رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم 15885
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسم الاخلاق والحکمة والعرفان


التوضيح

جرى في هذه الرسالة إضافةً إلى شرح حال المرحوم بحر العلوم وصحة انتساب هذه الرسالة له، بيان حقيقة ومقصد السلوك إلى الله سبحانه، كيفيّة السلوك إلى الله وآثاره، وطريقة ذكر العلاّمة بحر العلوم، وذلك بشرح مفصّل من قبل العلاّمة آية الله مُدّ ظلّه.

/۲۸۱
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

1

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

2
  •  

  •  

  • مُقَدَّمَةُ الكِتَابِ بِقَلَمِ السَّيِّدِ مُحَمَّدِالحُسَيْنِ الحسيني الطِّهْرَانِي‌

  •  

  •  

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

3
  •  

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم‌

  • و به نستعين‌

  • و الصلاة و السلام على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين‌

  • و اللعنة على أعدائهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • و بعد، فقد اتّفق في زمن اشتغال الحقير الفقير بالتحصيل في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم، أن وقعت بيدي رسالة خطّيّة تحمل عنوان «تُحفة المُلوك في السير و السلوك، منسوبة إلى مولانا السيّد مهدي بحر العلوم»، و كانت النسخة عائدة إلى المرحوم حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ عبّاس الطهراني. و قد استحوذت تلك النسخة على اهتمامي، فاستعرتُها من المُشار إليه لاستنساخها، فنسختُ منها نسخة لنفسي سنة ۱٣٦٦ ه، بَيدَ أنّها كانت نسخة مغلوطة إلى درجة كبيرة، بحيث تسرّب الإبهام إلى بعض مواضعها، و لذا فقد سعيتُ في الحصول على نسخة صحيحة من الرسالة المذكورة لأقوم بتصحيح النسخة الاولى على أساسها. فلمّا تشرّفت بالذهاب إلى النجف الأشرف للدرس و التحصيل، عثرتُ على نسخة اخرى منها

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

4
  • لدى حجّة الإسلام آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس هاتف القوجانيّ دامت بركاته،۱ فاستعرتها منه، ثمّ اتّضح أنّها كانت لا تقلّ عن سابقتها في الأغلاط، فلم تنفع إلّا في تصحيح موارد معدودة.

  • ثمّ حصل بعد عودتي من النجف الأشرف سنة ۱٣۷٦ ه أن تشرّفت بالمثول في محضر الاستاذ المكرّم العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه العالي، فأخبرني أنّ لديه نسخة من هذه الرسالة على درجة كبيرة من الصحّة استنسخها بيده. ثمّ أضاف: لقد عثرتُ زمن اشتغالي بالتحصيل في تبريز على نسخة من هذه الرسالة فاستنسختها، إلّا أنّها كانت مليئة بالأغلاط. فلمّا تشرّفت بالذهاب إلى النجف الأشرف وجدت نسخة مماثلة لدى أُستاذي المرحوم الحاجّ الميرزا على أقا القاضي رضوان الله عليه، و كانت كنسختي مغلوطة، ثمّ تبيّن أنّ أصل نسخته و نسختي كان واحداً. و كانت نسخة المرحوم القاضي مكتوبة بخطّ ردي‌ء، أشبه بخطّ طفل لم ينقضِ على ذهابه إلى المدرسة زمن طويل، و لذلك فقد كانت مليئة بالأغلاط. ثمّ أنّيّ عثرتُ لدى أُستاذي في علوم‌

    1. تكرّر أمثال هذه التعبيرات في الكتاب، إذ أُلّف سنة ۱٣٩٣ ه، و قد حافظنا على تعبير المصنّف قدّس سرّه كما ورد، لذا اقتضي التنويه. (المترجم)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

5
  • الرياضيّات و الهيئة: المرحوم السيّد أبي القاسم الخونساريّ على نسخة على درجة كبيرة من الصحّة، مكتوبة بخطّ جميل على ورق جيّد، و كانت تضمّ جداول، فأخذتها منه لاستنساخها، فنسخت منها نسخة سنة ۱٣٥٤ ه، و كان تأريخ كتابة تلك النسخة يسبق زمن استنساخي بتسعين سنة انتهى كلام الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه.

  • و هكذا فقد استعار الحقير منه هذه النسخة لاستنساخها، فتفضّل بها بجلال كما هي شيمته دوماً، فاستنسختُ على نسخته و بدقّة هذه النسخة التي بين أيديكم، و التي تعدّ على درجة كبيرة من الصحّة و الاعتبار، هذا من جهة تأريخ النسخة و صحّتها.

  • صحّة نسبة الرسالة للمرحوم بحر العلوم‌

  • أمّا عن انتسابها إلى المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه، فقد سمع الحقير مشافهة من المرحوم آية الله الميرزا السيّد عبد الهادي الشيرازيّ رضوان الله عليه أنّه قال: أظنّ ظنّاً قويّاً أنّ هذه الرسالة عدا فقراتها الأخيرة هي من تأليف و إنشاء بحر العلوم.

  • كما سمعتُ شفاهاً من المرحوم العلّامة الخبير آية الله الشيخ آغا بزرك الطهراني و هو من مشايخ الحقير في الإجازة أنّه قال: عندي أنّ هذه الرسالة عدا أواخرها هي بقلم المرحوم‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

6
  • بحر العلوم.

  • أمّا في كتاب «الذريعة» ج ۱٢، ص ٢۸٥ فقد جاء:

  • «رسالة في السير و السلوك تُنسب إلى سيّدنا بحر العلوم السيّد مهدي بن مرتضى الطباطبائيّ البروجرديّ النجفي، المتوفي ۱٢۱٢، فارسيّة في ألفي بيت، لكنّها مشكوكة فيها، و النسخة موجودة في النجف في بيت بحر العلوم» إلى أن يصل إلى قوله: «و رأيتُ نسخة أخرى فيها زيادات و بسط ألفاظ و عبارات سمّاه في أوّلها «تُحفة الملوك في السير و السلوك» و إنّه لبحر العلوم ... و مرّت رسالة السير و السلوك المعرّب لهذه الرسالة ص ٢۸٢» انتهى.

  • و جاء في ص ٢۸٢:

  • «رسالة في السير و السلوك هو تعريب السير و السلوك الفارسيّ المنسوب إلى سيّدنا بحر العلوم، عرّبه الشيخ أبو المجد محمد الرضا الإصفهانيّ بالتماس السيّد حسين بن معزّ الدين محمّد المهدي القزوينيّ الحلّيّ في داره بالنجف في «البرّانيّ» في عدّة ليال بعد الساعة الخامسة من الليل. و ذكر أبو المجد أنّه ألّفه بحر العلوم بـ «كرمانشاه». ثمّ يقول: «أقول: نسبة نصفه الأخير إليه مشكوكة، لأنّه على مذاق الصوفيّة، فلو أثبت أنّها له فإنّما هو النصف الأوّل فقط كما يأتي في ص ٢۸٤» انتهى. و هذا هو نظر

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

7
  • العلّامة الطهراني.

  • و يقول المرحوم العلّامة السيّد محسن الأمين من علماء جبل عامل في «أعيان الشيعة» ج ٤۸، ص ۱۷۰ (ضمن مؤلّفات بحر العلوم):

  • «رسالة في معرفة الباري تعالى فارسيّة، و في تتمّة «أمل الآمل» أنّها ليست له على التحقيق». ثمّ يقول المرحوم الأمين: «و الظاهر أنّها الرسالة التي في السير و السلوك، و هي مشتملة على أُمور تناسب التصوّف و لا توافق الشرع، فلذلك جزم في تتميم «أمل الآمل» بعدم صحّة نسبتها إليه».

  • ثمّ يقول: «و ممّا يوجد فيها أنّه عند قول «إيّاك نعبد و إيّاك نستعين» يلزم أن يستحضر صورة المرشد، و أنّ فيه الاستعانة بروحانيّة عطارد، و أنّه استشهد (في هذا الخصوص) بهذه الأبيات» إلى هنا ينتهي كلام المرحوم صاحب «أعيان الشيعة». بَيدَ أنّه أخطأ في هذا الأمر، و ذلك أوّلًا: لأنّه لم يرد في أيّ موضع من الرسالة استحضار وجه المرشد عند قراءة {إيّاك نعبدُ و إيّاك نستعين}.

  • و ثانياً أنّ الاستعانة بروحانيّة عطارد كما سيأتي لم يرد ضمن رسالة بحر العلوم، بل هو كلام الناسخ، أورده بعد إكمال‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

8
  • كتابة الرسالة ضمن ذكر أحواله، و لا ربط له بالرسالة أبداً.

  • و أمّا وجهة نظر أُستاذنا العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه، فقد قال:

  • «قال البعض بأنّ هذه الرسالة متعلّقة بالسيّد مهدي بحر العلوم الخراسانيّ، إلّا أنّ ذلك بعيد جدّاً، و قد اعتبر الشيخ إسماعيل المحلّاتيّ و كان من أهل الدعوة أنّ الرسالة بأجمعها عدا الفقرات الثانية و العشرين و الثالثة و العشرين و الرابعة و العشرين التي وردت في نفي الخواطر و الأفكار هي للمرحوم السيّد مهدي بحر العلوم، و قد كان لدى الشيخ إسماعيل نسخة من الرسالة لم ترد فيها أساساً الفقرات المذكورة. و نسخة الشيخ نسخة كاملة لا تحتوي على أيّ من هذه الفقرات». و أضاف العلّامة الطباطبائيّ: «و يعتقد البعض أنّ هذه الرسالة هي ترجمة لرسالة المرحوم السيّد ابن طاووس، و يعتقدون أنّ في أصلها العربيّ و هو غير موجود فعلًا و في عنوان النسخة التي أخذتها من المرحوم السيّد أبي القاسم الخونساريّ مكتوب «رسالة في السير و السلوك لابن طاووس»، لكنّ أُستاذنا الأكبر آية الحقّ المرحوم الحاجّ الميرزا على آغا القاضي رضوان الله عليه يعتقد على وجه القطع و اليقين بأنّ هذه الرسالة بتمامها هي من تأليف المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم» انتهى كلام أُستاذنا الجليل العلّامة الطباطبائيّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

9
  • هذا، و قد قال الحقير يوماً للُاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه: لقد طالع الحقير الكثير من كتب الأخلاق و السير و السلوك و العرفان، إلّا أنّيّ لم أُطالع كتاباً يُماثل هذه الرسالة في شمولها و متانتها و أُصولها و فائدتها و سلاستها و في اختصارها و إيجازها، بحيث يمكن حملها في الجيب و الاستفادة منها في الحلّ و الترحال؛ فتعجّب العلّامة من كلامي و قال: لقد سمعت نظير هذه العبارة من المرحوم القاضي رضوان الله عليه، فقد قال: «لم يدوّن كتاب في العرفان بمثل هذه النزاهة و كثرة المطالب» انتهى.

  • و يقول آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس القوجانيّ و هو وصيّ المرحوم القاضي: لقد كان للمرحوم القاضي اهتمام خاصّ بهذه الرسالة، لكنّه صرّح مراراً بأنّه لا يُجيز لأحد أن يستفيد من الأذكار و الأوراد المنقولة في هذه الرسالة. و على أيّة حال فيستنتج من القرائن التي نذكرها أنّ جميع هذه الرسالة من إنشاء بحر العلوم، للأسباب التالية:

  • أ وّلًا: إن العالم النقّاد الخبير الفقيه و المتكلّم الاصوليّ المرحوم الشيخ محمّد رضا الإصفهانيّ رحمة الله عليه صاحب كتابَي «وقاية الأذهان» و «نقد فلسفة داروين» يعدّ الرسالة من تأليف بحر العلوم كما مرّ في كلام صاحب «الذريعة» و قد ذكر أنّ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

10
  • مكان تأليفها هو كرمانشاه.

  • ثانياً: إن المرحوم القاضي رضوان الله عليه و كان قِمّة الفنّ و الجامع بين الظاهر و الباطن و أُستاذ الأخلاق و المعارف قد عدّها للمرحوم بحر العلوم، و لا يمكن الإغضاء بسهولة عن شهادة مثل هذه الاسطوانة ذات الوزن العلميّ في عالم المعارف.

  • ثالثاً: إن الأفراد الذين نفوا كون القسم الأخير للرسالة من تأليف بحر العلوم لم يمتلكوا غير الاستبعاد دليلًا على نفيهم هذا، مع أنّ إخراج جزء من الكتاب بمجرّد الاستبعاد المحض أمر غير ممكن. و مع أنّ من الممكن أن تكون هذه الفقرات في نظر السيّد، و بطريق صحيح، مورد النظر و العمل.

  • رابعاً: إن مَن ينظر إلى الرسالة يجد أنّها مدوّنة بإنشاء واحد و سياق واحد، و مؤلّفة وفق نهج بديع و أُسلوب لطيف و عبارات سلسة، و إن القسم الأخير من الرسالة بل فقراتها الثانية و العشرين إلى الرابعة و العشرين لا تختلف أدنى اختلاف في أُسلوبها و منهج كتابتها مع سائر فقرات الكتاب، لكأنّ قلماً واحداً قد دوّنها في تنظيم و تسلسل و نهج خاصّ، و هذا المعنى لا يتنافي مع ما سنذكره في بعض تعليقات الكتاب من أنّ بعض مطالب الكتاب قد وردت بعينها في عبارات بعض الأعلام، حيث إن اقتباس و نقل المطالب‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

11
  • مورد النظر من الكتب السالفة و درجها في الكتب المؤلّفة يعدّ أمراً رائجاً و دارجاً بين الأعلام و أساتذة الفنون.

  • و أمّا نسبة الرسالة إلى المرحوم السيّد ابن طاووس رضوان الله عليه فأمر بعيد عن الحقيقة، ذلك أنّ ابن طاووس من علماء القرن السابع، و كان مقيماً في الحِلّة، و ينحدر من السادات العرب، و كان عربيّ اللسان و اللهجة، فلا يمكن أن يؤلّف كتاباً بالفارسيّة بمثل هذا المنهج و الاسلوب الخاصّ بالقرون المتأخّرة. كما يتّضح من أُسلوب الرسالة و تعابيرها أنّها ليست مترجمة، فالقلم فيها قلم إنشاء لا ترجمة. يضاف إلى ذلك أنّ الخبير بكتب ابن طاووس يعلم أنّ السلوك العمليّ لابن طاووس كان يستند إلى المراقبة و المحاسبة و الصيام و الدعاء، و أنّ كيفيّة السير و السلوك المذكور في هذه الرسالة لا ينسجم مع نهج ابن طاووس و مذاقه.

  • و خامساً: إن النسخة الأصليّة لهذه الرسالة إنّما وجدت في مكتبة بحر العلوم النجفي بعد ارتحاله، و هي نسخة موجودة و محفوظة فعلًا لدى عائلة بحر العلوم، كما أنّ اسم الرسالة المذكورة لم يرد في ترجمة أيّ عالم قبل بحر العلوم. كما أنّ من الجليّ أنّها لم تؤلّف بعد زمن بحر العلوم، فيتعيّن تسجيل زمن تأليفها في زمن ذلك المرحوم.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

12
  • و نتساءل: أيّ فقيه من فقهاء ذلك العصر كان له مذاق العرفان و السير و السلوك ليكتب مثل هذه الرسالة؟ و أيّ واحد من العرفاء و أصحاب السلوك في ذلك العصر كان فقيهاً له مثل هذا التبحّر و التسلّط ليقتحم لُجج بحار أخبار أهل البيت عليهم السلام و الآيات القرآنيّة؟!

  • ذلك أنّ من الوضوح بمكان أنّ تدوين هذه الرسالة قد تحقّق على يد فقيه مقتدر ذي اطّلاع واسع في مجال الآيات و الأخبار، فينحصر الأمر بصورة طبيعيّة في بحر العلوم، و بخاصّة أنّ النسخة الأصليّة للرسالة إنّما وجدت في مكتبة بحر العلوم.

  • و لو قال أحد: من الممكن أن تكون الرسالة من تأليف بعض الفقهاء من ذوي السيرة العرفانيّة الذين عاصروا بحر العلوم، من أمثال المرحوم آية الله المولى محمّد مهدي النراقيّ تغمّده الله برحمته، و أن يكون قد أرسلها إلى بحر العلوم!

  • فنقول: إن أسماء و أعداد تصنيفات أُولئك الفقهاء و المرحوم النراقيّ بوجهٍ خاصّ معروفة و مدوّنة، كما أنّ نجله الجليل: آية الله الحاجّ المولى أحمد النراقيّ رضوان الله عليه لم يذكر في عداد مؤلّفات أبيه مثل هذه الرسالة.

  • و لقد شاهدنا في كلمات صاحب «أعيان الشيعة» من أنّ ذلك‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

13
  • العالِم المحقِّق يعترف بأنّ بحر العلوم قد كتب رسالة بالفارسيّة في معرفة الباري تعالى. و نتساءل: أيّة رسالة تلك التي كتبها؟ أفيمكن أن تكون هناك رسالة سوى هذه؟!

  • و يتبيّن ممّا مرّ أنّ نسبة هذه الرسالة لبحر العلوم أقرب و أقوى والله أعلم، و بخاصّة مع ملاحظة حالات ذلك المرحوم الذي كان يمتلك مقام صفاء الباطن و نورانيّة الضمير و الإلمام بالاسرار و المغيّبات.

  • يقول مؤلّف «أعيان الشيعة» في كتابه ج ٤۸، ص ۱٦٦: «و يعتقد السوادُ الأعظم إلى الآن أنّه من ذوي الأسرار الإلهيّة الخاصّة، و من أُولي الكرامات و العنايات و المكاشفات. و ممّا لا ريب فيه أنّه كان ذا نزعة من نزعات العرفاء و الصوفيّة، يظهر ذلك من زهده و ميله إلى العبادة و السياحة» انتهى.

  • و على أيّة حال، فقد استنسخ الحقير نسخة لنفسه من على نسخة آية الله الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه العالي، و قد استفدتُ منها مدّة مديدة، حتّى عزمتُ على كتابة شرح مختصر لها أُبيّن فيه بعض معضلاتها، و استخرج مصادر الأحاديث و الأشعار الواردة فيها، و للّه تعالى المنّة في توفيقي للقيام بهذا الأمر الصعب على قدر الوسع، و أَمَلي من السادة أصحاب النظر و البصيرة أن‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

14
  • يُغِضُّوا بجلالهم و حسن كرمهم عمّا قد يعثروا عليه من أخطاء، و أن لا يبخلوا عليَّ بدعائهم حيّاً و ميّتاً.

  • ترجمة السيّد بحر العلوم‌

  • و أمّا ترجمة بحر العلوم و بيان أقصى مدارج و معارج السير الكمالى التي رقى إليها ذلك الشخص الذي كان فريد عصره و نادرة دهره فأمرٌ لا يرقى إليه فكر هذا الحقير في تحليقه، و خارج عن إمكان رشحات قلمه.

  • فما الذي أقوله عن شخص كان الشيخ الأكبر: شيخ الفقهاء و المجتهدين الشيخ جعفر كاشف الغطاء ينفض الغبار عن نعليه بحنك عمامته؟ و عن شخص سأله المحقّق الخبير و الفقيه البصير، مجمع الكمالات الصوريّة و المعنويّة: الميرزا أبو القاسم الجيلانيّ القمّيّ حين تشرّف بزيارة العتبات المقدّسة:

  • «فداك أبي و أُمّي، ماذا عملتَ حتّى نلتَ هذه المرتبة و المنزلة؟». و ماذا أقول عمّن لا يعتري الريب أمر تشرّفه كراراً بالمثول بين يدي صاحب العصر الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا له الفداء، و هو أمر يعدّ لدى العلماء الأعلام، بل لدى جميع سكنة النجف الأشرف من المسلّمات، بل يُستفاد من بعض كلمات الأعلام أنّ باب إمكان التشرّف بالمثول لدى الوليّ الأكبر لعالَم الإمكان كان مشرعاً في وجهه على الدوام. بل ماذا أقول عمّن‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

15
  • احتضنه صاحب مقام الولاية الكبرى: إمام العصر عليه‌السلام؟

  • بَيدَ أنّنا نذكر تيمّناً و تبرّكاً خلاصة ما جاء في ترجمته في كتاب «روضات الجنّات» للعلّامة السيّد محمّد باقر الخونساريّ (ج ٢، ص ۱٣۸) نقلًا عن كتاب «منتهى المقال» المعروف بـ «رجال أبي علي» و كان أبو على من معاصريه:

  • السيّد السند و الركن المعتمد مولانا السيّد محمّد مهدي بن السيّد المرتضى بن السيّد محمّد الحسنيّ الحسيني الطباطبائيّ النجفي أطال الله بقاه و أدام الله علوّه و نعماه، الإمام الذي لم تسمح بمثله الأيّام، و الهُمام الذي عقمت عن إنتاج شكله الأعوام؛ سيّد العلماء الأعلام، و مولى فضلاء الإسلام، علّامة دهره و زمانه، و وحيد عصره و أوانه، إن تكلّم في المعقول قلتَ: هذا الشيخ الرئيس، فمن بقراط و أفلاطون و أرسطاليس، و إن باحث في المنقول قلتَ: هذا علّامة المحقّق لفنون الفروع و الاصول. لم يُناظر في الكلام أحداً إلّا قلتَ: هذا عَلَمُ الهُدى، و إذا فسّر الكتابَ المجيد و أصغيتَ إليه ذُهلتَ و خلتَ كأنّه الذي أنزله الله عليه. كان ميلاده الشريف في كربلاء المشرّفة ليلة الجمعة في شهر شوّال المكرّم من سنة خمس و خمسين بعد المائة و الألف، تأريخ ولادته الميمون «لنُصرة الحقّ قد وُلد الهُدي»، و اشتغل بُرهة على‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

16
  • والده الماجد قُدّس سرّه، و كان عالماً و رعاً تقيّاً صالحاً بارّاً، و على جماعة من المشايخ، منهم: شيخنا يوسف (البحرانيّ)، وانتقل إلى الاستاذ العلّامة (آغا محمّد باقر الوحيد البهبهانيّ) أدام الله أيّامه، و رجع إلى النجف و أقام بها، و داره الميمونة محطّ رحال العلماء، و مفزع الجهابذة و الفضلاء، و هو بعد الاستاذ (العلّامة الوحيد) دام علاهما إمام أئمّة العراق و سيّد الفضلاء على الإطلاق، إليه يفزع علماؤها، و منه يأخذ عظماؤها، و هو كعبتها التي تطوى إليها المراحل، و بحرها الموّاج الذي لا يوجد له ساحل، مع كرامات باهرة و مآثر و آيات ظاهرة، و قد شاع و ذاع و ملأ الأسماع و الأصقاع تشييعه الجمّ الغفير و الجمع الكثير من اليهود لمّا رأوا منه البراهين و الإعجاز.

  • و ناهيك بما بان له من الآيات يوم كان بالحجاز، رأى والده الماجد رحمه الله ليلة ولادته أنّ مولانا الرضا عليه و على آبائه و أبنائه أفضل الصلاة و السلام أرسل شمعة مع محمّد بن إسماعيل ابن بزيع و أشعلها على سطح دارهم، فعلا سناها و لم يُدرك مداها. يتحيّر عند رؤيته النظر، و يقول بلسان حاله «ما هذا بشر»۱، كذا ذكره صاحب «منتهى المقال» في حقّ هذا العَلَم المفضال، والعالِم‌

    1. «منتهى المقال» ص ٣۱٤، الطبعة الحجريّة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

17
  • المسلّم، أيّده الله في أنواع فنون الكمال، بل صاحب السِّحر الحلال، و السُّكر الخالص عن الضلال، في حلّ الإشكال، و رفع الإعضال، و قمع مفارق الأبطال في مضامير المناظرة و الجدال، و حسب الدلالة على تسلّم نبالته في جميع الأقطار و التخوم و تلقّبه من غير المشاركة مع غيره إلى الآن بلقب بحر العلوم».

  • هذا هو مختصر ما جاء في «روضات الجنّات» في ترجمة هذا العَلَم الذي كان أُسطوانة في العلم و المعرفة.

  • {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}.۱

  • و الحمد للّه أوّلًا و آخراً، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين. كتبه بيمناه الداثرة العبد الراجي السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني في ليلة العشرين من شهر ربيع المولود سنة ألف و ثلاثمائة و ثلاث و تسعين بعد الهجرة النبويّةّ.

  • السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهرانيّ‌

    1. الآية ۱۰، من السورة ٥٩: الحشر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

19
  •  

  •  

  • القِسْمُ الأوّلْ: التَّصَوُّر العَامّ لِحَقِيقَةِ وَ هَدَفِ السُّلُوكِ إلى اللهِ، وَ بَيَانُ مَنَازِل عَالَمِ الْخُلُوصِ وَ الْعوالم التي تَسْبِقُهُ وَ تَلِيهِ‌

  •  

  •  

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

20
  • الفَصْل الأوّل: خَاصِّيَّةُ عَدَدِ الأرْبَعِيَن في ظُهُورِ القَابِلِيَّاتِ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

21
  •  

  •  

  • بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  •  

  •  

  • الحَمْدُ وَ الثَّنَاءُ لِعَيْنِ الوُجُودِ، وَ الصَّلَاةُ عَلَى وَاقِفِ مَوَاقِفِ الشُّهُودِ،۱ وَ على آلِهِ امَنَاءِ المَعْبُودِ.٢

  • يا رفقاء سفر مُلك السعادة و الصفاء، و يا رفقاء طريق الخلوص و الوفاء، {امْكُثُوا أنِّي آنَسْتُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً لَعلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.٣

    1. و لقد رآه نزلة اخرى عند سدرة المنتهي... فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدني... و جئنا بك على هؤلاء شهيداً...
    2. جاء في الزيارة الجامعة: فَبِحَقِّ مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَى سِرِّهِ وَ اسْتَرْعَاكُمْ أمْرَ خَلْقِهِ وَ...
    3. لم ترد هذه العبارة في القرآن على هذا النحو، بل وردت فيه في ثلاثة مواضع بألفاظ متشابهة: الأوّل في الآيتين ٩ و ۱۰، من السورة ٢۰: طه:
      و هل أتاك حديث موسى ، إِذْ رَأى‌ ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً.
      الثاني في الآية ۷، من السورة ٢۷: النمل: إِذْ قالَ مُوسى‌ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. 
      والثالث في الآية ٢٩، من السورة ٢۸: القصص:
      فَلَمَّا قَضى‌ مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. 
      ويلاحظ أنّ هذا المتن مع صحّة تعبيره لم يرد في أيّ من الآيات المذكورة، و لعلّ المصنّف أعلى الله مقامه لم يورد هذه العبارة حكايةً عن القرآن، بل أنشأها باسلوب ملفّق من الآيات الثلاث مع إضافات اخرى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

22
  • روايات ظهور الحكمة من القلب على اللسان‌

  • و قد روي عن سيّد الرسل و هادي السُبل بطرق عديدة، قال:

  • مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.۱

    1. وردت روايات ظهور الحكمة من القلب على اللسان في ثلاثة من كتب أُصول الشيعة: الأوّل في «عيون أخبار الرضا عليه السلام» ص ٢٥۸؛ الثاني في «عُدّة الداعي» ص ۱۷۰؛ و الثالث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۱٦. و وردت في «بحار الأنوار» ج ۱٥، ص ۸٥ نقلًا عن «العيون»، و في ص ۸۷ نقلًا عن «العدّة»، و في ص ۸٥ نقلًا عن «الكافي». أمّا رواية «العيون» فقد رواها الصدوق بإسناده عن دارم بن قبيصة بن نهشل بن مجمع النهشليّ الصنعانيّ بسرّ من رأى.
      قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا عن أبيه عن جدّه عن محمّد بن عليّ عن أبيه عن جابر بن عبد الله عن عليّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: مَا أخْلَصَ عَبْدٌ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً إلَّا جَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
      وجاء في «البحار» و في «سفينة البحار» بلفظ: مَا أخْلَصَ عَبْدٌ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً. و أمّا رواية «عُدّة الداعي» فقد روى مرسلًا عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً فَجَّرَ اللهُ يَنَابِيعَ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
      وأمّا رواية «الكافي» فقد روى الكلينيّ بإسناده عن ابن عيينة، عن السنديّ، عن أبي جعفر عليه السلام قال:
      مَا أخْلَصَ عَبْدٌ الإيمَانَ بِاللهِ أرْبَعِينَ يَوْماً... أو قال: مَا أجْمَلَ عَبْدٌ ذِكْرَ اللهِ أرْبَعِينَ يَوْماً إلَّا زَهَّدَهُ اللهُ في الدُّنْيَا وَ بَصَّرَهُ دَاءَهَا وَ دَوَاءَهَا وَ أثْبَتَ الحِكْمَةَ في قَلْبِهِ وَ أنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ...
      ويلاحَظ أنّ المعاني كانت واحدة على الرغم من اختلاف الألفاظ. و أمّا في كتب العامّة فقد ورد في «إحياء العلوم» ج ٤، ص ٣٢٢: قَالَ رَسُولُ اللهِ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُخْلِصُ لِلَّهِ العَمَلَ أرْبَعِينَ يَوْماً إلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
      وقال في تعليقة ص ۱٩۱:
      مَنْ زَهَدَ في الدُّنْيَا أرْبَعِينَ يَوْماً وَ أخْلَصَ فِيهَا العِبَادَةَ أجْرَى اللهُ يَنَابِيعَ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
      ويقول في «عوارف المعارف»، هامش ص ٢٥٦ من الجزء الثاني من «إحياء العلوم»:
      قَوْلُ رَسُولِ اللهِ: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

23
  • و قد ورد هذا الحديث بعبارات مختلفة و معانٍ متّحدة. و قد

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

24
  • شاهدنا عياناً و عَلِمنا بأنّ هذه المرحلة الشريفة من مراحل العدد لها خاصيّة و تأثير متفرّدَين في ظهور القابليّات و تتميم المَلَكات و في طيّ المنازل و قطع المراحل.۱

  • و مع كثرة منازل الطريق، إلّا أنّ في كلّ منزل منها مقصداً؛ و مع زيادة المراحل، فإنّك إذا دخلت في هذه المرحلة فقد أتممتَ عالَماً.

  • شواهد متنوّعة على خاصّيّة عدد الاربعين في فعليّة إيصال القوى و حصول المَلَكات‌

  • و لقد تمّ تخمير طينة آدم أبي البشر بِيَدِ القدرة الإلهيّة في أربعين صباحاً: وَ خَمَّرْتُ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِي أرْبَعِينَ صَبَاحاً.٢

  • حيث‌

    1. المنازل جمع منزل، و هي مواضع نزول المسافرين للاستراحة. و باعتبار أنّ هذه المواضع كانت غالباً في فواصل معيّنة بحيث يبعد أحدها عن الآخر بأربعة فراسخ، لذا كان يقال لمسافة أربعة فراسخ و هي مسافة البريد منزلًا.
      أمّا المراحل فهي جمع المرحلة و هي مسافة مسير يوم للمسافر، و تعادل منزلَين (أي بَريدَين). و قد شبّه المصنّف رحمه الله العالم بالمراحل حيث إن طيّ مرحلة و دخول مرحلة اخرى هي إتمام عالَم من العوالم و الدخول في العالَم الذي يليه. و قد شبّه مراتب العوالم بالمنازل التي يمثّل طيّ أحدها و الدخول في المنزل الذي يليه دخولًا في مقصدجديد.
      روايات تخمير طينة آدم عليه السلام في أربعين يوماً
    2. جاء في «إحياء العلوم» ج ٤، ص ٢٣۷ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إن اللهَ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً.
      وروي في «مرصاد العباد» ص ٣۸ و في «رسالة العشق» ص ۸٣: خَمَّرْتُ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِي أرْبَعِينَ صَبَاحاً.
      وجاء في «عوالم المعارف» في هامش «إحياء العلوم» ج ٢، ص ٢٦۰:
      فَمِنَ التُّرَّابِ كَوَّنَهُ، وَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً خَمَّرَ طِينَتَهُ لِيَبْعُدَ بِالتَّخْمِيرِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً بِأ رْبَعِينَ حِجَاباً مِنَ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ، كُلُّ حِجَابٍ هُوَ مَعْنى مُوَدَّعٌ فِيهِ، يَصْلَحُ بِهِ لِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَ يَتَعَوَّقُ بِهِ عَنِ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ وَ مَوَاطِنِ القُرْبِ... إلى آخر كلامه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

25
  • طوى في هذا العدد عالَماً من عوالم القابليّة. و جاء في رواية أنّ جسد آدم بقي ملقى بين مكّة و المدينة أربعين عاماً تهطل عليه أمطار الرحمة الإلهيّة، حتّى أضحى بهذا العدد قابلًا لتعلّق الروح القدسيّة.

  • و لقد تمّ ميقات موسى عليه السلام في أربعين ليلة، و نجى قومه من التيه بعد أربعين عاماً.۱

  • و قد خُلع على خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله و سلّم خلعة النبوّة بعد أربعين سنة من خدمة الحقّ.

  • كما أنّ زمن طيّ عالم الدنيا و ظهور القابليّة و نهاية تكميل هذا العالَم في أربعين سنة. حيث ورد أنّ عقل الإنسان يكمل في‌

    1. سورة البقرة، الآية ٥۱: وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى‌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. و سورة الأعراف، الآية ۱٤٢: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... و أمّا عن نجاة قوم موسى من التيه فقد جاء في سورة المائدة، الآية ٢٦: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

26
  • سنّ الأربعين حسب قابليّة ذلك الإنسان.۱ و الإنسان في نموّ منذ بدء دخوله في هذا العالَم حتّى يبلغ سنّ الثلاثين، ثمّ إن بدنه يقف في هذا العالَم عشر سنين، فإن هو أتمّ الأربعين‌٢ انتهى سفره في عالم الطبيعة؛٣ و بدأ سفره في عالم الآخرة. و كلّما شدّ الرحال‌

    1. كما قال تعالى في سورة الأحقاف، الآية ۱٥: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ. و يتبيّن منه أنّ نهاية قدرة العقل في سنّ الأربعين. و أمّا ما يشيع من‌أ نّ عقل الإنسان ينمو بعد الأربعين فهو أمر خاطي‌ء. و منشأ هذا الخطأ أنّ الإنسان تزداد خبرتُه بعد هذه المدّة، فيكون حكم العقل على أساس من التجارب الزائدة أقرب إلى الصواب، لكنّ هذه الإصابة ناجمة من زيادة التجارب لا من القدرة العقليّة الفعليّة. بحيث إنّنا إذا فرضنا أنّ هذه‌التجارب و الخبرات قد تجمّعت للشخص قبل بلوغه سنّ الأربعين، لكان يحكم عند بلوغه الأربعين بتلك الأحكام العقليّة القطعيّة.
      الروايات الدالّة على أنّ سنّ الاربعين هو الزمن النهائيّ للخروج من عالم الطبيعة
    2. يروي الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٤٥، بدون إسناد متّصل، يرفعه إلى أبي جعفر (الباقر) عليه السلام:
      إذَا أتَتْ عَلَى الرَّجُلِ أرْبَعُونَ سَنَةً قِيلَ لَهُ: خُذْ حِذْرَكَ فَإنَّكَ غَيْرُمَعْذُورٍ... 
    3. جاء في «الخصال» ص ٥٤٥: قال الصادق عليه‌السلام:
      إن العَبْدَ لَفي فُسْحَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ أرْبَعِينَ سَنَةً، فَإذَا بَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً أوْحَى اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ إلى مَلَكَيْهِ أنِّي قَدْ عَمَّرْتُ عَبْدِي عُمْراً، فَغَلِّظَا وَ شَدِّدَا وَ تَحفَّظَا وَ اكْتُبَا عَلَيْهِ قَلِيلَ عَمَلِهِ وَ كَثِيرَهُ وَ صَغِيرَهُ وَ كَبِيرَهُ.
      وفي «الخصال» ص ٥٤٥: و عن الصادق عليه‌السلام:
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

27
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      إذَا بَلَغَ العَبْدُ ثَلَاثاً وَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ أشُدَّهُ، وَ إذَا بَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ مُنْتَهَاهُ، فَإذَا ظَعَنَ في إحْدَى وَ أرْبَعِينَ فَهُوَ في النُّقْصَانِ، وَ ينبغي لِصَاحِبِ الخَمْسِينَ أنْ يَكُونَ كَمَنْ كَانَ في النَّزْعِ.
      وجاء في «جامع الأخبار» الفصل ۷٦، ص ۱٤۰: قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      أبْنَاءُ الأرْبَعِينَ زَرْعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهُ. و في «سفينة البحار» ج ۱، ص ٥۰٤: رُوي: إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أرْبَعِينَ سَنَةً وَ لَمْ يَتُبْ مَسَحَ إبْلِيسُ وَجْهَهُ وَ قَالَ: بِأبِي وَجْهٌ لَا يُفْلِحُ أبَداً.
      وقد وردت أخبار كثيرة في لفظ الأربعين، كالرواية الواردة في «البحار» ج ۱٤، ص ٥۱٢ التي تفيد: إن مَنْ قَرَأ الحَمْدَ أرْبَعِينَ مَرَّةً في المَاءِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى المَحْمُومِ يَشْفِيهِ اللهُ. و جاء في «الكافي» ج ٦، ص ٤۰٢ عن الإمام الباقر عليه السلام: مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لَمْ تُحْتَسَبْ لَهُ صَلَاتُهُ أرْبَعِينَ يَوْماً. و روي في «جامع الأخبار» الفصل ۱۰٩، ص ۱۷۱ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنِ اغْتَابَ مُسْلِماً أوْ مُسْلِمَةً لَمْ يَقْبَلِ اللهُ تعالى صَلَاتَهُ وَ لَا صِيَامَهُ أرْبَعِينَ يَوْماً وَ لَيْلَةً إلَّا أنْ يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ.
      وجاء في «البحار» ج ۱٣، ص ٢٤٥، التوقيع الشريف: إن الأرْضَ تَضِجُّ إلى اللهِ مِنْ بَوْلِ الأغْلَفِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً.
      وروى الصدوق في «الخصال» ص ٥٣۸، بإسناده المتّصل عن عبد الله بن مُسكان، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال:
      إذَا مَاتَ المُؤْمِنُ فَحَضَرَ جَنَازَتَهُ أرْبَعُونَ رَجُلًا مِنَ المُؤْمِنِينَ فَقَالُوا: اللهمَّ إنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْراً وَ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

28
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      وَ تَعَالَى: أنِّي قَدْ أجَزْتُ شَهَادَتَكُمْ وَ غَفَرْتُ لَهُ مَا عَلِمْتُ ممّا لَا تَعْلَمُونَ.
      وجاء في «عدّة الداعي» ص ۱٢۸، باب الدعاء للإخوان و التماسه منهم: روى ابنُ أبي عُمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: مَنْ قَدَّمَ أرْبَعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ثُمَّ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ.
      وعقد المجلسيّ في «بحار الأنوار»، كتاب الجنائز، دعاءٌ، باب شهادة أربعين للميّت، و نقل فيه (ص ٢۰٤) رواية عن «عُدّة الداعي» عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال:
      كَانَ في بني إسْرَائِيلَ عَابِدٌ فَأوْحَى اللهُ إلى دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أنَّهُ مُرَاءٍ. قَالَ: ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ فَلَمْ يَشْهَدْ جَنَازَتَهُ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ: فَقَامَ أرْبَعُونَ مِنْ بني إسْرَائِيلَ فَقَالُوا: اللَهُمَّ إنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْراً وَ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا فَاغْفِرْ لَهُ. قَالَ: فَلَمَّا غُسِّلَ أتَى أرْبَعُونَ غَيْرَ الأرْبَعِينَ وَ قَالُوا: اللَهُمَّ إنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْراً وَ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا فَاغْفِرْ لَهُ. فَلَمَّا وُضِعَ في قَبْرِهِ قَامَ أرْبَعُونَ غَيْرُهُمْ فَقَالُوا: اللَهُمَّ إنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْراً وَ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا فَاغْفِرْ لَهُ. فَأوْحَى اللهُ تَعَالَى إلى دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا مَنَعَكَ أنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ دَاودَ: لِلَّذِي أخْبَرْتَنِي. قَالَ: فَأوْحَى اللهُ إلَيْهِ: أنَّهُ قَدْ شَهِدَ قَوْمٌ فَأجَزْتُ شَهَادَتَهُمْ وَ غَفَرْتُ لَهُ مَا عَلِمْتُ ممّا لَا يَعْلَمُونَ.
      وجاء أيضاً في «عُدّة الداعي» لرفع المرض و العلّة:
      الثَّالِثُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَسْبُنَا اللهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ، تَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقِينَ، لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيّ الْعَظِيمِ. يَدْعُو بِهَذَا أرْبَعِينَ مَرَّةً عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَ يَمْسَحُ بِهِ عَلَى العِلَّةِ كَائِناً مَا كَانَتْ، خُصُوصاً الفَطْرُ، يَبْرَأ بِإذْنِ اللهِ. وَ قَدْ صُنِعَ ذَلِكَ فَأُشْفِعَ بِهِ.
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

29
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      وجاء أيضاً في «عُدّة الداعي» ص ٩٤: وَ مَنْ دَعَا لأرْبَعِينَ مِنْ إخْوَانِهِ بِأسْمَائِهِمْ وَ أسْمَاءِ آَبَائِهِمْ، وَ مَنْ في يَدِهِ خَاتَمُ فَيْرُوزَ أوْ عَقِيقٍ...
      ونقل في «بحار الأنوار» ج ۱٤، ص ٥٥۱، عن الشهيد:
      رُوِيَ مُدَاوَاةُ الحُمَّى بِصَبِّ المَاءِ، فَإنْ شُقَّ عَلَيْهِ فَلْيُدْخِلْ يَدَهُ في مَاءٍ بَارِدٍ، وَ مَنِ اشْتَدَّ وَجَعُهُ قَرَأ عَلَى قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ أرْبَعِينَ مَرَّةً الحَمْدُ ثُمَّ يَضَعَهُ عَلَيْهِ، وَ لْيَجْعَلِ المَرِيضُ عِنْدَهُ مِكْتَلًا بُرّاً وَ يُنَاوِلِ السَّائِلَ مِنْهُ بِيَدِهِ وَ يَأمُرُهُ أنْ يَدْعُوَ لَهُ فَيُعَافي.
      وجاء في «الإقبال» ص ٥٥۱: روينا بإسنادنا إلى جدّي أبي جعفر الطوسيّ فيما رواه بإسناده إلى مولانا الحسن بن عليّ العسكريّ صلوات الله عليه أنّه قال: عَلَامَاتُ المُؤْمِنِ خَمْسٌ: صَلَوَاتُ إحْدَى وَ خَمْسِينَ، وَ زِيَارَةُ الأرْبَعِينَ، وَ التَّخَتُّمُ بِاليَمِينِ، وَ تَعْفِيرُ الجَبِينِ، وَ الجَهْرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. و ورد في «الخصال» ص ٥٤۱، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
      قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: مَنْ حَفِظَ مِنْ أُمَّتِي أرْبَعِينَ حَدِيثاً مِمّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أمْرِ دِينِهِمْ بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَقِيهاً عَالِماً.
      وروى في «بحار الأنوار» ج ٥، ص ٤٣، عن تفسير عليّ بْنُ إبراهيم، عن الإمام الصادق عليه‌السلام حديثاً جاء فيه: فَبَقِيَ آدَمُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً سَاجِداً يَبْكِي عَلَى الجَنَّةِ.
      ونقل في «إكمال الدين» ص ۱٣، عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام حديثاً جاء فيه: فَبَكَى آدَمُ عَلَى هَابِيلَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً.
      وجاء فيه (ص ۸٦) نقلًا عن «تفسير عليّ بْنُ إبراهيم» عن الإمام
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

30
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الصادق عليه‌السلام حديثاً عن الطوفان جاء فيه: فَبَقِيَ المَاءُ يَنْصَبُّ مِنَ السَّمَاءِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً وَ مِنَ الأرْضِ العُيُونُ...
      وفي ص ٢٢٩، عن البيضاويّ في تفسير قوله تعالى: «وَ لَمَّا بَلَغَ أشُدَّهُ»:
      إن مَبْلَغَهُ الذي لَا يَزَيدُ عَلَيْهِ نُشُوؤُهُ، وَ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثِينِ إلى أرْبَعِينَ سَنَةً، فَإنَّ العَقْلَ يَكْمُلُ حِينَئِذٍ. وَ رُوِيَ أنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيّ إلَّا عَلَى رَأسِ أرْبَعِينَ وَ اسْتَوَى قَدُّهُ أوْ عَقْلُهُ...
      وجاء في «الخصال» ص ٥٣٩، بإسناده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال:
      أمْلَى اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِفِرْعَوْنَ مَا بَيْنَ الكَلِمَتَيْنِ... أرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ أخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الإخِرَةِ وَ الاولَى. وَ كَانَ بَيْنَ أنْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ لِمُوسَى وَ هَارُونَ: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا»، وَ بَيْنَ أنْ عَرَّفَهُ اللهُ الإجَابَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. ثُمَّ قَالَ: قَالَ جَبْرَئِيلُ: نَازَلْتُ رَبِّي في فِرْعَوْنَ مُنَازَلَةً شَدِيدَةً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! تَدَعُهُ وَ قَدْ قَالَ: «أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَي»، فَقَالَ: إنَّمَا يَقُولُ مِثْلَ هَذَا عَبْدٌ مِثْلُكَ (إنّما يقولُ بقولٍ، هذا عبدٌ مثلك).
      ثمّ قال المرحوم المجلسيّ رحمه الله في بيان هذا الخبر: لَعَلَّ المُرَادَ بِالكَلِمَتَيْنِ قَوْلُهُ تعالى: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا» وَ أمْرُهُ بِإغْرَاقِ فِرْعَوْنَ. أوْ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي»، وَ قَوْلُهُ: «أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَي»... البيان.
      ونقل في «بحار الأنوار» ج ٥، ص ٤٣٣، عن تفسير عليّ بْنُ إبراهيم القمّيّ حديثاً جاء فيه: و جاء جماعة من اليهود إلى أبي طالب فقالوا:
      يَا أبَا طَالِبٍ! إن ابْنَ أخِيكَ يَزْعُمُ أنَّ خَبَرَ السَّمَاءِ يَأتِيهِ، وَ نَحْنُ نَسْألُهُ عَنْ مَسَائِلَ، فَإنْ أجَابَنَا عَنْهَا عَلِمْنَا أنَّهُ صَادِقٌ، وَ إن لَمْ يُخْبِرْنَا عَنْهَا عَلِمْنَا أنَّهُ كَاذِبٌ. فَقَالَ أبُو طَالِبٍ: سَلُوهُ عَمَّا بَدَا لَكُمْ. فَسَألُوهُ عَنِ ثَّلَاثِ مسَائِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: غَداً أُخْبِرُكُمْ «وَ لَمْ يَسْتَثْنِ»، فَاحْتُبِسَ الوَحْيُ عَنْهُ أرْبَعِينَ يَوْماً حتّى اغْتَمَّ النبيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ شَكَّ أصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا آمَنُوا بِهِ...
      وجاء أيضاً في «بحار الأنوار» ج ٦، ص ۱۱۷، نقلًا عن كتاب «العُدد» تأليف الشيخ رضيّ الدين عليّ بْنُ يوسف بن المطهّر الحلّيّ (و هو أخو العلّامة الحلّيّ) رواية في باب ولادة فاطمة الزهراء عليها السلام ورد فيها:
      إذْ هَبَطَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ في صُورَتِهِ العُظْمَى قَدْ نَشَرَ أجْنِحَتَهُ حتّى أخَذَتْ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ! العَلِيّ الأعلى يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَ هُوَ يَأمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ عَنْ خَدِيجَةَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النبيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ كَانَ لَهَا مُحِبَّاً وَ بِهَا وَامِقاً، فَأقَامَ النبيّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أرْبَعِينَ يَوْماً يَصُومُ النَّهَارَ وَ يَقُومُ اللَّيْلَ... (الحديث). انتهى ما نُقل من الروايات التي ذُكر فيها لفظُ «الأربعين»

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

31
  • للسفر في أيّامه أو سنواته فارتحل عن هذا العالَم، تناقصت قوّتُه سنةً بعد اخرى، و ضعف نور سمعه و بصره، و انحطّت قواه المادّيّة، و ازداد ذبول بدنه، إذ انتهت مدّة سفره و إقامته في هذا العالَم في أربعين سنة.

  • و لذا فقد ورد:

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

32
  • مَنْ بَلَغَ الأرْبَعِينَ وَ لَمْ يَأخُذِ العَصَا فَقَدْ عَصَى.

  • ذلك أنّ العصا علامة السفر، و المسافرُ مندوب إلى حمل عصاه عند سفره. و تأويل العصا هو الاستعداد لسفر الآخرة و التهيّؤ للرحيل (فمن لم يحمل عصاه، كان غافلًا عن فكرة السفر).

