المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الله
التوضيح
أصل هذه الابحاث دورة تفسيريّة جرى فيها المذاكرة والتحرير من الآية المباركة {اللَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} إلى {وَاللَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقد جري البحث والمذاكرة في هذه الأبحاث عن مسألة التوحيد الذاتي والأسمائي والأفعاليّ للذات المقدّسة للحقّ تعالى، وعن كيفيّة نشوء عالم الخلقة، وربط الحادث بالقديم، ونزول نور الوجود في مظاهر الإمكان، وحقيقة الولاية وربط الموجودات بذات الباري تعالى، وعن لقاء الله والوصول إلي ذاته المقدّسة بفناء الوجود المجازي المُعار واندكاكه في الوجود الحقيقيّ المطلق الأصيل.
المُقَدِّمَةُ الاولَى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه حمداً لا حدّ له
و شكراً لا عدّ له
كما تستحقّه ذاته المقدّسة جلّ و علا
الذي خلق الوجود و عالَم الخلق سبباً لتكامل وجود الإنسان
و خلق الإنسان لعبادة ذاته المقدّسة.۱
{وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.٢
و لا يمكن معرفة حقيقة العبادة دون معرفة حقيقة العبوديّة. لذا فإنّ معرفة ذاته سبحانه و تعالى و أسمائه الحسنى و صفاته العليا هي من جملة العلل الغائيّة و النهائيّة لوجود عالم التكوين.
و أمّا الغاية القصوى و الهدف الأعلى من تلك المعرفة، فهي الخضوع و الخشوع للحيّ القيّوم و الاصطباغ بصبغة العبوديّة، و ارتداء لباس الذلّ و المسكنة في مقابل عِزّ كبريائه، و رؤية جميع عوالم الوجود كآية و مرآة
لذات الحقّ، و الخروج من قيود الغرور، و الوصول إلى ذروة الإقرار و الاعتراف بالفَناء و الزوال و الاندكاك في ذات الحقّ المقدّسة:
{وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}.۱
و التحيّات الزاكيات و الصلوات المباركات على الأنبياء العظام و ملائكة الملأ الأعلى، الذين أنقذوا بني البشر من سجن السبُعيّة و البهيميّة و الشيطنة، و ذلك من خلال المساهمة في إيصال الوحي إليهم، و الذين عرّفوهم سُبل معرفة العبوديّة، و جعلوهم قابلين و مستعدّين للاستفادة من جميع المواهب الربّانيّة و المُتَع السبحانيّة. و بالخصوص على سيّد الرسل و هادي السبل و عقل الكلّ، بداية البدايات و نهاية النهايات، سيّدنا محمّد ابن عبد الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و على صنوه و شقيقه و وصيّه و وزيره و صهره و وليّه و أخيه و خليفته، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين السابق في إيمانه، و المتربّع على كرسيّ مقام عزّ ذي الجلال، و ناشر لواء الحمد بيده، و نائل المقام المحمود للشفاعة الكبرى.
و على ذرّيّتهم الطاهرة، الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، لا سيّما مولانا بقيّة الله في الأرضين الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه، الإمام الحيّ، و الواسطة للفيض الإلهيّ، و مُفيض الرحمة و الوجود من العالَم الأعلى و ناشرها على الماهيّات الإمكانيّة، و باسط نور الرحمة الإلهيّة من مقام غيب الغيوب و الكنز المخفيّ، على النفوس العالميّة، كلٌّ حسب قابليّته و استعداده.
{وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}.٢
و منزل خزائن الجود و الرحمة حسب إرادة الحقّ تبارك و تعالى و مشيئته على كلّ ذرّة من ذرّات ماهيّات عالَم الوجود، و موزِّع ذلك عليها كلّ حسب قوّته و ما قُدّرَ له منها.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}.۱
نعم، فمنذ عودة هذا الحقير المسكين من النجف الأشرف في شهر شوّال المكرّم سنة ۱٣۷٦ هـ٢ و حتى هذا التأريخ، و هو شهر ربيع الأوّل من عام ۱٤۰۰ هـ، كان محور البحث الذي دار بيني و بين الأشقّاء و الروحانيّين الأعزّاء و سادة الإيمان، على أساس تفسير اي القرآن و البحث و التنقيب في الروايات الواردة عن المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و كانت في أحايين كثيرة تتّضح مسألة تطابق الآيات القرآنيّة و الأخبار النبويّة مع الحقائق، سواءٌ من ناحية الاستدلال الفكريّ و الذهنيّ، أم من الناحية الوجدانيّة و مشاهدة الضمير، و ذلك باستخدام البحوث الفلسفيّة
و العلميّة من جهة، و المحاورات الذوقيّة و العرفانيّة من جهة أخرى.
و لقد كانت لنا في مرّات عديدة و أوقات مختلفة بحوث خاصّة بمسألة التوحيد و الولاية و المعاد، و تفسير الكثير من الآيات القرآنيّة و العديد من المسائل الفقهيّة و العلميّة.
و مع وجود التفاسير الكثيرة و البالغة أكثر من ثلاثين نوعاً، فقد اعتمدنا أكثر ما اعتمدنا على تفسير «الميزان في تفسير القرآن» تأليف سماحة الاستاذ آية الله العظمى العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ أمدّ الله في ظلاله السامية، و كان ملاذنا في البحث و التدقيق.
و للتفسير المذكور مكانة سامية و مَعَزَّة غالية في نفس الحقير، و إنّه لذو مَعلَم خاصّ و فريد بين التفاسير الأخرى.
و لذا، فقد استقرّ رأينا على تهيئة سلسلة كاملة من التفسير المشار إليه و ذلك باللغة الفارسيّة و بإنشاء سهل و تحرير مُدرَك و سلس، يحوي جميع المواضيع المذكورة فيه، حتى يتسنّى للإخوة الناطقين باللغة الفارسيّة الاستفادة كما يجب و بأقصى ما يمكن من ينابيع «تفسير الميزان».
ثمّ رسا بنا المقام، و لأسباب معيّنة، إلى تأليف رسالة مستقلّة عن كلّ من المواضيع المتعلّقة بالأبحاث العقائديّة و الأحكام التعبديّة و المسائل الأخلاقيّة و الاجتماعيّة، حتى يتمّ بحث كلّ موضوع من تلك المواضيع بتفصيل أكثر و إطناب أوسع، تُستَوفي فيه متعلّقات ذلك الموضوع كافّة، فتزول بذلك كلّ الإشكالات و الشبهات و الأسئلة، و تتّضح جميع جوانب ذلك الموضوع بشكل كامل و وافٍ.
و كان مجموع ما بلغ من تلك الرسائل حتى الآن حوالي مائة رسالة، كرسالة إعجاز القرآن، و إعجاز الأنبياء، و رسالة الشفاعة، و رسالة الولاية، و رسالة الإمامة و الزعامة، و رسالة النبوّة، و رسائل متفرّقة في أحوال و سيرة
الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، و رسالة في البرزخ، و رسالة في القيامة، و رسالة في الحشر و قيام الإنسان عند الله، و رسالة الميزان، و رسالة الصراط، و رسالة العبوديّة في الإسلام، و رسالة الصلاة، و رسالة الوجوبَينِ العَينيّ و التعيينيّ لصلاة الجمعة في جميع الأزمنة، و رسالة الصيام، و رسالة الحجّ، و رسالة الجهاد و الحكومة، و رسالة القرض الحَسن و الربا، و رسالة الملكيّة و طرقها المشروعة و غير المشروعة، و رسالة الحقوق العامّة، و رسالة حقوق المرأة، و غير ذلك من البحوث الدينيّة و العلميّة، و التي هي صُلب ما يحتاج إليها شبابنا في العصر الحاضر و أجيالنا في المستقبل.
لكن، و ممّا يُؤسَف له، لم يُنجَز من تلك الرسائل إلّا النزر اليسير و ذلك لكثرة الشواغل العلميّة و الامور الاجتماعيّة التي كانت تاحيط بي، و التي حالت دون وصولي إلى الهدف المنشود.
إلّا أن العناية الإلهيّة شملتني، فتمكّنتُ من جمع المواضيع القرآنيّة و التفاسير الروائيّة و العلميّة و الاجتماعيّة و التأريخيّة و الأخلاقيّة على شكل سلسلة علميّة سمّيتها «دورة علوم و معارف اسلام» (سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة) بحثتُ فيها تلك المواضيع و وضعتها بين يدي الإخوة الأعزّاء، فلم تَقلّ أهمّيّة عن ذلك الهدف المنشود.
و هذه السلسلة من العلوم، هي من قسم العقائد و تنقسم إلى ثلاثة محاور رئيسة هي: معرفة الله، و معرفة الإمام، و معرفة المعاد، و تعالج ثلاثة مواضيع مهمّة: مسألة التوحيد و الولاية و المعاد.
و أمّا في أقسام الأحكام و المسائل فتشمل أبحاثاً حول القرآن و الصلاة و الصوم و الحجّ و المسجد و الدعاء و الربا و رؤية الهلال في شهر رمضان و لزوم اشتراك الآفاق بالنسبة إلى الدخول في الشهر الجديد، و حول
جهاد و قضاء و حكومة المرأة، و تفسير الآية الكريمة {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} و بعضاً من الأحكام الأخرى و التي تمّ تأليف معظمها، و سيتمّ وضعها بين يدي القرّاء لدراستها و مطالعتها إن شاء الله تعالى. و هذا هو القسم الأوّل من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة «معرفة الله».
و أصل هذه الأبحاث مأخوذ من تفسير الآية المباركة {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، حتى آخر الآية الكريمة {وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
و قد تمّ فيها معالجة مسألة التوحيد الذاتيّ و الأسمائيّ و الأفعاليّ لذات الحقّ المقدّسة، و كيفيّة وجود عالَم الخَلق، و الربط بين الحادث و القديم، و نزول نور الوجود في ظواهر الإمكان، و حقيقة الولاية و ربط الموجودات بذات البارئ تعالى، و لقاء الله و الوصول إلى ذاته المقدّسة بالفَناء و باندكاك الكينونة المجازيّة المُعارة في الوجود المطلق و الكينونة الأصيلة الحقيقيّة.
نسأل الله الربّ الودود و المنّان أن يوفّقنا في إنجاز هذه المهمّة التي نسعى جاهدين في إتمامها، دون أن ندّخر أيّ جهد و وسع في سبيل ذلك، و أن يتقبّل منّا هذا العمل البسيط بكرمه و فضله، و أن يسدّد خطانا بجوده و مَنّه.
"إلَهِي... وَ ألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الَّذِينَ هُمْ بِالبِدَارِ إلَيْكَ يُسَارِعُونَ، وَ بَابَكَ على الدَّوَامِ يَطْرُقُونَ، وَ إيَّاكَ في اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ يَعْبُدُونَ، وَ هُمْ مِنْ هَيْبَتِكَ مُشْفِقُونَ؛ الَّذِينَ صَفَّيْتَ لَهُمُ المَشَارِبَ، وَ بَلَّغْتَهُمُ الرَّغَائِبَ، وَ أنْجَحْتَ لَهُمُ المَطَالِبَ، وَ قَضَيْتَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ المَآرِبَ، وَ مَلأتَ لَهُمْ ضَمَائِرَهُمْ مِنْ حُبِّكَ، وَ رَوَّيْتَهُمْ مِنْ صَافِي شِرْبِكَ؛ فَبِكَ إلى لَذِيذِ مُنَاجَاتِكَ وَصَلُوا، وَ مِنْكَ أقْصَى مَقَاصِدِهِمْ حَصَّلُوا".۱
إلهي! سهّل لنا سبلك حتى لا نرى غيرك و لا نعرف أحداً سواك. و أوصِل ذاتنا و كياننا إلى مقام الفَناء، حتى تنعدم كلّ ذرّة من الأنانيّة و العجب في وجودنا، فنكون عبيداً خالصين مخلصين لك العبوديّة، بمحمّد و آله الطاهرين صلواتك و تسليماتك عليهم أجمعين، و السلام علينا و على عباد الله الصالحين، و الحمد للّه ربّ العالمين.
في تاريخ ربيع المولود سنة ۱٤۰۰ هجريّة
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة و السلام على الرسول الأمين
خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد،
و على الوصيّ غُرّة الدين،
و على أولاده الأماجد الأمجاد الطاهرين،
و اللعنة و الخزي من ربّ العالمين على أعدائهم و
معانديهم و غاصبي حقّهم من الآن إلى يوم الدين.
كما لاحظتم في المقدّمة الاولى، فقد صمّم الحقير في شهر ربيع الأوّل من سنة ۱٤۰۰ هـ على تأليف و كتابة القسم الأوّل من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و هو «معرفة الله»، و نشر أجزائه بالتتابع بحول الله و قوّته، و الشروع في بقيّة أقسام العلوم و المعارف التي ذُكِرت آنفاً، لكنّ الله سبحانه لم يشأ لذلك أن يتمّ.
فوُفِّقْتُ بعد ذلك بشهرين من نفس السنة، اي في يوم السادس و العشرين من شهر جمادي الأولى، بالسفر إلى مدينة مشهد المقدّسة، و تشرّفتُ بتقبيل عتبة الإمام الهُمام، و اكتحَلت عيناي بتراب أقدام زائري ثامن الأئمّة علي بن موسى الرضا عليهما السلام و على آبائهما و أولادهما جميع صلوات الله و ملائكته المقرّبين و أنبيائه المرسلين و عباده الصالحين، من الآن إلى قيام يوم الدين، و ألقيتُ رحال الفاقة على أعتابه المحروسة بالملائكة، متوسّلًا بساحة قدسه و طهارته و علوّ درجاته، معترفاً مذعناً بفقري و عجزي و عدم قدرتي على تحديد صلاحي و فسادي، و عدم معرفتي طريق الحقّ من الباطل، طالباً الشفاعة و العون منه، في أن
يأخذ الله جلّت عظمته و علت آلاؤه بيدي، و أن يُنجّيني من هزائز آخر الزمان و فتنه، و لا يَكلَني إلى نفسي طرفة عين أبداً، و الله المستعان.
فتقبّل مولاي روحي فداه ذلك منّي، و سكبَ لي بعظمته و كرامته كأس رحمته برعايته الدائمة لي على أتمّ وجه و أكمل نحو، و ليس بمقدار استجدائي منه.
و من جملة ما قُدّر بالقلم أمر تأخير خروج سلسلة «معرفة الله» خمس عشرة سنة، و ها هو ذا غرّة شهر ربيع المولود من سنة ألف و أربعمائة و خمسة عشر للهجرة قد طلعت، حيث وُفّقتُ للبدء بذلك، و لا عِلم لي في مقدار ما قدّرته لي روحي من العون و قلمي من القدرة، الله وحده أعلَم!
يقول مَولى الموحّدين و سيّد قلوب العاشقين أمير المؤمنين عليه السلام:
"عَرَفْتُ اللهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ العَزَائِمِ وَ حَلِّ العُقُودِ وَ نَقْضِ الهِمَمِ".۱
خاطب الحقير يوماً استاذنا سماحة العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الزكيّ: كثيراً ما يصمّم الإنسان على فعل الخير، و تتوفّر له الظروف و المسبّبات لإنجاز ذلك، و لم يملك أدنى شكّ في حُسن و خلوص ذلك العمل، فيجدّ في تنفيذ ذلك الفعل، حتى يصل إلى مرحلة الجزم و الإرادة القطعيّة، ثمّ و بدون أيّة علّة و لا سبب، يُثني ذلك الإنسان نفسه عن تنفيذ ذلك العمل و ينصرف
عن إنجازه! و بعد ذلك يعتريه العَجب و تنتابه الدهشة في حصول كلّ ذلك؟! و يتساءل عن منشأ المانع الذي تسبّب في عدوله عن نيّته؟! فلا يصل إلى حلّ و لا يقترب من شاطئ الأمان.
فأجاب الاستاذ على ذلك بجملة واحدة فقط قائلًا: «نعم، هو ما تقول!».
و رُمتُ أنا الحقير في البدء على تأليف سلسلة «معرفة الله» و تقديمها على جميع البحوث العقائديّة، من مبحث «معرفة الإمام» و مبحث «معرفة المعاد» و سائر الأبحاث الفلسفيّة و العرفانيّة و الأخلاقيّة و العلوم و الفقه و التأريخ و التفسير، ذلك بأنّ الله هو الأوّل، و هو المُقدَّم على عالَم الوجود بالتقدّم التكوينيّ، فاستوجب الأمر أن يكون مُقدَّماً كذلك في التأليف. إلّا أن الله لم يشأ و لم يرغب، فقد تمّ خلال مدّة الخمس عشرة سنة هذه بحمده و مَنّه تأليف القسم الخاصّ بـ «معرفة الإمام» في ثمانية عشر جزءاً، و القسم الخاصّ بـ «معرفة المعاد» في عشرة أجزاء، هذا ما يخصّ سلسلة المعارف. و أمّا ما يخصّ سلسلة العلوم في قسم الأخلاق و الحِكمة و العرفان، فقد تمّ تأليف: «رسالة السير و السلوك المنسوبة إلى بحر العلوم» مع مقدّمة و تعليق من قِبَل الحقير، و «رسالة لُبّ اللُّباب في سير و سلوك اولي الألباب»، و كتاب «التوحيد العلميّ و العَينيّ»، و «الشمس الساطعة»، و «الروح المجرّد»، و ما يخصّ قسم البحوث التفسيريّة: «رسالةٌ بديعةٌ» ترجمة «رسالة جديدة»؛ و ما يخصّ قسم البحوث العلميّة و الفقهية: «رسالةٌ حولَ مَسألة رُؤية الهِلال»، و كتاب «وظيفة الفرد المُسلم في إحياء حكومة الإسلام»، و كتاب «ولاية الفقيه في حكومة الإسلام» في أربعة أجزاء، و كتاب «نور ملكوت القرآن» في أربعة أجزاء من سلسلة أنوار الملكوت، و «رسالة مسوّدة القانون الأساسيّ»، و كتاب «نظرة على مقالة
بسط و قبض نظريّة الشريعة للدكتور عبد الكريم سروش»، و «الرسالة النكاحيّة: تحديد النسل ضربة قاصمة لكيان المسلمين»؛ و في قسم الأبحاث التأريخيّة: «لمعاتُ الحسين عليه السلام»، و «الهديّة الغديريّة: رسالتان قاتمة و مشرقة». و قد تمّ طبع و نشر أغلب هذه المؤلَّفات.
و الآن نشرع، بحول الله و قوّته، في كتاب «معرفة الله»؛ {وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إليه انِيبُ}.
البَحْثَانْ الأوَّلُ وَ الثَّانِي: تفسير آية النور
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛۱
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية النور
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ (بل هي في وسط الصحراء تظلّها السماء، تكتسب من الشمس و الهواء و الأرض) يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ (إلى منزل قُربه) مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، (و تلك المشكاة- أو المؤمنون الذين اهتدوا بنور الله تعالى) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.۱
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لـ: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}
قال استاذنا الأعظم العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تفسير هذه الآيات و الآيات التي تليها و الخاصّة بوصف الكافرين:
«تتضمّن الآيات مقايسة بين المؤمنين بحقيقة الإيمان و الكفّار، تميّز المؤمنين منهم بأنّ المؤمنين مهديّون بأعمالهم الصالحة إلى نور من ربّهم يفيدهم معرفة الله سبحانه و يسلك بهم إلى أحسن الجزاء و الفضل من الله تعالى يوم ينكشف عن قلوبهم و أبصارهم الغطاء، و الكفّار لا تسلك بهم أعمالهم إلّا إلى سراب لا حقيقة له، و هم في ظلمات بعضها فوق بعض و لم يجعل الله لهم نوراً فما لهم من نور.
و قد بيّن سبحانه هذه الحقيقة بأنّ له تعالى نوراً عامّاً تستنير به السماوات و الأرض فتظهر به في الوجود بعد ما لم تكن ظاهرة فيه، فمن البيّن أن ظهور شيء بشيء يستدعي كون المُظْهِر ظاهراً بنفسه و (الظَّاهِرُ بِذاتِهِ المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ هُوَ النُّورُ)، فهو تعالى نور يظهر السماوات و الأرض بإشراقه عليها، كما أن الأنوار الحسّيّة تُظْهِر الأجسام الكثيفة للحسّ بإشراقها عليها غير أن ظهور الأشياء بالنور الإلهيّ عين وجودها و ظهور الأجسام الكثيفة بالأنوار الحسّيّة غير أصل وجودها.
و نوراً خاصّاً يستنير به المؤمنون و يهتدون إليه بأعمالهم الصالحة و هو نور المعرفة الذي سيستنير به قلوبهم و أبصارهم يوم تتقلّب فيه القلوب و الأبصار فيهتدون به إلى سعادتهم الخالدة فيشاهدون فيه شهود عيان ما كان في غيب عنهم في الدنيا، و مثّل تعالى هذا النور بمصباح في زجاجة في مشكاة يشتعل من زيت في نهاية الصفاء فتتلألأ الزجاجة كأنّها كوكب درّيّ فتزيد نوراً على نور، و المصباح موضوع في بيوت العبادة التي يسبّح الله فيها رجال من المؤمنين لا تلهيهم عن ذكر ربّهم و عبادته تجارة و لا بيع.
فهذه صفة ما أكرم الله به المؤمنين من نور معرفته المتعقّب للسعادة
الخالدة، و حرّمه على الكافرين و تركهم في ظلمات لا يُبصرون، فخصّ من اشتغل بربّه و أعرض عن عرض الحياة الدنيا بنور من عنده، و الله يفعل ما يشاء له الملك و إليه المصير.
و قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}- إلى آخر الآية.
المشكاة على ما ذكره الراغب و غيره: كُوَّةٌ غَيْرُ نافِذَةٍ و هي ما يتّخذ في جدار البيت من الكوّة لوضع بعض الأثاث كالمصباح و غيره عليه و هو غير الفانوس.
و الدرّيّ: من الكواكب، العظيم الكثير النور، و هو معدود في السماء. و الإيقاد: الإشعال، و الزيت: الدهن المتّخذ من الزيتون.
و قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، النور معروف و هو الذي يظهر به الأجسام الكثيفة لأبصارنا، فالأشياء ظاهرة به و هو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته، فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر. هذا أوّل ما وُضع عليه لفظ النور، ثمّ عُمّم لكلٌّ ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية فعُدّ كلّ من الحواسّ نوراً أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع أو الشمّ و الذوق و اللمس، ثمّ عُمّم لغير المحسوس فعُدّ العقل نوراً يظهر به المعقولات، كلّ ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المُظْهِر لغيره.
و إذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقاً تامّاً للنور، ثمّ لمّا كانت الأشياء الممكنة الوجود إنّما هي موجودة بإيجاد الله تعالى كان هو المصداق الأتمّ للنور، فهناك وجود و نور يتّصف به الأشياء، و هو وجودها و نورها المستعار المأخوذ منه تعالى، و وجود و نور قائم بذاته يوجد و يستنير به الأشياء.
فهو سبحانه نور يظهر به السماوات و الأرض، و هذا هو المراد بقوله:
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، حيث اضيف النور إلى السماوات و الأرض ثمّ حُمل على اسم الجلالة، و على هذا ينبغي أن يُحمل قول من قال: أن المعنى اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، و عمدة الغرض منه أن ليس المراد بالنور النور المستعار القائم بها و هو الوجود الذي يُحمل عليها تعالى اللهُ عَنْ ذَلِك وَ تَقَدَّسَ.
و من ذلك يستفاد أنّه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء، إذ ظهور كلّ شيء لنفسه أو لغيره إنّما هو عن إظهاره تعالى، فهو الظاهر بذاته له قبله، و إلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ}، إذ لا معنى للتسبيح و العلم به و بالصلاة مع الجهل بمن يصلّون له و يسبحونه، فهو نظير قوله:
{وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}، (الآية ٤٤، من السورة ۱۷: الإسراء)، و سيوافيك البحث عنه إن شاء الله.
فقد تحصّل أن المراد بالنور في قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، نوره تعالى من حيث يشرق منه النور العامّ الذي يستنير به كلّ شيء، و هو مساوٍ لوجود كلّ شيء، و ظهوره في نفسه و لغيره و هي الرحمة العامّة.
و قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} يصف تعالى نوره، و إضافة النور إلى الضمير الراجع إليه تعالى- و ظاهره الإضافة اللاميّة- دليل على أن المراد ليس هو وصف النور الذي هو الله، بل النور المستعار الذي يفيضه، و ليس هو النور العامّ المستعار الذي يظهر به كلّ شيء و هو الوجود الذي يستفيضه منه الأشياء و تتّصف به، و الدليل على قوله بعد تتميم المثل: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}، إذ لو كان هو النور العامّ لم يختصّ به شيء دون شيء، بل هو نوره الخاصّ بالمؤمنين بحقيقة الإيمان على ما يفيده الكلام.
و قد نسب تعالى في سائر كلامه إلى نفسه نوراً كما في قوله:
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}. (الآية ۸، من السورة ٦۱: الصفّ)
و قوله: {أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها}. (الآية ۱٢٢، من السورة ٦: الأنعام)
و قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}. (الآية ٢۸، من السورة ٥۷: الحديد)
و قوله: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}. (الآية ٢٢، من السورة ٣٩: الزمر)
و هذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين يستضيئون به في طريقهم إلى ربّهم و هو نور الإيمان و المعرفة.
و ليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم فإنّ الآية تصف حال عامّة المؤمنين قبل نزول القرآن و بعده. على أن هذا النور وصف لهم يتّصفون به كما يشير إليه قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ}. (الآية ۱٩، من السورة ٥۷: الحديد)
و قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا}. (الآية ۸، من السورة ٦٦: التحريم)
و القرآن ليس وصفاً لهم و إن لوحظ باعتبار ما يكشف عنه من المعارف رُجع إلى ما قلناه.
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لقوله تعالى: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
و قوله: {كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ}، المُشَبَّه به مجموع ما ذكر من قوله {كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ}- إلى آخره، لا مجرد المِشْكَاة و إلّا فسد المعني، و هذا كثير في تمثيلات القرآن.
و قوله: {الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}؛ تشبيه الزجاجة بالكوكب الدرّيّ من جهة ازدياد لمعان نور المصباح و شروقه بتركيب الزجاجة على المصباح فتزيد الشعلة بذلك سكوناً من غير اضطراب بتموّج الأهوية و ضرب الرياح، فهي كالكوكب الدرّيّ في تلألؤ نورها و ثبات شروقها.
و قوله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ}؛ خبر بعد خبر للمصباح، اي المصباح يشتعل آخذاً اشتعاله من شجرة مباركة زيتونة، اي أنّه يشتعل من دهن زيت مأخوذ منها، و المراد بكون الشجرة لا شرقيّة و لا غربيّة أنّها ليست نابتة في الجانب الشرقيّ و لا في الجانب الغربيّ حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار و يفيء الظلّ عليها في الطرف الآخر فلا تنضج ثمرتها فلا يصفو الدهن المأخوذ منها فلا تجود الإضاءة، بل هي ضاحية تأخذ من الشمس حظّها طول النهار فيجود دهنها لكمال نضج ثمرتها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ}، فإنّ ظاهر السياق أن المراد به صفاء الدهن و كمال استعداده للاشتعال و أن ذلك متفرِّع على الوصفين: لا شرقيّة و لا غربيّة.
و أمّا قول بعضهم: من أن المراد بقوله: {لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ}، إنّها ليست من شجر الدنيا حتى تنبت إمّا في شرق أو في غرب، و كذا قول آخرين: أن المراد أنّها ليست من شجر شرق المعمورة و لا من شجر غربها، بل من شجر الشام الواقع بين الشرق و الغرب و زيته أفضل الزيت، فغير مفهوم من السياق.
و قوله: {نُورٌ عَلى نُورٍ}؛ خبر لمبتدأ محذوف و هو ضمير راجع إلى نور الزجاجة المفهوم من السياق، و المعنى نور الزجاجة المذكور نور عظيم على نور كذلك، اي في كمال التلمّع.
و المراد من كون النور على النور قيل: هو تضاعف النور لا تعدّده فليس المراد به أنّه نور معيّن أو غير معيّن فوق نور آخر مثله، و لا أنّه مجموع نورين اثنين فقط، بل إنّه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه، و هذا التعبير شائع في الكلام.
و هذا معنى لا يخلو من جودة، و إن كان إرادة التعدّد أيضاً لا تخلو من لطف و دقّة، فإنّ للنور الشارق من المصباح نسبة إليه بالأصالة و الحقيقة و نسبة إلى الزجاجة التي عليه بالاستعارة و المجاز، و يتغاير النور بتغاير النسبتين و يتعدّد بتعدّدهما و إن لم يكن بحسب الحقيقة إلا للمصباح و الزجاجة صفر الكفّ منه، فللزجاجة بالنظر إلى تعدّد النسب نور غير نور المصباح، و هو قائم به و مُستَمَدّ منه.
و هذا الاعتبار جار بعينه في الممثَّل له، فإنّ نور الإيمان و المعرفة نور مستعار مُشرِق على قلوب المؤمنين مقتبس من نوره تعالى قائم به و مستمدّ منه.
فقد تحصّل أن الممثّل له هو نور الله المشرق على قلوب المؤمنين، و المثل هو المشبّه به النور المشرق من زجاجة على مصباح موقد من زيت جيّد صاف و هو موضوع في مشكاة، فإنّ نور المصباح المشرق من الزجاجة و المشكاة تجمعه و تعكسه على المستنيرين به يشرق عليهم في نهاية القوّة و الجودة.
فأخذ المشكاة للدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة و انعكاسه إلى جوّ البيت، و اعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقيّة و لا غربيّة للدلالة على صفاء الدهن و جودته المؤثّر في صفاء النور المُشرِق عن اشتعاله و جودة الضياء على ما يدلّ عليه كون زيته {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ}، و اعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو
كون الزجاجة مستمدّة من نور المصباح في إنارتها.
و قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ}؛ استئناف يعلّل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان و المعرفة و حرمان غيرهم.
فمن المعلوم من السياق أن المراد بقوله: مَنْ يَشاءُ القوم الذين ذكرهم بقوله بعد: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}- إلى آخره، فالمراد بـ {مَنْ يَشاءُ}، المؤمنون بوصف كمال إيمانهم۱.
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لقوله تعالى: وَ يَزِيدَهُم مِن فَضْله
و في تفسيره لـ {وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، قال:
و قوله: {وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}؛ الفضل العطاء، و هذا نصّ في أنّه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، و أوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ}، (الآية ٣٥، من السورة ٥۰: ق)، حيث أن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلّق به مشيّتهم.
و قد دلّ كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاؤون قال تعالى:{أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ}. (الآية ٣٤، من السورة ٣٩: الزمر)
و قال:{أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً ، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ}. (الآيتان ۱٥ و ۱٦، من السورة ٢٥: الفرقان)
و قال: {لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}. (الآية ٣۱، من السورة ۱٦: النحل)
(و عليه، فإنّ المؤمنين وحدهم الذين يُثابون على أعمالهم الصالحة التي تقع تحت إرادتهم و في قبضة مشيّتهم.) فهذا المزيد الذي هو وراء
جزاء الأعمال أمر أعلى و أعظم من أن تتعلّق به مشيّة الإنسان أو يوصل إليه سعيه، و هذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين و يبشّرهم به فأجد التدبّر فيه»۱.
و يستطرد الاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه في بحث فلسفيّ مستقلّ كاشفاً الحقيقة المطلقة لمشيّة البارئ و المتمثّلة بالآية ٤٥، من هذه السورة: {يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، حيث يقول:
«إنّا لا نشكّ في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى و أن كثيراً منها- و خاصّة في المادّيّات- تتوقّف في وجودها على شروط لا تحقّق لها بدونها كالإنسان الذي هو ابن، فإنّ لوجوده توقّفاً على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانيّة و مكانيّة، و إذ كان من الضروريّ كون كلّ ممّا يتوقّف عليه جزء من علّته التامّة كان الواجب تعالى على هذا جزء علّته التامّة لا علّة تامّة وحدها.
نعم، هو بالنسبة إلى مجموع العالم علّة تامّة، إذ لا يتوقّف على شيء غيره، و كذا الصادر الأوّل الذي تتبعه بقيّة أجزاء المجموع، و أمّا سائر أجزاء العالم فإنّه تعالى جزء علّته التامّة ضرورة توقّفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات.
هذا إذا اعتبرنا كلّ واحد من الأجزاء بحياله، ثمّ نسبنا وحده إلى الواجب تعالى.
و هاهنا نظر آخر أدقّ و هو أن الارتباط الوجوديّ الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كلّ شيء و بين علله الممكنة و شروطه و معدّاته يقضي بنوع من الاتّحاد و الاتّصال بينها، فالواحد من الأجزاء ليس مطلقاً منفصلًا، بل هو
في وجوده المتعيّن مقيّد بجميع ما يرتبط به متّصل الهويّة بغيرها.
فالإنسان الابن الذي كنّا نعتبره في المثال المتقدّم بالنظر السابق موجوداً مستقلًّا مطلقاً فنجده متوقّفاً على علل و شروط كثيرة و الواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هويّة مقيّدة بجميع ما كان يعتبر توقّفه عليه من العلل و الشرائط غير الواجب تعالى، فحقيقة زيد مثلًا هو الإنسان ابن فلان و فلانة المتولّد في زمان كذا و مكان كذا المتقدّم عليه كذا و كذا المقارن لوجوده كذا و كذا من الممكنات.
فهذه هي حقيقة زيد مثلًا و من الضروريّ أن ما حقيقته ذلك لا تتوقّف على شيء غير الواجب، فالواجب هو علّته التامّة التي لا توقّف له على غيره، و لا حاجة له إلى غير مشيّته، و قدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة و لا مقيّدة، و هو قوله تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.۱
بحث روائيّ للعلّامة الطباطبائيّ في تفسير آية النور
و قد ذكر الاستاذ العلّامة قدّس الله ترابه في معرض كلامه عن البحث الروائيّ:
«و في التوحيد و قد روي عن الصادق عليه السلام أنّه سُئل عن قول الله عزّ و جلّ: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ}؛ فقال: "هو مثل ضربه الله لنا؛ فَالنَّبِيّ وَ الأئِمَّةُ صَلَوَاتُ الله عليهم مِنْ دِلَالاتِ اللهِ، وَ آيَاتِهِ التي يُهْتَدَي بِهَا إلَى التَّوْحِيدِ وَ مَصَالِحِ الدِّينِ وَ شَرَائِعِ الإسْلَامِ وَ السُّنَنِ وَ الفَرَائِضِ. وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ".
ثمّ قال:
أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق و هو من أفضل
المصاديق و هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و الطاهرون من أهل بيته عليهم السلام، و إلّا فالآية تعمّ بظاهرها غيرهم من الأنبياء عليهم السلام و الأوصياء و الأولياء.
نعم، ليست الآية بعامّة لجميع المؤمنين، لأخذها في وصفهم صفات لا تعمّ الجميع كقوله: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}- إلى آخره.
و في «الدرّ المنثور» أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم في قوله: {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ}؛ قال: "قَلْبُ إبْرَاهِيمَ؛ لَا يَهُودِيّ وَ لَا نَصْرَانِيّ".
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق، و قد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام كما تقدّم.
و فيه أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك و بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم هذه الآية: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟
قال: بُيُوتُ الأنْبِيَاءِ.
فقام إليه أبو بكر فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا البَيْتُ مِنْهَا، لِبَيْتُ على وَ فَاطِمَةَ؟! قَالَ: "نَعَمْ! مِنْ أفَاضِلِهَا"!۱.
نعم، كان ذلك جزءاً من تفسير هذه الآية الشريفة من دُرر كلام سيّدنا الأعظم و سندنا الأقوم سماحة العلّامة الأكرم حشره الله مع المقرّبين و المخلَصين من أنبيائه و أوليائه المُعظَّمين، و الذي تبرّكنا به في هذا الكتاب.
و أمّا تفصيل و شرح المواضيع التي ذكرها العلّامة، و المستفاد من الآيات المذكورة، فهو على النحو التالي:
«الله» اسم جامع للكمال و الجمال و الجلال الربّانيّ، و شامل لجميع الأسماء و الصفات الكلّيّة و الجزئيّة. و لأنّ بحثنا يرتكز على معرفة الله، لا بدّ لنا من البحث و التمحيص في هذه الكلمة المباركة من جميع جهاتها، حتى تنكشف لنا كلّ الامور و الجوانب المتعلّقة بهذه المسألة: من النور البحت للذات و الوجود الصِّرف، حتى نور الأسماء و الصفات الكلّيّة، و عبر مراتب و درجات متفاوتة و مختلفة؛ ثمّ الوصول إلى نور الأسماء و الصفات الجزئيّة، حتى الهيولي المبهمة، و هي المادّة الكثيفة القابلة لعُروض الأجناس و الفصول و الأنواع.
و علينا أن نرى كيفيّة نزول القديم في الحادث، و الكلّيّة في الجزئيّة، و الأنوار المحضة في الأنوار المشوبة بالظُّلمة، و عموماً، الله في اسم الأحديّة و اسم الوحدانيّة.
و أن نرى كيفيّة نزول النور المطلق في شبكات التعيُّن، الواحدة بعد الأخرى و معنى الولاية الكلّيّة و المطلقة و الذي هو واحد و يُعتبر من مختصّات الله سبحانه؟
و للبحث في هذا المقام لا غِنى لنا من استمداد العَون من آية النور المباركة.
نحمد الله عزّ و جلّ على أنّنا أكملنا بحث موضوع الولاية حتى الجزء الخامس من «معرفة الإمام» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة بجميع تفاصيله، بِدءاً من المعنى اللغويّ، و حتى مواطن استخدام هذه الكلمة، و كذا كيفيّة الولاية و مفاد هذه الكلمة و محتواها في الوجود المقدّس لسيّدنا خاتم الرسل و الأنبياء و المقام المقدّس لمولانا أمير المؤمنين و الأئمّة
الطاهرين عليهم جميعاً صلوات الله و سلام أنبيائه المرسلين و ملائكته المقرّبين إلى يوم الدين، و قد تمّ بحث كلّ ذلك بالتمام و الكمال. فاتّضح معنى الولاية التكوينيّة و الولاية التشريعيّة.
