّا فلا يتمكّن من استنباط مسألةٍ واحدةٍ؛ لارتباط المباني الأُصوليّة بعضها مع بعضٍ.
وقد تحصَّل ممّا ذكرنا أنّه لا معنى للتجزّي في الاجتهاد؛ سواءً أكان التّجزي في الملَكة البسيطة، أم كان التجزّي في مراتب قوّة الملَكة وضعفها، أم كان التجزّي في بابٍ دون بابٍ، وإن كانت الملَكة في هذا الباب بأعلى درجةٍ من القوّة.
وقد عرفتَ أنّ الملَكةلايتوقّف حصولها على الاستنباط، بل لا بدّ للمجتهد وأنيكون ذا ملَكةٍ تامّةٍ في أوّل فرعٍ يريد استنباطه.
خامسًا: نظريّة المحقّق العراقي ومناقشتها
هذا؛ واعلم أنّ المحقّق العراقي قدّس سرّه قسّم في «مقالاته» المتجزّي إلى قسمين:
الأوّل: المتجزّي بالنسبة إلى مجموع الأحكام، وهو الذي يتمكّن من استنباط بعض المسائل دون الأخر.
الثاني: المتجزّي بالنسبة إلى حكمٍ واحدٍ، وهذا إنّما يتصوّر فيما إذا كان استنباط الحكم في المسألة متوقّفًا على قواعدَ عديدةٍ يطّلع المجتهد على بعض هذه القواعد دون البواقي، ولذا لا يتمكّن من استنباط هذا الفرع. والمتجزّي بالمعنى الأوّل يصحّ استنباطه، بخلاف الثاني.۱
وأنتَ خبيرٌ بأنّه قدّس سرّه لم يُورد قولًا جديدًا؛ لأنّ محطّ كلام القوم في إمكان التجزّي هو الأوّل، وأمّا بطلان التجزّي بالمعنى الثاني فهو مفروغٌ عنه عندهم، فما كان تفصيلًا في كلامه ليس تفصيلًا في المسألة حقيقةً. ثمّ إنّ نتيجة البحث هي بطلان التجزّي بمعنى الملَكة، وأمّا بمعنى العِلم الفعلي فلا ريب في أنّ الأحكام تدريجيّة الاستنباط، ولمّا [كانت] الفروع لا تتناهي، فإذن لا يوجد مجتهدٌ مطلقٌ بالنسبة إلى الأحكام الفعليّة، بل جميع المجتهدين حتّى أساطين الفقه ممّن كان متضلِّعًا في الاستنباط، وعلّامةً في كثرة المسائل المستنبطة، فمع ذلك يشذّ عنهم فروعٌ كثيرةٌ يمتنع استنباطهم لجميعها؛ لِما مرّ من عدم تناهيها، مع كونهم متبحّرين في الفروع.
المبحث الثالث: أحكام المجتهد بناءً على استحالة التجزّي
الحكم الأوّل: جواز العمل على طبق استنباطه
ثمّ إنّه لا ريب في أنّه يجوز لِمَن حصَّل ملَكة الاستنباط [أن] يعمل على طبق ما استنبطه؛ لأنّ استنباطه حجّةٌ عليه، فلا يجوز له التخلّف عمّا استنبطه من الحكم، فيرجع إلى قول فقيهٍ آخرٍ، وإن كان يعلم بأنّ الفقيه الآخر أعلم منه؛ لأنّه في هذه المسألة المستنبطة صار عالمًا بالحكم تعبُّدًا بقيام الحجّة عنده، فرجوعه إلى غيره يكون رجوعًا من العالم إلى الجاهل.
الحكم الثاني: حرمة ترك الاستنباط
وهل يجوز له أن لا يُقدِم على الاستنباط ويقلّد غيره؛ لعدم قيام الحجّة الفعليّة حينئذٍ؟
ادّعى العلّامة الأنصاري قدّس سرّه الإجماع على حُرمة تقليد من له ملَكة الاستنباط، وإن لم يكن عالمًا فعليّا.۱
الحكم الثالث: جواز الإفتاء والحكم
وكذا يجوز لواجد الملَكة أن يفتي الناس ويحكم بينهم ويتصدّى في الأمور العامّة، وإن لميكن مستنبطًا فعليّا للمسائل، بل وإن لم يستنبط مسألةً واحدةً أصلًا، لكنّه يجوز له في كلّ مسألةٍ عُرضت عليه أن يراجع الأدلّة، فيفتي على طبق ما استنبطه، ويحكم بين المتخاصمين بالرجوع إلى الأدلة واستنباط حكم المتخاصم [فيه] في خصوص هذا الفرع.
الحكم الرابع: جواز تقليده والرجوع إليه
ولا يخفى أنّ أدلّة التقليد وجواز الرجوع إلى الحاكم في رفع المنازعات لاتختصّ بمن كان عالمًا فعليّا في خصوص هذه المسألة المراجع فيها، أو من كان عالمًا فعليّا بجميع المسائل، كما ربما يُتوّهم أو يُقال؛ لأنّ أدلّة جواز التقليد هي السيرة المستمرّة والروايات الواردة في المقام.
أمّا السيرة؛ فانعقدَت على رجوع الجاهل إلى من له ملَكة العِلم، وإن لم يكن عالمًا في خصوص المسألة المراجع إليه [فيها] فعلًا، بل ولا في مسألةٍ أصلًا. لكن لا بدّ وأن يكون ذا ملَكةٍ قويّةٍ؛ بحيث يقدر على تشخيص المسألة وبيان حكمها بالتأمّل. ولذا ترى أنّ الخرّيج من مدارس الكيمياء، وإن لم يطّلع فعلًا على تِعداد أجزاء الخَلِّ واللبن- مثلًا- لكنّ عدم علمه الفعليّ لايمنع من رجوع الناس إليه في استفهامهم عنه بتعداد موادّ هذه الأشياء وكيفيّة تركيبها من الموادّ المختلفة؛ لأنّه قادرٌ على التحليل فورًا، فيجيبهم بعد التحليل.
وهكذا سائر أهل الخبرة، يُرجع إليهم بمجرّد كونهم واجدين للملَكة، فادّعاء عدم جواز الرجوع إليهم فيما لم يُحصِّلوا علمًا فعليّا في المسألة المراجَع إليهم [فيها]، أو في غالب المسائل، مكابرةٌ.
وأمّا الروايات، فمنها مقبولةعمر بن حنظلة:
«انظُروا إلى مَن كانَ مِنكُم قد رَوى حَديثَنا وَنَظَرَ في حَلالِنا وَحَرامِنا»۱
، وقوله عليه السلام:
«وأمَّا الحَوادِثُ الوَاقِعَةُ فارجِعُوا فِيها إلى رُواةِ حَدِيثِنا»٢
، وقوله عليه السلام:
«فَأمَّا مَن كانَ مِنَ الفُقهاءِ ...»
- إلى أن قال:
«فلِلعَوامِ أن يُقَلِّدُوه»٣.
ولا يخفى عدم دلالة هذه الروايات على لزوم العلم الفعليّ بجميع المسائل، أو جُلِّها، في جواز الفتوى والحكومة؛ لأنّ هذه العناوين- أي: عنوان العالم والعارف والراوي والفقيه وأهل الذكر- تصدق على من كان له ملَكة الاستنباط التامّ؛ بحيث إذا رُجع إليه في مسألةٍ تمكّن من الإتيان بجوابها بمجرّد الرجوع إلى الأدلّة. كما يصدق النجّار والحدّاد على من له ملَكة هذه الصناعات، ويتمكّن من صناعة السرير والكرسي بمجرّد أخذ المنشار والاشتغال بالعمل. وكذا يصدق أهل الذكر والاطّلاع بمطالب كتابٍ، إذا تمكّن من مطالعتها بأخذ النظّارة وجعلها على عينيه. والمطالب الأُصوليّة وإعمالها في استنباط الأحكام لِمن له ملَكة الاستنباط؛ ليست إلّا بمنزلة جعل النظّارة على العين لمن له التمكّن من قراءة الكتب.
ثمّ إنّه على تقدير التنزُّل والالتزام بعدم صدق هذه العناوين على من له مجرّد الملَكة [ولم يشرع فعلًا باستنباط الأحكام]۱، نقول: إنّه لا إشكال في أنّ لزوم كون المجتهد ممّن له الرواية، أو العلم بالأحكام وسائر العناوين المذكورة، ليس إلّا طريقيّا للوصول إلى الحكم الواقعي أو الظاهري، وليس لها موضوعيّةٌ ودخالةٌ في الاستنباط ورجوع الجاهل إليه؛ كدخالة ملَكة العدالة والذكورة وما شابههما. فلنا دعوى القطع بأنّ عِلم المجتهد ليس كعدالته وذكوريته في دخالته في القضاء والفتوى، بل العدالة وما شابهها لها موضوعيّةٌ في رجوع الجاهل، بخلاف العِلم، فإنّ دخالته من باب الطريقيّة. فإذن لابدّ وأن يكون المجتهد مستنبطًا في خصوص المسألة المراجع إليه [فيها]، وإن لم يكن مستنبطًا في مسألةٍ أخرى غير هذه المسألة أصلًا. فإنّ دخالة علمه بسائر الأحكام في حجّيّة فتواه في خصوص هذه المسألة، ليس إلّا كدخالة علم النِجارة للطبيب في جواز رجوع المرضى إليه.
وبالجملة، إنّه بمجرّد التأمّل، يقضي المُتأمِّل بأنّ حكم الشارع بجواز رجوع العامّي إلى المجتهد ليس إلّا من جهة تمكّنه من الوصول إلى الحكم دون العامّي،
وليس حكمه هذا إلّا إمضاء السيرة العقلائيّة، وليس حُكمًا تعبدّيًا حتّى ندّعي دخالة العلم بجميع الأحكام أو جُلِّها- تعبّدًا- في جواز رجوع العامّي إليه. فإذن يجوز للعامّي أن يرجع إلى المجتهد في كلّ مسألةٍ استنبط حكمها؛ فإذا ثبت جواز رجوعه إليه في المسألة التي استنبط حكمها، نقول: فإذن يُمكن أن يرجع إليه في المسألة التي لم يستنبط حكمها أيضًا؛ وذلك لأنّ سؤال العامّي عن الحكم المبتلى به للمجتهد الغير المستنبط ليس حرامًا، فإذن يجوز له السؤال. ثمّ المجتهد إذا استنبط وصار عالمًا فعليّا يجيبه بحكم المسألة، فيجب على العامّي تقليده حينئذٍ.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ مدخليّة علم المجتهد في جواز التقليد، إنّما تكون في ظرف التقليد لا في ظرف السؤال عن الحكم. ففي ظرف السؤال، وإن لم يكن المجتهد عالمًا، لكنّه في ظرف التقليد صار عالمًا بفحصه عن الدليل فيفتي بالمسألة، فيجب تقليده حينئذٍ. فعلى هذا لا مدخليّة لعلم المجتهد في رجوع العامّي إليه حتّى في المسألة المراجَع [إليه] فيها، بل يجوز الرجوع إلى من له مجرّد الملَكة، لكن تحقّق تقليدهم إنّما يكون بعد استنباطهم؛ ورُبّما كانت غالب الفتاوى التي أفتى بها المُفتون ليست فتاوى بدائِيَّةٍ، بل أفتوا [بها] بعد رجوع العوام إليهم وسؤالهم عن حكم المسألة؛ كما يُشاهَد هذا المعنى في الاستفتاءات المتداولة، فرُبَّ مسألةٍ لم يتخيّلها المجتهد قبل الاستفتاء أصلًا.
المبحث الرابع: أحكام المجتهد بناءً على إمكان التجزّي
هذا كلّه على ما بنينا عليه من عدم جواز التجزّي في الاجتهاد، وأمّا بناءً على التجزّي وحصول الملكة لاستنباط بعض الأبواب دون البواقي، فأيضًا لا مانع من الإفتاء والحكومةفي خصوص المسألة التي يكون المجتهد ذا ملَكةٍ في استنباطها.
نعم رُبَّما تكون ملَكة المجتهد المتجزّي ضعيفةً، لكنَّ هذا غير ما نحن فيه من جواز الافتاء والقضاء للمتجزّي، بل راجعٌ إلى مسألة الأعلميّة وغيرها. وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
أوّلًا: الإشكال على حجيّة استنباط المتجزّي
هذا، ثمّ إنّه رُبّما أوردوا على حجّيّة استنباطات المتجزّي- بالنسبة إلى نفسه وبالنسبة إلى غيره- بأنّ حجّيّة استنباطاته في المسائل الفرعيّة متوقّفةٌ على اجتهاده واستنباطه في مسألة جواز التجزّي؛ لوضوح أنّه لو كان اجتهاد المتجزّي غير مجزٍ لم تُفده استنباطاته في المسائل الفرعيّة. ومعلومٌ أنّه في هذه المسألة- أي: في مسألة جواز التجزّي- أيضًا يكون مجتهدًا متجزّيًا، فاستنباطه في جواز التجزّي وحجّيّة استنباطه يتوقّف على اجتهاده الآخر، وهكذا يتسلسل. وهذا نظير مسألة «حجّيّة الظنّ»؛ فما لم تكن حجّيّة الظنّ مستندةً إلى دليلٍ قطعيٍّ لم يكن الظنّ حجّةً، بل إذا كانت حجّيّة الدليل ظنّيةً يلزم التسلسل.۱
ثانيًا: الجواب على الإشكال
وفيهِ: أنّ القياس بمسألة الظنّ مع الفارق؛ وذلك لأنّ إطلاق أدلّة الحجّيّة بالنسبة إلى المتجزي والمجتهد المطلق، يُوجب القطع للمتجزّي بجواز اجتهاده وافتائه وقضائه، فالاجتهاد في جواز التجزّي وعدمه ليس إلّا اجتهادٌ ونظرٌ في إطلاق أدلّة الحجّيّة وعدم الإطلاق، وإذا رأى المجتهد إطلاقها، فيتمّ المسألة ويختم الكلام.
هذا تمام الكلام في مسألة التجزّي.
المبحث الخامس: إمكان الاجتهاد المطلق واستحالته
أوّلًا: نظريّة صاحب الكفاية: الإمكان
واعلم أنّه رُبّما يُقال- بعد البناء على إمكان التجزّي- بإمكان الاستنباط الفعليّ لجميع المسائل، ووجود المجتهد المطلق.
قال صاحب «الكفاية» قدّس سرّه:
«ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان المطلَق وحصوله للأعلام، وعدم التمكّن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها، والتردّد منهم في بعض المسائل، إنّما هو بالنسبة إلى حكمها الواقعيّ لأجل عدم دليلٍ مساعدٍ في كلّ مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم، لا لقلّة الاطّلاع أو قصور الباع، وأمّا بالنسبة إلى حكمها الفعليّ فلا تردّد لهم أصلًا.»۱ انتهى.
وحاصل ما أفاده قدّس سرّه: أنّ المجتهد يُحصِّل في كلّ مسألةٍ ما هو حجّته الفعليّة ووظيفته القطعيّة، ولا تكون مسألةٌ يكون المجتهد بالنسبة إلى حكمها الواقعي أو الظاهريّ شاكّاً. وتردّد الفقهاء في قولهم: «وفيه تردّد» أو «فيه تأمّل» إنّما هو التأمّل والتردّد في الحكم الواقعيّ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الظاهريّ فلا تردّد لهم أصلًا.
ثانيًا: إشكال الشيخ الحلّي
لكنّك خبيرٌ بأنّ غالب موارد تردّد الفقهاء إنّما تكون في الحكم الظاهريّ والوظيفة الفعليّة، فلذا ربما يعبّرون: بأنّ في المسألة تردّدًا، وربما يعبّرون: بأنّ فيها إشكالًا، أو يقولون: إنّ الحكم مشكلٌ، أو يذكرون في مسائلهم الاحتياط مكان الفتوى. ومن المعلوم أنّ معنى هذا الاحتياط الوجوبّي ليس هو التردّد في الحكم
الواقعيّ، وإلّا كان المجرَى هو البراءة لا الاحتياط۱. وإنّك إذا راجعتَ الفِقه وصرتَ خبيرًا بكيفيّة الاستنباط، تعلم أنّه في بعض المسائل لايتمكّن الفقيه من الإفتاء بالحكم الواقعيّ، ولا يتمكّن أيضًا من البراءة؛ لأنّه لايدري هل حصل له العلم بالحجّة أم لم يحصل، فلايدري أنّ المقام من قبيل مقام الإفتاء، أم من قبيل مقام البراءة؛ لأنّه لو حصل له العلم بالحجّة على الحكم، فلا بدّ له من العمل على طبقه، ويجوز له أيضًا أن يُفتي بما علم. ولو لم يحصل له العلم ولم تتمّ عنده الحجّة، كان المقام مقام إجراء البراءة؛ لأنّ الشكّ في الحجّيّة مساوقٌ لعدم الحجّيّة. فإذا شكّ وتردّد في حالته النفسانيّة؛ في أنّه حصل له العلم أم حصل له الشكّ، فلا يجوز التمسّك بالبراءة؛ لكون الشبهة مصداقيّة.٢
ثالثًا: دفع وهم: خفاء بعض حالات النفس عليها
ودعوى أنّ الإنسان لايشكّ في حالته النفسانيّة أبدًا، بل [هو] عالمٌ بها دائمًا لمكان إحاطة النفس بعوارضها من الحالات والكيفيّات، [وبالتالي يمكن لها أن تشعر بالفرق بين العلم والشكّ الواقع فيها]٣ غير مسموعةٍ؛ لأنّك كثيرًا ما شككت في أنّ
الكيفيّة الحاصلة للذهن: هل هو ظنٌّ أم شكٌّ؟ وإذا سُئلتَ عن قيام زيدٍ أو قعود عمروٍ، لا تتمكّن مِن أن تقول بدءاً: إنّي شاكٌّ ولستُ بظانٍّ، بل لا بدّ من التروّي وملاحظة عِلل حصول الظنّ، ثمّ ملاحظة توازن الحالتين؛ من احتمال الوجود والعدم بحيث ترى: هل هما متعادلان، أم أحدهما أقوى من الآخر؟ فتارةً تَقدِر على أن تحكم بخصوصيّة الحالة النفسيّة بمجرّد التروّي في الجملة، وأخرى لا تَقدِر عاجلًا، بل بمضيِّ زمانٍ معتدٍ به۱.
