27

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

8528
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالعلم و المعرفة

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

هل للكمال مراتب مختلفة؟ أين يقع ظاهر الشريعة من مراتب الكمال؟ وما هي مراتب انكشاف العلم؟ ما معنى لي مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب؟ وهل هذه الحالة تشمل أمّة النبي أم هي مختصة به؟ ما معنى العلم الإطلاقي الذي لدى النبي صلى الله عليه وآله؟ مواضيع تناولها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة، فضلاً عن مواضيع أخرى أيضاً، كما تناول الكلام عن أهمية شهر رجب وضرورة زيادة المراقبة فيه والصمت والصوم والدعاء وغيرها من الأمور الأخرى.

/۲۰
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

1
  • هو العليم 

  •  

  • السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۷

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

2
  • أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيم‌

  • بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم‌

  • الحمدُ لِلّه ربِّ العالمينَ والصّلاةُ و السّلامُ على سيّد المرسلينَ 

  • وأشرف النبيين‌ محمّدٍ وآلِهِ الطّيبينَ الطّاهرينَ

  • اللهم صل على محمد وآل محمد‌

  • واللعنة على أعدائِهم أجمعين 

  • إلى يوم الدين‌

  • كان من المفترض أن نتحدّث كما جرت عليه العادة في هذه الجلسات حول شرح حديث عنوان البصري، لكن بما أنّنا على أبواب الدخول في الأشهر المباركة رجب وشعبان وشهر رمضان ـ وبالخصوص شهر رجب ـ رأيت أنّه إذا أخّرنا الجلسة إلى الأسبوع القادم قد نحرم ـ بالخصوص أنا ـ من بعض النقاط والأمور التي يوجب التذكيرُ بها الاستفادةَ أكثر من الألطاف والعنايات الإلهية في هذا الشهر المبارك. لذا ينبغي أن نمرّ أولاً مروراً إجمالياً على فقرة من حديث عنوان البصري، ثم نشير إلى بعض فضائل شهر رجب والبرامج التي ينبغي علينا القيام بها.

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: "لَيسَ العِلمُ بِالتّعلُّمِ، إنّما هو نورٌ يقَعُ في قَلبِ مَن يريدُ اللهُ تَباركَ وتَعالى أن يَهْدِيَهُ".

  • لقد أشرنا سابقاً إلى مراتب العلم؛ الظاهرية والباطنية، وقيمة كل مرتبة من مراتب العلم الظاهري، وكيفية نزول العلم من عالم العلم المطلق وصفة العلم الإطلاقي للواجب تعالى التي هي من الأسماء الحسنى الكلية، وكيفية نزول اسم العليم في جميع مظاهر عالم الكثرة الجزئية والمتعيّنة، كل وجود بحسب سعته وظرفيّته. كما تحدّثنا عن مسألة كيف يمكن أن يكون العلم نوراً وموجباً للهداية.

  • وقد أشرنا إلى وجود نقطة باقية في هذه الفقرة، واليوم سنكمل البحث فيها حتى ننهي الكلام في هذه الفقرة، لكي نبدأ في الجلسة القادمة بالحديث عن الفقرة التالية إن شاء الله.

  • التدرّج في بلوغ مراتب الكمال

  • والنقطة هي أنّ القرآن أشار إلى أنّ الوصول إلى مراتب الكمال ـ الذي هو بمعنى تجرّد النفس وقطع علاقتها بعالم الكثرة وميلها إلى العالم الربوبي ـ لا تتحقّق دفعة واحدة، بل بحاجة إلى زمان وطي مراتب ومراحل متعددة. نعم، يمكن أن يطوي شخص هذه المراحل بسرعة أكثر من غيره، وآخر يطويها بسرعة أقل، لكن في نفس الوقت لا بد من العبور من مرحلة إلى مرحلة أخرى للوصول إلى المرحلة الأخيرة وطي جميع المراحل؛ وذلك لاستحالة وجود الطفرة في هذا المسير. مثلاً، الطفل الذي يكون في المدرسة الابتدائية حتى يصل إلى الشهادة الجامعية، لا بد أن ينتهي من المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية ثم يصل إلى الجامعة، أما أن يصل إليها بطفرة مباشرة، بأن ينتقل دفعة واحدة من الابتدائية إلى الجامعة فلن يفهم شيئاً ولن يستفيد أمراً. وهذا الأمر بحاجة إلى وسائل وأدوات. فكما أنّ طي مراحل العلوم الظاهرية بحاجة إلى أدوات ووسائل وشروط واستعداد، كذلك الوصول إلى تلك المراتب بحاجة إلى أدوات ووسائل وشروط. لذا ينبغي على الطفل في المرحلة الابتدائية ـ لكي يصل إلى المراحل العليا ـ أن يكتب فرضه المنزلي ويترك اللعب واللهو ويجلس بجانب أمّه لتعلّمه، حتى يتجاوز تلك المراحل مرحلة بعد أخرى ويصل إلى المرحلة العليا، وكلّما ترقى أكثر كلّما صار تعليمه أصعب. ففي المراحل الأولى لا يلزم الطفل بأمور صعبة ـ التفتوا إلى هذه المسائل، ففيها نقاط مهمة جداً ـ فعندما يطلب منه أن يكتب جملة معيّنة، فإنّها تقبل منه كيفما كانت، حتى لو كانت الأحرف غير متناسقة في الحجم، بل يتم تشجيعه وتشويقه وإعطاؤه علامة كاملة، أما عندما يصل إلى الصف الرابع أو الخامس يدقّق عليه أكثر ويقول له المعلّم لماذا حجم الأحرف غير متناسب ومتّسق، ولماذا لم تراع الدقّة في الكتابة؟! وكذا الأمر في المرحلة المتوسطة، حيث يزداد التشديد عليه وهكذا في المرحلة الثانوية، وعندما يريد الدخول إلى الجامعة عليه أن يصرف تمام وقته في الدرس، إذ لا فائدة في دراسة الجامعة أن يجلس الإنسان ويشاهد التلفاز والخروج مع الأصحاب والسفر واللعب وسائر الأمور، إذ لا يتناسب هذا الأمر مع طالب جامعة مجدّ. نعم، في المراحل الأدنى لا إشكال في هذه الأمور، لكن إذا أراد الإحاطة بجميع المراتب والجوانب فعلاً فعليه أن لا يفارق الكتاب أبداً، ويبتعد عنه كل ما يمكن أن يعيقه عن درسه، وإلا فلن يصل إلى شيء، ولن يصل إلى المراتب العالية كما ينبغي، بل سيبقى في مكانه.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

3
  • تناسب التكليف مع مرتبة كمال الإنسان

  • وكذلك الأمر بالنسبة إلى الله تعالى، فقد كلّف الإنسان بتكاليف مختلفة في مراحله المختلفة، وقد شخّص هذه التكاليف للإنسان واحدة بعد الأخرى؛ 

  • المرتبة الأولى الالتزام بظاهر الشريعة

  • فالمرتبة الأولى هي مرتبة العوام، وفي هذه المرتبة أمر الله تعالى الإنسان أن يلتزم بالأمور الظاهرية فيبتعد عن المحرّمات الظاهرية؛ كالسرقة وشرب الخمر والكذب والأعمال القبيحة، فيكفي الالتزام بذلك للوصول إلى المطلوب، إذ المطلوب هو عدم الدخول في نار جهنّم، وهذا يتحقّق من خلال الالتزام بالأعمال الظاهرية وموافقة الشرع، وشموله بشفاعة الأئمة عليهم السلام والأولياء، فيكون في المرتبة الدنيا من الجنة وهي مرتبة الوصول إلى النعم الحسية لله تعالى في عالم القيامة؛ وهي عبارة عن الفواكه والأطعمة والأشربة مثلاً، أو الحور العين والغلمان والأشجار والأنهار. فيكفي ذلك للوصول إلى هذه المراتب الحسية للنعم، وهذه المرتبة الأولى التي نضع لها مثلاً اسم الدورة الابتدائية، وهي الحدّ الأدنى من القراءة والكتابة ورفع الأميّة، 