  • و كما أنّ الجسم يبلغ كماله في هذه المدّة، فإنّ مرتبة السعادة أو الشقاء تكتمل خلالها. و لذا ورد في الحديث بأنّ الرجل إذا بلغ الأربعين فلم يُفلح بالتوبة، فإنّ الشيطان يمسح وجهه و يقول: بَأَبِي وَ أُمِّي وَجْهٌ لَا يُفْلِحْ أبَداً.۱ و يقول له: لقد سُجِّل اسمُك في جُندي. و أمّا ما ورد في الأخبار مِن أنّ مَن قادَ أعمى أربعينَ قَدَماً فدلّه على الطريق و جبتْ له الجنّةُ، فإنّ المراد بظاهره عمى البصر، و تأويله عمى البصيرة. ذلك أنّ أعمى البصيرة لم يخطُ تمام أربعين قدماً من مرحلة القابليّة ليدخل في مرحلة الفعليّة، حتّى لو كان قد اقترب منها، فإن تُرِك ذلك الأعمى و سبيله لعاد إلى حيث كان. و تمام الإحسان و حصول الهداية في إتمام الأربعين، و بهذه الحيثيّة تجب له الجنّة.

    1. ورد هذا الحديث في «سفينة البحار» ج ۱، ص ٥۰٤. و جاء في «إحياء العلوم» ج ٣، ص ٢٥: إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أرْبَعِينَ سَنَةً وَ لَمْ يَتُبْ، مَسَحَ الشَّيْطَانُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ وَ قَالَ: بِأبِي وَجْهُ مَنْ لَا يُفْلِحُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

33
  • نسبة الإنسان مع القوى الاربع: العقليّة، الوهميّة، الغضبيّة، و الشهويّة

  • كما ورد في حديثٍ آخر أنّ حدّ الجوار أربعون بيتاً من الأطراف الأربعة۱، الشرح، لكأنّهم بعد هذا العدد قد انفصلوا عن عالَم بعضهم البعض. و تأويل ذلك في المناسبة و الجوار من جهات القوى الأربعة٢ العقليّة و الوهميّة و الشهويّة و الغضبيّة. و ما لم تبتعد

    1. وردت في هذا المجال أربعة روايات في «وسائل الشيعة» ج ٢، كتاب الحجّ، أحكام العِشرة، الباب التسعين:
      الأوّل: عن الكلينيّ بإسناده عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال: حَدُّ الجِوَارِ أرْبَعُونَ دَاراً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ.
      الثاني: عن الكلينيّ أيضاً بإسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال:
      قَالَ رَسُولُ اللهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: كُلُّ أرْبَعِينَ دَاراً جِيرَانٌ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ.
      الثالث: عن الشيخ الصدوق في «معاني الأخبار» بإسناده عن الإمام الصادق عليه‌السلام، أنّ معاوية بن عمّار قال له: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا حَدُّ الجَارِ؟ قَالَ: أرْبَعِينَ (أرْبَعُونَ صح) دَاراً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
      الرابع: عن عقبة بن خالد، عن الإمام الصادق عليه‌السلام عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَرِيمُ المَسْجِدِ أرْبَعُونَ ذِرَاعاً، وَ الجِوَارُ أرْبَعُونَ دَاراً مِنْ أرْبَعَةِ جَوَانِبِهَا.
      في قوى الإنسان الاربع، والنسبة بينها
    2. مراد المصنّف أنّ الإنسان أسير لقوى أربع تحيط به من أطرافه الأربعة: القوّة العقليّة، الوهميّة، الغضبيّة، و الشهويّة، و ما لم يبتعد عن كلٍّ منها إلى أربعين منزلًا، فإنّه لن يبلغ مقام الفناء في الله. ذلك أنّ مجرّد الخروج من مرحلة الشهوة مثلًا لن يُخرج الإنسان من تلك 
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

34
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      المرحلة بتمام المعنى، لأنّ حقيقة مرحلة الشهوة تلك لا زالت كامنة في وجود الإنسان، و ما لم يبتعد عن المرحلة الاولى أربعين مرحلة فإنّ آثارها لن تزول تماماً. و بناء على ذلك، فلو فرضنا عالَم الشهوة ذا مراحل متعدّدة، فإنّ الإنسان سيخرج كلّيّاً عن إحدى المراحل حين يتخطّى المراحل الأربعين التي تليها، و بغير ذلك فإنّ الإنسان لن يكون قد خرج من تلك المرحلة بتمام المعنى، و قد يتعرّض بمجرّد طروء طارئ عليه للعودة إلى المرحلة الاولى. و الأمر كذلك بالنسبة إلى عوالم العقل و الغضب و الوَهْم. فالمرء سيكون قد خرج حقّاً من مرحلة الغضب الاولى حين يخرج من مرحلته الأربعين، و سيكون قد خرج حقّاً من مرحلة العقل الخامسة حين يخرج من مرحلته الأربعين، و هكذا عليه في كلّ مرحلة مُفترضة أن يتخطّاها بأربعين مرحلة ليتخلّص منها تماماً.
      بَيْدَ أنّ هناك فارقاً بين القوّة الملكوتيّة العقليّة و القوى الثلاث الاخرى، لأنّ العقل دليل و موجّه، و وجوده متعارض مع القوى الثلاث الاخرى، و لذلك فإنّ تلك القوى في حال نزاع و جدال دائميّ مع العقل. و لذا فإن كلّ منزلَين من منازل العقل الأربعين التي يقلّ الفاصل بينهما عن أربعين مرحلة سيتبادلان الشكوى لبعضهما و يتذكّران مقولة: «نحن منزلان أضحيا غريبَين في عالم الطبيعة حين أسرتنا القوى الشهويّة و الغضبيّة و الوهميّة، و كلّ غريبٍ للغريب نسيبُ». لكنّ كلّ منزلَين من المنازل الأربعين لسائر القوى إذا تعرّضت لهجوم عساكر العقل، فإنّها ستقاوم ما أمكنها و تأبى التسليم، و ترتحل من ثمّ عن ذلك المنزل، و لذلك فإنها ستترنّم فيما بينها بمقولة: ما دام جبل «عسيب» قائماً فإنّنا سنواجه سيل المشاكل المستمرّ بصبرٍ و تحمّل. (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

35
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة) 

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

36
  • هذه المراحل عن بعضها بأربعين مرحلة، فإنّها لن تكون قد تخطّت عالَمها خارجاً، و ستكون مجاورة لبعضها البعض.

  • فإن كان هناك مجاورة و مناسبة بين مراحل القوّة العقليّة الملكوتيّة، فإنّها ستصف حالها معاً بهذه المقولة:

  • أجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا***وَ كُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ‌
  • و إذا كان هناك مجاورة بين القوى الشهويّة الشيطانيّة و السَّبُعيّة و البهيميّة، فإنها ستترنّم بهذه الانشودة:

  • أجَارَتَنَا إن الخُطُوبَ تَنُوبُ***وَ أنِّي مُقِيمٌ مَا أقَامَ عَشِيبُ‌۱
    1. قال في «جامع الشواهد» بأنّ هذا الشعر لامرئ القيس بن حجر الكنديّ خاطَبَ به امرأة ميّتة، و ذلك أنّه لمّا احتضر بالنقرة نظر إلى قبرٍ فسأل عنه، فقيل له: هو قبر امرأة غريبة، فقال:
      أجَارَتَنَا إن الخُطُوبَ تَنُوبُ‌***وَ أنِّي مُقِيمٌ مَا أقَامَ غَرِيبُ‌
      أجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا***وَ كُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ‌
      فَإنْ تَصِلِينَا فَالقَرَابَةُ بَيْنَنَا***وَ إن تَهْجُرِينَا فَالغَرِيبُ غَرِيبُ‌
      ثمّ قال: الخطوب جمع خطب و هو الأمر العظيم، و تنوب بمعنى تنزل، و مقيمٌ، أي: ثابتٌ في تحمّلها، و العسيب (بالعين و السين و الباء الموحّدة) كحبيب: اسم جبل... انتهى.والظاهر بناء على ما مرّ أنّ «عسيب» هو الصواب، و قد ورد هذا اللفظ الأخير في بعض النسخ. و أمّا عشيب (بالشين المعجمة) فغير صحيح على الظاهر، لأنّ معناه الأرض المُعشبة، و استعماله في هذا المورد يستلزم التكلّف

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

37
  • و على أيّة حال، فإنّ خاصّيّة الأربعين في ظهور الفعليّة و بروز القابليّة و القوّة و حصول المَلَكة أمرٌ مصرّح به في الآيات و الأخبار، و مجرّب لدى أهل الباطن و الأسرار، و هو ما أُخبر عنه في الحديث الشريف بأنّه حصول آثار الخلوص، أي نبوع عين المعرفة و الحكمة في هذه المرحلة. و لا ريب أنّ أيّ محظوظ طوى هذه المنازل الأربعين بأقدام الهمّة و بلغ بقابليّات الخلوص إلى فعليّتها، فإنّ نبع المعرفة ستبدأ بالفوران من أرض قلبه.

  • و تقع هذه المنازل الأربعين في عالم الخلوص و الإخلاص، أمّا منتهاها فعالَمٌ فوق عالَم المُخلَصين، و هو عالَمُ أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِي،۱ حيث إن الطعام و الشراب الربّانيّين عبارة

    1. روى الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» ج ٢، ص ۱۱۱، باب الصيام، عن معاوية بن عمّار قال:
      سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ صِيَامِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ: إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَنِ صِيَامِهَا بِمِنَى، فَأمَّا بِغَيْرِهَا فَلَا بَأسَ. وَ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَنِ الوِصَالِ في الصِّيَامِ وَ كَانَ يُوَاصِلُ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقَالَ: أنِّي لَسْتُ كَأحَدِكُمْ، أنِّي أظِلُّ عِنْدَ رَبِّي فَيَطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِي.
      وأورد هذه الرواية في «المحجّة البيضاء» ج ٢، ص ۱٤٢، نقلًا عن «من لا يحضره الفقيه».
      وأوردها المرحوم السيّد علي خان في «شرح الصحيفة» (حسب
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

38
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      نقل «تلخيص الرياض» ج ۱، ص ٣۷) بلفظ «أبيتُ» و قال: قال عليه السلام: أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِي.
      هذا في روايات الشيعة، و أمّا في روايات العامّة فلم يرد لفظ «عِند ربّي»، و جاء في بعضها لفظ «أبيتُ» و في بعضها الآخر لفظ «أظلُّ».
      القسم الأوّل: روى البخاريّ في صحيحه ج ٤، ص ٢٥۱، كتاب التمنّي، بإسناده عن أبي هريرة قال: نَهَى رَسُولُ اللهُ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَنِ الوِصَالِ. قَالُوا: فَإنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: أيُّكُمْ مِثْلِي، أنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَ يَسْقِينِي. و روى مسلم في صحيحه ج ٣، ص ۱٣٣، كتاب الصيام روايتَين بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، و اخرى عن أبي زُرعة، عن أبي هريرة، عن رسول الله بنفس لفظ البخاريّ الذي نقلناه.
      وروى مالك في «الموطّأ»، كتاب الصيام، ص ٢۸۰، بإسناده عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:
      إن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: إيَّاكُمْ وَ الوِصَالَ، إيَّاكُمْ وَ الوِصَالَ. قَالُوا: فَإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: أنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، أنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَ يَسْقِينِي.
      القسم الثاني: روى البخاريّ في صحيحه، ج ٤، ص ٢٥۱، كتاب التمنّي، بإسناده عن أنس قال:
      وَاصَلَ النبيّ آخِرَ الشَّهْرِ وَ وَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ سَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، أنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، أنِّي أظِلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَ يَسْقِينِي.
      وروى اخرى في ج ۱، ص ٣٢٩، كتاب الصوم، بإسناده عن عبد الله ابن عمر قال:
      إن النبيّ وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَنَهَاهُمْ، قَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ! قَالَ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، أنِّي أظِلُّ أُطْعَمُ وَ أُسْقَى.
      وجاء في «صحيح مسلم»، ص ٣٢٩، كتاب الصيام بلفظ: أنِّي أظِلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَ يَسْقِينِي.
      وورد أيضاً في نفس الصفحة من الكتاب المذكور و في «الموطّأ»، كتاب الصوم، ص ٢۸۰ أنّ رسول الله قال: أنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، أنِّي أُطْعَمُ وَ أُسْقَي.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

39
  • عن المعارف والعلوم الحقيقيّة غير المتناهية.

  • و قد عُبِّر في حديث المعراج عن ضيافة خاتم الأنبياء و إطعامه اللَّبَن و الرزّ،۱، حيث إن اللبن في عالمنا هذا بمثابة العلوم الحقّة في عالَم المجرّدات، و لذا يُعبّر عن اللبن في الرؤيا بالعِلم.

  • و يصل المسافر في هذه المنازل إلى غايته حين يغدو سيره في عالَم الخلوص، و ليس حين يكتسب الإخلاص في هذه المنازل، فقد ورد: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً،

  • و ينبغي إذاً أن يكون الخلوص قد اكتُسِب خلال سير هذه المنازل.

  • فيكون عالَم الخلوص بداية هذه المنازل، لا أن تُفتح باب‌

    1. ورد في الأخبار لفظ اللبن، إلّا أنّيّ لم أرَ في خبرٍ ما لفظ «اللبن و الرزّ»، و سألتُ الاستاذ الطباطبائيّ عن ذلك فقال: لقد بحثتُ بدَوري عن مثل هذا الخبر، إلّا أنّيّ لم أعثر على شي‌ء.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

40
  • المعرفة في وجه كلّ مسافر في هذه المنازل الأربعين، أو مَن يريد تحصيل الخلوص في المراحل الأربعين.

  • مراحل السلوك‌

  • و لابدّ إذاً لمسافر عالَم هذا الحديث من جُملة أُمور:۱

  • الأوّل: المعرفة الإجماليّة بالمقصد، و هو عالَم ظهور ينابيع الحكمة. ذلك أنّ المرء ما لَم يتصوّر المقصد إجمالًا، فإنّه لن يسعى إليه.

  • الثاني: الدخول في عالَم الإخلاص و معرفته.

  • الثالث: السير في المنازل الأربعين لهذا العالَم.

  • الرابع: طيّ العوالم العديدة (و هي المنازل التي تسبق عالَم الخلوص) من أجل الدخول بعد طيّها في عالم الخلوص.

  •  

    1. عوالم ما قبل الخلوص، عالم الخلوص، السير في المنازل الأربعين لعالم الخلوص، و عالم ظهور ينابيع الحكمة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

41
  • الفَصْل الثاني: المَعْرِفَةُ الإجْمَاليَّةُ لِلْمَقْصَدِ

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

43
  • أمّا معرفة المقصد التي أُشير إليها في قوله: ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ، فنقول: إن المقصد هو عالَم الحياة الأبديّة الذي عُبِّر عنه بـ «البقاء بالمعبود». و ظهور عيون الحكمة (و هي العلوم الحقيقيّة) إشارة إلى ذلك، لأنّ العلوم الحقيقيّة و المعارف الحقّة هي رزق النفوس القدسيّة الذي يصلها من ربّها، و الرزق الإلهيّ إنّما هو للحياة الأبديّة.

  • مقصد السالك ومراتبه‌

  • {بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، و الوصول إلى هذا العالَم الجامع للمراتب الكماليّة التي لا حَصر لها، و من جُملتها حصول التجرّد الكامل على قدر القابليّة الإمكانيّة۱، إذ المادّيّة لا تنسجم‌

  • التجرّد من جميع الجهات و من ضمنها التجرّد من القابليّة الإمكانيّة لا يحصل إلّا بعد الموت‌(ت)

    1. التعليل اللاحق (إذ المادّيّة لا تنسجم... إلى آخره) ليس عائداً إلى الجملة السابقة، أي إلى جملة (على قدر القابليّة الإمكانيّة)، بل يعود إلى المطلب السابق، و هو أنّ الرزق الإلهيّ إنّما هو للنفوس القدسيّة و الإحياء الأبديّ. و حاصل المطلب أنّ البدن سوف يفسد، إلّا أنّ وجهه (أي مظهره) سيبقى. فإن بلغت النفس الإنسانيّة في سيرها المظاهرَ و الصفات الإلهيّة فأضحت مظهراً للأنوار الإلهيّة، غدت في عداد «أحياءٌ عند ربّهم»، و كان رزقها تلك العلوم و المعارف الحقيقيّة. و ينبغي العلم بأنّ حصول التجرّد إنّما يكون على قدر القابليّة الإمكانيّة، أي أنّ السالك إذا دخل في عالَم اللاهوت، و إذا حصل على الفناء في جميع الأسماء الإلهيّة و من جملتها الفناء في اسم «الواحد»، و إذا بلغ مرحلة البقاء بعد الفناء (و هو البقاء بالمعبود)، فإنّه لن يحصل على التجرّد الكامل من جميع الجهات و من ضمنها التجرّد من القابليّة الإمكانيّة. و على الرغم من أنّ علم السالك في هذه الحال سيكون علماً إلهيّاً، و أنّه سيكون له المعيّة مع كلّ موجود، و أنّه سيطّلع على الماضي و المستقبل، إلّا أنّ تلك العلاقة الإجماليّة بتدبير البدن ستمنع من حصول التجرّد التامّ فيما وراء أفق الإمكان. بَيدَ أنّه قد شوهد أنّ نسبة عُلقة الروح ببدنها و بسائر الموجودات ستكون متفاوتة. ثمّ إنّها تترك البدن كلّيّاً بعد الموت و تتفرّغ من الاشتغال بتدبيره بتمام معنى الكلمة، فتحصل على التجرّد اللاهوتيّ.
      يقول الشيخ وليّ الله الدِّهلويّ في «الهمعات»: لقد قيل لهذا الفقير بأنّ قطع علاقة الروح بالبدن سيحصل بعد الموت بخمسمائة سنة.
      وقال محيى الدين بن عربي في موارد عديدة: إن العين الثابتة ستبقى للسالك بعد البقاء بالمعبود أيضاً.
      وليس في هذا منافاة مع كون الإنسان اسماً إلهيّاً أعظماً، لأنّ الإنسان من بين جميع الموجودات و من ضمنها الملائكة هو الاسم الأعظم. غاية الأمر أنّه يكتسب بالبدن جميع المراتب، عدا مرحلة واحدة من حصول التجرّد التامّ الكامل (حتّى التجرّد من العين الثابتة و الشوائب الإمكانيّة)، فإنّها تحصل له بعد الموت.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

44
  • مع الحياة الجامعة الأبدية، و المادّة و الجسميّة من عالَم الكون،

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

45
  • و كلُّ كونٍ يتبعه الفساد: {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، و وجه كلّ شي‌ء هو الجهة التي يواجه بها الآخرين و يظهر بها و يتجلّى، فوجهُ كلّ أحد هو مظهره. و من جملة ما يلزم كلّ شي‌ء عدا مظاهر الصفات و الأسماء الإلهيّة هلاكه و بواره. و قد تيسّر لكثير من النفوس الكاملة أمر الوصول إلى شمّة من العلوم و المعارف، بَيدَ أنّه لم يرشح لهم من عين الحكمة رشحة و لا قطرة. و ينبوع الحكمةإشارة إلى مبدأ جميع الفيوضات و منبع الكمالات.

  • مقام مظهريّة الانوار الإلهيّة

  • فمن جملة المراتب العليّة لهذا العالَم، مظهريّة الأنوار الإلهيّة التي لا يطرأ عليها الهلاك و البوار بنصّ القرآن الكريم.۱

  • الإحاطة الكلّيّة بالعوالم الإلهيّة

  • و من جملة المراتب: الإحاطة الكلّيّة بالعوالم الإلهيّة على‌

    1. سواء عددنا الضمير في «وجهه» في الآية الكريمة: كُلُّ شَيْ‌ءٍ هَالِكٌ إلِّا وَجْهَهُ عائداً إلى الله تعالى أو إلى الشي‌ء، فإنّ المعنى سيكون واحداً في كِلا الحالَين، و هو أنّ جميع الموجودات ستفنى إلّا وجه الله، و هو الأسماء الإلهيّة التي تظهر بها الموجودات و تتجلّى، أو وجه الأشياء، الذي يعني أيضاً بقاء جانب مظهريّة الله تعالى فيها.
      ويُلاحَظ في الآية الكريمة: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَ الإكْرَامِ أنّ صفة «ذو الجلال و الإكرام» هي باعتبار رفعها صفةإلى «وجه» و ليست صفة إلى «ربّك». و بناء على ذلك فلا هلاك و لا بوارلوجه الله تعالى الذي هو أسماؤه و صفاته، و المتّصف بالجلال و الإكرام. وَ أيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

46
  • قدر القابليّات الإمكانيّة، لأنّ الحكمة علمٌ حقيقيّ عارٍ من الشوائب و الشكّ، و هو ممّا يتعذّر حصوله بدون الإحاطة الكلّيّة، تلك الإحاطة التي من شأنها الاطّلاع على الماضي و المستقبل و التصرّف في موادّ الكائنات، إذ المحيط يحصل على التسلّط الكامل على المُحاط و يحضر في كل مكان و يصاحب كلّ موجود، إلّا أن يمنعه الاشتغال بأُمور البدن.

  • و حصول جميع هذه المراتب منوط بترك تدبير البدن. و سائر درجات هذا العالَم و فيوضاته ممّا لا حدّ له و لا نهاية، و بيان ذلك غير ميسور. و أمّا عالَم الخلوص و الإخلاص:۱

    1. اعلم بأنّ عالَم الخلوص و الإخلاص يعني عالم الطهارة و النزاهة، و أنّه عالَم المخلَصين (بالفتح)، و هم فوق المخلِصين (بالكسر)، إذ على العبد أن يُخلَص أوّلًا كي يصبح خالصاً. و لذا فإنّ عالَم إخلاص العبد و عالَم خلوصه عالَمان مختلفان. أمّا و قد عدّ المصنّف رحمة الله عليه الإخلاص و الخلوص عالَماً واحداً و اعتبر هاتَين الكلمتَين بمثابة عطف تفسير على بعضهما، فإنّ مراده إخلاص الربّ و ليس إخلاص العبد الذي هو فِعل العبد، بل أراد به إخلاص الربّ الذي هو فِعل الله تعالى، و نتيجته و حاصله إخلاص العبد. و بناءً على ذلك فإنّ العبد إذا ما أخلص، فإنّ الله تعالى سيخلصه في المرحلة التالية، و هذا الإخلاص هو الخلوص الذي عنوانه فِعل الله، و هما متلازمان و متقارنان، و لذا فقد قال المصنّف: عالَم الخلوص و الإخلاص.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

47
  • الفَصْل الثّالِث: الدُّخُولُ في عَالَمِ الخُلُوصِ وَ المَعْرِفَةِ

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

49
  • أقسام الخلوص والإخلاص‌

  • فاعلمْ أنّ الخلوص و الإخلاص على نوعَين:

  • الأوّل: خلوص الدِّين و الطاعة للّه تعالى.

  • الثاني: خلوصه للّه تعالى.

  • و يشير إلى الأوّل الآية الكريمة: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، و هذا النوع يحصل في بدايات درجات الإيمان، و هو ممّا يلزم على كلّ أحد تحصيله، إذ العبادة فاسدةٌ بدونه، و هو أحد مقدّمات الوصول إلى النوع الثاني.

  • و يُشير إلى الثاني قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، فقد جعل الخلوص لذات العبد، بينما جعلته الآية الاولى للدِّين، وعدّت العبد مُخلصاً له.

  • كما يُشير إلى النوع الثاني حديث: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ، أي أخلص نفسَه. و أوّلهما بصيغة الفاعل و ثانيهما بصيغة المفعول.

  • و هذا النوع من الخلوص مرتبة وراء مرتبتَي الإسلام و الإيمان، و مرتبة لا تُدرَك إلّا يَنظُر الله إلى صاحبها بعين عنايته، و ليس الموحِّد الحقيقيّ إلّا صاحب هذه المرتبة. و ما لم يدخل‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

50
  • السالك في هذا العالَم، فإنّ أذياله لن تنقى من أشواك الشِّرك، {وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ‌} [الآية ۱۰٦، من السورة ۱٢: يوسف‌]، و المناصب الثلاثة ثابتة معاً لصاحب هذه المرتبة بنصّ كتاب الله تعالى:۱

  • الاولى: أنّه يُعفي من حساب الحشر الآفاقيّ‌٢، و من الحضور في تلك العرصة: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}‌ [الآيتان ۱٢۷ و ۱٢۸، من السورة ٣۷: الصافّات‌]، لأنّ هذه الطائفة بعبورها من القيامة العظمى الأنفسيّة قد أدّت حسابها، فلا حاجةَ لمحاسبتها من جديد.