لعلّ من أهمّ الأبحاث و المواضيع و مسائل الاصول العقائديّة هو البحث في موضوع الولاية. فمعرفة الوليّ (صاحب الولاية) و الآثار المترتّبة على الوليّ و الولاية، و معرفة كيفيّة موضوع مقام الرحمة، و إفاضة الفيض من قِبَل الربّ الفيّاض في الماهيّات الإمكانيّة بوساطة نفس الوليّ، و الآيات الواردة في القرآن الكريم بهذا الصدد، و الروايات المُسَلَّم بها و الموثوقة و الصحيحة المرويّة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم، كلّ ذلك يُعتَبر من أعظم و أكبر المسائل الاصوليّة.
و لقد بحثنا تفسير و معنى و شأن نزول الآية الشريفة: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ}.۱ و الآثار المترتّبة عليها.
و بحثنا كذلك معنى و محتوى قول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم:
"يَا على! أنْتَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ مِنْ بَعْدِي".
اعتقاد طوائف المسلمين المختلفة في أن الله هو نور السماوات و الأرض
و يا لها من آية مباركة تلك التي ذُكرت في الجزء الثامن عشر من القرآن الكريم: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، فهي آيةٌ تنشر النورَ في القلوب و تُضفي على الفكر الصفاء و النقاء، و تمنح الروح قوّةً و قدرة.
{اللَّهِ}، اسمٌ جامعٌ لصفات الكمال و مُنزّهٌ عن صفات النقص و العَيْب، ينطوي على كلّ صفات الجمال و الجلال، و يمتلك صَرافةً ذاتيّة محضة،
و هو لا متناهٍ في الحياة و العلم و القدرة. هو نور السماوات و الأرض. و لكن، ما معنى كونه نوراً للسماوات و الأرض؟! هل الله سبحانه نورٌ حسيّ، و السماوات و الأرض شيءٌ آخر؟! و هذا النور المحسوس المُشاهَد في السماوات و الأرض هو الله..؟؟ على هذا، ففي غياب السماوات و الأرض و انعدام وجودهما لا وجود للّه كذلك ليكون نوراً للسماوات و الأرض. و عليه فلا وجود للّه إذاً. فما معنى و مُحَصّلة هذا الافتراض في تلك الآية؟!
أو أن معنى {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ} أن اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، فلا هو و لا حقيقته نور، بل مُنَوِّر، اي أن النور الموجود في السماوات و الأرض إنّما هو نور الله، فهو مُنَوِّر.
الوهّابيّون و الحنابلة يعتقدون بجسمانيّة الله تعالى
و قد قال بعض العامّة بالقول الأوّل، في حين ذهب بعض الخاصّة ممّن فتحوا باب التأويل إلى انتخاب المعنى الثاني. فالمجموعة الاولى تعتقد بأنّ الله هو جسم و لا إشكال في كون واقعه نوراً مادّيّاً. و الثانية تعتقد بأنّ الله سبحانه ليس مادّة و لا مادّيّاً، و على هذا فنور السماوات و الأرض الذي هو نورٌ ما دّيّ لا يمكن أن يكون هو الله. لذا، لا محالة من تأويل الآية الشريفة و اعتبار النور بمعنى المُنَوِّر، حتى نخرج من هذا المأزق و هو القول بجسميّة الله سبحانه، ممّا يستلزم الشِّرك و نسبته تعالى إلى المحدوديّة و الإمكان. و أمّا القول بالمنوِّر فلا إشكال فيه، ذلك بأنّ الله هو الخالق و الموجِد لجميع الموجودات المجرّدة و المادّيّة، و خلقته و تنويره للسماوات و الأرض بالنور المادّيّ لا يستلزم الإشكال، فينتج عن ذلك معنى معقول و مقبول.
و الحنابلة (أتباع أحمد بن حنبل) هم الطائفة الوحيدة من بين طوائف المسلمين الذين يقولون بالمعنى الأوّل، و يُصرّون على ذلك. و يؤكّد ابن
تيميّة الحنبليّ أيضاً، على هذا الرأي، و يصرّ عليه بقوله: أن المراد من آيات القرآن في العبارات و الألفاظ المستعملة فيه، هو هذه المعاني المعروفة المادّيّة و الطبيعيّة و الجسمانيّة. و لا يجوز حَمل ألفاظه و كلماته على غير هذه المعاني. و تُصرّ الوهّابيّة (و هم أتباع محمّد بن عبد الوهّاب و يعتقدون بالمذهب الحنبليّ) على المبدأ المذكور و تؤكّد عليه.
يقول الحنابلة: أن المراد من العرش و الكرسيّ و اليد و النور و الاستواء و النزول و مجيء الربّ، و أمثال ذلك ممّا ورد ذِكرهُ في القرآن الكريم و استُخدِمَ في كثير من الآيات، هو هذه المعاني المستعملة و المتعارف عليها، و لا يجوز بأيّ شكل من الاشكال التصرُّف في الآيات المذكورة أو تغييرها، أو حَمل تلك الألفاظ و الكلمات على مَعانٍ أخرى أوسع و أكثر تجرّداً.
و كان ابن تيميّة يقول صراحةً بأنّ المراد من نزول الله هو هذا النزول المُشاهَد و المحسوس. و أن ما رُويَ في الأحاديث النبويّة من نزول الله سبحانه في ليالى الجمعة، يُقصَد به هذا الشكل من النزول.
و قد كان يقول بصريح العبارة حين يعتلي المنبر و يقوم بإلقاء خُطَبِه: أن النزول المراد به هو هذا النزول المعروف، فالله ينزل تماماً كما أنزِل أنا! انظروا، هكذا! فكان ينزل دَرَجةً من على المنبر و يمثّل و يُشَبِّه للناس كيفيّة نزول الله سبحانه بصورة محسوسة.
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، اي أن الله سبحانه هو هذا النور المحسوس.
{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}۱، معناه أن الله جلس و استقرَّ على
عرشه.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ}۱، تعني أن حجم كرسيِّه الذي يجلس عليه و اتّساعه هو بقَدر حجم و اتّساع السماوات و الأرض.
{وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}٢، معناه أن الله سبحانه يأتي في اليوم الآخِر مع ملائكته على شكل صفوفٍ مُتراصّة أو جماعات منظّمة.
و تقول هذه الطائفة كذلك: أن العرش هو بمعنى كرسيّ و عرش السُّلطان و المُلك؛ و كما أن السُّلطان يجلس على كرسيّه و عرشه أثناء حُكمه، و يتّكئُ عليه و يستقرّ فوقه، فإنّ هذه الآية تُفيد معنى أن الله كذلك يجلس و يستقرُّ على كرسيِّه (المناسب في سعته و عظمته له تعالى).
و أن مجلس الله و كرسيّه الذي يستقرّ عليه يوازيان حجم و وسع السماوات و الأرض.
و أن ربّك، يأتي يوم القيامة في صفوف مع ملائكته صفّاً بعد آخر، تماماً كما يتقدّم الناس رافعين أرجُلَهُم من مكان ليضعوها في مكان آخر.
و في تعليقهم على آية {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}٣، يقولون: اي أن الله سبحانه يملك يداً أقوى و أكبر و أعظم و أعلى من سائر الأيدي.
و تعتقد هذه الجماعة كذلك: أن الله لا يمكن رؤيته في الدنيا بحاسّة البصر، إلّا أنّه يمكن رؤيته في الآخرة بهذه العين الباصرة الظاهريّة الحسّيّة التي يملكها البصير. و سيأتي الله بجسم و اذُن و يد و أرجل نحو الناس تماماً كمجيء الفرد العاديّ في الدنيا، و سيجلس على عرشه، تماماً
كالجلوس المتعارف لدينا نحن البشر، كلّ ما في الأمر، أن الله سيبدو أعظم و أكبر و أقوى، لا غير.
معنى النور: الظاهر بذاته، المظهر لغيره
و أمّا حُكماء الإسلام و الفلاسفة اللاهوتيّون العِظام فكلّهم متّفقون على أن الألْفَاظَ إنَّمَا وُضِعَتْ لِلْمَعْنَى العَامِّ. و على هذا فإنّ أيّة كلمة وَضعها الإنسان أو يضعها في المستقبل بأيّ لسان و أيّة لغة، فهي إنّما تُوضَع للمعني العامّ، و ليس لخصوصيّة ذلك المعنى المحدود الحسّيّ و الطبيعيّ و المادّيّ و المُقَيَّد بالزمان أو المكان الفلانيّ.
فإذا أخذنا مثلًا كلمة «مصباح» بنظر الاعتبار، فإنّ هذه الكلمة مصداق للمصباح الموجود في غرفتنا في الليلة الفلانيّة، دون أن يكون لغرفتنا دَخلٌ في ذلك أو أن يكون للّيلة الفلانيّة أثرٌ على معنى المصباح. و لذا فإنّنا نري صِدق هذه الكلمة كذلك على مصباح غرفة صديقنا في ليلة أخرى. و من هنا يتبيَّن أن مفهوم و معنى لفظة «مصباح» لم يكن لهما أثر أو دَخل في خصوصيّة هذا الزمان أو ذاك، أو في خصوصيّة هذا المكان أو غيره، بل يَصدُقان على جميع أنواع المصابيح دون استثناء.
و لذلك فلو أعطينا المفهوم السابق بُعداً آخر أوسع، لشاهدنا أنّه لا دَخلَ هنا مثلًا لكون مِزيَتة المصباح مصنوعة من النحاس أو من البلَّور أو الخَزَف و ما إلى ذلك، بل تُطلَق لفظة مصباح على جميع تلك الأنواع من المصابيح. و إذن، فلا أثر لخصوصيّة المِزيَتة في مفهوم المصباح عموماً.
ففي الأزمنة الاولى كانت لفظة مصباح تَصدُق على كلّ إناء يحتوي على زيت و فيه فتيل و عليه زجاجة تُهيمن على شِدّة و تصاعد شعلته. و لمّا استُبدِلَ الزيت الذي كان يُستخدَم في تلك المصابيح- و كان زيت الخِرْوَع في أغلب الأحيان أو زيت الزيتون- بالنفط المعروف لدينا اليوم، لم يكن ذلك مدعاةً لتغيّر دلالة لفظة مصباح عمّا كانت تعنيه في السابق. و كذلك
الحال مع اختراع المصباح الغازيّ حيث ظلّت تُطلَق عليه لفظة مصباح. و ها نحن اليوم نطلق كلمة مصباح حتى على المصابيح الكهربائيّة المنتشرة في عالمنا الحاضر. و ستظلّ كلمة مصباح تُطلَق على الأشكال الجديدة من المصابيح، و التي قد تُستَحدَث في المستقبل سواء كانت تعمل على الطاقة الكهربائيّة أو كانت قُدْرة الإنارة فيها بشكل لا تُقاس بما نستخدمه في عصرنا الحاضر.
و كلّ ذلك كان و لا يزال دون أدنى تصرُّف أو تدخّل في معنى كلمة مصباح أو المفهوم الموضوع له، فقد استخدمها السابقون و ها هم اللاحقون يستخدمونها كما هي عليه دون تغيّر يُذكَر.
و من هنا يتبيّن لنا أن أيّاً من الخصوصيّات المتفاوتة و الأشكال المختلفة لا دَخل لها و لا أثر على معنى كلمة المصباح و مراده و مفهومه الذي وُضِع له هذا اللفظ منذ بداية وجوده و اختراعه و على اختلاف أشكاله، و لا زال كذلك إلى يومنا هذا.
و المصباح في الحقيقة هو كلّ شيء وُضِعَ في مكان أو حيّز محدود لاستخدامه في إنارة الأشياء و إضاءتها.
و كذا كلمة النور، فهي في أصل لفظتها و وضعها أوّل مرّة لم توضع للإشارة إلى النور الحسّيّ المحسوس بحاسّة الباصرة و حسب. بل أن معنى النور هو ذلك الشيء الذي يكون ظاهراً بنفسه و ذاته، و قادراً على إظهار الأشياء الأخرى.
و أحد مصاديق هذه اللفظة هو النور المحسوس المادّيّ و الظاهريّ، كنور الشمس مثلًا و نور القمر و المصباح، ذلك أن هذه الأنوار لا تحتاج بوجودها و ذاتها إلى مُظهِرٍ لها، فهي ظاهرة بذاتها و نفسها. إنّنا لا نري نور الشمس و لا ضوء القمر بمعيّة أشياء أخرى، بل هي مُنيرة و مُضيئة بذاتها،
و أمّا بالنسبة إلى الأشياء الأخرى، فإنّنا نراها و نتحسّسها بواسطة نور الشمس و ضوء القمر. إنّنا نلاحظ الصحراء و البحر و الجبال و البراري و البساتين و أشياء كثيرة أخرى و نتعامل معها في أوقات مختلفة و أزمان متباينة، و هي لا تَظهر لنا و لا نتمكّن من إدراكها إلّا بواسطة النور، فتصدق هنا المقولة القائلة النُّورُ هُوَ الظَّاهِرُ بِذاتِهِ، المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ، و لهذا فإنّنا نُطلقُ عليه كلمة نور.
و لكنّ كلمة نور لا تقتصر على النور المادّيّ الحسّيّ، فنور الفكر و العقل، و النور النفسيّ و القلبيّ، و نور عالَم الملكوت، و نور الأسماء و الصفات الإلهيّة، و نور الجمال و الجلال، و نور ذات الحقّ تعالى و تقدّس، كلّ ذلك من أمثال النور.
فقد نتكلّم عن فلان قائلين أن له فكراً نورانيّاً، أو عقلًا نورانيّاً، أو نفساً نورانيّة، أو قلباً نورانيّاً، دون أدنى تصرُّف في معنى ما نقصده من إطلاق كلمة النور. و أن أنوار عالَم المثال و عالَم العقل، و نور صفة الجمال أو صفة الجلال للحقّ تعالى هي من الامور المعروفة لدى العرفاء. و أعجب من ذلك كلّه و أوضحه نور ذات الحقّ تعالى.
و عموماً فإنّ أهل العرفان يتعاملون بلفظة النور عند تكلّمهم و تحدّثهم عن الصفات المختلفة للحقّ سبحانه و تعالى، بِدءاً بأوضحها و هو نور القمر و ضوؤه، و انتهاءً بنور الذات السوداء اللون.
و على هذا الأساس و تلك القاعدة فإنّ ذات الله سبحانه نور، لأنّه لا يحتاج في ذاته و نفسه إلى مُنوِّر، و كلّ ما سوى ذلك من العقل الأوّل إلى العقل العاشر، و من أعلى رتبة للاسم و الصفة و حتى أوطئها، كلّها محتاجة إلى نور الله سبحانه.
الله سبحانه هو أصل الوجود، و الموجودات إنّما موجودة بوجوده،
و على هذا فإنّ هويّته هي النور الذي هو الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ المُظْهِرُ لِغَيْرِهِ.
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}، اي أن الله هو أصل وجود السماوات و الأرض، و أصل حقيقتهما و تكوينهما و هو المُوجِدُ لهما.
الله هو الأوّل، و بعده تأتي الموجودات؛ و هو لا يحتاج إلى مُعرِّف، و كلّ الموجودات محتاجة إليه ليُعرّفها؛ هو أصل الوجود و باقي الموجودات موجودة بوجوده؛ هو الظاهر بهُويّته و بقيّة الأشياء ظاهرة بظهوره؛ هو النور، و بقيّة الموجودات مُنوَّرَةٌ بنوره. هو أصل الحقيقة، و بقيّة الموجودات إنّما هي مجاز و عارية.
إن البحث في عموميّة و شموليّة وضع اللفظ للمعني العامّ هو بحث شيِّق. و بحمد الله و حُسنِ توفيقه قد بحثنا بشكل وافٍ في معنى و حقيقة الصراط في المجالس ٥۱ إلى ٥٣، و في معنى و حقيقة الميزان في المجلسينِ ٥٤ و ٥٥ من الجزء الثامن من كتاب «معرفة المعاد» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة.
الموارد التي اطلق فيها لفظ النور في القرآن و الأخبار على الأنوار
كثيرة هي حالات إطلاق لفظة النور في القرآن و الأخبار على الأنوار المعنويّة، و لبيان بعض تلك الحالات نكتفي هنا بذِكْر بعض الأمثلة. فأمّا في القرآن الكريم فقد وردت الآيات التالية:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.۱
ففي هذه الآية الشريفة اطلِقت لفظة النور على الهدى و اطلقت الظُّلمة على الكفر.
{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.۱ هنا اطلِقَت كلمة النور على القرآن الكريم الذي أنزلَه الله على رسوله.
{وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.٢
في هذه الآية شُبِّهت البصيرة بالنور.
{أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ}، (كالغافل الذي قسي قلبه عن ذكر الله تعالى) {فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.٣
و اطلِقت هنا لفظة النور على قبول دين الإسلام و تَبنّيه، في مقابل القاسية قلوبهم و الرافضين له.
الموارد التي اطلق فيها النور في «نهج البلاغة» و الأخبار على النور المعنويّ
و أمّا ما ورد في الأخبار، ففي «نهج البلاغة» قال مولي الموحّدين و أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين:
"وَ نَوَّرَ في قَلْبِهِ اليَقِينُ"٤.
"أحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وَ أمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَ قَوِّهِ بِاليَقِينِ، وَ نَوِّرْهُ بِالحِكْمَةِ، وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَ قَرِّرْهُ بِالفَنَاءِ، وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَيَالِي وَ الأيَّامِ"۱.
"وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي. وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ في الإسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَدِيجَةَ؛ وَ أنَا ثَالِثُهُمَا. أرَى نُورَ الوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ، وَ أشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ"٢.
الأخبار و الروايات الواردة في «أوّل ما خلق الله»
و قد وردت روايات كثيرة عن طريق العامّة و الخاصّة، و كلُّها تؤكِّد على أن أوّل مخلوق خلقه الله سبحانه كان النور. كما ورد أنّه أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الروح و القلم و العقل.
روي العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه، عن ثامن الحُجَج الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال في مجلس للمأمون، في تعليقه على بحث طويل مع عِمران الصابيّ حول بداية الخَلق:
"وَ النُّورُ في هَذَا المَوْضِعِ أوَّلُ فِعْلِ اللهِ الذي هُوَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ"٣.
أوّل ما خلق الله: الحقيقة المحمّديّة
و رُوي في كتاب «عوالى اللئالي» أن النبيّ صلى الله عليه و آله قال:
"أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي"۱.
و في حديث آخر أن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قال:
"أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ"٢.
و روي الصدوق في «الخِصال» بسنده عن سَماعة أنّه قال: كنتُ عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام و عنده جماعة من مواليه فجري ذِكر العقل و الجهل ... حتى قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام:
"إن اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلَقَ العَقْلَ وَ هُوَ أوَّلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ مِنْ نُورِهِ"- إلى آخره.٣
و ورد نظير هذا الكلام في حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام خلال حديث طويل له مع هشام بن الحكم، حيث قال:
"يَا هِشَامُ! أن اللهَ خَلَقَ العَقْلَ وَ هُوَ أوَّلُ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ مِنْ نُورِهِ"٤.
و روي عن عَبادة بن الصامِت قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: "أن أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ. فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ! فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى الأبَدِ"٥.
و عن معاوية بن قُرّة عن أبيه أنّه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه و آله: {ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ}. قَالَ: "لَوْحٌ مِنْ نُورٍ، وَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ، يَجْرِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ".۱
قال عزيز الدين النسفيّ: جاء في الحديث "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ". و جاء في حديث آخر "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ". و في آخر أنّه "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ رُوحِي". و جاء في آخر أيضاً: "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي". و قد وردت أمثال ذلك في كثير من الأحاديث.٢.
و قال في مكان آخر: جاء في حديث نبويّ أنّ: "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ". و ورد كذلك أنّ: "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ". و في حديث آخر أنّ: "أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَرْشُ".
و وردت أحاديث كثيرة بهذا المعني.٣.
و قال الشيخ نجم الدين الرازي: اعلَم أن مبدأ المخلوقات و الموجودات كان الأرواح الإنسانيّة، و كان مبدأ الأرواح الإنسانيّة الروح المحمّديّة الطاهرة كما قال عليه الصلاة و السلام: "أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ تعالى رُوحِي". و في رواية أخرى "نوري". و لأنّه عليه الصلاة و السلام كان زبدة و خلاصة الموجودات و ثمرة شجرة الكائنات، إذ "لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأفْلَاكَ"، فإنّه كان كذلك مبدأ الموجودات و لا يمكن أن يكون غير ذلك، و ذلك أن الخَلقَ كان على مثال الشجرة، و المصطفي عليه الصلاة و السلام هو ثمرة تلك الشجرة، و الشجرة في الحقيقة لا تكون إلّا من حَبِ
الثمرة.۱.
و يقول في مكان آخر: «هنالك لطيفة عجيبة تُستَشَفُّ من قوله عليه الصلاة و السلام: أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ، أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ، أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ رُوحِي، و هي أن هذه الأقوال الثلاثة كلّها صحيحة، و هي في الحقيقة قول واحد، و قد احتار خَلقٌ كثير في كيفيّة هذه التركيبة. فقوله: أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ. إنّما هو قلم الله لا قلمنا نحن، فذلك القلم يجب أن يتناسب و عظمة الله و جلاله، و تلك هي روح محمّد الطاهرة و نوره. فلمّا خلق الحقّ تعالى تلك الروح و نظر إليها بالمحبّة، غلبَ عليها الحياء، فانقسمت الروح قسمين حياءً، فكان العقل شعبة من الروح»٢.
و قال أيضاً: «لقد قطعتُ نَسبي من الدنيا و الآخرة و الجنان الثمان في ذلك اليوم، و جعلته أنَا مِنَ اللهِ. لا جَرم أن أيّ نَسبٍ مُتعلّق بالحدوث منقطع، و أمّا نَسبي فباقٍ، إذ كُلُّ حَسَبٍ وَ نَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلَّا حَسَبِي وَ نَسَبِي، و قال للآخرين: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ}، فقد فُزتُ بالأولويّة و السباق في كلّ ميدان.
فإن كان هناك أوّل في الفطرة، فقد كنتُ أوّل برعم طلع على شجرة الفطرة، إذ أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي.. و إن كان الأمر يتعلّق بساحة يوم القيامة، فأنا أوّل جوهرة تخرج من لآليء الثري، أنَا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ. و إن أردتَ البحثَ في مقام الشفاعة، أنَا أوَّلُ شَافِعٍ وَ مُشَفَّعٍ. و إن كنتَ تُريد الحديث عن الصراط و التقدّم عليه، أنَا أوَّلُ مَنْ يجوز الصِّرَاطَ. و إن أردتَ معرفة صاحب مقام الصّدارة في مجلس الجنان،
فأنَا أوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ. و إذا رُمْتَ النظر إلى سيّد العاشقين و مقتدي المشتاقين، فأنَا أوَّلُ مَنْ يتجلى لَهُ الرَّبُّ. و أوّل عاشق حقيقيّ يفوز بوصال المعشوق.
و ما أطرف أن يكون كلُّ ذلك هو أنا، أمّا أنا فلا أكون أنا، أمَّا أنَا فَلَا أقَولُ أنَا: شعر:
چو آمد روي مهرويم، كه باشم من كه من باشم | *** | كه آنگه خوش بوم با او، كه من بي خويشتن باشم |
مرا گر مايهاي بيني، بدان كان مايه او باشد | *** | برو گر سايهاي بيني، بدان كان سايه من باشم۱ |
إن هذا الذي سَمِعتَهُ من أن محمّداً عليه السلام لا ظلّ له، ناشئ من أن محمّداً كان هو النّور كلّه، إذ {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}،٢ و لذا، فلا ظلّ للنور كما تعلم. و لمّا كان عليه السلام قد تخلّص من ظلّه، فقد لاذ جميع الخَلق و العالَم كلّه بنوره، إذ إنّ: "آدَمُ وَ مَنْ دُونَهَ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَ لَا فَخْرَ".
لقد غمر النور المحمّديّ العالَم و الوجود و أحاط بهما، إذ إنّ: أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي، فختم الأبدَ بنوره إذ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و بعد شروق شمس الدولة المحمّديّة و طلوع نورها، أفلتْ كواكب ولاية الأنبياء، فنُسِخَت بذلك آية ليلة الأديان الأخرى، حيث حَلَّت آية {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، مَحلّها، إذَا طَلَعَ الصَّبَاحُ اسْتُغْنِيَ عَنِ المِصْبَاحِ.
فالمسكين هو ذلك الأعمي الذي حُرِمَ من كلّ ذلك النور و الضياء. شعر:
خورشيد بر آمد اي نگارين ديرست | *** | بر بنده اگر نتابد از إدبارست۱ |
و أورد الشيخ نجم الدين الرازيّ كذلك: خلقت الملائكة من نور.٢
و قال أيضاً: هذه الطائفة هي أصحاب المَيمَنة، حيث مَشرَبهم من عالَم الأعمال، و مَعادُهم درجات جنّات النعيم. مع هذا فإنّ طريقهم ليس طريقاً بحسب معرفة الذات و الصفات الربّانيّة، إذ إنّهم ما زالوا أسري آفة حُجُب الصفات الروحانيّة و النورانيّة، إذ أن لِلَّهِ [تَعَالَي] سَبْعِينَ ألْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَ ظُلْمَةٍ.٣
...۱
و قال في مكان آخر: حِجابُهُ النُّورُ؛ لَوْ كُشِفَتْ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ ما انْتَهَي إليه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ۱.
لا جَرم أن قيل لهذه الطائفة: احذَروا من أن تخلطوا بين العقل و العِقال في ميدان التفكُّر في ذات الحقّ جلّ و علا الذي لا حدّ له، تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ!٢
و ذكر في مناسبة أخرى: «و أمّا ما قاله من أنّنا متى ما حصلنا على عقل أكبر، فإنّنا نجد الحبّ فيه أظرف و أشرف و أثبت، كما أن سيّد الكائنات [صلوات الله عليه] كان أعقل الموجودات و أعشقها على الإطلاق.
الإنسان الكامل هو من تتجلّي فيه تمام شئون آية النور
و اعلَم حقّاً بأنّ نور العقل في كمال و سموِّ مرتبته، هو بمثابة مشكاة الجسد و زجاجة القلب، و زيت المصباح «الروح» بمثابة صفاء الزيت، إذ {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ}. و مع أن الملائكة كانت تمتلك زيت الرُّوحانيّة و صفاءه الذي هو
نور العقل، حيث خُلِقَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، و كان ذلك الزيت مستعدّاً لاكتساب ناريّة النور الإلهيّ {وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ}، إلّا أنّهم لم يحصلوا لا على مشكاة الجسد، و لا زجاجة القلب، و لا مصباح السِّرّ، و لا فتيلَ الخَفيّ، حيث إنّهم لم يستحقّوا اكتساب ناريّة النور الإلهيّ بدون هذه الأسباب.
و أمّا الحيوانات فعلى الرغم من حصولها على مشكاة الجسد و زجاجة القلب، إلّا أن ذلك كان في غياب زيت الروحانيّة و صفاء النور [الذي هو العقل] فكانوا في مقام العجز كذلك إذ فَأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَهَا وَ أشْفَقْنَ مِنْهَا.
فاعطي الإنسان تمام الاستعداد و كمال التَّهيُّؤ لقبول تلك الأمانة، التي هي في الحقيقة نور الفيض دون واسطة، إذ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، فوُهِبَ جسداً مَثَله كمثل المشكاة، و قلباً على صفة الزجاجة، و زيت روحٍ بصفاء العقل الذي أنار زجاجة قلبه بذلك النور الساطِع، فأصبحت {الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ}، و وضعَ زجاجة القلب و مصباح السِّرّ و فتيلَ الخَفيّ، فتجلّت هذه المجموعة و منها آدمُ بنارِ النور الإلهيّ إذ خُلِقَ آدَمُ فَتَجَلَّى فِيهِ مِصْبَاحٌ، فأصبح فيمن يستحِقُّ [نار] النور الإلهيّ حيث {وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ}.
فكلُّ مصباح كان زيته أصفي، و صفاؤه في النورانيّة أكثر، فهو في النورانيّة {نُورٌ عَلى نُورٍ} و اكتمل و ظَرُفَ بمجرّد اتّصال نار النور الإلهيّ به. و لمّا لَم يُمنَحْ أيّ مصباحٍ موهبة قبول النورانيّة و كمال الاستعداد لذلك إلّا مصباح سيِّد الكائنات صلى الله عليه و آله، و لمّا كان زيت مصباحه أتمَّ و أكمل و كان صفاء زيته الذي هو العقل لا ألطفَ و لا أظرف منه، فلا جَرَمَ أن يكون قد وصل إلى درجة الكمال لقبول نور الفيض دون واسطة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فكان يُردّد و يُكثر من قراءة هذا الدعاء في كلّ صباح و هو:
الأدعية التي اطلق فيها لفظ النور على الله تعالى
"اللهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِي نُوراً وَ في سَمْعِي نُوراً وَ في بَصَرِي نُوراً وَ في لِسَانِي نُوراً، وَ عَنْ يَمِينِي نُوراً وَ عَنْ يَسَارِي نُوراً [وَ مِنْ فَوْقِي نُوراً] وَ مِنْ تَحْتِي نُوراً [وَ أمَامِي نُوراً وَ خَلْفِي نوراً] وَ اجْعَلْنِي نُوراً وَ أعْظِمْ لي نُوراً".
و لمّا كان كلّ وجوده هو ذلك النور، حينئذٍ دعاه الحقّ تعالى نوراً، حيث قال: {[قَدْ] جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ}.۱
و بالجملة فقد اطلِقَت كلمة النور في كثير من أدعيتنا على الحقّ المتعال، ففي دعاء الجوشن الكبير وردت الجمل التالية:
"يَا نُورَ النُّورِ، يَا مُنَوِّرَ النُّورِ، يَا خَالِقَ النُّورِ، يَا مُدَبِّرَ النُّورِ، يَا مُقَدِّرَ النُّورِ، يَا نُورَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً قَبْلَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً بَعْدَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً فَوْقَ كُلِّ نُورٍ، يَا نُوراً لَيْسَ كَمِثْلِهِ نُورٌ"٢.
و في المناجاة الشعبانيّة:
"إلَهِي هَبْ لي كَمَالَ الانقِطَاعِ إلَيْكَ، وَ أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ، حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَ تَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ"٣.
حتّي قوله:
"إلَهِي وَ ألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ، فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً وَ عَنْ سِوَاكَ
مُنْحَرِفاً وَ مِنْكَ خَائِفاً مُرَاقِباً، يَا ذَا الجَلَالِ وَ الإكْرَامِ".۱
و ورد أيضاً في دعاء ليلة عرفة ما يلي:
وَ بِاسْمِكَ السُّبُّوحِ القُدُّوسِ البُرْهَانِ الذي هُوَ نُورٌ عَلَى كُلِّ نُورٍ، وَ نُورٌ مِنْ نُورٍ يَضِيءُ مِنْهُ كُلُّ نُورٍ؛ إذَا بَلَغَ الأرْضَ انْشَقَّتْ، وَ إذَا بَلَغَ السَّمَاوَاتِ فُتِحَتْ، وَ إذَا بَلَغَ العَرْشَ اهْتَزَّ.۱
و بعد الجمل السابقة، تأتي هذه الجمل:
أسْألُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ الذي تَجَلَّيْتَ بِهِ لِلْجَبَلِ فَجَعَلْتَهُ دَكَّاً وَ خَرَّ موسى صَعِقاً٢.
و جاء في آخر الدعاء المذكور (دعاء ليلة عَرَفة) ما يلي:
أنْتَ الذي أشْرَقْتَ الأنْوَارَ في قُلُوبِ أوْلِيَائِكَ حتى عَرَفُوكَ وَ وَحَّدُوكَ٣.
هذا و قد أفرد محمّد بن يعقوب الكلينيّ باباً خاصّاً في «اصول الكافي» و ذكر فيه أن الأئمّة عليهم السلام هم نور الله عزّ و جلّ، و قد أورد ستّ روايات بهذا الصدد نورِدُ منها اثنتينِ هنا على سبيل المثال:
الاولي: روي بسنده المتّصل عن أبي خالد الكابلي أنّه قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ و جلّ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ
الَّذِي أَنْزَلْنا}.۱ فَقَالَ: يَا أبَا خَالِدٍ! النُّورُ وَ اللهِ نُورُ الأئِمَّةِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؛ وَ هُمْ وَ اللهِ نُورُ اللهِ الذي أنْزَلَ، وَ هُمْ وَ اللهِ نُورُ اللهِ في السَّمَاوَاتِ وَ في الأرْضِ. وَ اللهِ يَا أبَا خَالِدٍ! لَنُورُ الإمَامِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ أنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ المُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ.
وَ هُمْ وَ اللهِ يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ المُؤْمِنينَ، وَ يَحْجُبُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتَظْلِمُ قُلُوبُهُمْ. وَ اللهِ يَا أبَا خَالِدٍ! لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ وَ يَتَوَلَّانَا حتى يُطَهِّرَ اللهُ قَلْبَهُ، وَ لَا يُطَهِّرُ اللهُ قَلْبَ عَبْدٍ حتى يُسَلِّمَ لَنَا وَ يَكُونَ سِلْماً لَنَا، فَإذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَهُ اللهُ مِنْ شَدِيدِ الحِسَابِ وَ آمَنَهُ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ الأكْبَرِ٢.
الثانية: روي بسند متّصل آخر منه عن صالح بن سهل الهَمَدانيّ أنّه قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام في قول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ}: فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ {فِيها مِصْباحٌ}. الحَسَنُ {الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ}. الحُسَيْنُ {الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}. فَاطِمَةُ كَوْكَبٌ دُرِّيّ بَيْنَ نِسَاءِ أهْلِ الدُّنْيَا.
«توقد من شجرة مباركة» إبْرَاهِيمُ عليه السلام. {زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ} لَا يَهُودِيَّةٍ وَ لَا نَصْرَانِيَّةٍ. {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ} يَكَادُ العِلْمُ يَنْفَجِرُ بِهَا. {وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ} إمَامٌ مِنهَا بَعْدَ إمَامٍ.
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} يَهْدِي اللهُ لِلأئمَّةِ مَنْ يَشَاءُ؛ {وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ}.
قُلْتُ: {أَوْ كَظُلُماتٍ}؟ قَالَ: الأوَّلُ وَ صَاحِبُهُ. {يَغْشاهُ مَوْجٌ} الثَّالِثُ. {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ} الثَّانِي. {بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ} مُعَاوِيَةُ لَعَنَهُ اللهُ وَ فِتَنُ بَنِي امَيَّةَ؛ {إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ} المُؤْمِنُ في ظُلْمَةِ فِتْنَتِهِمْ {لَمْ يَكَدْ يَراها}. {وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} إمَاماً مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، {فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} إمَامٍ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَ قَالَ في قَوْلِهِ: {يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ}۱: أئِمَّةُ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، تَسْعَي بَيْنَ يَدَيِ المُؤْمِنِينَ وَ بِأيْمَانِهِمْ حتى يُنَزِّلُوهُمْ مَنَازِلَ أهْلِ الجَنَّةِ.٢
و روي الكلينيّ بهذا المضمون بسند آخر عن علي بن جعفر عليه السلام، عن أخيه موسى عليه السلام٣.
أصل طينة الأئمّة عليهم السلام من النور
و ذكر الكلينيّ في باب خَلق الأبدان و الأرواح و القلوب للأئمّة عليهم السلام أربع روايات، نكتفي هنا بذكر واحدة منها فقط:
روي بسنده المتّصل عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال سمعته يقول: أن اللهَ خَلَقَنَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ، ثُمَّ صَوَّرَ خَلْقَنَا مِنْ طِينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ، فَأسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ، فَكُنَّا نحن خَلْقاً وَ بَشَراً نُورَانِيِّينَ لَمْ يَجْعَلْ لأحَدٍ في مِثْلِ الذي خُلِقْنَا مِنْهُ نَصِيباً. وَ خَلَقَ أرْوَاحَ شِيعَتِنَا مِنْ طِينَتِنَا، وَ أبْدَانَهُمْ مِنْ طِينَةٍ مَخْزُونَةٍ مَكْنُونَةٍ أسْفَلَ في ذَلِكَ الطِّينَةِ، وَ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لأحَدٍ في مِثْلِ الذي خَلَقَهُمْ مِنْهُ
نَصِيباً إلَّا لِلأنْبِيَاءِ. وَ لِذَلِكَ صِرْنَا نَحْنُ وَ هُمْ: النَّاسَ، وَ صَارَ سَائِرُ النَّاسِ هَمَجٌ لِلنَّارِ وَ إلَى النَّارِ۱.
و أورد الكلينيّ كذلك في باب ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله و وفاته أربعين رواية نورد منها في هذا المقام ثلاثة:
۱- روي بسند متّصل عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر (الباقر) عليه السلام: يَا جَابِرُ! أن اللهَ أوَّلُ مَا خَلَقَ، خَلَقَ مُحَمَّداً صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ عِتْرَتَهُ الهُدَاةَ المُهْتَدِينَ. فَكَانُوا أشْبَاحَ نُورٍ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ!
قُلْتُ: وَ مَا الأشْبَاحُ؟!
قَالَ: ظِلُّ النُّورِ، أبْدَانٌ نُورَانِيَّةٌ بِلَا أرْوَاحٍ. وَ كَانَ مُؤَيَّداً بِرُوحٍ وَاحِدَةٍ وَ هي رُوحُ القُدُسِ. فَبِهِ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ وَ عِتْرَتُهُ.
وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ حُلَمَاءَ، عُلَمَاءَ، بَرَرَةً، أصْفِيَاءَ؛ يَعْبُدُونَ اللهَ بِالصَّلَاةِ وَ الصَّوْمِ، وَ السُّجُودِ، وَ التَّسْبِيحِ، وَ التَّهْلِيلِ؛ وَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ، وَ يَحُجُّونَ، وَ يَصُومُونَ.٢
٢- روي بسند متّصل عن أحمد بن على بن محمّد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام أنّه قال:
إن اللهَ كَانَ إذْ لَا كَانَ. فَخَلَقَ الكَانَ وَ المَكَانَ. وَ خَلَقَ نُورَ الأنْوَارِ الذي نُوِّرَتْ مِنْهُ الأنْوَارُ. وَ أجْرَى فِيهِ مِنْ نُورِهِ الذي نُوِّرَتْ مِنْهُ الأنْوَارُ.
وَ هُوَ النُّورُ الذي خَلَقَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَ عَلِيَّاً. فَلَمْ يَزَالا نُورَيْنِ أوَّلَيْنِ، إذْ لَا شَيْءَ كُوِّنَ قَبْلَهُمَا. فَلَمْ يَزَالا يَجْرِيَانِ طَاهِرَيْنِ مُطَهَّرَيْنِ في الأصْلَابِ الطَّاهِرَةِ حتى افْتَرَقَا في أطْهَرِ طَاهِرَيْنِ: في عبد الله وَ أبِي طَالِبٍ عليهم السَّلَامُ.۱
الزهراء عليها السلام من رجال آية النور و في بيوتها
٣- و روي كذلك بسند متّصل أيضاً عن مُرازِم عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى: يَا مُحَمَّدُ! إنِّي خَلَقْتُكَ وَ عَلِيَّاً نُوراً، يَعْنِي رُوحاً بِلَا بَدَنٍ، قَبْلَ أن أخْلُقَ سَمَاوَاتِي وَ أرْضِي وَ عَرْشِي وَ بَحْرِي، فَلَمْ تَزَلْ تُهَلِّلُنِي وَ تُمَجِّدُنِي.
ثُمَّ جَمَعْتُ رُوحَيْكُمَا فَجَعَلْتُهُمَا وَاحِدَةً، فَكَانَتْ تُمَجِّدُنِي وَ تُقَدِّسُنِي وَ تُهَلِّلُنِي. ثُمَّ قَسَّمْتُهَا ثِنْتَيْنِ وَ قَسَّمْتُ الثِّنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ فَصَارَتْ أرْبَعَةً: مُحَمَّدٌ وَاحِدٌ، وَ على وَاحِدٌ، وَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ ثِنْتَانِ.
ثُمَّ خَلَقَ اللهُ فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ ابْتَدَأهَا رُوحاً بِلَا بَدَنٍ. ثُمَّ مَسَحَنَا بِيَمِينِهِ فَأفْضَى٢ نُورَهُ فِينَا٣.
أما و إنّنا لنقرا في زيارة الجامعة الكبيرة: خَلَقَكُمُ اللهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ حتى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُمْ فَجَعَلَكُمْ «في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»٤.
و روي في تفسير «نور الثَّقلَيْن»٥ بسند متّصل منه عن جابر، عن الإمام
أبي جعفَر (الباقر) عليه السلام في قوله عزَّ و جلّ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، أنّه قال:
هِيَ بُيُوتُ الأنْبِيَاءِ، وَ بَيْتُ على مِنْهَا.
و روي في تفسير «البرهان»۱ عن الشيخ الحافظ رجب البرسيّ قال: روي ابن عبّاس أنّه قال: كنتُ في مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و قد قرأ القارئ:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ.
فقلتُ: يا رسول الله! ما البيوت؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: بُيُوتُ الأنْبِيَاءِ عليهم السَّلَامُ، وَ أوْمَي بِيَدِهِ إلَى بَيْتِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا ابْنَتِهِ.
نعم، لقد تبيّن من هذه الأبحاث بصورة لا تقبل الشكّ معنى نور الله و أحقّيّة الوِلاية و عظمتها التي هي عين التوحيد، و كذلك طريق إفاضة النور من مقام وحدة الربوبيّة عزَّ و جلّ الذي هو عين النور و أصل الجود و الوجود، و طلوعه في المصباح، و استمداد المصباح من زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ، و تلألئه في الزجاجة، و انعكاسه في المشكاة،، و حفظ و صيانة المشكاة للنور، و إفاضة النور و نشره في فضاء الغرفة، و انتفاع الناس بوساطة ذلك في فضائه النيِّر و المتلألئ كلٌّ بحسب رتبته.
و عَلِمنا كذلك سرّ الولاية و الإمامة اللتين هما معدن النور و منبعه. و كذا كيفيّة اتّحاد الأنوار الخمسة الطيِّبة و وحدتها، و التي من جملتها المقام الأقدس للسيّدة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها، و كيفيّة نشوء نورها
المقدّس و إيجاده من نَشء و مبدأ عالَم الإيجاد و نشأة الحياة في سلسلتَي التكوين و التشريع. و مع عدم وجود صفة الذكورة و الانوثة في عوالم التجرُّد، و أن الولاية الحقّة هي ولاية الله، و هي واحدة، فإنّه و مع الأخذ بنظر الاعتبار مسألة نشأة الكثرة فقد دُعيتْ بالرجال و وُضِعَت في بيوت أنوار الوحي و الإلهام و ذِكْر الله تعالى.
و على أيّة حال فقد يكون سبب ذِكر نور جلال تلك السيّدة الكبرى في الأخبار و الآثار بلحاظ صفة الانوثة في عالَم الكثرات، ممّا يجعل كلّ ناظر يغضّ النظر عن ذلك و يُمنَع من الاطّلاع على جمالها الذي هو جمال الله. أن نور ذلك الجمال الربّانيّ الأزليّ الأبديّ السرمديّ يَبرُقُ و يتلألأ بشكل يُعمي بصر كلّ عين عاجزة؛ و لهذا صار نور الجلال حجاباً لنور الجمال. و سيملأ دويّ ملائكة القدس: غُضُّوا أبْصَارَكُمْ، أسماع الخَلق و أركان ساحة المحشر الكبرى عند عبور سيّدة نساء العالمين، و تعبر تلك السيّدة معدن الولاية و منجم الإمامة يُغَطّيها حجاب تتدلّي منه آلاف الحُجُزات۱، و يربط كلّ واحد من شيعتها نفسه بواحدة من تلك الحُجُز و يتمسّك بها. فتتقدّم صلوات الله عليها حتى تمثل بين يدي الله سبحانه في موقف عظيم و مشهد رهيب، واضعة في كفّها اليمني رأس ولدها الحسين بينما وضعت في كفّها اليسري قميصه الملطَّخ بالدماء، فتقول: ربّاه! لقد ضحّي ولدي الحسين بكلّ ما لديه في سبيلك، فهذا رأسه و هذا قميصه! فما جزاؤه عندك يا ربّ؟!
فيتقدّم رِضوان خازن الجنّة و مالِك خازن جهنّم في الحال و يسلّمانها مفتاحي الجنّة و النار، و يضعانه في كفّيّ السيّدة الكبرى قائلينِ: أن الله
يقول: لقد أعطانا ولدك الحسين كلّ ما لديه، فسنعطيه نحن كلّ ما لدينا؛ فخذي مفتاحي الجنّة و النار و أدخلي مَن شئتِ من أحبّائكِ إلى الجنّة، و ألقي بمن شئتِ من أعدائكِ إلى النار، فهذا الموقف موقف العدل لديّ.
وَ لَها جَلَالٌ لَيْسَ فَوْقَ جَلَالِهَا | *** | إلَّا جَلَالُ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ |
وَ لَهَا نَوَالٌ لَيْسَ فَوْقَ نَوَالِهَا | *** | إلَّا نَوَالُ اللهِ عَمَّ نَوَالُهُ |
مِشْكَاةُ نورِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ | *** | زَيْتونَةٌ عَمَّ الوَرَي بَرَكاتُها |
هي قُطْبُ دائِرَةِ الوُجودِ وَ نُقْطَةٌ | *** | لَمَّا تَنَزَّلَتْ أكْثَرَتْ كَثَرَاتُها |
هي أحْمَدُ الثَّانِي وَ أحْمَدُ عَصْرِها | *** | هي عُنْصُرُ التَّوْحِيدِ في عَرَصاتِها |
البَحْثَانْ الثَّالِثُ وَ الرَّابِعُ: اسْتِطَاعَةُ رُؤْيَةِ اللهِ و تفسير الآية المباركة
{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
آية: سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا في الآفَاقِ وَ في أنفُسِهِمْ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ (أي آياتنا) الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}.
(الآيتان ٥٣ و ٥٤، من السورة ٤۱: فصّلت)
ضمير {أنَّهُ الْحَقُّ} عائد إلى مُقَدَّر منتزع من {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا}
لشرح الآيتينِ الشريفتينِ الآنفتَي الذِّكر، يتحتّم علينا البحث عن صاحب الضمير في الآية الشريفة {أَنَّهُ الْحَقُّ}.
في اعتقاد الحقير أن هذا الضمير يعود إلى المُقدّر و المستفاد من الفعل «نُرِي» و هو «مُرَي» (أي الآية و المرأة بلحاظ كونها آية و مرآة إلى الضمير «نا». فما هو المُرَى۱ إذن؟ إنّها في الحقيقة آيات الحقّ المُبيِّنَة
للحقّ. إذ لا يمكن أن يكون غير ذلك بحسب البلاغة القرآنيّة، و كذا انسجام تتمّة الآية المذكورة و الآية التي تليها. فلا يمكن أن يكون عَوْدُها إلى {ءَايَاتِنَا}، ذلك أن «آيات» هي جمع مؤنّث مجازي، فلا يجوز أن يعود ضمير المفرد المذكّر الغائب إليها بحال من الأحوال. و أيضاً لا يُعقَل أن تكون مضافاً إليه بالنسبة إلى «نا»، إذ يجب أن يكون مرجع ضمير المذكّر الغائب إلى اسم الجنس للمذكّر الغائب، في حين أن الضمير «نا» هو ضمير جمع المتكلّم مع الغير.
و كذلك لا يمكن أن يعود إلى القرآن كما قال به البعض، و أوردوا دليلًا على ذلك، و هو الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة:
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
و ذلك أن هذه الآية، و إن تلاءمت مع الآيات الآفاقيّة الأخرى و انسجمت معها، إلّا أنّه لا بدّ من تفسيرها و تأويلها فيما يتعلّق بالآيات الأنفسيّة. و مضافاً إلى ما قيل، فإنّ هذه الآية لا تنسجم مع تتمّة الآية المذكورة و الآية التي تليها و لا تتلاءم معها.
و كذلك الحال في مسألة عَود الضمير إلى «رسول الله» إذ أن رسول الله ليس مذكوراً في سياق الكلام، اللهمّ إلّا باعتبار التوجيه، حيث يمكن أن يقال: لأنّ إنكار القرآن مُساوق مع إنكار نبوّة رسول الله، فقد اشير إليه هنا باعتباره «حقّ»، و هو مُساوقٌ مع ذِكر القرآن، فلا يخلو هكذا توجيه حتماً من التكلُّف.
و لا ريب في أن الضمير المذكور لا يرجع لا إلى «الله» و لا إلى «التوحيد»، باعتبار أن نتيجة ما حصل من إنكار المشركين لرسول الله و للقرآن، هو إنكارهم وجود الله أو وحدانيّته، لأنّ هذا النوع من العَوْد يستلزم كذلك الاستعانة بالتأويل، و لا شكّ في أن تأويلًا كهذا يُخرجُ القرآن من حياض سلاسته و عذوبة بيانه.
إن ما ذكرناه هنا من تأويل الضمير و عَوده هو ما ارتكز عليه و أيّده إلى حدّ ما صاحب تفسير «مجمع البيان»: الشيخ الطبرسيّ و القاضي البيضاويّ و استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم جميعاً. مع أن العلّامة أورد وجهاً آخر أيضاً في هذا الصدد، و باعتقاد الحقير أنّه أقرب إلى الحقيقة، هذا في حين لفتتْ نظري مطالب في كثير من التفاسير الأخرى تدعو إلى الدهشة و الإعجاب.
فأمّا إرجاع الضمير إلى اللفظ المقدّر «مُرَي» فهو أقرب لسببينِ اثنين:
أوّلهما: أن إرجاع الضمير في مثل هذه الحالات شائع الاستعمال كثيراً عند العرب، و قد ورد مَثَلُهُ في القرآن الكريم كذلك: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}.۱
فهنا نلاحظ أن الضمير «هُوَ» ليس له مرجع لفظيّ في الآية الشريفة، و لذا لزم إرجاعه حتماً إلى لفظٍ تقديريّ مُستَفاد من {اعْدِلُوا}، و هو فعل أمر للجمع المذكّر، و هذا اللفظ التقديريّ هو الـ «عدل».
و هنا وجب إرجاع الضمير إلى كلمة «عَدْل» و ذلك كما يتبيّن من جهة سياق و مفهوم الآية، لأنّنا حين نقول {اعْدِلوا} ثم نُتبِعها بقولنا: {هو أقربُ
للتقوي}، ففي الحال يُفهَم من سياق الكلام و يتبادر إلى الأذهان أن «العَدلَ» المُشتَقّ من المصدر {اعْدِلُوا} هو الأقرب للتقوى من غيره.
ثانيهما: في الآية الشريفة التي هي مدار بحثنا هنا {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} يتبادر إلى ذهننا مباشرة من أن الشيء «المُري» هو الحقّ. و هو عبارة عن لفظة «مُري»، اسم المفعول من الفعل «نُرِي»، بمعنى «ءَايَاتِنَا».
و يتوجّب علينا أن نعلم أن هاهنا تكمن مسألة عظيمة و شاهد أعظم على توحيد الله تعالى، و هي: أن الحقّ عبارة عن ءَايَاتِنَا (الآيات مضافة إلى الضمير «نا»)، و يُقصَدُ بها الآيات و الدلائل التي أقرّها الله في الآفاق و النفوس للدلالة على توحيده.
لا جَرَمَ أن جميع الموجودات، سوى الله سبحانه، هي آياته تعالى؛ سواء أ كانت تلك الآيات واقعة في العالَم الخارج عن نفوس بني آدم، أم تلك الحادثة في داخلها. لذا، فليس هناك أيّ وجود مستقلّ لأيّ من المخلوقات، بل هي في مجموعها آيات و مرايا و شواهد على سطوع جمال الذات المقدّسة للحقّ تعالى. و لأنّ هذه الآيات و المرايا لا تمتلك صفة الظهور بنفسها، بل هي كلّها مظاهر للّه سبحانه، لذا صار بالإمكان رؤية الله تعالى في كلّ واحدة من تلك الآيات. لأنّ الآية- بما هي آية- إنّما هي وسيلة لإظهار صاحبها (أي صاحب الآية)، و لا تُبدي أو تُظهر نفسها هي على الإطلاق. إنّها مرآة صافية خالية من أيّ لون أو صدأ، و عارية عن كلّ أنواع التموّج أو الخدوش. مرآةٌ تُري صورة الإنسان كما هي دون أيّة مغالطة أو تحريف. فإن تغيّر فيها أيّ شيء أو تبدّل، فذلك لأنّها غير صافية و لا يمكنها أن تحاكي الواقع أو أن تكون ذات قيمة تُذكَر.
و على هذا فإنّ المرأة الصافية و الماء الرقراق الزلال و الهواء النقيّ في
فضاء مُضاء تبدو الآيتيّة واضحة كلّ الوضوح خلالها لا يشوبها شيء، و كأنّه لا وجود لا للمرآة و لا للماء و لا للهواء، بل أن كلّ ما هو موجود إنّما هو موجودات ماثلة أمام تلك المرأة و داخل ذلك الماء و مُشاهَد في ما وراء النور و الهواء.
كلّ ما موجود هو الله و لا وجود لشيء غير الحقّ. جميع الآفاق و كلّ الأنفُس إنّما هي آيات، و لا وجود لشيء أو موجود غير «نا» و «الله» و «الحقّ» في ما وراءها مطلقاً.
لا وجود لغير «الله» في عالَم الوجود. و كلّ ما سواه إنّما هو آية له لا أكثر. و هو وحده ذو الآية و صاحب العلّامة، هو كلُّ شيء و لا شيء سواه. و ذو الآية الذي هو الحقّ في هذه العبارة، هو نفسه الآفاق و الأنفس. فالآفاق و الأنفس هما حقّ إذن.
إن هذه الآية تُدَلِّل على أن حقيقة الآفاق و الأنفس هي وجود الحقّ تعالى، و أنّها لا تملك شيئيّة ما في حدّ ذاتها، لأنّها إنّما وُصِفتْ على أنّها آية و علامه، لا غير. و بالتالى فإنّ الحقّ تعالى عبارة عن واقع الآفاق و الأنفس و حقيقتها. أينما تُوَلِّ وجهك فثمَّ وجود الله، و إلى أيّ شيء أرجعت بصرك ترى فيه الله. فما أكثر الأشياء، لكنّ الله واحد فرد صمد. فلا موجود في عالَم الوجود سوى الله. فالتعيُّنات و الإنّيّات و معها الماهيّات كلّ تلك امور عدميّة و باطلة، و الوجود المقدّس للحقّ تعالى واحد، حيث يتجلى في الآفاق و الأنفس و يظهر في كلّ جنبة من جنباتها.
إن كلمة {لَا إلَهَ إلَّا اللهُ} المباركة التي هي كلمة التوحيد و معنى التوحُّد و الوحدة، إنّما أصلها راجع إلى كلمة لَا مَوْجودَ سوى اللهِ التي تنفي كلّ نوع من أنواع التعيُّن عن ذات الحقّ تعالى، و تُجرّده منه.
و خير دليل و شاهد على هذا الكلام هو تتمّة الآية الشريفة:
{أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
أي أن الله سبحانه حاضر و ناظر و شاهد بوجوده في وجود جميع الموجودات الآفاقيّة و الأنفسيّة و كذلك في كلّ شيءٍ يمكن أن تُطلَق عليه كلمة شيء، لا بكونه موجوداً آخراً أو في مكانٍ آخر، و أن مُجَرّد عِلمه هو المحيط بالموجودات للتقدير فيها أو التحكُّم بها.
الله تعالى ظاهر في آيات الآفاق و الأنفس، لكنّ الناس يشكّون في لقائه
و أعجب من هذه التتمة هي الآية التي تليها:
{أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}.
فما السبب في كون هذه الآية أعجب و أغرب؟ السبب في ذلك هو أن الله سبحانه يقول: أن الناس ليشكّون في لقاء الله ربّهم في حين أنّه موجود في الآفاق و الأنفس، و أن واقع الآفاق و الأنفس هو الله الذي برز من خلال الآيات و العلامات، و تجلّى فيها بوضوح. فلمّا كان الله سبحانه موجوداً في الآفاق و الأنفس و مشهوداً في كلّ جزء منها، و لمّا كان الله أوّل شيء ينظر إليه الناس من خلال رؤيتهم لأيّ شيء حولهم و لكلّ نفس من نفوسهم، فلِمَ، و الحال كذلك، يشكُّ الناس بوجود الله و يرتابون في أمره و لقائه، مع وضوح تلك الآيات و جلاء تلك الصور و العلامات؟!
ثمّ يقول سبحانه {إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}، و هذا لا يعني الإحاطة العِلميّة الحضوريّة أو الحصوليّة، بل أن ما يعنيه هو الإحاطة الوجوديّة و إحاطة المَعيّة التي يتجلى فيها أوّلًا عبر وجوده مع كلّ آية و أيّة علامه في الآفاق و الأنفس و إحاطته بها، ثمّ تعيُّن تلك الآية و تشخُّصها ثانياً و بالعَرض و المجاز.
الله أوّلًا و من ثَمّ باقي الموجودات. هو السابق و ما دونه مسبوق مغلوب. هو القائم و ما دونه إنّما هو يتقوّم به. هو الظاهر و به تظهر الأشياء و تتجلّي.
الله نور و ما دونه فهو مُنوَّرٌ بنوره. و لو كانت الأشياء قادرة على إظهار الله، لاستَبدلتْ مكانها بمكانه، و لأصبحت هي الإله، و لأصبح الله هو المخلوق، و لأصبحت الأشياء في سلسلة أعلى مراتب العلل، و لكان الله هو المعلول. لا يمكن للّه أن يتّكل على غيره، لا في أصل الخِلقة و لا في الظهور و الآيتيّة. لذا، فتعبير هو الحقّ يعني أنّه هو الموجود الأصيل عبر جميع مراتب الوجود، من أصل الوجود و من الظهور خلال مراتب الوجود.
و حيث علمنا أن الله سبحانه هو أصل النور و مبدأ الظهور و أصالة التحقُّق و الوجود في الآفاق و في الأنفس، لذا وجب أن نعلم: كيف يتسنّي للإنسان معرفة هكذا ربّ؟! فلو أراد الوصول إليه عن طريق معرفة غيره، لم يصحّ ذلك، لأنّ ما دون الله متعلِّق ظهوره بالله سبحانه، إذ الله هو المانح لظهوره فظهر كما يظهر، فكيف يكون بالإمكان إذن الوصول إلى الله، مع علمنا بأنّ الذي نروم معرفة الله عن طريقه إنّما هو ظاهر بظهور الله المُظهِر لذلك الشيء؟!
إمكان معرفة الله تعالى بالله، لا بسواه
إن المصباح المضيء في مسجد، مضيء في نفسه و ذاته، و أمّا بقيّة الأشياء المضاءة في ذلك المسجد، فهي مضيئة بنور ذلك المصباح، لا بنورها هي بالذات. فنور المصباح ينتشر في ظُلمة المسجد، و الأشياء الموجودة في غياهب ذلك المكان تُضيءُ و تُنير بضياء المصباح و نوره. فَلِكَيْ نري ذلك المصباح و نتعرّف عليه، يتوجّب علينا رؤيته هو بذاته و ليس نوره الساقط على الأشياء. لا يمكننا بحال من الأحوال رؤية المصباح نفسه من خلال نوره الساقط على الأرض و المنعكِس عن هذا الشيء أو ذاك. يجب رؤية المصباح بنفسه، لا بالأشياء المظلمة المعتمة و المُنارَة بنوره و المستضيئة بضيائه.
إن لهذه المسألة شأناً من الشؤون، إذ يجب معرفة الله عن طريق الله لا غير الله ممّن أساس وجوده و خِلقته و تسويته و حقيقته و ظهوره مأخوذ من الله و مبنيّ على وجوده.
و هنا تبرز مسألة أخرى إلى حيّز الوجود، و هي أنّه كيف يمكن معرفة الله بواسطة الله نفسه سبحانه؟ و ما العمل بشأن كلّ تلك الأخبار الدالّة على استحالة معرفة الإنسان للّه تعالى أو الوقوف على كُنه ذاته المقدّسة؟
لا سبيل إلى معرفة الله إلّا عن طريق آثار الله الدالّة عليه. و مع ذلك فإنّ تلك المعرفة لا يمكن أن تكون تفصيليّة، بل إجماليّة. الحقّ أن الأرض و السماء و الخُضرة و الماء و الموجودات من الذرّة حتى المجرّة، مروراً بالبرغوث و البقّة حتى الفيل، أقول كلّ تلك المخلوقات هي مشاهد تدلّ على وجود الله سبحانه. هي آيات و علامات تدلّ كلّ واحدة منها على وجود الله، كلٌّ حسب سعته الوجوديّة. القرآن نفسه يدعونا إلى تتبُّع تلك الآثار و الرجوع إليها كأصدق بيّنة على وجود الله.
و من هنا تتجلّي مصداقيّة الحِكمة القائلة تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ؛ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ۱.
و من جهة أخرى علمنا أنّه لا يمكن معرفة الله سبحانه عن طريق الموجودات، إذ كما قلنا لا يمكن معرفة الله إلّا عن طريق الله نفسه. و قد وردت روايات كثيرة في هذا الباب في أن الإنسان باستطاعته معرفة الله بذاته.
كانَ أمير المؤمنين عليه السلام يخطب يوماً فسأله أحد الحاضرين قائلًا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فأجاب عليه السلام: كَيْفَ أعْبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ؟!
ثمّ أوضح عليه السلام ذلك بقوله:
لَا تَرَاهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ؛ وَ لَكِنْ تَرَاهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
و لدينا من الآيات القرآنيّة الشريفة ما يناهز العشرين آية أو أكثر و كلّها تدلّ على أن الناس سينالون شرف لقاء الله في يوم ما، دون ريب.
و بين هذه المجموعة من الأخبار و تلك وقع العلماء في أشدّ حيرة من أمرهم، قائلين: كيف يمكن حلّ مثل هذه المعضلة؟!
فنهج البعض منهجاً يقول بأنّ الأخبار التي دلّت على عدم إمكانيّة
رؤية الله عزّ و جلّ و إدراكه و معرفته كلّها صحيحة؛ فإنّه لا سبيل لبني آدم إلى معرفة الله بأيّ شكل من الأشكال، سواء كانت تلك المعرفة إجماليّة أم تفصيليّة. فأين الخالق من المخلوق؟ أيْنَ التُّرابُ وَ رَبُّ الأرْبابِ!؟
أبيات الشبستريّ الرفيعة في عدم إمكان معرفة الله بغير الله عزّ و جلّ
سأل أمير حسين الهَرَويّ، عارف خراسان الكبير سنة ۷۱۷ للهجرة العالِمَ المعروف في شَبَستَر آنئذٍ و هو الشيخ محمود الشبستريّ، قائلًا:
كدامين فكر، ما را شرط راه است؟ | *** | چرا گه طاعت و گاهى گناه است؟۱ |
فأجابه الشيخ قائلًا:
در آلا فكر كردن شرط راهست | *** | ولى در ذات حقّ محض گناه است |
بود در ذات حقّ انديشه باطل | *** | محال محض دان تحصيل حاصل |
چو آيات است روشن گشته از ذات | *** | نگردد ذات او روشن ز آيات |
همه عالم ز نور اوست پيدا | *** | كجا او گردد از عالم هويدا٢ |
«أيّ رأيٍ ألتَزِمْ أو مَنهَجٍ | *** | أ فَأعصى مَرّةً ثُمَّ أتوب؟» |
نگنجد نور ذات اندر مظاهر | *** | كه سبحات جلالش هست قاهر |
رها كن عقل را با عشق مىباش | *** | كه تاب خور ندارد چشم خفّاش |
در آن موضع كه نور حقّ دليل است | *** | چه جاي گفتگوى جبرئيل است |
فرشته گرچه دارد قرب درگاه | *** | نگنجد در مقام لي مَعَ الله |
چو نور او ملك را پر بسوزد | *** | خرد را جمله پا و سر بسوزد |
بود نور خرد در ذات انور | *** | بسان چشم سر در چشمه خور |
چو مُبصَر با بصر نزديك گردد | *** | بصر از درك او تاريك گردد |
سياهي گر ببيني نور ذات است | *** | به تاريكي درون آب حيات است۱ |
سيه جز قابض نور بصر نيست | *** | نظر بگذار كاين جاي نظر نيست |
چه نسبت خاك را با عالم پاك | *** | كه ادراك است عجز از درك ادراك |
سيه روئي ز ممكن در دو عالم | *** | جدا هرگز نشد و اللهُ أعلم |
سوادُ الوجه في الدّارَين درويش | *** | سواد اعظم آمد بي كم و بيش |
چه مىگويم كه هست اين نكته باريك | *** | شب روشن ميان روز تاريك۱ |
... ۱
ز اهل دانش و ارباب معنى | *** | سؤالي دارم اندر باب معني |
بنام آنكه جان را فكرت آموخت | *** | چراغ دل به نور جان برافروخت |
نشان ناشناسى ناسپاسى است | *** | شناسائىّ حقّ در خودشناسى است |
از آن گلشن گرفتم شمّهاى باز | *** | نهادم نام او را «گلشن راز» |
گذشته هيفده از هفتصد سال | *** | ز هجرت ناگهان در ماه شوّال |
بنام خويش كردم ختم پايان | *** | الهي عاقبت «محمود» گردان |
اعتقاد العلماء عائد إلى طائفتين من أخبار رؤية الله تعالى
فلو قضي الإنسان سنيّ حياته بالجهدِ و الاجتهاد و التفكُّر و الاسترشاد، لما وصل إلى نتيجة ترضيه أو حِلٍّ يُغنيه، و دليل ذلك الأخبار المرويّة هنا. و أمّا الأخبار القائلة بأنّ الإنسان يري الله و تحصل لديه المعرفة به، فيجب حملها على المعنى المجازيّ. أيّ أن معنى رؤية الإنسان للّه تعالى هو أن يري نِعَمَهُ و مخلوقاته العينيّة و ملائكته و رضوانه و منازل الجنّة و الحُور و القصور في الجنّة، ليس إلّا.
في حين يعتقد البعض الآخر أن بالإمكان رؤية الله عزّ و جلّ، و يؤوِّلون الروايات القائلة بعدم القدرة على رؤية الله سبحانه على أنّها تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالعين الإنسانيّة الموجودة في رأس الإنسان، و لم تقل بعدم إمكانيّة ذلك بعين القلب؛ و تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالباصرة و لم تُصرّح أن ذلك غير ممكن بالبصيرة، و على هذا فتلك الأخبار مفهومة القصد.
إن الإنسان يري الله بحقائق الإيمان، و هذا ممّا تدلّ عليه الآيات القرآنيّة، بل الحقّ أنّها تُصَرِّح بذلك دون لبس و لا مجال للاعتقاد بكونها مجازيّة. و لِمَ يتكلّم الله بالمجاز؟ هل اغلِقَتْ طرق الصراحة و الحقيقة أمامه حتى يذكر في أكثر من عشرين مكاناً في القرآن الكريم لقاءه و التأكيد على ذلك؟ و هل هدفه من كلّ تلك الآيات هو التقاء أنواع مختلفة
من التفاح و الكُمّثرى و العنب و الرُّطَب و الحُور العين و الغلمان {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}؟!
إذن، و الحال هذه، علينا أن نُؤوِّلَ الأخبار التي تؤكّد على عدم إمكانيّة رؤية الله عزّ و جلّ على أنّها نتيجة لدرجات المعرفة غير التامّة، مقارنة بإمكانيّة رؤيته تعالى، بل إمكانيّة حدوث ذلك و تحقُّقه في الخارج. تلك المعرفة أو المعارف الجزئيّة التي تحدث للناس كالمعرفة الحاصلة بالذات و الحقيقة عن طريق شبح أو صورة حسب تصوّرهم، فيريدون بذلك التوصّل إلى كيفيّة و كمّيّة الله عزّ و جلّ و شكله و صفاته، حيث يجعلون كلّ ذلك بمثابة آية للّه ذي الآية.
إنّنا نجد أنفسنا مضطرّين لبيان مقدّمة هنا إذا شئنا الفصل بين هاتين المجموعتين، مستعينين بحول الله و قوّته. و مع كون هذه المقدّمة بمثابة قانون علميّ و قاعدة حِكَميّة و فلسفيّة، إلّا أنّنا سنسعي جاهدين في بيانها بصورة مبسّطة حتى يكون بالإمكان فهمها:
حتّي يكون بإمكان أيّ موجود الحصول على معرفة كافية و عِلم شامل عن موجود آخر، يتوجّب وجود شيء من ذلك الموجود (الثاني) في هذا الموجود (الأوّل). إنّنا نري الكثير من الموجودات في العالَم من حولنا، منها الإنسان، و الحيوان على مختلف صوره و أشكاله و آثاره و خواصّه، فالبقر و الغنم و الإبل و الطير و البطّ، كلّ هذه تختلف عن بعضها البعض.
و هناك الشجر و الحجر و الماء. و هي كلّها موجودات كثيرة مختلفة، و الكثرة تستلزم ذلك الإختلاف و التنوع الموجود فيما بينها.
فالشجرة كيان منفصل عن الحيوان، لأنّها تختلف و تتميّز عنه، و إلّا لكانَ الاثنان شيئاً واحداً. و زيد غير عمرو، و الوالد ليس بالولد. فلو كانا
متشابهين تماماً في جميع الجهات لما كانا اثنين بل كانا واحداً. و هذه المقدّمة مفهومة و لا تحتاج إلى نقاش.
و الآن، و بعد أن علمنا أن في هذا العالَم و هذه الدنيا كلّ تلك الكثرات، كيف يمكن لشيء ما أن يتوصّل إلى معرفة شيء آخر و العلم به؟! فمثلًا، كيف يعلم الخروف بوجود بقرة هاهنا، و يتوصّل الجَمَل إلى العلم بأنّ الحصان حيوان لا عداوة له معه؟ و يفهم الثعلب أن الأسد عدوّ لدود له، و يدرك الخروف أيضاً أن الذئب عدوّه و قاتله، و هكذا الحال مع جميع أصناف الحيوانات؟
إن الإنسان يعرف الكثير من الموجودات، فهو يعرف الشجرة و الحيوان و الأفراد من أنواع جنسه، مع أن تلك الأشياء منفصلة عن الإنسان مختلفة عنه في كثير من النواحي، و هو أمر بديهيّ و معروف، إلّا أن الإنسان يعلم بها و يتعرّف عليها بهذه البساطة. فكيف تسنّي له ذلك؟
لقد توصّل الحكماء الأفاضل إلى إنشاء قانون مفاده:
قاعدة: لا يعرف شيء شيئاً إلّا بما هو فيه منه
لَا يَعْرِفُ شَيْءٌ شَيْئاً إلَّا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْهُ.
فحين أعلَمُ بوجود حيوان، كالخروف مثلًا، فما مقدار ما أستطيع الحصول عليه من المعرفة بهذا الخروف؟! بنفس الكمّ الموجود من الخروف في ذاتي شخصيّاً. فما الموجود من الخروف في ذاتي؟ هل هي الحيوانيّة، أم الإحساس؟ هل هي الحركة بالإرادة، أم الجسميّة أم الجوهريّة؟ أم هل هي الآثار و الخواصّ و لوازمها (كالقوّة المغذّية أو النامية أو الدافعة أو المُوَلِّدة و غير ذلك) و إدراك الجزئيّات؟ ربّما كان ذلك الحسّ المشترك و معرفة الصديق و العدوّ (بما يتناسب و حصول المنفعة و اجتناب الضرر)؟ كلّ تلك الامور هي خواصّ و علائم مشتركة موزّعة بين شخصي و بين الخروف بالسويّة، و قد استفاد كلٌّ منّا مشتركاً من تلك الخواصّ
و العلائم.
و على الرغم من ذلك، فلا سبيل أمامي على الإطلاق للعِلم بالخروف من خلال الخصائص و المميّزات التي تفصلني عنه و تميّزني منه. لأنّه، و على افتراض حصولي على علم بالخروف، سواء كان ذلك العلم في «ما به الاشتراك» معه أم في «مابهالامتياز الامتياز» عَنه، فعلى أساس تلك الفرضيّة، وجب أن أكون أنا الخروف عينه و الخروف هو عيني، و هذا ما يدعي بالخُلف.۱
إن العلم بأيّ موجود و الاطّلاع عليه من قِبَل موجود آخر و التعرّف عليه يتأتّي من طريق معرفة الخواصّ المشتركة فيما بين هذين الموجودين و ليس من الامتيازات بينهما، فطريق العلم و العرفان مفتوح فقط في بيان المشتركات (أو الخواصّ المشتركة)، في حين أن الطريق نفسه مسدود عند البحث في المتميّزات، و إلّا كنّا جميعاً متشابهين، و لتشابهت كلّ الموجودات كذلك مع بعضها البعض. اي لو كان المجال (مجال العلم و المعرفة) مفتوحاً للبحث في جميع الجزئيّات و الكثرات، لأصبحت كلّ الموجودات بالضرورة موجوداً واحداً. و لكان الحصان و البقر و الجمل و الخروف و الطيور و الزواحف و الحيوانات البحريّة و الجوامد و النباتات و قبائل الجِنّ و الملائكة، موجوداً واحداً لا اختلاف يُذكَر بينها، فتزول بذلك الأسماء عن المسمّيات و تدعي كلّها باسم واحد.
و الآن، وجب أن نسأل أنفسنا نحن الذين نريد التعرّف على الله عزّ و جلّ، مَن هو الله الذي نروم التعرّف عليه؟! أين الله عزّ و جلّ و أين نحن؟ فنحن مخلوقون و هو الخالق، و نحن مرزوقون و هو الرازق، و نحن معلومون و هو العالِم، و نحن مقدور علينا و هو القادر، و نحن محكومون
و هو الحاكم، و نحن مملوكون و هو المالك، و هكذا دواليك.
قابليّة الإنسان في الخلقة لا متناهية
الله عزّ و جلّ هو خالقنا، و هو الذي وهب لنا الجسد و الفكر و العقل، و منحنا الروح و النفس، و تلك كلّها مجرّد مظاهر من لدن الله. و الله ظاهر في ذاته عزّ و جلّ، و هو الذي فرض لنا الظهور و وهبنا إيّاه، لكنّ هذا الظهور إنّما هو ظهور مستند إلى ظهوره هو عزّ و جلّ.
ما مقدار القوّة و الاستطاعة التي نملكها حتى نعرف الله بواسطتها؟! أن ذلك المقدار هو مقدار وجود الله سبحانه في ذواتنا. و ما هو المقدار الموجود من ذات الله عزّ و جلّ فينا؟! ما المقدار من ظهور الله؟! ما المقدار من علم الله؟! ما المقدار من قدرة الله؟! و أخيراً، و ليس آخراً، ما المقدار من حياة الله؟!
لقد خلقنا الله عزّ و جلّ {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}۱ و أودع فينا من جميع الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و جعل أنفسنا من الهيولي (أي قابليّة محضة لأيّة فعليّة متصوّرة في طريق التقدّم و الكمال و التخلُّق بأسمائه و صفاته). و لم يجعل لنا حدّاً و لا حدوداً من جهة الاستعداد و القدرة على التقدّم و التكامل و الارتقاء في سُلّم اليقين و الوصول إلى العرفان و التوحيد و الفَناء في ذات الله المقدّسة و الرُّسوِّ عند صفاته الحسنى. فكما أنّه عزّ و جلّ غير متناهٍ ذاتاً و وجوداً و فعليّة في ذاته و أسمائه و صفاته و أفعاله، فقد جعلنا نحن كذلك لا متناهين قابليّة و إيجاداً و استعداداً.