  • المرتبة الثانية: انكشاف الصور العلمية للباري تعالى

  • والمرتبة الأعلى هي أنّه يمكن للإنسان أن يستفيد من الصور العلمية للباري تعالى، مع غض النظر عن الجانب الحسي في عالم القيامة، وتلك الصور العلمية غير حسية، بل هي انكشاف حقائق علم الباري بشكل صور؛ كما تنكشف لك الحقائق في عالم الرؤيا بشكل صور لا بجسم ولا حس، وتلتذّ بها وتستفيد منها، بحيث أنّه عندما تستيقظ من النوم تشعر بحالة من الانبساط؛ تشعر بأنّك كنت في حرم الإمام الرضا عليه السلام، والإمام عليه السلام استضافك وبيّن لك أمراً، وكذا عندما ترى أحد الأولياء في المنام.. فعندما تنهض من النوم تشعر بانبساط ولذّة، فحالة الانبساط هذه واللذة التي حصلت لك في المنام ليس لها جهة حسية، بل لديها جهة صورية فقط، فقد رأيت صورة فقط، لكن بما أنّ الإنسان يشعر بلذّة وتلك اللذّة مرتبطة بعالم الخيال للإنسان لا بجسمه وبدنه المادي والعنصري.. باعتبار أنّ الجسم العنصري بجهته المادية يمنع الإنسان من الشعور بالأمر المجرّد. فمثلاً تضع الآن وردة في قبالك، وهي تشتمل على لون أحمر مثلاً أو زهري ولها أوصاف وخصوصيات أخرى، يجعلك تلتذّ بالنظر إليها وشمّها، وهذه اللذّة التي تحصل لك الآن ليست هي انعكاس هذا الشكل والصفات الخاصة بالوردة في دماغك، بل هي مسألة مادية وعنصرية موجودة في عالم الخارج لها جانب مادي وهو عبارة عن أنّ النور الذي يقع على ذاك الشيء الخارجي ويعود إلى عيننا ويدخل القرنية، وبعد تصويره في الشبكية يحصل انفعالات فيزيائية في الخارج.. 

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

4
  • اللذة والابتهاج أمر مجرّد غير مادي

  • وهذه الأمور التي تحصل لها جانب مادي، لا يطلق على هذه الانفعالات اسم اللذّة، ثم تنتقل هذه الصور عبر النقطة الصفراء إلى الدماغ ويحفظها الدماغ عنده. كل من هذه الأمور ليس هو اللذّة، بل هو عبارة عن أمر فيزيائي خارجي فقط. 

  • وكذا الحال في الشم؛ فأنت عندما تشمّ وردة، إنّما يحصل من خلال ما يتطاير منها من الذرّات غير المرئية ويختلط بالهواء، وهذه الذرات لطيفة جداً لدرجة أنّه لا يمكن ملاحظتها لا بالعين ولا بالحس، لكن لو فرضنا أنّه يوجد لدينا وسيلة تمكّننا من قياس هذه الذرات ـ يقال بأنّ بعض الآلات يمكنها أن تقيس بدقة، بحيث أنّه يمكن أن تلاحظ التفاوت بين ميزان الورقة الفارغة والورقة بعد وضع نقطة أو رسم خط عليها ـ فلو وضعت هذه الوردة على هكذا ميزان لرأيت أنّ وزنها يتناقص بشكل دائم، وذلك بسبب تطاير هذه الذرات من الوردة، فترى أنّها بعد مدة ذبلت، وبعدها يبست بشكل كامل.. فالهواء بسبب مجاورته لهذه الذرات عندما تشمّه يصيب الغدد الحساسة في الأنف فتضبط هذه الذرات كما هي وتنقلها إلى الدماغ، فتشعر أنت برائحة معيّنة بهذا الشكل الخاص والجميل قد حصل من هذه الوردة، وهذا الأمر ليس مرتبطاً بالدماغ، بل هو مرتبط بالنفس، والفعل الذي يقوم به الدماغ في هذه الحالة هو كونه واسطة للإنسان؛ بحيث ينقل هذه الأمور الحسية إلى النفس التي هي أمر مجرّد، ويوجِد هذا الارتباط بين النفس وبين الظاهر. واللذة التي تحصل لك من شم هذه الوردة الجميلة ومشاهدتها هي أمر معنوي ومجرّد.

  • وبناء عليه فحتى اللذات الظاهرية التي نحصل عليها في هذه الدنيا؛ من قبيل الطعام وشم الروائح ورؤية المناظر الجميلة وأمثال ذلك، هذه اللذّات الظاهرية لها جانب برزخي ومجرّد، باعتبار أنّ اللذة ليست أمراً مادياً بل هي أمر مجرّد. فالمادة أمر خارجي والوردة أمر خارجي وطبيعة الوردة أمر خارجي، لكن إحساس هذه الطبيعة مختلف عن نفس الطبيعة، وإحساسك شيء والوردة شيء آخر. وبناء عليه، فتلك الجهة لها جانب مجرّد، والأمر المجرّد يرجع إلى النفس لا إلى الظاهر.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

5
  • ما يحصل للإنسان في عالم المنام لا علاقة له بالمادة

  • وأما ما يحصل في المنام، ترى أنّك انتقلت دفعة واحدة إلى الأمام ـ لا علاقة لك ببدنك ـ فالذي يتمثّل لك هو عبارة عن الصورة فقط، وتمثّل هذه الصورة يوجب لك حالة انبساط، بحيث تلاحظ نفسك عندما تستيقظ بأنّ حالتك تختلف عنها ما قبل النوم، ترى أنّ لديك حالة شغف؛ فقد شاهدت في المنام إمام الزمان عليه السلام، أو شاهدت في المنام أمير المؤمنين، أو الولي الفلاني ورأيته يتحدّث معك.. والحال أنّه لم يحصل لك أي أمر ماديّ؛ إذ لم تأكل شيئاً، ولم يحصل لك أمر حسّي في المنام، مع ذلك ترى أنّ هذه الصورة قد أوجبت لك نشاطاً، وحقيقة الأمر هي كذلك؛ لأنّ أصل اللذة ليس أمراً مادياً، يعني أنّه لم يحصل في المنام أمر غير عادي، بل المسألة مسألة طبيعية. فهذه اللّذة في عالم المادة والظاهر هي لذّة مثالية؛ يعني أنّ مثالك هو الذي حصل على اللذّة، وخيالك ومثالك هو الذي تلذّذ هنا، لكنّك تتخيّل أنّ يدك هي التي تلذّذت، فيدك في الواقع عبارة عن لحم وعظام ليس إلا، وتتخيّل بأنّ لسانك الذي يتلذّذ بالأكل، أو أنفك حينما يشم العطور، لكن الأمر ليس كذلك. إذاً فما يحصل في عالم الرؤيا ليس أمراً غير طبيعي، بل هو يحصل ضمن مجراه الخاص به.

  • المرتبة الثالثة: إدراك المعاني من الله بدون وساطة غيره

  • فإذا شاهدت رؤيا في المنام، فعلاوة على ما تراه من صورة وتشعر به من لذّة عند جلوسك إلى هذا العظيم أو هذا الإمام عليه السلام، تشعر بأنّ حالة قد سرت منه إليك، والمسألة في هذه الحالة ليست عبارة عن مجرّد صورة، إذ عندما تنهض من النوم يكون لديك حالة من اللذّة لا يمكن وصفها أساساً؛ يعني أنّ اللذة والشغف الذي حصل لك من إدراك ذاك المعنى قد أوجد فيك حالة لا يمكن أن تتحقّق تلك الحالة بمجرّد رؤية صورة، بل هي مرتبة أعلى بكثير منها، وهذه مراتب مختلفة كثيرة، إلى أن تصل المسألة إلى حدّ لا يمكن بيانها أصلاً.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

6
  • فعندما يقول النبي الأكرم: "لي مع الله حالات لا يسعها ملك مقرّب ولا نبي مرسل"۱، يريد أن يشير إلى هذه المطالب، فحتى جبرائيل وأمثاله والأنبياء المرسلون لا يمكنهم تحمّل هذه الحالات. فما هي هذه الحالة التي يتحدّث عنها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم؟ انتبهوا جيداً! 

  • إفاضة جميع العلوم من خلال جبرائيل

  • فجبرائيل هو الملاك الذي يتنزّل من خلاله العلم من مقامه الإطلاقي إلى جميع العوالم الربوبية والناسوتية وعالم الملك. جبرائيل هو الذي ينزّل العلم في تمام مراتبه المختلفة؛ فحتى هذه العلوم المرتبطة بالمسائل الدنيوية والحياتية تأتي من جهته.. 