    1. اعلم أنّ القرآن الكريم نصّ على منصب آخر غير هذه المناصب الثلاثة، و هو خروجهم من سلطة الشيطان، و أنّه لا يطمع في إغوائهم، فقد ورد في سورة الحِجر، الآيتين ٣٩ و ٤۰: وَ لأغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، و جاء في سورة ص، الآيتين ۸٢ و ۸٣: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
      ولكن لمّا كان المنصب الأوّل الذي ذكره المصنّف (و هو إعفاؤه من حساب الحشر) يستلزم عدم تسلّط الشيطان، فإنّه لم يعُدّ هذا المنصب على حِدة.
    2. و يُعفي كذلك من حساب الحشر الأنفسيّ، فقد أعقبه بقوله: لأنّ هذه الطائفة قد أدّت حسابها بعبورها من القيامة العظمى الأنفسيّة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

51
  • الثانية: أنّ كلّ فردٍ إنّما ينال ما ينال من الثواب و السعادة على قدر عمله، إلّا هذا الصنف من العباد الذين ينالون من الإكرام و اللطف ما لا يُدركه العقل، و فوق جزاء أعمالهم: {وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}‌ [الآيتان ٣٩ و ٤۰، من السورة ٣۷: الصافّات‌].

  • الثالثة: أنّ هذه مرتبة عظيمة و مقام كريم، و فيه إشارة إلى مقامات رفيعة و مناصب منيعة، و هي أنّه سيُثني على الله بما هو أهلُه من الثناء: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‌} [الآيتان ۱٥٩ و ۱٦۰، من السورة ٣۷: الصافّات‌]، أي أنّه يتمكّن من الثناء على الله تعالى بما يليق بساحته و يعرف صفات كبريائه، و هذه هي غاية مرتبة المخلوق، و نهاية منصب الممكن‌۱. و ما لم تظهر ينابيع الحكمة بأمر الله الكريم في‌

    1. اعلم أنّ المصنّف رحمه الله اعتبر أنّ الغاية هي عالَم ظهور ينابيع الحكمة، أي البقاء بالله تعالى، و عيّن سير الأربعين لبلوغ هذا الهدف في عالَم الخلوص. و على السالك أن يدخل عالَم الخلوص (و هو مقام المُخلَصين)، و ينال ثلاثة مناصب رفيعة عيّنها له، ثمّ يسير مدّة أربعين كاملة في هذا العالَم ليبلغ مقام ظهور الينابيع و البقاء بالله تعالى. و لمّا كان الدخول في عالَم الإخلاص يعني الدخول في عالم الوجوب و اللاهوت، فقد عبّر عن ورود هذا العالَم بأنّه غاية مرتبة المخلوق و نهاية منصب الممكن، على الرغم من أنّ الفاصلة بين هذا المنصب و بين درجة الكمال (و هو عالَم البقاء و الظهور) تعادل أربعين منزلًا، و لذا فإنّه لم يُعبّر عن ورود عالَم الخلوص بعالَم ظهور ينابيع الحكمة على اللسان، حيث إن ظهور ينابيع الحكمة في عالَم الخلوص إنّما يحصل في أرض القلب، و بعد طيّ الأربعين و البلوغ بجميع مراتب القابليّات إلى فعليّتها، فإنّ الخلوص سيجري من القلب على اللسان.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

52
  • القلب، فإنّ العبد لن يتمكّن من تناول هذه الجرعة، و ما لم يطوِ مراتب عالَم الممكنات و يتطلّع ببصره إلى مملكة الوجوب و اللاهوت، فإنّه لن يتمكّن من بلوغ هذه المرتبة.

  • خصائص ومقامات الواصلين إلى الخلوص الذاتيّ‌

  • بلى، ما لم يطوِ مملكة الإمكان فإنّه لن يتمكّن من أن يطأ بأقدامه بساط «عِندَ ربِّهم»، و لا أن يرتدي لباس الحياة الأبديّة، أمّا العباد المُخلَصين فإنّهم نالوا عطاء الحياة الأبديّة، و هم حاضرون عند ربّهم: {وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}‌ [الآية ۱٦٩، من السورة ٣: آل عمران‌]، و رزقهم هو الرزق المعلوم الذي ذكره تعالى في حقّ المُخلَصين: {أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ}‌۱ [الآية ٤۱، من السورة ٣۷: الصافّات‌]، و القتل في‌

    1. صفة «معلوم» التي جِي‌ء بها كصفةٍ للرزق ليس لها معنى مشخّص و مقدّر في مقابل غير المقدّر و الخارج عن الحدّ و الحصر، بل استُعملت من أجل بيان أهمّيّة هذا الرزق و التأكيد على أهمّيّته، في مقابل غير المعلوم الذي يعني التافه و غير المهمّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

53
  • سبيل الله إشارة إلى هذه المرتبة من الخلوص، و هذان الرزقان متّحدان۱ و مقارنان للكون عند الربّ، و هو تعبير آخر عن القُرب الذي هو حقيقة الولاية، و هي مصدر و أصل شجرة النبوّة: أنَا وَ عليّ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ٢، و النبوّة متفرّعة منها و مولودة منها. بل تلك نورٌ و هذه شُعاع، و تلك وَجهٌ و هذه صورة، و تلك عَيْنٌ و هذه أَثَر، إذ الوليّ مُخاطَب بخطاب: أقْبِلْ، و النبيّ مخاطب بخطاب: أدْبِرْ بَعْدَ أقْبِلْ. فالنبوّة لا تتحقّق بدون الولاية، أمّا الولاية فتتحقّق بدون النبوّة.٣

    1. يعني «رزق معلوم» و رزق «أحياء عند ربّهم».
    2. وردت هذه الرواية في «بحار الأنوار» ج ٩، ص ٣٣٤، نقلًا عن «كشف الغمّة»، و جاء في «أمالى الطوسيّ» ص ٣٣۸:
      يَا عليّ خَلَقَ اللهُ النَّاسَ مِنْ أشْجَارٍ شَتَّى، وَ خَلَقَنِي وَ أنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، أنَا أصْلُهَا وَ أنْتَ فَرْعُهَا، فَطُوبَى لِعَبْدٍ تَمَسَّكَ بِأصْلِهَا وَ أكَلَ مِنْ فَرْعِهَا.
      وأورد (القندوزيّ) في «ينابيع المودّة» ص ٢٣٥ و ٢٥٦، روايات في هذا الشأن.
      كلّ نبوّة متفرّعة عن الولاية إجمالًا
    3. لأنّ النبوّة تستلزم الوحي، و هو أعلى درجات المخاطبة بين الله تعالى و العبد بدون حجاب و لا واسطة، حيث قال:
      وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أوْ مِن وَّرَآءِ حِجَابٍ أوْ يُرْسِلَ رَسُولًا.
      وهذا النوع من التكلّم يحصل فقط في حال فناء العبد خلال تجلّيات الله، و هو ما يُدعى بالولاية. فكلّ نبوّة إذاً متفرّعة عن الولاية. بلى لا يلزم النبيّ أن يمتلك الولاية العامّة المطلقة، بل تكفي الولاية في الجملة في حصول مقام النبوّة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

54
  • و جاء في حقّ المُخلَصين: لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ.۱

  • و في كلام خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله:

  • رَأيْتُ رَبِّي لَيْسَ بَيْني وَ بَيْنَهُ حِجابٌ إلَّا حِجَابٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ

    1. المراد برداء الكبرياء: هو المقام الرفيع للذات و عظمتها و تجرّدها، و هو ما يفوق كلَّ اسم و رسم، لأنّ نهاية سير الإنسان هو الفَناء في اسم «أَحَد». و من الجليّ أنّ «أَحَد» اسم. و هذه هي نهاية التجرّد الإمكانيّ الذي سبقت الإشارة إليه. و أمّا المقام الذي يعلو هذا المقام، فهو التجرّد المحض المطلق، حتّى خارج أُفق الإمكان، بل خارج تقيّده و تعلّقه بالعين الثابتة. و هو أعلى من اسم «أحد» الذي سيحصل بعد الموت.
      والمراد بالياقوتة البيضاء مقام الأحديّة الذي يفوق كلّ ظهورٍ و تجلٍّ، و الذي يفوق في النورانيّة كلّ اسم، و الأقرب إلى الإطلاق. و المراد بالروضة الخضراء مقام ذات الأحد بملاحظة شؤون الوحدة في روضة الكثرة و مرج عالم الواحديّة. و المراد بالياقوتة البيضاء في الروضة الخضراء هو نقطة الوحدة بين قوسَي الأحديّة و الواحديّة، و هو ذروة المقامات، إذ هو في عين الفَناء في الأحديّة حائزٌ لمقام الواحديّة. و قد جاء في كلام محيى الدين بن عربي في الصلاة على رسول الله: نُقْطَةُ الوَحْدَةِ بَيْنَ قَوْسَيِ الأحَدِيَّةِ وَ الوَاحِدِيَّةِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

55
  • بَيْضَاءَ في رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ.

  • و في كليهما حجابٌ واحد لا غير، على الرغم من أنّ الحُجب تختلف فيما بينها.

  • و في هذا بشارةٌ عظيمة للمُخلَصين، فقد تشرّفوا بشرف جوار سيّد المُرسَلين، و هذا عالَمٌ يفوق عالَم الملائكة المقرّبين، فقد سأل الرسول صلّى الله عليه و آله جبرئيل: هَلْ رَأيْتَ الرَّبَّ؟

  • قَالَ: بَيْنِي وَ بَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَاباً مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ وَاحِداً لَاحْتَرَقْتُ.۱ و لا يمكن أن يقال في حقّ المخلَصين أزيد من هذا، إذ تقصر العبارات عنه، و تعجز أفهام الخلق عن تحمّله.٢

  • قَالَ رَبُّ العِزَّةِ: أوْلِيَائِي تَحْتَ قُبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي.٣

  • يعني: لَا يَعْرِفُ عَوَالِمَهُمْ وَ دَرَجَاتِهِمْ غَيْرِي.

    1. جاء كلام جبرئيل في «مرصاد العِباد» ص ٦٥ و ۱۸٩ و ۱٩۱، و في رسالة «عشق و عقل» ص ٦٤ و ۸٤ و ٩٣، و في «عوارف المعارف» هامش ص ٢٢۸، عن «إحياء العلوم» ج ٤، بلفظ: لَوْ دَنَوْتُ انْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ.
    2. جاء في النسخة الفارسيّة: (محتمل، نسخه بدل) أي: احتماله بدل تحمّله.
    3. ورد هذا الحديث في «مرصاد العباد»، الباب ٣، الفصل ٩، ص ۱۱٦، و في الباب ٣، الفصل ۱۰، ص ۱٢٣، و في الباب الرابع، الفصل ٣، ص ۱٩۰، و في الباب ٥، الفصل ۸، ص ٢٦۸؛ و في «إحياء العلوم» ج ٤، ص ٢٥٦؛ و في «كشف المحجوب» للهويجريّ ص ۷۰، طبعة لينينغراد.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

56
  • نوعا القتل في سبيل الله‌

  • و كما عرفتَ فإنّ الوصول إلى هذا العالَم موقوفٌ على القَتْل في سَبيل الله تعالى.۱

  • و مادام العبدُ لم يُقتَل في هذا السبيل، فإنّه لن يدخل في عالم الخلوص للّه؛ و القتل عبارة عن قطع علاقة الروح بالبدن‌٢، ثمّ‌

    1. ما ذكره المصنّف رحمة الله عليه من هذه الفقرة إلى قوله: «و أمّا المنازل الأربعون لعالَم الخلوص» الذي سيرد في الصفحات التالية لا يتعلّق بعالَم الخلوص، بل بخصائص العوالم المتقدّمة على عالَم الخلوص، و سيأتي الحديث عنها مفصّلًا. أمّا و قد ذكر في هذا المجال أنّ الوصول إلى عالم الخلوص يتوقّف على القتل في سبيل الله تعالى، فإنّه أراد بيان شمّة من خصائص تلك العوالم، و من جملتها أحوال المنافقين التي تحدّث عنها مستطرداً.أمّا تفصيل القتل في سبيل الله بتمام مراتبه و مقدّماته من الجهاد و الهجرة و الإسلام و الإيمان بجميع درجاتها (و هي المقدمة للورود إلى عالَم الخلوص)، فسيذكرها فيما بعد في قوله «و أمّا تفصيل العوالم المتقدّمة على الخلوص».المراد بالقلب والروح في اصطلاح العرفاء
    2. اعلم أنّ المراد بالقلب في اصطلاح العُرفاء هو عالَم المثال و الملكوت، و أنّ المراد بالروح هو عالَم العقل و الجبروت، قال حافظ رحمة الله عليه:
      دردم از يار و درمان نيز هم‌***دل فداي او شد و جان نيز هم‌
      يقول: «إن سقمي و شفائي كلاهما بِيَدِ الحبيب، و قد فديت له القلب‌و الروح معاً». حيث إن المراد بالقلب و الروح: المثال و العقل. و قال أيضاً في «ساقي نامه» (= رسالة الساقي»:
      در خاكروبانِ ميخانه كوب‌***رهِ ميفروشان ميخانه روب‌
      مكر آب و آتش خواصت دهند***ز هستي به مستي خلاصت دهند
      كه حافظ چه بر عالَم جان رسيد***چه از خود برون شد، به جانان رسيد
      يقول: «اقرع أبواب كنّاسي الحانة، واكنس طريق بائعي الخمرة.فعسى يسقيك الخواصّ ماءً و ناراً، و يخلّصونك من الوجود إلى السُّكر.ولقد بلغ حافظ عالم الروح و الخلود، فقد خرج من وجوده فوصل إلى المحبوب».حيث إن المراد بـ «عالَمِ جانْ» (= عالم الروح): عالم العقل و الجبروت، و المراد بـ «جانان» (= الحبيب): عالَم اللاهوت.ولذ فإنّ مراد المصنّف رحمة الله عليه بقطع علاقة الروح بالبدن هو قطع علاقة الجبروت و العقل بالبدن. و مراده بقطع علاقة روح الروح بالروح هو قطع علاقة اللاهوت بالعقل و الجبروت، و يعني الوصول إلى روح الروح.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

57
  • قطع علاقة روح الروح بالروح، حيث إن الموت عبارة عن انقطاع تلك العلاقة.

  • أحكام ومراحل الجهاد

  • وقطع العلاقة على نوعين: الأوّل بالسيف الظاهر، و الآخر بالسيف الباطن. و المقتول واحد في كلا الحالَين، أمّا القاتل فهو

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

58
  • في النوع الأوّل جيش الكُفر و الشيطان، و في النوع الثاني جُند الرحمن و الإيمان. و مورد السيف في كلا القتلَين واحد (و هو أركان عالَم الطبيعة)، لكن أحد الضاربَين بالسيف مَلوم و مستحقّ للعقاب، و الآخر مرحوم و مُثاب: إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.۱

  • و لمّا كان القتل في سبيل الله بالسيف الظاهر مثالًا متنزّلًا من القتل بسيف باطن الباطن كما سيأتي ذِكره فيكون ظاهر المراد بالقتل في سبيل الله حيثما ورد في القرآن الكريم هو القتل بالسيف الظاهر، و باطنه القتل بسيف الباطن، و باطن باطنه القتل بسيف باطن الباطن، و تلك مرحلة أخرى اشير إليها: إن‌ لِلْقُرْآنِ ظَهْراً وَ بَطْناً، وَ لِبَطْنِهِ بَطْناً إلى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ.٢

    1. روى هذا الحديث في «مصباح الشريعة» ص ٦ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و في «مُنية المريد» ص ٢۷ عنه صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ و نقله المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱٥، القسم الثاني، الإيمان و الكُفر، ص ۷۷، عن «مصباح الشريعة» و «غوإلى اللئإلى»، و في ص ۷۸، عن «مُنية المريد».
    2. نقل هذا الحديث العامّة كما هو مصرّح به في المقدمة الرابعة من «تفسير الصافي» ج ۱، ص ۱۸.
      أمّا الخاصّة، فقد وردت في هذا الباب روايات عديدة، منها ما ورد في «بحار الأنوار» ج ۱٩، ص ٥، عن «تفسير العيّاشيّ» عن الإمام الصادق عليه‌السلام و عن «نوادر الراونديّ» عن الإمام الكاظم عليه‌السلام،
      ظاهر القرآن وباطنة
      عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
      أَيُّهَا النَّاسُ! إنَّكُمْ في زَمَانِ هُدْنَةٍ... إلى أن قال: وَ لَهُ (أي للقرآن) ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ، فَظَاهِرُهُ حِكْمَةٌ، وَ بَاطِنُهُ عِلْمٌ. ظَاهِرُهُ أنِيقٌ، وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ. لَهُ نُجُومٌ وَ عَلَى نُجُومِهِ نُجُومٌ.
      وروى في ص ٢٤ عن «المحاسن»، و في ص ٢٥ عن «العيّاشيّ» عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال:
      يَا جَابِرُ! إن لِلْقُرْآنِ بَطْناً، وَ لِلْبَطْنِ بَطْنٌ؛ وَ لَهُ ظَهْرٌ، وَ لِلظَّهْرِ ظَهْرٌ...
      وفي ص ٢٦ عن «بصائر الدرجات» عن فضيل بن يسار قال:
      سَألْتُ أبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مَا مِنَ القُرْآنِ إلَّا وَ لَهُ ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ...
      فَقَالَ: ظَهْرُهُ تَنْزِيلُهُ، وَ بَطْنُهُ تَأْوِيلُهُ...

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

59
  • و لهذا عُبِّر في القرآن الكريم عن كِلا القتلَين بالجهاد و المجاهدة، قال تعالى:

  • {انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}‌ [الآية ٤۱، من السورة ٩: التوبة]، و قال تعالى: {وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} [الآية ٦٩، من السورة ٢٩: العنكبوت‌]؛ و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأصْغَرِ إلى الجِهَادِ الأكْبَرِ.۱ و الأصغر هو مِثال و أُنموذج للأكبر، و جميع‌

    1. نقل المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٢، ص ٤٢، أنّ لفظ «رجعنا» قد ورد في «جامع الأخبار».
      هذا، و نُقلت هذه الرواية عن ثلاثة من الأئمّة: فقد نقلت أوّلًا عن
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

60
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الإمام الصادق عليه‌السلام، حيث جاءت في «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٤٤٣، نقلًا عن «الكافي» بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام:
      إن النبيّ بَعَثَ بِسَرِيَّةٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ: مَرْحَباً بِقَوْمٍ قَضَوُا الجِهَادَ الأصْغَرَ وَ بَقِيَ الجِهَادُ الأكْبَرُ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَا الجِهَادُ الأكْبَرُ؟ قَالَ: جِهَادُ النَّفْسِ.
      ثمّ قال في البحار: «نوادر الراونديّ» بإسناده عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام مثله.
      ونُقلت ثانياً عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، حيث وردت في «البحار» ج ۱٥، القسم الثاني، ص ٤۰، نقلًا عن «معاني الأخبار» و «الأمالي» للشيخ الصدوق، الذي روى بإسناده عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين، عن رسول الله عليهما الصلاة و السلام... ثمّ نقل الروايات المذكورة، و زاد بعد لفظة «بقي» لفظة «عليهم»، و زاد في آخر الرواية هذه الجملة: ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أفْضَلُ الجِهَادِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ. ثمّ قال في «البحار»: و في «الاختصاص» عنه عليه‌السلام مثله. و في «نوادر الراونديّ» بإسناده عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام، عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم مثله إلى قوله «جِهاد النفس». يعني أنّ عبارة الراونديّ لا تحتوي على تلك الإضافة.
      هذا، و عند الرجوع إلى «معاني الأخبار» ص ۱٦۰، طبع المطبعة الحيدريّة، سنة ۱٣۷٩ ه، فقد لاحظنا أنّه بعد نقله الرواية بنفس اللفظ الذي ذكره المجلسيّ قد ذيّلها بلفظ «عليه‌السلام» بدلًا من حرف «ص» المستعمل كاختصار لعبارة «صلّى الله عليه و آله و سلّم»، ممّا يُدلّل على أنّه اعتبر الرواية للإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام، و هو أقرب إلى الحقيقة، لأنّ الرواية التي نُقلت سابقاً عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام لا تضمّ هذه الإضافة، و يُمكن أن يكون الإمام الكاظم عليه‌السلام قد فاه بهذه الجملة ليوضِّح للراوي كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
      ونُقلت ثالثاً عن الإمام الرضا عليه السلام، نقلًا عن «فِقه الرضا». قال المجلسيّ في ص ٤۱ من القسم الثاني المذكور:
      يُرْوَى أنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ رَأى بَعْضَ أصْحَابِهِ مُنْصَرِفاً مِنْ بَعْثٍ كَانَ بَعَثَهُ، وَ قَدِ انْصَرَفَ بِشُعْثِهِ وَ غُبَارِ سَفَرَهِ وَ سِلَاحُهُ عَلَيْهِ، يُرِيدُ مَنْزِلَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: انْصَرَفْتَ مِنَ الجِهَادِ الأصْغَرِ إلى الجِهَادِ الأكْبَرِ. فَقِيلَ لَهُ: أوَ جِهَادٌ فَوْقَ الجِهَادِ بِالسَّيْفِ؟ قَالَ: نَعَمْ، جِهَادُ المَرْءِ نَفْسَهُ.
      وقد وردت هذه الرواية بهذا اللفظ في «إحياء العلوم» ج ٣، ص ٦.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

61
  • الأحكام المذكورة في الجهاد المُشار إليه لا تختصّ بأحد هذين الجهادَين، بل تشملهما كلاهما.

  • يُضاف إلى ذلك أنّ القتل الظاهر يتوقّف على الجهاد الأصغر، و هو الهجرة إلى الرسول، ثمّ معه؛ و الهجرة متوقّفة على الإيمان، و الإيمان على الإسلام، و تحقّقه بدون هذا الترتيب متعذّر. و كذلك الأمر بالنسبة إلى القتل بالسيف الباطن، الذي يتوقّف على الجهاد الأكبر، و هذا متوقّف على الهجرة إلى الرسول، ثمّ معه، و هذا على الإيمان، و الإيمان على الإسلام.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

62
  • فالفوز بالدرجات المنيعة، و بلوغ المراتب الرفيعة لا يمكن تصوّره بغير طيّ هذه المراحل العظيمة، قال تعالى في كتابه الكريم:

  • {الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‌} [الآيات ٢۰ إلى ٢٢، من السورة ٩: التوبة].

  • مراحل الجهاد الأصغر

  • المرحلة الاولى: الإسلام، و هو عبارة عن التفوّه بالشهادتَين، و هي الفاصل بين الكافر و المسلم.

  • المرحلة الثانية: الإيمان‌۱، و هو عبارة عن العِلم بمؤدّى الشهادتَين، الفاصل بين المؤمن و المنافق، إذ المنافق هو الذي تختلف سريرته عن علانيته.

    1. يروي الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٥٢، بإسناده عن حمران بن أعين قال: سمعتُ أبا جعفر عليه‌السلام يقول: إن اللهَ فَضَّلَ الإيمَان عَلَى الإسْلَامِ بِدَرَجَةٍ، كَمَا فَضَّلَ الكَعْبَةَ على المَسْجِدِ الحَرَامِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

63
  • فمادام القلب غير مستضي‌ء بمشاهدة معنى ما يلفظه اللسان (أي فاقداً للإيمان)، كان المرء منافقاً. و أمّا تشخيص المنافقين من قِبل الآخرين، فيحصل بالآثار و العلامات الدالّة على عدم الاعتقاد بما يتلفظون به، لأنّ مقتضى الشهادتَين هو العِلم بوحدانيّة المعبود و صِدق كل ما جاء به الرسول، و أثر ذلك في الظاهر هو ترك عبادة غير الواحد و إطاعة كلّ ما جاء به الرسول. فمَن عبد سوى الله كان منافقاً. و قد يكون المعبود الهوى: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ}‌ [الآية ٢٣، من السورة ٤٥: الجاثية]، و قد يكون إبليس: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ‌} [الآية ٦۰، من السورة ٣٦: يس‌]. و جليّ أنّ هذا الاستنكار ليس موجّهاً لمَن يعبد الشيطان، إذ لم يُعهَد مثل هذا المذهب لدى البشر، بل لمن يتبع الشيطان. فمَن تبع الشيطان، فإنّه سيكون قد عبده.

  • و قد يكون المعبود شخصاً آخر، يعبده طمعاً في ماله أو جاهه، و قد يكون الدرهم و الدينار و غير ذلك‌۱. الشرح فمَن تبعها في‌

    1. المؤمن هو الذي يعتقد بحصر الالوهيّة في الله تعالى قولًا و فعلًا و اعتقاداً و سرّاً و علانيةً، إذ لا إله إلّا الله: هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (الآية ٦٥، من السورة ٤۰: غافر)، و لذا نهت الشريعة عن اتّخاذ أيّ نوع من الآلهة: وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ (الآية ۸۸، من السورة ٢۸: القصص)، سواء كان الإله صنماً غير شاعر و لا مُدرك، كما فعل قومُ موسى حين طلبوا مثل هذا الإله: قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (الآية ۱٣۸، من السورة ۷: الأعراف)؛ أو كان إبليساً، أو هوى النفس (و هو من جُند إبليس و آلته المسيّرة) أو إنساناً آخراً طمعاً في ماله أو جاهه، أو خوفاً منه، كما كان فِرعون يعتبر نفسَه إلهاً و يدعو موسى إلى العبوديّة له: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (الآية ٢٩، من السورة ٢٦: الشعراء)؛ أو طمعاً في الجنّة و بلوغ المقامات أو الغفران، كما فعل النصارى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ (الآية ٣۱، من السورة ٩: التوبة)؛ أو الأموال و الأولاد، حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (الآية ٩، من السورة ٦٣: المنافقون)، لأنّ كلّ ما يُلهي الإنسان عن الله تعالى سيكون إلهاً له، سواء ألهاه زوجته أو بطنه. قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في وصاياه لابن مسعود في صفة قوم آخر الزمان: مَحَارِيبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، وَ آلِهَتُهُمْ بُطُونُهُمْ. («مكارم الأخلاق» للطبرسيّ، ص ٢٤٩).