ردّ المعلّق على الشيخ الحلّي: استحالة خفاء حالات النفس عليها (ت)
إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنّ المجتهد كثيرًا ما يشتبه عليه- لغموض المسألةوتوارد الأدلّة المتخالفة- في أنّ العلم هل حصل له بالحجّة على الحكم الإلزاميّ؟ وأنّ دلالة هذه الرواية- مثلًا- هل صارت حجّةً عليه، أم حصل له الشكّ في الحكم الواقعيّ؟ فإذن يتردّد في الوظيفة الفعليّة، ولا يقدر على الإفتاء بالحكم ولا على البراءة؛ فيحتاط هو نفسه في المسألة، ويكتب في رسالته أيضًا: «إنّ المقام لا يُترَك الاحتياط فيه» ونظائر هذه التعبيرات.٢
رابعًا: أقسام الاحتياط الوارد في الرسائل العمليّة
هذا، واعلم أنّ الموارد التي كتب المجتهد في رسالته: «الأحوط كذا» بلا سبق له بالفتوى ولا لحوقه به، وكذا ما رُبّما يتراءى في بعض الحواشي من قولهم: «إنّ هذا الاحتياط لايترك» يكون على أقسامٍ ثلاثةٍ:
الأوّل: أنّ المجتهد لم يتمكّن من استنباط الحكم، ولا يمكن له إرجاع مقلّديه إلى غيره؛ لمكان وجود منجّزٍ له في المقام كالعلم الإجماليّ، مثلًا: إذا لميتمكّن من استنباط وجوب صلاةالظهر أو صلاة الجمعة، أو لم يتمكّن من استنباط القصر أو التمام بالنسبة إلى من سافر أربعة فراسخٍ غير مريدٍ للرجوع في يومه، فيحتاط في المسألة، ولمّا لم تتمّ أدلّة وجوب خصوص صلاة الظهر أو خصوص صلاة الجمعة عنده بعد تنجّز أصل التكليف بالعلم الإجماليّ، لا يمكنه إرجاع مقلّديه إلى غيره؛ لأنّه يعلم بأنّ المقام لا بدّ وأن يُحتاط فيه، فكيف يأذن للرجوع إلى غيره المساوق للإذن بترك الاحتياط [لأنّ ذلك الغير لا يقول بالاحتياط]۱ و٢.
القسم الثاني: ما إذا لم يتمكّن من استنباط الحكم الفعليّ، ولم يكن له منجّزٌ في المقام، فقوله بالاحتياط حينئذٍ معناه عدم علمه بالحكم، فالاحتياط لمكان رفع الاحتمال من العقاب، وليس له فتوى في المسألة حينئذٍ، وهذا كغالب احتياطات المجتهدين. وفي هذا القسم لمّا لم يكن للمجتهد فتوى بالحكم، ولم يكن عالمًا به، جاز للعامي أن يرجع إلى غيره من المجتهدين.
القسم الثالث: أنّ المجتهد رأى المقام مقام إجراء البراءة، لكن لايرضى أن يتحمّل عمل المقلّدين حتّى تكون رقبته جسرًا لهم؛ لمكان أهمّية هذه المسألة. وفتواه وإن كانت البراءة في المقام، لكن لا يفشي فتواه ولا يكتبها في رسالته بل يكتب في رسالته: «الأحوط كذا ...»، فيجوز للمقلِّد أن يرجع إلى غيره؛ فإن كانت فتوى الغير عدم جواز ارتكابه فهو، وإن كانت فتواه البراءة وجواز ارتكابه، فقد ألقى الغيرُ هذا المقلِّدَ في المفسدة الواقعيّة، أو سَلَب عنه المصالح، ولم يباشر هو بنفسه في إلقائه في المفسدة على تقديرها؛ حتّى يكون واسطةً في سلب المصالح أو الإلقاء في المفاسد. ولذا كانت طبقةٌ كثيرةٌ من علماء السلف رضوان الله عليهم يأبون الإفتاء والقضاء والتصدّي للأمور العامّة مع اضطلاعهم بالفقه، وخبرتهم في الفنّ، لكنَّ شدّة ورعهم وتقواهم كانت تمنعهم من جعل أعمال الناس على رقبتهم، مع كونهم معذورين في الفتوى؛ لقيام الحجّة عندهم، لكنَّ الفرار من هذه الأمور مهما أمكن يكون مطلوبًا لهم رضوان الله عليهم.
لكنّ الزمان تغيّر والصلاح قلّ في المشتغلين، فرُبَّ عالمٍ كان مقصده من التدريس نيل الأمور الدنيويّة والرئاسة، ورُبّ طالب علمٍ لم يقصد في تحصيله إلّا الاحترام بين الناس، والتمكّن في القلوب، فيطلب الجاه!
نعوذ بالله، ولا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
وكان شيخنا الأستاذ النائينيّ قدّس سرّه يقول على المنبر:
«يا أيّها الطّلاب! إنّ العالم النحرير الورع التقيّ الحاجّ ملّا عليّ الكنيّ رضوانالله عليه كان يشكّ في اجتهاده حيث رجع الناس إليه، وهجموا عليه للتصدّي في القضاء ورفع المنازعات، فاجتمع جميع علماء البلد ونواحيه ممّن يُقرّ هو قدّس سرّه باجتهادهم فشهدوا على اجتهاده۱؛ لكن أنتم الطلاب يشهد خمسون مجتهدًا في عدم اجتهادكم، ومع ذلك تدّعون الاجتهاد وتنظرون إلى من أنكركم بنظرٍ خفيفٍ؛ ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم».٢
الفصل السادس: مبادئ الاجتهاد
فلنشرع في ما يتوقّف عليه الاجتهاد، فنقول:
المبدأ الأوّل: علوم اللغة العربيّة
قد ذكروا توقّف الاجتهاد على أُمورٍ؛ مِنها: علم اللغة، و مِنها: علم الصرف، و مِنها: علم النحو، و مِنها: العلوم الثلاثة: المعاني والبيان والبديع؛ لِما في هذه العلوم مِن نكاتٍ تُقوِّي المجتهد وتُعينه على الاستنباط وإدراك الأحكام.
واعلم أنّ هذه الأُمور مِمّا لا بدّ منها، ولا بدّ للمتعلِّم المريد للاجتهاد أن يتعلّمها حقّ التعلُّم بحيث يصير مجتهدًا في هذه العلوم.۱ ولا يكتفي بقراءة كتاب
صرفٍ ونحوٍ. هذا، مضافًا إلى مدخليّة هذه العلوم في علم الأصول أيضًا؛ لما فيه من رواياتٍ؛ لايتّضح المراد منها إلّا بتعلِّم هذه العلوم.
المبدأ الثاني: علم التفسير
وكذا يحتاج المجتهد إلى عِلم التفسير والإحاطة بمعاني كتاب الله المتوقّفِ عليها اجتهاده، لكن جعل علم التفسير علمًا آخر وراء اللغة والصرف والنحو غيرُ صحيحٍ، بل التفسير عبارةٌ عن مجموع علومٍ منضمّةٍ مدوّنةٍ في كتابٍ واحدٍ، فيصحّ أن يُسمّى بدائرة معارف. نعم لا بدّ- أيضًا- أن يراجع الروايات الواردة في معاني الآيات للخروج عن التفسير بالرأي، لكنّ هذا إنّما هو رجوعٌ إلى الروايات، لا إلى كتاب الله تعالى.
المبدأ الثالث: علم الرجال
قلّة فائدة علم الرجال واعتماد منهج وثاقة الرواية وجبر الشهرة
وأمّا عِلم الرجال، فلا فائدة فيه في زماننا هذا أصلًا؛ لأنّه بعد كون المدار في حجّيّة الروايات هو الوثوق بالرواية، قلّت فائدة الإحاطة بأسانيدها؛ وذلك لأنّا إذا رأينا أنّ المشهور عملوا على طبق روايةٍ وضبطوها في كتبهم واستشهدوا بها في مقام
الاستدلال، يحصل لنا الوثوق بصحّتها وكونها مرويّةً عن الإمام عليه السلام، وإذا أعرضوا عن روايةٍ فأهملوها، لا نثق بها وإن كان سندُها صحيحًا.۱
نعم، في سالف الزمان، لمّا كانت الروايات متشتّتةً غير مضبوطةٍ في الكتب لميكن سبيلٌ لتمييز الصحيح عن السقيم إلّا الرجوع إلى أحوال الرواة، وأمّا بعد الكتب الأربعة وسائر المجاميع وملاحظة الكتب الفقهيّة، لا مجال لادّعاء الاحتياج إلى الأسانيد. وهذا واضحٌ على ما بنينا عليه، ولا بدّ وأن يُبنى عليه في بحث حجّيّة خبر الواحد؛ من حجّيّة الخبر الضعيف المنجبِر بالشهرة، وعدم حجّيّة الخبر الصحيح المُعرِض عنه الأصحابُ. ولذلك ترى أنّه لا يتمكّن أحدٌ من ردّ مقبولة عمر بن حنظلة۱، ولم يستشكل فيها أحد في السند، مع أنّ عمر بن حنظلة لم يوَّثق في كتب الأصحاب، ومَن ادّعى عدم حجّيّة المقبولة وما ضاهاها من رواياتٍ كتبها المشايخ الثلاثة أو بعضهم، فلا بدّ وأن يُخرج مِن زمرة أهل العلم؛ لعدم شمّه من الفقه والفقاهة أصلًا.٢
هذا تمام الكلام في مبحث التجزّي في الاجتهاد.
تنبيه: حكم مدّعي الاجتهاد وعقابه
واعلم! إنّه رُبّما يدّعي بعض الناس نيلهم درجة الاجتهاد، مع أنّهم لا يكونون مجتهدين. فإن كان ادعاؤهم عن شكٍّ واحتمالٍ، فلا ريب في بطلان ادّعائهم هذا وحرمته؛ لوجوب عرض أنفسهم على الخبراء الماهرين حتّى يتّضح لهم الأمر، فإن لم يعرضوا أنفسهم على أهل الفنّ والخبرة صاروا فاسقين بلا إشكالٍ؛ لأنّ ادعاءهم مع عدم علمهم بذلك كذبٌ بلا ريب. وإن كان ادعاؤهم عن علمٍ ويقينٍ، فأيضًا لا يكونون معذورين؛ للخطأ في مقدّمات تحصيل العلم.
فهل عقابُهم على هذا الادّعاءِ الباطل يكون على نفس ادّعائهم؟ أم على ما يكون مقدّمةً لحصول علمهم بالاجتهاد؟ أم يكون العقاب على نفس الادّعاء، لكنّ ترتّبه عليه يكون بمجرّد الخطأ في المقدّمات وعدم فحصهم عن اجتهادهم وعدم عرض أنفسهم على أهل الفنّ أوّلًا؟ احتمالات ذكرناها في مبحث الاشتغال عند البحث عن وجوب التعلّم، والكلام في المقام هو الكلام هناك بلا اختلاف.۱
وأمّا بحث التخطئة والتصويب في الاجتهاد، فقد تقدّم الكلام منّا في أوّل بحث الظّن عند الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فلا نُطيل الكلام بالإعادة.
الفصل السابع: تغيّر رأي المجتهد
لكن البحث عن مسائل رجوع المجتهد عن رأيه، وإن تقدّم أيضًا في مبحث الإجزاءِ، إلّا أنّه لابأس بذكرها في المقام أيضًا فنقول:
المبحث الأوّل: تشقيق البحث إلى ثلاث صور
إنّ المجتهد إذا عدل عن رأيه إلى رأيٍ آخر؛ فتارةً تكون أعماله السابقة غيرَ واجدةٍ للشرط أو مقترنةً بالمانع على حسب اجتهاده الفعليّ، وأخرى لا تكون كذلك. وعلى الثاني، لا إشكال في صحّة أعماله السابقة بلا احتياج إلى الإعادة؛ كما إذا كانت فتواه الأولى: وجوب جلسة الاستراحة، وأتى بها في صلواته، ثمّ عدل عن رأيه، وصار نظرُه إلى عدم وجوبها.
وعلى الأوّل، رُبّما يقال ببطلان الأعمال السابقة على حسب هذا الاجتهاد؛ لكونها فاقدةً للشرط، كما إذا كانت فتواه الأولى: عدم وجوب جلسة الاستراحة، فتَرَكها في صلواته، ثمّ بدّل رأيه إلى الوجوب، أو كانت فتواه الأولى جواز الدعاء بالفارسيّة في الصلاة، ودَعا بها في صلواته، ثمّ صار رأيه عدم جواز الدعاء في الصلاة إلّا بالعربيّة، فإذن كانت صلواته السابقة مقرونةً بالمانع. فاعلم أنّ الصور في المسألة ثلاثٌ:
الأُولى: وظيفة المجتهد حينئذٍ بالنسبة إلى أعمال نفسه.
الثانية: وظيفة المقلِّدين بالنسبة إلى أعمالهم السابقة: فهل يجب عليهم إعادة
الصلوات الماضيةوقضاؤها، وكذا سائر العبادات، أم لا؟ وهكذا هل تكون معاملاتهم الواقعة بلا شرط على الرأي الثاني باطلةً أم لا؟
الصورةُ الثالثة: إنّ العامّي إذا قلّد مجتهدًا ثمّ مات [المجتهد] أو عدل في حياته إلى شخصٍ آخر؛ ما هي وظيفته في العبادات والمعاملات الواقعةِ على حسب نظر مجتهده الأوّل، الباطلةِ على حسب نظر المجتهد الثاني؟۱
تنبيه: حكم إعلام المقلّدين بالعُدول والأقوال فيه
وقبل الخوض في هذه المسائل، لا بدّ مِن بيان حكم أنّه: إذا رجع المجتهد عن رأيه فهل يجب عليه إعلامُ مقلِّديه أم لا يجب؟ فقيل بالوجوب مطلقًا، وقيل بعدم الوجوب مطلقًا، لكنّ الأقوى- كما أفاده في «العروة»٢- هو التفصيل بين ما [إذا] كانت فتواه الأولى على الوجوب أو على الحرمة وفتواه الثانية على الإباحةفي التكليفيّات الصرفة، فلا يجب عليه الإعلام، وبين ما [إذا] كانت فتواه الأولى هي الإباحة وفتواه الثانية هي الوجوب أو الحرمة، فيجب الإعلام؛ لاستلزام [عدم] إعلامهم الترخيص لهم في الوقوع في المفسدة أو ترك المصلحة. وهكذا في الحقوق يجب عليه الإعلام مطلقًا؛ سواءً أكانت فتواه الأولى الإباحةَ أم فتواه الثانية؛ لأنّ الإباحة في أخذ حقّ الغير منافٍ لحقّ الغير؛ سواء أكان الغير هو مَن حَكم بجواز أخذ حقّه أوّلًا، أم حكمَ بجواز أخذ حقّه ثانيًا.٣
فإذا أعلم المقلّدين، لكنْ لم يصل إليهم الخبر إلّا بعد شهرٍ أو سنةٍ مثلًا، فهل تكون أعمالهم في طيّ هذه المدّة الفاصلة بين الإعلام ووصول الخبر باطلةً تحتاج إلى الإعادة، أم لا تحتاج إلى الإعادة؟ يدخل هذا في الصورة الثانية من الصُوَر الثلاث؛ فإذا عرفتَ حكمها تعرف حكم هذه المسألة أيضًا.
المبحث الثاني: أحكام الصور والفروع
أوّلًا: حكم الصورة الأولى: وظيفة المجتهد بالنسبة إلى أعماله:
أ: الحكم بالبطلان بناءً على دلالة دليل الحجّيّة على العمل بمضمون الأمارة على الإطلاق
أمّا الصورة الأُولى من هذه الصور: فمُقتضى القاعدة بطلان عباداته ومعاملاته رأسًا؛ لأنّه بحسب اجتهاده الثاني رأى أنّ أعماله السابقة فاقدةٌ للشرط أو واجدةٌ للمانع، فكأنّ الأعمال السابقة تُركت بالمرّة أو تَصرف في مال الغير ووَطأ المرأة الأجنبيّة بلا عقدٍ، فيحتاج إلى إعادة العقد وإعادة العبادات بالمرّة.
نظريّة الآخوند: عدم لزوم الإعادة و القضاء
ولكنّ صاحب «الكفاية» ادّعى عدم لزوم الإعادة والقضاء في العبادات؛ متمسّكًا بالإجماع وبحديث «لا تعاد» وبحديث الرفع.۱
إشكال الشيخ الحلّي
ولايخفى ما فيه، أمّا الإجماع فهو- على تقدير تسليمه- إنّما يختصّ بأعمال المقلِّدين لا بأعمال نفس المجتهد؛ لأنّه بملاحظة فتاواهم وادّعائهم الإجماع، يظهر أن محطّ اتّفاقهم هو ما إذا عمل المقلِّد على طبق فتوى المجتهد، ثمّ عدل المجتهد عن رأيه، وأمّا بالنسبة إلى نفس أعمال المجتهد، فالظاهر أنّه لم يدّع أحدٌ فيها الإجماع.
وأمّا حديث «لا تعاد»، فمضافًا إلى اختصاصه بالصلاة في غير الخمسة المذكورة، فجريانه في المقام مبتنٍ على شموله للجاهل بالحكم، ولكنّ الحقّ عدم شموله، وإنّما يختصّ بالساهي والناسي كما ذكرنا في محلِّه.
وأمّا التمسُّك بحديث الرفع في المقام فمِن أغرب الغرائب؛ لأنّه إن كان المراد: عدم وجوب إعادة الصلاة وعدم المؤاخذة على الصلاة المأتيّ بها قبل تبدّل رأي المجتهد، فهذا ليس محلّ الكلام؛ لأنّ محلّ الكلام إنّما هو بعد التبدّل! وإن كان المراد: بعده، فلا مجرى لحديث الرفع حينئذٍ؛ لأنّه بعد قيام الحجّة على جزئيّة جلسة الاستراحة مثلًا، قامت الحجّة على بطلان الصلوات الماضية، ومعها لا نكون غيرَ عالمين بالحجّة حتّى يشملنا الحديث، بل نكون عالمين به، فيجب العمل على طبق الحُجّة القائمة، ولا وجه لجريان الحديث بوجهٍ.