  • يقول بعض المخترعين: نحن لا يمكننا أن نقول بأنّ الاختراع والاكتشاف الذي يحصل لدينا بأنّنا نعرف سببه، لكن نقول بأنّه قد تحقّق في وجودنا دفعة واحدة عبر نفحة، وهذه النفحة تسوقنا إلى مطالب أخرى. حسناً من أين أتت هذه النفحة؟ فهذا المخترع الذي يستعمل جميع فكره للوصول إلى المطلوب وإلى هذه النتيجة، أو مثلاً الطبيب المتخصّص الحاذق الذي يفحص أحوال المريض، ويحقّق في هذه الفحوصات والمعاينات التي يراها منه وأمثال ذلك، ومع ذلك لا يمكنه الوصول إلى علاج للمريض في حينها، لكن فجأة تأتيه فكرة ويحصل له نفحة ينطلق منها ليصل إلى معرفة ذاك الأمر المجهول الذي سبّب المرض للمريض. 

  • وهذا الأمر يحصل للجميع وفي جميع الحالات أيضاً؛ هو يحصل للعلماء والفقهاء ولأهل العلم عند استنباط الأحكام الشرعية، فعندما يرجع إلى الروايات المتعارضة ولا يمكنه الجمع بينهما، ويقف حائراً، فجأة يحصل له نفحة يتمكّن من خلالها حل جميع التعارض ويوفّق بين الروايات! ما هي هذه النفحة؟ هذه النفحة في الواقع هي التي ألقاها جبرائيل من مقام العلم وأودعها في قلب الأفراد، وهذا الأمر لا يختلف بين شخص وآخر، من أين أتى هذا الشخص بهذا الحل؟ هل هذا الأمر كان معلوماً لديه سابقاً قبل حصول هذه النفحة؟ حتماً هو مجهول، ولو كان معلوماً سابقاً، فلماذا لم يحصل له الحل قبل تلك النفحة؟ إذاً هو يريد أن يصل إلى حل تلك المعادلة المجهولة له، ولو كان حلّ المعادلة من أول الأمر واضحاً له، لم يكن يستغرق كل هذا التفكير. فحينما يكون في صدد حلّ لهذه المسألة ويحصل له نفحة، ويقول: ها الآن فهمت الأمر! الآن التفتّ! أين كان الفهم قبل هذا؟ فلو كان يعلم لما كان هناك معنى لقوله: "الآن فهمت"! فهذا الأمر هو الذي أتى به جبرائيل، لكن ما يمكننا إدراكه من أنّ الملائكة هم الواسطة الذين يقومون بهذا الأمر هو القليل القليل جداً مما يمكن تصوّره من حقيقة الأمر. وانطلق من هذه المرتبة القليلة إلى أن تصل إلى أعلى مراتب المعرفة الإلهية التي ينزّلها جبرائيل على أنبياء الله وأوليائه، وهي مرتبة لا يمكن تصوّرها أساساً. هذه كلّها تتحقّق من خلال هذا الملك المقرّب، وهذا ما نطلق عليه تنزّل العلم. حسناً، تصوّروا الآن أنّ العلم المطلق للباري تعالى قد تنزّل في ظرف الملاك المقرّب جبرائيل بحيث أنّ تمام العوالم الربوبية تكون تحت مظلّته وتتحقّق من خلاله..

    1. . مرآة العقول، ج ١٥، ص ٤٦٩؛ بحار الأنوار، ج ١٨، ص ٣٦٠.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

7
  • مشاهدة النبي ما عند جبرائيل من إحاطة علمية

  • عندما أتى الوحي إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، وقال له (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)۱، نظر النبي من أين أتى هذا الوحي دفعة واحدة، ومن الذي أرسله إليه؟ ومن الذي ألقى هذه المعاني في قلبه؟ فرأى أنّه جبرائيل الذي فعل ذلك، وعندما فتح جبرائيل جناحيه ـ والمراد بالجناحين ليس الريش الذي للطيور، بل المراد به الإحاطة العلمية والإحاطة الوجودية التي لديه ـ شاهد النبي بأنّ أحد جناحي جبرائيل قد أحاط بقسم من العوالم الإلهية، والجناح الآخر أحاط بتمام العوالم الأخرى، لا فقط الأرض والقمر والتي ليست إلا بمثابة خيط من خيوط بيت العنكبوت أمام العوالم الأخرى. بل تمام عوالم الملائكة والعقول وغيرها، فجميع هذه العوالم تحت قدرة جبرائيل، ولديه إحاطة روحية وإشراف على النفوس المجرّدة والملائكة والجن والإنس وتمام تلك العوالم العلوية؛ لأنّ إشرافه وإحاطته العليّة والعلمية بها يعني أنّه هو الذي يوصل إليها الرزق والعلم، لذا يقول النبي: لقد نظرت فرأيت أنّ هذا الوحي الذي أتاني الآن أين هو فعلاً؟ لا فقط مَن أتاني بهذا الوحي، بل مَن يكون تمامُ العوالم الربوبية للباري تعالى تحت إحاطته وإشرافه العلمي، مثل عندما أنظر الآن إلى يدي، حيث لا يوجد نقطة منها مجهولة عندي، كذلك الأمر بالنسبة إلى جبرائيل، فجميع مراتب الوجود تحت إشرافه. 

  • كون مقام النبي أعلى من مقام جبرائيل

  • حسناً، جبرائيل هذا الذي يتّصف بتمام مراتب العلم هذه والذي ينزل بالوحي على النبي الأكرم وعلى النبي إبراهيم وسائر الأنبياء.. مع ذلك يقول النبي: لي مع الله حالات لا يتحمّلها جبرائيل، ولو وصل إليها لاحترق!

  • اگر ذره اى زين نمط بر پرم فروغ تجلى بسوزد پرم 

  • (يقول: لو تقدّمْتُ أكثر من ذلك مقدار ذرةٍ، لأحَرَقتْ أنوارُ التجلّي رِيشي‌)٢.

  • فعندما يصل جبرائيل إلى هذه المرحلة يعيى عن الكلام؛ يعني أنّ نفس جبرائيل بسعته الوجودية التي هي مقام العلم الإطلاقي للباري تعالى لا تتحمّل ذاك المقام، بينما النبي الأكرم يستطيع ذلك، فجبرائيل في مقام محدودية الذات بحيث لا يمكنه تحمّل ذاك المقام العلمي، ومقام الرزق ومقام الحياة. لكن النبي يمكن أن يتحمّلها؛ لأنّ النبي عندما يقول لي مع الله حالات، يعني أنّ له جانبين: جانب هو السعة الوجودية والسعة الذاتية في مرتبة لا يصل إليها جبرائيل، أي كما أنّ ذات الإنسان أشرف من ذات الحيوان، وذات الحيوان أشرف من ذات النبات والجماد، فهذه الأشرفية هنا بلحاظ الذات، والجانب الآخر هو بلحاظ آثار الذات. فنفس الذات أشرف باعتبار أنّها مشتملة على مرتبة كمالية أعلى من المراتب الدانية، وآثار الذات باعتبار مدركاته وكيفية تعلّقه وإدراكه من المبدأ الفيّاض. 

    1. . سورة العلق، الآية ۱.
    2. . بوستان سعدي، المقدمة، ص ۱٦.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

8
  • فمع غضّ النظر عن ذات رسول الله وعينه الثابتة التي مرتبتها أعلى من مرتبة تعيّن جبرائيل، ومع النظر إلى المرتبة الأدنى، يريد النبي أن يتنزّل أكثر من ذلك، ويقول لي مع الله حالات، يعني من جهة أنّ لي حوارات علمية ومعلومات، هذه العلوم التي تحصل لي في هذه الحالة لا يمكن لجبرائيل مع مقامه العالي في الوحي وجميع المسائل التي تحصل له من الله، لا يمكن أن يحصل له هذا الأمر. ما هو هذا الأمر؟ هو ارتباط ذات النبي الأكرم بالله من دون وساطة الملائكة المقرّبين. وهذا المقام لا يدرك ولا يوصف. 

  • إمكان وصول أمة النبي إلى مرتبة العلم الإطلاقي

  • وبهذه العبارة يريد رسول الله أن يقول لنا أنتم يا أمّتي يمكنكم الوصول إلى هذه النقطة أيضاً. هل التفتم الآن؟!

