المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم و المعرفة
التوضيح
هو العليم
كيفية تغلّب القوى الوهمية على المباني العلمية
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
"فقلت سألت الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك، وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال يا أبا عَبد اللَه، لَيسَ العِلمُ بِالتّعلُّمِ، إنّما هو نورٌ يقَعُ في قَلبِ مَن يريدُ اللَه تَباركَ وتَعالى أن يهديهُ (حتى يستطيع بواسطة تلك الهداية أن يطوي مسير كماله، ويحفظ نفسه من الانحراف والمهالك التي تصيب الإنسان بشكل عام)، فَإن أرَدتَ العِلمَ فَاطلُب أوّلًا في نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديةِ واطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه واستَفهِمِ اللَه يفهمْكَ".
العلم هو اليقين وانكشاف الواقع
ذكرنا في الجلسة السابقة بأنّ العلم بمعنى اليقين، ويقال لانكشاف الواقع بأنّه علم، فالحقيقة التي تحصل للإنسان لها طرفان: نفي [الشك] وإثبات [اليقين]، فمن الممكن أن يحصل لإنسان في مسألة ما ظنّ أو شك أو وهم، فهذه مراتب مختلفة تحصل للإنسان في ثبوت أمر معيّن، لكن إذا كان له يقين بنسبة مائة بالمائة في حصول أمر؛ بحيث لا مجال فيه للشك والشبهة، عندئذٍ يقال لهذه المرتبة علم.
بناء أكثر الناس حياتهم على أساس الوهم لا العلم
حسناً، هل الأمر لدى العرف والمجتمع كذلك؟! هل الناس كذلك في ارتباطهم وعلاقاتهم وكلامهم وتعاملهم وفي إبدائهم شهاداتهم وفي قضائهم؟! إذا كانوا كذلك، فلماذا تتغيّر عقيدة الإنسان بأدنى شبهة؟! كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن لشخص أن يرى هذا المصباح المضيء الآن في سقف الغرفة ثم يأتي شخص آخر ويشكّكه بوجوده؟! يمكننا بالتدقيق البسيط في علاقات الناس ـ بل حتى في علاقاتنا نحن ـ أن نصل إلى أنّ خمسة وتسعين بالمائة مما نطلق عليه أنّه يقين وعلم هو ظنّ، هذا إذا لم نقل بأنّه عبارة عن شك وخيال! إذ لا يتحقّق علم للشخص.
اعتماد معاوية على اتّباع أهل الشام للوهم في حرب صفين
إنّ جميع ما جرى في حرب صفين وما قام به معاوية وتجنيده أهل الشام لمحاربة أمير المؤمنين عليه السلام كان على أساس أخبار وروايات نقلها بعض أصحاب النبي الجاهلين لأهل الشام؛ أحدهما باسم سمرة بن جندب والآخر باسم أبو هريرة، طبعاً سمرة بن جندب أتى بعد استشهاد أمير المؤمنين، أما أبو هريرة فكان في الشام في حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان ينقل لهم أحاديث وروايات تقدح به. ولم يكن في أهل الشام من يفكّر في أنّه هل يمكن للنبي أن يقول هذا الكلام في صهره وزوج ابنته؟! يعني كان لديهم من الحماقة بحيث أنّهم كانوا يصدّقون أيّ خبر ينقله أي شخص ويلقيه عليهم من منبر مسجد الشام في ذم الإمام أمير المؤمنين، ثم يقوم معاوية بتجنيد هذا الجيش الجرّار لمحاربة الإمام على أنّه شخص عادي مخالف لرسول الله! يعني وصلت بهم الحماقة إلى هذا الحد! بحيث يعتقدون بأنّ النبي يعطي ابنته لمثل هذا الشخص ويجعله صهره، ثم يتحدّث عليه بهذا الشكل! لماذا حصل ذلك؟! إنّما حصل لأجل أنّ فكر الناس قائم بشكل عام على أساس الخيال لا على أساس العلم واليقين. جميع ذلك كان على أساس الخيال لا على أساس العلم واليقين!
يأتي طفل بعمر عشر سنوات أو اثني عشر سنة وينقل أمراً، ثم يصدّقه شخص بعمر خمسين أو ستين سنة، لماذا ذلك؟! إنّما هو بسبب أنّ قوانا العقلانية متوقّفة في مرحلة الصبا والطفولة! لأجل ذلك.
مشاهدة الناس صورة قائدة الثورة على القمر بسبب غلبة الخيال على العقل
ألا تذكرون في بداية الثورة.. ألم يحصل هذا الأمر لنا؟! بلى! ففي أحد الأيام رأينا الناس يتّصلون ببعضهم ويقولون هل شاهدتم؟ هل رأيتم ذلك؟!
ـ ماذا شاهدتم؟!
ـ لقد شاهدنا صورة قائد الثورة آية الله السيد الخميني على القمر!
ـ ماذا تفعل الصورة على القمر؟
ـ اصعد إلى السطح وانظر!
ـ أين هذا الكلام يا عزيزي،
الشخص الذي اتصل بالوالد ـ وبما أنّه من أرحامنا القريبين لن أذكر خصوصياته ـ كان بعمر الخامسة والستين، لم يكن شخصاً عادياً، بل كان من الناحية العلمية عالماً ومحصّلاً، ومن الجهات الأخرى كان ناضجاً ذا تجارب، هذا الشخص اتصل بالمرحوم الوالد وقال له اصعد إلى السطح وانظر! فذهبت ووجدته يضحك ويقول انظر ما هذا الكلام!