إنْ قلتَ: إنّ الحجّة على جزئيّة السورة إنّما قامت بالنسبة إلى الصلوات الآتية؛ لأنّها قامت في زمانٍ خاصٍّ، ولا يكون لها بعثٌ وتحريكٌ بالنسبة إلى ما مضى من الصلوات، بل يكون بعثها وتحريكها بالإضافة إلى خصوص الصلوات الآتية.
قلتُ: هذا توهّمٌ فاسدٌ؛ لأنّه لا إشكال في أنّ قيام الحُجّة إنّما يكون بعد مضيّ زمانٍ أتَينا بصلواتٍ كثيرةٍ فيه، إلّا أنَّا نقول: إنّ مدلول الأمارة الحاكية عن الواقع ليست هي جزئيّة جلسة الاستراحة بالنسبة إلى الصلوات الآتية، بل مدلولها جزئيّتها في جميع الصلوات! والدليل الدالّ على حجيّة هذه الحجّة إنّما يدلّ على حجّيتها بما له من المدلول، وحيث كان مدلوله: جزئيّة السورةِ وجلسةِ الاستراحة في جميع الصلوات، فإذن كان هذا المدلول حجّةً لنا على الإطلاق.
فاللازم الالتزام ببطلان الصلوات الماضية؛ لعدم الإتيان بجلسة الاستراحة فيها، فلم تُمتثل الأوامر بالصلوات، فكانت الصلوات كما [لو] تُركت رأسًا، فيجب۱
الدر النضيد في الإجتهاد و التقليد و المرجعية ؛ ص٢۰۱
علينا القضاء بمقتضى الأدلّة الدالّة على قضاءِ الصلوات المتروكة.۱
وبالجملة عدول رأي المجتهد ليس إلّا بمنزلة قيام الحجّة جديدًا، فكما أنّه إذا قامت حجّةٌ بدءًا على وجوب صلاةٍ كذائيّةٍ مِن أوّل الشريعة، يجب علينا قضاء الصلوات المتروكة بمقتضى هذه الحجّة، فكذلك المقام؛ فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء بالنسبة إلى المجتهد مطلقًا.
ب: الحكم بالصحّة بناء على الشك في دلالة دليل الحجيّة على العمل بمضمون الأمارة على الإطلاق
ولا يخفى أنّ هذا، بعد دلالة دليل الحجّيّة على العمل بمضمون الأمارة على الإطلاق؛ كما هو الظاهر، وأمّا لو شككنا في دلالة دليل الحجّيّة على لزوم العمل بمضمون الرواية بالنسبة إلى الصلوات الماضية، وقلنا: بأنّ مدلول الأمارة وإن كان مطلقًا، إلّا أنّ القدر المتيقّن من دليل الحجّيّة إنّما هو حجّيّة هذا المدلول بالنسبة إلى الصلوات الآتية والأعمال اللاحقة [دون الأعمال السابقة]۱، فالمجرى حينئذٍ هو حديث الرفع بالنسبة إلى قضاء الصلوات الماضية.٢
وذلك لأنّ الاجتهاد الأوّل الدالّ على صحّةالصلوات الماضية قد بطل، فلا دليل لنا على صحّة هذه الصلوات، والاجتهاد الثاني لايدلّ على بطلان الصلوات الماضية بلا سورةٍأو بلا جلسة الاستراحة، ونهوضه بالنسبة إلى الصلوات اللاحقة، لا دلالةله على بطلان الصلوات الماضية، فإذن نشكّ في صحّتها وبطلانها، فنشكّ في وجوب القضاء وعدمه، فالأصل هو البراءة. ولعلّ هذا هو مراد صاحب «الكفاية» قدّس سرّه من تمسّكه بحديث الرفع، فلا تغفل!٣
ج: تفصيل صاحب الفصول بين الأحكام ومتعلقاتها
هذا كلّه في بيان حكم الصورة الأُولى من الصور الثلاث، وقبل بيان حكم سائر الصور، نتعرّض لكلام صاحب «الكفاية» ممّا نقله عن «الفصول»، فإنّه قدّس سرّه بعد
أن حكم بعدم إجزاء عبادات المجتهد وعدم صحّة المعاملات الواقعة على خلاف الاجتهاد الثاني، قال:
«إنّه لا فرق في عدم الإجزاء بين أن تعلّق الاجتهاد الثاني بالأحكام، أو تعلّق بمتعلّقاتها؛ ضرورةَ أنّ كيفيّة اعتبارها فيهما على نهجٍ واحدٍ».
إشكال الآخوند على صاحب الفصول
ثمّ اعترض على صاحب «الفصول»:
«بأنّه لميُعلم وجه للتفصيل بينهما، كما في «الفصول»، وأنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين بخلاف الأحكام إلّا حِسبان أنّ الأحكام قابلة للتغيّر والتبدّل بخلاف المتعلّقات والموضوعات».
ثمّ قال:
«وأنت خبيرٌ بأنّ الواقع واحد فيهما، وقد عيّن أوّلًا بما ظهر خطؤُه ثانيًا»- إلى آخر ما ذكره.۱
الإشكال على الآخوند: لم يدرك حقيقة مراده
وهو قدّس سرّه تَخَيّل أنّ صاحب «الفصول» كان بصدد الفرق بين الأحكام؛ كالوجوب والحرمة، وبين متعلّقات الأحكام؛ كالصلاة والحجّ والبيع والنكاح ونظائرها، وفي الأوّل لا مانع من تبدّل الرأي، فإذا تبدّل يُتَّبع الرأي الثاني، ولا يُعتنى بالرأي الأوّل، فإذا كان رأيه الأوّل هو استحباب صلاةٍ- مثلًا- ولم يأت بها، وكان رأيه الثاني هو وجوبها، فلا بدّ وأن يقضيها. وأمّا في الثاني، فالأعمال السابقة المترتِّبة على طبق اجتهاده السابق في كيفيّة العمل من العبادة والمعاملة صحيحةٌ؛ لأنّ الواقعة الواحدة- وهي الصلاة أو البيع- أمرٌ واحدٌ واقعيٌّ لا تتحمّل اجتهادين. فعلى هذا اعترض عليه: بأنّ الواقع ونفس الأمر واحدٌ سواءًفي الأحكام أم في متعلّقاتها، فكما يمكن الخطأفي استنباط الحكم، كذلك يمكن الخطأ في استنباط كيفيّة المتعلّق، فلا فرق في عدم الاجزاء بين المقامين.
هذا، ولكنّ الحق: أنّه لميصل إلى مراد صاحب «الفصول»، ولذا اعترض عليه باعتراضٍ بيّنٍ، كما أنّ الحقّ: أنّ عبارة «الفصول» في هذا المقام۱ في غاية الغموض ويصعب تحصيل المراد منها؛ بحيث إن العلّامة الأنصاريّ- على ما حَكى لي السيّد أبوالحسن الإصفهاني والشيخ ضياء الدين العراقيّ- لم يَفهم منها مراده، فسأل عن مراده بواسطةٍأو بلا واسطة، فأجاب صاحب «الفصول»: بأنّي لا أفهم معنى العبارة فعلًا، وإن كان لا محيص عمّا ذكرتُه من الفرق!
حقيقة مراد صاحب الفصول
لكن بالتأمّل التامّ في كلام «الفصول» يتّضح أنّه قدّس سرّه كان بصدد الفرق بين فروعٍ ثلاثةٍ وما شابهها، وبين فروعٍ ثلاثةٍ أخرى وما شابهها، لكنّه في مقام بيان إعطاء القاعدة الكلّية في مناط الفرق، عبّر بعبائرَ غير واضحةٍ؛ فتارةً [كان] يُعبِّر بالمتعلّق والحكم، وتارةً [كان] يُعبِّر عن جامع الفروع الثلاثة التي كان بصدد إثبات عدم الإجزاء فيها: بكون الواقعة ممّا لا يَتعيّن في وقوعها شرعًا أخذُها بمقتضى الفتوى، ويُعبِّر عن جامع الفروع الأُخر التي كان بصدد إثبات الإجزاء فيها: بكون الواقعة ممّا يَتعيّن في وقوعها شرعًا أخذُها بمقتضى الفتوى.
لكنْ بالتأمّل في كلام «الفصول»، وفي الفرق بين فروعه المذكورة، يتّضح أنّه كان بصدد الفرق بين الوقائع التي قد حصلت في الخارج وانقضت بمقتضى الفتوى الأُولى، فيثبت فيها الإجزاء، وبين الوقائع التي لم تحصل إلى الآن في الخارج، لكن الفتوى الأُولى مقتضيةٌ لصحّتها والفتوى الثانية مقتضيةٌ لبطلانها، فلا إجزاء فيها.
الفروع الثلاثة المجزية
أمّا الفروع الثلاثة الأُوَل: فأوّلها ما لو بنى على عدم جزئيّة شيءٍ للعبادة أو عدم شرطيّته، فأتى بها على الوجه الذي بنى عليه ثمّ رجع، فيَبني على صحّة ما أتى به، حتّى أنّها لو كانت صلاةً وبنى فيها على عدم وجوب السورة، ثمّ رجع بعد تجاوز المحلّ،
بنى على صحّتها من جهة ذلك. أو بنى على صحّتها في شعر الأرانب والثعالب، ثمّ رجع- ولو في الأثناء- إذا نزعها قبل الرجوع۱. وكذا لو بنى على طهارة شيء، ثمّ صلّى في ملاقيها ورجع، ولو في الأثناء. وكذا لو تطهّر بما يراه طاهرًا أو طهورًا، ثمّ رجع ولو في الأثناء، فلا يلزمه الاستيناف.
الفرع الثاني: مسائل العقود والإيقاعات، فلو عقد أو أوقَع بصيغة يرى صحّتها، ثمّ رجع، بنى على صحّتها واستصحب أحكامها؛ مِن بقاء الملكيّة والزوجيّة والبينونة والحرّية وغير ذلك.
الفرع الثالث: حُكم الحاكم، والظاهر أنّ عدم انتقاضه بالرجوع موضع وفاقٍ، ولا فرقَ بين بقاءحكم فتواه التّي فَرَّع عليها الحكمَ وعدمه؛ فمن الأوّل ما لو ترافع إليه المتعاقدان بالفارسيّة في النكاح، فحكم بالزوجيّة، أو في البيع فحكم بالنقل والملكيّة، فإنّ حكم فتواه التي يتفرّع عليها الحكم- وهي صحّة ذلك العقد- يبقى بعد الرجوع. ومن الثاني ما لو اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوانٍ بقول الحاكم بحلّيته، فترافعا إليه، فحكم بصحّة العقد وانتقال الثمن إلى المشتري، ثمّ رجع إلى القول بالحرمة، فإنّ الحكم بصحّة العقد وانتقال الثمن إلى البائع يبقى بحاله، ولا يبقى الحكم بحلّيته في حقّ المشترى بحاله وهكذا.
ولا يخفى أنّ الجامع بين هذه الفروع المذكورة: هو الإتيان بعملٍ قد مضى على طبق الاجتهاد الأوّل، وقد استند في الصحّة إلى قول المجتهد؛ بحيث إنّ خصوصيّة الفعل الخارجيّ وكيفيّته قد وقعت على حسب فتواه.
ومن هذا القبيل ما لو تخيّل المجتهد جواز ذبح الحيوان بغير الحديد كالخشب- مثلًا- فذكّاه به، ثمّ رجع عن فتواه فذهب إلى حرمة المذبوح بالخشب، وفرضنا أنّ الحيوان المذبوح موجود فعلًا، فلمّا كان الفعل الخارجيّ وهو الذبح بالخشب مستندًا إلى فتواه، لا مانع من أكل لحم هذا الحيوان فعلًا.
الفروع الثلاثة الغير مجزية
وأمّا الفروع الثلاثة الأُخر التي بنى فيها وأمثالها على عدم الإجزاءوتغيُّر الحكم بتغيّر الاجتهاد، وهي الفروع التي لميكن الفعل الخارجيّ بخصوصيّته مستندًا إلى فتواه، بل كان الفعل الخارجيّ صحيحًا على كل حال، غاية الأمر أنّ فتواه الأُولى كانت بتأثير هذا الفعل في ترتّب الأثر، بخلاف فتواه الثانية.
فالفرع الأوّل: ما لو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ثمّ رجع، بنى على تحريم المذكّى منه وغيره، فإذن لا بدّ من البناء على تحريمه؛ كما إذا بنى على حلّية لحم الأرنب فذكّاه، ثمّ بنى على حرمة لحمه؛ برجوعه وتبدّل رأيه إلى الحرمة، فإذن يحرم عليه أكله، لو كان الأرنب المذبوح موجودًا فعلًا.
وكم مِن فرقٍ بين هذا وبين الفرع السابق، وهو ما لو كانت فتواه وقوع الذبح بالخشب؛ لأنّه في هذا الفرع قد أوقع الذبح على مقتضى القاعدة بالحديد، والفعل الخارجيّ في حدّ نفسه بخصوصيّته وكيفيّته ليس مخالفًا لفتواه الثانية؛ لأنّ كِلا الفتويين هما وقوع الذبح بالحديد، وإنّما اختلاف الفتوى في أصل حلّية لحم هذا الحيوان وعدم حلّيته، وأمّا في ذلك الفرع فقد وقع الفعل الخارجيّ مستندًا إلى فتواه الأُولى، وكانت الفتوى الثانيةبطلان هذا الفعل، فمحطّ اختلاف الرأيين هو نفس الفعل الواقع سابقًا.
الفرع الثاني: ما لو كانت فتواه الأُولى على طهارة شيء؛ كعرق الجُنُب مِن الحرام، فلاقاه، ثمّ رجع، بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده. ومن البديهيّ
أنّ العرق الموجود فعلًا أو ملاقيه الموجود كذلك، لا وجه للقول بطهارته بعد تبدّل رأيه إلى النجاسة؛ لأنّ محطّ اختلاف الرأيين ليس هو الفعل الواقع سابقًا؛ لأنّه لميحصل فعل حينئذٍ أصلًا، وإنّما الاختلاف على مجردّ البناء، ومعلوم أنّ البناء الثاني رافعٌ للبناء الأوّل.
نعم لو صلّى مع هذا العَرَق أو مع ملاقيه، يتشكّل هنا فرعان؛ الأوّل: صحّة الصلاة الواقعة؛ لأنها بمقتضى الفتوى الأُولى صحيحةٌ، ولا تأثير للفتوى الثانية في إبطال الفعل الواقع سابقًا. الفرع الثاني: هو ما ذكرناه فعلًا؛ وهو البناء على نجاسة هذا العَرَق وملاقيه، فلا بدّ من تطهير ملاقيه لعدم وقوع فعل خارجيّ.
الفرع الثالث: ما لو بنى على عدم تحريم الرضعات العشر، فتزوَّج مَن أرضعته ذلك، ثمّ رجع، بنى على تحريمها، وهذا الفرع أيضًا واضح؛ لأنّ العقد الواقع على من أرضعته عشر رضعات لميكن في نفسه ناقصًا، بل عقدٌ تامٌ على الفرض. والاختلافُ في تأثير هذا العقد على الحلّية وعدمه فلميكن الاختلاف في الفعل الصادر الواقع سابقًا؛ بحيث إنّ نفس الفعل في حدّ نفسه- استنادًا إلى الفتوى الأُولى- كان باطلًا بمقتضى الفتوى الثانية، بل الفعل في حدّ نفسه تامُّ الشرائط على كلا الرأيين، وإنّما الاختلاف في الحكم فقط. وهذا بخلاف ما لو عقد بالفارسيّة، ثمّ رأى بطلان العقد كذلك؛ لأنّ نفس الفعل الصادر- حينئذٍ- على الفتوى الأولى كان باطلًا بمقتضى الفتوى الثانية، فلا تأثير للفتوى الثانية في رفع الآثار المترتّبة سابقًا في أمثال ذلك.
وبالجملة، إنّه بما ذكرنا ظهر لك مراد صاحب «الفصول» قدّس سرّه وأنّه كان بصدد الفرق بين الأفعال الواقعة الصادرة بمقتضى الرأي الأوّل؛ بحيث كان محطّ اختلاف الرأيين نفس صحّة الفعل وعدمها في حدّ نفسه، وبين عدم اختلاف الرأي في الفعل في حدّ نفسه، بل كان الاختلاف في تأثير هذا الفعل في المورد وعدم تأثيره؛ فيقول بالإجزاء في الفروع الأُوَل، وبعدمه في الفروع الأُخر.
الحق في تفصيل صاحب الفصول
لكنْ لا يخفى عليك أنّ ما ذكره من عدم البناء على الصحّة في الفروع الأخيرة صحيحٌ لا مناص عنه كما ذكره۱؛ لأنّه بمجرّد تبدّل الرأي، لا بدّ من تطبيق الأعمال على طبق هذا الرأي بالنسبة إلى الأفعال الآتية والماضية.
وأمّا ما ذكره من لزوم البناء على الفروع الأُول، لا يتمّ في غير باب الحكومة؛ لأنّ نفس الفعل الخارجيّ، وإن صدر عن الاستناد إلى الفتوى، ولكن الفتوى الثانية طريقٌ إلى بطلانه رأسًا؛ لأنّ أدلّة الحجيّة تدلّ- كما ذكرنا سابقًا- على أنّ مُؤدّى الأمارة- بما له من المدلول- حجّةٌ، فإذا كان مدلولها جزئيّة السورة، أو اشتراط طهارة الماء للوضوء بعدم كونه ملاقيًا للنجس، فاللازم بطلان الصلوات الماضية.
وهكذا في باب العقود والإيقاعات؛ فإنّ مقتضى فتوى المجتهد الدالّة على اشتراط عقد النكاح بالعربيّة بطلانُ العقد الواقع بالصيغة الفارسيّة مطلقًا.٢
وأمّا في باب الحكومة، فترتيب الأثر على طبق الحكم الصادر من المجتهد، وإن كان مخالفًا لفتواهالثانية، فبدليلٍ خاصٍّ دالٍّ على أنّ الحكم نافذٌ مطلقًا، ولايُبطله حكمٌ آخرٌ- أيَّ حكمٍ كان- وإن علم أو قامت الحجّة على أنّ الحاكم أخطأ في حكمه، وهذا خارج عن محطّ الكلام [لأنّ محلّ البحث هو الفتوى ورأي المجتهد، وليس حكم الحاكم]٣.