و على هذا، فبإمكاننا التقدّم إلى قمّة درجات صفاته و أسمائه من جهة الإمكان و الاستعداد، و بإمكاننا أيضاً التخلُّق بجميع ذلك كلّه. أمّا من حيث الفعليّة و تحقّق تلك القابليّة و تمركزها حول الحياة و الصفات و الأفعال، فإنّ
ذلك منوط بالحركة و الجهاد مع النفس و سلوك الطريق الواصل إلى الله سبحانه.
فإذا ابتعدنا في مسيرنا عن جلاله و نأيْنا بأنفسنا عن مسلكه، و خُضنا في هوي النفس الأمّارة بالسوء، و أعْتَمتِ الطبيعة و الكثرة أبصارنا، و أغشَت أدْنَي العَوَالِم نواظرنا، و لم نُعِر أهمّيّة تُذكَر لنور الوجود و البساطة في الإطلاق و التجرُّد، و صار جلُّ سعينا هو الإستمرار في السّير في طريق الابتعاد و العزلة، ففي هذه الحالة علينا أن نعترف أنّنا لم نعرف الله إلّا النزر اليسير، و أنّنا هدرنا قابليّاتنا و إمكاناتنا تحت شعار الجهل و الحماقة و الكسل، لأنّنا، و مع الأسف، لم ننتفع من وجود الآصرة بيننا و بين خالقنا على الوجه الصحيح.
و أمّا إذا صعد البشر سُلّماً أفضل، و رقي فيه درجة أعلى، و أبصر العالَم ببصيرته من زاوية أوسع، و جهد في إصلاح نفسه مُخلّصاً إيّاها من الكثرات و الموجودات المختلفة و المتفرّقة و المتشتّة و المتبدّلة، فيكون بذلك قد عرف الله عزَّ و جلّ بنفس ذلك المقدار، لأنّ الله العليّ الأعلى مثله كمَثَل الشمس الساطعة في كبد السماء التي تُضيء العوالم كلّها، و لو أطرقنا برءوسنا إلى الأسفل و أرخينا عيوننا إلى الأرض، فإنّنا لن نري إلّا نور تلك الشمس في هذا الرفّ أو ذاك، أو في هذا البستان أو ذاك. و أمّا إذا رفعنا رؤوسنا قليلًا إلى الأعلى و تخلّلت أبصارنا الغيوم و اخترقت ركام السحاب، فلا ريب في أنّنا سنري قدراً أكبر من نور الشمس لم نكن لنراه و نحن مطرقي الرءوس، و سنبصر الافق بقعة منيرة و مكاناً ساطعاً بسبب ذلك النور. و لو عرجنا من هناك إلى مرتبة أعلى فسيكون بإمكاننا مشاهدة قرص الشمس المتوهِّج المُشِعِّ بنوره على وجه الأرض. و لو حالفنا الحظُّ و قدرنا على الصعود أكثر فأكثر فإنّنا سنري بعض الكريّات التي تُدعي
بالكواكب و السيّارات في منظومتنا الشمسيّة. و إن استمرّينا في العلوّ حتى اقتربنا من قرص الشمس فإنّنا سنطّلع على خصوصيّات أكثر لها كلّما سنحتْ لنا الفرصة من الاقتراب نحوها أكثر.
كذلك الحال مع الإنسان، فلأنّه موجود يعكس كلّ الصفات الجماليّة و الجلاليّة الربّانيّة، و هو أيضاً يمثّل الظهور التامّ و المظهر الأتمّ للّه عزّ و جلّ، فهو يمتلك قابليّة المرونة و المسير معاً. لكن، ما هي قابليّة مرونته و ما هو مسيره؟ هي تجاوزه للموجودات الباعثة على التفرّق و الفرقة، للهواجس النفسانيّة الباطلة التي تحيط بعقيدته، للخيالات و الأحلام المُمَوَّهة و الأفكار المُشوَّهة التي تذهب به بعيداً عن عالم القرب، فليست قابليّة المرونة إلّا مجموع ذلك، و لا شيء غيرها.
يتحتّم على الإنسان أن يترفّع بمنزلته و ينأي بها عن ما يقتاته الحيوان في زريبته، و يأنف عن الناسوت و المادّة و يتنزّه عن أصالة الطبيعة. عليه أن لا يعير كلّ ذلك اهتماماً استقلاليّاً أو أهمّيّة كبيرة، و أن يتوجّه نحو عالم الملكوت و يوجّه فطرته إلى الوجهة الربّانيّة و ملكوتها، و أن يذوب و ينصهر فيها، و أن يصرخ بأعلى صوته:
{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.۱
فحينئذٍ، و كلّما كانت وجهة القلب تزداد ميلاناً إلى هذا النحو، سيقترب أكثر من عالَم القدس الذي هو عالَم الطهارة و التجرّد و النقاء و القدس، و سيزداد اتّصافاً بالصفات الإلهيّة، حتى يوفَّق بعد ذلك إلى لقاء حقيقيّ بربّه فيصبح حقّاً و واقعاً من العارفين بالله عزّ و جلّ. و هو لن يُوَفَّق للّقاء بخالقه و حسب، بل و كذلك سيتخلّق بأخلاق الحقّ تعالى بكلّ وجوده من قمّة رأسه حتى أخمص قَدَمَيْهِ.
إمكان معرفة الله التامّة و لقائه الحقيقيّ من قبل المقرّبين إلى ساحته
أن الذين يقولون: «لا يمكن للإنسان الوصول إلى معرفة الله سبحانه و لقائه، و هو عاجز عن الوصول إلى ذلك المقام المنيع و تلك الذروة الرفيعة و لا حتى إيجاد السبيل إلى ذلك، فإنّ هذه المقولة ستصحّ ما دام بقي من وجوده و كيانه شيء يذكر، فهذا الوجود هو مخلوق، و المخلوق هو ما امتلك حالة التعيّن، فلا يمكنه، و الحال هذه، إيجاد سبيل ليصل به إلى الخالق الذي يفتقد التعيّن و اللامتناهي. ليس بمقدور الإنسان معرفة الله بوساطة الفكر و التفكير و لا حتى بطريق الإدراك، ذلك أن الفكر و التفكير محدودان بينما الله سبحانه لا حدّ له. فكلّما حاول الإنسان جهده الإحاطة بالله بالتفكّر و القدرة العقليّة كان ذلك له محالًا، ذلك لأنّ صورة تفكيره، و هو ذهنه، هي صورة تخيّليّة من صُنعِه و صنيعته هو، فأين ذلك من الله عزّ و جلّ؟
لذا، فإنّ الأخبار الدالّة على أن الإنسان عاجز عن معرفة الله تستند كلّها بالأساس إلى هذا المعني. و أمّا الأخبار القائلة بإمكانيّة تشّرف الإنسان بلقاء ربّه و حصوله على معرفة تامّة به، فهي لا تستدلّ بإمكانيّة هذا الوصول و ذلك اللقاء عن طريق الفكر و التفكير، بل عن طريق الوجدان و الإحساس في القلب. أيّ كأنّهم يقولون: اجتز حاجز الفكر و تخطَّ حدود العقل، ثمّ اخلع عنك النَّفْسَ و ترفّع عن القلب كذلك، ثمّ صِلْ إلى مرحلة لا ترى فيها وجوداً لذرّة من كيانك و لا تجد فيها ما كان منك فيما سبق، و حينئذٍ، تلاشَ!
فلا وجود هناك لفكر أو عقلٍ أو نفس أو روح أو وجود بالمرّة. فليس هناك مجال لالتئام الفكرة أو تَجَسُّد الشعور أو الإدراك. ليس هناك من موجود يُذكَر. هناك، حيث يوجد الله و حسب! و الله يعرف نفسه و يعلم ما فيها. في تلك اللحظة فقط يستطيع الإنسان أن يعرف الله، تلك اللحظة التي لم يعد فيها ذلك الإنسان إنساناً، لم يعد يدرك معنى لوجوده مقابل ذات الله عزّ و جلّ. فمتى برزتْ ذرّة من الوجود لم يعد لنور الله وجود في مقابل ذلك.
فهذا العالَم هو عالم المقرّبين الذي تجرّدوا من كلّ شيء، و لا مُقام لأيّ شيء آخر بينهم، اي أنّه لا وجود لهم. فهم لا يملكون وجوداً، لكنهم أحياء بحياة الله، و في الوقت نفسه فهم موتي من حياتهم. و هم لا يملكون شيئاً يتباهون فيه أمام وجود الله. هناك يوجد الله، و الله فحسب. هؤلاء قد اجتازوا مراتب الكثرات، و عبروا حدود التعيّنات، و خلعوا عن أنفسهم الحُجُب و أزالوا عنها الستار، و هم بالتالى قد جاوزوا حُجُب الظُّلمات و حُجُب النور.
لقاء النبيّ لله تعالى ليلة المعراج، و إيحاء الله إليه
و لقد اجتاز الرسول الأعظم كلًّا من كثرات عالَم الطبع و عالَم البرزخ
و عالَم العقل- كلًّا حسب ما يناسبه-، هذا من جهة، و من جهة أخرى فقد اجتاز منزلة نفس الملك- التي تمتلك التعيّن و الحدّ كذلك- حتى وصل إلى مقام «قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَي» حيث لا يوجد شيء سوى الله وحده!
{... وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ (ذراعين) أَوْ أَدْنى ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ، ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ، وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ، ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ، أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى ، وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (التي هي نماذج مؤنّثة من الملائكة السماويّين و واسطة لنزول فيض الله تعالى إلى الأرض)، {أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} (أن يكون للّه قوى انفعاليّة و يكون لكم قوي فعليّة)، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} (القرآن و الرسالة).۱
لقد كان المراد من {شَدِيدُ الْقُوى} هو الله صاحب المقام الأقدس، كما في قوله تعالى: أن {اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.٢
و أمّا القول بأنّ المراد من ذلك هو جبرائيل فمستفاد من الآية المباركة: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}٣، و على هذا الأساس فالمقصود
بـ {شَديدُ القُوى} هو جبرائيل، و أن الضمائر المذكورة في الآيات: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ، وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ، ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى}، كلّها تعود إليه أيضاً. و كذا الحال مع ضمير المفعول في الآية الشريفة {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} حيث يعود إلى المَلاك جبرئيل.
و أمّا الضمير في {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ} مَا أوْحَي فيعود بالتأكيد إلى الله عزّ و جلّ، و المراد بـ {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} فهو رؤية فؤاد رسول الله حقيقة الوحي مشافهة و رؤية و لقاء الله سبحانه كذلك.
و أيّاً كان القول فإنّ ممّا لا شكّ فيه أن هذه الآيات تدلّ كلّها على أنّها اوحيَت من قبل البارئ عزّ و جلّ إلى رسوله الكريم، و أن صيغتها بهذا الشكل إنّما هي دليل على أنّها اوحيت بطريق المشافهة الذي يتطلّب الحضور و الالتقاء حتماً.
كلّ ما في الأمر، أن الألقاب و الصفات الخاصّة بجبرئيل المذكورة في الحالة الاولى قد زُحزِحَتْ و وُضِعَت جانباً في الحالة التالية، ليأتي دَوْر تلقين الوحي و التدلّي و الدُّنوّ من مَقام العزّة و الحقّ تعالى، و رؤية ذلك الجلال الإلهيّ، فإنّ الدنوّ و الاقتراب و الرؤية في الحالة الجديدة كلّها تعود إلى الله عزّ و جلّ حيث عاين رسول الله كلّ ذلك ليلة عُرِج به إلى العُلى، و رأي الله و زاره بقلبه و بصيرته في تلك الليلة المباركة.
و لقد وردت أبحاث مفصّلة في التفاسير المختلفة حول لقاء و زيارة ليلة المعراج.
فسماحة استاذنا الأكرم العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله تربته المنيفة يقول: «و ما أوردناه من الآيات هي الفصل الأوّل من فصول السورة الثلاثة و هي الآيات اللاتي تصدق الوحي إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و تصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام
ناصّة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كلّ وحي، بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيّه صلى الله عليه و آله ليلة المعراج.
فالآيات متضمّنة لقصّة المعراج و ظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات و هو المستفاد أيضاً من أقوال بعض الصحابة كابن عبّاس و أنس و سعيد الخدريّ و غيرهم على ما روي عنهم و على ذلك جري كلام المفسّرين و إن اشتدّ الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها و جملها».۱
و على هامش الآية الشريفة {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}- يقول العلّامة قدّس الله روحه:
«و ليس في الآية ما يدلّ على أن متعلّق الرؤية هو الله سبحانه و أنّه لمرئي له صلى الله عليه و آله، بل المرئيّ هو الافق الأعلى و الدنوّ و التدلّي و أنّه اوحي إليه، فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة و هي آيات له تعالى، و يؤيّد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الأخرى من قوله:
{ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}.
آيات سورة النجم دالّة على رؤية النبيّ لله تعالى في المعراج
على أنّها لو دلّت على تعلّق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنّها رؤية القلب و رؤية القلب غير رؤية البصر الحسّيّة التي تتعلّق بالأجسام و يستحيل تعلّقها به تعالى و قد قدّمنا كلاماً في رؤية القلب في تفسير سورة الأعراف، الآية ۱٤٣».٢
و قال رحمة الله عليه في تعليقه على الآية الشريفة {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}:
«و قد قالوا: أن ضمير الفاعل المستكن في قوله رَءَاهُ للنبيّ صلى الله عليه و آله، و ضمير المفعول لجبرئيل، و على هذا فالنزلة نزول جبرئيل ليعرج به إلى السماوات، و قوله:
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} ظرف للرؤية لا للنزلة، و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصليّة.
و المعني: أنّه نزل عليه صلى الله عليه و آله نزلة أخرى و عُرِج به إلى السماوات و تراءي له صلى الله عليه و آله عند سدرة المنتهى و هو في صورته الأصليّة.
و قد ظهر ممّا تقدّم صحّة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى و المراد بالرؤية رؤية القلب و المراد بـ: {نَزْلَةً أُخْرى} نزلة النبيّ عند سدرة المنتهى في عروجه إلى السماوات، فالمفاد أنّه نزل نزلة أخرى أثناء معراجه عند
سدرة المنتهى فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الاولي».۱
و تعليقاً على الآية {ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى} قال قدّس الله سرّه:
«الزَّيْغُ الميل عن الاستقامة، و الطغيان تجاوز الحدّ في العمل، و زَيْغُ البَصَرِ إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، و طغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، و المراد بالبصر بصر النبيّ.
و المعني: أنّه صلى الله عليه و آله لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقيّة و لا أبصر ما لا حقيقة له، بل أبصر غير خاطئ في إبصاره.
و المراد بالإبصار رؤيته صلى الله عليه و آله بقلبه لا بجارحة العين، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الاولى التي يشير إليها بقوله: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى}. فافهم و لا تغفل».
و علّق رحمة الله عليه على الآية الشريفة {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} بقوله:
مِنْ للتبعيض، و المعني: أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربّه، و بذلك تمّ مشاهدة ربّه بقلبه، فإنّ مشاهدته تعالى بالقلب إنّما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته، فإنّ الآية بما هي آية لا تحكي إلّا ذا الآية و لا تحكي عن نفسه شيئاً و إلّا لم تكن من تلك الجهة آية.
و أمّا مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسّط آية و تخلّل حجاب فمن المستحيل ذلك، قال تعالى:
{وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}. (الآية ۱۱۰، من السورة ٢۰: طه).٢
الروايات الواردة في رؤية النبيّ لله عزّ و جلّ في المعراج
و قد أورد العلّامة في بحث روائيّ: و في «تفسير القمّيّ» بإسناده إلى ابن سِنان في حديث قال أبو عبد الله عليه السلام:
وَ ذَلِكَ أنَّهُ- يَعْنِي النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ- أقْرَبُ الخَلْقِ إلَى اللهِ تعالى، وَ كَانَ بِالمَكَانِ الذي قَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ لَمَّا اسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ! فَقَدْ وَ طَأتَ مَوْطِئاً لَمْ يَطَأهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ. و لَوْ لَا أن رُوحَهُ و نَفْسَهُ كَانَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ لَمَا قَدَرَ أن يَبْلُغَهُ.
وَ كَانَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ كَمَا قَالَ عَزَّ وَ جَلَّ: {قَابَ قَوْسَيْنِ (أي ذراعين) أوْ أدْنَي}؛ أيْ: بَلْ أدْنَى.
و في «المجمع» و روي مرفوعاً عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله في قوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ}، قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين.
و في «التوحيد» بإسناده إلى محمّد بن الفضيل قال: سَألْتُ أبَا الحَسَنِ عليه السلام: هَلْ رَأي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَبَّهُ عَزّ وَ جَلَّ؟!
فَقَالَ: نَعَمْ! بِقَلْبِهِ رَآهُ؛ أ مَا سَمِعْتَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}؟ لَمْ يَرَهُ بِالبَصَرِ وَ لَكِنْ رَآهُ بِالفُؤَادِ.۱
و في «الدرّ المنثور» أخرج عبد بن حَميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن محمّد بن كعب القَرْظيّ، عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم قال:
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟
قَالَ: لَمْ أرَهُ بِعَيْنِي؛ وَ رَأيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَلَا: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى}.
قال العلّامة قدّس سرّه:
«أقول: و روي هذا المعنى النسائيّ عن أبي ذرّ- على ما في «الدرّ المنثور»- و لفظه رَأي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ، وَ لَمْ يَرَهُ بِبَصَرِهِ.
و عن «صحيح مسلم» و الترمذيّ و ابن مردويه، عن أبي ذرّ قال: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فَقَالَ: نُورَانِيّ أرَاهُ۱.
أقول: «نُورَانِيٌّ» منسوب إلى النور على خلاف القياس، كجسمانيّ في النسبة إلى جسم. و قرئ «نُورٌ إنِّي أرَاهُ» بتنوين الراء و كسر الهمزة و تشديد النون ثمّ ياء المتكلِّم، و الظاهر أنّه تصحيف و إن ايِّد برواية أخرى عن مسلم في صحيحه، و ابن مردويه عن أبي ذرّ أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فقال: رَأيْتُ نُوراً!
و كيف كان فالمراد بالرؤية رؤية القلب، فلا الرؤية رؤية حسّيّة
و لا النور نور حسّيّ.
و في «الكافي» بإسناده عن صفوان بن يحيي قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن ادخِله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام. فاستأذنته في ذلك، فأذِنَ لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام. إلى قوله: أبو قرّة، فإنّه يقول: {وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}.
فقال أبو الحسن عليه السلام: أن بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا رَأى؛ حَيْثُ قَالَ: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}. يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَأتْ عَيْنَاهُ.
ثُمَّ أخْبَرَ بِمَا رَأى فَقَالَ: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}؛ و آيات الله غير الله.
أقول: الظاهر أن كلامه عليه السلام مسوق لإلزام أبي قُرّة، حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسّيّة فألزمه بأنّ الرؤية إنّما تعلّقت بالآيات، و آيات الله غير الله، و لا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته تمثّل رؤيته تعالى و إن كانت آياته غيره، و هذه الرؤية إنّما كانت بالقلب كما مرّت عدّة من الروايات في هذا المعنى.
و جاء في «تفسير القمّيّ» بإسناده إلى إسماعيل الجعفيّ عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام في حديث طويل:
فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، تَخَلَّفَ عَنْهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخْذُلُنِي؟!
فَقَالَ: تَقَدَّمْ أمَامَكَ! فَوَ اللهِ لَقَدْ بَلَغْتَ مَبْلَغاً لَمْ يَبْلُغْهُ أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَكَ! فَرَأيْتُ مِنْ نُورِ رَبِّي، وَ حَالَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ السُّبْحَةُ۱.
قُلْتُ: وَ مَا السُّبْحَةُ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟! فَأوْمَى بِوَجْهِهِ إلَى الأرْضِ وَ أوْمَأ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ وَ هُوَ يَقُولُ: جَلَالُ رَبِّي! جَلَالُ رَبِّي! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
أقول: السُّبحة الجلال كما فسّر في الرواية، و السبحة ما يدلّ على تنزّهه تعالى من خَلْقه و مرجعه إلى المعنى الأوّل، و محصّل ذيل الرواية أنّه صلى الله عليه و آله رأى ربّه برؤية آياته».۱
و أمّا القاضي البيضاويّ فقد قال في تفسير الآية الشريفة {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى}:
«ما رأى ببصره من صورة جبرائيل عليه السلام أو الله تعالى، اي ما كذب بصره بما حكاه له، فإنّ الامور القدسيّة تُدرَك أوّلًا بالقلب ثمّ تنتقل منه إلى البصر.
أو ما قال فؤاده لمّا رآه: لم أعرفك؛ و لو قال ذلك كان كاذباً، لأنّه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، أو ما رآه بقلبه، و المعنى أنّه لم يكن تخيّلًا كاذباً. و يدلّ على ذلك «أنّه عليه الصلاة و السلام سئل: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟! فقال: رَأيْتُهُ بِفُؤَادِي!».٢
و قال في تفسيره {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى}: «التي ينتهي إليها أعمال الخلائق و علمهم، أو ما ينزل من فوقها و يصعد من تحتها، و لعلّها شُبّهت بالسدرة و هي «شجرة النَّبْق» لأنّهم يجتمعون في ظلّها، و روي مرفوعاً أنّها في السماء السابعة».٣
و قال في تفسير {أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى}: «إنكار لقولهم الملائكة بنات الله، و هذه الأصنام استوطنها جنّيّات هنّ بناته، أو هياكل الملائكة و هو المفعول الثاني لقوله: {أ فَرَأَيْتُمُ}.۱
كلام جبرئيل: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ
و قد شاهدنا في تفسير «علي بن إبراهيم» عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قوله: فَلمّا انتَهى بهِ إلى سِدرةِ المُنتَهى، تَخَلّفَ عَنهُ جَبْرَئِيلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: في هَذَا المَوْضِعِ تَخذُلُني؟!
فقال: تقدّم أمامك! فو الله لقد بلغت مبلغاً لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك!
و قد ورد في كثير من كتب العرفان أن جبرائيل قال: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
و ذكر الشيخ نجم الدين الرازيّ هذا الحديث في «مرصاد العباد» في أربعة أماكن٢، و في رسالة «عشق و عقل» (= الحبّ و العقل) في ثلاثة أماكن٣. و قال المعلِّق على هذه الرسالة: «لقد جاء ذِكر هذا الحديث متواصلًا في «مرصاد العباد» و «احاديث مثنوي (= أحاديث المثنويّ). و لم نجده في «مجمع البحرين» و «المعجم المفهرس» في حاشية موادّ: دَنا و دَنَوْتُ و أنْمُلَة، و حَرَقَ٤. و هذا المضمون ينسب إلى جبرئيل عليه السلام و أنّه قاله للرسول صلى الله عليه و آله ليلة المعراج. و ورد ذكر هذا الكلام و معناه في أشعار الكثير من العرفاء خاصّة، و من جملتهم (سعدي) في
ديوانه «بوستان» حيث يقول:
اگر ذرّهاى موى برتر پرم | *** | فروغ تجلّى بسوزد پرم۱ |
كريم السجايا جميل الشيم | *** | نبيّ البرايا شفيع الامم |
امام رسل پيشواى سبيل | *** | امين خدا مهبط جبرئيل |
شفيع الورى خواجة بعث و نشر | *** | إمام الهدى صدر ديوان حشر |
كليمى كه چرخ فلك طور اوست | *** | همه نورها پرتو نور اوست |
شفيعٌ مُطاعٌ نبى كريم | *** | قسيمٌ جسيمٌ نسيمٌ وسيم |
يتيمى كه ناكرده قرآن درست | *** | كتبخانه چند ملّت بشست |
چو عزمش بر آهيخت شمشير بيم | *** | به معجز ميان قمر زد دو نيم |
چو صيتش در افواه دنيا فتاد | *** | تزلزل در ايوان كسرى فتاد |
به لا قامت لات بشكست خُرد | *** | به إعزاز دين آب عُزّى ببرد |
نه از لات و عُزّى برآورد گرد | *** | كه تورات و انجيل منسوخ كرد |
شبى بر نشست از فلك بر گذشت | *** | به تمكين و جاه از ملك درگذشت |
چنان گرم در تيه قربت براند | *** | كه بر سدره جبريل ازو باز ماند |
بدو گفت سالار بيت الحرام | *** | كه اى حامل وحى برتر خرام |
چو در دوستى مخلصم يافتي | *** | عنانم ز صحبت چرا تافتى؟ |
بگفتا فراتر مجالم نماند | *** | بماندم كه نيروى بالم نماند |
اگر يك سر موى برتر پرم | *** | فروغ تجلّى بسوزد پرم |
...۱
خدايا به حقّ بنى فاطمه | *** | كه بر قولم ايمان كنم خاتمه |
اگر دعوتم ردّ كنى ور قبول | *** | من و دست و دامان آل رسول |
چه كم گردد اى صدر فرخنده پى | *** | ز قدر رفيعت بدرگاه حيّ |
كه باشند مشتى گدايان خيل | *** | به مهمان دار السّلامت طفيل |
خدايت ثنا گفت و تبجيل كرد | *** | زمين بوس قدر تو جبريل كرد |
بلند آسمان پيش قدرت خجل | *** | تو مخلوق و آدم هنوز آب و گل |
تو اصل وجود آمدى از نخست | *** | دگر هر چه موجود شد فرع تست |
ندانم كدامين سخن گويمت | *** | كه والاترى ز آنچه من گويمت |
ترا عزّ لَوْلاكَ تمكين بس است | *** | ثناى تو طه و يس بس است |
چه وصفت كند سعدى ناتمام | *** | عليك السّلام اى نبى السّلام |
...۱
و قال الشيخ نجم الدين الرازيّ: «كان جبرئيل و ميكائيل بازينِ صيّادَينِ في مُتصيّد ملكوت الله عزّ و جلّ يصطادان طيور التقديس و التنزيه {وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ}. فلمّا استحالت التوبة إلى صفات الجمال و طمحا ببصرهما إلى مواطن الصمديّة و الجلال استحالا مقصوصَي الجناح و تركا الصيد في تلك البقاع البراح، فقالا: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
مرغ كآنجا پريد پر بنهاد | *** | ديو كآنجا رسيد سر بنهاد٢ |
و قيل لهم: لقد اصطدنا صيّاداً في مُتَصَيَّد الأزل بشباك «يُحِبُّهُمْ» و سنأتي به إلى هذا المُتصيَّد: إنِّي جَاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً، حتى يُريكم كيف يَتصيَّد. شعر:
در بحر عميق غوطه خواهم خوردن | *** | يا غرقه شدن يا گهرى آوردن٣ |
كار تو مخاطرهست خواهم كردن | *** | يا سرخ كنم روى ز تو يا گردن۱ |
فقالوا بأجمعهم: لا جَرَمَ إذا سبقنا هذا الصياد، في ميدان السباق بصولجان المعنى، و عمل ما لا نستطيع نحن عمله، و صاد ما لم نتمكّن جميعاً اصطياده، فإنّنا سنقوم مَقامَ خَدَمِهِ، و سنسرُّ للسجود بقلوبنا و أرواحنا أمامه...»٢- إلى آخر عباراته اللطيفة من ذلك المقال.
نعم، فهذا كلّه يشير بالبنان إلى المقام الأوحد و المنزلة الجامعة لرسول الله صلى الله عليه و آله و أصحابه الحقيقيّين، حيث لم يتمكّن جبرئيل من أن ينال ذلك المقام أو أن يحرز تلك المنزلة و يظفر بمراده، فأخذ يقول: لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ. و قد روي عن نبيّ الله أنّه قال:
"لِي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ"٣.
...۱
بسم الله الرحمن الرحيم | *** | هست كليد در گنج حكيم |
همسفرانش سپر انداختند | *** | بال شكستند و پر انداختند |
او به تحيّر چو غريبان راه | *** | حلقه زنان بر در آن بارگاه |
پردهنشينان كه درش داشتند | *** | هودج او يك تنه بگذاشتند |
رفت بدان راه كه همره نبود | *** | اين قدمش ز آن قدم آگه نبود |
هر كه جز او بر در آن راز ماند | *** | او هم از آميزش خود باز ماند |
چو بيرون رفت از آن ميدان خضرا | *** | ركاب افشاند از صحرا به صحرا |
بدان پرندگى طاووس اخضر | *** | فكند از سرعتش هم بال و هم پر |
چو جبريل از ركابش باز پس گشت | *** | عنان بر زد ز ميكائيل بگذشت |
سرافيل آمد و بر پر نشاندش | *** | به هودج خانة رفرف رساندش |
ز رفرف بر رف طوبى علم زد | *** | وز آنجا بر سر سدره قدم زد |
جريده بر جريده نقش مىخواند | *** | بيابان در بيابان رخش ميراند |
...۱
چو بنوشت آسمان را فرش بر فرش | *** | به استقبالش آمد تارك عرش |
فرس بيرون جهاند از كلّ كونين | *** | علم زد بر سرير قابَ قَوسَين |
قِدم برقع ز روى خويش برداشت | *** | حجاب كائنات از پيش برداشت |
جهت را جعد بر جبهت شكستند | *** | مكان را نيز برقع باز بستند |
محمّد در مكان بى مكاني | *** | پديد آمد نشان بى نشانى |
كلام سرمدى بى نقل بشنيد | *** | خداوند جهان را بىجهت ديد |
بر طرّه هفت بام عالم | *** | نه طاس گذاشتى نه پرچم |
هم پرچم چرخ را گسستى | *** | هم طاسك ماه را شكستى |
طاووس پران چرخ اخضر | *** | هم بال فكنده با تو هم پر |
جبريل ز همرهيت مانده | *** | الله معك ز دور خوانده |
ميكائيلت نشانده بر سر | *** | و آورده به خواجه تاج ديگر |
...۱
اسرافيلت فتاده در پاي | *** | هم نيم رهت بمانده بر جاي |
رفرف كه شده رفيق راهت | *** | برده به سرير سدره گاهت |
چون از سر سدره بر گذشتى | *** | اوراق حدوث در نوشتى |
رفتى ز بساط هفت فرشي | *** | تا طارم تنگبار عرشي |
سبّوح زنان عرش پايه | *** | از نور تو عرش كرده سايه |
از حجلة عرش بر پريدى | *** | هفتاد حجاب را دريدي |
تنها شدى از گرانى رخت | *** | هم تاج گذاشتى و هم تخت |
بازار جهت به هم شكستى | *** | از زحمت تحت و فوق رستى |
خرگاه برون زدى ز كونين | *** | در خيمة خاص قاب قوسين |
هم حضرت ذوالجلال ديدي | *** | هم سرّ كلام حقّ شنيدى |
از غايت وهم و غور ادراك | *** | هم ديدن و هم شنودن پاك |
در خواستى آنچه بود كامت | *** | در خواسته خاص شد به نامت |
...۱
هم رفيقش ز تركتاز افتاد | *** | هم براقش ز پويه باز افتاد |
منزل آنجا رساند كز دوري | *** | ديد در جبرئيل دستوري |
سر برون زد ز مهد ميكائيل | *** | به رصد گاه صور إسرافيل |
گشت از آن تخت نيز رخت گراي | *** | رفرف و سدره هر دو مانده به جاي |
همرهان را به نيمه ره بگذاشت | *** | راه درياى بيخودى (بيرهي) برداشت |
قطره بر قطره ز آن محيط گذشت | *** | قُطر بر قُطر هر چه بود نوشت |
چون در آمد به ساق عرش فراز | *** | نردبان ساخت از كمند نياز |
سر برون زد ز عرش نوراني | *** | در خطر گاه سرّ سبحاني |
حيرتش چون خطر پذيرى كرد | *** | رحمت آمد لگام گيرى كرد |
قاب قوسين او در آن اثنا | *** | از دنا رفت سوى أو أدنى |
چون حجاب هزار نور دريد | *** | ديده در نور بى حجاب رسيد |
گامى از بود خود فراتر شد | *** | تا خدا ديدنش ميسّر شد |
ديد معبود خويش را به درست | *** | ديده از هر چه ديده (غير) بشست |
...۱
و في هذا المَقام يقول الشيخ نجم الدين أيضاً:
«... و أمّا آدم، فهو بيضة عنقاء جبل العِزّة. و تلك العنقاء هي لي خليفة و لكم سلطان، فـ{اسْجُدُوا لِآدَمَ} عند قدمَيْه و لا تقولوا {أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} ناظرين بعين الحقارة إليه، {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} فيه. فاغتنموا الفرصة ما دام في البيضة و اسجدوا له، فإنّه لو خرج من البيضة فسيكون تحليقه إلى حيث عالَم لي مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ [وَ لَا نَبِيّ مُرْسَلٌ]، فلن تبقى لكم إلّا الحسرة، و ستأخذكم العَبرة و الحيرة و تكثرون من قول لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ، و يكون كلامكم في كلّ وقت:
آن مرغكِ من كه بود زرّين بالش | *** | آيا كه كجا پريد و چون شد حالش |
از دست زمانه خاك بر سر باشم | *** | پرواز چرا نكردم از دنبالش (خ ل)٢ |
...۱
لي مع الله وقت بود آن دم مرا | *** | لا يسع فيه نبيّ مجتبي |
لا يسع فينا نبيّ مرسلٌ | *** | و المَلَك و الرّوح أيضًا فاعقلوا |
چون سايه دويدم ز پيش روزى چند | *** | وز ساية او به ساية او خرسند |
امروز چو آفتاب معلومم شد | *** | كو سايه بر اين كار نخواهد افكند |
خوان تو أبيتُ عِنْدَ رَبّي | *** | خواب تو وَ لا يَنامُ قَلْبي |
اى كرده به زير پاى، كونين | *** | بگذشته ز حدّ قابَ قَوسَين |
ما سوى الله تعالى حجاب؛ و المعرفة التامّة مشروطة بانتفاء
...۱
و خلاصة الكلام في هذا المقام أنّه: ما لم تَزُل كلّ ذرّة من الأنانيّة من الإنسان، فلن يُسمَح له بالعروج إلى مَنسَك العدم و الفَناء المطلقَينِ المتزامنَينِ مع الوجود المطلق. فذلك مقام خاصّ بذات الله عزّ و جلّ و وجوده. و الله سبحانه غيور، و من شروط الغَيرة نَهر كلّ من استقرّت في قراره ذرّة من بقايا شخصيّته و أنانيّته.
تا بود يك ذرّه باقى از وجود | *** | كى شود صاف از كدر، جام شهود٢ |
فالمسألة جَدُّ مُحيِّرة، إذ يتحتّم هجر كلّ ما سوى الله تعالى للوصول
خاك قدم تو اهل عالم | *** | زير عَلَم تو نسل آدم |
طاووس ملائكه بَريدت | *** | سرخيل مقرّبان مريدت |
چون نيست بضاعتى ز طاعت | *** | از ما گنه و ز تو شفاعت |
إليه، فكلّ ما سوى الله حجاب و سراب، و ما دام ذلك الحجاب باقياً، فلا سبيل إلى الحصول على المعرفة التامّة. و ما اكتُسِبَ من المعرفة إن هي إلّا معرفة جزئيّة و ناقصة. أن المعرفة الحاصلة من مشاهدة خلق الله تعالى من جبال و أحجار، و صَحارٍ و قفار، و التعرّف على حيوانات البَرّ و البحار، و ما إلى ذلك، إنّما هي معارف جزئيّة و ليست كلّيّة، و المهمّ في هذه المسألة هو المعرفة الكلّيّة، و لا سبيل للوصول إليها إلّا باجتياز سبيل خطير و عظيم!
إن العالِم في الرياضيّات الذي يكتشف بواسطة قوانينه الرياضيّة أن القرآن معجزة، و ذلك بسبب الاسلوب القويم لآياته، و السياق المتوازن لسوره، و يتوصّل إلى أن الآيات الخاصّة بالجهاد هي بالشكل الفلانيّ، و الآيات الخاصّة بالصلاة و الصوم بالشكل العلّانيّ، ثمّ يتوصّل طبقاً لحساباته الحاسوبيّة (الكومبيوتريّة) إلى إثبات أن هكذا جُمَل و هكذا ألفاظ لا يمكن للبشر أن يصوغ مثيلاتها، أو حتى صَبّها في قالبٍ يشبه إلى حدٍّ ما تلك الآيات الشريفة، و أنّه بدون تدخّل لقوّة غيبيّة أو أمرٍ من ما وراء الطبيعة سيكون ذلك مستحيلًا، و لن يكون بإمكان أحد على الإطلاق إيجاد مثل تلك الظاهرة العجيبة. فإنّ هذا، في الواقع، هو نوعٌ من أنواع المعرفة بالقرآن الكريم، و مع هذا فإنّ البُعدَ بين هذه المعرفة، و بين المعرفة الحقيقيّة للقرآن كبُعد الثريّا عن الثري! و بينهما ألفا حجاب! فأين هذه المعرفة و أين الدخول في أعماق و حقائق القرآن و بواطنه و معرفة تفسيره و تأويله و طريقة تطبيق آياته على مصاديقه؟
{أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ}.۱
فهذه المعرفة لا يمكن لها أن تكون معرفة مقنعة؛ انظروا إلى كلّ آية
من آيات هذا الكتاب السماويّ و ستجدون كلّ واحدة من تلك الآيات مرآة تعكس وجه الله عزّ و جلّ، إلّا أن الفَرق بين رؤية مَن كانت عيونهم مفتوحة و مَن كانت على أبصارهم غشاوة جِدُّ شاسع و بعيد. فهذا الأمر يستدعي التحقُّق من صحّة الباصرة و فحصها بدقّة.
فلو كانت عينا أحدهم عمياء، فليس معنى ذلك أن سُبُل كلّ العلوم مغلقة في وجهه، بل معناه أن بإمكانه أن يحصل على كثير من العلوم عن طريق سائر حواسّه الأخرى كحاسّة السمع و حاسّة الشمّ و حاسّة اللمس و حاسّة الذوق؛ لكنّ الفَرق بينه و بين مَن كانت حاسّة بصره سليمة من أيّة عاهة و تتمتّع ببصر و بصيرة سالمتَينِ كالفَرق بين السماء و الأرض.