  • عندما كان المرحوم السيد الحداد في ذاك المجلس في الكاظمية، الذي نقله المرحوم العلامة حيث كان الحديث عن مقام جبرائيل وكيفية عروجه ونزوله على الأنبياء، فقال لهم السيد الحداد ما هذا الكلام الذي تقولونه؟ لماذا نترك الحديث في مجالسنا في خصوص عروج الملائكة المقربين وكيفية نزول جبرائيل، فنحن في مقام لا يمكن لجبرائيل وأمثاله أن يصلوا إليه! السيد الحداد لا يمزح في هذا الكلام، يعني يريد أن يقول لنا بأنّه لدينا جهتان: الجهة الأولى: عندما يجعل الله تعالى فيك استعداداً للوصول إلى هكذا مقام، فلماذا تأتي وتصرف وقتك وعمرك وتمضي مجلسك في الكلام عن تعيّناته تعالى؟ لماذا لا تصرف وقتك وأمورك فيه ذاته، ولماذا لا تتحدّث عن تلك الحقائق المنشعبة عن ذاته بلا واسطة، والتي تجذب الإنسان دفعة واحدة نحوه تعالى وتقطعه عن جميع التعيّنات؟! ولماذا لا تتكلّمون عن الصفات الجمالية والجلالية دون واسطة، وتشتغلون بالتكلّم عن جبرائيل وأمثال جبرائيل؟!

  • والجهة الثانية: يريد أن يقول لنا أنا الذي أجلس هنا ـ أيها البسطاء الذين أضعتم الطريق ـ قد وصلت إلى هذا المقام، فاغتنموا الفرصة! أنا في مقام لا يصل إليه جبرائيل، وأنتم تتحدّثون عن جبرائيل؟! والحال أني أنا الآن جالس بينكم..

  • قصة انصراف تلاميذ السيد القاضي عنه وسعيهم وراء صورته 

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

9
  • ينقل المرحوم العلامة عن الشيخ عباس القوچاني رحمة الله عليه أنّه قال: أتى بعضهم إلى مجلس المرحوم السيد القاضي وكان معه ثماني أو عشر صور مطبوعة للسيد القاضي فقدّمها له، فقام تلامذته وتنازعوا على هذه الصور؛ كل منهم يأخذ صورة ويذهب إلى غرفة.. فضحك السيد القاضي وقال: لقد تركوني وتنازعوا على صوري. هذا الكلام دقيق جداً، فنفس السيد القاضي جالس هنا، وأنتم تذهبون إلى تلك الغرفة للتنازع على صورته! ما هذا؟ هذا الأمر هو تعلّق بالصورة، فهؤلاء السالكون والتلامذة علقوا في الصورة، وأما الذي لم يتركه ويذهب وراء الصورة فيقول: اذهبوا وتنازعوا في الصور، أما أنا فيكفيني صاحب الصورة.

  • قصة مالك بن نويرة حين بشّره النبي بالجنة وطلب أبي بكر وعمر شفاعته

  • نحن فقط من باب ضرب مثال للمسألة ولا نريد أن نشبّها به، فمالك بن نويرة كان من أصحاب رسول الله، وقد أتى إلى قبيلته ورفض تسليم الزكاة للحكومة الغاصبة التي تسلّمت الأمور بعد رسول الله، وقد أصدر أبو بكر قراراً باعتبار كل من لم يدفع الزكاة مرتدّاً، والمرتد ينبغي محاربته، فأرسل جيشاً فقتلوا رجالهم وسبوا نساءهم وفعلوا ذلك بعنوان أنّهم مرتدّون امتنعوا عن دفع الزكاة. والحال أنّهم لم يدفعوا الزكاة بسبب أنّك أتيت وعيّنت نفسك مكان رسول الله وغصبت الخلافة من أمير المؤمنين، لا بسبب ارتدادهم. وعلى كل حال، كان مالك بن نويرة من هؤلاء الأشخاص الذين قتلوا ـ ولا شك أنّ الإخوان يعرفون قصة مالك۱ ـ حيث قام خالد بن الوليد وقتل مالكاً حين صلاته غيلة، وفي نفس تلك الليلة زنا بزوجته. وبعد عودته عفا عنه أبو بكر ولم يعاقبه على قتله وزناه وهو محصن، وقال هذا السيف هو منحة الله لنا.. نعم هذا السيف القاتل والزاني والشارب للخمر صار سيف الله المسلول.. والحاصل أنّ مالك بن نويرة قدم على رسول الله وأعلن إسلامه ـ طبعاً كان قد أسلم سابقاً، ولكنّه أتى وأعلن إسلامه وإسلام قبيلته كلها ـ فسرّ النبي بفعله وأعجب بدينه وأخلاقه وسلوكه، فخرج من عند النبي مع كمال الشغف والمحبة، وقال النبي من كان يريد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل، فأتى إليه عمر وتمسّك به وقال: لقد وعدك النبي بالجنة، فلا تتركنا في ذاك العالم! فقال له مالك لقد تركت من ضمن لي الجنة وأتيت إليّ؟!

    1. . معرفة الإمام، ج ٢، ص ٥٩؛ الفضائل، ابن شاذان، ص ۷٥ ـ ۷٦.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

10
  • حسناً، السيد الحداد يريد أن يقول لنا: لقد وصلنا إلى مقام لا يمكن لجبرائيل أصلاً أن يصل إليه، ولا يقدر على ذلك أساساً. لذا علينا أن نعرف قدر هذا الشخص أن نعرف قدره ونذهب ونضع أقدامنا هناك. فعندما يكون لديه القدرة على المساعدة فعلينا أن لا نتردّد في طلبها منه! وعلينا أن نطلب منه الأعلى. مثل أن يتم تنصيبك لرئاسة بنك ويقال لك يمكنك أن تأخذ من هذه الأموال التي بين يديك ما تريد.. فتأتي أنت وتطلب مليوناً أو عشرة ملايين، فيقال لك: لو طلبت خزانة البنك كله لأعطيتك إياها، ومع ذلك تأتي وتطلب مليون أو عشرة ملايين فقط؟! 

  • تحصيل كل مرتبة من مراتب الكمال بحاجة إلى وسائل وأدوات خاصة بها

  • كلامنا في هذه المسألة، وهي أنّ المراتب العالية بحاجة إلى وسائط، فلا يقال لك بأنّه لأجل الوصول إلى المراتب العالية عليك أن لا تزني ولا تشرب الخمر ولا تسرق ولا تكذب، فهذه الأمور للوصول إلى المرتبة الدنيا. أما المرتبة العالية فالأمر سيكون أصعب وأكثر أهمية.. فحتى الظن السيء بأخيك المؤمن مثلاً، أو أن يحصل لك تخيّل شيء بالنسبة إلى أخيك المؤمن فهذه الأمور مرتبطة بالمراتب الدنيا لا المراتب العالية! المرتبة الأعلى من ذلك هي أن لا يرى الإنسان نفسه أساساً حتى يقدّم نفسه أمام الله تعالى وأمام مشيئته؛ سواء قبل أم لا، بل المطلوب من الإنسان في ذلك العالم هو العبودية المحضة والعبودية الصرفة، وأن لا يرى الإنسان لنفسه شيئاً، وأن يرى العالم حقيقة واحدة والعمل بمقتضى ذلك، وهذه المرتبة عالية جداً. 

  • وعندئذٍ كلّما حصل الإنسان على درجة أعلى كلّما ارتقى أكثر ـ بحسب ما تذكره الآيات القرآنية في ذلك، وكما ذكرت لكم هذا الأمر سابقاً ـ يقول الإمام: "إنّما هو نورٌ يقَعُ في قَلبِ مَن يريدُ اللهُ تَباركَ و تَعالى أن يهديهُ"؛ يعني يجعل في قلبه كيفية الوصول إلى طريق المراتب العالية والتخلّي عن المراتب الدانية.