والمحصّل ممّا ذكرنا: أنّه لا بدّ من ترتيب الأثر على الفتوى الثانية على الإطلاق؛ سواءًكان محطُّ اختلاف الفتويين نفسَ الفعل الصادر سابقًا، أم كان محطُّ اختلافهما في تأثير الفعل التامّ في حدّ نفسه، وعلى كِلا التقديرين، لا عبرة بالفتوى الأولى، وكذا لا
فرق بين العبادات والمعاملات، فلا بدّ من قضاء العبادات، كما أنّه لا بدّ من تجديد عقد المعاملات. هذا كلّه في الصورة الأولى.
ثانيًا: حكم الصورة الثالثة: رجوع المقلّد إلى المجتهد الثاني
الصورة الثالثة۱: إنّه إذا قلَّد مجتهدًا ثمّ مات أو عدل إلى مجتهدٍ آخر، فهل تصحّ عباداته ومعاملاته الواقعة على طبق فتوى المجتهد الأوّل إذا كانت فتوى المجتهد الثاني حكمًا إلزاميّا بخلاف الأوّل؟
أ: القول بالصحّة ودليله
قيل بالصحّة؛ وذلك لأنّ معنى التقليد هو جعل العامّي أعمالَه قلادةً على رقبة المجتهد، ومن المفروض أنّ الأعمال السابقة كانت عن تقليد المجتهد الأوّل، فإذن صارت الأعمال قِلادةً في رقبته، واستراح العامّي من تبعة هذه الأعمال عقابًا وإعادةً وقضاءً، وإنّما يرجع إلى المجتهد الثاني في الأعمال اللاحقة؛ فيريد أن يقلّدها في عنقه ويستند إليه في رفع المسؤوليّة وقيام الحجّة، فحجّيّة قول المجتهد الثاني إنّما تكون بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة دون غيرها.
مناقشته
وفيه أوّلًا: إنّ هذه الدعوى المبنيّة على هذا الوجه الذوقيّ ليست إلّا مجرّد استحسانٍ.
و ثانيًا: إنّ العامّي كما يُقلِّد المجتهد الثاني بالنسبة إلى الأعمال الوجوديّة، كذلك يُقلِّده بالنسبة إلى التروك؛ لأنّه وإن عمل بالتقليد سابقًا وأتى بتكاليف، إلّا أنّ ترك القضاء والإعادة وترك تجديد العقد الواقع سابقًا، يحتاج إلى التقليد أيضًا بعد رجوعه إلى المجتهد اللاحق. فكما أنّ العامّي يُقلِّد الأعمال اللاحقة الوجوديّة في رقبة
المجتهد الثاني، كذلك لا بدّ وأنيقلّد تروك قضاء العبادات السابقة على رقبته أيضًا، فإذا أفتى المجتهد الثاني بوجوب السورة وجلسة الاستراحة في الصلاة مطلقًا، فلا يمكن للعامّي أن يستند إلى فتواه في تروك قضاء ما أتى به سابقًا، بلا سورة وبلا جلسة الاستراحة، بل معنى إطلاق قوله بوجوب هذا هو فساد ما أتى سابقًا، ولازمه القضاء كما لايخفي.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّ الأعمال السابقة، وإنْ كانت صحيحة في ظرفها؛ لاستناد العامّي فيها إلى الحجّة، لكنْ لا بدّ من التكلُّم في أنّ هذه الحجّة بالإضافة إلى ترك القضاء والإعادة، هل ارتفعت بموت المجتهد الأوّل، أم أنّها باقية إلى الأبد بالنسبة إلى صحّة الأعمال الواقعة سابقًا؟ لكن لا مجال لدعوى بقائِها؛ لأنّ الحجّة الفعليّة- وهي فتوى المجتهد الثاني- واردةٌ على الحجّة السابقة بالنسبة إلى ما بعد الموت؛ وذلك لأنّ المفروض أنّه يجب على العامّي أن يرجع إلى المجتهد الثاني، والمفروض أنّ فتواه هو دخالة جلسة الاستراحة في الصلاة مطلقًا، وحيث إنّ العامّي لم يأتِ بها في الصلوات السابقة، فيجب عليه القضاء.
وبعبارةٍ ثالثة: إنّ في المقام أمورًا ثلاثةً؛ الأوّل: مدلول فتوى المجتهد الثاني؛ الثاني: حجّيّة فتواه؛ الثالث: الدليل الدالّ على حجّيتها. فالحجّيّة وإن تحقّقت بعد زمان المجتهد الأوّل، إلّا أنّ دليل الحجّيّة دلّ على حجّيّة فتواه بما له من المدلول [لا من حيث الزمان و المكان وسائر الشرائط الأخرى]۱، وحيث فرضنا إطلاق فتواه بمدخليّة جلسة الاستراحة في الصلاة، فدليل الحجّيّة يُعبِّدنا بلزوم الإتيان بالصلوات المأتيّ بها سابقًا بلا جلسة الاستراحة.
وهم ودفع
هذا، ولكن رُبّما يقال: إنّ القدر المتيقّن مِن أدلّة حجّيّة فتوى المجتهد، إنّما هو بالنسبة إلى الأعمال الآتية، وأمّا بالنسبة إلى الأعمال السابقة، فدليل الحجّيّة لا ينهض
بها. فمدلول فتوى المجتهد، وإن كان مطلقًا توسعًا بلزوم جلسة الاستراحة في جميع الصلوات، إلّا أنّ دليل حجّيّة هذه الفتوى لا يدلّ على أزيد من حجّيتها بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة؛ وذلك لأنّ قوله عليه السلام:
«فلِلعوامِّ أن يُقلِّدُوه»۱
، أو قوله عليه السلام:
«انظُرُوا إلى مَن كانَ مِنكُم قَد رَوَى حديثَنا»٢
، ونظائرهما، لا إطلاق لها في حجّيّة قول المفتي بالنسبة إلى الأعمال السابقة. وعلى فرض الشكّ في شمول الأدلّةبالنسبة إلى حجّيّة فتواه بالإضافة إلى الأعمال السابقة، فأصالة البراءة محكّمة، فلا يجب على العامّي القضاء والإعادة- كما ذهب إليها شيخنا الأُستاذ قدّس سرّه- أو استصحابُ حجّيّة فتوى المجتهد الأوّل بالإضافة إلى الأعمال السابقة إلى زمان المجتهد الثاني؛ كما ذهب إليه المحقّق العراقيّ.
ولا يخفى عليك أنّه لو وصلت النوبة إلى الشكّ، فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاستصحاب؛ لأنّ نفس الشكّ في الحجّيّة مساوقٌ للقطع بعدمها، ومع القطع بعدم حجّيّة فتوى المجتهد الثاني، نقطع بحجّيّة فتوى المجتهد الأوّل في هذا الزمان.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّا وإن نشكّ في بادي الأمر في حجّيّة فتوى المجتهد الثاني كما نشكّ في حجّيّة فتوى المجتهد الأوّل، ومقتضى الأصل: هو استصحاب حجّيّة فتوى المجتهد الأوّل، واستصحاب عدم حجّيّة فتوى المجتهد الثاني؛ إلّا أنّا قد فرّقنا في محلّه بين جريان استصحاب الحجّيّة فالتزمنا بجريانه بلا إشكال، وبين جريان استصحاب عدم الحجّيّة فالتزمنا بعدم جريانه؛ لأنّ الشكّ في الحجّيّة إذا كان مسبوقًا بعدم الحجّيّة مساوقٌ للقطع بعدمها، فعلى هذا لا مجال لاستصحاب عدم حجّيّة فتوى المجتهد الثاني؛ للقطع بعدم حجّيتها بمجرد الشكّ. فإذن هذا القطع ملازمٌ للقطع بحجّيّة فتوى المجتهد الأوّل، فلا مجال للاستصحاب فيها أيضًا.
اللهمّ إلّا أنْ يُقال: إنّ هذه الاستدلالات كلّها تنفع المجتهد دون العامّي؛ لأنّ وظيفة العامّي هي الرجوع إلى المجتهد الثاني، فإن أفتى هو ببطلان عباداته ومعاملاته السابقة، فلا بدّ وأن يقضيها، وإن أفتى بصحّتها، فلا يجب عليه شيء. نعم هذه الأبحاث ينفع المجتهد، فلا بدّ أن يلاحظ هو: أنّ وظيفة العامّي الراجع إليه بعد موت مجتهده الأوّل أيُّ شيءٍ هي؟ فإذا وصلت النوبة إلى الشكّ في حجّيّة فتواه بالإضافة إلى أعماله السابقة، لا مانع من جريان استصحاب حجّيّة فتوى المجتهد الأوّل؛ لأنّ الشكّ في حجّيّة فتوى نفسه بالإضافة إليه ليس مساوقًا للقطع بعدمها، وذلك لأنّ الشكّ في الحجّيّة إنّما يساوق القطع بعدمها إذا كان الشاكّ هو من كانت الحجّة حجّةً عليه، وأمّا إذا كان الشاكّ هو من كانت الحجّة حجّةً مترشّحة منه؛ كشكّ المفتي في حجّيّة فتواه بالإضافة إلى المقلّد فلا يساوق الشكُّ القطعَ بالعدم. وحينئذٍ يُجري استصحاب الحجّيّة لفتوى المجتهد الأوّل.
هذا كلّه في صورةالشكّ، ولكن لايخفى أنّه لا تصل النوبة إليه؛ للقطع بأنّ العامّي إذا لم يقلِّد أحدًا في برهةٍ من الزمان، أو قلّد ولم يعمل، فلا بدّ وأن يَقضي كلّ ما فات منه على حسب فتوى المجتهد الثاني. وهذا دليل على حجيّة فتوى المجتهد بالإضافة إلى ما قبل زمان الرجوع إليه أيضًا. ومن المعلوم أنّه لا فرق بين ترك العبادة رأساً، وبين الإتيان بها فاسدةً؛ فيجب عليه القضاء على كِلا التقديرين. والسرّ في ذلك: أنّ أدلّة الحجّيّة مطلّقةٌ بالإضافة إلى حجّيّة فتواه في الأعمال اللاحقة وفي الأعمال السابقة؛ كما يظهر لك عن قريبٍ في أدلّة التقليد، إن شاء الله تعالى.۱
ب: ميل صاحب العروة إلى تفصيل صاحب الفصول
هذا، واعلم أنّه ذهب في «العروة» إلى تفصيلٍ مشابهٍ لما فصّلهصاحب «الفصول»، قال في المسألة الثالثة والخمسين:
«إذا قلَّد من يكتفي بالمرّة- مثلًا- في التسبيحات الأربع واكتفى بها، أو قلَّد من يكتفي في التيمّم بضربةٍ واحدةٍ، ثمّ مات ذلك المجتهد، فقلّد من يقول بوجوب التعدّد، لايجب عليه إعادة الأعمال السابقة. وكذا لو أوقع عقدًا أو إيقاعًا بتقليد مجتهدٍ يحكم بالصّحة، ثمّ مات وقلَّد من يقول بالبطلان، يجوز له البناء على الصحّة. نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني.
وأمّا إذا قلَّد من يقول بطهارة شيءٍ كالغُسالة، ثمّ مات وقلَّد من يقول بنجاسته، فالصلوات والأعمال السابقة محكومةٌ بالصحّة، وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء، وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقيًا فلا يُحكم بعد ذلك بطهارته. وكذا في الحلّية والحرمة؛ فإذا أفتى المجتهدُ الأوّل بجواز الذبح بغير الحديد مثلًا، فذبح حيوانًا كذلك، فمات المجتهد وقلَّد مَن يقول بحرمته، فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع وإباحة الأكل، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجودًا، فلا يجوز بيعه ولا أكله؛ وهكذا»۱ انتهى.
مناقشة
لكن لا أدري ما الفرق بين الذبح بغير الحديد حيث ذهب إلى حرمة أكله وبيعه [بعد فتوى المجتهد الثاني]٢، وبين عقد النكاح بالفارسيّة ونحوه حيث ذهب إلى صحّته بقوله: «وكذا إذا أوقع عقدًا أو إيقاعًا ...- إلى آخره».
فإن كان الذهاب إلى الصِحّة لمكان وقوع فعلٍ خارجيّ مستند إلى التقليد- كما ذهب إليه صاحب «الفصول»٣- فقضية الذبح أيضًا كذلك؛ لأنّ الذبح بغير الحديد فعلٌ خارجيٌّ قد تحقّق بمقتضى التقليد ويُخالف فتوى المجتهد الثاني. وإن كان ذهابه
إلى حرمة الأكل وحرمة البيع في مسألة الذبح۱، لمكان وجود اللحم موردًا للابتلاء في الزمان اللاحق، وكان قدّس سرّه بصدد التفصيل بين الأعمال الماضية الخارجة عن مورد الابتلاء فعلًا، وبين الأعمال الماضية المورد الابتلاء فعلًا، ولم يكن مناطُ تفصيله تفصيلَ صاحب «الفصول»، فالنكاح بالفارسيّة أيضًا كذلك [أي هو مورد ابتلاء فعلي أيضًا]٢؛ لأنّ المرأة المعقودة عليها موجودةٌ فعلًا، فلا بدّ من الحكم بوجوب عقدها ثانيًا لحلّية الوطء.
وبالجملة، لم نفهم معنىً لهذا التفصيل كما نبّه عليه أيضًا الشيخ أحمد كاشف الغطاء في حاشيته٣.٤
ثمّ إنّ حُكمه بوجوب الاجتناب عن ماء الغسالة إذا كان باقيًا، مع حكمه بصحّة العقد الواقع على امرأةٍ محرَّمةٍ عليه على فتوى المجتهد الثاني، فأيضًا غير واضح؛ لأنّه على كِلا التقديرين، لم يقع فعلٌ خارجيٌّ مطابقٌ لفتوى المجتهد الأوّل مخالفٌ لفتوى المجتهد الثاني؛ لأنّ العقد على الفرض تامّ جامع للشرائط، وإنّما المورد غير قابل على فتوى المجتهد الثاني.
وبعبارة أُخرى: لا وجه للجمع بين هاتين الفتويَيْن على تفصيل صاحب «الفصول»، ولا وجه له- أيضًا- على التفصيل بين بقاء مورد الابتلاء وعدمه. والعجب من المُحقِّق البروجرديّ؛ حيث إنّه لم يكتب في حاشيته هذا الإشكال.
ج: ميل الشيخ النائيني إلى تفصيل صاحب الفصول بين العبادات والمعاملات
هذا، ثمّ إنّ شيخنا الأُستاذ قدّس سرّه وافَقَ صاحب «الفصول» في الفروع الثلاثة الأخيرة التي ذكرها، وهي: ما كان جامعه عدم وقوع فعلٍ خارجيٍّ مستندٍ إلى فتوى المجتهد الأوّل مخالفٍ لفتوى الثاني، لكن خالفه في الفروع الثلاثة الأُوَل وما شابهها، وهي: ما كان جامعه وقوع فعلٍ خارجيٍّ مستندٍ إلى فتواه، بتفصيلٍ ذكره؛ بين العبادات فذهب إلى الإجزاء فيها، وبين المعاملات فذهب إلى صحّتها وعدم ترتيب الأثر عليها إذا كانت مخالفةً لفتوى الثاني؛ حيث قال في حاشيته:
«ولو أدّى التقليدُ اللاحقُ إلى فساد عقدٍ، أو ايقاعٍ، وكذا نجاسة شيءٍ أو حرمته، أو عدم ملكيّة مالٍ ونحو ذلك، فمع فِعليّة الابتلاء بمورده يقوى لزوم رعايته»۱- انتهى.
والظاهر أنّ ذهابه قدّس سرّه في الإجزاء في العبادات لعلَّه لدعوى الإجماع على الإجزاءِ فيها، مضافًا إلى أنّ الظاهر من الشريعة السَمِحة السهلة عدم ارتضائه بتحميل المشاقّ الكثيرة على المكلّفين؛ بقضاء عباداتهم في مدّة أعمارهم مرّةً أو مرّات، مع عدم كونهم من المكابرين المتمردّين.٢
وأمّا في المعاملات، فلا يُدّعى الإجماع، ولا يستلزم البناء على فسادها هرجاً ومرجاً ولا اختلالًا في النظام؛ لأنّ موارد الاختلاف بين الفقهاء في المعاملات قليلة، وغالب شرائط الصِّحة في المعاملات متّفق عليها عندهم. فعلى هذا، لو أدّى تقليده الثاني إلى بطلان النكاح، لا تكون المرأة زوجته، وكان ما وطئ بها إلى الآن وطء
شبهة، ويحرم عليه وطؤها بعد ذلك؛ لأنّها أجنبيّة ولا يحتاج إلى الطلاق. لكن لا بدّ إذا أرادت أن تتزوّج بغير هذا الزوج أن تعتّد بعدّة وطئ الشبهة، لا عدّةالطلاق أو الموت، وإذا أرادت أن تتزوّج بزوجها هذا فلا تحتاج إلى العدّة أصلًا.
وكذا إن طلَّق زوجته بالفارسيّة، ثمّ قلَّد من يُفتي ببطلان الطلاق بها، كانت المرأة زوجته، فإن تزوّجت بشخص آخر كان التزويج باطلًا. ثمّ إنّ هذا الشخص الآخر إن كان يُقلِّد هذا المجتهد أيضًا، فيجب عليه البينونةُعن هذه المرأة وردّها إلى زوجها السابق۱. وإن كان يقلِّد من يُفتي بصحّة الطلاق بالفارسيّة، فإذاً يقع التنازع بين الزوجين؛ لأنّ كُلًا منهما يدّعي أنّ هذه المرأة زوجته، فيجب عليهما أن يرجعا إلى مفتٍ ثالث غيرهما، وهو يحكم على طبق رأيه؛ فإن كان رأيه بطلان الطلاق بالفارسيّة، يحكم بكون المرأة زوجةً للزوج الأوّل، وإن كان رأيه صحّة الطلاق بها، يحكم بكونها زوجةً للزوج الثاني.٢
د: تقوية الشيخ النائيني للقول بالإجزاء
ثمّ اعلم أنّ شيخنا الأُستاذ الذاهب إلى فساد العقود الواقعة سابقًا، صرح بأنّ ترتيب أثر الفساد إنّما يلزم على تقدير فعليّة الابتلاء بموردها، حيث قال:
«فمع فعليّة الابتلاء بمورده يقوى لزوم رعايته».