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

64
  • غير رضا الله تعالى، فقد عبدها.

  • معيار معرفة المنافق من المؤمن‌

  • و من ترك ما جاء به الرسول بغير سهوٍ أو خطأ أو نسيان فقد انتمى إلى زمرة المنافقين، حيث جاء في الحديث الذي رفعه محمّد بن خالد إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: فَاعْتَبِرُواإنْكَارَ

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

65
  • الكَافِرِينَ وَ المُنَافِقِينَ بِأعْمَالِهِمُ الخَبِيثَةِ.۱

  • و لو هاجر مثل هذا الشخص و جاهد، فإنّ هجرته لن تكون هجرة إلى الرسول، و جهاده لن يكون جهاداً في سبيل الله، فقد قال صلّى الله عليه و آله و سلّم: من كانت هجرته إلى الله و رسوله، فهجرته إلى الله و رسوله، و من كانت هجرته إلى امرأة مصيبها أو غنيمة يأخذها، فهجرته إليها.٢

    1. جاء كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ذيل حديث حول معنى الإسلام، و سنذكر تمام الحديث لاحقاً في حاشية الصفحة التي تكلّم فيها المصنّف عن الإسلام الأكبر.
      حديث إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
    2. جاء هذا الحديث في «منية المريد» ص ٢۷، طبعة النجف، و ورد في «بحار الأنوار» ج ۱٥، القسم الثاني (في الأخلاق)، ص ۸۷، نقلًا عن «منية المريد». قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَ إنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَ رَسوُلِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَ رَسُولِهِ؛ وَ مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ.
      ثمّ قال المرحوم الشهيد الثاني ناقل هذا الحديث:
      وَ هَذَا الخَبَرُ مِنْ أُصُولِ الإسْلَامِ وَ أحَدُ قَوَاعِدِهِ وَ أوَّلُ دَعَائِمِهِ. قِيلَ: وَ هُوَ ثُلْثُ العِلْمِ. وَ وَجَّهَهُ بَعْضُ الفُضَلَاءِ بِأنَّ كَسْبَ العَبْدِ يَكُونُ بِقَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ وَ بَنَانِهِ، فَالنِّيَّةُ أحَدُ أقْسَامِ كَسْبِهِ الثَّلَاثِ، وَ هي أرْجَحُهَا، لأنَّهَا تَكُونُ عِبَادَةً بِمُفْرَدِهَا (بانفرادها)، بِخِلَافِ القِسْمَيْنِ الآخَرَيْنِ. وَ كَانَ السَّلَفُ وَ جَمَاعةٌ مِنْ تَابِعِيهِمْ يَسْتَحِبُّونَ اسْتِفْتاحَ المصَنَّفَاتِ بِهَذَا الحَدِيثِ تَنْبِيهاً لِلْمُطَّلِعِ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ وَ تَصْحِيحِهَا وَ اهْتِمَامِهِ بِذَلِكَ وَ اعْتِنَائِهِ بِهِ انتهى كلامُه رحمه الله.
      كما وردت هذه الرواية في «البحار» ج ۱٥، الجزء ٢، ص ۷۷، نقلًا عن «غوالى اللئالى». بَيدَ أنّ هذا الحديث ليس موجوداً في كتب أُصول أحاديث الشيعة، و معلوم أنّ المرحوم الشهيد الثاني و ابن أبي جمهور الأحسائيّ و كان من دأبهما الاستفادة من الروايات الأخلاقيّة الواردة في كتب العامّة قد نقلاها من كتب العامّة.
      وقد وردت هذه الرواية في أُصول العامّة، حيث وردت في «صحيح البخاريّ» كتاب الإيمان، ج ٢، ص ٢۰؛ و في كتاب العتق ص ۸۰؛ و في ج ٢، كتاب مناقب الأنصار، ص ٣٣۰؛ و في ج ٣، كتاب النكاح، ص ٢٣۸؛ و في ج ٤، كتاب الأيمان و النذور، ص ۱٥۸؛ و أوردها كذلك: مسلم في «الصحيح» ج ٦، كتاب الإمارة، ص ٤۸؛ و النسائيّ في «السنن» ج ۱، كتاب الطهارة، ص ٥٩؛ و في ج ٥، كتاب الطلاق، ص ۱٥٩؛ و في ج ۷، كتاب الإيمان، ص ۱٢، كلاهما بإسنادهما عن يحيى بن سعيد، عن علقمة بن الوقّاص، عن عمر بن الخطّاب (بأدنى اختلاف في اللفظ).
      وروى أيضاً الترمذيّ في باب «فضائل الجهاد»؛ و ابن ماجة في كتاب الزهد؛ و أحمد بن حنبل في «المسند» ج ۱ (حسب نقل المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبويّ)، قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَ إنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَ رَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَ رَسُولِهِ؛ وَ مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

66
  • و حيث علمتَ أنّ الجهاد الأصغر مثال للجهاد الأكبر، علِمتَ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

67
  • أنّ هذا الفصل و الانفصال موجودان في الجهاد الأكبر أيضاً، و أنّ المنافقين موجودون في هذه المراحل أيضاً.

  • و باعتبار اشتراك كلا الجهادَين في المرحلتَين الاولتَين: الإسلام و الإيمان، عدا بعض المراتب و الدرجات التي سيُشار إليها فيما بعد، فإنّ الفاصل بين المؤمن و المنافق من هؤلاء المجاهدين هو الإيمان أيضاً.

  • و باعتبار أنّ الإيمان الواقع في مراحل الجهاد الأكبر أشدّ من الإيمان الواقع في الجهاد الأصغر كما سيُعلَم فيما بعد فإنّ الملازمة بين مقتضى الشهادتَين لدى المجاهدين في هذا الطريق ستكون أكثر ضرورة و عمليّة، و أنّ الشخص لو تخلّف أدنى تخلّف عن مقتضى أحدهما، فإنّه سيدخل في مسلك المنافقين.

  • و لهذا السبب فإنّ سالكي طريق الله تعالى إذا شاهدوا لدى أحد تخطّياً لظاهر الشريعة و لو قَيْد شعرة، لم يعدّوه سالكاً، بل كاذباً مُنافقاً.

  • و إلى هذا يُشير ما رواه ثقة الإسلام بسنده المتّصل عن مِسمَع ابن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَا زَادَ خُشُوعُ الجَسَدِ عَلَى خُشُوعِ القَلْبِ،

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

68
  • فَهُوَ عِنْدَنَا نِفَاقٌ.۱

  • و كما أنّ منافقي الجهاد الأصغر هم الذين هاجروا مَعَ الرَّسُولِ‌ خوفاً من بأسه، أو طمعاً في غنيمة، أو رجاء الظفر بما يحبّون، و لم تكن هجرتهم للّه و في الله، و لا لمحاربة أعداء الله و استئصالهم. و أمثال هؤلاء ظواهرهم في ميدان الجهاد، أمّا بواطنهم ففي تحصيل المشتهيات أو دفع العقوبة و النقمة؛ فإنّ منافقي الجهاد الأكبر هم الذين ليست مجاهدتهم من أجل كسر سَورة القوى الطبيعيّة، و تسليط القوّة العاقلة عليها، و من أجل تخليص أنفسهم للّه تعالى في سبيله. ٢

    1. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٣٩٦، بلفظ «على ما في القلب».
    2. اعلم أنّ كثيراً من كلمات العرفاء و علماء الأخلاق ذكرت بأنّ التسلّط على عالَم المِثال و العقل، و الورود في عالَم التوحيد متوقّفان على كسر صولة القوى الطبيعيّة و القضاء عليها. و كثيراً ما يفسّر هذا التعبير تفسيراً خاطئاً، فقد يمكن أن يُخال إلى البعض بأنّ بلوغ المراتب العالية و الدرجات الرفيعة أمر متعذّر مادامت القوى الطبيعيّة و النفس و الطبع و المادّة موجودة، و مادام المرء يعيش في عالَم الأكل و المشي في الأسواق؛ مع أنّ الأمر ليس كما يتصوّر، لأنّ نيل جميع المراحل العالية، و بلوغ عوالم ما وراء المادّة، و الوصول إلى مقام القلب و العقل و التوحيد المطلق، و تحقّق الموت الناسوتيّ و الملكوتيّ
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...).

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

69
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      والجبروتيّ، و التحقّق و العبور من القيامة الانفسيّة الصغرى و الوسطى و الكبرى أمر ممكن في هذه النشأة. و على الرغم من مباشرة المرء لُامور الزراعة و التجارة و النكاح، فإنّ بإمكانه من خلال مجاهدة النفس الأمّارة أن يجتاز جميع المراحل السالفة الذِّكر، و أن يطوي في هذا العالَم مراحلَ البرزخ و القيامة و سؤال مُنكَر و نكير و عوالم الحشر و النشر و السؤال و العَرض و الميزان و الصراط و الحساب و تطاير الكتب و الأعراف و الجنّة و الشفاعة و النار، و أن يرد الجنّة من دون حساب: فَاولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (الآية ٤۰، من السورة ٤۰: غافر)، و قد قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الحثّ عليه: مُوتُوا قَبْلَ أنْ تَمُوتُوا (ورد هذا الحديث في «مرصاد العباد» الباب ٤، الفصل ٢، ص ۱۷٩ و ۱۸٢؛ و في الباب ٤، الفصل ٢، ص ۱٩٣)؛ و يشير إليه أيضاً كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في «نهج البلاغة»: وَ أخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أنْ تُخْرَجَ مِنْهَا أبْدَانَكُمْ. و أكثر منها صراحة: الخطابات المعراجيّة المصدّرة بخطاب «يا أحمد! يا أحمد!»، التي خاطب بها الله تعالى رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم ليلة المعراج، و قد وردت مفصّلة في «بحار الأنوار» ج ۱۷، ص ٦ فما بعد؛ و من جملتها خطابه في شأن محبّي الله و أوليائه:
      قَدْ صَارَتِ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَةً، يَمُوتُ النَّاسُ مَرَّةً وَ يَمُوتُ أحَدُهُمْ في كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةٍ مِنْ مُجَاهَدَةِ أنْفُسِهِمْ وَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُمْ... (إلى أن قال): فَوَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لُاحْيِيَنَّهُمْ حَيَاةً طَيِّبَةً إذَا فَارَقَتْ أرْوَاحُهُمْ مِنْ جَسَدِهِمْ؛ لَا أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مَلَكَ المَوْتِ، وَ لَا يَلِي قَبْضَ رُوحِهِمْ غَيْرِي، وَ لأفْتَحَنَّ لِرُوحِهِمْ أبْوَابَ السَّمَاءِ كُلِّهَا، وَ لأرْفَعَنَّ الحُجُبَ كُلَّهَا دُونِي... (إلى أن قال): وَ لَا يَكُونُ بَيْنِي وَ بَيْنَ رُوحِهِ سِتْرٌ... (إلى أن قال): وَ أفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ وَ سَمْعِهِ حتّى يَسْمَعَ بِقَلْبِهِ وَ يَنْظُرَ بِقَلْبِهِ إلى جَلَالِي وَ عَظَمَتِي... (إلى أن قال): وَ أُسْمِعُهُ كَلَامِي وَ كَلَامَ مَلَائِكَتِي، وَ أُعَرِّفُهُ السِّرَّ الذي سَتَرْتُهُ عَلَى خَلْقِي...
      ولو عبّر العلماء عن هذا العبور و الأمر على هذه الكيفيّة بالعبور من عالَم الهوى و النفس الأمّارة، كان أفضل.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

70
  • و كما أنّ منافقي الصنف الأوّل في الظاهر ممّن يتفوّهون بالشهادتَين، و ممّن يسافرون بأبدانهم مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و يقاتلون الكفّار، و أنّ نفاقهم يُعرف بالآثار و العلامات و الإتيان بالأعمال المنافية لحقيقة الإيمان، و أنّهم لو أظهروا كلم الكفر دخلوا في زمرة الكفّار.

  • فإنّ منافقي الصنف الثاني الذين يتلبّسون في الظاهر بلباس سالكي سبيل الله تعالى، و يتشبّثون بإطراق الرأس و تنفّس الصعداء، و يرتدون اللباس الخشن أحياناً، و الصوف أحياناً، و يزاولون ختم الأربعينات، و يتركون أكل اللحم الحيوانيّ، و يمارسون الرياضات، و يلتزمون بالأوراد و الأذكار الجليّة و الخفيّة، و يتحدّثون حديث السالكين، و ينسجون معسول الكلام: {وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ}‌ [الآية ٤، من السورة ٦٣: المنافقون‌]، أمّا آثارهم و علاماتهم و أفعالهم و أعمالهم، فلا توافق‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

71
  • المخلصين، و لا تنطبق على المؤمنين. و علامتهم عدم ملازمة أحكام الإيمان، فهم في ذلك أكثر من نظرائهم من الصنف الأوّل.

  • فإن رأيتَ أحداً يدّعي السلوك، ثمّ لم تجده ملازماً للتقوى و الورع، متّبعاً لجميع أحكام الإيمان، و وجدته منحرفاً عن الصراط المستقيم للشريعة الحقّة و لو قيد شعرة، فاعلم أنّه منافق؛ إلّا أن يكون قد بدر منه ذلك بعذر أو خطأ أو نسيان.

  • و كما أنّ الجهاد الثاني هو الجهاد الأكبر بالنسبة إلى الجهاد الأوّل، فإنّ منافق هذا الصنف أشدّ نفاقاً من نظيره في الصنف الأوّل. و أنّ ما ورد في حقّ المنافقين في كتاب الله، فإنّ حقيقته ستكون لهؤلاء المنافقين بوجهٍ أشدّ.

  • {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ}‌ [الآية ۱٦۷، من السورة ٣: آل عمران‌]؛ {فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‌}[الآية ٤، من السورة ٦٣: المنافقون‌]؛ {إن‌ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [الآية ۱٤٥، من السورة ٤: النساء].

  • و من منافقي هذا الصنف فرقةٌ يسمّون أنفسهم مُجاهدين، و ينظرون إلى أحكام الشريعة نظر احتقار، و يعدّون الالتزام بها من شأن العوام، بل يعدّون علماء الشريعة أدنى منهم، و يخترعون من‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

72
  • عند أنفسهم أموراً، فيفضّلونها على ما سواها بوصفها سبيلًا إلى الله تعالى، و يظنّون أنّ الطريق إلى الله طريق وراء طريق الشريعة. و قد ورد في حقّهم:

  • {وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً}[الآيتان ۱٥۰ و ۱٥۱، من السورة ٤: النساء.]

  • و في حقّهم:

  • {وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‌ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [الآية ٦۱، من السورة ٤: النساء].

  • و ورد فيهم:

  • {فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا} [الآية ٦، من السورة ٦٤: التغابن‌].

  • و هم يصلّون و يصومون، لكن عن غير رغبة أو شوق؛ و يعبدون، و لكن عن غير خلوص نيّة؛ و يذكرون الله، و لكن لا على الدوام و الاستمرار. و قد أخبر الله تعالى عنهم:

  • {إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‌ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا،

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

73
  • مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‌ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‌ هؤُلاءِ} [الآيتان ۱٤٢ و ۱٤٣، من السورة ٤: النساء].

  • فاحذر لا يغرّنّك العبادة و الذِّكر القاصر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

75
  • الفَصْلُ الرَّابِع: السَّيْرُ في الْمَنَازِلِ الأرْبَعِينَ لِعَالَمِ الخُلُوصِ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

77
  • وأمّا المنازل الأربعون لعالَم الخُلوص

  • فالمراد بها طيّ منازل القابليّة و القوّة؛ و حصول هذه المرحلة إنّما يتمّ بحصول ملَكة الفعليّة التامّة، لأنّ مثل ظهور القوّة و بلوغها مرحلة الفعليّة كمثل الحطب و الفحم اللذان فيهما القوّة الناريّة، فإن قُرِّبا إلى النار زاد تأثير الحرارة فيهما، ثمّ يزداد التأثير آناً فآناً، حتّى تتحقّق الفعليّة فجأةً فيسودّ الحطب و الفحم، ثمّ يحمرّان فتلتهب فيهما النار. بَيدَ أنّ هذه هي بداية ظهور الفعليّة، حيث إنّها لم تتحقّق بعدُ بتمامها، بل لا تزال كامنة في باطن الفحم و الحطب. لذا فإنّ تلك الفعليّة الظاهرة قد تنتفي و تخمد بمجرّد هبوب ريح خفيفة، أو بالابتعاد عن النار، فتنطفئ تلك الناريّة العَرَضيّة مُنكفئة إلى حالتها الاولى.

  • فإن قربت النار من الفحم، و استمرّ قربها، زالت معه جميع آثار الفحميّة و الحطبيّة، و ظهرت معه جميع القوّة الناريّة، و تبدّلت القابليّة إلى الظهور و الفعليّة، و أضحى جميع باطن الحطب و الفحم ناراً، فإنّ الرجوع إلى الحطب و الفحم الاوليَين سيكون أمراً

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

78
  • ممتنعاً، و إن ناريّتها سوف لن تخمد بهبوب أيّة ريح، إلّا إذا فنيت النار و استحالت رماداً.

  • عدم كفاية مجرّد الدخول في عالم الإخلاص‌

  • و لذا فلا يكفي المجاهد السائر في طريق الدين، و السالك مراحل المخلصين، أن يدخل في عالمٍ ما و تظهر فعليّته فيه، إذ لا تزال بقايا العالَم السافل كامنة في زوايا ذاته، ممّا يجعله غير متجانس مع مطهّري العالَم الأعلى، و يجعل وصوله إلى فيوضاتهم و درجاتهم أمراً متعذّراً، بل يعرّضه في زمن قليل إلى العودة إلى العالَم السافل على إثر عقبة تعترضه أو زلّة بسيطة أو تكاهل يسير في الجهاد و السلوك:

  • {وَ نُرَدُّ عَلى‌ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ‌} [الآية ۷۱، من السورة ٦: الأنعام.]

  • و لقد كان أكثر صحابة سيّد المرسلين صلّى الله عليه و آله إذا حصل منهم مجاورة ظاهريّة و قُرب ظاهريّ منه صلّى الله عليه و آله، بدا في ظواهرهم نور الإيمان، لكنّ آثار الكفر و الجاهليّة كانت كامنة في بواطنهم، لم تُستأصَل بعدُ فيهم، فكانوا بمحض ابتعادهم عنه صلّى الله عليه و آله غلبت عليهم آثارهم الذاتيّة، وانطفأ في ظواهرهم نور الإيمان برياح حبّ الجاه و المال و الحسد و الحقد التي تعصف بهم:

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

79
  • {وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‌ أَعْقابِكُمْ‌} [الآية ۱٤٤، من السورة ٣: آل عمران‌].

  • و لهذا فإنّ الترك الظاهريّ للمعصية لا ينفع شيئاً في النجاة، بل ينبغي أن يترك ظاهره و باطنه:

  • {وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ‌} [الآية ۱٢۰، من السورة ٦: الأنعام.]

  • كما أنّ العوالم الواقعة في طريقَي الصعود و النزول أشبه بالليل و النهار و ساعات كلٍّ منهما، فما لم ينتهِ المتقدّم تماماً۱ و تبلغ‌

    1. إن ممّا لا يعتريه الشكّ أنّه ما لم تُطوَ جميع مراتب العالم الأسفل، فإنّ الصعود إلى العالَم الأعلى سيكون متعذّراً. بَيدَ أنّ هناك نكتتَين تستحقّان التأمّل:
      النكتة الاولى: أنّ الإقامة في العالَم الأعلى متوقّفة على الإقامة في العالَم الأسفل؛ أمّا محض الاطّلاع المؤقّت و حصول مجرّد حالٍ ما، و إدراك بعض خصائصه، متوقّف على الإقامة في العالَم الأسفل. فإذا أراد أحد أن يُقيم في عالَم العقل مثلًا فينبغي حتماً أن يكون قد تخطّى جميع مراحل عالَم المِثال. إلّا أنّه قد يمكن لمن لم يتخطَّ عالَم المثال بعد أن تظهر لديه بعض خصائص و آثار عالَم العقل في هيئة حالٍ يكون عليها؛ و الأمر كذلك بالنسبة إلى عالم العقل مع عالم اللاهوت.
      النكتة الثانية: أنّ عبور عالَم معيَّن لا يستلزم الاطّلاع على جميع آثار و خصائص ذلك العالَم؛ فكثيراً ما يحصل أن يتخطّى أفراد معيّنون عالَم المِثال دون أن تظهر لديهم المكاشَفات الصوريّة تفصيلًا، بل يُدركون بواسطة الرؤيا في المنام بعض الصور المثاليّة، أو تنكشف لديهم في المنام بعض الامور المثاليّة عن الماضي أو المستقبل؛ حيث نُقل عن المرحوم آية الحقّ الحاجّ الميرزا على القاضي رضوان الله عليه أنّه كان يقول:
      «إن المرحوم الشيخ زين العابدين السلماسيّ و كان من خواصّ المرحوم آية الله السيّد مهدي بحر العلوم و مقرّبيه كانت جميع مكاشفاته تحصل في المنام».
      وعلى أيّة حال، فإنّ عبور عالَم معيّن يستلزم حتماً الاطّلاع على آثار ذلك العالَم، و الكشف الإجمإليّ لخصائصه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

80
  • قابليّته مرحلة الفعليّة، فإنّ الوصول إلى العالَم المتأخّر سيتعذّر؛ و ما دامت ذرّة واحدة من المتقدّم موجودة، فإنّ الخطو في العالَم المتأخّر سيمتنع*۱

    1. * اعتبر سماحة الشيخ رضا الاستاديّ وفق ذوقه الخاصّ أنّ الكتاب الذي ألّفه المرحوم بحر العلوم ينتهي إلى هذا الحدّ؛ فقام بحذف باقي الكتاب. و على الرغم من أنّه نوّه في مقدّمة الكتاب بأنّه ليس من أهل السير و السلوك، إلّا أنّه ليس من الواضح أيّ سبب جعله يقوم بما قام به، و دفعه ليوقع بالكتاب هذه المُثلة. قال: لقد فعلت ذلك من باب الاحتياط. ولكن هل التصرّف في عبارات اأاعلام و الحذف و التنكيل ينسجم مع الاحتياط؟ أم أنّ طبع رسالة على هذه الاهمّيّة بمثل هذه الكيفيّة يوافق الاحتياط؟
      ولمّا كانت الرسالة المطبوعة بإشرافه قد نُشرت بعد الطبعة الاولى لهذه الرسالة، التي صدرت مع حواش و تعليقات للحقير، فقد ارتأيت كتابة هذه السطور لإطلاع الباحثين على حقيقة الأمر لتضاف إلى التعليقات في الطبعة الثانية.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

81
  • ...۱

    1. على الرغم من أنّ المصنّف رحمه الله قد ذكر ترتّب العوالم في الصعود و النزول ضمن بيانه مراتب عالَم الخلوص، إلّا أنّه ذكر هذا القانون كما هو الملاحَظ بصورة عامّة لجميع العوالم، سواء عوالم قبل الخلوص، أو مراتب العوالم بعد الخلوص./ ومن جملة ذلك: العوالم التي تسبق الخلوص، و هي عوالم المثال و العقل، و العبور من عوالم الطبيعة و المثال و العقل الذي ذكره المصنّف رحمة الله عليه ضمن العوالم الاثني عشر. أمّا بلحاظ ترتيبها فقد أقام المرحوم صدر المتألّهين البرهان عليه مفصّلًا، و قد بحث في شأنه المرحوم العارف الكامل الحاجّ الميرزا جواد المَلِكيّ التبريزيّ رحمة الله عليه في نهاية رسالة «لقاء الله» و برهن عليها. و جاء في الرسالة التي أرسلها إلى المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ قوله:
      وأمّا عن الفِكر للمبتدئ، فإنّه (يعني أُستاذه المرحوم الآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه) كان يقول: «فكِّر في الموت». إلى أن يفهم من حاله أنّه قد أصابه ما يشبه الدوار إثر المداومة على هذه المراتب، و أنّه قد حدثت لديه قابليّة على العموم، فيُلفِته آنذاك أو يلتفت بنفسه إلى عالم خياله. ثمّ إنّه يستمرّ في هذا الفِكر ليلَ نهار، ليفهم أنّ كلّ ما يتخيّله ويراه إنّما هو نفسه لا يتعدّاها؛ فإن صار له ذلك ملَكةً، فإنّه كان يأمره بتغيير الفِكر و بمحو جميع الصور و الموهومات و التفكير في العدم.
      فإن صار ذلك ملَكة للإنسان، فلابدّ أن يحصل له تجلٍّ لسلطان المعرفة... أي أنّه سيفوز بتجلّي حقيقته بنورانيّتها و انعدام صورتها وحدّها و كمال بهائها. فإن هو رآها في حال من الجَذْبة بعد طيّه طريق ترقّيات العوالم العلويّة كان أفضل... فإنّه مهما سار وَجَدَ أثره حاضراً. و نظراً لترتّب هذه العوالم التي يتوجّب على الإنسان طيّها، فإنّ عليه أوّلًا أن يرقى من عوالم الطبيعة إلى عالَم المِثال، ثمّ إلى عالَم الروح و الأنوار الحقيقيّة. و بطبيعة الحال، فإنّكم تستحضرون أفضل منّي البراهين العلميّة على الأمر... و يا للعجب... فقد صُرِّح بهذه المراتب في سجدة دعاء ليلة النصف من شعبان (و هو أوان وصول الرسالة) في قوله: سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَ خَيَإلِي وَ بَيَاضِي.
      وأساس المعرفة إنّما يتحقّق حين يفنى الثلاثة، إذ حقيقة السجدة هي الفناء عِنْدَ الفَنَاءِ عَنِ النَّفْسِ بِمَرَاتِبِهَا يَحْصُلُ البَقَاءُ بِاللهِ... رَزَقَنَا اللهُ وَ جَمِيعَ إخْوَانِنَا بِمُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّاهِرِينَ انتهى موضع الحاجة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

82
  • و يتّضح ممّا ذكرنا أنّ مجرّد الورود في عالَم الخلوص ليس كافياً في حصول الخلوص، بل ينبغي أن تصل جميع مراتبه إلى فعليّتها و ظهورها التامَّين، وصولًا إلى تخلّص صاحبها من شوائب العالَم الأسفل، و إلى إشراق نور الخلوص في زوايا قلبه، و حذف آثار الإنِّيَّة بِالمَرَّة، ليمكنه في هذا الصعود أن يخطو على بساط قُرب أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي، الذي هو بداية منزل ينابيع الحكمة. و هو ممّا لا يحصل إلّا بحصول ملَكَة الخلوص و ظهور فعليّتها التامّة. و لمّا كان أقلّ ما يوصِل إلى تمام الفعليّة الملَكة في عالَم معيّن هو

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

83
  • الكون في ذلك العالَم مدّة أربعين يوماً، و هو ما سبقت الإشارة إليه، فإنّ السالك لهذا السبب ما لم يسير في عالَم الخلوص أربعين يوماً فيُتمّ منازله الأربعين (التي هي مراتب فعليّته التامّة)، فإنّه لن يتمكّن أن يخطو أبعد من ذلك.