انظروا إلى قوة الخيال عند الإنسان، بحيث تجعله يرى الأمر الخرافي أمراً مسلّماً! هل لديكم أكثر خرافة من هذا الأمر؟! وهكذا بالنسبة إلى الخرافات الأخرى! فما علاقة القمر بوجه الشخص؟! لكن هذا يقول لذاك وذاك يتصل بهذا، فينتشر الخبر في المدينة وفي إيران.. ثم يأتي الآخرون ويضحكون علينا، يقولون انظروا إلى هؤلاء! هذا هو تفكيرهم ومستواهم! كم هو قبيح ذلك؟! فنحن علينا أن نقدّم أنفسنا للعالم على أنّنا أمّة عاقلة؛ تعتمد على آداب وموازين إنسانية وإسلامية، ومؤدّبة بالآداب المنطقية والعقلانية.. ثم نأتي ونفعل ذلك! لماذا؟ لأنّ الناس غارقون في عالم الخيال وعالم الوهم.
عدم حجية الرؤيا والمكاشفة في استنباط الحكم الشرعي
يأتي شخص من ذلك الطرف من العالم ويقول لقد شاهدت رؤيا، ونأتي ونجعل هذه الرؤيا أساساً لحركة مجتمع كامل وأمّة بأسرها، فبدلاً من القيام بهذا العمل نقوم بعمل آخر، لماذا؟ لأجل رؤيا! إذ ربما كان صاحب الرؤيا قد تناول طعاماً ثقيلاً، أو أنّه اختلف مع شخص فشاهد هذه الرؤيا، أو أنّه كان متخماً أو جائعاً فشاهدها، أو أنها كانت عبارة عن خيال، أو أنّها خلاف الواقع أو ما شابه ذلك.. هو عبارة عن رؤيا، من خلال هذه الرؤيا نضع تمام الموازين العلمية والمنطقية جانباً. هذه هي مصيبتنا! من خلال رؤيا واحدة نتخلّى عن جميع مدركاتنا غير القابلة للتغيير! بواسطة رؤيا نقدّس فاسقاً، وبرؤيا واحدة نفسّق مقدّساً! لماذا هذا؟!
كان بإمكان النبي من أول الأمر أن يقول لنا كل من يرى رؤيا فليعمل بها، لماذا لسنا مكلّفين بالعمل بالرؤيا؟! يوجد لدينا عدّة أدلّة للاستنباط فقط، إذ الأدلّة التي نعتمد عليها في استنباط الأحكام هي العقل والكتاب والسنّة، وهي روايات النبي الأكرم، وبناء على بعض المسالك يدخل الاجماع والاتفاق في هذه الأدلّة لإثبات الحكم.
السبب في عدم حجيّة الرؤيا والمكاشفة في الاستنباط
يعني لو فرضنا أنّ مجتهداً يريد أن يستنبط حكماً شرعياً عليه أن يعتمد على أحد هذه الأدلّة. لماذا ليست الرؤيا منها؟! لماذا لا تعتبر المكاشفة من الأدلّة؟! كأن أرى رؤيا بأنّ الأمر الفلاني نجس، أو أنّ الأمر الفلاني طاهر، أو أنّه ينبغي الحكم في المسألة الفلانية بهذا الشكل، وغير ذلك؟! لماذا الأمر ليس كذلك؟
إنّما ذلك بسبب أمرين: الأمر الأول: هو أنّ نفس الرؤيا معقّدة وغامضة لدرجة أنّ الكثير من الأشخاص الذين لديهم مراتب ومراحل عالية لا يمكنهم تعبير الرؤيا كما ينبغي. هذا أولاً،
الأمر الثاني: لو فرضنا أنّ النبي جعل استنباط الأحكام وغيرها من طريق الرؤيا وأمثالها، فعند ذلك نرى ماذا سيحصل! سيأتي هذا ويقول لقد رأيت هذه الرؤيا، وذاك يقول رأيت هذه الرؤيا! فهذا رأى شيئاً وذاك رأى شيئاً آخر، فأي الأمرين صحيح؟ وبأيّهما تأخذ؟! مثلاً شخص يقول رأيت أنّ هذا المكان طاهر والآخر يقول رأيت رؤيا بأنّه نجس! فلو قلنا بأنّ كلاً منهما يعمل بما رآه، ففي بعض الأحيان يكون بينهما تعارض، وعندئذٍ ماذا نفعل؟!
لذا، نقول بشكل عام لا يمكن للمجتهد أن يرتّب أدنى أثر على هذه الأمور، إلا إذا كانت هذه الرؤيا مؤيَّدة بالموازين والأدلّة الأخرى.
منذ مدّة أتى شخص إليّ، وقال بأنّ إمام الزمان عليه السلام قال لي..، وقبل أن ينقل لي الرؤيا وكانت حول حكم شرعي في مسألة معيّنة.. قلت له اعرض عليّ المسألة الشرعية أولاً، فعرضها عليّ! فقلت له الحكم الشرعي فيها هو كذا! ثم قلت له: تفضّل الآن واذكر لي مكاشفتك، فنقل لي مكاشفته، ثم قلت له: هل تعلم لماذا بيّنت لك الحكم الشرعي قبل أن تذكر لي الرؤيا؟ لكي أقول لك بأنّه لا ينبغي أن نعتمد على الرؤيا والمكاشفة في الفتوى واستنباط الأحكام الشرعية، لذا أجبتك أولاً (واتفاقاً لم تكن الرؤيا مخالفة للحكم الشرعي، بل كان محتوى المكاشفة موافقاً للأدلّة الشرعية!) أجل، لقد قلت له: لقد ذكرت لك عمداً الحكم قبل أن أسمع المكاشفة لكي تعلم بأنّه لا طريق لهذه المسائل هنا، وأنّه ينبغي تطبيق الموازين في مواردها.