وقد صرح بمفهوم كلامه هذا في «وسيلته» حيث قال فيها:
«ولو لم يكن الابتلاء بعين مورد الفتوى فعليًا، ولكن كان له بمقتضى التقليد اللاحق آثارٌ فعليّة من جهة الضمان ونحوه فالمسألة لا تخلو عن الإشكال.
لكنّ الأقوى صحّة كلّ عملٍ ورد بمقتضى الفتوى السابقةعلى موردها عبادةً كانت أو معاملةً أو غيرَهما بلا ضمان عليه في شيءٍ من تصرفاته»۱- انتهى.
وكان حاصله أنّه لو لم يكن الابتلاء بعين مورد فتوى المجتهد الأوّل فعليًا؛ كما إذا تزوّجَ امرأةً بعقد فاسدٍ على رأي المجتهد الثاني لكن ماتت قبل تقليده له، فليس عليه شيء.
وأمّا إذا لم يكن الابتلاء فعليًا، ولكن كان للعين آثارٌ فعليّةٌ بمقتضى التقليد اللاحق من ضمان ونحوه؛ كما إذا اشترى خبزاً بعقدٍ فاسدٍ فأكله، ثمّ قلَّد مَن يقول بالفساد، فالمسألة لاتخلو عن الإشكال من حيث الضمان، ثمّ قوّى جانب عدم الضمان بما ذكره.
المناقشة في تقوية الإجزاء
ولعمري لم أفهم وجه الإشكال، ثمّ وجهَ تقويته قدّس سرّه عدمَ الضمان؛ لأنّ العقد لوكان فاسدًا يترتّب عليه جميع ما يترتّب على العقد الفاسد من ضمان ونحوه.۱
فعلى آكل الخبز أن يُؤدِّي قيمته إلى من أخذ منه إن كان موجودًا، وإلّا فإلى ورثته. هذا تمام الكلام في الصورة الثالثة.
ثالثًا: حكم الصورة الثانية وملحقاتها: وظيفة المقلّد بعد عدول المجتهد عن فتواه السابقة
ومنها يعلم الحال في الصورة الثانية، وهي: ما إذا قلَّد مجتهدًا ثمّ عدل هذا المجتهد عن رأيه، وما يلحقه بهذه الصورة من الفروع، وهي:
ما إذا مات مجتهده فلم يعلم بموته، إلّا بعد زمانٍ عملَ فيه على طبق فتواه المخالفة لفتوى المجتهد الفعليّ، وما إذا عدل المجتهد عن فتواه لكن لميصل إلى
المقلِّد إعلامُه بالعدول إلّا بعد مُضيِّ زمان، وما إذا فَسَق المجتهد أو كفر ولم يطّلع عليه المقلِّد إلّا بعد مُضيِّ زمانٍ. وحكم هذه الصورة يُعلم مِمَّا ذكرنا من حكم الصورتين الأُخريين؛ وهو عدم الإجزاء فيها أيضًا.
لأنّه إذا أعلم المجتهد بخطأ اجتهاده السابق، فقد أعلم بعدم إجزاء ما أتى به المقلِّد سابقًا، فحُكم المقلِّدِ- حينئذٍ- حكم نفس المجتهد، فكما يجب على المجتهد قضاء ما أتى به سابقًا، كذاك يجب على المقلِّد أيضًا، بل هذه الصورة أسوأُ حالًا من الصورةالثالثة التي تقدّم ذكرها؛ لأنّه في تلك الصورة لم يتبيّن خطأ رأي المجتهد الأوّل بنظره، بل تبيّن خطأه بنظر المجتهد الثاني، فإذا ناقشنا في الإجماع المدّعى في تلك الصورة، فالمناقشة فيه في هذه الصورة أوضح.
وأمّا حكم هذه الفروع الثلاثة الملحقة بهذه الصورة، فحالها أسوأُ من حال حكم أصل الصورة.
وذلك لأنّالمقلّد لميقلِّد أحدًا في زمان الطفرة، بل كانت أعماله بتخيّل وجود الفتوى الصحيحة من المجتهد؛ لأنّه بموت المجتهد أو بفسقه وكفره قد سقطت فتواه عن الحجّيّة، وصارت أعمال المقلِّد بتخيِّل قيام الحجّة [لا بقيامها الواقعي]۱؛ لعدم علمه بالموت أو بالفسق. فإذا كانت فتوى المجتهد الحيّ: «دخالةَ ما تركه المقلِّد في أعماله السابقة»، يجب عليه القضاء بلا إشكال.
والمتحصّل من مجموع ما ذكرناه هو: أنّ المناط حجّيّة فتوى المجتهد في حين النظر، لا فتوى المجتهد في حين العمل، بلا فرقٍ بين العبادات والمعاملات؛ لعدم قيام دليل معتدٍّ به على الإجزاء في العبادات، وإنّما استدلّوا على الإجزاء فيها؛ إمّا بالإجماع، وإمّا بقصور أدلّة حجّيّة فتوى المجتهد بالنسبة إلى الأعمال السابقة، وكِلاهما غير تامّ. أمّا الإجماع فغيرُ محصّلٍ، وأمّا القصور في الأدلّة بلادليل، بل الأدلّة في الحجّيّة مطلقة.
التفصيل في الإجزاء بحسب نوع الدليل
وهل يمكن الفرق بين الاستدلال بالإجماع وبين الاستدلال بقصور الأدلّة على فرض التسليم، أم لا يمكن الفرق بينهما في النتيجة؟
فنقول: أمّا إذا كان ما عمل مطابقًا لفتوى المجتهد حين العمل ومخالفًا لفتوى المجتهد حين النظر، فلا فرق بين التمسّك بالإجماع في الإجزاء أو التمسّك بقصور الأدلِّة؛ لأنّه على فرض الإجماع كان العمل السابق صحيحًا، وإن كان المناط هو فتوى المجتهد في حين النظر؛ لأنّ الإجماع مقدّمٌ على فتواه. وعلى فرض قصور حجّيّة فتواه بالنسبة إلى الأعمال السابقة، فالحجّة حينئذٍ متعيّنةٌ في فتوى المجتهد السابق؛ سواء كان هناك إجماع في البين أم لميكن. وعلى هذا لا فرق بين التمسّك بالإجماع أو بقصور الأدلّة؛ لأنّه على كِلا التقديرين كانت الأعمال السابقة الموافقة لفتوى المجتهد في حين العمل صحيحةً. وأمّا إذا كانت الأعمال السابقة موافقةً لفتوى المجتهد حين النظر، ومخالفةً لفتوى المجتهد حين العمل؛ بأن يُفرض إتيانها غافلًا أو جاهلًا قاصرًا مع تمشّي قصد القربة منه، فيمكن الفرق بين التمسّك بالإجماع وبين التمسّك بقصور الأدلّة؛ فإذا تمسّكنا في عدم حجّيّة فتوى المجتهد الفعلي بقصور أدلّة الحجّيّة، فإذن لا يمكن القول بصحّة الأعمال السابقة، وإن كانت موافقةً لفتوى المجتهد الفعليّ على الفرض؛ لأنّ فتوى المجتهد الفعليّ لم تكن حجّة بالنسبة إلى الأعمال السابقة، والمفروض أنّ أعماله لم تكن مطابقةً لفتوى المجتهد السابق، فعلى هذا لا بدّ من قضاءعباداته على طبق فتوى المجتهد السّابق. وأمّا إذا تمسّكنا بالإجماع، فيمكن القول بجريانه في المقام؛ لأنّ الظاهر أنّ الإجماع انعقد لأجل الامتنان ودفع العسر والحرج، فلمّا كانت الأعمال السابقة موافقةً لفتوى المجتهد الفعلي، فالإجماع دلّ على عدم لزوم قضائها.
هذا، ولكن يمكن أن يُقال: إنّ الإجماع متحقِّقٌ في ما إذا كانت الأعمال السابقة
مستندةً إلى الفتوى، وأمّا في هذه الصورة؛ لمّا لم تكن مستندةً إليها فلا إجماع على الصحّة، ولا بدّ من القضاء أيضًا.
ولمكان عدم تحقّق الإجماع في هذه الصورة (التي لم تكن الأعمال مستندةً [فيها] إلى فتوى المجتهد السابق مع احتمال قصور حجّيّة فتوى المجتهد الفعليّ للأعمال السابقة)؛ احتاط في «العروة» حيث قال في المسألة السادسة عشرة:
« [عمل الجاهل المقصر الملتفت باطلٌ وإن كان مطابقًا للواقع] وأمّا الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلًا حين العمل وحصل منه قصد القربة؛ فإن كان مطابقًا لفتوى المجتهد الذي قلَّده بعد ذلك كان صحيحًا، والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل»۱- انتهى.
لأنّه بعد فرض احتمال قصور أدلَّة الحجّيّة لفتوى المجتهد الفعليّ بالنسبة إلى الأعمال السابقة، مع فرض عدم الإجماع في هذه الصورة التي لمتكن الأعمال مستندةً إلى فتوى المجتهد السابق، لا بدّ من موافقة العمل لكِلتا الفتوتين؛ حتّى يقطع بالصحّة، وإلّا فلا يقطع بالصحّة، وهذا واضح.٢
هذا تمام الكلام في مسألة الاجتهاد.
القِسْمُ الثَانِي: مَبَاحِثُ التَقْلِيْدِ
الفصل الأوّل: تعريف التقليد
الفصل الثاني: الكلام في وجوب التقليد وعدمه
الفصل الثالث: تقليد الأعلم
الفصل الرابع: تقليد الميّت ابتداءً وبقاءً
الفصل الخامس: الأمور التي يجب فيها التقليد
الفصل الأوّل: تعريف التقليد
تعريفاته لغةً واصطلاحًا
وهو لغةً جعل الشيء قِلادةً على الرقبة ومِنه تقليد الهَدي، واصطلاحًا جعل العامّي أعماله واعتقاداته قِلادةً على عُنقِ المُفتي بحيث يخرج عن المسؤوليّة ويتحمّلها الفقيه؛ لمكان فتواه بصحّة هذه الأعمال والاعتقادات.
قال في «المجمع»:
«و قَلَّدْتُهُ قِلَادَةً: جعَلتُها في عُنقِه. وَفِي حَدِيثِ الْخِلَافَةِ «فَقَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلِيّا». أي: ألزَمَه بها، أي: جَعَلها في رَقَبتِه و ولّاه أمْرَها». إلى أن قال: «و التَّقْلِيد في اصطلاح أهل العلم: قَبُول قولِ الغَير مِن غَير دَليلٍ. سُمِّي بذلك لأنَ المُقَلِّدَ يجعلُ ما يعتقدُه مِن قولِ الغير من حقٍّ وباطلٍ قلادةً في عُنقِ مَن قَلَّده»۱.
وقال في الكفاية:
«وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات، أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّدًا بلا مطالبة دليلٍ على رأيه»٢.
مناقشة تعريف مجمع البحرين
ولايخفى عليك أن مجرّد قبول قول الغير من غير دليلٍ، أو أخذ قوله ورأيه للعمل ليس تقليدًا، بل هذه الأُمور لازمةٌ للتّقليد، وإلّا فنفس التقليد كما ذكرنا هو: جعل ما يجب على العامّي من عمل في الفرعيّات ومن اعتقاد في الاعتقاديّات على رقبة المُفتي، ولا يحصل هذا إلّا بأخذ قوله ورأيه، لا أنّ نفس الأخذ هو التقليد، لكن كثيرًاما يشتبه على اللغويِّين اللوازم بالملزومات ويفسّرون اللفظ بالمعنى اللازم، والمقامُ أحد مقامات اشتباههم.
أقوال أخرى ومناقشتها
ثمّ إنّ بعضهم فَسّروا التقليد بأنّه عبارةٌ عن: «جَعل المقلِّد فتاوى المُجتهِد على رقَبةِ نفسه»۱، ولا يخفى ما فيه من الغلط؛ لأنّ «التَقْلِيْد» من باب «التَفْعِيْل» يتعدّى بمفعولين، تقول: قَلَّدتُهُ السيف فَتَقَلَّدَ بِهِ، وهذا بخلاف «التَّقَلُّد» من باب «التَّفَعُّل»؛ لأنّ الفاعل في [التَّقَلُّد] هو المفعول الأوّل من باب «التَّقْلِيْد».
وبالجملة، إنّ المُقلّد يجعل أعماله على رقبة المُفتي، فلو كان معنى «التقليد» هو أخذ فتاوى المجتهد وجعلها على رقبة نفسه، يكون العامّي- حينئذٍ- مُتَقَلِّدًا لا مُقَلِّدًا.
ورُبَّما قال بعضٌ:
إنّ قولنا «تقليد المجتهد» مجازٌ في الحذف، وكان أصله: «تقليدُ العامِّي فتاوى المُجتهِد على رَقبَةِنفسه»، فإذن يكون المقلّد هو العامّي والمُتقلِّد هو نفسه أيضًا، وأمّا الأمر الذي قلّد فيه فهي فتاوى المجتهد لا أعمال نفسه.
لكن لا يخفى ما فيه من البعد.
ورُبَّما قال بعضٌ:
إنّ التقليد عبارةٌ عن الالتزام بقول المجتهد وتوطين النفس على العمل على ما أفتى به.۱
وفيه: أنّه خلط بين البيعة والتقليد؛ لأنّ البيعة هي هذا المعنى، وأمّا التقليد فقد عرفت أنّه عبارةٌ عن جعل القلادة في العنق. ورُبَّما يُوسّع منطقته في الاستعمال فيستعمل: «قلّده السيف»؛ لأنّ السيف ليس قلادةً، ولا يُجعل على الرقبة أيضًا، بل يُجعل على الحمالة، لكن تشبيهاً للسيف بالقلادة والحمالة بالجعل على الرقبة، فيصحّ هذا الاستعمال. ورُبَّما يُوسّع منطقة استعماله أزيدَ من هذا المقدار أيضًا؛ فيستعمل التقليد في الأُمور الغير المحسوسة تشبيهًا لها بالمحسوسة، فيقال: قَلَّده الوزارة، وقَلَّده الخلافة، ومنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قَلَّدَهَا عَلِيّا، والمقام من هذا القبيل؛ لأنّ العامّي يجعل أعماله على رقبة المُفتي، والأعمال ليست بأُمور محسوسةٍ؛ لأنَّ المجعول في رقبته وِزرُها ومسؤوليّتُها.
وبالجملة، إنّ ما ذكرناه هو معنى التقليد، وقد عرفتَ أنّه في الاعتقاديّات عبارةٌ عن نفس الاعتقاد، وفي الأعمال عبارة عن نفس العمل، والتعابير الأخرى بقولهم: «إنّه عبارة عن الأخذ وقبول قول الغير وتوطين النفس» وغيره، إمّا غلطٌ، وإمّا تعبيرٌ بلوازم التقليد لا نفسه.٢
والمحصّل ممّا ذكرنا؛ هو أنّ التقليد۱) عبارةٌ عن العمل مستندًا إلى فتوى الفقيه، وهذا الاستناد هو حجّةُ العامِّي على المولى في مقام الاحتجاج، وبه يجعل أعماله على رقبة المُفتي.
وقفةٌ مفصّلةٌ مع صاحب الكفاية
هذا، ولكنّ صاحب «الكفاية» قدّس سرّه ذهب إلى أنّ التقليد عبارةٌ عن: مجرّد أخذ فتوى الفقيه، واستحال كونه عبارةً عن نفس العمل، حيث قال:
«ولا يخفى أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل، ضرورة سبقه عليه، وإلّا كان بلا تقليد، فافهم»۱.
ولا يخفى عليك ما ذهب إليه قدّس سرّه؛ لأنّ إن كان مراده قدّس سرّه: هو لزوم العمل عن تقليد، فيجب سبق التقليد عن العمل، فلو كان العمل هو التقليد يلزم كون الشيء في رتبتين، فلا يخفى أن التقليد وإن كان شرطًا للعمل ولكن لا يجب تقدُّم سبق الشرط على المشروط، بل لا بدّ من الإتيان بالمشروط مع الشرط.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّ حال التقليد بالنسبة إلى العمل، كحال الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة، ومن المعلوم أنّه لا يجب، بل لا معنى لتقدّم الاستقبال في الصلاة، بل لا بدّ من الإتيان بالصلاة إلى جهة القبلة، وفي المقام: لا بدّ من العمل على كيفيّة التقليد وعلى جهته لا أن يُقدِّم التقليد على العمل، فلا معنى لسبق التقليد عن العمل، فضلًا عن كون السبق ضروريًا.
وإن كان مراده أنّ المشروط متوقّفٌ على الشرط توقّفًا طبيعيّا ورتبيّا، فلو تقدّم الشرط على المشروط يلزم الدور، وفي المقام إنّ العمل متوقّفٌ على التقليد؛ لأنّ التقليد شرط العمل، ولو توقّف حصول عنوان التقليد على العمل لزم الدور.
فالجواب: إنّ حصول عنوان التقليد وإن كان متوقّفًا على العمل؛ ضرورة أنّ العمل الخاصّ- وهو العمل مع الاستناد- عبارةٌ عن التقليد، لكنّ نفس العمل لا يتوقّف على التقليد، بل المتوقّف عليه هو صحّته، فالموقوف غير موقوفٍ عليه، فلا دور.
الفصل الثاني: الكلام في وجوب التقليد وعدمه
المبحث الأوّل: دراسة وجوب التقليد من حيث الأدلّة الشرعيّة
أوّلًا: عدم ورود عنوان التقليد موضوعًا لحكم في الشريعة
هذا، لكن لا يخفى عليك أنّه لم يَردْ دليلٌ شرعيٌّ على أنّ عمل العامِّي لا بدّ وأن يكون عن تقليد من المُفتي؛ لأنّ لفظ التقليد لم يرد في مقام حجّيّة عمل العامّي، ولا في حجّيّة قول المجتهد.