  • أختتم اليوم الحديث في هذه الفقرة، وإن كان هناك مطالب أخرى حول هذه المسأل، وإن شاء الله نبيّنها كتابة في وقت آخر، وإن شاء الله نبحث في الجلسة القادمة عن الفقرة اللاحقة من حديث عنوان.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

11
  • اهتمام الأولياء بالأشهر الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان

  • نحن على مشارف دخول شهر رجب الحرام، فشهر رجب ـ كما ذكرت لكم سابقاً والجميع يعلمون ذلك ـ كان العظماء يهتمّون به كثيراً؛ حيث إنّ الجلوات والجذبات الإلهية في شهر رجب أكثر منها في سائر الشهور، بما فيها شعبان وشهر رمضان. وقد كان دأب المرحوم العلامة في بداية شهر رجب أن يجمع رفقاءه ويحدّثهم عن خصوصيات هذا الشهر وأهمية المراقبة فيه والأعمال التي ينبغي القيام بها في هذا الشهر، وكان يقرأ عليهم دعاء الإمام الصادق عليه السلام ويترجمه لهم، وذلك لكي يعرف رفقاءه أهمية هذه المسائل والأمور.

  • إذ من جملة الأدعية المأثور قراءتها في كل يوم من رجب هو دعاء الإمام الصادق عليه السلام الوارد أنّه كان يقرأه في كل يوم، وهو مذكور في مفاتيح الجنان۱: "خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرّضون إلا لك.."، خاب يعني خسر، والخائب هو الذي ليس له أمل في الوصول إلى مراده ومطلوبه، ويطلق أيضاً على الذي تخلّف عن القافلة، أو على من يخسر أمراً معيّناً ولا يمكنه أن يتدارك ما خسره.. خاب الوافدون على غيرك.. كل من أتى وتوجّه إلى غيرك فهو خاسر ويده خالية، وليس له أي وسيلة ليتدارك بها ما خسره؛ لأنّ كل ما سواك لا شيء وعدم، وعبارة عن فقاعات لا أكثر. فالذين سعوا إلى سواك وحطّوا رحالهم عند غيرك، والذين سعوا لتحصيل المقام والجاه وتحصيل المال.. هم خائبون. بل حتى الذين سعوا إلى أمور غير مادية؛ وقصدوها دون الله ودون التوجّه إلى التوحيد أولئك يصدق عليهم هذه الفقرة "خاب الوافدون على غيرك"، فالذين يرون أنّ الولاية غير التوحيد، والولاية مرتبة أدنى من التوحيد وينظرون إلى الإمام بنحو مستقل لا كوسيلة إلى الله.. هؤلاء أيضاً حسابهم مختلف عن أولئك الذين يتوجّهون إلى ذات الله تعالى ويرون الإمام وسيلة للوصول إليه.

  • "وخسر المتعرّضون إلا لك"، فكل من جعل اعتباراً لغيرك في علاقاته وتصرّفه هو خاسر.. يشهد الله تعالى أنّ كل خطور يصدر من الإنسان ـ نعم حتى الخطور الذهني ـ يكون خطوراً غير إلهي أو خطوراً مادياً ودنيوياً يكتب على الإنسان. فإذا خطر على بالك بأنّه لا بأس بالتصادق مع هذا الرجل فقد ينفعنا يوماً ما، ولا بأس بأن نسلّم عليه ونفتح علاقات معه، فهذه كلّها مصداق لـ: "خسر المتعرّضون إلا لك"، وسيأتي يوم ويدير لك هذا الصديق ظهره ولا يعود يلتفت إليك، عند ذلك يلتفت الإنسان ويتعجّب! كيف أني بقيت سنتين أسعى وراء هذا الرجل، وبعد ذلك يتركني ويذهب بسبب أمر واهي!؟ هذا الانزعاج لا يحصل للإنسان بسبب أنّ هذا الرجل تركه وذهب، بل ينزعج لأجل أنّه خلال هاتين السنتين كان قد بنى آمالاً على هذا الرجل، وصرف عليه وقتاً، وكان لمدة سنتين يخطّط له أموراً، وفجأة يتركه ويذهب! انزعاجه إنّما هو بسبب ذلك، هذا معنى الخاسر.

    1. . مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص ٣٦٩، مفاتيح الجنان، أعمال شهر رجب.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

12
  • خسران كل من يتوقف في سيره إلى الله

  • حسناً، لو فرضنا أنّ الإنسان صرف سنتين على رجل، لكن دون أن يتعلّق به، فإذا ذهب فلن يتأثر له وينزعج. لماذا لا ينزعج؟ لأنّه لا يوجد تعلّق له في قلبه. صحيح أنّه كان على ارتباط به لكنّ قلبه كان مرتبطاً بشيء آخر وذاك الشيء لا يذهب أبداً، أما إذا ذهب [الله] من قلبه فعليه أن يرفع صوته بالاستغاثة.. لكن في الحقيقة هو لا يذهب، أما غيره فجميعهم يذهب ويرحل.. فكم كان لدينا تعلّق بأشخاص في حياة المرحوم العلامة، وكم كان لدينا ثقة بهم! أين هم الآن؟ جميعهم ذهب ورحل! هذا هو نتيجة "وخسر المتعرّضون إلا لك". قال لنا المرحوم الوالد: لا تتعرّض لهؤلاء! لكن لم نسمع منه. طبعاً كنا نعتقد بأنّ المطلب شيء آخر، وأنّ كلامه هذا لم يكن جدّياً، إلى أن تبيّن لنا حقيقة الأمر بأنّ كلامه كان جاداً، وكان يحذّرنا بجد.. وهذه الأمور كلها عبرة للإنسان.

  • ما ذكرته لكم هو في حدود المطالب المادية والعادية؛ مثل الأفراد العاديين والجار والرفيق والشريك، لكن أريد أن أقول لكم بأنّ المسألة أعلى من ذلك، فحتى الذين هم معكم في السلوك وترونهم رفقاء وأصحاب لكم أيضاً هم غير خارجين عن هذه القاعدة. ألم يكن هناك أشخاص في زمان المرحوم العلامة كنا نعتبرهم سالكين؟ والحال أنّ علاقتنا بهم لم تكن على أساس منفعة مادية! فالمسألة ليست مختصّة بالجار والشريك في الأمور المادية فقط، لكن ما الذي حصل؟ فإن نفس التوجّه إلى هذا الإنسان والركون إليه يعتبر خطأ. 

  • ضرورة الرفيق للسالك بما هو وسيلة لا غاية

  • نعم، لا بد من الرفيق [لكن لا بما غاية بل بما هو وسيلة] يقول حافظ:

  • دريغ ودرد كه تا اين زمان ندانستم كه كيمياى سعادت، رفيق بود رفيق

  • (يقول: إنَّني أتألّم وأتحسّر لأنَّني لم أكن أعلم حتّى هذا الوقت، بأنَّ الرفيق يمثّل إكسير السعادة)

  • هذا لا بد منه! وجميع الكلام الذي فيه تأكيد على ضرورة الرفيق كلّه صحيح، لكن كلامنا في مطلب أكثر دقة وحساسية، وهو أنّ رفيق الطريق الذي يختاره الإنسان إذا كانت نظرتك إليه نظرة استقلال، وقلت في نفسك بأنّي قد وصلت إلى هذا الرفيق لذا لا يهمني شيء آخر بعده، فإذا تعاملت معه على هذا الأساس ترى أنّه يتركك غداً ويذهب.. ما أذكره لكم قد عايناه وجرّبناه فعلاً، ونحن نذكر لكم خلاصة التجربة، فقد مررنا بتمام هذه المسائل والأمور وتجاوزناها. والآن أقول لكم: إذا كان هناك شيء باق لي فهو الله تعالى، وأما غيره فقد ذهبوا كلهم، وعندما كان الأمر يتّضح لي كنت أعرف قيمة كلام المرحوم العلامة أكثر..

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

13
  • علاقة العلامة بأستاذه السيد الحداد كانت وسيلة وآلة للوصول لا غاية

  • كنت في ليلة في محضر المرحوم العلامة وسألته عن علاقته بالسيد الحداد حيث كان لدي أسئلة في هذا المجال، فقال لي: سيد محسن! لا تتصوّر بأنّ علاقتي بالسيد الحداد كانت بشكل استقلالي، بل كانت علاقتي به آلية ونظرتي إليه نظرة آلة ونظرة وسيلة، نظرة (وابتغوا إليه الوسيلة)۱، فتوجّهي كان نحو شيء آخر. حسناً هذا الكلام صدر من رجل ألّف في حقّ أستاذه كتاب الروح المجرّد، ووصفه في هذا الكتاب بأعلى ما يمكن أن يوصف شخص، ومدحه بأعلى ما يمكن أن يمدح إنسان، والأمر كذلك حقاً. فالسيد الحداد كان كل شيء بالنسبة إلى المرحوم العلامة، فقد كان السيد الحداد مستحوذاً على تمام وجود العلامة؛ بحيث أنّه كان يذكره عند جلوسه وقيامه ونومه وقيامه، فكان تمام وجوده فانٍ في السيد الحداد، وكان يقول مراراً: أنا صفر أمام السيد الحداد! ولم يكن يمازح في كلامه هذا، كان يقول ذلك واقعاً! 