تماماً مثل الطبيب المتخصّص في مسألة معيّنة يكون قد درس مدّة عشرين سنة، ثم يأتي شخص ويقول له: لقد شاهدت رؤيا بأنّه ينبغي أن تعطيني هذا الدواء. [حتماً سيقول له] شاهدت رؤيا فهذا شأنك، أنا ينبغي أن أعمل طبق الموازين، إذ ممكن أن تنطبق هذه الرؤيا معها وممكن لا.. نعم المسألة هي أنّ الإنسان ينبغي أن يعتبر هذه الموارد ضمن الأمور المحتملة وعليه أن يجري تحقيقاً حولها! أما أن يرتّب الأثر عليها مباشرة فهذا مخالف أساساً لممشى الإسلام بشكل عام، وحتماً على النقيض من طريق السلوك إلى الله.
الوصية الأولى لعنوان هي: ترك التقليد الأعمى واتباع العلم واليقين
لذا أول ما قاله الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: عليك أن تحصل على العلم واليقين، أما أي نوع من اليقين؟ فهذا أمر آخر. لكن أولاً ينبغي أن يكون اليقين مقارناً لكل خطوة تخطوها، وأن تكون خطواتك مقترنة بالحجّة، لا أنّ المسألة هي: بما أنّ فلاناً قال هذا المطلب فتعمل به بشكل أعمى وعلى أساس التقليد المحض، لا المسألة ليس كذلك.
كم لدينا من الآيات القرآنية۱ والروايات٢ التي بيّنت هذه المسألة، لكن بما أنّنا غارقون في الإحساسات والتخيّلات فلا يمكننا أن نقبل عملياً بها، بل نطلب الظواهر ونسعى للمسائل التي يغلب فيها الجانب الظاهري على الجانب العقلي والمنطقي. لذا لا يمكننا القبول بها.
مثال اليقين بالموت في التعامل معه معاملة الشك
مثلاً يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لَم يخلُقِ اللَه عزّ وجلّ يقيناً لا شَكّ فيه أشبَهَ بِشَكّ لا يقينَ فيهِ مِنَ الموت"٣. فالموت من الأمور التي لا يشك فيه أحد؛ فإذا سألت شخصاً: الموت الذي يصيب هذا وذاك هل سيصيبك يوماً ما؟ سيقول لك: نعم سيأتي الموت يوماً ما، ونحن على يقين من ذلك كيقيننا بهذا النور. لكن ما الذي يحدث؟ الذي يحدث هو أنّنا نتعامل مع الموت وكأنّه لم يكتب علينا! لو كان لدينا يقين واقعاً بالموت وأننا سنموت، هل سنتعامل هكذا؟!
دلالة سورة التكاثر على وجود جهنم الآن
{بِسْمِ اللَه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ* ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}٤. إلى متى ستبقى تطلب الكثرة والتفاخر، لسان هذه الآية يقول: أيها الناس لقد ألتهكم مسألة الكثرة والتفاخر، وأنستكم الحقيقة.. تقول أنا أذهب إلى هنا وإلى هناك، وأنا كذا وكذلك! إلى أن وصلتم إلى حدّ المقابر، وهذا يعني أنّ هذه المسألة بقيت معك إلى أن وصلت إلى الموت والقبر، وعندما تصل إلى تلك الحالة عندئذٍ سترتفع الحجب، وستعلم أنّك لم تحصد من عملك هذا سوى الخسران والضياع. والمعنى الآخر للآيات هو أنّهم كانوا يتفاخرون في الجاهلية بعظمائهم وشجعانهم، ويفضّلون قبيلة على أخرى بتعداد هؤلاء، فكانوا يتباهون حتى بأمواتهم، هذا معنى حتى زرتم المقابر. لكن هذا المعنى معنى أولي، وهو شأن نزول الآية.
{كلا سوف تعلمون}، ليس الأمر كما تفكرون، لن تبقى المسألة كذلك، بل سوف تعرفون، وكل من في هذه الدنيا سيعرف، وكل ملك سيعرف، وكل من له أنانية سيعرف هذه المسألة، {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} فالمسألة ليست كما تظنّون، فلو كان لديكم علم اليقين لرأيتم جهنّم الآن، لا أنّ الآية إشارة إلى أنّك سترى جهنّم في المستقبل، فهذه الإشارة محال، إذ أنت الآن ليس لديك علم اليقين.. وهذه الآية من جملة الآيات التي تدل على أنّ الجنّة والنار موجودة الآن، والمفسّرون لم يشيروا إلى ذلك في هذه الآية. لا تريد الآية أن تقول: سترى في المستقبل، أو سيحصل لك العلم لاحقاً، إذا كان الأمر كذلك، فماذا عن الآن؟ بل الآية تقول بأنّ عدم علمك الآن إنّما هو بسبب نقصك، ولولا ذلك لرأيت النار الآن. وهل يمكن أن يرى الإنسان النار والجنّة ثم يعمل هكذا؟! أنت إذا شاهدت حادثاً في الطريق بين سيارتين تبقى ليومين تقود سيارتك بهدوء، أليس كذلك؟! فهذا أثر ذاك.