فلا يتمّ اجتماع الله مع سواه ما دامت هناك في ذهن الإنسان أمانيّ باطلة، و نوايا تَشطُطُ، و أهداف نفسانيّة شيطانيّة، و أغراض مادّيّة من حبّ المال و البنين و الجاه و المقام و غير ذلك.
الأبيات الحكيمة لمجنون ليلى في معشوقته
أنشد قيس بن الملوّح العامريّ أبياتاً من الشِّعر في حبّ ابنة عمّه و معشوقته ليلى العَامِرِيَّة، تحتوي على أروع ما انشِدَ من الشِّعر في مقام الحِكمة و الدقائق العقلانيّة و تُعتَبَر بحقّ كتاباً للعرفان و الأسرار و الرموز الشهوديّة، مُبيّناً سبيل الوصول إلى المحبوب. و حتى لو كانت تلك الأبيات في ظاهرها تحكي قصّة حبّ عُذريّ مجازيّ، إلّا أنّها تحوي الكثير من الامور الراقية المفاهيم و العالية المعنى بوجه عامّ، تَصدُق مبانيها على كلّ عاشقٍ حقيقيّ و صادق في حبّه. و تتضمّن مفهوماً يتعلّق بحبّ الله عزّ و جلّ، و تكشف بطريقة مدهشة أسرار السلوك إلى الله و الوصول إليه و الفَناء في ذاته المقدّسة، و تُميط الستار عن أعظم حجاب معنويّ، و تصف أسلم الطرق و أ أمَنَها للوصول إلى المقام الأقدس لذات الله سبحانه.
يقول قيس بن الملوّح و المعروف عند العامّة بمجنون ليلى:
تَمَنَّيْتُ مِنْ ليلى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً | *** | لِيُطْفَي جَوى بَيْنَ الحَشا وَ الأضالِعِ |
فَقالَتْ نِسَاءُ الحَيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَي | *** | بِعَيْنَيْكَ ليلى مُتْ بِداءِ المَطامِعِ |
وَ كَيْفَ تَرَى ليلى بِعَيْنٍ تَرَى بِها | *** | سِواها وَ ما طَهَّرْتَها بِالمَدامِعِ |
وَ تَلْتَذُّ مِنْها بِالحَديثِ وَ قَدْ جَرَي | *** | حَديثُ سِواها في خُروقِ المَسامِعِ۱ |
و ليس بإمكان من صحب غير الله و خاطب أعداءه و احتوى على مقاصد غير إلهيّة، و نوايا غير سبحانيّة، و آمالٍ دَنيّة دنيويّة، أن يلقى الله تعالى و يتشرّف برؤيته. و بحكم امتناع اجتماع الضِّدَّيْن أو النقيضَيْن، فلا سبيل لدخوله ذلك الميدان ما لم تَزُل النقائض و تنمح تلك الأعراض.
منظر دل نيست جاى صحبت اغيار | *** | ديو چو بيرون رود فرشته درآيد.٢ |
و إذ رُمتُ من ليلى عن البُعد نظرةً | *** | لأُطفى بها نارَ الحَشا و الأضالِعِ |
تقول نساءُ الحيّ تَطمعُ أن تَرى | *** | مَحاسن ليلى مُتْ بداءِ المَطامِعِ |
...۱
بر سر آنم كه گر ز دست برآيد | *** | دست بكارى زنم كه غصّه سر آيد |
منظر دل نيست جاى صحبت اضداد | *** | ديو چو بيرون رود فرشته درآيد |
صحبت حكّام، ظلمتِ شبِ يلداست | *** | نور ز خورشيد خواه بو كه برآيد |
بر در ارباب بى مروّت دنيا | *** | چند نشينى كه خواجه كى بدر آيد |
ترك گدائى مكن كه گنج بيابي | *** | از نظر رهروى كه بر گذر آيد |
صالح و طالح متاع خويش نمودند | *** | تا كه قبول افتد و چه در نظر آيد |
بلبل عاشق تو عمر خواه كه آخر | *** | باغ شود سبز و سرخ گل به برآيد |
غفلت حافظ درين سراچه عجب نيست | *** | هر كه به ميخانه رفت بى خبر آيد |
بگذرد اين روزگار تلختر از زهر | *** | بار دگر روزگار چون شكر آيد |
صبر و ظفر هر دو دوستان قديمند | *** | بر اثر صبر نوبت ظفر آيد |
جَلَّ جَنَابُ الحَقِّ عَنْ أن يَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ
لقد خصّص ابن سينا، «النمط التاسع» من كتابه «الإشارات» لمقام العارفين، و يقول في نهاية ذلك النمط:
«إشارَةٌ: جَلَّ جَنَابُ الحَقِّ عَنْ أن يَكُونَ شَرِيعَةً لِكُلِّ وَارِدٍ، أوْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إلَّا وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ. وَ لذَلِكَ فَإنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الفَنُّ ضُحْكَةٌ لِلْمُغَفَّلِ عِبْرَةٌ لِلْمُحَصِّلِ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ فَاشْمَأزَّ عَنْهُ فَلْيَتَّهِمْ نَفْسَهُ، لَعَلَّهَا لَا تُنَاسِبُهُ؛ وَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.»۱
و حكي الشيخ بهاء الدين العامليّ أنّه ورد في رواية أن إبراهيم بن أدهم كان يطوف بالكعبة فرأى شابّاً أمرد جميل الوجه وسيم الطلعة. فنظر إليه برهة ثمّ تنحّى عنه و توارى بين المُطَّوِّفين
فلمّا اختلى بنفسه سأله بعضهم عن سبب تلك النظرة قائلين: لم نشهد لك مثل تلك النظرة إلى شابٍّ جميل فيما سبق!
فقال: هو ابني، و قد كنتُ تركته في خراسان. فلمّا شبّ ترك مدينته
و طفق يبحث عنّي، فخفتُ أن يشغلني عن ذِكر الله، و خشيتُ إن هو عرفني أن آنس به. ثمّ أنشد هذه الأبيات:
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرَّاً في هَوَاكَا | *** | وَ أيْتَمْتُ العِيَالَ لِكَيْ أرَاكَا |
فَلَوْ قَطَّعْتَنِي في الحُبِّ إرْباً | *** | لَمَا حَنَّ الفُوَادُ إلى سِوَاكَا۱ |
*** |
احِبُّ التُّقَى وَ النَّفْسُ تَطْلُبُ غَيْرَهُ | *** | وَ إنِّي وَ إيَّاهَا لَمُصْطَرِعانِ |
فَيَوْمٌ لَهَا مِنِّي وَ يَوْمٌ اذِلُّهَا | *** | كِلَانَا عَلَى الأيَّامِ مُعْتَرِكَانِ٢ |
بيان حال سيّد الشهداء عليه السلام في الخلوة بالحبيب
و بناءً على ما قيل، فإنّ الأبيات التي مطلعها:
*** | هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرَّاً في هَوَاكَا |
مرويّة عن إبراهيم بن أدهم، و أمّا نسبتها إلى سيّد الشهداء الحسين
هجرتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا | *** | و أيتَمتُ العيالَ لكي أراكا |
و لو قَطّعتَ إرباً ثُمّ إرباً | *** | لما حنّ الفؤادُ إلى سواكا |
عليه السلام و ذلك على المنابر الحسينيّة فإنّ هذا لسان حاله لا لسان مقاله.
لقد كان ذلك الإمام المعصوم روحي و أرواح العالمين فداه اسوة حسنة و مثالًا يُحتَذى به في الفَناء في ذات الحقّ تعالى، إذ لا تنتهي المسألة بيوم عاشوراء و لا تُطوي بانطواء أحداثها في ذلك اليوم، بل أن نفسه الزكيّة و روحه الطاهرة كانت مجبولة على هذه الحال في سبيل الله عزّ و جلّ. أن يوم عاشوراء كان ساحة للتجلّي و الظهور، كان يوم مكاشفة الخلائق و العوالم بما خفي عنهم و إبداء ما لم يُبْدَ لهم.
و ما أروع ما أنشد ناصر الدين شاه القاجاريّ في هذا المقام، يقول:
عشقبازى كار هر شيّاد نيست | *** | اين شكارِ دام هر صيّاد نيست |
عشق از معشوقه أوّل سر زند | *** | تا به عاشق جلوهي ديگر كند |
تا به حدّى بگذرد هستى ازو | *** | سر زند صد شورش و مستى ازو |
طالب اين مُدّعَى خواهى اگر | *** | بر حسين و كربلايش كن نظر۱ |
روز عاشورا شه دنياى عشق | *** | كرد رو به جانب سلطان عشق |
بارالها اين سرم اين پيكرم | *** | اين علمدار رشيد اين أكبرم |
اين سُكينه اين رقيّه اين رباب | *** | اين تنِ عريان ميان آفتاب |
اين من و اين ذكر يا رب يا ربم | *** | اين من و اين نالههاى زينبم |
پس خطاب آمد ز حقّ كاى شاه عشق | *** | اى حسين اى يكّه تاز راه عشق |
گر تو بر ما عاشقى اى محترم | *** | پرده بر چين من ز تو عاشقترم |
هر چه از دست دادهاى در راه ما | *** | مرحبا صد مرحبا خود هم بيا |
خود بيا كه مىكشم من ناز تو | *** | عرش و فرشم جمله پا انداز تو۱ |
خود بيا كه من خريدار توام | *** | مشترى بر جنس بازار توام |
ليك خود تنها ميا در بزم يار | *** | خود بيا و اصغرت را هم بيار |
خوش بود در بزم ياران بلبلي | *** | خاصه در منقار او باشد گلى |
خود تو بلبل، گل على أصغرت | *** | زودتر بشتاب سوى داورت۱ |
يقول المؤرّخ و العالم المعاصر حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ محمّد شريف الرازيّ أمدّ الله في عمره الشريف، و الذي تشرّف الحقير بمعرفة سماحته مدّة خمسين سنة، حول تشرّفه مرّة بزيارة المرقد الطاهر لسيّد الشهداء عليه السلام: أن القصائد الشعريّة التي يردّدها أهل المنابر الحسينيّة هي من تأليفه هو و قد أنشدها ارتجالًا أثناء دخوله إلى الحائر الشريف:
گر دعوت دوست مىشنيدم آن روز | *** | من گوى مراد مىربودم آن روز |
آن روز بود كه روز هَل مِن ناصر | *** | ايكاش كه ناصر تو بودم آن روز٢ |
ثمّ شهق شهقة و اغشيَ عليه. فلمّا عاد إلى وعيه بدأ ينشد الأبيات التالية و هو يبكي:
تو كيستى كه گرفتى به هر دلى وطني | *** | كه نه در انجمنى نى برون ز انجمني |
محمّدى نه، على نه، حسن نه پس تو كهاي | *** | كه جلوهها بنمودى چو گل به هر چمنى |
به خلق مثل محمّد به خوى مثل عليّ | *** | به روى از همهي خلق، خلقت حسني |
همان حسين غريبى كه روز عاشورا | *** | جهان مصالحه كردى به كهنه پيرهنى۱ |
إسكندر و من، اي شه معبود صفات | *** | بر گرد جهان صرف نموديم اوقات |
بر همّت من كجا رسد همّت او | *** | من خاك در تو جستم او آب حيات |
در طوس، حريم كبريا مىبينم | *** | بى پرده تجلّى خدا مىبينم |
در كفش كَن حريم پور موسى | *** | موساى كليم با عصا مىبينم |
إلى آخر القصيدة.
عظمة الأوج العرفانيّ لسيّد الشهداء عليه السلام
لقد ابتغى هؤلاء الشعراء تبيان تلك الحالة التي اعترت سيّد الشهداء عليه السلام مصوِّراً مقولة «لي مَعَ الله»، تلك الحالة التي تمثّلت فيها السعادة و الأوقات العصيبة، و التي لم يكن لأيّ مَلَك مُقَرَّب أو نبيّ مُرْسَل قدرة الوصول إلى ذلك المقام الرفيع، أو تحمّل تلك الرموز العرفانيّة السامية على الإطلاق.
فلننظر معاً إلى التعابير الجزلة و الإشارات البديعة و اللطائف المليحة لحجّة الإسلام الشيخ محمّد تقي نيّر التبريزيّ، و هو يصف جانباً من حالات ذلك الإمام الهمام و الصمصام البتّار، و القائد الذي تنصّل عن كينونته و طلب الالتحاق بالمحبوب، عزيزه.
يشرح الشيخ التبريزيّ حالة ذلك المقدام في ميدان الحبّ السرمديّ
و ابتغائه الوصول إلى المحبوب الأزليّ و مقصوده و مراده الأبديّ قائلًا:
تا خبر دارم از او، بى خبر از خويشتنم | *** | با وجودش ز من آواز نيايد كه منم |
پيرهن گو همه پُر باش ز پيكان بلا | *** | كه وجودم همه او گشت من اين پيرهنم |
باش يكدم كه كنم پيرهن شوق قبا | *** | اى كمان كِش كه زنى ناوُكِ پيكان به تنم |
عشق را روزِ بهار است كجا شد رضوان | *** | تا بَرَد لاله بدامن سوى خُلد از چمنم |
روز عهد است بكِش اسپرم اى عقل ز پيش | *** | تا تصوّر نكند خصم كه پيمان شكنم |
مىنيايد به كفن راست تنِ كشتى عشق | *** | خصمِ دون بيهده گو باز ندوزد كفنم۱ |
هاتفم مىدهد از غيب ندا شمر كجاست | *** | گو شتابى كه به ياد آمده عهد كُهنم |
سخت دلتنگ شدم، همّتى اى شهپر تير | *** | بشكن اين دام بِكش باز به سوى وطنم |
دايهي عشق ز بس داده مرا خون جگر | *** | ميدمد آبله زخم كنون از بدنم |
گوى مَطلَع چه عجب گر برم از فارِس فارْس | *** | تا به مدح تو شها نيّر شيرين سخنم۱ |
"بِأبِي أنْتَ وَ امِّي وَ نَفْسِي يَا أبَا عبد الله؛ أشْهَدُ لَقَدِ اقْشَعَرَّتْ لِدِمَائِكُمْ أظِلَّةُ العَرْشِ مَعَ أظِلَّةِ الخَلائِقِ، وَ بَكَتْكُمُ السَّمَاءُ وَ الأرْضُ وَ سُكَّانُ الجِنَانِ وَ البَرِّ وَ البَحْرِ، صلى اللهُ عَلَيْكَ عَدَدَ مَا في عِلْمِ اللهِ"٢.
يستفاد من هذه الفقرة من الزيارة الشريفة أن أشباح العرش و أشباح الخلائق لم يتحمّلوا أو يطيقوا مشهد تلك الواقعة، فاقشعرّت أبدانهم و ارتعدت فرائصهم و مفاصلهم من شدّة وَقْع تلك الحادثة، و كذا السماوات و الأرضون و سكّانها، و أهل الجَنّة و الصحاري و البحار، بكوا لذلك المصاب الجلل. فعليك سيّدي و مولاي السلام بعدد الخلائق التي لا يعلم عددها إلّا الله وحده، يا مَن أظهر الجميع عجزهم الكامل أمام عظمتك و صبرك و جلدك، و تحيّروا إزاء شخصك و منزلتك.
آسمان بار امانت نتوانست كشيد | *** | قرعهي فال به نام من ديوانه زدند۱ |
البَحْثُ الخامس إلى الثَّامِنِ: اللهُ عَاشِقُ مَا سِوَاهُ، وَ مَا سوى اللهِ عَاشِقُهُ و تفسير الآية المباركة: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
تفسير آية: {يا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}. (الآية ٦، من السورة ۸٤: الانشقاق)
قال استاذنا الأعظم آية الحقّ و العرفان العلّامة الطباطبائيّ أعلى الله مقامه في تفسير هذه الآية الكريمة:
«قال الراغب: الكَدْحُ السعي و العناء- انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثّر فيها انتهى- و على هذا فهو مُضَمّن معنى السير، بدليل تعدِّيه بإلى، ففي الكدح معنى السير على أيّ حال.
و قوله: فَمُلاقِيهِ عطف على كَادِحٌ، و قد بيّن به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبيّة، اي أن الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مُدَبَّر، ساعٍ إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المُدَبِّر لأمره، فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملًا، فعليه أن لا يريد و لا يعمل إلّا ما أراده ربّه و مولاه و أمره به، فهو مسؤول عن إرادته و عمله.
و من هنا يظهر أوّلًا أن قوله: {إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ} يتضمّن حجّة على المعاد، لما عرفت أن الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبوديّة، و لا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤوليّة، و لا تتمّ مسؤوليّة إلّا برجوع و حساب على الأعمال، و لا يتمّ حساب إلّا بجزاء.
و ثانياً: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلّا حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.
و ثالثاً: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان، فالمراد به الجنس، و ذلك أن الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان».۱
قد أثبت أعاظم حكماء الإسلام أن بين ربّ العزّة و بين مخلوقاته نوعاً من الجذب و الانجذاب يُعَبَّر عنه بالعشق.
و لا جَرَمَ أن حبّ الله لمخلوقاته هو الذي أوجدها، و ألبس كلّ واحد منها (كلٌّ حسب إمكانيّته و استعداده و ماهيّته المتفاوتة) لباس الوجود و البقاء، و وصف كلّا منها بصفاته حسب ما يتناسب معه. أن هذا الحبّ هو الذي أعطى العالَم كيانه و بقاءه و ديمومته، بِدءاً بالأفلاك و مروراً بالأرض و الذرّة إلى الدُّرّة، و جَعْلها كلّها موجودات تتحرّك نحوه و تشقُّ طريقها إليه.
و كذا حال حياتنا و معيشتنا في حركتنا نحو الله، فهي تمضي قدماً إلى لقائه بواسطة ذلك الحبّ و العشق الذي أوجده الله عزّ و جلّ في الخلقة و الفطرة. و على هذا فإنّ كلّ موجود من الموجودات الإمكانيّة يجد طريقه إلى الاستمرار في حياته و بقائه على أساس و أصل ذلك الحبّ للمحبوب، و هكذا يستمدّ قانون التجاذب (الجذب و الانجذاب) استمراريّته بين جميع المخلوقات السفليّة (الدنيا) و العوالم العُلويّة.
إن هذا التجاذب المستقرّ في كلّ موجود و بشكل معيّن، هو السبب في تكوين و إنشاء تلك الحركة المُتَّجِهة نحو المبدأ الأعلى عبر مدارج و معارج متباينة، و هو السبب في ذلك الحبّ الذي يدفع بجميع العاشقين إلى التحرُّك باتّجاه ذلك المحبوب و السير نحوه بوساطة ذلك الحبّ، من دون حجاب أو من وراء حجاب على السواء. و كلّ ما في الأمر أن الموجودات الضعيفة و الماهيّات السفليّة تتعرّض خلال سيرها لتأثير شديد من قِبَل قوي أشدّ منها نظراً لصفة المحدوديّة الموجودة في وجودها، و هو ما يتسبّب في فَنائها هناك. و طبقاً للقاعدة القائلة: (الأقرب فالأقرب)، فإنّ أيّ موجود عالٍ هو غاية السير عند الموجود و المعلول الأدنى منه، حتى يصل إلى ذات الحقّ و المُصَدِّر المطلق، و الذي هو الموجود الأوّل العظيم اللامتناهي في عالم العوالم، حيث يفني فيه و تتحقّق عند ذاك عمليّة التحابب و التعاشق بين الحقّ سبحانه و تعالى و بين ذلك الموجود.
و قد عُبِّرَ في هذه الآية الشريفة الكريمة عن تحرُّك الإنسان نحو هذا المحبوب ذي الجمال و المعشوق صاحب الجلال، و هو الهدف النهائيّ و المقصد الرئيسيّ، بالكدح.
و معنى ذلك أنّه يتوجّب على الإنسان- و هو أشرف المخلوقات استعداداً- أن يُوصِلَ ذاته و نفسه إلى الفَناء التامّ بالفعل.
فنالك مَن حالفهم الحظّ و وصلوا، و هنالك من أضاعوا استعدادهم و ضيّعوا عدّتهم، و فشلوا في أن يجدوا مأمناً و أمناً في حرم أمنه، و عجزوا عن الاستقرار في ظلّه، و لم يفلحوا في اجتياز موانع الصراط و الدخول إلى حضرة جلاله، و سيلتقي كلّ منهم به و يتلاقي معه و سيصلون إلى محبوبهم الحقيقيّ من وراء ألف حجاب، و عندها سيوقنون بأنّه هو وحده غاية مرادهم و حبيب قلوبهم، و كلّ ما في الأمر، أنّهم في دنيا الشهوات الدنيّة
التي أعشت عيونهم، لم يروا جلاله، و ها هم، يصلون بعد الحُجب لملاقاة ربّهم عزّ و جلّ.
«رسالة العشق» لابن سينا: الله تعالى و جميع الموجودات الإمكانيّة عشّاق
ذَكرَ الشيخ بهاء الدين العامليّ في كشكوله:
«للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا رسالة في ذكر العشق۱ تحت عنوان «رسالة العشق»، و فيها يتوسّع في مقالته و يقول بأنّ العشق لا يختصّ بالإنسان وحده، بل بجميع الكائنات، من الفلكيّات و العناصر، و المواليد الثلاثة (المعادن و النباتات و الحيوانات) مجبولة عليه بالفطرة، و هي منقوشة في ذاتها و ماهيّتها»٢. انتهى كلام الشيخ البهائيّ رحمة الله عليه.
و تبدأ الرسالة بالعبارة التالية:
بِاسْمِكَ اللهُمَّ وَ بِحَمْدِكَ، سَألْتَ أسْعَدَكَ اللهُ يَا عبد الله الفَقِيهَ المُعْصِرِيّ! أن أجْمَعَ لَكَ رِسَالَةً تَتَضَمَّنُ إيضَاحَ القَوْلِ في العِشْقِ على سَبِيلِ الإيجَازِ فَأجَبْتُكَ- إلى آخرها.
و قد نظّم هذه الرسالة في سبعة فصول و هي:
الأوّل: في ذكر أن العشق يسري في كلّ ذات.
الثاني: في ذكر العشق في الجواهر البسيطة غير الحيّة، على سبيل المثال، الهيولي، و الظواهر، و المعادن، و كلّ جماد.
الثالث: في ذكر العشق في الموجودات و الأشياء التي تمتلك القوّة المغذّية.
الرابع: في ذكر العشق في الموجودات الحيوانيّة، لسبب أنّها تمتلك قوّة حيوانيّة.
الخامس: في ذكر العشق في الظرفاء و الفتيان في قبال حسان الوجوه.
السادس: في ذكر العشق في النفوس المتألّهة.
السابع: و هو فصل يختتم به الكتاب بالمراجعة و الاستنتاج.
و هذه الرسالة استدلاليّة، و مطالعتها من قبل ذوي الرأي لا تخلو من فائدة.
و قد تحدّث مفصّلًا في الفصل الخامس، و هو بعنوان «عِشْقُ الظُّرَفَاءِ وَ الفِتْيَانِ۱ لِلأوْجُهِ الحِسان»، و استدلّ بالحديث الشريف للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: "اطْلُبُوا الحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ"٢، و عدّد أوجه الحلال
و الحرام، عقلًا و شرعاً، موضّحاً بأنّ الشريعة الإسلاميّة الغرّاء قد أوصدت باب العشق المذموم، و ذلك بالاستدلال العقليّ، و بالمقابل، قد فتحت باب العشق الممدوح على مصراعيه۱.
بيان العشق في النفوس المتألهة في «رسالة العشق» لابن سينا
و يستطرد في بحثه عشق النفوس المتألّهة، حتى يصل إلى المقطع الذي يقول فيه:
«الآن، أصبح واضحاً، بأنّ العلّة الاولى، هي مصدر كلّ الخيرات، و لا مسبّب لهذه العلّة؛ و عليه، فهذه العلّة (الله) هي الخير المطلق، استناداً لمحض ذاته المقدّسة، و كذلك، بالقياس إلى جميع الموجودات، و ذلك، لأنّه هو حبل بقاء المخلوقات و دوامها.
و هذه المخلوقات، هائمة و مشتاقة إلى كمال العلّة الاولى، و بهذا، يكون هو الخير المطلق، بكلّ الاعتبارات و على جميع الأوجه.
عشقهائى كز پى رنگى بود | *** | عشق نبود عاقبت ننگى بود |
عشقِ آن زنده گزين كو باقى است | *** | وز شراب جانفزايت ساقى است |
عشق آن بگزين كه جمله انبياء | *** | يافتند از عشق وى كار و كيا |
تو مگو ما را بدان شه بار نيست | *** | با كريمان كارها دشوار نيست |
و قد قلنا من قبل أن من أدرك خيراً هام فيه بلا إرادة منه، و لهذا، فالعلّة الاولى، هي المعشوق بالنسبة إلى النفوس المتألّهة، و لأنّ كمال هذه النفوس، الإنسيّ منها و الملائكي، هو تصوّر تلك النفوس للمعقولات كلٌّ حسب قدرته (من باب التشبّه بذات الخير المطلقة) حتى تصدر عنها أفعال عادلة من قبيل الفضائل البشريّة، و على مثال تحريك النفوس الملائكيّة للجواهر العُلويّة السائلة. أن بقاء الموجودات في عالم الكون و الفساد (هو من باب التشبُّه بذات الخير المطلقة) و التقرُّب له و الاستفادة من كماله و فضيلته و الانتفاع بها. و على هذا فقد بات واضحاً أن الخير المطلق هو معشوق هذه النفوس، و لذا سُمِّيت تلك النفوس بـ «المتألّهة» لسبب نسبتها و تشبّهها به و حبّها له؛ و هذا العشق و ذلك الحبّ ثابتٌ و متأصّل في تلك النفوس المتصفة بـ التَّألُّه، غير زائل عنها».
حتّى يصل إلى قوله:
«أصبح واضحاً بأنّ وجود الحقّ، و هو الخير المطلق، هو المعشوق الحقيقيّ للنفوس الإنسيّة و الملائكيّة».
و يقول في الفصل الختاميّ:
«نريد في هذا الفصل، الخروج بعدّة استنتاجات:
أوّلًا: كما ذكرنا سابقاً، أن جميع الموجودات في هذا الكون، هي في الحقيقة، عاشقة و توّاقة إلى الخير المطلق، بفعل العشق۱ الغريزيّ، و هذا
در هر چه نظر كردم | *** | سيماى تو مىبينم |
الخير المطلق متجلٍّ لعشّاقه، و لكنّ هذا التجلّي مختلف بحسب درجات هذه الموجودات، حيث إنّهم كلّما ازدادوا تقرّباً من الخير المطلق، عظم تجلّيه لهم، و العكس بالعكس.
ثانياً: أن الخير المطلق و العلّة الاولى، يميل انسجاماً مع كرمه و رحمته الذاتيّتين إلى أن يشمل بلطفه جميع الكائنات.
ثالثاً: وجود كلّ الموجودات هو انعكاس لهذا اللطف من لدن الخير المطلق.
أما و قد تمّ توضيح هذه المسألة بشكل إجماليّ، الآن نقول: بأنّ في تركيب آحاد هذه الموجودات عشق غريزيّ لأجل استحصال كمالها الذاتيّ، و كمالها هو نفسه الخير الذي أشرنا إليه.
إذاً، فسبب وقوع كلّ الخيرات، هو ذلك المعشوق الحقيقيّ لكلّ الموجودات، و الذي عبّرنا عنه بالعلّة الاولى، فهي معشوق كلّ الموجودات، و إذا كان هناك من حُرِم معرفته، و جهل وجوده، فهذا الجهل لا ينفي العشق الغريزيّ في الموجودات، لأنّ كلّا وراء كماله الذاتيّ، و حقيقة الكمال- الذي هو الخير المطلق- تلك العلّة الاولى، و التي تتجلّى لكلّ الموجودات، بحسب ذاتها، إلّا أن يكون محجوباً بذاته عن التجلّي،
فيلزم أن يستتر، فلا ينعم أيّ من الموجودات من فيض وجوده.
إذا كان تجلّي الخير الأوّل هو بتأثير الغير، فيجب إذاً أن تكون الذات المتعالية، و المنزّهة عن كل النقائص، واقعة تحت تأثير الغير أيضاً، و هذا محال، بل الخير الأوّل يتجلى بحسب الذات، و حجب تجلّيه عن بعض الذوات، هو لقصور و ضعف في هذه الذوات ليس إلّا.
و بعبارة أخرى: كلّ نقص و عيب، يكون من جانب القابل، و ليس من جانب الفاعل، و إلّا فذاته المقدّسة متجلّية بحسب الذوات».
و يستطرد في قوله حتى يصل إلى:
«الثاني: أن الموجود المتهيّئ لأن ينعم باللطف الإلهيّ، هو موجود ذو نفس إلهيّة، على الرغم من أنّه في البدء، و مصداقاً للآية الكريمة {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} وجد بتأثير الفعل الفعّال، و من موقع القوّة، و أمدّته من موقع التصوّرات و رتبة التعقّلات، و لكن، ما أن يصل إلى حدود الفعليّة، و ينعم بنعمة القرب من الحقّ تعالى، حتى يعلو و يسمو إلى مراتب أعلى من ذلك. حيث يقول الملك المقرّب من الله في هذا المقام: "لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ".
و يتابع قائلًا:
«لذا، فقد أصبح واضحاً بأنّ اللطف الإلهيّ و الخير المطلق، هو سبب نشئ كلّ الموجودات، و علّة وجودها، فلو لا هذا اللطف الإلهيّ، ما لبس مخلوق لباس الوجود، و أن الحقّ تعالى بوجوده، عاشق لوجود جميع المعلولات، لأنّ جميع المعلولات كما أسلفنا، انعكاس لنور لطفه، و لأنّ عشق العلّة الاولى، هو أطهر العشق، فيكون مَن فاز بلطفه هو المعشوق الحقيقيّ، و هذا اللطف، هو مراد النفوس المتألّهة، و هي نفسها، معشوقات العلّة الاولى، و نستشف من كلمات الأئمّة المعصومين
صلوات الله عليهم أجمعين ما يلي:
قال الله تعالى: أيّاً من عبادي كانت له الأوصاف الفلانيّة، و عشقني، عشقته أنا أيضاً، لأنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن لا يهمل أو يعطّل شيء يحوي جملة فضائل، و هذه الفضائل، متأصّلة في ذاته، و إن لم يصل بفضيلته إلى حدّها الأقصى، و عليه، فالخير المطلق، بمقتضى حكمته الذاتيّة، هو عاشق؛ عاشق لمن لبس الكمال، و إن لم يكن أقصى الكمال... وَ إذَا بَلَغْنا هَذَا المَبْلَغَ فَلْنَخْتِمِ الرِّسَالَةَ، وَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.۱
إثبات صدر المتألهين سريان العشق في جميع الموجودات
و قد بسط المرحوم صدر المتألّهين قدّس الله نفسه الزكيّة الكلام في بحث العشق على نحو أعمق و أجمل ممّا فعل الشيخ الرئيس، حيث برهن تحت عنوان: «الفَصْلُ ۱٥: في إثْبَاتِ أن جَمِيعَ المَوْجُودَاتِ عَاشِقَةٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مُشْتَاقَةٌ إلى لِقائِهِ وَ الوُصُولِ إلى دَارِ كَرَامَتِهِ»، على أن الله سبحانه و تعالى، قدّر لكلّ موجود من الموجودات: العقليّة و النفسيّة و الحسّيّة و الطبيعيّة، بصيصاً من الكمال، و لأجل بلوغ هذا الكمال و التحرّك نحو إتمامه، ركّز فيهم العشق و الشوق. أمّا العشق بلا شوق، فهو من اختصاص المفارقات العقليّة، التي تمتلك الفعليّة في جميع جهاتها، و أمّا في غير المفارقات العقليّة من الموجودات التي تفتقر إلى الكمال و لكنّها
تمتلك القوّة و الاستعداد، فقد أودع فيها العشق و الشوق الإراديّينِ بمقدار، و هكذا العشق و الشوق الطبيعيّين بمقدار، بحسب تفاوت درجاتها في كلّ من هذين الصنفين».
و يتابع الحديث، إلى أن يصل في كلامه إلى:
«و أنت تعلم أن إثبات العشق في شيء بدون الحياة و الشعور فيه كان مجرّد التسمية، و نحن قد بيّنا- في السفر الأوّل في مباحث العلّة و المعلول- عشق الهيولى إلى الصورة بوجه قياسيّ حِكَمِيّ لا مزيد عليه.
و قد مرّ أيضاً إثبات الحياة و الشعور في جميع الموجودات و هو العمدة في هذا الباب و لم يتيسّر للشيخ الرئيس تحقيقه، و لا لأحد ممّن تأخّر عنه إلى يومنا هذا إلّا لأهل الكشف من الصوفيّة، فإنّه لاح لهم- بضرب من الوجدان و تتبّع أنوار الكتاب و السنّة- أن كلّ شيءٍ حَيّ وَ نَاطِقٌ وَ ذَاكِرٌ لِلَّهِ، مُسَبِّحٌ سَاجِدٌ لَهُ كما نطق به القرآن في قوله:
{وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.۱
و قوله: {وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ}.٢
ردّ صدر المتألهين على الشيخ الرئيس في عشق البسائط غير الحيّة
و نحن بحمد الله عرفنا ذلك بالبرهان و الإيمان جميعاً، و هذا أمر قد اختصّ بنا بفضل الله و حسن توفيقه.
فإنّ الذي بلغ إليه نظر «الشيخ» و هو من أعظم الفلاسفة في هذه الدورة الإسلاميّة في إثبات العشق في البسائط غير الحيّة ما ذكره في تلك الرسالة بقوله: «أن البسائط غير الحيّة ثلاثة: أحدها الهيولى الحقيقيّة، و الثاني
الصورة التي لا يمكن لها القوام بانفراد ذاتها، الثالث الأعراض».۱
و هنا يذكر صدر المتألّهين نصّ عبارة الشيخ، و هي تقع في صفحة و نصف الصفحة تقريباً، مستنتجاً بأنّ الشيخ قد عبّر عن تلازم الهيولى و الصورة بالعشق، ثمّ يقول: «أن كلّ واحد من البسائط غير الحيّة قرين عشق غريزيّ، فإذاً الذي ذكره الشيخ ليس بشيء.
و نحن نثبت وجود العشق في الموجودات غير الحيّة، عن طريق إثبات وجود الحياة و الشعور لديها، و ما ذكره الشيخ، هو في غاية الضعف، حيث إنّه لا يخفي على أيّ ذكيّ بأنّ قوله في إثبات معنى العشق في هذه الموجودات لم يتحقّق إلّا اللهمّ بطريق التشبيه».٢
و يتابع صاحب «الأسفار الأربعة» الكلام حتى يصل إلى هذا المقطع:
الفَصْلُ ۱٦: في بَيأنِ طَرِيقٍ آخَرَ في سَرَيَانِ معنى العِشْقِ في كُلِّ الأشْيَاءِ.٣
و بعد إتمام هذا البحث، يصل إلى:
الفَصْلُ ۱۷: في بَيَانِ أن المَعْشُوقَ الحَقِيقِيّ لِجَمِيعِ المَوْجُودَاتِ وَ أن كَانَ شَيْئاً وَاحِداً في المَآلِ وَ هُوَ نَيْلُ الخَيْرِ المُطْلَقِ وَ الجَمَالِ الأكْمَلِ، إلَّا أن لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أصْنَافِ المَوْجُودَاتِ مَعْشوقاً خَاصَّاً قَرِيباً يَتَوَسَّلُ بِعِشْقِهِ إلى ذَلِكَ المَعْشُوقِ العَامِّ.٤
في هذا البحث أيضاً، يقوم صدر المتألّهين ببسط القول و تقديم بيانٍ
شافٍ و مفصّل، و بعد بيان الفصل (۱۸)، يصل بالموضوع إلى:
الفَصْلُ ۱٩: في ذِكْرِ عِشْقِ الظُّرَفَاءِ وَ الفِتْيَانِ لِلأوْجُهِ الحِسَانِ، حيث مبتغانا في بيان العشق العامّ في الموجودات للذات القدسيّة للحقّ تعالى، هذه الفقرة من هذا العشق للذات القدسيّة للبارئ جلّ و علا سبحانه و تعالى شأنه.
و بعد سرد تعريفات مختلفة للعشق، يقوم صدر المتألّهين بالبرهنة على أن العشق ليس عشقاً للجسم أو الصورة أو للشكل أو الشمائل، بل هو عشق للنفس وحدها، و لا يمكن أن يكون مراد العشق مادّة أو أمراً مادّيّاً محسوساً. بل المراد، هو أمر معنويّ و حسب، و لهذا فإنّ العاشق حتى و إن أدرك جسم المعشوق، أو وجهه، أو كلّ أعضائه، فإنّ عشقه لن يسكن و لن يهدأ إلّا بعد أن تتّصل روحه بروح المعشوق، و تذوب و تتلاشى فيها.
قال: «و منهم من قال أن العشق هو إفراط الشوق إلى الاتّحاد، و هذا القول و إن كان حسناً إلّا أنّه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، لأنّ هذا الاتّحاد من أيّ ضروب الاتّحاد، فإنّ الاتّحاد قد يكون بين الجسمَينِ، و ذلك بالامتزاج و الاختلاط، و ليس ذلك يتصوّر في حقّ النفوس، ثمّ لو فرض وقوع الاتّصال بين بدنَي العاشق و المعشوق في حالة الغفلة و الذهول۱ أو النوم فعُلِم يقيناً أن بذلك لم يحصل المقصود، لأنّ العشق كما مرّ من صفات النفوس لا من صفات الأجرام السماويّة، بل الذي يتصوّر و يصحّ من معنى الاتّحاد هو الذي بيّناه- في مباحث العقل و المعقول- من اتّحاد النفس العاقلة بصورة العقل بالفعل و اتّحاد النفس الحسّاسة بصورة
المحسوس بالفعل.