  • حسناً مع جميع هذه الأوصاف والأحوال هناك نقطة باطنية وسرّية جداً لم يكن يقولها لأحد قالها لي تلك الليلة، وهي أنّ كل ما تراه من أمور ومن علاقة به كان توجهنا نحو شيء آخر، وكنا نعتبره وسيلة فقط، ونفس السيد الحداد كان يريد هذا الأمر من تلميذه، لو لم يكن يريد ذلك لما جعله موضع سرّه. لكن بما أنّه رأى من تلميذه هذا الاستعداد وهذه القابلية لحمل هذا السرّ قبله كتلميذ عنده. لا أنّ السيد الحداد قال له عليك أن تقبلني أولاً كأستاذ، فأنا تحمّلت كل هذه الأمور لأجلك، وفعلت ما فعلت لك، ومع ذلك تجعل موضع اهتمامك في شيء آخر؟! هل هذا شكر اهتمامي بك كل هذه السنوات؟!لا! بل إن نفس العلامة الطهراني بقي عمراً يسعى ويعمل حتى وصل إلى هذه المرتبة، فالعلامة لم يكن من أول أمره كذلك، بل بقي عمراً يسعى ويعمل إلى أن وصل إلى الشعور في داخله ووجدانه بأنّ السيد الحداد أيضاً ليس إلا وسيلة وآلة، ولو أراد السيد الحداد أن يوصل العلامة إلى الشعور بأنّه هو الذي أوصله إلى هذه الأمور فسيكون ذلك أول الشرك، والحال أنّ السيد الحداد لا يدعو تلاميذه إلى ذلك أبداً.

    1. . سورة المائدة، من الآية ٣٥.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

14
  • النبي والإمام لم يدعوا الناس إليهم باستقلال

  • الإمام الحسين عليه السلام لا يدعو أصحابه إلى هذا الشعور، وكذا النبي.. وقد ورد في القرآن (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل‌)۱، وأيضاً نقول في التشهد: "أشهد أنّ محمداً عبده ورسوله"، فجميع هذه الآيات والروايات تريد أن تبيّن لنا أساس الأمر وخلاصته، فالنبي مع كل ما لديه من معاجز وتصرّفات وشق القمر وو، ما هو إلا رسول من قبلي، أنا الذي أفعل كل شيء، وأنا الذي أرسلت النبي وجعلته عبدي الصالح. وهذه الحقيقة يبيّنها الله تعالى في القرآن من أوله إلى آخره. يعني أنّ ستة آلاف وستمائة آية ونيّف والتي تتحدّث عن المعاد والمبدأ والأخلاق والدين والاجتماعيات والفقه والمعاملات.. جميعها تشير إلى هذه النقطة اللطيفة في القرآن وهي أنّ ما في عالم الوجود هو حقيقة واحدة عبارة عن ذات الباري تعالى، وأما غيره فمخلوق له؛ سواء كان نبياً أو فرداً عادياً، فإن وصلنا إلى هذه النقطة فقد وصلنا إلى رمز القرآن وسر البعثة ورمز الخلافة. وهذا الذي وصل إليه المرحوم العلامة، فقد سألته يوماً: لقد ذكرت في كتابك الروح المجرّد مطالب لم تكن قد ذكرتها حتى لنا، فقال: لقد ذكرت المطالب التي يمكن أن تذكر، فهذه الأمور التي استطعت أن أبيّنها، وهناك الكثير من الأمور التي لم أستطع أن أذكرها. هذا هو منهج الحق، فإذا رأيت أنك تدعو يوماً إلى نفسك فاعلم بأنّك بعيد عن الحق!

  • كان أمير المؤمنين عليه السلام يوماً مع أصحابه، فقال له أحدهم ـ وكان عبداً، وتكلّم معه بشكل غير مؤدّب، لكن أنا أنقلها بشكل لطيف ـ يا علي! أنت كسائر الصحابة، وأنت وسيلة ليس إلا، لا فرق بينك وبين غيرك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "موحد والله"، لم يقل له أمير المؤمنين عليه السلام: أنا خليفة رسول الله، فكيف تقول هذا الكلام، ومن أنت حتى تقول ذلك؟! 

  • إنّ كل ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في حياته من جهاده وحربه وغيرها ليقول لنا بأنّ الواقع هو تعالى! وأما أنا علي وتمام ولدي الذين هم أفضل خلق الله لسنا شيئاً في قباله، نحن صفر مقابله. إن كنّا مع الله فنحن أفضل خلق الله، وإلا فنحن كسائر الناس لا فرق بيننا أبداً. إلهي إن انتسبت إليك أرى نفسي ملكاً وعلى رأسي التاج، وإن انتسبت إلى نفسي أراها تراباً وعلى رأسي التراب.

    1. . سورة آل عمران، من الآية ۱٤٤.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

15
  • بما أنّ الوقت قد انقضى، أشرح سريعاً هذه الفقرات؛ "ضاع الملمّون إلا بك"، يعني كل من ألمّ بغيرك فقد ضاع، "وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك"، كل من طلب غيرك فقد ضُرب بالفقر والفاقة. "بابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرَّاِغِبينَ"، أي أنّ باب رحمتك مشرّع دائماً أمام من يرغب في تنزّل تجلّياتك، "وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطَّالِبِينَ"، يعني أنّ الخير منك مبذول لكل من يطلبه، "وَفَضْلُكَ مُباحٌ لِلْسَّائِلِينَ"، يعني أنّ فضلك مباح لكل من يسألك، "وَنَيْلُكَ مُتاحٌ لِلآمِلِينَ"، أي فضل رحمتك وعطائك ومنّك متاح لمن أمّلك، "وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصاكَ"، وأنت تفيض الرزق والعطاء حتى على من عصاك، "وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ ناواكَ"، إنّك حليم حتى مع أعدائك ومع من نصب الحرب لك، "عادَتُكَ الإِحْسانُ إِلى المُسِيئِينَ، وَسَبِيلُكَ الإِبْقاءُ عَلى المُعْتَدِينَ. اللّهُمَّ فَاهْدِنِي هُدى المُهْتَدِينَ"، هنا يصير المطلب أعمق قليلاً، ويصل الإمام فيه إلى الذروة، ويقول إلهي بما أنّك تتصف بهذه الأوصاف ولديك هذه الخصوصيات فاجعلني ممن هديتهم ولن يضرّك ذلك شيئاً، فعطاؤك شامل للجميع وبابك مفتوح للجميع وحلمك معترض حتى لأعدائك، فخذ بيدي! "وَارْزُقْنِي اجْتِهادَ المُجْتَهِدِينَ"، وما تعطيه المجتهدين من عبادك فأعطني إياه، "وَلا تَجْعَلْنِي مِنَ الغافِلِينَ المُبْعَدِينَ وَاغْفِرْ لِي يَوْمَ الدِّينِ".

  • أهمية المراقبة والصمت في رجب

  • لقد اقترب شهر رجب، وهو شهر مهما زاد الرفقاء فيه من المراقبة يبقى قليلاً، التفتوا إلى هذه الكلمة: مهما زاد فيه الإنسان من المراقبة فهو قليل. وأيضاً الكلام في هذا الشهر غير مناسب، حتى لو كان في الأمور الصحيحة، فالكلام يستهلك من رصيد الإنسان، فعندما يكون لديك حال جيد وتشعر في نفسك بشيء، ثم تتكلّم.. أنا لا أعلم ما هذا الأثر الذي يتركه الكلام، وإن شاء الله سيأتي في الفقرات القادمة من حديث عنوان البصري التعرّض لمسألة كثرة الكلام، وعندها سنتحدّث بشكل مفصّل في ذلك. لكن بشكل عام من المسائل المهمّة جداً والتي كان الأولياء يذكّرون بها كثيراً مسألة قلّة الكلام. فقلّة الكلام توجب بقاء ما يحصل للإنسان من حالات، دون أن يفقدها.. وكلامنا ليس في اللغو واللعب وأمثالها، فأثرها ليس فقط في عدم فقد الإنسان لتلك الحالات، بل إنّه يضيّع ما حصل عليه الإنسان ويسلبه منه، بل كلامنا في خصوص الكلام الصحيح وكلام الحق، فعلى الإنسان أن يقلّل الكلام حتى في الكلام الصحيح، ويختار السكوت. والسكوت أمر عجيب جداً، فهو يوجد في الإنسان ثقلاً ومتانة تستلزم أن تتنزّل على قلبه إفاضات إلهية، لكن ذلك لا يتحقق في حالة الكلام.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

16
  • إن الذين يكثر كلامهم يكون قلبهم مشوشاً وفي حالة اضطراب، بخلاف من يبقى صامتاً، ولقد شاهدنا مثلاً المرحوم العلامة الطباطبائي أو غيره من العظماء، فالمرحوم السيد الحداد حينما كان يجلس في مجلس لا يتكلّم ما لم يسأله أحد سؤالاً، وكذا المرحوم العلامة الطباطبائي حيث كان يجلس لساعة دون أن يتحدّث. 