البارحة عندما كنّا عائدين إلى قم حيث كنت في طهران وعدت ليلاً، حيث كنت بخدمة صديقنا المكرّم وأخينا المعظّم الشيخ يحيى، وصلنا إلى مكان قد حصل فيه حادث منذ دقيقة؛ حيث اصطدمت سيارة بشاحنة، وسحقت السيارة تماماً، وحصل ازدحام بسببها.. فمن يرى مثل المشهد هل يبقى يقود سيارته بسرعة؟! حتماً سيبقى على الأقل لمدّة يومين يقود بهدوء إلى أن ينسى المشهد فيعود كما كان!
تحقق علم اليقين في زيد بن حارثة
لو فرضنا أنّنا الآن رأينا النار في هذه الدنيا، كما رآها زيد بن حارثة، حيث قال للنبي إنّي أرى جهنّم الآن وأرى أهلها معذّبين، والآن أرى الجنّة وأرى أهلها منعّمين. هؤلاء الذين هم حولك الآن أرى أيّاً منهم في جهنم! فقال النبي اسكت لا بد من المهلة۱، فحينما ترى ليس من الضروري أن تحدّث بكل ما تراه. قال يا رسول الله هل أخبرك الآن من هو في جهنّم ومن هو الجنّة من هؤلاء الأشخاص الذين هم حولك، الآن هم في جهنّم وفي الجنّة، لا أنّهم سيذهبون إليها، فقال له النبي لا.
هذا مصداق هذه الآية، يعني {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} لرأيتم الآن، فهذا زيد وصل إلى علم اليقين فرأى. فعندما يرى زيد هذا الأمر هل يمكن أن يصدر منه كذب؟ هل يمكن أن يغش في المعاملة؟ أو أن يعمل بخلاف الأمانة أو بخلاف أمر الله؟! حتماً لا. فعندما ترى أمامك كوباً من السم، هل تشربه؟ حتماً لا! كل هذا [التراخي منا] إنّما هو بسبب أنّنا نتعامل مع الواقع والحقيقة بعدم جدّية، نتعامل معها بشك. نعم لقد جاءنا خبر من هنا وخبر من هناك، وعرفنا بأنّ هناك أمراً ما.. فحينما ينقل لنا خبر يحصل لنا حالة من الاطمئنان، لكن ليس هو العلم، بل شعورنا بأنفسنا واقعاً هو العلم، هو علم اليقين. هم يدعوننا إلى هذه المرحلة، يقولون اذهب واحصل على علم اليقين، فلا داعي للذهاب وراء الدواء والعلاج، اسع إلى علم اليقين ولا داعي للطبيب ولا للعلاج، لأنّك عندما تصل إلى علم اليقين تصل إلى الطبيب، وهو يوجب لك العلاج. أريد أن أقول واقعاً بأنّ الذهاب إلى الطبيب إنّما هو لأجل تشخيص الوجع.. فأحياناً يشعر الإنسان بوجع ويراجع الطبيب، فيسأله الطبيب أين الوجع؟ فيقول له مثلاً في جهة اليمين، فيقول له الطبيب مثلاً أنت مريض بالكبد، وإذا قال في جهة اليسار، سيقول له مرضك هو الطحال، وإذا قال في الوسط سيقول له المعدة. وقد يقول له لديّ ألم ملتفّ في المعدة.. إذ قد يحصل له ألم في المعدة ولا يمكن تشخيص سببه؛ إذ قد يكون عبارة عن التهاب الزائدة الدودية أو مشكلة في الكبد.. فإذا كان الأمر ملتبساً بسبب الألم العام فلا بد أن يراجع الطبيب ويسأله الطبيب عن مكان وجعه، ويشخصه له، ثم بعد ذلك يبدأ بإعطائه العلاج. نحن من هذا القبيل، فلا نعلم أين هو ألمنا! ولو كنا نعرف أين هو الوجع لسهل علاجه {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}، لو كنت تعلم علم اليقين لوصلت ولما وقعت في التخيّل، ولما استطاع أحد أن يخدعك أو يغويك، لذا على الإنسان أن يكون محكماً.
قصّة الصوفي والحمار المذكورة في كتاب مثنوي لمولانا
هل قرأتم هذه القصة؟ ينبغي أن تقرأوها، فما أنقله لكم في هذه الجلسات من أمور ومسائل، أسعى دائماً أن أنقل المطالب التي سمعتها من المرحوم العلامة، مع أدنى تصرّف مني.
من المسائل المهمة التي كان يذكرها في حياته للرفقاء ويذكّرهم بها هي قصّة (خر برفت) التي ذكرت في المثنوي۱، وهي تشتمل على نكات هامة:
مر مرا تقليدشان بر باد داد | *** | ................... |
كان درويش مارّاً من مكان ليلاً وشاهد منزلاً مضيئاً، وكان جوعاناً ومتعباً، فذهب إليه وأوكل حماره لأحد الأشخاص هناك لحراسته ودخل وجلس، ورأى أنّ هناك مجلساً الكل جالسون، لكن لا وجود للمائدة والطعام، وكان الحاضرون من الدراويش الفقراء مثله لا يملكون شيئاً، ينتظرون أمراً، والحاصل أنّهم عندما علموا بأمر الرجل وحماره أخبروا كبيرهم بأنّ حمار الرجل مع أحدهم. فقال لهم: اذهبوا واستميلوه وبجّلوه وأكثروا من احترامه، وقولوا له لو لم تأت إلى مجلسنا لما كان له معنى، وأنت رئيسنا وكذا وكذا.. نسأل الله أن يحفظنا من هذه الأمور، والحاصل أنّهم أحاطوا به، وتحدّثوا إليه.