فعلى هذا المعنى يصحّ صيرورة النفس العاشقة لشخص متّحدة بصورة معشوقها و ذلك بعد تكرّر المشاهدات۱ و توارد الأنظار و شدّة الفكر و الذِّكر في أشكاله و شمائله حتى يصير متمثّلًا صورته حاضرة متدرّعة في ذات العاشق. و هذا ممّا أوضحنا سبيله و حقّقنا طريقه بحيث لم يبق لأحد من الأزكياء مجال الإنكار فيه.
و قد وقع في حكايات العشّاق ما يدلّ على ذلك، كما روي أن مجنون العامريّ كان في بعض الأحايين مستغرقاً في العشق بحيث جاءت حبيبته و نادته: يَا مَجْنونُ! أنَا ليلى. فما التفت إليها، و قال:
لِي عَنْكِ غِنًى بِعِشْقِكِ!٢
فإنّ العشق بالحقيقة هو الصورة الحاصلة، و هي المعشوقة بالذات لا الأمر الخارجيّ و هو ذو الصورة إلّا بالعرض، كما أن المعلوم بالذات هو نفس الصورة العلميّة لا ما خرج عن التصوّر.
و إذا تبيّن و صحّ اتّحاد العاقل بصورة المعقول و اتّحاد الجوهر الحاسّ بصورة المحسوس- كلّ ذلك عند الاستحضار الشديد و المشاهدة القويّة كما سبق- فقد صحّ اتّحاد نفس العاشق بصورة معشوقه بحيث لم يفتقر بعد ذلك إلى حضور جسمه و الاستفادة من شخصه، كما قال الشاعر:
أنَا مَنْ أهْوَى وَ مَنْ أهْوَى أنَا | *** | نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا |
فَإذَا أبْصَرْتَنِي أبْصَرْتَهُ | *** | وَ إذَا أبْصَرْتَهُ أبْصَرْتَنَا۱ |
استحالة الاتّصال الحقيقيّ بين جسمين، و وجود العشق بين جسمين
ثمّ لا يخفى أن الاتّحاد بين الشيئين لا يتصوّر إلّا كما حقّقنا، و ذلك من خاصّيّة الامور الروحانيّة و الأحوال النفسانيّة. و أمّا الأجسام و الجسمانيّات فلا يمكن فيها الاتّحاد بوجه، بل المجاورة و الممازجة و المماسّة لا غير، بل التحقيق أن لا يوجد وصال في هذا العالم و لا تصل ذات إلى ذات في هذه النشأة أبداً و ذلك من جهتين:
الجهة الاولى: أن الجسم الواحد المتّصل إذا حقّق أمره عُلِمَ أنّه مشوب بالغيبة و الفقد، لأنّ كلّ جزء منه مفقود عن صاحبه مفارق عنه، فهذا الاتّصال بين أجزائه عين الانفصال، إلّا أنّه لمّا لم يدخل بين تلك الأجزاء جسم مبائن و لا فضاء خال و لا حدث سطح في خلالها، قيل إنّها متّصلة واحدة و ليس وحدتها وحدة خالصة عن الكثرة، فإذا كان حال
أنا من أهوَى و من أهوَى أنا | *** | نحن روحان حللنا بدنا |
فإذا أبصرتَني أبصرتَه | *** | و إذا أبصرتَه أبصرتَنا |
إنّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ | *** | تُلقَى عليك و ما لها سببٌ |
الجسم في حدّ ذاته كذلك من عدم الحضور و الوحدة، فكيف يتّحد له شيء آخر أو يقع الوصال بينه و بين شيء.
الجهة الثانية: أنّه مع قطع النظر- كما ذكرنا- لا يمكن الوصلة بين الجسمين إلّا بنحو تلاقي السطحين منهما، و السطح خارج عن حقيقة الجسم و ذاته، فإذاً لا يمكن وصول شيء من المحبّ إلى ذات الجسم الذي للمعشوق، لأنّ ذلك الشيء إمّا نفسه أو جسمه أو عرض من عوارض نفسه أو بدنه، و الثالث محال لاستحالة انتقال العرض، و كذا الثاني لاستحالة التداخل بين الجسمين. و التلاقي بالأطراف و النهايات لا يشفي عليل طالب الوصال، و لا يروي غليله.
و أمّا الأوّل فهو أيضاً محال، لأنّ نفساً من النفوس لو فرض اتّصالها في ذاتها ببدن لكانت نفساً لها، فيلزم حينئذٍ أن يصير بدن واحد ذا نفسين و هو ممتنع.
و لأجل ذلك أن العاشق إذا اتّفق له ما كانت غاية متمنّاه، و هو الدنوّ من معشوقه و الحضور في مجلس صحبته معه، فإذا حصل له هذا المتمنّي يدعي فوق ذلك، و هو تمنّي الخلوة و المجالسة معه من غير حضور أحد، فإذا سهل ذلك و خلى المجلس عن الأغيار تمنّى المعانقة و التقبيل، فإن تيسّر ذلك تمنّى الدخول في لحاف واحد و الالتزام بجميع الجوارح أكثر ما ينبغي. و مع ذلك كله الشوق بحاله، و حرقة النفس كما كانت، بل ازداد الشوق و الاضطراب كما قال قائلهم:
اعَانِقُهَا وَ النَّفْسُ بَعْدُ مَشوقَةٌ | *** | إلَيْهَا وَ هَلْ بَعْدَ العِنَاقِ تَدَاني |
وَ ألْثَمُ فَاهَا كَيْ تَزُولَ حَرَارَتِي | *** | فَيَزْدَادُ مَا ألْقَى مِنَ الهَيَجانِ |
كَأنَّ فُؤَادِي لَيْسَ يُشْفَي غَلِيلُهُ | *** | سِوَى أن يُرَى الرُّوحَانِ يَتَّحِدَانِ |
و السبب اللمّيّ في ذلك أن المحبوب في الحقيقة ليس هو العظم
و لا اللحم و لا شيء من البدن، بل و لا يوجد في عالم الأجسام ما تشتاقه النفس و تهواه، بل صورة روحانيّة موجودة في غير هذا العالم».۱
نعم، هذه المسائل ذكرت، لنتبيّن عظمة الروح و النفس الإنسانيّة، و أن كلّ ما هو موجود فهو منه، و إليه ينتهي كلّ مقام و رتبة. فالبدن جسد مسخّر لتنفيذ أوامر و نواهي النفس ليس إلّا.
ليس في عالم الأجسام شيء تشتاق إليه النفس
إن العشق يولّد روحاً، و العاشق يتحوّل إلى روح للمعشوق الحقيقيّ، و المصدر الأوّل، المجرّد المنزّه، و الصرف الخالص. و للروح قوّة هيوليّة، و قابليّة بسيطة غير متناهية، ليحظى بشرف لقاء الله و نعمة التكلّم إليه، فيصبح عندها كليم الله.
إن على الإنسان أن يعرف قدر نفسه، و أن لا يحكم على هذه الجوهرة النفيسة أن تكون أسيرة البدن و رغباته و شهواته المادّيّة، و لا يحبس القوّة الناطقة في حدود القوّة الحيوانيّة و البهيميّة، و لا يبدّل عشقه للأوجه الحسان في عالم التجرّد، بعشقه للأشقياء و العاصين في عالم الطبيعة، فتكون عاقبته الخسران العظيم.
يقول صدر المتألّهين، في بحث العظمة و التجرّد و النورانيّة:
«اعلم أن هذه المسألة دقيقة المسلك بعيدة الغور و لذلك وقع الاختلاف بين الفلاسفة السابقين في بابها، و وجه ذلك أن النفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة، و لا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة و النفسيّة و العقليّة التي كلٌّ له مقام معلوم، بل النفس الإنسانيّة ذات مقامات و درجات متفاوتة، و لها نشآت سابقة و لاحقة، و لها في كلّ مقام و عالم صورة أخرى، كما قيل في البيت الشعريّ التالى:
لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلًا كُلَّ صُورَةٍ | *** | فَمَرْعى لِغَزْلَانٍ وَ دَيْراً لِرُهْبانِ۱ |
تجرّد النفس يستدعي بقاءها و فناءها في ذات الله تعالى
و ما هذا شأنه صعب إدراك حقيقته و عسر فهم هويّته، و الذي أدركه القوم من حقيقة النفس ليس إلّا ما لزم وجودها من جهة البدن و عوارضه الإدراكيّة و التحريكيّة، و لم يتفطّنوا من أحوالها إلّا من جهة ما يلحقها من الإدراك و التحريك، و هذان الأمران ممّا اشترك فيهما جميع الحيوانات.
و أمّا ما أدرك منها أزيد من ذلك و هو تجرّدها و بقاؤها بعد انقطاع تصرّفها عن هذا البدن فإنّما عُرِفَ ذلك من كونها محلّ العلوم، و أن العلم لا ينقسم و محلّ غير المنقسم غير منقسم، فالنفس بسيطة الذات، و كلّ بسيطة الذات غير قابل للفناء و إلّا لزم تركّبه من قوّة الوجود و العدم و فعليّة
الوجود و العدم هذا خلف.
هذا غاية عرفانهم بالنفس أو ما يقرب من هذا. و من ظنّ أنّه بهذا القدر عرف حقيقة النفس فقد استسمن ذا ورم».۱
و هنا يجهد صاحب «الأسفار» بطرق مختلفة في تعريف النفس و بيانها، و بما أنّنا لسنا بصدد إثبات تجرّد النفس، فسنعزف عن ذكره هنا.
و على العموم، يجب تطهير العين من النظر لغير ليلى، و غسل الاذن من الاستماع، إلّا لصوتها، حتى تأذن بالنظر إلى طلعتها، و الإنصات لحديثها.
إلهي، ما العمل؟ و ما الحيلة؟ و إجمالًا، هل من بارقة أمل، أم علينا أن نلقي بأنفسنا في أحضان اليأس؟
لقد قالت نساء الحيّ من قبيلة ليلى: اذهبْ و طهّر عينيك و أذنيك. تطهير العين هو بالبكاء على فراق المحبوب الأزليّ في الليالى الحالكة؛ و تطهير الاذن بغلقها عن سماع حديث السوء الذي يغضب المعشوق؛ تطهير العين عَنْ كُلِّ مَا لَا يُحِلُّ اللهُ النَّظَرَ إليه و تطهير الاذن عَنْ كُلِّ مَا لَا يُحِلُّ اللهُ الاسْتِمَاعَ إليه.
أ ليس قد ورد في الروايات أن الله العليّ القدير يحبّ العين الباكية من بين سائر العيون؟ و أن كلّ عين يوم القيامة ستبكي، إلّا التي سهرت الليالى باكية من خوف الله.
و لكن لِمَ هذا البكاء؟ هذا البكاء للنظرات التي كانت لغير الله، و هو غُسل لدَنَس و أوساخ البصر و البصيرة؛ لأنّ النظر إلى ليلى بدون هذا الغسل و التطهير غير ممكن. فالتطهير- إذاً- هو طريق و سبيل يوصل إلى
الهدف، و بعد طي هذه الطريق، يسمو الإنسان أعلى و أعلى حتى يتعرّف إلى الله، و هناك حيث لا أحد غير الله. فكل المراحل قد طويت، و هذا المسكين قد بكى حتى طهر ناظِرَيه، و نساء الحيّ قد كففن عن ملامته، و يمضي و يمضي حتى يصل إلى ليلى إذ لَم يَعُد عشقه مجازيّاً و لا مادّيّاً، كما لم تعد ليلى بدناً، بل هي روح و نفس مجرّدة؛ و في هذه الحال إذا أمست في المشرق و قيس في المغرب، فهناك ارتباط بينهما. فهو يعيش صحوها و نومها، و مرضها و عافيتها.
كان كثير من أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و أصحاب الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم على هذه الحال. هكذا كان اوَيس اليمانيّ القرنيّ و كانوا يحسّون بالوجدان نوايا أسيادهم و قادتهم، و كانت ضمائرهم تُدرك الصالح و الفاسد في الامور على خطى ضمائر أسيادهم و مواليهم. فهذا اويس يُكسر له ضرس في اليمن، في نفس اليوم و في نفس الساعة التي كُسِرَ فيها ضرس النبيّ في يوم احد.
قيل لمّا فُصِدَ قيس، تعالى صياحه، و فسّر ذلك بأنّه يخاف على ليلى من الألم، و خشيَ أن- حين فَصدوا يَده- قد فصدوا يدها و هي في ديارها.
گفت مجنون من نميترسم ز نيش | *** | صبر من از كوه سنگين است بيش |
منبلم بى زخم ناسايد تنم | *** | عاشقم بر زخمها بر مىتنم۱ |
ليك از ليلى وجود من پُر است | *** | اين صدف پر از صفات آن دُر است |
ترسم اى فصّاد اگر فصدم كني | *** | نيش را ناگاه بر ليلى زني |
داند آن عقلى كه او دل روشنى است | *** | در ميان ليلى و من فرق نيست |
من كيم ليلى و ليلى كيست من | *** | ما يكى روحيم اندر دو بدن۱ |
ينبغي معرفة الله بالله تعالى؛ «جاءت الشمس على الشمس دليلًا»
الله سبحانه و تعالى شأنه نور، و هو ظاهر، و هو الذي أظهر جميع المخلوقات؛ و الإنسان يريد أن يصل إلى الله، فكيف له إدراك الظاهر و هو المخلوق الذي يمثّل ظهوراً؟ فعند ما يكفّ عن الظهور، فإنّه سيلتحم بالشعاع و يرجع إلى أصل النور. يرجع إلى الشمس و يخترق ذاتها، و هناك لن يكون ثمّة شعاع، فالشمس هي الشمس و لا يمكن لأحد أن يعرف ذاتاً للشمس غير الشمس نفسها.
و مهما تكلّمنا عن الشمس و تحدّثنا عن عظمتها و خصائصها و صفاتها، فمن أين لنا أن نعرف كنه حقيقتها لنتحدث عنها؟ و أين سنراها؟ أنّي سندرك حرارتها؟ بل كيف نسلّم كمّها و كيفها؟ ملايين الفراسخ تفصلنا عنها، و ما يصلنا من حرارتها هو نزر يسير ليس إلّا، و متى
ما أردنا رؤيتها وضعنا زجاجة سوداء على أعيننا و من وراء حجاب أسود و مظلم نستطيع فقط رؤية قرصها.
هذا مبلغ علمنا عن الشمس، فمن ذا الذي عرف الشمس كما هي؟
الذي عرف كُنه الشمس و حقيقتها، هو الذي انطلق من الأرض و دخل في أعماقها، و ذاب و انمحى في ذراتها، و لم يبق له أيّ أثر، و للأسف عندها لن يكون هو موجوداً فيها، بل أن كلمة (هو) لن تجد لها مكانا في بطن الشمس.
مدح تو حيف است با زندانيان | *** | گويم اندر مجمع روحانيان |
مدح، تعريف است و تخريق حجاب | *** | فارغ است از مدح و تعريف آفتاب |
مادح خورشيد مدّاح خود است | *** | كه دو چشمم روشن و نامُرمَد۱ است |
ذمّ خورشيد جهان ذمّ خود است | *** | كه دو چشمم كور و تاريك و بد است٢ |
العشّاق هم ضحايا المعشوقين
و قال في مكان آخر:
عاشقى پيداست از زارى دل | *** | نيست بيمارى چو بيمارى دل |
علّت عاشق ز علّتها جداست | *** | عشق، اصطرلاب اسرار خداست۱ |
آفتاب آمد دليل آفتاب٢ | *** | گر دليلت بايد از وى رو متاب |
از وى ار سايه نشانى مىدهد | *** | شمس هر دم نور جانى مىدهد |
سايه خواب آرد ترا همچون سمر | *** | چون بزايد شمس، انشقّ القَمر٣ |
خود غريبى در جهان چون شمس نيست | *** | شمس جان باقئى كش أمس نيست۱ |
يقول الشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازيّ:
«الطوّافون حول كعبة جلاله قد اعترفوا بتقصيرهم في عبادته و ينادون: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبادَتِكَ، و تحيّر العارفون في وصف جماله قائلين: مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ!٢
گر كسى وصف او ز من پرسد | *** | بىدل از بىنشان چه گويد باز |
عاشقان، كشتگان معشوقند | *** | برنيايد ز كشتگان آواز۱ |
نكّسَ أحد العارفين رأسه في مراقبته و استغرق في بحر المكاشفة، و عند ما أفاق سأله بعض الأصحاب: ما ذا هيّأت لنا من البستان؟
فأجاب العارف: شغفني زهر هذا البستان، فوقفت عنده أقطف لأصحابي بعضها، فأسكرني عطره و غيّبني سحره.
اى مرغ سحر عشق ز پروانه بياموز | *** | كان سوخته را جان شد و آواز نيامد |
اين مدّعيان در طلبش بىخبرانند | *** | كآن را كه خبر شد خبرى باز نيامد٢ |
اى برتر از خيال و قياس و گمان و وهم | *** | و ز هر چه گفتهاند و شنيديم و خواندهايم |
مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عمر | *** | ما همچنان در اوّل وصف تو ماندهايم٣ |
«أيّها السائل عن وصف الحبيب | *** | ما يقول الواله ما عسى أن يجيب |
إنّما العشّاق قتلي للحبيب | *** | كيف للموتى بقول أو نحيب» |
وَ كُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا بِلَيْلَي | *** | وَ ليلى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا |
إذَا جَرَتِ الدُّمُوعُ على الخُدُودِ | *** | تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَا |
ذُكرت الرباعيّة التالية بالمناسبة في «مفاتيح الإعجاز»:
رخ دلدار را نقاب توئي | *** | چهره يار را حجاب توئي |
به تو پوشيده است مهر رخش | *** | ابر بر روى آفتاب توئي۱ |
و على العموم، فهذا النوع من معرفة الله، الذي هو عبارة عن اقتفاء الأثر للوصول إلى المؤثّر، و بحث سرّ الخلق للوصول إلى الخالق هي معرفة إجماليّة و ليست مفصّلة. معرفة عن بعد و من وراء حجاب، و ليست عن قرب و بدون حجاب، و هي معرفة الضعفاء و العاجزين لا معرفة الرجال قويّي الإرادة و عالى الهمة.
هذه المعرفة، معرفة البعرة التي تدلّ على البعير، و الروثة تدلّ على الحمير. أين هذا من المعرفة بعد مجاهدة طويلة و عذاب مرير طوال عمر مديد؟
«أنت حجاب وجه المحبوب | *** | أنت ستار طلعة المحبوب |
بك مستور مُحيّاه و وجهه | *** | أنتَ غَيمٌ بك ضوء الشمس محجوب» |
كلام الإمام عليّ: البَعْرَةُ تَدُلُّ على البَعِيرِ، وَ الرَّوْثَةُ تَدُلُّ على الحَمِيرِ
يروي المجلسيّ رضوان الله تعالى عليه عن «جامع الأخبار»:
سُئِلَ أمير المؤمنين عليه السلام عَنْ إثْبَاتِ الصَّانِعِ، فَقَالَ: البَعْرَةُ تَدُلُّ على البَعِيرِ، وَ الرَّوْثَةُ تَدُلُّ عَلَى الحَمِيرِ، وَ آثَارُ القَدَمِ تَدُلُّ على المَسِيرِ. (بهذا الاتّجاه أو ذاك) فَهَيْكَلٌ عِلْوِيّ بِهَذِهِ اللَّطَافَةِ وَ مَرْكَزٌ سِفْلِيّ بِهَذِهِ الكَثَافَةِ كَيْفَ لَا يَدُلَّانِ على اللَّطِيفِ الخَبِيرِ؟!۱
و كذلك روي عن «جامع الأخبار»:
سُئِلَ أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ: مَا الدَّلِيلُ على إثْبَاتِ الصَّانِعِ؟!
قَالَ: ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ: تَحْوِيلُ الحَالِ، وَ ضَعْفُ الأرْكَانِ، وَ نَقْضُ الهِمَّةِ٢.
و في «التوحيد» للصدوق عن ابن إدريس، عن أبيه، عن ابن هاشم، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم قال: سُئِلَ أبو عبد الله عليه السلام فَقِيلَ لَهُ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟!
قَالَ: بِفَسْخِ العَزْمِ وَ نَقْضِ الهَمِّ؛ عَزَمْتُ فَفَسَخَ عَزْمِي وَ هَمَمْتُ فَنَقَضَ هَمِّي!٣
و مثل هذه المعرفة، و هي التي يطلق عليها في المنطق البرهان «الإنّيّ»؛ معرفة من المعلول إلى العلّة، من المخلوق إلى الخالق، و من المصنوع إلى الصانع.
سُئِلَتْ عجوز: كيف عرفتِ الله؟ أجابت: من آلة النسيج هذه، فعند ما أمسك مقبضها و أدوّره بهذا الدوران ينسج الحبل، و حيث أرفعُ يدي و أتوقف عن التدوير تتوقّف و يبقي الصوف و القطن على حاله، عندها لا نسيج ينسج، و لا ليف يبرم.
من هنا أيقنت أن للأفلاك و النجوم و الكواكب السيّارة و الشمس و القمر و الأرض و نظام الخلق بأجمعه خالقاً مقتدراً، متى شاء عطّل الوجود و رماه في هوّة العدم. و إن شاء أمدّه بأسباب الحياة و أدار عجلة استمراره.
خبر دارى كه سيّاحان افلاك | *** | چرا گردند گرد مركز خاك |
در اين محرابگه معبودشان كيست | *** | و زين آمد شدن مقصودشان چيست |
چه مىخواهند از اين محمل كشيدن | *** | چه مىجويند ازين منزل بريدن |
چرا اين ثابت است آن منقلب نام | *** | كه گفت اين را بجُنب آن را بيارام |
مرا بر سرّ گردون رهبرى نيست | *** | جز آن كاين نقش دانم سر سرى نيست۱ |
از اين گردنده گنبدهاى پر نور | *** | به جز گردش چه شايد ديدن از دور |
بلى در طبع هر دانندهاى هست | *** | كه با گردنده گردانندهاى هست |
از آن چرخه كه گرداند زن پير | *** | قياس چرخ گردنده از آن گير۱ |
و لهذا قيل: وَ عَلَيْكُمْ بِدِينِ العَجِائِزِ! و لكن مهما يكن من أمر، عليك أن لا تنسي بأنّك رجل، بل رجل يافع تملك إرادة، فإذا اقتصرت على دين العجائز كان مصيرك الحزن و الندامة في الحياة الدنيا، و الحسرة و الخذلان في الآخرة.
أشعار الشبستريّ الرائعة في ضرورة الحركة صوب الله تعالى
يقول فخر الشيعة الإثني عشريّة العالم الجليل الشيخ محمود بن عبد الكريم نجم الدين الشبستريّ، و هو من علماء القرن السابع الهجريّ تغمده الله بأعلى درجات رضوانه، في هذا الشأن:
تو از عالم همين لفظى شنيدى | *** | بيا بر گو كه از عالم چه ديدى؟٢ |
چه دانستى ز صورت يا ز معني؟ | *** | چه باشد آخرت چونست دُنيي؟ |
بگو سيمرغ و كوه قاف چبود؟ | *** | بهشت و دوزخ و أعراف چبود؟ |
كدام است آن جهان كو نيست پيدا | *** | كه يك روزش بود يك سال اينجا؟ |
همين نبود جهان آخر كه ديدي | *** | نه ما لا تُبْصِرونْ آخر شنيدى؟ |
بيا بنما كه جابُلقا كدام است | *** | جهان شهر جابُلسا كدام است |
مشارق با مغارب هم بينديش | *** | چه اين عالم ندارد جز يكى بيش |
بيان مِثْلَهُنَّ ز ابن عبّاس | *** | شنو پس خويشتن را نيك بشناس۱ |
تو در خوابى و اين ديدن خيال است | *** | هر آنچه ديدهاى از وى مثال است |
به صبح حشر چون گردى تو بيدار | *** | بدانى كآن همه وهم است و پندار |
چه برخيزد خيال چشم أحوَل | *** | زمين و آسمان گردد مبدّل |
چه خورشيد جهان بنمايدت چهر | *** | نماند نور ناهيد و مه و مهر |
فتد يك تاب از آن بر سنگ خاره | *** | شود چون پشم رنگين پاره پاره |
بدان اكنون كه كردن مىتوانى | *** | چه نتوانى چه سود آنگه كه دانى |
چه مىگويم حديث عالم دل | *** | ترا سر در نشيب و پاى در گل۱ |
جهان آنِ تو و تو مانده عاجز | *** | ز تو محرومتر كس ديد هرگز؟ |
چو محبوسان به يك منزل نشسته | *** | بدست عجز، پاى خويش بسته |
نشستى چون زنان در كوى ادبار | *** | نميدارى ز جهل خويشتن عار |
دليران جهان آغشته در خون | *** | تو سر پوشيده ننهى پاى بيرون |
چه كردى فهم از اين «دين العجايز» | *** | كه بر خود جهل مىدارى تو جايز؟ |
زنان چون ناقصات عقل و دينند | *** | چرا مردان ره ايشان گزينند؟ |
اگر مردى برون آى و نظر كن | *** | هر آنچ آيد به پيشت زان گذر كن۱ |
مياسا يك زمان اندر مراحل | *** | مشو موقوف همراه رواحل |
خليلآسا برو حقّ را طلب كن | *** | شبى را روز و روزى را به شب كن |
ستاره با مه و خورشيد اكبر | *** | بود حسّ و خيال و عقل انور |
بگردان زان همه اى راهرو روى | *** | هميشه لا احِبُّ الآفِلينْ گوى |
و يا چون موسى عمران در اين راه | *** | برو تا بشنوى إنّى أنَا الله |
ترا تا كوه هستى پيش باقى است | *** | جواب لفظ ارنى، لَنْ تَرانى است |
حقيقت كهربا، ذات تو كاه است | *** | اگر كوه توئى نبود چه راه است؟۱ |
تجلّى گر رسد بر كوه هستى | *** | شود چون خاك ره، هستى ز پستى |
گدائى گردد از يك جذبه شاهى | *** | به يك لحظه دهد كوهى به كاهى |
برو اندر پى خواجه به اسْرَى | *** | تفرّج كن همه آيات كُبرى |
برون آى از سراى امّ هانى | *** | بگو مطلق حديث مَن رآنى |
گذارى كن ز كاف كُنج كونين | *** | نشين بر قاف قرب قابَ قوسَين |
دهد حقّ مر ترا از آنچه خواهى | *** | نمايندت همه أشيا كَما هيْ۱ |
«مفاتيح الإعجاز» في شرح أشعار «گلشن راز»
لقد أغلق الشيخ رحمه الله، في الأبيات المختصرة التي مرّت آنفاً،
كلّ أبواب عبادة النفس و دلّ على الطريق إلى الله، و بما أن كتابنا هو في (معرفة الله) فقد رأينا من المناسب ذكرها هنا.
بَيدَ أن بعض هذه الأبيات تحتاج إلى شرح و توضيح، و منذ عصر الشيخ و حتى الآن، لم يظهر شرح أحسن و لا أوضح و لا أقرب إلى القلب من شرح العالم الجليل: الشيخ محمّد بن يحيى بن على الجيلاني اللاهيجي، و على الرغم من مضي خمسمائة و ثمانية و ثلاثين عاماً منذ ذلك الوقت و حتى هذه السنة، و هي سنة (۱٤۱٥ هـ)۱ على هذا الشرح، فهو لا يزال مرجعاً لأعلام الفنّ، و ارتأى أن تورَد نفس عباراته لتوضيح مفاهيم الشيخ. كما أن متانة الكلام و قوّة البرهان و سلاسة الإنشاء و عذوبته و رقَّة الشِّعْر
و سحره جعلته يتربّع على عرش البيان.
و ها نحن نشرع بالشرح، و حيثما كانت الحاجة إلى الملاحظات الضروريّة قمنا بتسجيلها، بِحَوْلِ اللهِ وَ قُوَّتِهِ وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ.
يقول الشيخ محمّد اللاهيجيّ:
«لأنّ الحقّ تعالى متجلٍّ بجميع الأشياء و الأعيان، و أن العلم و الحياة لازمتا الذات الإلهيّة، و بالطبع أينما كان الملزوم، كان اللازم، فلهذا، أينما وُجِد الوجود، وُجِد العِلم و الحياة.
و غاية ما في هذا الباب، أنّه إذا كان مكان ظهور التجلّي لا يحوي الاعتدال الموجب لظهور الحياة و العلم، عندئذٍ ستبقى تلك الصفات كامنة فيه، كالشخص المغمى عليه.
إذاً جميع الأشياء هي ذات علم و حياة، و كلّ شيء له حياة، فبالقطع له نفس أيضاً، و كلّ نفس موجودة- بالقوّة أو بالفعل- تكون بالضرورة مدركة لوجودها. و حريّاً بها أن تدرك الوجود المطلق، حيث العامّ يكون أوضح من الخاصّ، اي أن كلّ ما في الكون يدرك ذاته- بالقوّة أو بالفعل- و هذا الإدراك يفتح الطريق إلى ساحة الله تعالى، لأنّ ذات الحقّ تعالى متجلّية و ظاهرة في جميع الأشياء.
نطق آب و نطق خاك و نطق گل | *** | هست محسوس حواس اهل دل |
فلسفي كآن منكر حَنّانه است | *** | از حواس اوليا بيگانه است۱ |
فكلّ موجود مظهر لوجه الله تعالى و مرآة له، و هو متجلٍّ بجميع
الأشياء، و لكنّه توارى في حجاب التعيّنات. و يقول أيضاً:
به زير پرده هر ذرّه پنهان | *** | جمال جانفزاى روى جانان۱ |
و أمّا من عجائب السرّ الإلهيّ، أنّه جلّت قدرته في أوج ظهوره محتجب، و في أوج احتجابه ظاهر، و على الرغم من أنّه لا موجود كائن بدونه، و أنّه عين كلّ شيء، و أضحى التعيّن و التشخّص حلّة جماله، فإنّ جمال ذلك المحبوب الحقيقيّ الأخّاذ قد كمن و في ضمير كلّ ذرّة من ذرّات العالمين، بدا بكلّ صورة و لون.
بَدَتْ بِاحْتِجَابٍ وَ اخْتَفَتْ بِمَظَاهِرٍ | *** | عَلَى صِبَغِ التَّلْوِينِ في كُلِّ بَرْزَةٍ٢ |
خورشيد به ذرّه چون نهان است | *** | چون ذرّه به نور خود عيان است |
حيف است كه مهر روى جانان | *** | مستور به پرده جهان است |
از بهر چه نور عالمآرا | *** | در ظلمت اين و آن نهان است |
خورشيد رُخش به جلوه آمد | *** | ذرّات جهان نمودِ آن است٣ |
فكلٌّ صَبا منهم إلى وصف لبسِها | *** | بصورةِ حُسنٍ لاحَ في حُسْنِ صورةٍ |
و ما ذاك إلّا أن بَدتْ بمظاهرٍ | *** | فظنّوا سواها و هي فيها تجلّت |
فَسُبْحانَهُ وَ تعالى؛ مَا ظَهَرَ في مَظْهَرٍ إلَّا وَ احْتَجَبَ بِهِ.
قاعِدَةٌ في أن مَرَاتِبَ ظُهُورِ الحَقِّ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ:
و بعد أن أشار ضمن تفكّره في الآلاء و النِّعَم إلى بيان صدور الكثرة من الوحدة، و ظهور الوحدة في الكثرة، تطرّق إلى ترتيب مقدّمة من جهة تنبيه الغافلين و ترغيب الطالبين، حيث تحدّثت تلك المقدّمة عمّا تتوقّف عليه المعرفة التامّة، و قال تحت عنوان قاعدة:
إن هذه القاعدة تشير إلى أن مراتب الظهور الإلهيّ لا متناهية، و إنّما نحصل على المعرفة الحقيقيّة، عند حصولنا على الاطّلاع الكشفيّ على هذه المراتب الكلّيّة.
درجات ظهور الله تعالى في العوالم اللامتناهية
و اعلم أن العالم لا يقتصر على عالم الشهادة هذا، و أن هذا العالم، إنّما هو انعكاس بالقياس إلى العوالم الغيبيّة المعنويّة، و أن للحقّ تعالى ظهوراً مختلفاً في كلٍّ من عوالم التجلّي و الظهور، و على هذا قال:
تو از عالم همين لفظي شنيدى | *** | بيا بر گو كه از عالم چه ديدي؟!۱ |
حيث يقول: إنّك من هذا العالم الذي تعرفه إنّما سمعت لفظاً، و ما دريت أن العالم أكبر من ذلك. لأنّه قيل: أن العالَم، هو ذلك الذي يُتَوَصَّل به إلى معرفة شيءٍ ما، و بهذا المعنى، يكون اشتقاق كلمة العالم أظهر من كلمة العلم. لذا، فإنّ تسمية الموجودات بالعالم، هي بواسطة أنّه وسيلة و آلة لإدراك الحقّ تعالى. مثله كمثل الخاتم، الذي يدلّ على الشيء الذي يختم به.
و على هذا المعنى أمكن إطلاق كلمة العالم على مجموع الأشياء الموجودة، و كذا أمكن إطلاقه على كلّ مرتبة بل و كلّ فرد، و لهذا فهو يقول، هلمّ و أخبرني عمّا رأيت من هذا العالم؟ و إلى أيّ من هذه العوالم وصلت؟ ذلك أن العوالم غير المحسوسة كثيرة، و قد ورد في الأخبار، أن العوالم كثيرة، و قد أشار بالتفصيل إلى ذلك:
چه دانستى ز صورت يا ز معني؟ | *** | چه باشد آخرت چونست دنيا؟!۱ |
يقول ما ذا علمت عمّا قيل من عالم الصورة و المعني؟ اعلم، أن ما يمكن إدراكه بالحواسّ الظاهرة، إنّما هو الصورة، و أن ما لا تدركه الحواسّ الظاهرة، هو المعنى أو ما يسمّى بالغيب و الشهادة.
و أمّا الدنيا، فهي عبارة عن هذا العالم، الذي تتعلّق فيه النفس الإنسانيّة بالبدن، و بواسطة الآلات البدنيّة، يمكنها اكتساب الأخلاق و الأعمال من سيّئات و حسنات. و يعبّر عن ذلك، بالنشأة الاولى؛ و أمّا الآخرة، فهي العالم الذي تُقاضى فيه النفس بعد مفارقتها البدن، و تجزي على أخلاقها و أعمالها، أن خَيْراً فَخَيْرٌ وَ أن شَرّاً فَشَرٌّ.٢
«ما الذي علمتَهُ من صورة أو معني؟ | *** | و ما هي الآخرة، كيف حال الدنيا؟» |
و يَحذِفونها و يبقون الخبر | *** | و بعدَ أن و لَو كثيراً ذا اشتهر |
و سوف نشير إلى حقيقة معنى كَلِّمُوا النَّاسَ على قَدْرِ عُقُولِهِمْ۱ باختصار أثناء شرحنا للأبيات إن شاء الله تعالى.
«العنقاء» هي الذات الواحدة المطلقة؛ و «جبل قاف» هو الحقيقة
و لمّا كان الهدف و هو معرفة الطالب لما لا يُدرك بالحسّ و العقل حقّ إدراكه، ليس بسهل، و إنّما يستند على تنقية الفؤاد: فقد قال:
بگو سيمرغ و كوه قاف چبود؟ | *** | بهشت و دوزخ و أعراف چبود؟٢ |
و اعلم أنّه قد رويت و قيلت الكثير من الحكايات حول طائر العنقاء كلٌّ حسب تأويله، و أمّا ما يخطر ببال الحقير الفقير فهو أن العنقاء رمز للذات الواحدة المطلقة، و أن القاف، و هو مقرّها، يرمز إلى الحقيقة الإنسانيّة التي هي مظهر تامّ لتلك الحقيقة، و أن الحقّ بكامل أسمائه
پست مىگويم به اندازة عقول | *** | عيب نبود اين بود كار رسول |
رنگ و بو در پيش ما بس كاسد است | *** | ليك تو پستى، سخن كرديم پست |
«أ تعرف ما العنقاء أو طود قاف؟ | *** | أو الجنّة و جهنّم و الأعراف؟» |
و صفاته، متجلٍّ و ظاهر بها.
و أمّا ما قيل من أن جبل قاف محيط بالعالم من كلّ جوانبه لعظمته، فإنّ هذا المعنى ظاهر في الحقيقة الإنسانيّة، لأنّ تلك الحقيقة كما مرّ بيانها، تشتمل على جميع حقائق العالم، و لأنّ الإنسان يمثّل أحديّة الجمع ظاهراً و باطناً، و هو منتخب كلّ العالم و خلاصته.
و كلّ من وصل إلى معرفة الحقيقة الإنسانيّة، اعتماداً على قاعدة أن مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ،۱ تيسّرت له رؤية الحقّ تعالى و معرفته، حيث إنّ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأى الحَقَّ،٢ و على هذا، فإنّ من وصل إلى جبل
چون مرا ديدي خدا را ديدهاي | *** | گرد كعبه صدق بر گرديدهاى |
قاف، فقد وصل إلى العنقاء. شعر:
گرنه آن حسن در تجلّى بود | *** | آن أنا الحقّ كه گفت: سُبحاني۱ |
كه تواند به غير او گفتن | *** | لَيْسَ في جُبَّتي٢ كه مىخوانى٣ |
هر چه هستى است در تو موجود است | *** | خويشتن را مگر نميداني۱ |
الجنّة و النار مظهران موجودان في جميع العوالم الإلهيّة
و اعلم، أن الجنّة و النار، إنّما هي مظاهر في جميع العوالم الإلهيّة، و لا ريب في كونها من الأعيان التي هي صور علميّة في العلم الإلهيّ، و يكثر وجودها في العالم الروحانيّ أكثر منه في الوجود الجسمانيّ كذلك. و أن إخراج آدم و حواء من الجنّة، إنّما هو إشارة إلى ذلك، و للنار كذلك وجود في هذا العالم الروحانيّ، ذلك أن العالم الروحانيّ مثال لما هو موجود في علمه، و الأحاديث التي تدلّ على وجودهما كثيرة، و قد أشار الرسول عليه الصلاة و السلام إلى مسألة إثبات وجودهما في عالم الدنيا بقوله، الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَ جَنَّةُ الكَافِرِ٢. و كذا في الآية الشريفة: {وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ}.٣
أدلّة إثبات وجود الجنّة و النار في عوالم ما بعد عالم الدنيا
و في مكان آخر، أشار كذلك إلى إثبات وجودهما في البرزخ المثاليّ قائلًا: القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ . و هو
...۱
گورها يكسان به پيش چشم ما | *** | روضه و حفره به پيش انبيا |
همچو گور كافران، بيرون حُلَل | *** | و اندرون قهر خدا عزّ و جلّ |
موجود كذلك في العالم الإنسانيّ، الذي هو منتخب الجميع، ذلك أن مرتبة الروح و القلب و الكمالات الخاصّة بهما، هي النعيم عينه. و أمّا مقام النفس و الهدى و متعلّقاتهما، فهي الجحيم عينه. و آخر مراتب مظاهرهما هي الدار الآخرة، التي هي عالم الجزاء، و قد تطرّقت الأحاديث و القرآن الكريم إلى الكلام عن هذا العالم في مواضع كثيرة.