  • و أمّا تفصيل العوالم المتقدّمة على عالَم الخلوص، فقد أشير إليها على نحوٍ مُجمل في كتاب الله، و هي بعد عالَم الإسلام ثلاثة عوالم‌۱:

    1. اعلم أنّ المصنِّف رحمه الله قسّم العوالم التي تسبق عالم الخلوص إلى أربعة عوالم: الإسلام، الإيمان، الهجرة، و الجهاد؛ ثمّ قسّم كلّ واحد من هذه العوالم إلى ثلاث مراتب: أصغر، أكبر، و أعظم؛ و سيكون لذلك قد عدّ العوالم التي تسبق الخلوص اثني عشر عالماً. ثمّ يليها عالَم الخلوص الذي يتوجّب على السالك أن يسير فيه أربعيناً كاملة لتصل جميع قابليّات الخلوص لديه إلى فعليّتها.
      وقد فسّر حديث مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ بالسير في عوالم الخلوص، و اعتبر عالَم ظهور ينابيع الحكمة عالَمَ البقاء بعد الفناء (و هو البقاء بالمعبود)؛ و ذكر لإثبات هذا الأمر شواهد و أدلّة شيّقة جديرة بالتأمّل، بحيث يمكن القول بأنّ هذا الكتاب لم يسبق له مثيل في أسلوبه و تبويبه و في تعيين المنازل و العوالم. و لذلك علينا أن نذكّر بجملة أُمور:
      الأمر الأوّل: أنّ المصنّف رحمه الله لمّا قسّم العوالم إلى اثني عشر عالَماً، و عدّ منها عالمَي الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر، فإنّه في مقام التفصيل أخرج هذين العالمَين و عدّهما ضمن عالم الإيمان الأكبر؛
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

84
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      ثمّ أضاف تلافياً للنقص الحادث في العوالم عالمَين آخرَين هما: عالم الفتح و الظفر بعد الجهاد الأكبر، و عالم الفتح و الظفر بعد الجهاد الأعظم.
      ولم يتّضح للحقير سرّ هذا الأمر، على الرغم من أنّه إن قصد بذلك أنّ السالك لا يمكنه طيّ هذين العالمَين في زمن الغَيبة، و أنّ العوالم ينبغي أن تُنظّم لتنسجم مع مقتضيات هذا العصر، و لذا ينبغي إجمالًا أن يُعتبر عبور هذين العالمَين من لوازم عالم الإيمان؛ فإنّ كلامه هذا يبقى موضع تأمّل، و لذا:
      (۱) فقد صرّح المصنّف رحمه الله بنفسه بأنّه مع عدم التمكّن من طيّ ذينك العالمَين، فإنّ الهجرة (في الباطن و الظاهر) من أرباب المعاصي و أبناء الدنيا ستكون بديلًا عن الهجرة الصغرى، و أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سيكون بديلًا عن الجهاد الأصغر.
      (٢) و قد صرّح بأنّ العوالم شأنها شأن الليل و النهار في تعاقبهما؛ فما دام المتقدّم لم يتمّ طيّه تماماً، فإنّ السالك لن يمكنه أن يخطو في العالَم الأعلى.
      (٣) فلاصل الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر المدخليّة التامّة في حصول الكمال، و أنّ السالك في عصر الغَيبة إذا لم يُنهِ السير في هذَين العالمَين، فإنّه لن يتمتّع بجميع درجات الكمال. ذلك أنّ الله تعالى قد خلق النفس الإنسانيّة بحيث إن جميع مراتب السلوك و من ضمنها خصوص الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر ضروريّة لإيصال جميع قابليّات الإنسان إلى مرحلة الفعليّة. أمّا إذا طوى الإنسان العوالمَ الاخرى متخطّياً سير العالمَين المذكورَين، كان كماله ناقصاً.
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

85
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      وقد ورد في «سنن أبي داود» باب الجهاد، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
      مَنْ لَمْ يَغْزُو وَ لَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ.
      ونظير هذا المعنى الأمر بالنكاح؛ ذلك أنّ السالكين الذين منعتهم مشاكل النكاح و موانعه و صوارفه من العمل بتلك السنّة، قد حُرموا من عالم سيرٍ تكامليّ يحصل عليه الإنسان من خلال العمل بهذه السُّنَّة، و لذلك نرى أن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم قد عدّ النكاح سُنّته و طريقته.
      وفي المثل، فإنّ من حُرم من حسّ الإبصار، إذا طوى في سلوكه المراتب و العوالم، فإنّه مع ذلك سيبقى محروماً من التجلّيات الإلهيّة في مظاهر المُبصَرات، و إن بلوغ الفناء في الذات و الوصول إلى الحَرَم لن يكون بديلًا عن هذا الحرمان.
      ولذا فإنّ هؤلاء سيكونون محرومين و إلى الأبد من مشاهدة أنوار الله تعالى في السير الآفاقيّ و في مرائي البصر و مجاليه. و الأمر كذلك بالنسبة إلى الحرمان في حاسّة السمع و غيرها من الحواسّ. إذ إن كلّ حسّ يفقده الإنسان يُغلق في وجهه عالماً كبيراً.
      (٤) إن عالم الفتح و الظفر ليس عالماً خاصّاً، ليمكن وضعه من ثَمَّ في مقابل تلك العوالم، لأنّ الفتح و الظفر من لوازم الجهاد و الورود في العالَم الذي يليه. و بغير ذلك فإنّ من الممكن في الاعتبار أن نعدّ عالم الفتح و الظفر عالمَين: أحدهما الفتح، و الآخر الظفر؛ لأنّ السالك يفتح الأوّل بواسطة الجهاد، ثمّ يظفر بالخصم بعد ذلك.
      الأمر الثاني: جاء في الحديث: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ، و ظاهره أنّ على السالك أن يتمّ أربعين الإخلاص (الذي هو فِعله). بَيدَ أنّ كلام المصنّف رحمه الله يوحي بأنّ على السالك أن يسير الأربعين بعد عالم الخلوص و الورود في صفّ المُخلَصين. و من الجليّ أنّ السالك إذا ورد عالَم الخلوص، لم يبقَ له ثمّة اختيار أو إرادة ليختار بهما سير الأربعين، إذ سيكون اختياره في تلك الحال بِيَدِ الله تعالى، و سيكون مُسيَّراً له تعالى. اللهمّ إلّا أن نقول بأنّه ليست هناك عبارة أخرى غير عبارة مَنْ أخْلَصَ ليمكن بها تفهيم هذا السير الأربعينيّ.
      الأمر الثالث: يستفاد من بيان المصنّف رحمه الله أنّ الاختيار سيبقى في مقام (البقاء بالله) بعد بلوغ الفناء. و أنّ الحديث الشريف وعد بالوصول إلى هذا المقام بواسطة طيّ الأربعين، والله العالِم.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

86
  • {الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا} [الآية ٢۰، من السورة ٩: التوبة] ... إلى آخره.

  • شرحٌ إجمإلى للعوالم المتقدّمة على عالم الخلوص‌

  • شرح إجمالي للعوالم‌

  • المتقدّمة على عالم الخلوص:

  • الأوّل: الإسلام، فقد قال أبو عبد الله عليه السلام: الإسْلَامُ قَبْلَ الإيمَانِ.

  • ..، و هو ما يميّز المسلم عن الكافر، و ممّا يشترك فيه المسلم و المنافق.

  • الثاني: الإيمان، و هو ما يميّز المؤمن عن المنافق، و ما يشترك فيه جميع أصحاب الإيمان، و هو مجتمع الشريعة

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

87
  • و الطريقة.

  • الثالث: الهجرة مع الرسول، و هي ما يمتاز بها السالك عن العابد، و المجاهد عن القاعد، و الطريقة عن الشريعة.۱ 

  • الرابع: الجهاد في سبيل الله، فكلّ مجاهد هو مهاجر و مؤمن و مسلم، و كلّ مهاجر مؤمن و مسلم، و كلّ مؤمن مسلم، و لا عكس.

  • و لذا فقد ورد في الروايات المتعدّدة: الإسْلَامُ لَا يُشَارِكُ الإيمَانَ، وَ الإيمَانُ يُشَارِكُ الإسْلَامَ.

  • و جاء في حديث سَماعة بن مِهران: ٢

    1. قيل: الشريعة: هي مراعاة ظاهر الأحكام، و الطريقة: هي مراعاة باطن الأحكام. فإن كان مراد المصنّف رحمه الله من هذه العوالم مرتبة الظاهر فقط، فإنّ الهجرة هي من الشريعة، و هي لن تفرّق بين الشريعة و الطريقة. و إن كان مراده أعمّ من العوالم الظاهريّة و الباطنيّة، فإنّ تلك المرتبة من الإيمان ستكون طريقة، و إن الإيمان الأعمّ لن يكون من ثَمَّ مجتمع الطريقة و الشريعة.
      إلّا أنّ المصنّف رحمه الله كان على الظاهر في مقام الإجمال و ليس التفصيل و التدقيق.
    2. الروايات الدالّة على عدم مشاركة الإسلام للإيمان، و مشاركة الإيمان للإسلام كثيرة و جمّة، و قد أورد طائفة منها المرحوم الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٥ إلى ٢۷، و البرقيّ في «المحاسن» ج ۱، ص ٤٢٤ و ٤٢٥.
      وأمّا حديث سَماعة بن مِهران، فهو أيضاً في بيان مجرّد اشتراك
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

88
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الإيمان مع الإسلام، و فيه مثال الكعبة و الحرم. و قد ذكر هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢۸.
      هذا، و قد وردت ثلاثة أحاديث سواه ذكرت مثال الكعبة و الحرم:
      الأوّل في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٦؛ و في «محاسن البرقيّ» ج ۱، ص ٢۸٥، ح ٤٢٥، عن أبي الصباح الكنانيّ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام جاء فيه:
      مَا تَقُولُ فِيمَنْ أحْدَثَ في المَسْجِدِ الحَرَامِ مُتَعَمِّداً؟ قَالَ، قُلْتُ: يُضْرَبُ ضَرْباً شَدِيداً. قَالَ: أصَبْتَ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ أحْدَثَ في الكَعْبَةِ مُتَعَمِّداً؟ قُلْتُ: يُقْتَلُ. قَالَ: أصَبْتَ. ألَا تَرَى أنَّ الكَعْبَةَ أفْضَلُ مِنَ المَسْجِدِ، وَ أنَّ الكَعْبَةَ تُشَارِكُ المَسْجِدَ، وَ المَسْجِدُ لَا يُشَارِكُ الكَعْبَةَ؟ وَ كَذَلِكَ الإيمَان يَشْرَكُ الإسْلَامَ، وَ الإسْلَامُ لَا يَشْرَكُ الإيمَان.
      الثاني في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٦، عن حمران بن أعيَن، عن أبي جعفر عليه‌السلام، جاء فيه أنّه عليه السلام قال: كَمَا صَارَتِ الكَعْبَةُ في المَسْجِدِ، وَ المَسْجِدُ لَيْسَ في الكَعْبَةِ، وَ كَذَلِكَ الإيمَان يَشْرَكُ الإسْلَامَ، وَ الإسْلَامُ لَا يَشْرَكُ الإيمَان.
      ثمّ يذكر حدود الإسلام و الإيمان مفصّلًا، ثمّ يقول:
      أرَأيْتَ لَوْ بَصُرْتَ رَجُلًا في المَسْجدِ، أكُنْتَ تَشْهَدُ أنَّكَ رَأيْتَهُ في الكَعْبَةِ؟ قُلْتُ: لَا يَجُوزُ لي ذَلِكَ. قَالَ: فَلَوْ بَصُرْتَ رَجُلًا في الكَعْبَةِ، أكُنْتَ شَاهِداً أنَّهُ قَدْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إنَّهُ لَا يَصِلُ إلى الكَعْبَةِ حتّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ. فَقَالَ: قَدْ أصَبْتَ وَ أحْسَنْتَ. ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ الإيمَان وَالإسْلَامُ.
      الثالث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢۷ و ٢۸، عن عبد الرحيم القصير، قال: كتبتُ مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه السلام أسألُه عن الإيمان ما هو، فكتبَ إلى مع عبد الملك بن أعين يقول:
      سَأَلْتَ رَحِمَكَ اللهُ عَنِ الإيمَانِ... إلى أن يقول:
      وَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ في الحَرَمِ، ثُمَّ دَخَلَ الكَعْبَةَ وَ أحْدَثَ في الكَعْبَةِ حَدَثاً، فَاخْرِجَ عَنِ الكَعْبَةِ وَ عَنِ الحَرَمِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَ صَارَ إلى النَّارِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

89
  • الإيمَانُ مِنَ الإسْلَامِ مِثْلُ الكَعْبَةِ الحَرَامِ مِنَ الحَرَمِ، قَدْ يَكُونُ في الحَرَمِ وَ لَا يَكُونُ في الكَعْبَةِ، وَ لَا يَكُونُ في الكَعْبَةِ حتّى يَكُونَ في الحَرَمِ.

  • ولهذا قال تعالى:

  • {وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} [الآية ۱۰٦، من السورة ۱٢: يوسف‌].

  • و المراد بالهجرة مع الرسول و الجهاد في سبيل الله في هذه العوالم: الهجرة الباطنيّة و الجهاد الباطنيّ، و هما الهجرة الكبرى و الجهاد الأكبر.

  • أمّا الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر، فداخلان في وظائف العالَم الثاني (و هو عالم الإيمان)، و خليفتهما و القائم مقامهما في زمن عدم التمكّن من الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر هو الهجرة بالظاهر و الباطن من أرباب المعاصي و أبناء الدنيا، و الأمر

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

90
  • بالمعروف و النهي عن المنكر.۱

  • و كما أنّ الهجرة في هذا السفر هي الهجرة الكبرى، و أنّ جهاد هذا المسافر هو الجهاد الأكبر؛ فإنّ شرط هذا السفر (و هو إسلام المجاهد و إيمانه) هو الإسلام و الإيمان الأكبرين. فما لم يدخل في الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر و يطوي عالميهما، فإنّه لن يتمكّن من الجهاد في سبيل الله كما هو حقّه الذي أمِر به في آية: {جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ}‌ [الآية ۷۸، من السورة ٢٢: الحجّ‌].

  • و بعد طيّ الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر، يصل الطالب إلى حيث يتفرّغ للطلب، فيُهاجر مع الرسول الباطنيّ بمعونة الرسول الظاهريّ أو خليفته و يضع أقدامه في ميدان المجاهدة، فيطوي هذين العالمين ليفوز بفوز «القتل في سبيل الله».

  • ولكن أيّها الرفيق إذا كنتَ قد واجهتَ حتّى الآن أخطاراً كثيرة و عقبات جمّة لا تُحصى، و اعترضك قطّاع طرق‌

    1. ورد في «محاسن البرقيّ» ج ۱، ص ٢۸٥، ح ٤٢٦، عن أبي النعمان، عن الباقر عليه السلام قال:
      قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: ألَا انَبِّئُكُمْ بِالمُؤْمِنِ؟ المُؤْمِنُ مَنِ ائْتَمَنَهُ المُؤْمِنُونَ عَلَى أمْوَالِهِمْ وَ أُمُورِهِمْ. وَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ، وَ المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَيِّئَاتِ وَ تَرَكَ مَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْهِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

91
  • و لصوص بلا حصر، فنجوتَ منها وتخلّصتَ من براثنها و تخطّيتَ صعابها، فإنّ بعد عبور هذه العوالم، و بعد القتل في سبيل الله بداية الخطر الأكبر و الداهية العظمى. لأنّ وادي الكفر الأعظم و النفاق الأعظم يقعان وراء هذا العالَم، و الشيطان الأعظم (و هو رئيس الأبالسة) يقطن في هذا الوادي، أمّا سائر شياطين العالم فجنوده و أعوانه و أذنابه.

  • فلا تظنّنَّ أنّك و قد عبرتَ هذه العوالم قد نجوتَ من الخطر، و حظيتَ بمرادك. و حَذارِ حذارِ من الغرور و الأوهام.

  • و بعد هذه العوالم عوالم اخرى لا يمكن بدون طيّها و عبورها بلوغ المنزل المقصود.

  • الأوّل: الإسلام الأعظم.

  • الثاني: الإيمان الأعظم.

  • الثالث: الهجرة العظمى.

  • الرابع: الجهاد الأعظم.

  • و بعد طيّ هذه العوالم يأتي عالم الخلوص رزقنا الله و إيّاكم.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

92
  • شرح تفصيليّ للعوالم الاثني عشر المتقدّمة على عالم الخلوص

  • تبيّن ممّا قيل أنّ على المسافر أن يمرّ في سيره باثني عشر عالَماً بعدد بروج الفَلَك و شُهور السنة و ساعات الليل و النهار و نقباء بني إسرائيل و خلفاء آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و سرّ هذا العدد واضح لأصحاب البصيرة. و العوالم الاثني عشر بهذاالتفصيل:

  • الأوّل: الإسلام الأصغر

  • و هو إظهار الشهادتين و التصديق بهما باللسان، و الإتيان بالدعائم الخمس بالجوارح و الأعضاء.۱

    1. يُطلق اصطلاح «الدعائم الخمس» على الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ و الولاية؛ حيث روي في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۱۸ عن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال:
      بُنِي الإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ الصَّوْمِ وَ الحَجِّ وَ الوَلَايَةِ، وَ مَا نُودِيَ‌بِشَيْ‌ءٍ (وَ لَمْ يُنَادَ بِشَيْ‌ءٍ) كَمَا نُودِيَ بِالوَلَايَةِ.
      ووردت أيضاً في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۱۸ و ۱٩ و ٢۱؛ و في «المحاسن» ج ۱، ص ٢۸٦ عدّة روايات بهذا المضمون بسلسلة أُخري‌للرواة، عن أبي عبد الله و أبي جعفر عليهما السلام، حصرا فيها الدعائم الخمس في هذه الامور، و أهمّها الولاية، و ورد في معظمها لفظ «دعائم‌خمس».
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

93
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      بَيدَ أنّ الظاهر هو أنّ مراد المصنّف رحمه الله من الدعائم الخمس التي ذكرها في هذا المجال لم يكن أمر الولاية، و ذلك لعدّة أُمور:
      (۱) أنّه عدّ الدعائم الخمس من آثار الإسلام الأصغر، مع أنّ أمر الولاية عائد إلى الإيمان الأصغر أو إلى الإسلام و الإيمان الأكبرَين.
      (٢) أنّه ذكر تعبير الإتيان بالدعائم الخمس بالجوارح و الأعضاء. و من المسلّم أنّ الولاية ليست ممّا يؤتى بالأعضاء و الجوارح.
      (٣) أنّه أورد ذيل حديث سفيان بن سَمط شاهداً على أنّ الشهادتَين و ليس الولاية هما جزء الإسلام، مضافاً إلى الصلاة و الصوم و الحجّ و الزكاة. فيكون مسلّماً أنّ مراد المصنّف رحمه الله من الدعائم الخمس هو: الشهادتان و الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ.
      أمّا حديث سفيان بن سَمط، فقد روى في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٤، قال:
      سَأَلَ رَجُلٌ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الإسْلَامِ وَ الإيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ التَقَيَا في الطَّرِيقِ وَ قَدْ أزِفَ مِنَ الرَّجُلِ الرَّحِيلُ، فَقَالَ لَهُ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَأَنَّكَ قَدْ أزِفَ مِنْكَ رَحِيلٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَالْقَنِي في البَيْتِ. فَلَقِيَهُ فَسَألَهُ عَنِ الإسْلَامِ وَ الإيمَانِ مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: الإسْلَامُ هُوَ الظَّاهِرُ الذي عَلَيْهِ النَّاسُ.
      وذكر تمام الحديث، ثمّ قال:
      فَهَذَا الإسْلَامُ. وَ قَالَ: الإيمَان مَعْرِفَةُ هَذَا الأمْرِ مَعَ هَذَا، فَإنْ أقَرَّ بِهَا وَ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا الأمْرَ كَانَ مُسْلِماً وَ كَانَ ضَالَّا.
      وبناءً على صريح هذه الرواية، فإنّ الإقرار بالولاية من شرائط
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

94
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الإيمان لا الإسلام و أنّ الشرط الوحيد في الإسلام هو الإقرار بالشهادتَين.
      ومن ملاحظة و مقارنة طائفة من الروايات الواردة لدى أهل السنّة في دعائم الإسلام الخمس، مع طائفة اخرى من الروايات سابقة الذكر التي وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في دعائم الإسلام الخمس، يتّضح سرّ هذا الاختلاف في التعبير.
      وبيان ذلك أنّه ورد في «صحيح مسلم» ج ۱، كتاب الإيمان، ص ٣٤ و ٣٥ أربعة أحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      (۱) روى بإسناده عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: بني الإسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أنْ يُوَحَّدَ اللهُ، وَ إقَامِ الصَّلَاةِ، وَ إيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَ الحَجِّ.
      (٢) بإسناده عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
      بُنِيَ الإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أنْ يُعْبَدَ اللهُ وَ يُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ، وَ إقَامِ الصَّلَاةِ، وَ إيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَ حِجِّ البَيْتِ، وَ صَوْمِ رَمَضَانَ.
      (٣) بإسناده عن سبط ابن عمر، عن جدّه، قال عبد الله: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      بُنِي الإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أنَّ محمّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، وَ إقَامِ الصَّلَاةِ، وَ إيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَ حِجِّ البَيْتِ، وَ صَوْمِ رَمَضَانَ.
      (٤) بإسناده عن حنظلة، قال: سَمِعْتُ عِكْرَمَةَ بْنَ خَالِدٍ يُحَدِّثُ طَاوُوساً أنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، ألَا تَغْزُو؟ فَقَالَ: أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ:
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