صوفيانش نيك بنواختند | *** | نرد خدمتهاش بگذاشتند |
(بدأ الدراويش يهتمون به جيداً، ويتقرّبون منه في خدمته)
فبدأوا بخدمته وإظهار محبتهم له واحترامهم إياه..
آن يكي پايش هي ماليد و دست | *** | وآن يكي پرسيد از جاي نشست |
آن يكي كرد افشاند از روي ودست | *** | و آن يكي بوسيد پا و دست |
[أحدهم يدلّك يديه ورجليه، والآخر يسأله عن المكان المناسب لجلوسه
هذا يلقي بنفسه عليه، وذاك يقبّل يديه ورجليه]
فبعضهم نزع لباسه وألبسه لباساً آخر أفضل، وبعضهم قبّل يديه، وبعضهم قبّل رأسه ـ كم يفعل تقبيل اليد بالإنسان؟! الله العالم.. إلا أن يكون الشخص قد تجاوز هذه المراحل ـ والحاصل أنّهم فعلوا به ذلك.. وحينما صار لان وفقد عقله من خلال هذا التبجيل والاحترام والسلام والجلوس في صدر المجلس والاستمالة والتعظيم، سلبوا منه قلبه وعقله، عندها ماذا حصل؟ أخذوا حماره وباعوه! ثم شرعوا بالقول: "خر برفت وخر برفت اي بسر" (ليذهب الحمار ليذهب الحمار يا ولد) وكان يقول معهم ذلك! لقد كان في شكّ من تصرّفهم، لكنّهم أعملوا الحيلة والخداع معه باحترامه.. ماذا يقال عن هذا. هذا هو لسان أهل الدنيا، فأهل الدنيا هم هكذا.
تأثير أهل الدنيا بشكل تدريجي على يقين الإنسان وعلمه
يكون هناك شخص له منهج، فيرى أهل الدنيا أنّ منهج هذا الشخص يشكّل خطراً عليهم، يأتون إليه ويقولون له: يا سيدي كلامك عظيم، وعلمك كبير، وأنت أسخى من حاتم الطائي، وكمالك كذا.. يأتون من هذه الجهة ومن تلك الجهة.. يرسل أحدهم له رسالة يفديه بها وآخر يقدّم نفسه له وثالث كذا.. وشيئاً فشيئاً يرى في نفسه شيئاً من اللين، لقد لان بمقدار خمس درجات، ثم يستمرّون معه على هذا المنوال؛ فهذا يقول له تفضّل سيدي، فلا قيمة لمجلسنا من دون حضورك، ثم يقفون صفين من هذه الجهة ومن تلك الجهة.. كلّ من هذه الأمور عبارة رمح، عبارة عن سهم من سهام إبليس! ثم شيئاً فشيئاً يتبدّل ذلك الشخص الذي كان يقف على أسس محكمة ومتينة، ويحصل له اللين والتضعضع في قلبه، إلى أن يسقط في حبال الخداع، بحيث لا مجال للنهوض بعدها. لم يكن المسكين هكذا من قبل، في البداية لم يكن كذلك، لكن الذي كان يفتقده هو الصلابة والمتانة، كان ينبغي أن يكون لديه القوى الجاذبة والدافعة كلاهما! فهو يفتقد الذكاء الذي يمكّنه من إدراك المسألة كما هي، لذا يحيطون به شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى العمل بما يريده هؤلاء، عجباً! يرى الإنسان أنّ هذا الرجل كان في العام الماضي يقول هذا الكلام! والآن يفعل هذا! ما الذي جرى؟ لماذا حصل ذلك؟
الذي حصل هو أنّه أتاه اتصال من ذاك المكان وجاءته رسالة من هناك، وحصل له لقاء.. يا عزيزي لقد كنت تقول هذا الكلام سابقاً، كان هذا منهجك ومسارك! فلماذا صرت هكذا؟ في المعاملة كنت تقول لا يصح هذا العمل، ثم يأتون إليه ويذهبون.. وأنتم تعرفون جيداً، والحاصل يرى الإنسان نفسه أنّه يقوم بالمعاملة التي لم يكن يرى شرعيّتها، وأمثال ذلك.. الله يعلم ما الذي يقوم به أهل الدنيا للوصول إلى مطامعهم، وما الحيل التي يفعلونها ليحرفوا الأشخاص عن وجهتهم.