  • بينما نرى البعض يقول: سيدنا تكلّم! لماذا أنت جالس هكذا بصمت؟ فلنتحدّث عن شيء، عن حرارة الطقس أو ازدحام الشارع أو غلاء الأسعار.. ينبغي أن نتحدّث عن شيء. لكن هؤلاء لديهم اضطراب في أنفسهم، وهذا الاضطراب لا يدع السكون والهدوء يحصل للإنسان. من هنا فالعلاقة مع هؤلاء الأشخاص مضرّ للإنسان، بل ينبغي على الإنسان أن يرتبط بأشخاص حالة الكلام والاضطراب لديهم أقل، وحالة السكون والهدوء لديهم أكثر. ولدينا الكثير من الروايات في هذا الموضوع تفيد بأنّ الملائكة في حالة سكون بخلاف الشياطين ففي حالة اضطراب، وهذه المطالب سنأتي على ذكرها لاحقاً.

  • كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يؤكّد في شهر رجب على الرفقاء أن يقلّلوا قدر الإمكان الكلام مع أصدقائهم، وأن يزيدوا من الذكر، فعندما يكون الإنسان فارغاً يذكر في قلبه ذكر لا إله إلا الله، فبدلاً من الكلام يذكر لا إله إلا الله. هذا أحد برامجه.

  • في شهر رجب ينبغي علينا أن نزيد من المراقبة، وأن نعلم بأنّه إذا لم نقم بذلك فسوف ينقضي هذا الشهر دون أن نعمل شيئاً، ودون أن نحصل على نتائج. فإذا فرضنا أنّ الشخص هو لا يريد الاستفادة أساساً من فضائل شهر رجب، بل يريد أن يعيش كسائر الأشخاص العاديين، فلا داعي لأن نربط أنفسنا به، بل ينبغي علينا أن نعرف بأنّ مكانة كل شخص مختصة به، وإذا فرّطنا بما لدينا فنحن الذين سنندم ولن نستطيع الحصول على فرصة أخرى غيرها، كما أنّ الآخرين لن يتحمّلوا عنا تفريطنا.

  • المؤمن من ينتهز الفرص للوصول إلى الله ولا يربط نفسه بأحد

  • لذا "المؤمن كيّس"۱، والإنسان الذكي هو الذي يعمل على الاستفادة من الفرص والحصول على أفضل النتائج، هذا الذي يقال بأنّه ذكي وحاذق. وإذا كان المفترض بالمؤمن أن يكون كيّساً وذكياً فأولى به أن يكون كذلك في أمر آخرته.

    1. .بحار الأنوار، ج ٦٤، ص ٣۰٦.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

17
  • في يوم من الأيام طلب هارون من بهلول أن يحدّثه عن الزهد قليلاً، فقال له بل أنت الذي ينبغي أن يحدّث عن الزهد! 

  • قال: لماذا؟ 

  • قال: لأنّك أزهد مني، 

  • فقال هارون كيف ذلك؟!

  • قال: أنا زهدت في هذه الدنيا، أما أنت فقد زهدت في الآخرة، وأين الآخرة من الدنيا فأنت مقامك أعلى مني وزهدك أشد من زهدي۱!

  • الإنسان الذكي هو الذي لا يربط نفسه بالآخرين، فلا يقول: لماذا هذا هكذا، ولماذا أنا كذلك؟ كلا يا عزيزي! الآخرون لهم تكليفهم ونحن لنا تكليفنا، وكل منا له حساب خاص. وإذا أردنا أن نربط أنفسنا بالآخرين فاتنا القطار وبئنا بالخسران! لذا علينا أن نسعى للقيام بالفعل الذي يمكننا من خلاله الاستفادة أكثر فأكثر. 

  • أهمية الصوم في شهر رجب

  • من هنا جرى التأكيد كثيراً على المراقبة والصوم في شهر رجب، حتى أنّ مضمون بعض الروايات قد يعتبرها الإنسان مبالغاً فيها. فالصوم في رجب عجيب جداً، يقول الإمام الصادق عليه السلام لسالم في أواخر رجب ـ والرواية موجودة في مفاتيح الجنان٢ ـ كم يوماً صمت من شهر رجب؟ فقال لم أصم شيئاً! قال له الإمام لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم قدره إلا الله! ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه فاتك من المواهب الإلهية والبركات في ارتباطك بالله والقرب منه. لذا ينبغي قدر الإمكان أن يصوم الإنسان في هذا الشهر، ما لم يعرض عليه الضعف، وهكذا كان دأب العظماء هو الصوم قدر الإمكان. وإذا لم يستطع الإنسان الصوم وكان لديه عذر يقرأ كل يوم هذا الذكر مائة مرة: "سُبْحانَ الاِله الجَلِيلِ سُبْحانَ مَنْ لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحَ إِلاّ لَهُ سُبْحانَ الاَعَزِّ الاَكْرَمِ سُبْحانَ مَنْ لَبِسَ العِزُّ وَهُوَ لَهُ أَهْلٌ"٣، فينال به ثواب الصوم.

  • قراءة أدعية رجب التوحيدية

  • ومن الأمور التي جرى التأكيد عليها هي قراءة أدعية شهر رجب، وبالأخص الدعاء الوارد عن إمام الزمان عليه السلام: "اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك..."٤، فهو دعاء عجيب جداً. أذكر أنّ المرحوم العلامة كان يشرح هذه الفقرة من الدعاء في إحدى الليالي في مسجد القائم، وكان يذكر أموراً عجيبة جداً، إلى أن وصل إلى القول بأنّ هذا الدعاء يشير إلى قول النبي: "لي مع الله حالات لا يسعها ملك مقرّب ولا نبي مرسل"٥. والعجيب أنّ جميع أدعية رجب تشتمل على جنبة توحيدية. والأفضل أن يقرأ الإنسان هذه الأدعية في النهار، مثلاً يقرأ أحد هذه الأدعية بعد صلاة الصبح، ويقرأ أحدها بين صلاتي الظهر والعصر، ويقرأ أحدها قبل الغروب وبين صلاتي المغرب والعشاء، وأحدها قبل النوم مثلاً. وهذه الأدعية عجيبة جداً ولها آثار كبيرة في نفس الإنسان. وقد ذكرنا أهمية السكوت كذلك.

    1. . نقلت هذه القصة عن الفضيل بن عياض مع هارون، وبعضهم نقلها عن بعض الملوك والزهاد دون أن يسمي، ولم تنقل هذه القصة عن بهلول. نقل ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه: "قال الرشيد للفضيل بن عياض: ما أزهدك ! قال: أنت يا هارون أزهد مني، لأني زهدت في دنيا فانية، وزهدت في آخرة باقية.(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج ٢، ص ٩۷) 
      أتى رجل بعض الزهاد ، فقال له الزاهد : ما جاء بك ؟ قال : بلغني زهدك ، قال : أفلا أدلك على من هو أزهد مني ؟ قال : من هو ؟ قال : أنت ، قال : كيف ذاك ، قال : لأنك زهدت في الجنة وما أعدّ اللَّه فيها ، وزهدت أنا في الدنيا على فنائها وذمّ اللَّه إياها ، فأنت أزهد مني .(التذكرة الحمدونية، ج ۱، ص ۱٤٩) 
    2. . روى ابن بابويه بسند معتبر عن سالم قال: دخلت على الصادق عليه السلام في رجب وقد بقيت منه أيام، فلما نظر إليّ قال لي: يا سالم، هل صمت في هذا الشهر شَيْئاً؟ قلت: لا والله يا بن رسول الله، فقال لي: فقد فاتك من الثواب مالم يعلم مبلغه إِلاّ الله عز وجل. إن هذا شهر قد فضّله الله وعظّم حرمته وأوجب للصائمين فيه كرامته...
    3. . مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص ۸۱۷. ومفاتيح الجنان، أعمال شهر رجب الحرام.
    4. . مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص ۸۰٣، مفاتيح الجنان، أعمال شهر رجب الحرام.
    5. . بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ٢٤٣: قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: "لي مع اللهِ وقتٌ لا يسعني ملكٌ مقرّب ولا نبيٌّ مرسل."