و يقول الإمام محمّد الغزّاليّ في «المضنّون به على غير أهله»۱: قال أبو عليّ و هو من عظماء الفلاسفة: يمكن القول أن الحقّ جلّ شأنه قد أعطي هذه القوّة للنفس الفلكيّة، بحيث أن ما موجود في عالم المواليد السفليّة من أشخاص و أقوال و أعمال و أخلاق و حركات و سكنات، و الصور المناسبة لكلٍّ من تلك الرموز و أسمائها الواردة في الشريعة السمحاء، موجودة بأجمعها في تلك النفس الفلكيّة، إذ أن النفس الإنسانيّة بعد قطع اتّصالها بالبدن العنصريّ تتّصل ببدن آخر يليق بذلك العالم، و تُشاهَد عياناً صور الأعمال و الأخلاق و الأوصاف و الأقوال التي صدرت منها في هذا العالم.٢
ذلك ما أخبر به المخبر الصادق، و هو الرسول الأمين صلى الله عليه و آله و سلّم، من حور و قصور و رضوان و أثمار و أنهار، و أخبر في مقابل ذلك عن الأفاعي و العقارب و النار و مالك، و لمّا كان ذلك لا يخالف العقل، و قد كان المخبر به هو المخبر الصادق، فلا ريب أن ذلك هو ما هو كائن حقّاً. و هذا لِمَن يُرِيد إدراك هذا المعنى بطريق العقل، و إلّا فإنّ أصحاب الصفاء و النقاء و أهل القلوب يشاهدون بعين البصيرة كلّ ما قاله و أخبر عنه النبيّ، و على هذا، فإنّ قاعدة: مُوتُوا قَبْلَ أن تَمُوتُوا۱، تدلّ على أن ما يكون بعد الموت الطبيعيّ، يمكن مشاهدته بالموت الاختياريّ بعين اليقين، و إزالة ما في داخلهم من شكّ.
زينهار اي جان من صد زينهار | *** | نيك كن پيوسته دست از بد بدار |
زانكه هر چه اينجا كنى از نيك و بد | *** | مونست خواهد شدن اندر لحد٢ |
اى خنك آن را كه پيش از مرگ مُرد | *** | يعنى او از اصل اين رَز بوى برد |
«حذار يا نفسي كوني على حذر | *** | اعملي المعروف و اجتنبي الشرر |
إنّ ما تصنعي من خير هنا | *** | سيكون أنيساً لك داخل القبر» |
حيث أن القَبْرُ صَنْدُوقُ العَمَلِ۱.
و أمّا الأعراف، فهي جمع عُرف، يطلق على المكان المرتفع الذي يُشرف على جوانبه. و تلك هي مرتبة السابقين، حيث يقول تعالى:
{السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}.٢
و هم الكاملون الذين وصلوا إلى مقام جمع الجمع، و هو مقام البقاء بالله، حيث يرون الحقّ تعالى متجلّياً في كلّ شيء و الصفة التي يعدّ ذلك الشيء مظهراً لها، و هذا المقام هو الإشراف على الجوانب. إذ يمكنه رؤية كلّ شيء كما هو، و يعلمون أنّ:
{وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ}.٣
ما طبيبانيم و شاگردان حقّ | *** | بحر قُلزم ديد ما را فَانفَلَقْ ٤ |
يَا مَنْ بِدُنْيَاهُ اشْتَغَلْ | *** | قَدْ غَرَّهُ طُولُ الأمَلْ |
المَوْتُ يَأتِي بَغْتَةً | *** | وَ القَبْرُ صَنْدُوقُ العَمَلْ |
غَرَّ جَهُولًا أمَلُه | *** | يَموتُ مَنْ جَا أجَلُهْ |
وَ مَنْ دَنَا مِنْ حَتْفِهِ | *** | لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حِيَلُهْ |
وَ مَا بَقَاءُ آخِرٍ | *** | قَدْ غَابَ عَنْهُ أوَّلُهْ؟ |
وَ المَرْءُ لَا يَصْحَبُهُ | *** | في القَبْرِ إلَّا عَمَلُهْ |
آن طبيبانِ طبيعت ديگرند | *** | كه به دل از راه نبضى بنگرند |
ما به دل بى واسطه خوش بنگريم | *** | كز فراست ما به عالىمنظريم۱ |
و بعد أن أشار إلى بعض من العوالم الغيبيّة، ذكر في مكان آخر:
كدام است آن جهان كو نيست پيدا | *** | كه يك روزش بود يك سال اينجا؟٢ |
العوالم الخمسة: اللاهوت، الجبروت، الملكوت، الملك و الناسوت
و اعلم أن العوالم الكلّيّة هي خمسة:
الأوّل: عالم الذات، و هو ما يطلقون عليه باللاهوت و الهويّة الغيبيّة، و الغيب المجهول، و غيب الغيوب، و عين الجمع، و حقيقة الحقائق، و مقام أو أدنى، و غاية الغايات، و نهاية النهايات، و الأحديّة.
الثاني: عالم الصفات، و هو ما يطلقون عليه بالجبروت، و برزخ البرازخ، و البرزخيّة الاولى، و مجمع البحرين، و قاب قوسين، و محيط الأعيان، و الوحدانيّة، و العماء.
الثالث: عالم الملكوت، و يسمّونه كذلك عالم الأرواح، و عالم الأفعال، و عالم الأمر، و عالم الربوبيّة، و عالم الغيب و الباطن.
الرابع: عالم المُلك، و يطلقون عليه كذلك عالم الشهادة، و العالم الظاهر، و عالم الآثار، و الخلق، و المحسوس.
الخامس: عالم الناسوت، و يطلقون عليه كذلك الكون الجامع، و العلّة الغائيّة، و آخر التنزّلات، و مَجْلَى الكلّ.
«أين ذاك العالم يا صاح قل لي | *** | أ تزعم أن يوماً فيه قدِّر بسنة؟» |
فالعوالم الثلاثة من هذه العوالم الخمسة هي ضمن عالم الغيب، لأنّها خارجة عن عالم الإدراك و الحواسّ. و أمّا العالمان الآخران فهما ضمن عالم الشهادة، لأنّهما محسوسان بالحواسّ.
يقول الشيخ: أين هو ذلك العالم غير المحسوس؟ اي أنّه غير محسوس و غائب عن الحواسّ، حيث أن يوماً في ذلك العالم، يعادل سنة من هذا العالم.
و هذا العالم إشارة إلى البرزخ المثاليّ، و هو الحدّ الفاصل بين الغيب و الشهادة، و هو جامع لأحكام العالمَين، الظاهر و الباطن، بحسب البرزخيّة. و أمّا مسألة الزمان و المكان و الطول، و القصر في الشهر و السنة في هذا العالم الجسمانيّ، فهي مقيّدة بالكثافة، و كلّما قلّت الكثافة، قلّ في مقابل ذلك التقيّد و اعتبار البعد بين المبدأ و المعاد، و الأزل و الأبد، و أضحت مسألة ظهور العلم و انكشاف المعلومات و الحقائق هامشيّة قليلة الأهمّيّة.
و لهذا صار يوم واحد في عالم البرزخ يعادل عاماً واحداً في عالمنا هذا، و يوم واحد في عالم الربوبيّة، هو بألف عامّ في هذا العالم {إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. و أمّا اليوم الواحد في عالم الالوهيّة، فهو مساوٍ لخمسين ألف سنة في هذا العالم {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.۱ شعر:
پيش ما صد سال و يك ساعت يكى است | *** | كه دراز و كوته از ما منفكى است٢ |
آن دراز و كوتهى در جسمها است | *** | آن دراز و كوته اندر جان كجاست |
از ره و منزل ز كوتاه و دراز | *** | دل چه داند كوست مست و دلنواز |
آن دراز و كوته اوصاف تن است | *** | رفتن ارواح، ديگر رفتن است۱ |
بما أن في ذات الأحديّة لا وجود للتعيّن و التقيّد- لأنّ الكثرات الاعتباريّة عنده معدومة- فإنّ تقدّم الذات الأحديّة على الذات الوحدانيّة التي هي منشأ التعيّنات و النسب، يُعبّر عنه بالسنة السرمديّة، و جاء في بعض النسخ «كان يوماً منه بخمسين يوماً من هذا العالم».
و ذلك العالم هو إشارة إلى عالم الالوهيّة، و المراد بالخمسين، هي خمسون ألف عام، في {يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.٢
و قد أشار إلى عوالم غير مدركة بالحواسّ، و ليس كلّ شخص هو سابح في هذه الأجواء، و لأجل التأكيد على تصديق المستمع يقول:
همين نبود جهان آخر كه ديدى | *** | نه ما لَا تُبْصِرونْ آخر شنيدى؟٣ |
أي أن عالم الشهادة و المحسوس الذي أمامك ليس هو كلّ شيء، بل هنالك عوالم أخرى كثيرة لا تدركها الحواسّ، على الرغم من أنّه، اي عالم الشهادة و المحسوس، ينحصر عموماً في العوالم الثلاثة التي مرّ ذكرها،
فهو يقول: أ لم تسمع كلام الخالق: {وَ ما لا تُبْصِرُونَ}؟ اي تلك العوالم التي لا ترى بالباصرة. و في كلام البارئ جاء القَسَم بهذين العالَمَيْن بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَ ما لا تُبْصِرُونَ}،۱ و هما عالم الظاهر، و عالم الباطن، أو الغيب و الشهادة، و اللذان يشتملان على العوالم الخمسة المذكورة، التي تمّ شرحها آنفاً. و عالم اللاهوت هو أصل كلّ تلك العوالم، و نسبة هذا العالم إلى تلك العوالم، كحَبّة الرمل إلى الصحراء، أو قطرة الماء إلى البحر.
«جابلقا» مجمع البحرين للُالوهيّة و الإمكان؛ و «جابلسا» تعيّن النشأة
و لأنّ النشأة الإنسانيّة، و شأن جامعيّة كمالها، يقتضيان العلم بكلّ مراتب الموجودات، و الاطّلاع على كلّ المسمّيات بحكم {وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}٢ يقول:
بيا بنما كه جابُلقا كدام است | *** | جهان شهر جابُلسا كدام است٣ |
جاء في القصص و الروايات التأريخيّة، أن جابلقا، هي مدينة كبيرة جدّاً في الشرق، و جابلسا أيضاً، كبيرة جدّاً و تقع في الغرب، و بالمقابل من جابلقا، و قد علّق أهل التأويل في هذه المسألة بما يكفي، و لكن خطر ببالي معنيين على سبيل الإشارة و هما:
الأوّل: جابلقا هي العالم المثاليّ، و التي تقع في الجانب الشرقيّ للأرواح، و هي البرزخ بين الغيب و الشهادة، و تشتمل على صور العالم، فهي بلا شكّ، مدينة كبيرة، و واسعة جدّاً. و أمّا جابلسا، فهي عالم المثال
«خبّر بجابلقا لعلّك ناطق | *** | و أرني حاضرة جابلسا لعلّك صادق» |
و عالم البرزخ، و هي مستقرّ الأرواح بعد مفارقتها دار الدنيا، و مكان صور كلّ ما ارتُكِبَ من الأعمال، و الأفعال، و الأخلاق، الحسن منها و السيّئ المكتسبة في الحياة الدنيا- كما هو وارد في الأحاديث و الآيات-، و يقع هذا البرزخ في الجانب الغربيّ من الأجسام، و هي مدينة عظيمة السعة، و تقع قبالة جابلقا.
و هنا يكون أهل مدينة جابلقا، أكثر لطافةً و نقاءً، ذلك لأنّ أهل مدينة جابلسا، و بسبب أعمالهم و أخلاقهم الرديئة التي اكتسبوها في الدنيا، قد صُوّروا بصور مظلمة.
و معظم الخلق على هذا التصوّر، بأنّ هذين البرزخين هما شيء واحد، و لكن يجب العلم، بأنّ البرزخ الذي يستقبل الأرواح بعد مفارقتها للحياة الدنيا، هو غير البرزخ الكائن بين الأرواح المجرّدة و الأجسام؛ هذا لأنّ مراتب تنزّلات الوجود و معارجه دوريّة، على اعتبار أن اتّصال النقطة الاولى بالنقطة الأخيرة غير ممكن، إلّا في حالة الحركة الدورانيّة؛ و البرزخ الذي هو كائن قبل النشأة الدنيويّة، هو في مراتب تنزّلاتها، و يشكّل النقطة الاولى بالنسبة إلى هذه النشأة، و أمّا البرزخ الذي يأتي بعد النشأة الدنيويّة، فهو من مراتب الأوج، و عليه، فهو يعتبر النقطة الأخيرة بالنسبة إلى النشأة الدنيويّة.
و المسألة الأخرى هي أن الصور التي تلحق بالأرواح، هي صور الأعمال و نتائج الأفعال و الأخلاق و الملكات التي حصلت في النشأة الدنيويّة، على عكس صور البرزخ الأوّل.
فكلّ واحد منهما، هو غير الآخر، و لكنّهما يشتركان في كونهما عالمين روحانيّين، و لكلّ منهما جوهر نورانيّ غير مادّيّ، و يحويان على مثال صور العالم.
و يروي الشيخ داود القيصريّ بقوله: قال الشيخ محيي الدين الأعرابيّ قدّس سرّه في «الفتوحات»، أن البرزخ الأخير، هو غير البرزخ الأوّل. و قد أطلق على الأوّل اسم (الغيب الإمكانيّ)، و على الأخير بـ (الغيب المحاليّ)، و ذلك لأنّ كلّ صورة في البرزخ الأوّل، يمكن لها أن تظهر في الشهادة أيضاً، و أمّا الصور في البرزخ الأخير، فهي ممتنعة عن الرجوع للشهادة، اللهمّ إلّا في الآخرة.
و كثير هم أهل المكاشفة الذين ظهرت لهم صور البرزخ الأوّل، و الذين كانوا على دراية بآت الزمان، و لكن بالمقابل، يندر أن يطّلع أحد منهم على أحوال الموتى.
و أمّا المعنى الثاني، فهو: أن مدينة جابلقا، هي مرتبة إلهيّة، و هي مجمع البحرين بالنسبة للوجوب و الإمكان، حيث تكمن فيها صور أعيان جميع الأشياء، ابتداءً من المراتب الكلّيّة و الجزئيّة؛ و اللطائف و القبائح و الأعمال و الأفعال و الحركات و السكنات، و محيطة بما كانَ و ما يكونُ، و هي بالمشرق، حيث تَلِي مرتبة الذات و لا توجد فاصلة بينهما، و كلّ شموس الأسماء و الصفات و الأعيان و أقمارها و نجومها قد بزغت و تلألأ نورها من المشرق.
و أمّا مدينة (جابلسا)، فهي لسان حال النشأة الإنسانيّة، و هي مجلى جميع حقائق الأسماء الإلهيّة، و الحقائق الكونيّة. فما يطلع من مشرق الذات، يغرب في مغرب التعيُّن الإنسانيّ و يختفي في صورته. شعر:
با مغربى مغارب اسرار گشتهايم | *** | بى مغربى مشارق انوار گشتهايم۱ |
و هذان السوادان الأعظمان في موازاة بعضهما، و خلقهما مع بعض
لا يعنى النهاية، لأنّ كلّ عالم يحوي المشرق و المغرب معاً، بل أن كلّ مرتبة و كلّ فرد من الموجودات، يمتلك هذه الميزة، و هو يقول:
مشارق با مغارب هم بينديش | *** | چو اين عالم ندارد از يكى بيش۱ |
و اعلم أن عالم الالوهيّة بالقياس إلى عالم الربوبيّة، هو المشرق الذي يفيض من نوره على عالم الربوبيّة، و هكذا، عالم الربوبيّة بالقياس إلى البرزخ المثاليّ، و البرزخ المثاليّ بالقياس إلى عالم الشهادة، كلٌّ يفيض من نوره على من هو دونه، و كذلك فإنّ كلّ عالم من العوالم، و كلّ مرتبة من المراتب، و كلّ فرد من الأفراد هو مشرق، قد سطعت منه شمس من الأسماء الإلهيّة، و من جهة أخرى، فهو مغرب كَمَنَ في تعيّنه نور ذلك الاسم. و أن القلب الإنسانيّ، و بحسب كمال المظهريّة، له مائة مشرق، بل مئات الآلاف من المشارق التي تسطع منها نجوم الأسماء الإلهيّة، و هكذا، و في إزاء ذلك، فإنّ كلّا منها هو مغرب. و أن عجائب و غرائب القلب الإنسانيّ لا تظهر إلّا لعيان أهل الصفاء و السالكين إلى الله.
شعر:
عالم دل را نشانى ديگر است | *** | برّ و بحر و كار و شأنى ديگر است |
صد هزاران آسمان و آفتاب | *** | مشتريّ و تير و زهره ماهتاب٢ |
هر يكى تابندهتر از ديگرى | *** | نور هر يك در گذشته از ثَرى |
هر يكى را برج ديگر منزل است | *** | اين كسى داند كه از اهل دل است۱ |
جمع المشارق و المغارب في القرآن إشارة لعدم انحصار العوالم
و يحثّ الشيخ على التأمّل و التفكّر في المشارق و المغارب، كما ورد في القرآن الكريم: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِب}،٢ فالمشارق و المغارب جمع، و في هذا العالم المحسوس، ليس إلّا مشرق واحد، و مغرب واحد، و كلّ منهما في جهة معاكسة.
و أصبح واضحاً الآن، بأنّ العالم لا ينحصر في عالم الظاهر هذا، فهناك عوالم أخرى لطيفة و غير محسوسة، بل تلك العوالم و السماء و الكواكب هي أصل العوالم، لأنّها المؤثّرة و هذه المتأثّرة.
آسمانها است در ولايت جان | *** | كار فرماى آسمان جهان٣ |
فأكثر الخلائق عن هذه الحقيقة غافلون و محرومون من معرفة الأسرار و التجلّيات الإلهيّة، و بحكم انعدام الاستعداد الفطريّ لديهم، فلا حظّ لهم في الإصغاء و الفهم، و هو يقول:
بيان مِثْلَهُنَّ ز ابن عبّاس | *** | شنو پس خويشتن را نيك بشناس٤ |
«اسمع من ابن عبّاس بيان (مثْلهنّ) | *** | و اعرف الأنفس جيّداً دون بطر أو وَهن» |
يقول سلطان المفسّرين عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما:
لَوْ ذَكَرْتُ تَفْسيرَ قَوْلِ اللهِ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}،۱ لرجموني أو قالوا: إنه كافر.
لأنّ الشيخ قد قال: بأنّك لم تسمع بغير كلمة عالم، و لا علم لك عن هذه العوالم التي مرّ ذكرها، و بأنّ العالم غير منحصر بالمحسوسات، و أن هناك عوالم لطيفة كثيرة غير هذه، استشهاداً على ذلك يقول شعره «بيان مثلهنّ» اي استمع جيّداً إلى ما قاله ابن عبّاس في شرح الآية {مِثْلَهُنَ} بأنّه لو فسّر هذه الآية لقُتل، و اعرف نفسك جيّداً، فإنّك لم تعرف حقيقة الأمر بعد، و إذا كشف عارف و محقّق ملهم الحجاب عن بعض أسرار الوجود، لهبّ الخلائق إلى الطعن و المجابهة، بل قد يغالى بعضهم إلى حد تكفيره، و استباحة دمه، بحجّة الدفاع عن حرمة الدين بزعمهم.
إخراج بايزيد من مدينة بسطام اثنتي عشرة مرّة بتهمة الإلحاد
يروى أن السلطان بايزيد البسطاميّ قدّس سرّه قد اخرج من بسطام بتهمة الإلحاد و الزندقة إثنتي عشرة مرّة، و كان في كلّ مرّة يبعّد عن بسطام يقول: هنيئاً لمدينة ملحدها بايزيد. و أمّا الآن، فالجميع متيّم و عاشق لقبر ذلك الجليل، و عند ما كان على قيد الحياة الظاهريّة، لم يكن الناس على و فاقٍ و علاقة معه، و لكن عند ما التحقت روحه بالعالم العُلويّ، و أصبح قبره كومة تراب و حجر فإنّ الناس من جهة أوساخ غفلتهم و جهلهم لهم ما يربطهم مع الحجر و الحَمإ المسنون فقد ولِهوا بقبره.
إذا كنت منصفاً، تمعّن في هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ذو الجلال و العزّة جلّ شأنه و عظم سلطانه:
{يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.۱
شعر:
ديده اين شاهان ز عامه خوف جان | *** | كين گُرُه كورند و شاهان بى نشان |
انبيا را گفته قومِ راه گم | *** | از سَفَه: إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ٢ |
زرّ خالص را و زرگر را خطر | *** | باشد از قلّاب خاين بيشتر٣ |
لأنّ وجود العالم هو ظلٌّ للوجود الحقيقيّ، و أن توهّم الغيريّة الحقيقيّة لوجود عالم الخيال، توهّم باطل، و كلّ من خامرته فكرة الغيريّة، كان ضحيّة الغفلة، يقول:
تو در خوابيّ و اين ديدن خيال است | *** | هر آنچه ديدهاى از وى مثال است٤ |
أي كما أن الفرد تتراءى له في النوم صور ليس لها وجود في أرض الواقع، و لكنّه يعتقد بوجودها، و لا يدرك بأنّها صور خياليّة ليس إلّا،
و أنّها غير موجودة بالحقيقة، و أنت الذي تتوهّم بأنّ العالم هو وجود حقيقيّ، و لا تدري بأنّ العالم غير الذي ترى، فإنّك في غفلة، و وهم باطل. و بالحقيقة، فكلّ ما ترى هو صورة و مثال لوجود الحقّ تعالى، تيسّرت من خلال مرآة العيان، و أن لا وجود لغير الحقّ تعالى. شعر:
اين نقشها كه هست، سراسر نمايش است | *** | اندر نظر چو صورت بسيار آمده |
عالم، مثال ذات و ظلال صفات اوست | *** | نقش دوئى چو صورت پندار آمده۱ |
سيتّضح في الحشر أن كلّ ما سوى الحقّ تعالى سراب
يوم القيامة، يظهر كلّ شيء مخفيّ على حقيقته بحكم الآية الشريفة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ}،٢ و يقول:
به صبح حشر چون گردى تو بيدار | *** | بدانى كآن همه وهم است و پندار٣ |
و بحكم أن النَّاسُ نِيَامٌ٤ يقول: إنّما يقظتك هي نوم، و الصحو في نوم
«إذا ما استيقظ المرء من القبر و جال | *** | سيعلم أنّما ما قد مضى كان خيال» |
...۱
الغفلة هذا يكون بالموت فَإذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا، و الحشر هو بمعنى الجمع، (حشَرْتُهُمْ اي: جَمَعْتُهُمْ)، و المراد بهذا الحشر هو الموت الإراديّ، حيث أن مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ،٢ اي أنّك ستستيقظ من غفلتك عند صباح
اين جهان وهم است، اندر ظنّ مايست | *** | گر رود در خواب دستى باك نيست |
يقول: «إنّما عالمنا وهم و خيال | *** | كلّ ما فيه مباد و زوال» |
تا برآيد ناگهان صبح اجل | *** | وا رهد از ظلمت ظنّ و دغل |
المحشر، و هو الموت الإراديّ، و تزول التعيّنات و الكثرة و تجتمع أسباب الفرقة و التشتّت التي تورث الغفلة و التخيّلات الفاسدة كلّها، و يظهر التوحيد. و لكن اعلم أن الوجود كلٌّ واحد، و لكن بسبب كثرة المظاهر تعدّد، و تصوّرك الغيريّة، و اعتبارك إيّاها حقيقة أكيدة، ما هو إلّا وهم و سراب، و أن لا وجود إلّا للحقّ تعالى.
و باعتبار أن التعيّنات و الكثرة، يعبّر عنها بالليل، من جهة ظلمة عدميّتها، فقد جرى إطلاق تعبير الصبح على الموت، باعتباره فناء التعيّن، و ذلك لأنّ البرزخ قد توسّط ليل الكثرة و نهار الوحدة.
و حسب تعبير المتصوّفة، أن الولوج في الحياة الطيّبة القلبيّة بعد الموت الإراديّ، هو ما يعبّر عنه بالقيامة الوسطى، كما جاء في الآية الكريمة:
{أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}۱، اي مَيْتًا بِالجَهْلِ، فَأحْيَيْناهُ بِالعِلْمِ وَ المعارف.
و لأنّ الحشر، هو اجتماع المتفرقات الذي يظهر بعد محو الكثرات، و يقول:
چو برخيزد خيال چشم أحول | *** | زمين و آسمان گردد مبدّل٢ |
و في صبح الحشر، الذي يمثّل وصول السالك إلى مقام التوحيد، و حيث يذوب الكونان في نظره بنور الوحدانيّة، وَ لَا يَبْقَى إلَّا الْحَيّ الْقَيُّومِ، فإنّ أوهام الأحول التي تصوّر له وجوداً مع وجود الحقّ تعالى ستزول مع زوال وهم الغيريّة، فيعلم يقيناً أن كلّ الوجود هو الحقّ تعالى،
و أن وجود الموجودات ما هو إلّا وجود أجوف، و خيال و وهم و ظنّ، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}.۱
يومئذ ستكون هناك أرض و سماوات، و لكن غير هاتين اللتين نرى الآن، لأنّ الحلم الذي رآه في نوم الغفلة، و في ليل العمر، و ظنّ أنّه الغير، طلع عليه صبح الحشر، و تبيّن أنّه وهم و خيال أحول ليس إلّا. شعر:
بوديم يكى، دو مىنموديم | *** | نابود شد آن نمود در بود |
چون سايه به آفتاب پيوست | *** | از ظلمت بودِ خود بياسود |
چون سوخته شد تمام هيزم | *** | پيدا نشود از آن سپس دود٢ |
إن في ظهور نور تجلّي الوحدة، توارى ظلمة الكثرة، و يقول بهذا الصدد:
چو خورشيد جهان بنمايدت چهر | *** | نماند نور ناهيد و مه و مهر٣ |
إن تجلّي نور شمس الذات الإلهيّة في مرآة قلب السالك إلى الله، اللاهث وراء الحقّ، هذا النور قد طرد أنوار الزُّهرة و القمر و الشمس، و رمى بهنّ في هوّة العدم الحالكة. حيث يمّحي كلّ وجود و نور؛ كما في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}.٤ و لأنّ هذه
القيامة عند السالك إلى الله، هي واقعة، لا محالة، و هي صورة للقيامة الكبرى، فإنّه إذا ظهرت علاماتها ساطعة، تلاشت أنوار الوجود الخياليّ المجازيّ للكائنات، و ذابت في وهج إشعاع نور ذات الله المطلقة، و بالظهور المطلق للحقّ تعالى، تقوم القيامة، و يفنى كلّ وجود غير وجوده المقدّس، و ما كان آجلًا عند غيره، أصبح عاجلًا عنده. شعر:
هر كه گويد كو قيامت اى صنم | *** | خويشتن بنما قيامت نك منم |
اين قيامت زان قيامت كى كم است | *** | آن قيامت زخم و اين چون مرهم است۱ |
كما أن قيام الساعة، التي هي مصداق لاسم القهّار و المعيد، هي ظهور الفناء في الوجود، إذ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ}؛٢ يقول:
فتد يك تاب از آن بر سنگ خاره | *** | شود چون پشم رنگين پاره پاره٣ |
أي أن الحجر قد تفتّت من و ميض نور الذات الإلهيّة المتجلّية، و قد ركع أمام هيبة النور الإلهيّ و إشعاع التجلّي القدسيّ حجر الصوّان حتى أضحى كالعهن المنفوش و المتلاشي: {وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}.٤
«إن يسقط النور على العروش | *** | تكن جميعها عهنا منفوش» |
صارَ دَكَّاً مِنْهُ وَ انْشَقَّ الجَبَلْ | *** | هَلْ رَأيْتُمْ مِنْ جَبَلْ رَقْصَ الجَمَلْ؟! |
الترغيب في المكاشفات و التجلّيات و السير في العوالم اللطيفة
و ذلك أن تحصيل الكمالات الحقيقيّة، و المعارف اليقينيّة، و هي هدف الوجود، غير متيسّر إلّا في هذه النشأة، يقول:
بدان اكنون كه كردن مىتوانى | *** | چو نتوانى چه سود آنگه كه دانى۱ |
إن الشيخ في هذه الأبيات، يحثّ على السموّ إلى المراتب القلبيّة، و المكاشفات، و المشاهدات، و التجلّيات، و الفناء، و التحليق، و العروج إلى الأفلاك، و العوالم اللطيفة. فقد ذكر هنا مقدّمة يمكنها أن تكون وسيلة للطالب الصادق الذي يودّ الحصول على تلك المعاني، و تزيد في فهمه و إدراكه لما هو واقع، و هي:
اعلم أن الإنسان، و بسبب الشموليّة التي تشكّل أصل الفطرة فيه، يمكن لحقائق الامور بعد التنقية و التجلية أن تنكشف له، و أن يتوصّل إلى العروج و السير و الطيران في الأفلاك و العوالم الملكوتيّة و الجبروتيّة اللطيفة، و أن يسبح في بحر تجلّيات الآثار و الأفعال و الأسماء و الصفات و الذات، ليرى بعين البصيرة، و يمتّع ناظريه بجمال ذي الجلال الوهّاج، فيفنى الوجود المجازيّ و التعيّن للسالك في فيض نور تجلّيات الذات الأحديّة، و بعد أن يفنى في الله تعالى و يذوب فيه، يعود و يخلد به جلّ جلاله، يرى الحقّ و يعرفه حقّ معرفته، و يتمّ المراد من خلق الكون، و هو المعرفة. شعر:
اگر دمى بگُذارى هواى نااهلى | *** | ببينى آنچه نبيّ ديد و آنچه ديد وليّ۱ |
ضرورة إرشاد الاستاذ الكامل للسير في العوالم الربوبيّة
و الحصول على هذه المعاني متوقّف على عدة أسباب، هي:
الأوّل: طلب الإرشاد في سلوك طريق الحقّ، كما هو واجب أرباب الطريقة، و الوصول إلى الكمالات المعنويّة، و التي ذُكرت بصورة إجماليّة، يمكن لهذا الكامل، و بإذنٍ إلهيّ، إرشاد طلّاب الحقّ، و هذا الكامل بدوره، يكون مأذوناً من قبل كاملٍ آخر، و هكذا،٢ حتّى تنتهي بخاتم الأنبياء
صلوات الله و سلامه عليه و آله.
شعر:
راه دور است و پر آفت اى پسر | *** | راهرو را مىببايد راهبر |
گر تو بى رهبر فرود آيى به راه | *** | گر همه شيرى، فرو افتى به چاه |
كور هرگز كى تواند رفت راست؟ | *** | بى عصاكش كور را رفتن خطاست |
گر تو گوئى نيست پيرى آشكار | *** | تو طلب كن تا بيابى صد هزار |
زانكه گر پيرى نباشد در جهان | *** | نه زمين در جاى ماند نه مكان |
گر نباشد در جهان قطب زمان | *** | كى تواند گشت بى قطب آسمان۱ |
گر ترا درد است پير آيد پديد | *** | قفل در دست را پديد آيد كليد۱ |
و كما أنّنا فوّضنا أمرنا إلى شيخ كهذا، فعلينا أن ندفن إرادتنا في إرادته، و نكون له كَالمَيِّتِ في يَدَيِ الغَسَّالِ، و أن نتوجّه إلى الحقّ تعالى كما يأمرنا هذا الشيخ، و أن نعوّد أنفسنا صدق الأقوال و الأفعال، و الإعراض عن الأهواء و اللذّات النفسانيّة، و أن نُزَكِّي النفس من رذائل الأخلاق، و نقائص الأعمال، و ترويض البدن على الطاعات و العبادات على حسب ما تأمرنا به السنّة المطهّرة لخاتم الرسل صلوات الله و سلامه عليه و على آله، و أن نتجنّب الإفراط و التفريط، و أن نولّي الوجه عمّا يشغلنا عن الحقّ تعالى، و أن نجعل شعارنا قلّة الكلام و المنام، و الانشغال بالذكر على الدوام، و الاقتصاد بالطعام، و أن لا نحيد قيد أنملة عن أمر الشيخ.
و بتهيئة هذه الأسباب، تضيء مرآة قلب السالك، التي هي البلّورة المسحورة بنور القدس و الطهارة، و تُصَفَّى من أدران الطبيعة.
و أنّه بقطع رابطته بهذا العالم السفليّ الحالك المظلم، تحلّق روحه في العالم العُلويّ، و تعرج فوق السماوات، و فوق العرش، و ترتبط مع الملائكة و الروحانيّات، و تتوهّج الأنوار الإلهيّة في قلبه الطاهر، فيحظى برؤية السرّ، سرّ لقاء الله، الذي هو غاية المقاصد، و نهاية المرام.
شعر:
چون تو ديدى پرتو آن آفتاب | *** | تو نماندى باز شد آبى به آب٢ |
قطره بودى گم شدى در بحر راز | *** | مىنيابى اين زمان آن قطره باز |
گر چه گم گشتن نه كار هر كسى است | *** | در فنا گم گشتگان چون من بسى است۱ |
ينبغي اللجوء إلى السلوك و سبيل العرفان ما دامت الفرصة موجودة
يقول الشيخ: اعلم حيث إنّك الآن تقدر على الفعل، اي اليوم و قد تهيّأت لك أسباب السير و السلوك و العمر الثمين، اعلم بأنّ الإنسان يمكنه أن يستحصل هذه الكمالات، بل إنّه مخلوق لهذه الغاية.
إذاً، هيّئ هذه الأسباب التي يتوقّف عليها حصول الكمالات، و تحرّك نحو الهدف الذي من أجله خلق الكون، فعند ما يدبّ الوهن في البدن بعد القوّة، هذه القوّة التي هي وسيلة نيل هذا المطلوب، فستتقاعس عن السلوك و التريّض، و تضيع منك هذه الفرصة، و عندها، فانّ علمك بيُسر تحصيل هذه الكمالات التي لم تكتسب منها شيئاً لن يعود عليك إلّا بالحسرة و الندامة. شعر:
بود در اوّل همه بى حاصلى | *** | كودكى و بى دلى و غافلى |
باز در اوسط همه بيگانگى | *** | وز جوانى شعبهي ديوانگى٢ |
باز در آخر كه پيرى بود كار | *** | تن خرف درمانده و جان گشته زار |
چون ز اوّل تا به آخر غافليست | *** | حاصل ما لاجرم بى حاصلى است۱ |
و يمكن لهذه المقولة «إذا كنت لا تقدر فما فائدة أن تعلم» أن تحمل هذا المعنى، و هو أن الروح الإنسانيّة لمّا تفارق البدن، فلا تعد هناك وسيلة لتحصيل الكمال، و تتيقّن أن ما كان مطلوباً منها، لم يحصل، و راح يستغرق في التمنّي: {فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}،٢ عندها لا تنفع هذه المعرفة، بل تزيد من ندمه، و هو عذاب مضاعف.
و بما أن منشأ هذه المشاهدات و المكاشفات التي مرّ ذكرها، هي القلب الإنسانيّ، يقول في هذا الشأن:
چه مىگويم حديث عالم دل | *** | ترا اى سر نشيب و پاى در گل٣ |
ما الذي أقوله لك عن حديث عالَم القلب، و هو العروج إلى العوالم اللطيفة، و مشاهدة الأنوار و التجلّيات الإلهيّة، و أنت تنزل إلى قعر الهاوية، من أعالى مراتب الكمالات القلبيّة و الروحيّة، إلى أسفل السافلين، و قد غاصت قدما السير و السلوك في وحْل اللذّات الجسمانيّة، و الشهوات
النفسانيّة، و أضحى الهارب مطلوباً، و المطلوب هارباً، و تحمّل النفس عناء الركض وراء المال و الجاه، و تبقى محروماً عن إدراك الكمالات المعنويّة، التي هي اللذّة الحقيقيّة الباقية. شعر:
اهل دل شو يا كه بنده اهل دل | *** | ورنه همچون خر فرومانى به گل |
هر كه را دل نيست او بى بهره است | *** | در جهان از بينوائى شهره است |
رو به اسفل دارد او چون گاو و خر | *** | نيستش كارى به جز از خواب و خور |
حقّ همى گويد كه ايشان في المثل | *** | همچو گاوند و چو خر بل هُم أضَلّ۱ |
مَن لا يبحث عن نفسه هو أكثر الخلائق خسراناً
و لأنّ الهدف من إيجاد العالم، هو المعرفة، و لا يقدر على تحصيل المعرفة الحقيقيّة إلّا الإنسان الكامل، فإنّ العالم مخلوق للإنسان. و لهذا قال الشاعر:
جهان آنِ تو و تو مانده عاجز | *** | ز تو محرومتر كس ديد هرگز؟٢ |
فالعالم هو لك، و من أجلك وجد، و الوجود كلّه أداة طيّعة في يدك، و أنت بدورك خلقت من أجل المعرفة، ففي الحديث القدسيّ يَا بْنَ آدَمَ! خَلَقْتُ الأشْيَاءَ كُلَّهَا لأجْلِكَ وَ خَلَقْتُكَ لأجْلِي۱. أمّا أنت فغارق في ملذّات
گر گشائى ديدة دل، حسن او بينى همه | *** | ور ببندى ديدة بدبين، نكو بينى همه |
...۱
آفتابى را كه اندر روزن دل تافته است | *** | با همه ذرّات عالم روبرو بينى همه |
ناظر حقّ باش در مرآت ذرّات وجود | *** | تا در اين آئينهها ديدار او بينى همه |
عكس روى است آنكه مىتابد ز آئينه نه روى | *** | آينه بردار تا خود جمله رو بينى همه |
يك سر مو گر شود از عالم وحدت پديد | *** | هر دو عالم كمتر از يك تار مو بينى همه |
از گلستان معانى يك گلت نآمد بدست | *** | بس كه در گلزار صورت رنگ و بو بينى همه |
بادة وحدت به هر ظرفى نمىگنجد معين | *** | نيست اين زان مى كه در خمّ و سبو بينى همه» |
الطبيعة، مشغول عن تحصيل المعرفة التي من أجلها خُلقت، مُتّبع هوى النفس الأمّارة بالسوء، أ فلا تستطيع أن تترك اللذّات الفانية أيّاماً قلائل و تغنم الكمالات الأزليّة من فيض المعرفة الإلهيّة، و تنجو بنفسك من الحرمان الأبديّ؟
فبسبب دناءة الهمّة، و عدم الانقياد، جعلت من نفسك الأكثر شقاءً، و الأتعس حظّاً من بين كلّ الموجودات. أن بقيّة المخلوقات، لا يسمون لأعلى ممّا خلقوا لأجله، فهم لا يرون كمالًا غير الذي هم فيه، و بسبب عدم الأهليّة، فليس عليهم بلوغ الكمال كما هو مطلوب من الإنسان، أمّا أنت، فتعرف كلّ هذا، و لأجل هذا كانت خلقتك، فلا تكن عبداً للذات البهيميّة، و الشهوات النفسانيّة، و تتخلّف عن مقصود العالمين.