صلابة المرحوم العلامة الطهراني في سلوكه في مسجد القائم
لقد كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه من الأشخاص الذين لم يستطع أحد أن يؤثّر عليه في مساره وممشاه حينما كان في المسجد، وكان يقول ـ وقد قال لي يوماً ذلك وهذه المطالب عبارة عن نصائح يريد بها أن ينبّهنا عن مجريات الأمور ـ كان يقول: يا فلان! لا تنخدع بالناس الذي يأتون ويقبّلون يد الإنسان، ففي كلّ تقبيل يد لهم ألف حاجة، لا يأتي ويقوم بذلك عبثاً، بل لديه ألف حاجة وراء ذلك، يأتون ويحيطون بالإنسان ويهتمّون به، إلى أن يأتي في الغد ويطلب منك أن تحلّل له معاملة ربوية، يأتي لأجل أن يحكم بذلك! هنا على الإنسان أن يلتفت وأن لا ينسى في أي لحظة ذاك الأصل الواقعي والمحوري مهما جاء الناس وذهبوا. في كل كلام يصدر منا، في كل من يأتي إلينا.. علينا أولاً أن نلحظ ذاك الأصل الواقعي، مهما أراد أن يتحدّث. لا أن يبقى ذاك الأصل في خفاء، ويركن الإنسان إلى أي شخص، ماذا يفعل ذلك الشخص؟ يأتي ويضع موطئ قدم عنده، وبما أنّ المكان لا يسع صديقين معاً، فعندما يأتي صديق يرحل الصديق الآخر. لذا إذا أرادوا أن يأخذوك إلى مكان معيّن، فعليك أولاً أن تضع ذاك المحور في ذهنك، ثم تذهب إن شئت.
قصة نقلها المرحوم السيد جمال الدين عن انحراف أحد العلماء بسبب اتباعه أهل الدنيا
نقل يوماً المرحوم العلامة رضوان الله عليه عن المرحوم آية الله العظمى الحاج السيد جمال الدين الگلپايگاني رضوان الله عليه والذي يذكره في كتبه باحترام وتبجيل والإخوان يعرفون ذلك، قال: أتيت يوماً إلى المرحوم السيد جمال الگلپايگاني ونقل لي هذه القضية، وهي أنّ الأشخاص الذين يسيرون في مسير معيّن عليهم أن يكونوا مستقيمين وثابتين في مسيرهم، وينبغي أن لا تؤثّر فيهم الأحداث فتوهن من عزمهم شيئاً فشيئاً إلى أن تسلب تلك الحقيقة منهم وتحلّ محلّها الأمور الاعتبارية. وكان يتحدّث عن هذه المسألة ثم قال لي: سيد محمد حسين، سأنقل لك هذه القصة التي يمكننا أن نأخذها عبرة، قال عندما كنت في مدينة شاهرود طالباً أدرس وأباحث، كان يباحث معي طالب من نفس المدينة، وكان فاضلاً جداً وذكياً ومجدّاً في درسه، وكنا ندرس سوياً لعدة سنوات، إلى أن أتينا سوياً إلى النجف وبقينا ندرس ونتباحث سوياً في النجف، وطبعاً لا بد أنّ درسهم في النجف كان في البحث الخارج. قال أتى يوماً إليّ وقال لي: أريد أن أعود إلى شاهرود مسقط رأسي ومكان عائلتي، لأشتغل بالوعظ والإرشاد، فرأيت أنّه لا ضرورة لعودته إلى شاهرود، لكن عندما رأيت إصراره على العودة همست في أذنه حين خروجه من المنزل وقلت له: اذهب يا رفيقي، ولكن لا تتخلّى عن الله تعالى، قال له هذه العبارة، أو عبارة أخرى: لا تقم بفعل في حياتك يؤدّي إلى ابتعادك عن الله، أو يؤدّي إلى ابتعادك عن الدين.. أو أمثال هذه العبارات، لكن بهذا المعنى. وكان السيد جمال من أهل الرياضة والسلوك وهذه الأمور، وكان لديه نور باطني، فأراد أن ينبّهه على أمر معيّن. ثم قال: بعد ذلك كان يصلني منه رسائل بشكل دوري وأرسل له أيضاً، وبعد مدّة انقطعت الرسائل منه. وبعد مضي سنين على هذه القضية، وكنت أتعجّب بأنّه كيف لم يرسل لي رسالة طوال هذه المدة! وفي يوم من الأيام أتاني شخص بعد الظهر وقال لي هناك رجل يريد أن يراك، فقلت له ماذا؟ فقال هناك رجل كبير السن وحليق اللحية على رأسه قبعة وفي يده عصا طلب رؤيتك، فقلت له أصعده إلى الأعلى، فصعد، وعندما دخل رأيت كأنّ خنزيراً دخل عليّ، دقّقت النظر فيه فرأيته ذاك الطالب الذي كنت أدرس وأتباحث معه، كان يلبس البنطلون والسترة حليق اللحية واضعاً قبعة مستديرة على رأسه وحاملاً عصا بيده وقال: سلام عليكم! وعندما عرفته قلت له قبّح الله وجهك، ما هذا الشكل؟ ثم جلس ـ هذه الأمور من العبر لنا واقعاً ـ وعندما جلس قلت له: لماذا فعلت بنفسك هكذا؟! ما هذا الوضع الذي أنت فيه؟ فقال لي: يا رفيقي القصة طويلة جداً، وأنا صرت من أهل جهنّم. على كل حال، لقد بدأت قصتي من حين رجوعي من النجف إلى شاهرود، تولّيت القضاء في المدينة، وصرت قاضي القضاة فيها ومشهوراً عند الناس، وصرت الحاكم الشرعي للمدينة، وكان الناس يرجعون إليّ في أمورهم. والحاصل أنّ حاكم تلك المدينة لم يستطع أن يرى مجتهداً رجع من النجف مبسوط اليد ولديه هذه الإمكانات، فلا يمكن أن يستمر على هذا الوضع، فجعله هدفاً له. وفي يوم من الأيام، قيل له سيأتي الحاكم ليراك، وقال: إلى ذلك الوقت كنت آمر وأنهى وأقف في وجه أفعاله المخالفة للشرع وكنت أعطّل بعض مجالسه المخالفة وأؤلّب الناس عليه.. فأتى الحاكم وبعض الأشخاص ومعه الهدايا الثمينة كالسجاد الفاخر وأمثال ذلك، وقال له لم نر مثلك في غزارة العلم والمعرفة، ولم نر مثلك في التقوى وغير ذلك، والحاصل أنّه بدأ بالمديح بأمثال ذلك، وبقي يتحدّث بمثل هذه الأمور عنده لساعة، ثم قال له نحن نريد أن نكون في خدمتك وتحت أمرك، وننفذ ما تريده وتطلبه منّا. وكنت فرحاً بما حصل، فقد جاء الحاكم إلى منزلي، وأضيف إلى شأني شأن كبير ومكانة أخرى، وبعد أسبوع أرسل لي بأنّ الحاكم يريد زيارتك في المنزل، عندها استعددت أكثر لاستقباله، فأتى وانتهت زيارته بخير وسلام. وبعد ذلك قرّر أن يدعوني إليه، فلبّيت الدعوة، وكان مجلسه غاصّاً بالأعيان والوجهاء، وكان الجميع يرحّب بي ويحترمني. وفي أواخر الدعوة رأيت بأنّ هناك تهامساً بين هذا وذاك، وسمعت بأنّه لا ينبغي أن نفعل ذلك أمام الشيخ فهذا خلاف الاحترام له، فسألت ماذا هناك؟ فقيل يريدون أن يأتوا بالخمر ويشربوا، ولكنّهم اختلفوا بسبب وجودك بينهم، فغضبت وتأثّرت لذلك، وخرجت من المجلس غاضباً. لكن في النهاية استمر هؤلاء بأفعالهم.. من ذهاب وإياب وتردّد عليّ. ثم قال: بعد مدة من ذلك المجلس جاءني الحاكم معتذراً عما صدر، متذرعاً بأنّ ما حصل هو عادات عندهم ولم يراعوا الاحترام المطلوب وأمثال ذلك، وفي هذه الأثناء أخرج سنداً لأرض أو منزل ذي قيمة في أحد المناطق الجيدة وقدّمه لي كهدية، ثم مضى. وبعد مدة دعاني للحضور في مجلسه وقال بأنّ الوجهاء يطلبون حضورك، فحضرت مجلسه، وفي نهاية المجلس رأيت التهامس والنجوى فيما بينهم. فقال الحاكم: يا شيخ هؤلاء لا يمكنهم من جهة أن يتركوك لمحبّتهم لك وأنسهم بك، ومن جهة أخرى لديهم كذا.. فأنت لا علاقة لك بهم وبفعلهم، دعهم يفعلون ذلك بهدوء، لا تدع حبّهم إياك تحت قدمك، فلا تكترث بما يفعلونه. وفعلاً طأطأ رأسه وقاموا بتوزيع الخمر بينهم وشرعوا بالشرب، ومضت مدة على هذا الحال ـ حينما يقال بأنّه يحرم الجلوس على مائدة فيها خمر إنّما هو بسبب ذلك ـ وبعد مدة، قيل له هؤلاء متأذون كثيراً لأجلك، إذ لا يصح أن تحضر دائماً مجلسنا ونحن نشرب دونك، لا يمكننا أن نراك محروماً من ذلك (ضحك).. فلماذا وضع الله التوبة؟ فهو أرحم الراحمين، وهو غفّار الذنوب، ومراعاة المؤمن ـ نعم المؤمن [لا هؤلاء] ـ أمر ضروري، واحترام المؤمن، ومحبّته أهم من هذه الأمور..
قصة في كيفية تزيين الشيطان للإنسان عمله وتطبيقه لمداراة المؤمن على حساب المسائل الشرعية
كنت حاضراً في يوم من الأيام في مجلس، وكان المرحوم العلامة حاضراً فيه، وعندما صار وقت صلاة المغرب، ذهب المرحوم العلامة إلى غرفة وصلّى المغرب والعشاء هو وبعض الأصدقاء والرفقاء، لكن بعض المدعوّين بقوا في المجلس، مع أنّهم ملتزمون بإمامة بعض المساجد، ولم يصلّوا أساساً، وأعتقد بأنّ المجلس استمر إلى الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة. وعلى كل حال، كلامنا في أنّه وجّه لهم سؤال لماذا لم تصلّوا في أول الوقت؟ فكان الجواب بأنّ احترام المؤمن أفضل من الصلاة في أول الوقت، انظروا كيف يأتي الشيطان ويتغلّب على العالم، يتغلّب على إمام المسجد! هذه هي النفس، عبثاً يقولون بأنّه مراعاة المؤمن، فأين المؤمن من هذا الفعل؟!
على زمن النبي الأكرم عندما كان يعظ الناس وهو على منبره ويحين وقت صلاة الظهر كان ينزل من المنبر، ولم يكن يقول احترام المؤمن مقدّم على الصلاة في أول الوقت، وينبغي أن أكمل خطبتي ثم أصلّي، بل كان ينزل ويصلّي في أول الوقت ثم يصعد المنبر ويكمل كلامه، هكذا كان.