ولا يكون موضوعًا لحكم شرعيّ آخر؛ مثل البقاء على تقليد الميت، والعدول عن تقليد المجتهد؛ لأنّ البقاء أو العدول ليسا أحكامًا مستفادةً من الأدلّة اللفظيّة، بل لا بدّ من تعيين حكم البقاء والعدول بالنظر إلى عمومات أدلّة حجّيّة قول المفتي. فإذن تسقط هذه النقوض والإيرادات على معنى التقليد رأسًا؛ لأنّها من قبيل حَلْقُ رأسٍ ليس له صاحب.
وبالجملة، إنّه لمّا لم يدلَّ دليلٌ على أنّ العمل لا بدّ وأن يقع على وجه التقليد، وعنوان التقليد ليس موضوعًا لحكم في الشريعة، فإذن جميع هذه الأبحاث تطويلٌ لاطائل تحته.
هذا، مضافًا إلى أنّ المجتهد لايتحمّل مسؤوليّة عمل العامِّي لو كان في اجتهاده معذورًا؛ لأنّ الشارع أمر العامّي باتّباع المجتهد، فالمتحمِّل للمسؤولية هو الشارع لا المجتهد، فلا معنى لأن يقلِّد العامِّي أعماله على عاتق المُفتي؛ لأنّ الشارع أوجب عليه الرجوع إليه.
ثانيًا: عدم دلالة الشرع على وجوب التقليد وإفادته حجيّة قول المفتي
وبالجملة، لم تساعد الأدّلة إلّا على أنّ قول المفتي حجّةٌ على المقلِّد، والعمل المطابق لهذه الحجّة صحيحٌ؛ سواءً استند العامّي في عمله إلى قول المجتهد أم لم يستند، وسواءًالتزم بقبول قوله أم لم يلتزم، وسواءً وَطَّن نفسه على العمل بفتاواه أم لم يُوطِّن، فإذا عمل العامّي عملًا مطابقًا لرأي المفتي، كان هذا العمل صحيحًا، ولم يكلِّفنا الشارع بأزيدَ من هذا.
وبعبارةٍ أخرى، نقول: إنّه بعد عدم وجوب الاحتياط للعامّي؛ إمّا للإجماع المدّعى من شيخنا الأنصاريّ۱، وإمّا لعدم تمشّي قصد الوجه ولزوم التكرار في بعض العبادات، أو عدم جوازه له؛ لأنّ العمل بالاحتياط في جميع المسائل لا يوصل العامِّي إلى الإتيان بالتكاليف الواقعيّة؛ إذ الاحتياط لا يتحقّق إلّا مع احتمال وجود تكليفٍ واقعيٍّ، وأمّا العامّي الذّي ليس له هذا الاحتمال في كثيرٍ من الموارد، فكيف يُعقل في حقِّه الاحتياط بالإضافة إلى جميع الأحكام؟! وبالجملة، بعد عدم وجوب
الاحتياط أو عدم جوازه، تتعيّن وظيفة العامّي في أنيُرجع إلى المُفتي، أو يجوز له الرجوع إليه، فيسأل عن وظيفته، ثمّ يُجيب المفتي بأنّ وظيفته كذا، فإذن يعلم المقلّد بالوظيفة، ثمّ يعمل على طبق ما علم، فإذا عمل كان عمله صحيحًا؛ لأنّ الشارع جعل فتوى المجتهد حجّةً عليه في هذه الحال. وعلى هذا، صرف مطابقة العمل للحجّة كافٍ في الصّحة، ولم يدلّ دليلٌ على وجوب رجوع العامّي إلى المجتهد أزيدَ من هذا، وأنتَ خبيرٌ بأنّ واحدًا من هذه الأُمور الأربعة (أي: سؤال المفتي، وجوابه، وعلم العامّي، وعمله) ليس تقليدًا، أمّا الثلاثةالأُوَل فواضحٌ، وأمّا الأخير؛ فلأنّ مجرّد العمل ليس تقليدًا، بل التقليد- كما عرفتَ- هو الإتيان بالعمل جاعلًا ثِقله على عنق المُفتي، ولا يجب هذا المعنى على العامّي، وإنّما الواجب عليه نفس العمل.
ضعف سند حديث الاحتجاج «فللعوام أن يقلّدوه»
والمحصّل مما ذكرناه كلّه: إنّه بعد عدم ورود لفظ التقليد في مقام الحجيّة، أو في كونه موضوعًا لحكم من الأحكام، مع ضعف سند ما في الاحتجاج من قوله عليه السلام: «فللعوام أن يقلّدوه»، إنّا نستريح من لزوم تحقّق هذا العنوان، بل الواجب علينا النظر إلى أدلّة حجّيّة قول المُفتي، وهذا لا ربط له بعنوان التقليد أصلًا.۱
المبحث الثاني: دراسة وجوب التقليد من حيث الأدلّة غير الشرعيّة
أوّلًا: رأي صاحب الكفاية: التقليد جائزٌ بحكم الفطرة
قال صاحب «الكفاية» قدّس سرّه:
«ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة، يكون بديهيّاجِبليّا فِطريّا لا يحتاج إلى دليل، وإلّا لزم سدّ باب العلم به على العامّي مطلقًا غالبًا؛ لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتابًا وسنةً ولايجوز التقليد فيه أيضًا، وإلّا لدار أو تسلسل»۱.
وحاصله، أنّ رجوع الجاهل إلى العالم من الأُمور الفطريّة الكائنة في طبع الإنسان، بل في طبع الحيوان بما هو حيوان، ولذلك ترى تقليد الوحوش والأغنام وبعض الحشرات من أعلمهم وأقواهم في العَدْو والفرار والعمل النوعي.
ومراده من البديهيّ والجِبلّي الفطري أمرٌ واحدٌ، ولا وجه للإشكال عليه بأنّ هذه الأُمور متفاوتةٌ متغايرةٌ ولا يصحُّ أن يكون مستند التقليد جميع هذه.٢ ثمّ استدلّ بأنّه لو كان نفس وجوب التقليد تقليديّا لزم الدور أو التسلسل.
أ: بيان لإمكان التسلسل في المعلولات
اعلم أنّ المقام بعينه نظير مقام وجوب الإطاعة، حيث ذكروا في ذلك المقام
أنّ وجوبه عقليٌّ لا شرعيٌّ وإلّا لدار أو تسلسل؛ لأنّ كلّ وجوبِ إطاعةٍ يحتاج إلى جعل وجوبِ إطاعةٍ أخرى لهذا الوجوب، والمراد من الوجوب: هو الوجوب الذي يحكم به العقل بالفطرة، لا أنّه يحكم به لِمكان كشفه عن الوجوب الشرعي. ثمّ إنّ التسلسل تارةً يتحقّق في سلسلة العِلل، وأخرى في سلسلة المعلولات، أمّا في سلسلة العِلل فقد ذُكر في «الشمسية»:
«إنّ استحالته متوقّف على حدوث العالم، وأمّا على فرض قِدم العالم فلا يستحيل التسلسل في العِلل؛ لإمكان تحقّق عِللٍ غير متناهيةٍ في أزمنةٍغير متناهية»۱.
والظاهر أنّ التسلسل في مرحلة العِلل مستحيلٌ وإن بنينا على قِدم العالم؛ وذلك لأنّ فرض وجود أوّل المعلولات مساوقٌ لفرض وجود عِلّته، وفرض وجود عِلّته مساوقٌ لفرض وجود عِلّة عِلَّته، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فما دام لم تتحقّق علّةالعِلل لم يُعقل أن يتحقّق آخر المعلولات، وحيث لا نهاية لوجود علّة العِلل ولا ينتهي التوقّف إلى حدٍّ ثابتٍ لم يحصل في الخارج ما يترتّب عليه من المعلولات المتكثّرة؛ فإذن يكون حصول أوّل المعلولات مستحيلًا في الخارج.
وأمّا التسلسل في ناحية المعلولات فغير مستحيلٍ؛ لأنّ العلّة الأولى موجودةٌ بالفرض، وبترتّب معلولاتٍ طوليّةٍ غير متناهيةٍ عليها في الوجود لا مانع منه؛ لأنّ أصل ما يتوقّف عليه الوجود- وهو علّة العِلل- متحقّق على الفرض. نعم لازم التسلسل في ناحية المعلولات هو أبديّة العالم وسرمديّته؛ لأنّا لو فرضنا انتهاء العالم إلى حدٍّ [معيّن]، فستنتهي المعلولات إلى حدٍّ [معيّنٍ] أيضًا، ولن يلزم التسّلسل، وفي فرض التسلسل لا مانع من سرمديّة العالم، كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى: إنّ الفرق بين العِلل والمعلولات: هو أنّه في مراتب العِلل
حيث [إنّ] وجود أدنى المعلولات يتوقّف على أعلى العِلل، ولا ينتهي أعلى العِلل إلى حدّ، فلا يمكن تحقّق أدنى المعلولات في الخارج؛ وأمّا في مراتب المعلولات، حيث إنّ أصل وجود عِلّة العِلل مفروضٌ في الخارج، فيترتّب عليها وُجودات غير متناهية في الخارج، كما لا يخفى.
ب: وجوب التقليد شرعيّ وطريق الوصول إليه عقلي
إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنّه في باب الإطاعة إذا قُلنا بالوجوب، [فإنّه] وإن [كان] يلزم التسلسل، لكنّ التسلسل يقع في مرحلة المعلولات؛ لأنّ أصل الوجوب الوارد على التعلّق من صلاة أو صوم ونحوه موجودٌ على الفرض ويترتّب عليه حكمٌ آخر معلولٌ له بوجوب الإطاعة، ثمّ هذه الإطاعة لمّا كانت من الأفعال، [فهي] تحتاج إلى بعثٍ وهو وجوبٌ آخر وهكذا؛ فإذن يترتّب على الوجوب الأوّل الموجود بالفرض الوارد على متعلّقه وجوبات غير متناهية بتعداد الإطاعات الغير المتناهية، ولا يستلزم محذورًا بعد ما عرفت من إمكان التسلسل في مرحلة المعلولات.
فإذا فرضنا أنّ المقام- وهو احتياج التقليد إلى الوجوب الشرعي- نظيرُ باب الإطاعة، فلا محذور في التسلسل.۱
وأيضًا الظاهر أنّه ليس مراد صاحب الكفاية قدّس سرّه في قوله: «إنّ وجوب
التقليد فطريٌّ»۱ أنّه فطريٌّ عقليٌّ لا يمكن أن يحصل بجعلٍ شرعيٍّ، كما أنّه في باب الإطاعة كذلك؛ وذلك لأنّ ذيل كلامه وهو قوله: «وإلّا لزم سدُّ باب العلم به على العامّي [مطلقًا] لعجزه عن معرفة ما دلّ على وجوب التقليد [عليه] كتابًا و سنةً». يُعطي بأنّ وجوبه شرعيٌّ واردٌ في الكتاب والسنّة، لكن لا طريق للعامّي إلى كشف هذا الحكم الشرعيّ إلّا بفطرته وجِبلَّته؛ فإذن ليس وجوب التقليد كوجوب الإطاعة من الأحكام الفطريّة العقليّة التي لا مدخل للشرع فيها، بل وجوبه شرعيٌّ، غاية الأمر أنّ المجتهد يعرفه بالنظر إلى الكتاب والسنّة.
و [أمّا] العامّي، فحيث إنّه عاجزٌ عن معرفته بهذا الطريق؛ [لذا فإنّه] يعرفه بطريق فِطرته، فالفطرة كاشفةٌ عن الحكم الشرعيّ؛ لوضوح أنّه لو لم يكن الطريق منحصرًا بالفطرة للزم التسلسل؛ لأنّ وجوب التقليد لو كان تقليديًا فنفس هذه المسألة تحتاج إلى التقليد، ثمّ إنّ نفس التقليد في مسألة «وجوب التقليد» أيضًا تحتاج إلى تقليدٍ آخر فيتسلسل. ولا يخفى أنّ هذا التسلسل في سلسلة العِلل؛ لأنّ جواز أصل التقليد يتوقّف على تقليدٍ آخر، وهو أيضًا على تقليد ثالث، فلاينتهي الكلام إلى علّةٍ موجودةٍ على الفرض، فيكون باطلًا؛ وهذا بخلاف مسألة وجوب الإطاعة؛ لأنّ أصل الوجوب المتعلّق على الفعل موجودٌ على الفرض، فيقع التسلسل في سلسلة المعلولات.
ج: الأدلة الشرعيّة على وجوب التقليد منبّهةٌ للعقل
وبما ذكرنا تعرف أنّ جميع الأدلّة الواردة من الشرع على جواز التقليد أو وجوبه لا تنفع المجتهد ولا المقلِّد؛ أمّا المجتهد فهو وإن [كان] ينظر في هذه الأدلة فيستنبط وجوب التقليد أو جوازه، لكن لا ينتفع بهذا الاستنباط بالنسبة إليه لكونه مجتهدًا، ولا بالنسبة إلى مقلّديه؛ لِما ذكرنا أنّ أصل مسألة وجوب التقليد ليس تقليديًّا. وأمّا للعامّي
فلعدَم تمكّنه من النظر في هذه الأدلّة، بل طريقه لكشف هذا الحكم إنّما يكون من طريق الباطن؛ وهو اقتضاءفطرته وجِبلّته، نعم تنفع هذه الأدلة بالنسبة إلى خصوص من تمكّن من الاجتهاد في هذه المسألة دون غيرها، بناءً على جواز التجزّي في الاجتهاد، لكن عرفت فساده.
إن قلتَ: فما فائدة هذه الأدلّةالشرعيّة الدالّةعلى وجوب التقليد؟ قلنا: هذه ليست أدلّةً لوجوب التقليد، بل تذكارًا للفطرة والجِبلّة؛ ولذا ذكروا في المنطق أنّه لا يمكن الاستدلال على البديهيّات والضروريّات، بل يذكر ما هو مُنَّبِهٌ ومذكرٌ لهذه الأمور.
والمحصّل ممّا ذكرنا، أنّ ما ذكره صاحب «الكفاية» مِن كون الفطرة والجِبلّة كاشفةً عن وجوب التقليد وإلّا لزم التسلسل، أمرٌ متينٌ لا مدفع له۱.
ثانيًا: رأي الشيخ الحلّي: التقليد واجب بحكم العقل
أ: تحيّر العاميّ وانحصار طريق العلم بالتقليد
ثمّ إن شئتَ تَبيُّن الحال على وجهٍ ترتفع به الشبهات وينكشف به المرام من بين السحائب والظّلام، فاعلم أنّ العامّي الجاهل بالحكم الواقعي- كوجوب الأذان والإقامة- مع علمه الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة التي لا بدّ من التخلّص منها، يتحيّر في سلوك الطريق الموصل لهذا الحكم الواقعي: بين أن يسلك طريق الاجتهاد، وبين أن يسلك طريق التقليد برجوعه إلى مَن يعلم، وبين الاحتياط؛ لكنّ جواز سلوك كلّ واحدٍ من هذه الطرق الثلاثة مختَلفٌ فيه، فإذن لايقطع بتعيّن أحدٍ مِن هذه الطرق.
أمّا سبيل الاجتهاد، فقد أنكره العامّة، فذهبوا إلى لزوم التقليد من أحد أئمّتهم الأربعة، وذهب بعضٌ إلى وجوبه- كبعض الأخباريّين- مع إنكارهم الاحتياط أيضًا، وذهب ثالثٌ إلى جوازه بالمعنى الأخصّ- كالمشهور- وجعلوه إحدى الطرق الموصلة إلى الواقع.
وأمّا سبيل التقليد، فقد أوجبه بعض كبعض العامّة، وقد حرّمه بعض كالأخباريّين، وقد أباحه ثالثٌ كالمشهور من علمائنا رضوان الله عليهم.
وأمّا سبيل الاحتياط فقد حرّمه بعضٌ لمكان عدم إمكان قصد الوجه والتمييز ولزوم التكرار ونحوه، وقد جوّزه آخر وهو من لا يرى اشتراط هذه الأُمور في العبادة.
هذا مضافًا إلى أنّ العامّي ولو لم يطّلع بموارد الخلاف في هذه السُبل، لكنّه في بادي النظر يحتمل في نفسه وجوب السلوك إلى أحد هذه الطرق يقينًا، كما يحتمل حرمة السلوك إلى واحدٍ منها، ويحتمل جواز السلوك بكلّ منها، فإذن ينسدّ عليه باب الوصول إلى الحكم الواقعي كالأذان؛ لاحتماله المنع من سلوك كلّ واحدٍ من هذه الطرق الثّلاث (الاجتهاد والتقليد والاحتياط)، لكنّه لمّا رأى أنّ نفس الاجتهاد في الحكم الواقعي [يمثّلُ] فعلًا من الأفعال التي جُعِل لها حُكمٌ في الشريعة أيضًا، فيرى
أن السُبل المتصوّرة للوصول إلى هذا الحكم ثلاثة أيضًا:
الأوّل: الاجتهاد في مسألة جواز الاجتهاد في الحكم الواقعيّ الأوّليّ وعدمه.
الثاني: التقليد، وهو بأن يرجع إلى الغير في أنّ الاجتهاد في الحكم الواقعي جايز أم لا؟
الثالث: الاحتياط وهو أن يحتاط في هذه المسألة.
وهكذا، فالتقليد في الحكم الواقعي [يمثّل] فعلًا من الأفعال لا بدّ من الاطّلاع على حكمه أيضًا، فإذن يرى أن السبلّ المتصوّرة للوصول إلى حكمه منحصرةٌ في الاجتهاد والتقليد والاحتياط. وكذلك الاحتياط في الحكم الواقعي فعلٌ من الأفعال لا بدّ من أن يطّلع على حكمه بالجواز أو الحرمة بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط. فإذن تصير السّبل في كلّ واحدٍ من السبل الموصلة إلى الحكم الواقعي ثلاثةٌ أيضًا؛ لأنّ السبل إلى الوصول إلى الحكم الواقعيّ منحصرةٌ في الثلاثة: الاجتهاد والتقليد والاحتياط، وكذلك السبل إلى الوصول إلى كلّ واحدٍ من هذه السبل ثلاثةٌ أيضًا؛ لأنّه لا بدّ وأن يطّلع على حكم كلّ واحدٍ من الاجتهاد والتقليد والاحتياط بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط.