95
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      إن الإسْلَامَ بني عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ إقَامِ الصَّلَاةِ، وَ إيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَ صِيَامِ رَمَضَانَ، وَ حِجِّ البَيْتِ.
      وهذه الروايات تبيّن أنّ رسول الله ذكر أنّ الإسلام يقوم على هذه الاسس الخمس. بيد أنّ العامّة لمّا كانوا يكتفون بظاهر الشهادتَين، و يعدّون مجرّد الإقرار بالنبوّة من دعائم الإسلام، و لو اقترن بمعصية أمر رسول الله في شأن الولاية. أمّا أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، فقد فسّروا الرواية الواردة عن رسول الله بهذا التفسير: أنّ الإقرار بالتوحيد و النبوّة بدون الإقرار بالولاية لا يتعدّى كونه ظاهراً، و أنّ حقيقة الاعتراف به تتمثّل بالإقرار بالولاية، و أنّ ذينك الاثنين لا ينفكّان عن بعضهما. فحقيقة الإسلام مرتبطة بالولاية التي هي مفتاح التوحيد في مظاهر الإسماء و الصفات و الإفعال، و هي أيضاً باطن النبوّة و جوهرها.
      ولذلك فإنّ هذه الطائفة من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام تمثّل تفسيراً و تأويلًا للروايات التي ذُكرت عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حول دعائم الإسلام الخمس، كما أنّ نظير هذا الاختلاف في التعبير يُشاهَد في حديث السلسلة الذهبيّة، و قد ذكر هذا الحديث بعدّة مضامين:
      الأوّل: رواه الصدوق في «عيون أخبار الرضا» عليه السلام ص ٣۱٤، بإسناده قال: يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَهُ أمِنَ مِنْ عَذَابِي.
      كما يروى في نفس الصفحة بإسناده قال: قَالَ اللهُ سَيِّدُ السَّادَاتِ جَلَّ وَ عَزَّ: أنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا، فَمَنْ أقَرَّ لي بِالتَّوْحِيدِ دَخَلَ حِصْنِي،
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

96
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      وَ مَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِنْ عَذَابِي.
      وقد نُقلت هذه الرواية في «الجواهر السنيّة» ص ۱٤۷، نقلًا عن «العيون».
      الثاني: أنّه عدّ الإخلاصَ شرطَ التوحيد: حيث يروي في «العيون» بإسناده قال:
      قَالَ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: أنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا فَاعْبُدُونِي، مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ بِشَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ بِالإخْلَاصِ دَخَلَ حِصْنِي، وَ مَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِنْ عَذَابِي.
      الثالث: أنّه فسّر الإخلاصَ بالولاية. فقد روى الطوسيّ في «الأمالى» ج ٢، ص ٢۰۱، بإسناده:
      عَنِ اللهِ تَقَدَّسَتْ أسْمَاؤُهُ وَ جَلَّ وَجْهُهُ قَالَ: أنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا وَحْدِي، عِبَادِي فَاعْبُدُونِي، وَ لْيَعلَمْ مَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ بِشَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ مُخْلِصاً بِهَا أنَّهُ قَدْ دَخَلَ حِصْنِي، وَ مَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ عَذَابِي. قَالُوا: يَابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَ مَا إخْلَاصُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ؟ قَالَ: طَاعَةُ اللهِ وَ رَسُولِهِ وَ وِلَايَةُ أهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
      ونقل في «معاني الأخبار» ص ٣۷۰؛ و «ثواب الأعمال» ص ۷؛ و «توحيد الصدوق» ص ٢٥؛ و «الجواهر السنيّة» ص ٢٢٢، عن «أمالى الصدوق» ذيل رواية كَلِمَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ حِصْنِي عن الرضا عليه‌السلام قال: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا: بِشُرُوطِهَا، وَ أنَا مِنْ شُرُوطِهَا.
      الرابع: أنّهم عدّوا الولاية حِصناً. فقد روى الصدوق في «معاني الأخبار» ص ٣۷۱ بإسناده: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَىوِلَايَةُ عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِنْ نَارِي. و ورد هذا الحديث بسند آخر في «الجواهر السنيّة» ص ٢٢٥، نقلًا عن «أمالى الصدوق».
      وروى في «الجواهر السنيّة» عن أبي عليّ الحسن بن محمّد الطوسيّ في أماليه، عن أبيه المرحوم الشيخ الطوسيّ بإسناده المتّصل قال:
      قَالَ اللهُ تَعَالَى: وِلَايَةُ عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ حِصْنِي، مَنْ دَخَلَهُ أمِنَ نَارِي.
      أجل، يستفاد من مجموع هذه الروايات أنّها بأجمعها تريد بيان حقيقة واحدة، و هي التسليم المطلَق أمام إرادة الله تعالى و الاعتراف بربوبيّته المطلقة في جميع مظاهر الإمكان، لذلك فإنّ الطائفة من الروايات التي عدّت مطلق «لا إله إلّا الله» حِصناً قد أرادت حقيقة هذه الكلمة، و هي بطبيعة الحال غير معقولة بدون الإخلاص و الولاية. كما أنّ الروايات التي جعلت الولاية هي الحصن، أو جعلت التوحيد المشروط بالولاية حِصناً، إنّما هي تفسير و تأويل للطائفة الاولى من الروايات، و لم تذكر أمراً جديداً زائداً. فتأمّل وافهم.
      وينبغي إعمال نظير ما فعلنا في شأن الكثير من الروايات و جمعها بهذا الطريق، و هو في حقيقة الأمر جمعٌ بين المُجمَل و المُبيَّن، أو بين المُطلَق و المقيَّد، و لذلك فقد فصّلنا الأمر بعض التفصيل.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

97
  • و تُشير إليه الآية: قَالَتِ الأعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِن قُولُوا أسْلَمْنَا.۱

  • [الآية ۱٤، من السورة ٤٩: الحجرات‌].

  • و هذا الإسلام هو الذي أشير إليه في حديث قاسم الصيرفي،

    1. ورد في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٥، في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر (الباقر) عليه‌السلام قال: فَمَنْ زَعَمَ أنَّهُم آمَنُوا فَقَدْ كَذَبَ، وَ مَنَ زَعَمَ أنَّهُمْ لَمْ يُسْلِمُوا فَقَدْ كَذَبَ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

98
  • حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: الإسْلَامُ يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ، وَ يُؤَدَّى بِهِ الأمَانَةُ، وَ يُسْتَحَلُّ بِهِ الفُرُوجُ، وَ الثَّوَابُ عَلَى الإيمَانِ.۱

  • و في حديث سفيان بن سمط، عن الصادق عليه‌السلام، قال:

  • الإسْلَامُ هُوَ الظَّاهِرُ الذي عَلَيْهِ النَّاسُ بِشَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ و أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَ إقَامِ الصَّلَاةِ، وَ إيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَ حِجِّ البَيْتِ، وَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

  • الثاني: الإيمان الأصغر

  • و هو عبارة عن التصديق القلبيّ و الإذعان الباطنيّ بالامور المذكورة.٢

  • و لازمها الاعتقاد بجميع ما جاء به الرسول من الصفات و الأعمال و مصالح الأفعال و مفاسدها و نصب الخلفاء و إرسال‌

    1. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٤.
    2. روى الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۱٤، الطبعة الثانية، بسنده المتّصل عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام؛ و بسند متّصل آخر عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما (و اللفظ للثاني) في قول الله عزّ و جلّ «صِبْغَةَ اللهِ وَ مَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً». قَالَ: الصِّبْغَةُ هي الإسْلَامُ.
      وَ قَالَ في قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي» قَالَ: هي الإيمَانُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

99
  • النُّقباء. لأنّ الإذعان برسالة الرسول تستلزم أيضاً الإذعان بحقّيّة ما بجميع ما جاء به الرسول. و يشير إلى هذا الإيمان قول الصادق المُصدَّق عليه‌السلام في حديث سماعة بعد أن سأله عن الإسلام و الإيمان أهما مختلفان؟ قال:

  • الإسْلَامُ شَهَادَةُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ التَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللهِ. بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَ عَلَيْهِ جَرَتِ المَنَاكِحُ وَ المَوَارِيثُ، وَ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَ الإيمَانُ الهُدَى وَ مَا يَثْبُتُ في القُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الإسْلَامِ.۱

  • الثالث: الإسلام الأكبر

  • و مرتبته بعد الإيمان الأصغر. و هو المراد في قول الحقّ عزّ اسمه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [الآية ٢۰۸، من السورة ٢: البقرة]، لأنّه أمر المؤمنين بالإسلام. و هذا الإسلام عبارة عن التسليم و الانقياد و الطاعة و ترك الاعتراض على الله تعالى و الإطاعة في جميع لوازم الإسلام الأصغر و الإيمان الأصغر، و الإذعان بكلّ ما جاء به نفياً أو إثباتاً.

  • و يشير إلى هذا الإسلام قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في‌

    1. و هو بعض كلام الإمام الصادق عليه السلام الذي ورد في رواية «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٥، عن سماعة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

100
  • الحديث الذي رفعه البرقيّ: إن‌ الإسْلَامَ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَ التَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ.۱

    1. ورد هذا الحديث في «أمالى الصدوق»، ص ٢۱۱، مسنداً عن الصادق عليه‌السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام؛ و في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٥، عن محمّد بن خالد، عن بعض أصحابنا مرفوعاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال:
      لأنْسِبَنَّ الإسْلَامَ نِسْبَةً لَا يَنْسِبُهُ أحَدٌ قَبْلِي وَ لَا يَنْسِبُهُ أحَدٌ بَعْدِي إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ. إن الإسْلَامَ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَ التَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ، وَ اليَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَ التَّصْدِيقُ هُوَ الإقْرَارُ، وَ الإقْرَارُ هُوَ العَمَلُ، وَ العَمَلُ هُوَ الأدَاءُ. إن المُؤْمِنَ لَمْ يَأخُذْ دِينَهُ عَنْ رَأيِهِ، وَ لَكِنْ أتَاهُ مِنْ رَبِّهِ فَأخَذَهُ. إن المُؤْمِنَ يُرَى يَقِينُهُ في عَمَلِهِ، وَ الكَافِرَ يُرَى إنْكَارُهُ في عَمَلِهِ. فَوَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَرَفُوا أمْرَهُمْ. فَاعْتَبِرُوا إنْكَارَ الكَافِرِينَ وَ المُنَافِقِينَ بِأعْمَالِهِمُ الخَبِيثَةِ.
      وقال في «سفينة البحار» ج ۱، ص ٦٤٤ بعد نقل هذا الحديث: و قد تصدّى لشرح هذا الحديث ابن أبي الحديد، و ابن ميثم، و الشهيد الثاني، و المجلسيّ، فراجِع.
      وأورده البرقيّ في «المحاسن» ج ۱، ص ٢٢٢، ح ۱٣٥. و قد ورد هذا الحديث مختصراً في «نهج البلاغة»، أمّا في «شرح نهج البلاغة» للمولى فتح الله، ج ٢، ص ٥٤٢؛ و «شرح نهج البلاغة» ج ٢، ص ۱٦٥، فقد ورد بهذا اللفظ:
      وَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لأنْسِبَنَّ الإسْلَامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسِبْهَا أحَدٌ قَبْلِي. الإسْلَامُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَ التَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ، وَ اليَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَ التَّصْدِيقُ هُوَ الإقْرَارُ، وَ الإقْرَارُ هُوَ الأدَاءُ، وَ الأدَاءُ هُوَ العَمَلُ الصَّالِحُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

101
  • و كما أنّ الإسلام الأصغر هو التصديق بالرسول، فإنّ الإسلام الأكبر هو التصديق بالمُرسِل.

  • و كما أنّ مقابلة الإسلام الأصغر في حدّ ذاتها كُفر أصغر، إذ هي كُفرٌ بالرسول، و تقديمٌ لعقل الإنسان أو لسائر الرسل على الرسول، و هو لا يتنافي مع الإسلام بالله، كما هو أمر اليهود و النصارى؛ فإنّ مقابلة الإسلام الأكبر كفرٌ أكبر، لأنّ العاري من هذا الإسلام إذا كان معتقداً برسالة الرسول و بصدقه، إلّا أنّه يعترض على الله تعالى و يناقش في أحكامه، و يقدّم رأيه على رأيه تعالى. و إلى هذا الكفر يشير الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث الكاهليّ قال:

  • لَوْ أنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ أقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ حَجُّوا البَيْتَ الحَرَامَ وَ صَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْ‌ءٍ صَنَعَهُ اللهُ أوْ صَنَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: ألَا صَنَعَ بِخِلَافِ الذي صَنَعَ؟ أوْ وَجَدُوا ذَلِكَ في قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ ...إلى أن قال: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ.۱

    1. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٣٩۰، الطبعة الثانية، و فيه بدل لفظ «إلى أن قال» الذي أورده المصنّف على سبيل الاختصار: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ «فَلَا وَ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أنفُسِهِمْ حَرَجًا ممّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»، ثُمَّ قَالَ أبُوعَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

102
  • فإذا ترك المرء الاعتراض، و جعل عقلَه و رأيه و هواه مطيعة للشرع، أضحى مسلماً بالإسلام الأكبر، و دخل آنذاك في مرتبة العبوديّة. و هذه هي أدنى مراتب العبوديّة۱، أمّا ما سبق له فعله،

    1. حيث ورد في حديث «عنوان البصريّ» أن العبوديّة تستلزم التسليم المحض و الطاعة الخالصة، و مادام الإنسان لم يبلغ بتمام معنى الكلمة مرحلة التسليم، و مادام لم يجعل إرادته و اختياره وفق إرادة الله تعالى و اختياره، فإنّه لن يرد مرحلة العبوديّة.
      وقد أورد المجلسيّ هذا الحديث في «بحار الأنوار» ج ۱، باب آداب العلم و أحكامه، عن عنوان البصريّ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام، و هو حديث مفصّل... يصل فيه إلى حيث يقول عنوان مخاطباً الصادقَ عليه‌السلام:
      يَا أبَا عَبْدِاللهِ! مَا حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ: أنْ لَا يَرَى العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً. لأنَّ العَبِيدَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ، يَرَونَ المَالَ مَالَ اللهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أمَرَهُمُ اللهُ بِهِ. وَ لَا يُدَبِّرُ العَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً. وَ جُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أمَرَهُ اللهُ بِهِ وَ نَهَاهُ عَنْهُ. فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً، هَانَ عَلَيْهِ الإنْفَاقُ فِيمَا أمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أنْ يُنْفِقَ فِيهِ. وَ إذَا فَوَّضَ العَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا؛ وَ إذَا اشْتَغَلَ العَبْدُ بِمَا أمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ وَ نَهَاهُ عَنْهُ، لَا يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلى المِرَاءِ وَ المُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ. فَإذَا أكْرَمَ اللهُ العَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، هانَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَ إبْلِيسُ وَ الخَلْقُ، وَ لَا يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَ لَا تَفَاخُراً، وَ لَا يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزَّاً وَ عُلُوَّاً وَ لَا يَدَعُ أيَّامَهُ بَاطِلًا. فَهَذَا أوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَى...
      وعلى أيّة حال، و كما يُلاحَظ في هذا الحديث الشريف، الذي يقول بعض الأساطين بأنّ آثار صدوره عن المعصوم مشهودة من نفس مضامينه؛ فإنّ العبوديّة الحقّة قد اعتُبرت عين التسليم و الطاعة في الأفعال و الإرادة و الاختيار و سائر الامور. ثمّ يرد السالك بعد حصول هذه الدرجات في أوّل درجات التقوى، و التي عدّها المصنّف رحمه الله مرتبة الإيمان الأكبر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

103
  • فهو العبادة.

  • و يشير إلى هذه المرتبة قوله تعالى‌:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ‌}[الآية ۱٩، من السورة ٣: آل عمران‌].

  • و من هذه المرتبة من الإسلام يتحقّق قولُه: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‌ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}‌ [الآية ٢٢، من السورة ٣٩: الزمر]. و يظهر في هذه المرتبة ما أشار إليه في قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً}[الآية ۱٤، من السورة ۷٢: الجنّ‌]. لأنّ من الجليّ أنّ الإسلام الأصغر الذي يشترك فيه المنافقون بعيد عن هذه المرحلة بعدّة مراحل.

  • و هي المرتبة التي عناها الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم في قوله: فَمَنْ أسْلَمَ فَهُوَ مِنّي.

  • لأنّ المنافقين على الرغم‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

104
  • من امتلاكهم للإسلام الأصغر في الدرك الأسفل من النار، و ليسوا في جوار الرسول المختار.

  • الرابع: الإيمان الأكبر

  • و يشير إليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ.}۱

  • الذي أمر المؤمنين بإيمانٍ آخر.

  • و كما أنّ الإيمان الأصغر هو روح الإسلام الأصغر و معناه، و أنّ الإسلام قالبه و لفظه، و أنّ حصوله مشروط بتخطّي الإسلام الأصغر اللسانَ و الجوارح إلى القلب.

  • فكذلك الإيمان الأكبر هو روح الإسلام الأكبر و معناه، و هو عبارة عن تجاوز الإسلام الأكبر لمرتبة التسليم و الانقياد و الطاعة إلى مرتبة الشوق و الرضا و الرغبة، و تعدّي الإسلامِ العقلَ إلى الروح. و الآية الكريمة: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ،} هي مصداق هذه الحال.٢

    1. الآية ۱٣٦، من السورة ٤: النساء، و تكملتها: وَ الْكِتَبِ الذي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ... .
      الإسلام الاكبر والإيمان الاكبر في: أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُو لِلإسْلَامِ
    2. لأنّ شرح الصدر في هذه الآية، المتحقّق بواسطة الإسلام قد عُزي إلى الله تعالى، و ذُكر أثره فوق ذلك بأنّه نُورٌ مِنْ رَبِّهِ، فيتبيّن أنّ المراد من الإسلام في هذه الآية هو الإسلام الأكبر و ليس الأصغر و لا الأعمّ من الأصغر و الأكبر.
      ولمّا كانت مرتبة الإيمان الأكبر مرتبة التفضيل و تجاوز الإسلام الأكبر لمرتبة التسليم و الطاعة إلى مرتبة الشوق و الرضا و الرغبة، فقد عُبّر في القرآن الكريم عن هذه المرتبة بشرح الصدر للإسلام، لأنّ تعبير فَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسْلَامِ يستعمل حيث يوجد الإسلام ثمّ إن الله تعالى يشرح الصدر للإسلام. و هذا هو معنى الإيمان الأكبر. و باعتبار أنّ الإسلام الأكبر هو أدنى مرتبة من الإيمان الأكبر، فإنّ المصنّف رحمه الله لمّا كان في مقام بيان الإسلام الأكبر في الصفحة السابقة، فإنّه استعمل كلمة «من» الابتدائيّة في بيانه؛ فقد قال: «و مِن هذه المرتبة من الإسلام يتحقّق قولُه: أفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن ربِّهِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

105
  • و كما أنّ في مقابل الإيمان الأصغر النفاق الأصغر المشتمل على التسليم و الانقياد و الإطاعة للرسول في الظاهر، و التكاسل و التثاقل في القلب، فإنّ في مقابل الإيمان الأكبر النفاق الأكبر، و هو التسليم و الانقياد و الطاعة القلبيّة المولودة عن العقل، و المسبّبة عن الخوف، و الخالية من الشوق و الرغبة و اللذّة و اليُسر على الروح و النفس.

  • و ما جاء في وصف المنافقين في قوله تعالى: {وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‌،} إنّما جاء في حقّ هذه الفرقة.۱

    1. حصر مفاد هذه الآية في منافقي النفاق الأكبر ممّا لا دليل عليه، إذ لو اكتفينا بظاهر الآية و سياقها، لكانت منحصرة في منافقي النفاق الأصغر. فقد جاء في الآية التي سبقتها: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... إلى قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‌ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا* مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‌ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‌ هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (الآيات ۱٤۱ إلى ۱٤٣، من السورة ٤: النساء).

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

106
  • فإذا سرى التسليم و الانقياد إلى الروح، و قويت معرفةُ الأفعال و الأوامر الإلهيّة، انتفي هذا النفاق لدى المرء.

  • و هذه المرتبة من الإيمان تستلزم السريان إلى جميع الأعضاء و الجوارح، لأنّ الروح إذا غدت منشأ الإيمان و هي سلطان البدن و المتسلّط على جميع الأعضاء و الجوارح سخّرت الجميع لها، و يسّرت الأمر للجميع، و جعلت الجميع مطيعين مُنقادين، و لم تقصّر في دقيقة من دقائق الطاعة و العبوديّة.

  • و قد ورد في حقّ أصحاب هذه المرتبة:

  • {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ‌} [الآيات ۱ إلى ٥، من السورة ٢٣: المؤمنون.]

  • لأنّ الإعراض عن اللغو لا يتحقّق إلّا باستعمال كلّ عضو من‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

107
  • الأعضاء فيما هو مخلوق له.

  • و قد ذكر أبوعبدالله عليه‌السلام في حديث الزبيريّ و حمّاد هذه المرتبة من الإيمان، و خلاصة الحديث هي:

  • الإيمَانُ فَرْضٌ مَقْسُومٌ عَلَى الجَوَارِحِ كُلِّهَا، فَمِنْهَا قَلْبُهُ وَ هُوَ أمِيرُ بَدَنِهِ، وَ عَيْنَاهُ وَ أذُنَاهُ وَ لِسَانُهُ وَ رَأسُهُ وَ يَدَاهُ وَ رِجْلَاهُ وَ فَرْجُهُ.

  • ثمّ إنّه ذكر عمل كلّ واحد منها.۱ و كذلك أشار إلى هذه المرتبة حديثُ ابن رئاب:

  • إنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حتّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً. ألَا وَ إن مِنِ اتِّبَاعِ أمْرِنَا وَ إرَادَتِهِ الوَرَعَ.٢

  • و ما ورد في كتاب الله: {أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ‌} [الآية ۱٦، من السورة ٥۷: الحديد]، هو أمر بالسفر

    1. ورد حديث الزبيريّ عن الصادق عليه‌السلام في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٣٣، و هو حديث مفصّل يستغرق أربع صفحات. أمّا حديث حمّاد، فقد رواه عن «العالِم» عليه‌السلام في ص ٣۸ من نفس الكتاب، و هو حديث مفصّل أيضاً يستغرق صفحة كاملة، (فمَن أراد تمامهما، فليراجع مصدرهما).
    2. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۷۸، بإسناده المتّصل عن ابن رئاب، عن الصادق عليه‌السلام، و في خاتمته: فَتَزَيَّنُوا بِهِ يَرْحَمْكُمُ اللهُ وَ كَبِّدُوا أعْدَاءَنَا (بِهِ) يَنْعَشْكُمُ اللهُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

108
  • من الإيمان الأصغر إلى الإيمان الأكبر.

  • و ينبغي ألّا نتصوّر أنّ ما قيل من تفاوت مراتب الإسلام و الإيمان يتنافي مع ما ورد في طائفة من الروايات و صرّح به طائفة من المحدِّثين من أنّ الإيمان غير قابل للزيادة و النقصان؛ لأنّ ما قيل هو تفاوت المراتب في الشدّة و الضعف (في الآثار)، و ليس تفاوتها في الزيادة و النقصان (في أصل الإيمان). بلى، من لوازم الشدّة و الضعف الزيادة و النقصان في الآثار و لوازمها.۱

  • فما جاء إذاً في نفي الزيادة و النقصان، ففي أصل الإيمان؛ و ما جاء في إثباتها، فإمّا مراده الشدّة و الضعف، أو الزيادة و النقصان في الآثار و اللوازم، مثل قوله تعالى:

  • {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ‌

    1. يمكن حمل الروايتين الشريفتين الواردتَين في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۱٥، الطبعة الثانية، على الاختلاف في مراتب الإيمان. و قد أورد الاولى بسنده المتّصل عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام، و الثانية بسنده المتّصل عن جميل، عن أبي عبد الله عليه السلام (و اللفظ للثاني):
      سَألْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «هُوَ الذي أَنزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ...»، قَالَ: هُوَ الإيمَانُ. قَالَ: «وَ أَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ»، قَالَ: هُوَ الإيمَانُ. وَعَنْ قَوْلِهِ: «وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَي»، قَالَ: هُوَ الإيمَانُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

109
  • عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} [الآية ٢، من السورة ۸: الأنفال‌].

  • يعني أنّهم إذا سمعوا في الآيات أمراً أو نهياً، شمّروا هممهم و ظهر فيهم أثر من الإيمان يزيد على ما كان عليهم من قبل. و إذا تُلي عليهم بلسان الحال من الآيات الآفاقيّة و الأنفسيّة، اشتدّت (آثار) إيمانهم.