نقل لي أحد الإخوان وقال: كنت أشارك في مجالس حسينية الإرشاد سابقاً، وكان هناك خطيب معروف جداً في الحسينية، وكان له جاذبية خاصّة في كلامه تجذب الناس، قال: كنت في تلك الجلسة وقت الغروب، وعندما غربت الشمس صلّيت وجلست، وأتى الخطباء.. وكان ذاك الخطيب المعروف حاضراً يستمع لكلام الخطباء إلى أن جاء دوره في الخطابة، فقام وتحدّث لمدة ثلاث ساعات تقريباً، وعندما انتهى من كلامه، كان هناك بطبيعة الحال أسئلة وإجابات، ورأيت أنّه لم يبق إلى نصف الليل أكثر من ربع ساعة، لتصير صلاته قضاء، فتوجّهت إلى الأشخاص المحيطين به ـ وناقل هذه القضية أحد أصدقائنا الشيخ اشكوري ـ وقلت لهم لم يصلِّ الرجل صلاة المغرب والعشاء بعد، دعوه يذهب للصلاة قبل أن ينقضي وقتها! فقال لي شخص كان إلى جانبه: هداية الناس وإرشادهم أوجب من الصلاة! أنظروا إلى هذه المسألة! وبقي من دون صلاة إلى انتهاء الوقت. يعني كيف يمكن للإنسان أن يلعب بدين الله، وكيف للشيطان أن يأتي ويزيّن للإنسان عمله، ويوجّهه بأحسن توجيه؛ فيجعل بسهولة من الصدق كذباً ومن الكذب صدقاً، غاية الأمر أنّه يحتاج إلى شيء من الأمور، لذا على الإنسان أن يلتفت، وأن يعرف مواطن الخطر.
والحاصل، أنّه قال: بعد كثرة إصرار وتوسّل صبّوا لي كأساً وشربته، قال: حينما بلعت هذا الشراب وعبر البلعوم رأيت أنّ شيئاً خرج من قلبي وذهب، لقد ذهب إيماني! قال: شعرت بهذا الأمر تماماً بأنّ شيئاً خرج من قلبي، وبقيت مدّة بعد ذلك، ثم نزعت العمامة والجبّة، وصرت مصداقاً لقول الشاعر:
خواهي نشوي رسوا | *** | همرنگ جماعت شو |
[إذا لم ترد أن تكون مستقيماً، فكن واحداً من الجمع]
فصرت مثلهم وتحمّلت القضاء في المدينة، والآن صرت بهذه الكيفية. ثم قال السيد جمال: سيد محمد حسين! هل عرفت تأثير الأشخاص الذي يحيطون بالإنسان؟ ينبغي عليك الانتباه جيداً!
يأتون بلطائف الحيل، وشيئاً فشيئاً يجتمعون حول الإنسان ويجذبون قلبه ويسيطرون على عقله، وبعد ذلك ماذا يحصل؟
عدم سلامة الدخول في الأمور الدنيوية دون الارتباط بالولاية
لذا كان المرحوم العلامة يقول مراراً: لا يمكن أبداً لأي شخص يشتغل بالأمور الإجرائية الدنيوية دون ارتباطه بمقام الولاية أن يخرج منها بسلام، لا يمكن ذلك أبداً! لماذا؟ لأنّه يؤخذ من حيث لا يشعر ولا يدري. تبدأ المسألة بشكل، ثم تصير بشكل آخر، وشيئاً فشيئاً ذاك الشخص الذي كان يحكم على مسألة بحكم معين بشكل جازم، يصبح بعد سنتين أو ثلاثة من أعوان الظلمة، بل من الظلمة أنفسهم. يا عزيزي أنت كنت تقول هذا الكلام، وكان رأيك في هذه المسألة هو كذا، فما هذا التغيّر؟! هذا بسبب أنّ الإنسان لا يمكنه بالعلم واليقين أن يتحرّك حركة، ولا يمكنه أن يفعل أمراً؛ لأنّ المورد في المقام هو مورد التخيّل لا اليقين.
الوقت ينقضي والمطالب كثيرة، إن شاء الله نترك تتمّة المطالب إلى وقت آخر.
والحاصل أنّ الدرويش عندما التفت إلى نفسه رأى أنّهم قد أخذوا حماره وباعوه، وبقي هو خالياً من كلّ شيء، فذهب إلى الحارس وقال له لماذا لم تحفظ حماري؟ فقال له: لقد جئتك لأخبرك، فرأيت أنّك كنت تصيح أكثر من الآخرين فليذهب الحمار فليذهب الحمار فليذهب الحمار، فقلت أنت راض بذلك، ماذا أفعل؟
مر مرا تقليدشان بر باد داد | *** | كه دو صد لعنت بر اين تقليد باد |
خاصه تقليد اين بي حاصلان | *** | كابرو ريختند از بهر نان |
[لقد جعل التقليدُ الناسَ في مهبّ الرياح، فألف لعنةٍ على هذا التقليد
ولا طائل من هذا التقليد سوى إراقة ماء الوجه طلباً لقرص خبز]
إذا أراد الإنسان أن يقلّد فلا أقل عليه أن يقلّد رجلاً مستقيماً، فإما أن يكون هو من أهل العلم والتشخيص، أو أن يقلّد من هو من أهل العلم، فإن لم يكن لا هذا ولا ذاك كان الله بعونه.
نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا في جميع لحظات حياتنا بالمسير الحقّ الذي هو مورد رضاه.
اللهم صل على محمد وآل محمد