لكنّك تعرف بالتأمّل أنّ بعض هذه السّبل الثلاثة في هذا المقام غير معقولٍ: أمّا أحدها فالاحتياط، فإنّه غير معقول بالنسبة إلى كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة؛ لأنّ الاحتياط في الاجتهاد ممّا لا معنى له؛ وذلك لأنّ معنى الاحتياط هو الإتيان بالفعل على وجه يقطع بأنّه يُدرك به الواقع، فالاجتهاد الذي يكون حُكمه مشكوكًا فيه، ودائرًا بين الوجوب والحرمة والجواز، فالاحتياط فيه معناه: أن يجتهد وأن لا يجتهد! وهو كما ترى. وهكذا الاحتياط في التقليد ممّا لا معنى له؛ لأنّ حقيقته هو الإتيان بالتقليد وعدمه، وهكذا الأمر في الاحتياط في الاحتياط؛ فإذا خرج الاحتياط من الطرق الموصلة إلى الاجتهاد والتقليد والاحتياط، تكون السّبل حينئذٍ ثنائيةً.
ثمّ إنّك تعرف بالتأمّل أيضًا أنّ الاجتهاد في الاجتهاد ممّا لا معنى له؛ لأنّك إذا شككت في أصل جواز الاجتهاد في الحكم الواقعي واحتملت حرمته، فلا تتمكّن من الوصول إلى حكم نفس هذا الاجتهاد بالاجتهاد أيضًا؛ لأنّ المشكوك هو جواز طبيعة الاجتهاد، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لايجوز واحدٌ؛ فينحصر سبيل الوصول إلى حكم الاجتهاد بالتقليد.
وتعرف أيضًا أنّ التقليد في التقليد ممّا لا معنى له؛ لأنّك إذا شككت في أصل جواز التقليد في الحكم واحتملت حرمته، فلا تتمكّن من الوصول إلى حكمه بالتقليد الذي هو أيضًا مشكوكٌ في جوازه؛ لأنّ المشكوك هو جواز طبيعة التقليد، لا بعض الأفراد منه.
وأمّا الاحتياط، فلا يمكن استفادة حكمه من الاحتياط أيضًا كما عرفت، لكن لا مانع من التقليد فيه أو الاجتهاد، فعلى هذا تعرف أن السّبل الثلاث المحتملة في بادي النظر انقلبت إلى سبيلين في النظر الثاني، وانقلب اثنان منهما إلى سبيلٍ واحدٍ، وبقي واحدٌ منها إلى السبيلين بالنظر الثالث.
فالمحصّل ممّا ذكرنا، أنّ الطريق في درك حكم الاجتهاد في الأحكام الواقعيّة منحصرٌ بالتقليد، والطريق في درك حكم التقليد فيها ينحصر بالاجتهاد، والطريق في درك حكم الاحتياط فيها منحصرٌ بالاجتهاد والتقليد.
هذا، ولكنّ المجتهد في الأحكام الواقعية، لمّا لا يمكن له التقليد- أيضًا- في نفس جواز اجتهاده وعدم جوازه، فلا بدّ وأنيحصّل القطع بالجواز.
وأمّا المقلِّد العامّي، لمّا [كان] لا يتمكّن من الاجتهاد في نفس جواز تقليده في الأحكام الواقعية- وقد عرفت عدم معقوليّة الاحتياط في هذه المسألة- [فإنّه] بعد انسداد هذين البابين تنحصر وظيفته بالتقليد بحكم العقل؛ لأنّ التقليد في مسألة جواز التقليد وإن كان غير صحيحٍ كما عرفت، لكنّ هذا إذا لمينسدّ بابٌ آخر لمعرفة
حكم التقليد، وأمّا مع انسداد ساير الأبواب مع فرض التكاليف الواقعية، فالعقل يستقلّ بوجوب التقليد، لكنْ لا يخفى أنّ هذا التقليد إنّما هو بحكم العقل بعد انسداد باب الاجتهاد والاحتياط بالإضافة إليه، وليس بحكم الفطرة والجِبلّة كما ذكره صاحب «الكفاية» قدّس سرّه.
ب: الاستشكال على الاستدلال المتقدّم والجواب عنه
هذا، ولكن يُمكن أن يقال: إنّ أمر العامّي لايصل إلى هذه المراتب التي ذكرناها؛ لأنّه في بادي الأمر لمّا تحيّر في سلوك طريق الاجتهاد والتقليد أو الاحتياط في الأحكام الواقعيّة، وشكّ في جواز طبيعة الاجتهاد؛ سواءً أكان في الأحكام الواقعية أم في نفس مسألة جواز الاجتهاد، وكذا شكّ في طبيعة التقليد وفي طبيعة الاحتياط، فقد يصير حائرًا كالمعلّق بين السماء والأرض؛ لأنّه وإن فرض تمكّنه من الاجتهاد في الأحكام الواقعيّة أو تمكّنه من الاجتهاد في نفس مسألة جواز الاجتهاد، لكنّه بعد الشكّ في جوازه لا يُجديه تمكّنه من الاجتهاد أصلًا؛ فإذن عِلمه الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة بحسب الفطرة وحكم الجِبلة يحرّكه۱ إلى أن يرجع إلى الغير فيسأله عن حكم مسألة جواز التقليد وعدمه، فالمرجوع إليه في هذه المسألة في بدو النظر من الأحكام الفطريّة الجِبليّة، لا من أحكام العقل عند الانسداد، فما ذكره صاحب الكفاية متينٌ لا
مدفع له أصلًا.۱
لكن لا بدّ وأن يُقال: إنّ تقليده في حكم مسألة جواز التقليد في الأحكام الواقعيّة فطريٌّ، لا مطلق التقليد ولو في الأحكام الواقعيّة ابتداءً.٢
هذا كلّه إذا تمكّن العامّي من الاجتهاد في الحكم الواقعي، أو تمكّن منه في حكم جواز الاجتهاد وأخويه، لكنْ شكّ في أصل جواز الاجتهاد، وأمّا إذا لم يتمكّن من الاجتهاد في المرحلتين، ولم يكن له قوّة الاستنباط أصلًا، فحينئذٍ يدور أمره في الأحكام الواقعيّة الأوليّة بين التقليد والاحتياط، فإن استقلّ عقله بعدم جواز الاحتياط للزوم العسر والحرج، أو قطع بعدم الجواز بدليلٍ خارجيٍّ، فينحصر أمره بالتقليد بحكم العقل؛ وذلك لأنّ التبعيّة لطريقٍ بعد انسداد ساير الطرق مع فرض لزوم المتابعة لأحد الطرق إنّما يكون بحكم العقل، وحينئذٍ إذا قلَّد مجتهدًا وأفتى بوجوب التقليد فهو، وإن أفتى بحرمة التقليد فلا يجب عليه، بل لا يجوز له تقليده في هذه المسألة، بل لا بدّ وأن يقلّده في الأحكام الواقعيّة؛ لأن المفروض أنّه بعد عدم تمكنه من الاجتهاد وعدم جواز الاحتياط يكون طريق التقليد قطعيّا. وأمّا إذا لم يقطع
بعدم جواز التقليد، بل شكّ في جوازه فإذن يتحيّر في الطريق إلى الحكم الواقعي في أنّه: هل هو بالتقليد أم بالاحتياط؟ وبعد فرض عدم تمكّنه من الاجتهاد في هذه المسألة، يسأل العالم عن حكم هذا بحكم الفطرة. فعلى هذا، إنّ التقليد في هذه الصورة في أصل الأحكام الواقعيّة وإن كان لا يجوز له بدوًا، لكنّ التقليد في حكم مسألةِ جواز التقليد- حينئذٍ- ضروريٌّ بالنسبة إليه بالفطرة والجِبلّة.
فرعٌ: مرجعيّة الفطرة في تحديد صفات المقلَّد أيضًا
فإذا عرفتَ أنّ مسألة جواز التقليد وعدمه فطريّةٌ جِبليّةٌ؛ سواءً في حال التمكّن من الاجتهاد في هذه المسألة مع احتمال عدم جوازه، وسواءً في حال عدم التمكّن منه رأسًا، تعرف أنّه بالفطرة يرجع إلى مَن تحكُم الفطرة بالرجوع إليه، فلا معنى لأنيُقال: إنّه يشكّ حينئذٍ في وجوب تقليد الأعلم وعدمه. فلا بدّ من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعيّنه؛ للقطع بحجّيته والشكّ في حجّيّة غيره، ولا معنى لأنيُقال أيضًا: إنّه لا بأس برجوعه إلى غير الأعلم إذا استقلّ عقله بالتساوي وجواز الرجوع إليه أيضًا؛ كما قال به صاحب الكفاية قدّس سرّه۱؛ وذلك لأنّ احتمال التعيين والتخيير ودوران الأمر بينهما ولزوم الأخذ بالمعيّن ونحوه، إنّما يكون بحكم العقل، ولا مدخل للعقل في حكم الفطرة، فإذا كان أصل التقليد فطريّا، كيف يمكن أنتكون خصوصياته؛ من وجوب الرجوع إلى الحيّ دون الميت، ومن وجوب الرجوع إلى الأفضل دون المفضول غير فطريٍّ؟! بل هذه الأُمور إنّما تصّح لو كان وجوب التقليد عقليّا لا فطريّا فتأمّل ولا تغفل.
الفصل الثالث: تقليد الأعلم
المبحث الأوّل: وظيفة العاميّ بمعزل عن الأدلّة الشرعيّة
اعلم أنّ العامّي الذي يرى جواز التقليد اجتهادًا أو تقليدًا؛ فإمّا يتمكّن من الاحتياط وإمّا لا يتمكّن، وعلى فرض التمكّن- أيضًا- فتارةً يرى جوازه وأخرى عدم وجوبه أو عدم جوازه؛ للقطع بأنّ سيرة الشارع ليست على الإتيان بمتعلّقات التكاليف على وجه الاحتياط. فإن كان متمكنًا من الاحتياط، لكن شكّ في جوازه فحينئذٍ يرجع- بحكم الجبلّةوالفطرة- إلى العالِم ويسأله عن وظيفته، ولا معنى لتردّده حينئذٍ بين رجوعه إلى الأعلم أو إلى غيره، بل في بدء الأمر إمّا يرى وجوب الرجوع إلى الأعلم فيرجع إليه بحكم الفطرة، وإمّا يرى التساوي بينه وبين غيره فيرجع إلى أيِّهما شاء.
وإن لم يتمكّن من الاحتياط، أو قطعَ بعدم وجوبه أو عدم جوازه، فتنحصر حينئذٍ وظيفته بالتقليد؛ بحكم العقل من باب الانسداد. فإنرأى أنّ الشارع جعل
قول العالم حجّةً في هذا المقام، فحينئذٍ يتردّد في أنّ المجعول الشرعيّ: هل هو حجّيّة خصوص قول الأعلم، أم حجّيّة قوله وحجّيّة قول غيره على سبيل التخيير؟ فإذن لا بدّ من الأخذ بقول الأعلم؛ لدوران أمره بين التعيين والتخيير في باب الحجّيّة، المساوق للشكّ في حجّيّة قول غير الأعلم، المساوق للقطع بعدم حجّيّة قوله، والمفروض أنّه قاطع بحجّيّة قول الأعلم.
وإنرأى أنّه في نفسه حاكمٌ بحجّيّة قول العالم، وبعبارةٍ أخرى: يستقلّ عقله بوجوب الرجوع إلى العالم، فحينئذٍ إمّا يستقل عقله بوجوب الرجوع إلى الأعلم، وإمّا يستقلّ بوجوب الرجوع إلى أحد المجتهدين على سبيل التخيير، ولا معنى للشكّ والتردّد حينئذٍ أبدًا؛ لأنّ العقل لا يشكّ في أحكام نفسه، بل الذي يمكن في حقّه هو الشكّ في أحكام غيره من الموالي والشارع. فإذن إذا كانت حجّيّة قول المجتهد من باب الكشف الذي مرجعه إلى جَعلِ الشارع قولَه حجّةً، فحينئذٍ يمكن دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وإن كانت حجّيّة قوله من باب الحكومة الذي مرجعه إلى استقلال العقل في ما حكم به، فلا معنى لدوران الأمر بينهما، بل المكلّف إمّا يقطع بوجوب الرجوع إلى الأعلم، وإمّا يقطع بجواز الرجوع إلى غيره أيضًا. هذا كلّه في وظيفة العامّي في نفسه.۱
الدر النضيد في الإجتهاد و التقليد و المرجعية ؛ ص٢٥۱
المبحث الثاني: وظيفة العاميّ بحسب الأدلّة الشرعيّة
وأمّا وظيفته بحسب الأدلّة الشرعيّة التي يستنبطها المجتهد؛ فاستدلّ بعض على وجوب تقليد الأعلم، واستدلّ آخر على التخيير بين تقليده وتقليد غيره.
الفرع الأوّل: أدلّة القائلين بوجوب تقليد الأعلم
أوّلًا: مقبولة عمر بن حنظلة
واستدلّ الأوّلون بوجوه:
الأوّل: ما في مقبولة عمر بن حنظلة:
«قلتُ: فإنْ كان كلُّ واحدٍ اختَارَ رَجلًا مِن أصحَابِنا فَرضِيَا أن يكونا الناظرَيْن في حقِّهما واختَلَفا فيما حَكَما، وكِلاهما اختَلَفا في حديثكم؟ فقال: الحكمُ ما حَكَمَ بِه أعدَلُهما وأفقهُهما وأصدقُهما في الحديث وأورعُهما، ولا يلتفت إلى ما يَحكُم به الآخر»۱.
المؤيّد بما في رواية داود بن الحصين، عن أبي عبد الله عليه السلام:
«في رَجُلين اتّفَقا عَلى عَدليْن جَعَلاهُما بَينَهُما في حُكمٍ وقَع بَينَهُما فِيهِ خِلافٌ، فَرضِيَا بالعَدْلين فَاختَلفَ العَدْلان بَيْنَهُما؛ عَن قَولِ أيِّهما يمضي الحُكم؟ قَال عَليهِ السَّلام: يُنْظرُ إلى أَفقَهِهما وَأعلَمِهما بأحَادِيثِنا وَأورَعِهِما فَيَنفُذُ حُكمُه وَلا يُلتَفَتُ إلى الآخر»٢.
وكذا المؤيّد بما في رواية موسى بن أكيل:
فقالَ عَليهِ السَّلام:
«يُنْظَرُ إِلَى أَعْدَلِهِمَا وَأَفْقَهِهِمَا فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُمْضَى حُكْمُهُ»۱.
وتقريب الاستدلال هو: أنّ الإمام عليه السلام جعل قول الأفقه حجّةً، ولا معنى للأفقهيّة إلّا الأعلميّة.
إشكال: مورد الرواية هو التنازع والتحكيم فقط
وفيه مضافًا إلى أنّ حجّيّة قوله إنّما هي عند الاختلاف- وهو أخصّ من المدّعى- أنّ هذه الرواية وردت في التحكيم، ولا معنى للتخيير في هذا الباب كما أفاده صاحب «الكفاية» قدّس سرّه٢؛ لبقاءالتخاصم والتنازع مع التخيير، وأمّا في باب الإفتاء فلا مانع من التخيير، وحجّيّة قول المجتهدين (الأعلم وغير الأعلم) تخييرًا ولا محذور فيه، فيمكن أن يكون تعيين الأفقه في ذلك الباب لهذه الجهة التي [هي] مفقودةٌ في باب الإفتاء.٣
والإنصاف أنّ هذا الإشكال لا مدفع عنه أصلًا، فإذن لا يمكن التمسّك بالمقبولة وأختيها لوجوب تعيين الأعلم.
ثانيًا: عهد مالك الأشتر
الثاني: قوله عليه السلام في «نهج البلاغة» في عهد مالك الأشتر:
«ثُمَ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ»۱.
الإشكال على الدليل الثاني والردّ عليه
وفيه أوّلًا: أنّ المراد من الحكم في هذه الفقرة هو الحكم في مقام الترافع، لا مجرّد الإفتاء.
وثانيًا: أنّ المراد من الأفضليّة ليس هو الأعلميّة، بل المراد منها الأفضليّة في الأخلاق الحميدة والملَكات الفاضلة التي يحتاج إليها القاضي في مقام الترافع؛ كما
يشهد بذلك تفسيره عليه السلام بقوله: «مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلَا يَحْصر مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ»۱ إلى آخر كلامه عليه السلام.
هذا، ولكن يُمكن أن يُقال: إنّ المراد من الأفضليّة هو الأفضليّة من جميع الجهات؛ ومنها الأفضليّة في العلم والفقاهة، وتفسيره عليه السلام بالأفضليّة بالصفات، لايوجب حصر دائرة الأفضليّة فيها، بل لعلّه لبيان تعميم الأفضليّة بهذه الملَكات أيضًا، ولعلّ عدم ذكره الأعلميّة والأفقهيّة لمكان معلوميّته؛ فتأمّل.
ثالثًا: أقربية فتوى الأعلم إلى الواقع والإشكال عليه
الثالث: إنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع، فيتعيّن الأخذ بها.
وفيه: أنّ الأقربيّة ممنوعة صغرى وكبرى، أمّا صغرى؛ فلأنّه من الممكن اتّحاد فتوى المفضول مع المجتهد الميّت الذي هو أعلم من الأعلم الحيّ بمراتب! فكيف يمكن أن يقال حينئذٍ: إنّ فتوى الحيّ الأعلم أقرب إلى الواقع؟! وأمّا كبرى؛ فلأنّه لا دليل على حجّيّة قول الأقرب، بل العامّي لا بدّ وأن تكون أفعاله على طبق ما هو الحجّةلديه؛ سواءكانت الحجّة أقرب إلى الواقع أم لم تكن.