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

18
  • وبالنسبة إلى قراءة القرآن، فرأي المرحوم العلامة أن يختم القرآن في هذا الشهر ولو لمرة واحدة، فإنّ فيه الكثير من الفضل. 

  • ومن الأمور التي كان يؤكّد عليها هي أعمال ليلة الرغائب المذكورة في مفاتيح الجنان؛ حيث يصوم يوم الخميس ويقوم بالأعمال في أول ليلة جمعة من رجب، وكان يقوم بهذه الأعمال بنفسه عندما كان في مسجد القائم. 

  • أعمال رجب من النعم التي أنعمها الله علينا للوصول إلى الكمال

  • حسناً، أريد أن أطرح هذا السؤال على الرفقاء وعلى نفسي أيضاً: لقد طلب منّا الأئمّة عليهم السلام القيام بهذه الأعمال؛ بأن نصوم ونقرأ هذا الدعاء ونقوم بهذه الأعمال.. فماذا بعد؟ نقول: أولاً لو لم نقرأ هذه الأدعية فماذا سنفعل؟ حتماً سنضيع وقتنا بالنظر هنا وهناك، وبالتالي فلن يكون عبادتنا وصومنا عملاً شاقاً حتى نمنّ به على الإمام أو الأولياء، ونقول لقد قمنا بهذه الأعمال.. كلا يا عزيزي، فبدلاً من التكلّم بكلام فارغ مع صديقك والحديث عن غلاء البنزين ورخص النفط، تأتي وتقرأ دعاء الإمام الصادق عليه السلام. هذا أولاً. 

  • وثانياً: سؤالي هو أنّه إذا التفتنا إلى وجود هكذا مطالب وعلمنا بهذه المقامات وأنّ هناك مقامات كمالية ومعرفية وعد النبي بها ووعدنا بها أمير المؤمنين عليهم الصلاة والسلام: "ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب"۱. فهناك حالات تحصل للأولياء بحيث أنّه لو لم يعيّن الله تعالى لهم وقت موتهم لما بقوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. "وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون"٢، فقد وصل هؤلاء إلى روح اليقين.. فالمطالب التي ذكرها الأئمة عليهم السلام ونقلها لنا الأولياء من وجود مراتب للكمال وأمثال ذلك ـ والتي لا نشك فيها أبداً ـ فلو لم يكن لدينا مثل هذه الأدعية ومثل هذه الأيام، فأي تعاسة ستكون من نصيبنا؟ يعني لو فرضنا أننا من جهة علمنا بوجود هذه المقامات، ومن جهة أخرى لا طريق لنا للوصول إليها، فماذا كنا سنفعل؟ ألم يكن لدينا شعور بأنّ الله ظلمنا؟ ألم نعترض ونقول: إلهي لماذا لم تدلّنا على الطريق الموصل إلى هذه الأمور؟ ألم نكن نقول إلهي تبتلينا بالداء ولا تصف لنا الدواء؟! بل كنا قلنا ذلك! لذا قال الله لنا: تفضل! لقد منحتك هذا الدعاء وأتحت لك الصوم وجعلت لك المراقبة.. ولو لم تكن هذه الأمور موجودة؛ يعني لو لم يأت الإمام الصادق ويذكر لنا هذا الدعاء، ولم يأتنا من النبي هذا الطريق وهذه الشريعة، ولم نعرف أنّ هناك قضيّة وأمراً، ثم أتينا يوم القيامة وشاهدنا هذه الأمور: شاهدنا وجود مراتب جعلها الله تعالى لبعض عباده، ولم يبق لنا في ذلك اليوم غير الحسرة.. ماذا كنا سنقول لله؟ ألم نكن سنقول: لقد ظلمتنا يا رب؟! لماذا أعطيت هذه المقامات للبعض ولم تعطنا نحن ذلك؟! لكن الله تعالى قال لنا من الآن: لقد منحتكم هذا الأمر وهذه الفرضة! فهل ستمنّ على الله بذلك؟!

    1. . نهج البلاغة، الخطبة ۱٩٣.
    2. . المصدر السابق، الحكمة ۱٤۷.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

19
  • لو فرضنا مثلاً أنّ الطبيب أتى إلى منزلك وشخّص لك المرض وأعطاك الدواء، فهل يمكن للمريض أن يمنّ على الطبيب ويقول له لقد أخذت الدواء الذي وصفته لي؟!

  • إذن علينا أن نعرف كم نحن مخطئون في فهم المطلب، فحالتنا أنّنا نقول: سيدنا أتينا وصرنا تلاميذ عند العلامة.. لقد صرت سالكاً.. يا عزيزي لا تأتي، من قال لك تعال..[ضحك]. 

  • تصدي النبي للدعوة والأولياء للتبليغ إنّما هو لأجلنا نحن لا لأجلهم

  • لذا نحن لم نفهم المطلب أساساً، بل الأمر مختلف تماماً عما نحن عليه. وهذا كان دأب العظماء والأولياء، يقول حافظ:

  • من كه ملول گشتمي از نفس فرشتگان قال ومقال عالمي مي كشم از براي تو۱

  • (والمعنى: أنا الذي صرت ملولًا من أنفاس الملائكة، تحمّلت لأجلك كلام الناس جميعاً).

  • هم في عالم آخر، لكنهم أتوا إلى هنا لأجلنا نحن، ومع ذلك نأتي ونقول: يا رسول الله لقد أسلمنا وصرنا من أصحابك! يا رسول الله نحن من شيعة عليّ.. سيقول لنا النبي: [لو ترك الأمر لي] لا أريد أن أنظر إليكم لحظة واحدة.

  • عندما كان المرحوم العلامة في المستشفى قال لي: سيد محمد محسن، لو لم يكن هناك دستور من أستاذي بأنّه لا بد من دوام هذا الطريق واستمراره، لما صرفت ساعة من عمري مع أحد أبداً! قال ذلك بصراحة! وهذا يعني أنّ جميع الأمور التي ترونها مني؛ هذه القضايا والمجالس وهذا الكلام.. فظاهر القضية فقط! أما الأصل فشيء آخر أساساً. أنا إنما أتيت ووضعت نفسي للجميع بسبب دستور أستاذي، ولو كان الأمر لي لكنت تفرّغت لنفسي ولأعمالي ولمصيري، ينبغي عليّ أن أفكر في نفسي ومصيري. 

  • حسناً، الله تعالى يقول لنا لكي أثبت لك أني عادل لست ظالماً لأحد، وليس لدي واسطة لأحد أو رحم مع أحد من عبادي، وأنّه لا فرق عندي بين النبي وغير النبي.. تفضّل! لقد وصفت لك هذا الدواء! والدواء هو المراقبة والصوم وإحياء الليالي والدعاء و...، هذا هو الدواء لا غير. فهذا الرهان وذاك الميدان.

  • إن شاء الله يشدّ الرفقاء همّتهم وينفخون في أنفسهم روح الدراويش ونفس الدراويش ـ كما يعبّر المرحوم العلامة ـ وينظرون إلى التعساء ويفكّرون بهم.

    1. . ديوان حافظ، ۱٩۰، غزل ٤۱۷.

السير الترتيبي لمراتب العلم الإلهي

20
  • نسأل الله تعالى أن لا ينظر إلى قصورنا وتقصيرنا وجهلنا، وأن يعاملنا بلطفه وعنايته، وأن يفيض علينا من سعة مراتبه الربوبية، ويشملنا بالنعم التي منحها لأوليائه إن شاء الله.

  • اللهم صل على محمد وآل محمد