شعر:
اين چه نادانى است يك دم با خود اي | *** | سود مىخواهى از اين سودا برآى۱ |
«ما هذا الجهل اصحَ و تدبّر | *** | أ تُريد منفعة؟ خذ من ذا و أدبِرْ» |
گنج عالم دارى و كَدّ مىكنى | *** | خود كه كرد آنچه تو با خود مىكنى؟ |
پادشاهى، از چه مىگردى گدا؟ | *** | گنجها دارى، چرائى بينوا؟۱ |
و لأنّه لا راحة من اللذّات الشهوانيّة، و الأطماع النفسانيّة، يقول:
چو محبوسان به يك منزل نشسته | *** | بدست عجز، پاى خويش بسته٢ |
فهو كالسجين المكبّل الرِّجلَينِ، جالس، لا يقوى على الخروج، و قد حُصِر في منزل التقليد و الطبيعة و الأهواء النفسانيّة لا يتجاوزه، و قد قيّد بِيَدِ العجز قَدَمي السير و السلوك عنده، و لا مهرب له للخلاص من هذه القيود، من شدّة الكآبة، و بسبب برودة التقليد و هوى النفس التي تركت أثرها فيه، و أصبح كالميّت، لا يمتلك حرارة الشوق و لا ذوق العشق. شعر:
زنده شو اين مردگى از خود ببر | *** | گرم شو افسردگى از خود ببر |
آتشى از عشق او در دل فروز | *** | خرمن تقليد را يكسر بسوز٣ |
طريق معرفة الله يتمثل فى تخطّي عبادة النفس
و لأنّ برودة الطبع و الهوى غالبة على أمزجة النساء، فهو يقول:
«تملك الدنيا و تُجهد نفسك | *** | من ذا قد فعل الذي عليه تصرْ |
أنت سلطان، لما ذا تكتدى؟ | *** | تملك الكنز، علامَ تسهرْ؟» |
نشستى چون زنان در كوى إدبار | *** | نمىدارى ز جهل خويشتن عار۱ |
فكنت كالنساء، أدرت ظهرك للمعرفة، و اتجهت لمقتضيات الطبيعة و هوي النفس، و سلكتَ سبيل الشقاء و الإدبار، و اغتررت بمباهج الدنيا و ظاهرها البرّاق، و لم ترفع قَدَماً في طريق نيل الكمال المعنويّ، و لم تخجل من جهلك. شعر:
تا به كى همچون زنان اين راه و رسم و رنگ و بو؟ | *** | راه مردان گير و با صاحبدلان دمساز شو |
چون زغن تا چند باشى بستهي مردار تن | *** | در هواى سير جان يك لحظه در پرواز شو٢ |
و حيث أن حصول الكمالات، مقرون بمخالفة النفس و هواها، يقول:
دليران جهان آغشته در خون | *** | تو سر پوشيده ننهى پاى بيرون٣ |
أي أن طالبي قرب المولي عزّ و جلّ، و هم سالكو الدرب بما يملكون من شجاعة خارقة، في صراع دائم مع النفس الأمّارة بالسوء، حيث يقول الحديث الشريف: أعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ التي بَيْنَ جَنْبَيْكَ،٤
«حَتَّامَ كالنسوة تبغي السُّبلا | *** | خُذ سبيلًا للرجال الكُمّلا |
كالحَدَأة لا تبرح المُستَنقَعا | *** | طِرْ لحظة و اطلب لنفسكَ النفعا» |
التي هي عدوّة الدين، فهم لا يكفّون عن محاربتها باستمرار، يقول الحديث القدسيّ: أوْحَى اللهُ تعالى إلى موسى عليه السلام: أن أرَدْتَ رِضَائِي فَخَالِفْ نَفْسَكَ؛ إنِّي لَمْ أخْلُقْ خَلْقاً يُنَازِعُنِي غَيْرَهَا، هؤلاء هم راسخو الأقدام، انبروا إلى مخالفتها و مجادلتها، و لم يركنوا إلى مكرها لحظة واحدة، فقلوبهم كلمى من غضبها و قهرها، أمّا أنت، فقد وضعت حجاب التقليد على وجهك، و أقمت في دار الطبع و الهوى كالحريم، و لم تتقدّم في طريق الطلب، و لم تنج بنفسك من مستنقع الطبيعة هذا. شعر:
نفس دون را زير دستى تا به كى؟ | *** | شو مسلمان، بتپرستى تا به كى؟ |
همچو يوسف خوش برآ از قعر چاه | *** | تا شوى در مصر عزّت پادشاه۱ |
مقولة «عليكم بدين العجائز» تعني الأمر بالانقياد المحض لا النهي
و لأنّ التقليد في طريق معرفة الله، الذي هو أساس جميع العقائد الدينيّة، غير مستحسن، فهو يقول:
چه كردى فهم از اين دين العجايز | *** | كه بر خود جهل مىدارى تو جايز؟٢ |
«ما الذي استوعبتَ من دين العجائز | *** | فقبلتَ الجهل حكماً ما بجائز؟» |
و يشير إلى الحديث الشريف: وَ عَلَيْكُمْ بِدِينِ العَجَائِزِ،۱ اي ما ذا
استنبطت من هذا الحديث حتى تبيح لنفسك الجهل، و لا تسعى و تجتهد و تكدح في طريق المعرفة الإلهيّة؟ إلّا اللهمّ، إذا اعتقدت بأنّ التفكّر في معرفة الله ممنوعة، و أن هدف النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله من هذا الحديث هو كما أن لا قدرة للعجائز على التفكّر و الاستدلال، فكونوا أنتم أيضاً كذلك. اي أن لا تسعوا في طلب المعرفة اليقينيّة، و اكتفوا بمجرّد التقليد، و بهذا الاستنباط العقيم، قد سرى الخذلان و الجهل إلى نفسك، و لم تسع في طريق الطلب؟
و اعلم، أن حقيقة مضمون هذا الحديث الشريف، هو أنّه يجب علينا و في جميع الأحكام الشرعيّة، بدءاً من الأوامر، حتى النواهي التي تشكّل هيكل الدين، أن نتقيّد بتنفيذها، كما تفعل العجائز، و أن لا نشرك العقل أو هوى النفس فيها. و أن لا نفسّر الامور على خلاف ظاهرها، إلّا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، لأنّ تأويل الأحكام الشرعيّة ليس مرجعها العقل وحده، و ليس معنى ذلك ترك التفكّر في معرفة الله، و الكفّ عن الطلب، و القبوع في بيت التقليد المحض مثلما تفعل العجائز. شعر:
آن دلى كو هست خالى از طلب | *** | دائماً بادا پر از رنج و تعب |
آن سرى كو را هواى دوست نيست | *** | زو مجو مغزى كه او جز پوست نيست |
جان كه جويايت نباشد كو به كو | *** | مرده بى جان بود جانش مگو |
جان ندارد هر كه جوياى تو نيست | *** | دل ندارد هر كه شيداى تو نيست۱ |
فالمراد من الحديث، هو ليس الاقتصار على التقليد، و يقول هنا:
زنان چون ناقصات عقل و دينند | *** | چرا مردان ره ايشان گزينند؟٢ |
ففي الحديث الشريف للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: هُنَّ نَاقِصَاتُ العَقْلِ وَ الدِّينِ٣.
كما أن المقصود بـ عَلَيْكُمْ بِدِينِ العَجَائِزِ، ليس أن تكونوا في الدين
تابعي العجائز، بسبب أنّهن ناقصات دين، كما أخبر الرسول صلى الله عليه و آله عنهنّ، فلهذا يكون المراد منه، الانقياد للأوامر، و ترك النواهي، و عدم التأويل على حسب الأهواء النفسانيّة، تماماً كما تفعل العجائز.
و كلّ ما لا يدركه عقلك، دع حقيقة تأويله، و اعترف بقصورك، فإنّ كمال النبوّة أعلى من أن يبلغ أيّ فرد حقائق أحكامها الشامخة. شعر:
چشم تو ادراك غيب آموخته | *** | چشمهاى ديگران بر دوخته |
آن يكى ماهى همى بيند عيان | *** | و آن يكى تاريك مىبيند جهان |
سالها گر ظنّ دوَد با پاى خويش | *** | نگذرد ز اشكاف بينىهاى خويش۱ |
ما دام السالك لم يتخطّ كلّ شيء، فإنّه لن يصل إلى مراده
كما ذُكر آنفاً، فإنّ النساء ناقصات دين، و من غير المناسب، تقليد الرجال لطريقتهن، و لا أن يضربوا حولهم حجاب التقليد، و هو الآن يقول:
اگر مردى برون آى و نظر كن | *** | هر آنچ آيد به پيشت زان گذر كن٢ |
أي إذا كنت رجلًا، فاعلم أن التواري وراء جدار التقليد و الطبع هو من صفات النساء و طباعهنّ، و ليس من طباعك، فتهيّأ للسفر إلى عالم
المعنى و القرب من المولى جلّ و علا، و أخرج نفسك من حالة التقليد و الطبع و هوى النفس التي تولّد السكون و الياس، و تقدّم في طريق طلب منازل الدنيا و العقبى، و اطلب من الحقّ تعالى أن يشغلك، و تخلّ عن كلّ شيء، و لا تتوقّف عند مرتبة أو منزلة من المنازل، حيث يقول متجرّد و النهج، و عشّاق الحقيقة: أن همّة السالك، في طريق الطلب، من العلوّ بحيث إذا عُرضت عليه كلّ المقامات و المراتب، نظر إليها بازدراء، و وجّه جلّ اهتمامه إلى المطلوب الحقيقيّ. شعر:
زانكه گر جائى نظر خواهى فكند | *** | در كنار خويش سر خواهى فكند |
چيست زو بهتر، بگو اى هيچ كس | *** | تا بر او دلشاد باشى يك نفس؟ |
من نه شاهى خواهم و نه خسروى | *** | آنچه مىخواهم من از تو هم توئى |
مرگ جان بادا دل درويش را | *** | گر گزيند بر تو هرگز خويش را۱ |
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}.۱
لأنّ الانشغال بالأسباب، و الالتفات لغير المطلوب، يورث البعد و الحرمان، يقول هنا:
مياسا يك زمان اندر مراحل
مشو موقوف همراه رواحل٢ فالشوق و العشق للسالك الطالب و الصادق، يجب أن يكون من السمو بحيث لا يتوقّف العبد عند أيّة منزلة من المنازل في مسيره الذي يقطعه إلى الحقّ تعالى، و أن لا يريح النفس عند أيّة منزلة من هذه المنازل، و لا يتوقّف مع من توقّف من القوافل، إلّا مع مربّيه، و هو الشيخ الكامل، الذي لا يتيسّر بدونه سلوك الطريق، و أن يهيم و يحنّ للقاء المحبوب، فلا قرار له و لا راحة، و لا في قافلة يرغب و لا رفيق، و لا عن وداع يبحث و لا دليل. شعر:
پا برهنه مىروم در خار و سنگ | *** | زانكه من حيرانم و بى خويش و دنگ |
تو مبين اين گامها را بر زمين | *** | زانكه بر دل مىرود عاشق يقين |
يك دمِ هجران برِ عاشق چو سال | *** | وصلِ سالى متّصل، پيشش خيال٣ |
و كطالب الحقّ الذي يمضي على خُطى النبيّ، يقول:
خليلآسا برو حقّ را طلب كن | *** | شبى را روز و روزى را به شب كن۱ |
فكن كإبراهيم الخليل عليه السلام، الذي حرّر نفسه من {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا}،٢ و في سبيل طلب الحقّ و ذكره صل الليل بالنهار، و النهار بالليل. اي لا تغفل، و لا ترقد جفونك عن طلب الحقّ لحظة واحدة. شعر:
مرد بايد كز طلب وز انتظار | *** | هر زمان صد جان كند بر وى نثار |
نى زمانى از طلب ساكن شود | *** | نى دمى آسودنش ممكن شود |
گر فرواستد زمانى از طلب | *** | مرتدى باشد در اين ره بى ادب٣ |
فإنّ حجاب النور كحجاب الظلمة، مانع من الوصول، فيقول:
ستاره با مه و خورشيد اكبر | *** | بود حسّ و خيال و عقل انور٤ |
لأنّ الترغيب و التشويق، جعل الطالب السالك صادقاً، يقول، يجب أن نخطو خطوات أكبر من التقليد، و نمضي إلى مصاحبة الأنبياء عليهم السلام، في سلوك الطريق إلى الله، لينال كلٌّ حظّه- و حسب استعداده الفطريّ- من مكاشفات الأنبياء، و ذلك بحسن المصاحبة.
و بفضل العناية الإلهيّة التي تحيط بالأنبياء عليهم السلام، و الأنفاس
القدسيّة التي يحوون، فقد جُعِل ظاهرهم عين باطنهم، ففي حين يبذل الأولياء أقصى سعيهم و اجتهادهم، ليروا فيض الولاية بعين البصيرة، يرى الأنبياء هذا الفيض جليّاً و بامّ أعينهم، و بيان حالاتهم و مكاشفتهم هو فوق فهمنا و إدراكنا. و في بيان مقامات و مكاشفات و تجلّيات السالكين و المكاشفين، و هم أولياء الله، في متابعتهم الأنبياء عليهم السلام، التي تحصل عن طريق الرياضة و السلوك، فإنّه يورد مقدمة، لتيسير فهم المعاني التي يشير إليها الشيخ في هذه الأبيات حول طريقة كلّ نبيّ، و يقول:
شرائط و آداب سلوك الطريق إلى الله تعالى
اعلم، أن الولاية الخاصّة هي كمال القرب إلى الحقّ تعالى، لدرجة أن تمّحي الثنائيّة بينهما، و يذوب الوليّ في الحقّ تعالى بعد فناء ال- «أنا» فيه، و هذا لا يتمّ بغير التصفية، و ذلك عن طريق ترويض النفس على المجاهدات، و التجرّد من العلائق و الكدورات البشريّة و العوائق الجسمانيّة، و التوجّه نحو الحقّ تعالى، و التزام الخلوة، و المواظبة على الذِّكر و الطاعة و العزيمة و الانقطاع و التبتّل عن الخلق.
و الأنبياء عليهم السلام بحكم قدسيّتهم و نزاهتهم، و فائق العناية الإلهيّة التي تحيط بهم، فإنّهم في مسألة الإرشاد، لا يحتاجون أحداً غير الحقّ تعالى، إن استثنينا توسّط الملائكة في بعض الأحيان. و أمّا اتّفاق أصحاب الطريقة، فهو أن باقي أصناف الأولياء، عدا المجذوبين منهم لا يمكنهم الوصول للهدف الحقيقيّ، و هو مقام الولاية، بدون إرشاد صاحب الكمال الذي يتولّى إرشادهم. شعر:
پير، ما لا بدّ به راه آمد ترا | *** | در همه كارى پناه آمد ترا۱ |
اى خنك آن مرده كز خود رسته شد | *** | در وجود زندهاى پيوسته شد |
هر كه شد در ظلّ صاحب دولتي | *** | نَبوَدش در راه، هرگز حاجتي۱ |
الإنسان هو عصارة جميع المراتب، فإذا عمل بطريقة التصفية كما ينبغي و نوّر قلبه- الذي هو بالحقيقة البرزخ الجامع للوجوب و الإمكان- بالذِّكر و التوجّه الكلّيّ للمبدأ، و رفع الموانع عن الطريق إلى نور القدس، فإنّه سيحصل على الصفاء التامّ، و ينعكس كلّ موجود فيه، و تنكشف صور كلّ الأشياء، من مادّيّات و مجرّدات، في قلبه، و بهذا الصفاء و الانسجام الذي ابتدع مع عالم المعاني، تتجسّم المجرّدات له، و هي التي ليس لها صور حسّيّة في العالم الجسمانيّ، و تتشكّل بأشكال محسوسة، على حسب النسبة الموجودة بينها و بين تلك الصورة، فعلي سبيل المثال، كان جبرئيل عليه السلام يظهر بصورة دحيّة، و غير ذلك من الصور، للرسول الأمين صلى الله عليه و آله و سلّم و حتى البارئ جلّ و علا، أحياناً، يظهر له في عالم المثال، متلبّساً بلباس المظاهر الحسّيّة، و هو ما يطلق عليه اصطلاحاً، التأنيس، و هو عبارة عن تجلّي الحقّ تعالى على صورة المظاهر الحسّيّة، لغرض تأنيس المريد المؤيّد، بالتزكية و التصفية، و هو بداية تجلّيات القلوب.
أنواع التجلّيات: آثاريّة، أفعاليّة، صفاتيّة، و ذاتيّة
و الآن اعلم، أن التجلّي، و هو ظهور الحقّ تعالى في بصيرة قلب السالك الطاهر، بشكل عامّ على أربعة أنواع و هي: الآثاريّ، الأفعاليّ، الصفاتيّ، و الذاتيّ.
التجلّي الآثاريّ: و هو أن يرى الحقّ تعالى على صورة الجسمانيّات، الذي هو عالم الشهادة، من البسائط العلويّة و السفليّة، و المركّبات، على أيّة صورة كانت، و حين الرؤية، يتيقّن بأنّه الحقّ، و التجلّي الآثاريّ، و التجلّي الآثاريّ الصوريّ (أي المشاهدة على صورة إنسان)، هما أتمّ و أعلى من باقي التجلّيات.
التجلّي الأفعاليّ: هو أن يتجلى الحقّ تعالى على صفة من الصفات الفعليّة، و هي الصفات الربوبيّة. و تجلّيات الأفعال، غالباً ما تتمثّل بالأنوار المتلوّنة، اي أن الحقّ تعالى يُرى على هيئة نورٍ أخضر، أو أزرق، أو أحمر، أو أصفر، أو أبيض.
التجلّي الصفاتيّ: و هو تجلّي الحقّ تعالى على هيئة الصفات السبع الذاتيّة و هي الحياة و العلم و القدرة و الإرادة و السمع و البصر و الكلام، و أحياناً، في هذا النوع، يكون التجلّي على هيئة نور أسود، اي يتمثّل الحقّ تعالى بصورة نور أسود.
التجلّي الذاتيّ: و ذلك بأن يفنى السالك فناءً مطلقاً، و لا يعد للعلم أو الشعور أو الإدراك وجود قطعاً. و التجلّيات المذكورة تتفاوت بحسب صفاء و أوقات المتجلّى عليه.
فإذا رأى الحقّ تعالى مظهراً له، فهو التجلّي الكامل، و أمّا إذا أصبح هو انعكاساً للحقّ تعالى، اي يرى الحقّ في نفسه، فهذا أتمّ و أكمل، لأنّ التحقيق يثبت هذا. و في جميع مراتب التجلّيات المذكورة للحقّ تعالى، فإنّ رؤية الحقّ جلّ و علا أو تجسّد الحقّ فيه، هو طريق التصفية الحقيقيّ.
و سماع موسى عليه السلام لنداء {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}،۱ و كذلك الحديثان الشريفان رَأيْتُ رَبِّي في أحْسَنِ صُورَةٍ،٢ و مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأى الحَقَ٣ شواهد قاطعة على جواز حدوث التجلّيات.
بقاء السالك ببقاء الحقّ، بعد فنائه في التجلّي الذاتيّ
و حالة البقاء بالله تكون على حسب الكاملين الواصلين، و ذلك بعد فناء السالك في التجلّي الذاتيّ، يخلد ببقاء الحقّ و خلوده، حيث يرى نفسه مطلقاً، بلا تعيّن جسمانيّ أو روحانيّ، و قد أحاط علمه بكلّ ذرّة من الكائنات، و اتّصف بكلّ الصفات الإلهيّة، و إنّه القائم المدبّر لهذا العالم، و لا يرى شيئاً غير نفسه، و هذا هو المقصود من كمال التوحيد العيانيّ.
آن كه سُبحانى همى گفت آن زمان | *** | اين معانى گشته بود او را عيان |
هم ازين رو گفت آن بحر صفا | *** | نيست اندر جُبّهام الّا خدا |
آن أنا الحقّ گفت اين معنى نمود | *** | گر به صورت پيش تو دعوى نمود٤ |
ليسَ في الدّارَين آن كو گفته است | *** | دُرّ اين معنى چه نيكو سفته است |
چون نماند از توئى با تو اثر | *** | بى گمان يابى از اين معنى خبر۱ |
و ما كتبه سلطانا العالم، و الواصلان الموقنان، الشيخ أبو محمّد روزبهان، و الشيخ شمس الدين محمّد الديلميّ قدّس سرّهما عن الوقائع التي عاشاها حكايات عن هذه المراتب التي مرّ ذكرها.
و كذلك في مراحل التصفية، يعرج السالكون معراجاً روحانيّاً بالبدن المثاليّ أو بدونه، حيث يري السالك في كلّ سماء و على حسب الحالة، أرواح الأنبياء و الأولياء و الملائكة، و يحلّق في السماء، إلى العرش و إلى ما
فوق العرش، و كيفيّة و كمّيّة مكشوفات الأولياء كما ينبغي، هي فوق البيان، و بعيدة عن إدراك العقول و إحاطتها.
فَثَمَّ وَرَاءُ العَقْلِ عِلْمٌ يَدِقُ عَنْ | *** | مَدَارِكِ غَايَاتِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ۱ |
عقل اينجا ساكت آمد يا مضلّ | *** | زانكه دل با اوست با خود نيست دل٢ |
بعد تمهيد المقدّمة نشرع في شرح البيت، و نقول: «ستاره با مه و خورشيد اكبر» اي لأنّ السالك المسافر، انطلق نحو الله، فيجب أن يرجِّح ذلك على جميع مراتب التنزّلات لكي يصل إلى المرحلة المطلقة، و ليصل النقطة الأخيرة من الدائرة بالاولى. و بما أن رحلته إلى عالم المثال المتجسّد بالملكوت و الربوبيّة، فهناك يشاهد القوى الروحانيّة المتمثّلة بصور المثل و على حسب صفاء السالك. و حيث قال عن إبراهيم الخليل عليه السلام: «خليلآسا برو حقّ را طلب كن»٣ تعبيراً عما جاء في الآية الكريمة:
{وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ
وَ لَا تَكُ مِمَّن طَيَّشَتْهُ دُرُوسُهُ | *** | بِحَيثُ اسْتَقَلَّتْ عَقْلَهُ وَ اسْتَقَرَّتِ |
الْمُوقِنِينَ ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً}- إلى آخر الآية.۱
يقول الشيخ: إذا شوهِدَتْ شمس أكبر من النجم و القمر و الشمس الكبيرة، فاعلم أن هذه الكواكب هي الصورة المتمثّلة للحسّ المشترك، و هو القوّة الاولى من القوى الباطنة، و القمر الذي هو قوّة الخيال، و هي القوّة الثانية من القوى الباطنة، و استفاضة النور من العقل هي بمثابة القمر نسبة إلى الشمس، فالشمس هي الصورة المتمثّلة بالعقل، و النسبة بينهما واضحة. فالقوّة العاقلة هي سبب تنوّر ظلمة الجهل في الوجود الإنسانيّ بنور العلم.
على السالك أن يعبر التجلّيات الحسّيّة و الخياليّة و العقليّة
و للسالك عند مشاهدته هذه الصور المثاليّة حالتان: الاولى، هي أنّه أثناء المشاهدة، يدرك أنّها الشمس و القمر و النجم، و هي تحتاج إلى تفسير، اي أن رسمها السابق يتمثّل في خياله، فيدرك المعنى الذي يتمثّل في هذه الصورة.
و الحالة الثانية، هي أنّه حين المشاهدة يدرك بأنّ هذا النجم أو الشمس أو القمر هو الحقّ تعالى، و هو في هذه الحالة يكون واقعاً تحت تأثير التجلّيات الآثاريّة.
و لمّا كانت الآيات الكريمة تشير إلى المعنى الأوّل فقد عبّر عنه بالبيت التالى:
بگردان زان همه اي راهرو | *** | روي هميشه لا احبُّ الآفلين گوى٢ |
و معنى ذلك أنّه يجب غضّ النظر عن كلّ ما نراه من مراتب الحجاب
النورانيّ و ذلك في السير إلى الله، كما غضضنا النظر عن الحجب المظلمة. و لمتابعة سيّدنا إبراهيم عليه السلام، يجب أن لا نلتفت إلى صور الحواسّ و العقل، و أن نتوجّه إلى الواحد المطلق، و لا يجب علينا التقيّد بأيّة مرتبة من مراتب التعيّنات، لأنّ كلّ ما هو قيد التعيّن هو وجه من وجوه الكفر الذي يواجهه السالك في طريقه، و يجب الإعراض عن كلّ شيء، و ذلك طبقا للآية {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، لأنّ صورة الظواهر للأسماء الإلهيّة تؤول للُافول و الانقراض، و إذا لم تخرج عن نطاق المحسوس و المعقول كما في حالة إبراهيم عليه السلام، فلا يمكن الحصول على مشاهدة نور الأنوار، و التي انمحت فيها كلّ الأنوار المحسوسة و المعقولة و ذابت، و لن تخرج عن شرك الأغيار و تتخلّص منه ما لم تصل إلى مرتبة الإطلاق و الوحدة الحقيقيّة. و لن تحصل المعرفة التامّة و المطلوبة و ستبقى محجوبة عن الحقّ. شعر:
بتپرستى چون بمانى در صور | *** | بگذر از صورت برو معنى نگر |
هر كه او در ره به چيزى ماند باز | *** | شد بتش آن چيز، گو با بت بساز۱ |
و لأنّ مشاهدة الذات المطلقة في مراتب تجلّيات الأسماء و الصفات، هي أسهل، فقد قال:
و يا چون موسى عمران در اين راه | *** | برو تا بشنوى إنّي أنا الله۱ |
و معنى ذلك أن عليك السير و السلوك في طريق الله كما فعل إبراهيم الخليل عليه السلام، و عليك اجتياز المظاهر و التوجّه إلى عالم الإطلاق، أو كما قالت الحكمة: الطُّرُقُ إلى اللهِ بِعَدَدِ أنْفَاسِ الخَلائِقِ،٢ و سِرْ كما سار موسى بن عمران عليه السلام في طريق الحقّ حتى ترى و تُشاهد تجلّي الحقّ في الصور الحيّة إذ {نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.٣
و بناءً على المقدّمة التي ذكرت لبيان التجلّي، تبيّن أن هذا التجلّي الذي تأثّر به موسى عليه السلام هو من نوع التجلّيات الآثاريّة. شعر:
بشنود إنّي أنا الله چون كليم از هر درخت | *** | هر كه او بر طور دل از بهر ميقات آمدست |
آيت حسن تو خواند جان ما از هر ورق | *** | حال عارف برتر از كشف و كرامات آمدست٤ |
التجلّي الذاتيّ للحقّ محال ما دام وجود السالك باقياً
و لأنّ مشاهدة الذات المطلقة محال، على الرغم من وجود الوجود المجازيّ، و تعيّن السالك، فقد قال:
ترا تا كوه هستى پيش باقى است | *** | جواب لفظ ارنى، لَنْ تَراني است۱ |
فلأنّ الوجود الوهميّ للسالك هو الحجاب الوحيد الموجود بين الحقّ و السالك، فهو تعالى يقول: ما دام جبل وجودك باقياً و كنت ناظراً إلى نفسك، فإنّ الحقّ تعالى محتجب بستار الأسماء و الصفات، و مع وجود هذه الحجب النورانيّة، فلا يمكن رؤيته حقيقةً. و طبيعيّ أن الرائيّ و المرئيّ ملحوظان في الرؤية، و لا وجود للغير أصلًا في الانكشاف الذاتيّ، إذ وَ لَا يَرَى اللهَ إلَّا اللهُ.
و لأنّ موسى عليه السلام رأى جلالة الحقّ في ملابس الأسماء و الصفات، فلا جرم أنّه دُعِي بالكليم، و لا ريب في وجود الغيريّة في المكالمة و كان شوق موسى عليه السلام أكبر من أن يقنع بالتجلّيات الأسمائيّة، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}،٢ اي أنا محتجب عنك بحجاب (الأنا) ما دامت (الأنا) عندك باقية.
گفتم به هواى مهر رويت | *** | شد جان و دلم چو ذرّه شيدا |
بردار ز رخ نقاب عزّت | *** | بى پرده به ما جمال بنما٣ |
گفتند اگر تو مرد عشقي | *** | بشنو سخن درست از ما |
هستى تو پرده رخ ماست | *** | از پرده خود به كلّ برون آى |
از هستى خود چو نيست گشتى | *** | از جمله حجابها گذشتى۱ |
و قد ورد في بعض النسخ، «صَداى لفظ أرني، لن تراني است» و قد ذُكرت كلمة «صدا» (= الصوت) لتناسب كلمة «كوه» (= الجبل)، فيكون المعنى، هو لأنّ الصوت هو صدى نداء صاحب الصوت، و اقترن صوت كلمة «أرِنِي» في الرؤية بوجود موسى عليه السلام، فوقع الصدى دون الرؤية، و هو {لَنْ تَرانِي}.
وَ جانِبْ جَنابَ الوَصْلِ هَيْهاتَ لَمْ يَكُنْ | *** | وَ هَا أنْتَ حَيّ، أن تَكُنْ صَادِقاً مُتِ |
هُوَ الحُبُّ أن لَمْ تَقْضِ لَمْ تَقْضِ مَأرَباً | *** | مِنَ الحُبِّ فَاخْتَرْ ذَاكَ أوْ خَلِّ خُلَّتي٢ |
إذا زال جبل وجودك، فليس بينك و بين الحقّ من فاصلة
و ذلك لأنّ حجابك من الحقّ هو وجودك هذا، و إلّا فبحكم {وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}،٣ فإنّ الحقّ أقرب إليك منك، فقد قال الشاعر:
حقيقت كهربا، ذات تو كاه است | *** | اگر كوه توئى نبود چه راه است؟٤ |
أي أن الحقيقة، و هي عين المراد، مثل المغناطيس، و ذاتك و وجودك هو المجذوب، و الجذب يكون من قبل الحقّ تعالى، أمّا انجذابك إليه فهو أمر في غاية البساطة، و لكن تعيّنك هو المانع و السدّ في طريق وصولك إلى المطلق، و إذا لم يكن للـ (الأنا) وجود، فلا حواجز في الطريق إلى الله.
شعر:
قرب، نى بالا و پستى رفتن است | *** | قرب حقّ از هستى خود رستن است |
خويش را بگذار و بى خود شو درآ | *** | اندرون بزم وصل جانفزا |
نيستى از خويش عين وصل اوست | *** | بگذر از هستى، دلت گر وصل جوست۱ |
و لأنّ اندراس و اندثار وجود السالك عياناً و شهوداً، لا يتيسّر إلّا بالتجلّي الإلهيّ، فهو يقول:
تجلّى گر رسد بر كوه هستي | *** | شود چون خاك ره، هستى ز پستى٢ |
أي إذا أشرقتْ شمس التجلّي بنورها على جبل وجود السالك، أضحت ظلمة وجوده بحقارة التراب و صارت المحو المطلق، لأنّه بتجلّي ذات الحقّ فَناء المظاهر و الكثرات.
(شعر):
هر كه شد جوياى ديدار خدا | *** | چون خدا آمد شود جوينده لا |
گر چه آن وصلت بقا اندر بقاست | *** | ليك اوّل آن بقا اندر فناست |
سايهاى كُه بود جوياى نور | *** | نيست گردد چون كند نورش ظهور |
هالك آمد پيش وجهش هست و نيست | *** | هستى اندر نيستى خود طرفه ايست۱ |
و يشير معنى هذا البيت إلى تتمّة تلك الآية الكريمة التي تقول: {قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً}.
و هذا هو التجلّي الذاتيّ الذي ذكرناه آنفاً في المقدّمة.
و حقيقة الكلام: أن امنية موسى عليه السلام كانت تكمن في مشاهدة الذات الأحديّة، و ذلك في عالم المعنى، و أمّا الجبل الذي بدا لموسى عليه السلام و تجلّي الحقّ تعالى له، فقد كان في الحقيقة وجود موسى عليه السلام الذي تمثّل في هيئة ذلك الجبل، و أمّا رؤية موسى عليه السلام للجبل فكان من نتيجة ذلك، أن خرّ صعقاً بعد أن دكّ الجبل، لأنّ التجلّي الذاتيّ، يقتضي فَناء و انعدام المظاهر.
و على هذا، يجب القول إنّه لم يتيسّر لموسى عليه السلام و الذين معه رؤية ذات الحقّ، فيكون حكم لَن تَرَانِي مطلقاً، و تتيسّر مشاهدة الحقّ عند تنزّل الذات إلى مراتب الأسماء و الصفات، حيث تجلّى لموسى على هيئة شجرة في الوادي الأيمن، و تكلّم معه من وراء ستار الأسماء و الصفات:
{وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ}.۱
تبيّن لنا من هذا الكلام، بأنّ الذين قالوا لا يمكن رؤية الله كانوا مصيبين من جهة، و ذلك باعتبار الذات.
و أمّا الذين قالوا بإمكان رؤيته تعالى فهم مصيبون كذلك، و ذلك باعتبار الأسماء و الصفات.
من چو او را ديده و ناديدهام
در ميان اين و آن شوريدهام٢ {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ}.٣
{فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ
رَبِّهِ أَحَداً}.۱
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ}.٢
السلوك و الرياضات هي من أجل الاستعداد للجذبات الإلهيّة
و اعلم أن السلوك و الرياضة و التصفية، إنّما تكون باستعداد الأفراد للانجذاب الإلهيّ، و ليس لأحد أن يصل إلى الله بعملٍ ما.
و لهذا فقد قال:
گدايى گردد از يك جذبه شاهي | *** | به يك لحظه دهد كوهى به كاهى٣ |
أي أن جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ٤ فيُمسي الدليل
«بجذبة مليك صار المسكين سلطانا | *** | فاستبدل الجبل العظيم تِبْنا» |
اين چنين سيرى است مستثنى ز جنس | *** | كآن فزود از اجتهاد جنّ و انس |
اين چنين جذبي است نى هر جذب عامّ | *** | كه نهادش فضل أحمد و السّلام |
سالكاً، و فقيراً إلى الله، و يصبح بتقيّده و محجوبيّته ببركة هذه الجذبة، سلطان العزّ، و هو الوصول الحقيقيّ الذي يندرج ضمن الفَناء في التجلّي الذاتيّ، فيستبدل القشّة بالجبل في لحظة واحدة، غير آبه لوزن الجبل. و يرتقي مرتبة المحبوب، بعد أن كان محبّاً، دون منازعة الغير، و يسعد برؤية المطلوب الحقيقيّ، بعين فَبِي يُبْصِرُ.
وَ في سَكْرَةٍ مِنْهَا وَ لَوْ عُمْرَ سَاعَةٍ | *** | تَرَي الدَّهْرَ عَبْداً طَائِعاً وَ لَكَ الحُكْمُ۱ |
شعر:
در اين دريا فكن خود را مگر درّى به دست آرى | *** | كزين درياى بى پايان گهر بسيار برخيزد |
و گر موجيت بربايد چه دولت مر ترا زان به | *** | كه عالم پيش حكم تو چه خدمتكار برخيزد٢ |
شَرِبْنَا على ذِكْرِ الحَبِيبِ مُدَامَةً | *** | سَكِرْنَا بِهَا مِنْ قَبْلِ أن يُخْلَقَ الكَرْمُ |
معراج الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ليلة المعراج
و لأنّ الحصول على مراتب الكمالات في العالَمَينِ، و الوصول إلى أعلى مقامات اليقين، لا يتمّ إلّا بالسير على خطى خاتم الأنبياء عليه الصلاة و السلام، فقد قال:
برو اندر پى خواجه به أسري | *** | تفرّج كن همه آيات كبري۱ |
يقول: إذهب و اتبع «الخواجة» و هو سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله- فهو السيّد الحقيقيّ، و الآخرون عبيده و المتبرّكون بذاته الشريفة- يقول: اذهب إلى الإسراء، و الإسراء هو السير في الليل.
و هي إشارة للآية الكريمة التي تتحدّث عن المعراج:
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.٢
و قصّة معراج المصطفى صلى الله عليه