رابعًا: لزوم الأخذ بالمعيّن عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير
الرابع: إنّه عند الشكّ في دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا بدّ من الأخذ بالمعيّن في باب الحجّيّة؛ لأنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدمها، فإذا دار أمر العامّي بين وجوب رجوعه إلى خصوص الأعلم وبين جواز رجوعه إلى غيره أيضًا، فحيث إنّ تقليد الأعلم قاطعٌ للعذر بخلاف غيره، يتعيّن تقليده دون غيره.
خامسًا: دليلان إضافيّان من الشيخ الحلّي
أقول: ويمكن أنيستدلّ بوجوب تقليد الأعلم بوجهين آخرين:
الأوّل: ما في «البحار» (المجلّد الثاني عشر، ص ۱٢٤)، في أحوال الجواد عليه الصلاة والسلام عن «عيون المعجزات»، فقال عليه السلام لمّا أفتى عمّه عبد الله ابنموسى بفتاوى غير صحيحةٍ:
«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا عمّ! إِنَّهُ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ غَدًا بَيْنَ يَدَيِ اللَهِ، فَيَقُولَ لَكَ: لِمَ تُفْتَيْ عِبَادِي بِمَا لَم تَعْلَمُ وَفِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ؟!»۱.
وظاهر هذه الرواية وإن كان النهي عن الفتوى بغير العلم، إلّا أنّه ليس كذلك بعد التأمّل، بل ظاهرها هو النهي عن الفتوى إذا كان في البين أعلم؛ وذلك لأنّ الإمام عليه السلام بعد أن نهى وعاتب على الفتوى بغير العلم، خصّص مورد نهيه بما إذا كان في الأمّة أعلم؛ وواضح أنّه لا فرق في حرمة الفتوى بغير علم بينما إذا كان في الأمّة أعلم أم لم يكن، فيستفاد من قوله باختصاص النهي بصورة وجود الأعلم أنّ الممنوع هو الفتوى مطلقًا عند وجود الأعلم، وأنّ الفتوى الواقعة في قبال فتوى الأعلم تكون مخالفةً للواقع، وإن كان المفتي قاطعًا بصحّتها.
فالمحصّل أنّه لايجوز الفتوى مع وجود الأعلم؛ لأنّها تكون فتوى بغير علم؛ لأنّه إذا جعلنا المدار على فتوى الأعلم، فكلّ فتوى مخالفةٍ لفتواه كانت مخالفةً للحقّ، فكانت فتوى بما لا يعلم أنّه حقّ مع فرض وجود الأعلم. وهذا الذي ذكرناه هو الظاهر من الرواية الشريفة، فيكون مفادها: إنّ منصب الفتوى في الأمّة يكون مختصًا بالأعلم، ولا يجوز لأحدٍ أن يفتي بشيء في قباله.
هذا؛ ولكنْ قد روى المفيد في «الاختصاص» هذه الحكاية مُسنِدًا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه وفيه:
«اتقّ الله! إنّه لعظيمٌ أن تقفَ [يَومَ القيامَةِ] بينَ يدي الله عزّ وجلّ، فيقول لك: لِمَ أفتيتَ النّاسَ بِمَا لا تَعلَم۱».
وليس فيها قوله عليه السلام:
«وفي الأمّة من هو أعلم منك»
، و معلوم انه لا حجية لما فى «عيون المعجزات» لمكان إرسال هذه الرواية فيه، ولايمكن الاستدلال بما في «الاختصاص»؛ لأنّه وإن كانت هذه الرّواية مسندةً فيه، إلّا أنّه- كما عرفت- ليس فيها خصوص الفقرة التي هي شاهدٌ للاستدلال. وأيضًا نقل ابن شهرآشوب هذه الحكاية في «المناقب» عن «الجلاء والشفاء» (ج ٢، ص ٤٢٩) وليس فيها هذه الفقرة٢؛ لكنّ مصنّفه بعد أن ذكر الحديث نظير ما ذكره المفيد وصاحب «العيون» قال: الخبر. ويمكن أن يكون قوله: الخبر إشارة إلى هذه الفقرة. وعلى كلّ حال لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية لوجوهٍ كما لا يخفى.
الثاني: قوله عليه السلام في «نهج البلاغة»:
«إِنَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ»
ثمّ تلا: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا٣)
وقد ذكر هذه الرواية العلّامة الأنصاريّ قدّس سرّه في بحث ولاية الفقيه في «المكاسب»، وقد ذكر أنّه لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية وما شابهها للولاية من التصرف في أموال الغُيَّب والقُصر والمجهول المالك، بل ذهب إلى أنّ هذه الرواية في مقام بيان وظيفة العلماءمن حيث بيان الأحكام؛ فبيان الأحكام الذي هو عبارة عن الإفتاءمختصٌ بالأعلم بمقتضى هذه الرواية دون سائر المناصب؛ لعدم تناسب بين الأعلميّة في الأحكام وبين التصدّي لأخذ الزكاة والأخماس، بل المناسب: بين الأعلميّة وبين بيان الأحكام كما لا يخفى، قال قدّس سرّه:
«لكنّ الإنصاف بعد ملاحظة سياقها أو صدرها أو ذيلها، يقتضي الجزم بأنّها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعيّة، لا كونهم كالنّبي والأئمّة- صلوات الله عليهم- في كونهم أولى بالناس في أموالهم، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلّف، فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعًا»۱.
وهذا الذي ذكره قدّس سرّه متّينٌ جدًا؛ لأنّ عدم المناسبة بين أعلميّة رجلٍ بما جاء به الأنبياء وبين أخذ الزكاة ظاهرٌ، بخلاف المناسبة بين الأعلميّة وبين بيان الأحكام.
الإشكال على الاستدلال بالحديث
هذا؛ ولكن يُمكن أن يُقال: إنّ استشهاده عليه السلام بقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ٢، بلا وجهٍ؛ لأنّه ما وجه المناسبة بين المتابعة في الأعمال، وبين الأعلميّة في الأقوال في مقام الأولويّة؟ ولذا ذكر الشهيديّ رحمه الله في حاشيته على «المكاسب» أنّه رُوي في روايةٍ أخرى:
«إنّ أوْلَى النّاسَ بِالأنْبِيَاءِ أَعْمَلُهُم بمَا جَاؤوا»
، وعلى هذا تسقط الرواية عن الاستدلال لمكان الاضطراب في المتن؛ وذلك لأنّه على تقدير قوله «أعْلَمُهُم» يصحّ الاستشهاد بها، بخلاف تقدير قوله «أعمَلُهم».٣
قلّة التأمّل و عدم البصيرة عند القائلين بضعف سند نهج البلاغة
وأمّا [ما] رُبّما يُقال ويظهر من بعض من لا خبرة له؛ بأنّ سند «نهج البلاغة» غير تامٍّ؛ لمكان إرسال الخطب والمكاتبات فيها، فهو ناشٍ من قلّة التأمّل وعدم البصيرة، فإنّ السيّد الرضيّ رضي الله عنه أجلُّ وأرفعُ من أن يُسند إلى الإمام ما لميعلَم بصحّته وبصدوره عنه عليه السلام. فالخطب والكتابات في هذا الكتاب وإن لم يُذكر أسانيدها، إلّا أنّ ذِكر الرضيّ كافٍ في صحّة الاعتماد عليها بلا تأمّلٍ وإشكالٍ.
هذا تمام الأدلّة التي يُمكن الاستدلال بها على وجوب تقليد الأعلم.
الفرع الثاني: أدلّة القائلين بعدم وجوب تقليد الأعلم: بعض المطلقات
استدلّ القائلون بعدم وجوب تقليد الأعلم بمطلقاتٍ وردت في المقام؛ كقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ۱، وكقوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ٢- إلى آخره؛ وقوله عليه السلام في «الاحتجاج»:
«فَأمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءصَائِنًا لنَفسِه حَافِظَاً لِدينِه»
- إلى آخره٣؛ وقوله عليه السلام:
«انظُروا إلى مَن كَانَ مِنْكُم قَد رَوَى حَدِيثَنا وَنَظَرَ في حَلَالِنا وَحَرَامِنا»
- إلى آخره٤؛ وقوله السلام:
«وَأمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارجِعُوا فِيهَا إِلى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فِإنَّهُم حُجَّتي عَلَيْكُم وَأنَا حُجَّةُ الله»٥.
إلى غير ذلك من الأدلّة التي يمكن أنيستفاد منها أصل وجوب التقليد.
وتقريب الاستدلال هو: أنّ هذه المطلقات وردت في مقام بيان وجوب رجوع العامّي إلى الفقيه، ولم يُختصّ فيها وجوب الرجوع إلى خصوص الأعلم، فبمقتضى الإطلاق يتخيّر العامّي في أنيرجع إلى أيّ مجتهدٍ شاء.
أوّلًا: مناقشة دلالة هذه المُطلَقات
وقد رُدّ هذا الاستدلال بأنّ هذه الأدلّة ليس فيها إطلاقٌ من هذه الجهة، بل ليس فيها إلّا الدلالةٌ على مطلق وجوب رجوع العامّي إلى المجتهد. وبعبارةٍ أخرى: إنّها في مقام بيان مجرّد تشريع رجوع العامّي إلى العالم، ومجرّد جواز رجوع العامّي إلى الفقيه،
وليست في مقام بيان خصوصيّات من يُرجَع إليه؛ مِن كونه أعلم، مع اتّصافه بصفاتٍ أُخر؛ كالعدالة وعدم كونه رِقّا ووَلَد زنًا وذكرًا، إلى غير ذلك من الصفات التي تُشتَرط في الفقيه، فإذن لا مانع من الالتزام بوجوب الرجوع إلى الأعلم مُطلقًا.
وفيه أوّلًا: أنّ هذه الأدلّة ليست في مقام الدلالة على إطلاقٍ أضعف من الإطلاق المستفاد من قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ۱ و أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ٢ وما شابههما، فلا مانع من الأخذ بالإطلاق.٣
. وثانيًا: أنّه على تقدير كونها في مقام بيان مجرّد التشريع، [لكن] لا يمكن حصر موردها بما إذا تساوى المجتهدان في الفضيلة؛ وذلك لأنّه إن أخذنا بإطلاقات أدلّة وجوب الرجوع إلى الأعلم، فلا مجال حينئذٍ للرجوع إلى غير الأعلم إلّا فيما إذا كان
المجتهدان متساويين في الفضيلة، ومعلوم أنّ هذا بمكان من الندرة والشذوذ. وهذه الأدلّة، وإن سلّمنا ورودها في مقام بيان مجرّد التشريع، لكن لا بدّ وأن لايكون المورد المراد منها نادرًا، وإلّا لكان التعبير عنه بهذه العبارات مستهجنًا جدّا۱؛ ألا ترى أنّه لو كان المراد الواقعيّ للمولى وجوب إكرام خصوص الرقبة المؤمنة، وكان في البلد ألف رقبةٍ كافرةٍ ورقبةٌ مؤمنةٌ واحدةٌ، لايصحّ أن يقول: «أكرم رقبةً» لو لم يكن في مقام بيان الإطلاق وتعيين خصوصيّات صفات الرقبة.
ويُستفاد ممّا ذكرنا: أنّ حمل هذه الأدلّة على صورة تساوي المجتهدَين في الفضيلة مستهجن جدًا؛ لمكان الحمل على الفرد النادر.
هذا، ولكن لايخفى أنّ الصور في المقام أربعة:
الأولى: ما إذا كان المجتهدان متساويين في الفضيلة والفتوى.
الثانية: ما إذا كان المجتهدان متساويين في الفضيلة، مختلفين في الفتوى.
الثالثة: ما إذا كانا مختلفين في الفضيلة، متّحدين في الفتوى.
الرابعة: ما إذا كانا مختلفين في الفضيلةوالفتوى.
ومن المعلوم أنّ وجوب الرجوع إلى الأعلم، إنّما هو فيما إذا كان المجتهدان مختلفين في الفضيلة والفتوى معًا، وهي الصورة الرابعة وبقيت الصور الثلاث الأخر تحت المطلقات، ولا يلزم مِن الالتزام بوجوب الرجوع إلى الأعلم حمل المطلقات على الفرد النادر.
وهم ودفع
إن قلتَ: إنّ الأدلّة الدالّة على وجوب الرجوع إلى الأعلم لا تدلّ على اختصاص صورة تخالفهما في الفضيلة والفتوى، بل تدلّ بإطلاقها على وجوب الرجوع إليه حتّى في صورة توافقهما في الفتوى، فإذن تدلّ هذه الأدلّة على وجوب الرجوع إلى الأعلم سواءً اتّحدت فتواهما أم اختلفت، ويبقى تحت المطلقات صورتان، وهما: صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة والفتوى، وصورة تساويهما في الفضيلة دون الفتوى، ولا ريب في أنّ اختصاص المطلقات بهاتين الصورتين موجبٌ لحملِها على الفرد النادر؛ فيعود المحذور لندرة تساوي المجتهدين في الفضيلة سواءً توافقا في الفتوى أم تخالفا.
قلتُ: إنّ عمدة الأدلّة التي يُمكن أن يُستدلَّ بها على وجوب تقليد الأعلم إنّما هي قوله عليه السلام في «نهج البلاغة»:
«إنّ أَوْلى النّاسِ بِالأنبيَاء أعْلَمُهم بِما جَاؤوا به»
۱؛ وقوله عليه السلام لعمّه عبدالله بن موسى:
«يَا عمّ! إِنَّهُ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ غَدًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، فَيَقُولَ لَكَ: لِمَ تُفْتَيْ عِبَادِي بِمَا لَم تَعْلَمُ وَفِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ؟!»
٢؛ ولا يخفى أنّهما لا تدلّان إلّا على وجوب تقليد الأعلم في صورة المخالفة في الرأي. أمّا ما في «النهج»؛ فلأنّ مناسبة الأولويّة بالأعلميّة إنّما هو فيما إذا كان رأي الأعلم مخالفًا لرأي المفضول، فيصحّ أن يُقال حينئذٍ: إنّ الأعلم أولى الناس، وأمّا في صورة تساويهما في الرأي، فلا وجه لأولوية الأعلم كما لا يخفى. وأمّا قوله عليه السلام لعمّه فظاهر أنّ المؤاخذة إنّما تصحّ لو كانت فتواه مخالفةً لفتوى الإمام؛ لأنّ التعبير:
«بِمَا لَم تَعْلَمُ وَفِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ؟!»
يعطي أنّها تصح فيما إذا كانت فتواه مخالفةً لرأي الإمام، فعلى هذا ينحصر وجوب تقليد الأعلم بصورةٍ واحدةٍ: وهي صورة تخالف المجتهدين في الفضيلة والفتوى، ولا يلزم من حمل المطلقات على سائر الصوّر محذورٌ أصلًا.
وإن أبيت عن ذلك، وأصررت على إطلاق هاتين الروايتين بالنسبة إلى اختلاف فتوى الأعلم مع فتوى غيره، وبالنسبة إلى اتّحادها مع فتوى الآخر، فنقول: إنّ حمل المطلقات على الصورتين الأخريين، وهما: صورة تساويهما في الفضيلة والفتوى، وصورة تساويهما في الفضيلة واختلافهما في الفتوى، لا يلزم منه محذور استهجان الحمل على الفرد النادر؛ وذلك لأنّ التخيير المستفاد من هذه المطلقات؛ إن كان تخييرًا شرعيّا- كما إذا قيل مثلًا: قَلِّد أيّ مجتهدٍ شِئتَ- فيكون حملها على هاتين الصورتين مستهجنًا لمكان الندرة، لكن لايخفى أنّ التخيير المستفاد من المطلقات عقليٌّ، بمعنى: أنّ العقل بعد أن رأى ورود الحكم على الطبيعة، ولم يرَ اختلاف أفرادها في ملاك الحكم، يحكم بتخيير المكلّف بين أيّ فردٍ شاء منها، ومن المعلوم أنّ العمل على طبق الروايتين الدالّتين على وجوب تقليد الأعلم على الإطلاق، لايوجب تصرفًا في ناحية المطلقات، ولايتصادم معها بوجه، بل يتصادم مع التخيير العقليّ، فيوجب عدم تخيير العقل حينئذٍ بين الأفراد المستفادة من إطلاق ورود الحكم على الطبيعة. وبعبارةٍ أخرى: إنّه لا تصرف في المقام بالإضافة إلى المطلقات، بل هي باقيةٌ على حالها، وإنّما التصرف في مقدار سعةِ حُكمِ العقل بالتخيير.
لكن لايخفى أوّلًا: أنّ حكم العقل بالتخيير تبعٌ للإطلاق، فالتصرف في الحكم العقليّ يرجع لا محالة إلى التصرف في الإطلاق.
و ثانيًا: أنّه لا خصوصيّة للمقام، بل جميع المطلقات- أيضًا- كذلك؛ فإنّ التخيير في الأفراد في المطلقات البدليّة، وشمول المطلق لجميع الأفراد للمطلقات الشموليّة، يُستفاد من حكم العقل بعد أن رأى تساوي الأفراد في الإقدام في فرض عدم وجود مقيّدٍ في البين.
نعم، يمكن أن يُقال: إنّ المطلقات- حينئذٍ- مضافًا إلى شمولها لتساوي المجتهدين فتوىً وفضيلةً، ولتساوي المجتهدين فضيلةً غير فتوىً، تشمل خصوص
تقليد الأعلم في الصورتين الأخريين؛ لأنّ تقليد الأعلم واجبٌ بمقتضى أدلّة وجوبه، وجايزٌ بمقتضى إطلاق هذه المطلقات، فالمطلقات التي تأمر بوجوب الرجوع إلى المجتهد تخييرًا تأمر بجواز الرجوع إلى الأعلم أيضًا.
فعلى هذا تشمل أدلّة وجوب تقليد الأعلم لصورتين، وهما: تقليد الأعلم فيما إذا كانت فتواه مخالفةً لفتوى غيره، وفيما إذا كانت فتواه موافقةً لفتوى الغير. وتشمل المطلقات الصور الأربعة الأخر، وهي: صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة والاتّحاد في الفتوى، وصورة تساويهما في الفضيلة واختلافهما في الفتوى، وصورة الرجوع إلى الأعلم فيما إذا كانت فتواه موافقةً لفتوى غيره، وصورة الرجوع إلى الأعلم فيما إذا كانت فتو