  • و هذا هو المراد ممّا ورد في الأحاديث التي عدّت مراتب كثيرة للإيمان، حيث ورد:

  • إن الإيمَانَ لَهُ سَبْعَةُ أسْهُمٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، وَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ، وَ لَا يُحْمَلُ السَّهْمَانِ عَلَى صَاحِبِ السَّهْمِ.۱

    1. نقل الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٢ و ٤٣ و ٤٥ ثلاثة أحاديث:
      الأوّل: عن عمّار بن الأحوص، عن أبي عبدالله عليه‌السلام.
      الثاني: عن يعقوب بن الضحّاك، عن رجلٍ من أصحابنا و كان خادماً لأبي عبدالله عليه‌السلام عن أبي عبدالله عليه‌السلام.
      الثالث: عن سَدير، عن أبي جعفر عليه‌السلام.
      وقد قُسّم الإيمان في هذه الروايات الثلاث إلى سبعة أسهُم.
      وروى في ص ٤٤ من نفس الكتاب عن شهاب، عن أبي عبدالله عليه‌السلام حديثاً إجماله ما يأتي: أنّ الله تعالى خلق الإيمان في تسعة و أربعين جزءاً، ثمّ جعل الأجزاء أعشاراً، فجعل الجزء عشرة أعشار، فجعل في رجلٍ عُشر جُزء، و في آخر عُشري جُزء، و هكذا حتّى بلغ به جُزءاً تامّاً، ثمّ جعل في رجل جزءاً و عُشر الجُزء، و في آخر جُزءاً و عُشري جُزء، و هكذا... (إلى أن بلغ إلى قوله) حتّى بلغ بأرفعهم تسعةً و أربعين جُزءاً. (ثمّ قال في خاتمة الجديث:) لَوْ عَلِمَ النَّاسُ أنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَ هَذَا الخَلْقَ عَلَى هَذَا، لَمْ يَلُمْ أحَدٌ أحَداً.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

110
  • أي أنّ آثار و أعمال السهمَين يجب ألّا تُحمَل على صاحب السهم الواحد من المعرفة، إذ سيشقّ ذلك عليه. و ما لم تشتدّ المعرفة و تقوى، فإنّ العمل سيشقّ على الجوارح.

  • و روى عبد العزيز القراطيسيّ قال: قال لي أبوعبدالله عليه السلام:

  • يَا عَبْدَ العَزِيزِ! إن الإيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ... إلى أن قال: وَ إذَا رَأيْتَ مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ، فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَ لَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.۱

    1. وردت رواية عبد العزيز القراطيسيّ بتمامها في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٥، حيث جاء فيها قوله عليه السلام (الذي اختُصر بلفظ «إلى أن قال»):
      فَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الاثْنَيْنِ لِصَاحِبِ الوَاحِدِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‌ءٍ، حتّى يَنْتَهِي إلى العَاشِرِ. فَلَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ، فَيُسْقِطْكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ.
      كما جاء في آخر الحديث بعد لفظة «فتكسره» قوله عليه‌السلام:
      فَإنَّ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

111
  • و درجات الإيمان في المعرفة و العمل كليهما. و من الظاهر أن الأعمال الواجبة ممّا يلزم كلّ شخص العمل بها. فتفاوت الدرجات في الآثار (المستفاد من الأخبار) إنّما يحصل باتّباع جميع الأوامر و السنن و الأفعال و الأخلاق.

  • الخامس: الهجرة الكبرى

  • و كما أنّ الهجرة الصغرى هي الهجرة بالبدن من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ فإنّ الهجرة الكبرى هي الهجرة بالبدن عن مخالطة أهل العصيان و مجالسة أهل البغي و الطغيان و أبناء الزمان الخوّان.۱

  • و قد ورد في حديث مِهزَم الأسديّ في صفة الشيعة: وَ إن لَقِيَ جَاهِلًا هَجَرَهُ.٢

    1. نقل المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱٥، ص ۱۷۷، قسم الأخلاق، عن كتاب «الغارات» خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام جاء فيها:
      وَ يَقُولُ الرَّجُلُ: هَاجَرْتُ، وَ لَمْ يُهَاجِرْ. إنَّمَا المُهَاجِرُونَ الَّذِينَ يَهْجُرُونَ السَيِّئَاتِ وَ لَمْ يَأتُوا بِهَا. وَ يَقُولُ الرَّجُلُ: جَاهَدْتُ، وَ لَمْ يُجَاهِدْ. إنَّمَا الجِهَادُ اجْتِنَابُ المَحَارِمِ وَ مُجَاهَدَةُ العَدُوِّ. وَ قَدْ يُقَاتِلُ أقْوَامٌ فَيُحِبُّونَ القِتَالَ، لَا يُرِيدُونَ إلَّا الذِّكْرَ وَ الأجْرَ...
    2. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٣۸، بإسناده المتّصل عن مِهزم الأسديّ قال: قال أبوعبدالله عليه‌السلام:
      يَا مِهْزَمُ! شِيعَتُنَا مَنْ لَا يَعْدُو صَوْتُهُ سَمْعَهُ، وَ لَا شَحْنَاؤُهُ بَدَنَهُ، وَ لَا يَمْتَدِحُ بِنَا مُعْلِناً، وَ لَا يُجَالِسُ لَنَا عَائِباً، وَ لَا يُخَاصِمُ لَنَا قَالِياً. إن لَقِيَ مُؤْمِناً أكْرَمَهُ، وَ إن لَقِيَ جَاهِلًا هَجَرَهُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

112
  • و الهجرة بالقلب من مودّتهم و الميل إليهم، فقد قال سيّد الأولياء عليه‌السلام: وَ الجِهَادُ عَلَى أرْبَعِ شُعَبٍ،

  • حيث عدّ إحدى الشعب شنئان الفاسقين.۱ و الهجرة بكليهما (بالبدن و القلب) من العادات و الآداب، إذ العادات و الآداب من مهمّات بلاد الكفر.

  • فقد روى في جامع الكلينيّ، في رواية السكونيّ عن الصادق عليه‌السلام، عن الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: أرْكَانُ الكُفْرِ أرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ، وَ الرَّهْبَةُ، وَ السَّخَطُ، وَ الغَضَبُ.٢

    1. وردت هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٥۰ بإسناده المتّصل عن جابر، عن أبي جعفر عليه‌السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام:
      سُئِلَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الإيمَانِ، فَقَالَ: إن اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَ الإيمَان عَلَى أرْبَعِ دَعَائِمٍ: عَلَى الصَّبْرِ وَ اليَقِينِ وَ العَدْلِ وَ الجِهَادِ.
      ثمّ بيّن كلّ واحدة منها، حتّى بلغ إلى الجهاد فقال: وَ الجِهَادُ عَلَى أرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَ الصِّدْقِ في المَوَاطِنِ، وَ شَنَئَانِ الفَاسِقِينَ. ثمّ ذكر كلّ واحدة من هذه الشعب، ثمّ قال عن شنئان الفاسقين: وَ مَنْ شَنَأ الفَاسِقِينَ غَضِبَ لِلَّهِ، وَ مَنْ غَضِبَ لِلَّهِ، غَضِبَ اللهُ لَهُ. ثمّ قال: فَذَلِكَ هُوَ الإيمَان وَ دَعائِمُهُ وَ شُعَبُهُ.
    2. وردت هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢۸٩.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

113
  • و فُسّرت «الرَّهبة» بالرهبة من الناس في مخالطتهم في عاداتهم و نواميسهم.

  • و بعد هذه الهجرة، الالتحاق بالرسول و قصد طاعته في جميع الامور، و خدمته بالمجادلة مع جنود الشيطان و قهرها.

  • السادس: الجهاد الأكبر

  • و هو عبارة عن محاربة جنود الشيطان بمعونة حزب الرحمن (و هم جُند العقل). حيث ورد في حديث سماعة بن مهران عن الصادق عليه‌السلام:

  • ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وَ سَبْعِينَ جُنْداً، فَلَمَّا رَأى الجَهْلُ مَا أكْرَمَ اللهُ بِهِ العَقْلَ وَ مَا أعْطَاهُ، أضْمَرَ لَهُ العَدَاوَةَ، فَقَالَ الجَهْلُ: يَا رَبِّ! هَذَا خَلْقٌ مِثْلِي خَلَقْتَهُ وَ كَرَّمْتَهُ وَ قَوَّيْتَهُ، وَ أنَا ضِدُّهُ وَ لَا قُوَّةَ لي بِهِ فَأعْطِنِي مِنَ الجُنْدِ مِثْلَ مَا أعْطَيْتَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ‌ إلى أن قال: فَعْطَاهُ خَمْسَةً وَ سَبْعِينَ جُنْداً ... إلى أن قال: فَإنَّ أحَدَهُمْ لَا يَخْلُو مِنْ أنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الجُنُودِ حتّى يَسْتَكْمِلَ وَ يُنْقَي مِنْ جُنُودِ الجَهْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ في الدَّرَجَةِ العُلْيَا مَعَ الأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ.۱

    1. أورد الكلينيّ هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٢۰، و هو حديث مفصّل، حيث ذكر الإمام الصادق عليه‌السلام للعقل خمسة و سبعين جُنداً، و بيّنها واحداً فواحداً، ثمّ ذكر للجهل خمسة و سبعين جُنداً، يقابل كلّ واحد منها واحداً من جنود العقل، فذكرها بأسمائها، و ذكر بإزائها ما يقابلها من جنود العقل، ثمّ قال في خاتمة الحديث:
      فَلَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الخِصَالُ كُلُّهَا مِنْ أجْنَادِ العَقْلِ إلَّا في نَبِيّ أوْ وَصِيّ نَبِيّ أوْ مُؤْمِنٍ قَدِ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ، وَ أمَّا سَائِرُ ذَلِكِ مِنْ مَوَالِينَا، فَإنَّ أحَدَهُمْ لَا يَخْلُو مِنْ أنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الجُنُودِ، حتّى يَسْتَكْمِلَ وَ يُنْقَي مِنْ جُنُودِ الجَهْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ في الدَّرَجَةِ العُلْيَا مَعَ الأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ. وَ إنَّمَا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ العَقْلِ وَ جُنُودِهِ، وَ بِمُجَانَبَةِ الجَهْلِ وَ جُنُودِهِ. وَفَّقَنَا اللهُ وَ إيَّاكُمْ لِطَاعَتِهِ وَ مَرْضَاتِهِ انتهى.
      وأنا أقول (آمين) ثلاث مرّات.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

114
  • السابع: الفتح و الظفر بجنود الشيطان

  • و النجاة من تسلّطهم، و الخروج من عالَم الجهل و الطبيعة. و يشير إلى أصحاب هذه المرحلة (العرصة) الإمام الصادق عليه السلام في حديث اليمانيّ:

  • شِيعَتُنَا أهْلُ الهُدَى، وَ أهْلُ التقوى، وَ أهْلُ الخَيْرِ، وَ أهْلُ الإيمَانِ، وَ أهْلُ الفَتْحِ وَ الظَّفَرِ.۱

    1. ورد حديث الفتح و الظفر في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٣٣، بإسناده المتّصل عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن رجل، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال: شَيعَتُنَا أهْلُ الهُدَى، وَ أهْلُ التُّقَى، وَ أهْلُ الخَيْرِ، وَ أهْلُ الإيمَانِ، وَ أهْلُ الفَتْحِ وَ الظَّفَرِ. و اعلم بأنّ المجلسيّ رحمه الله أورد هذه الرواية في «البحار» في المجلّد الخامس عشر، في الجزء الأوّل منه، ص ۱٥٢، و بعد بيان له في شأن الفتح و الظفر قال:
      فَالمُرَادُ بِهِ إمَّا الفَتْحُ وَ الظَّفَرُ عَلَى المُخَالِفِينَ بِالحُجَجِ وَ البَرَاهِينِ، أوْ عَلَى الأعَادِي الظَّاهِرَةِ إن امِرُوا بِالجِهَادِ فَإنَّهُمْ أهْلُ اليَقِينِ وَ الشَّجَاعَةِ. أوْ عَلَى الأعَادِي البَاطِنِيَّةِ، بِغَلَبَةِ جُنُودِ العَقْلِ عَلَى عَسَاكِرِ الجَهْلِ وَ الجُنُودِ الشَّيْطَانِيَّةِ بِالمُجَاهَدَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ، كَمَا مَرَّ في كِتَابِ العَقْلِ. أوِ المُرَادُ أنَّهُمْ أهْلٌ لِفَتْحِ أبْوَابِ العِنَايَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَ الإفَاضَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَ أهْلُ الظَّفَرِ بِالمَقْصُودِ، كَمَا قِيلَ: إن الأوَّلَ إشَارَةٌ إلى كَمَالِهِمْ في القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَ الثاني إلى كَمَالِهِمْ في القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ حتّى بَلَغُوا إلى غَايَتِهِمَا، وَ هُوَ فَتْحُ أبْوَابِ الأسْرَارِ وَ الفَوْزُ بِقُرْبِ الحَقِّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

115
  • الثامن: الإسلامُ الأعظم

  • و بيان هذه المرحلة أنّ الإنسان قبل دخوله في عالَم الفتح و الظفر و الغلبة على جُند إبليس و الطبيعة مبتلى في عالَم الطبيعة، و أسير جنود الوَهم و الغضب و الشهوة، و مغلوبٌ للأهواء المتضادّة في لجّة الطبيعة. تحيط به الآمال و الأماني، و تستولي عليه الهموم و الغموم، يتناهبه تزاحم العادات و الآداب المتناقضة، و تؤلمه منافيات الطبع و منافرات الخواطر، يترقّب الامور المخوفة العديدة، و يتهيّأ للأحداث المهولة الجمّة، في كلّ زاوية من خاطره تشويش، و في كلّ ركن في صدره نارٌ متأجّجة، أنواع الفقر

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

116
  • و الاحتياج أمام ناظرَيه، و أصناف الآلام و الأسقام تمسك بتلابيبه، فهو تارةً مُبتلى بالأهل و العيال، و تارةً في الخوف من تلف التجارة و الأموال. يسعى إلى الجاه حيناً فلا يناله، و إلى المنصب حيناً فلا يُعطاه. قد أحاطت به أشواك الحسد و الغضب و الكبر و الأمل، و غدا في براثن حيّات و عقارب و سِباع عالم الجسمانيّة و المادّيّة ذليلًا حقيراً. قد ادلهمّ قلبُه بظلمات الوَهْم، و أوثقته في أسرها آلاف مؤلّفة من الهموم المتضادّة. أينما ولّى وجهه، صفعتْهُ يدُ الدهر، و حيثما وضع رِجلَهُ غرس فيها الدهر أشواكه.

  • و لمّا نال بتوفيقٍ غير مشروط الظفر و الانتصار في حربه و قتاله مع جنود الوهم و الغضب و الشهوة، و تخلّص من براثن العلائق و العوائق، و ودّع عالَم الطبيعة و المادّيّة، و وضع أقدامه خارج بحر الوهم و الأمل، فإنّه سيرى نفسه جوهرة فريدةً لا مثيل لها، و يضحى محيطاً بعالَم الطبيعة، مصوناً من الموت و الفناء، فارغاً من منازعة المتضادّات، مطمئنّاً من أذى المتناقضات، و سيرى في نفسه صفاءً و بهاء و نوراً و ضياء فوق إدراك عالَم الطبيعة؛ لأنّ الطالب في تلك الحال سيكون قد مات بمقتضى مُتْ عَنِ الطَّبِيعَةِ،۱ و وجد حياةً جديدة، و لأنّه سيكون بسبب‌

    1. نُسبت هذه العبارة إلى أفلاطون الحكيم، حيث قال: مُتْ عَنِ الطَّبِيعَةِ، تَحْيَى بِالحَقِيقَةِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

117
  • تخطّيه للقيامة الأنفسيّة الصغرى (و هي موت النفس الأمّارة) قد حظي بالمشاهدات المعنويّة الملكوتيّة. و ما أكثر ما سينكشف له من أمور مخفيّة و ما سيحصل له من أحوال عجيبة، و سيكون قد بلغ القيامة الوسطى.۱

    1. اعلم أن العوالم التي بين الإنسان و بين الله تعالى، التي يتوجّب على السالك عبورها قد عُبّر عنها بأربعة عوالم:
      الأوّل: عالم الطبع: و يدعى أيضاً بعالَم النفس، و عالم الحسّ، و عالم الشهادة، و عالم المادّة، و عالم المُلك، و عالَم الناسوت.
      الثاني: عالم المثال: و يدعى أيضاً بعالَم البرزخ، و عالم الخيال، و عالم القلب، و عالم الملكوت. و يُعبَّر عنه بالفارسيّة بـ «عالَمِ دِلْ».
      الثالث: عالَم العقل: و يدعى أيضاً بعالَم الروح، و عالم التجرّد عن المادّة و الصورة، و عالم الجبروت. و يُعبَّر عنه بالفارسيّة بـ «عالَمِ جانْ».
      الرابع: العالم الربوبيّ: و يدعى أيضاً بعالَم اللاهوت. و يُعبَّر عنه بالفارسيّة بـ «جانِ جانْ» أو «عالَمِ جانانْ».
      وحين يريد الإنسان عبور عالم الناسوت و الطبع، سواء بالموت الإراديّ و هو موت النفس الأمّارة، أم بالموت القهريّ، أي الموت الطبيعيّ، فإنّه سيكون قد عبر عالَم القيامة الصغرى. ذلك أنّ منازعة النفس الأمّارة و محاربتها في ميدان المجاهدة هو عبارة عن تحقّق القيامة الصغرى، و أنّ عبور تلك المرحلة يعني العبور من القيامة الصغرى. ثمّ إن المرء يرى نفسه حينذاك في عالم المثال، و ينبغي عليه المجاهدة أيضاً للعبور من ذلك العالم، حيث يدعي جهاده ذلك: قيام القيامة الوسطى و تحقّقها. و هذا القيام و التحقّق يحصل في عالم المثال و الملكوت. أمّا العبور من عالم المثال إلى عالم العقل و الجبروت، فيدعى بالعبور من القيامة الوسطى. فإن ورد المرء في عالم العقل و الجبروت، توجّب عليه المجاهدة أيضاً من أجل طيّ مراحل هذا العالم، و لذلك تقوم قيامته الكبرى الأنفسيّة و تتحقّق. و من ثمّ فإنّ القيامة الكبرى واقعة في عالم العقل و الجبروت، و يدعى عبور عالم العقل و الجبروت إلى عالم اللاهوت بالعبور من القيامة الكبرى الأنفسيّة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

118
  • فإن لم تدركه العناية الأزليّة في ذلك الوقت، اكتنفه العُجب و الغرور لما يشاهده في نفسه، فتتملّكه الأنانيّة، و يتصدّى لقطع الطريق عليه رئيس الأبالسة و العدوّ الكامن في نفسه بين جنبيه، بعد أن تصدّى له حتّى الآن الأعداء الخارجيّون و أذناب الشيطان. و قد ورد: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك.۱

  • و هذا العُجب و هذه الأنانيّة هما اللذان صيّراه مبتلى بعالَم الطبيعة. و قد ورد أنّ الله تعالى لمّا خلق الروح المجرّد خاطبه فقال: مَنْ أنَا؟، فلم تخطُ الروح خارج البهاء الذي اكتنفها و أحاط بها، فقالت: مَنْ أنَا؟ فأخرجها الله تعالى من عالم النور و الابتهاج، و أرسلها إلى عالم الفقر و الفاقة لتعرف نفسها.٢

    1. ورد هذا الحديث في بحار الأنوار» ج ۱٥، الجزء الثاني، ص ٤۰، في الأخلاق، نقلًا عن «عدّة الداعي».
    2. ظاهر عبارة المصنّف رحمه الله في قوله «و قد ورد»، أنّ مخاطبة الله القهّار للروح و جواب الروح قد وردا في حديث للمعصوم، و قد صرّح البعض أيضاً بكونه حديثاً، إلّا أنّيّ لم أعثر عليه في كتب الحديث. و قد نُقل ما يشبه هذا الخطاب و العتاب من الله تعالى للروح في كلام لأفلاطون في كتاب «تيماؤوس». و قد أورده المرحوم السيّد علي خان الكبير في «شرح الصحيفة السجّاديّة» حسب نقل «تلخيص الرياض» ج ۱، ص ٢۸٢.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

119
  • فإذا خرجت من عالم الطبيعة و عادت إلى حالتها الاولى، اكتنفها ذلك الكِبر و الأنانيّة، حيث حملت طائفة حديث‌ مَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ

  • على هذا. يعني أنّهم يصلون موضعاً إذا لم يرتدوا فيه رداء الكبرياء، و لا تملّكهم العُجب، لنظروا إلى أنوار عالم اللاهوت.

  • فإن لم تنقذ السالك في هذه الحال العناية الإلهيّة، ابتُلي بالكفر الأعظم، إذ الكفر في المراحل السالفة إمّا كفر بالرسول، و إمّا شرك سبّبته الامور الخارجيّة (كالشيطان و الهوى). أمّا كفر هذه المرحلة، فعبارة عن متابعة الشيطان و الهوى، و قد قال تعالى:

  • {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‌} [الآية ٦۰، من السورة ٣٦: يس‌].

  • و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ‌} [الآية ٢٣، من السورة ٤٥: الجاثية].

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

120
  • و قال الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم: الهَوَى أنْقَصُ (أبْغَضُ ظ) إلَهٍ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ في الأرْضِ.۱

  • و تخصيص «في الأرض» عائد إلى أنّه بعد الخروج من أرض الطبيعة ليس من إله أنقص من النفس، لأنّها تُتّخذ إلهاً بعد الفراغ من عالم الطبيعة و البدن و الصعود إلى مدارج النفس و الذات.

  • و إلى هذا الكفر يشير قول: النَّفْسُ هي الصَّنَمُ الأكْبَرُ.

  • و عبادة هذه الأصنام هي التي عناها إبراهيم عليه‌السلام حين دعا ربّه أن يجنّبه إيّاها: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيّ أن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ.٢

  • لأنّ‌

    1. روي في «إحياء العلوم» ج ۱، ص ۸٥، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: أبْغَضُ إلَهٍ عُبِدَ في الأرْضِ عِنْدَ اللهِ هُوَ الهَوَى. و قال في التعليقة: رواه الطبرانيّ من حديث أُمامة.
      وفي «المحجّة البيضاء» ج ۱، ص ۸٥، عن «إحياء العلوم»، و قال في تعليقته: أخرجه الطبرانيّ من حديث أمامة كما في «المغني».
    2. حصر دعاء إبراهيم عليه‌السلام في هذه الآية في صنم النفس ممّا لا وجه له. ذلك أنّنا إذا نظرنا إلى مراتب بطون القرآن الكريم و حقائقه، فإنّ الآية ستشمل جميع أنواع الأصنام، المصنوعة و غير المصنوعة، من النفس الأمّارة و الجنّ و الملك و الشيطان و أفراد الإنسان. و إذا نظرنا إلى ظاهر الآية دون باطنها فإنّها ستكون عائدة إلى الأصنام المصنوعة فقط، لأنّ إبراهيم عليه‌السلام قال في الآية التي تليها في مقام التعليل: رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ. و من الجليّ أنّ إبراهيم عليه‌السلام قد قام في ذلك العصر في وجه عبادة الأصنام المصنوعة التي كان الناس يعبدونها، و كان أكبر همّه عليه‌السلام تخليصهم من ذلك.
      أمّا الدعاء من الأنبياء فهو ممدوح دائماً و في أيّ مجال كان، سواء كان لاجتناب الأصنام المصنوعة أم حذراً من عبادة النفس الأمّارة، لأنّ المنجي هو الله تعالى على أيّة حال، سواء في بداية الطريق أم بعد بلوغ المقامات و الكمالات؛ و هذه هي وجهة النظر الواقعيّة و حقيقة الأمر.
      وأمّا بلحاظ الظاهر، فكما أنّ عبادة الأصنام الظاهريّة غير متصوّرة في حقّ إبراهيم و باقي الأنبياء عليهم السلام، فإنّ عبادة النفس (الأمّارة) غير متصوّرة كذلك في حقّهم.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

121
  • من أوضح الواضحات أنّ عبادة الأصنام المصنوعة من قِبل الخليل عليه‌السلام و أبنائه (الذين كانوا من الأنبياء) ممّا لا يمكن تصوّره.

  • و هذا الشرك هو الذي كان خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله و سلّم يستعيذ بالله تعالى منه، في قوله: أعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّرْكِ الخفي،

  • و هو المُخاطَب بخطاب: [و] {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‌} [الآية ٦٥، من السورة ٣٩: الزمر].

  • و هذا الكفر هو الذي أشار إليه بعض أكابر أهل الله في قوله: إذا ارتحل العبد عن الكون و المكان، فإنّ أوّل مقام سيُعرَض عليه مقامٌ إذا بلغه تصوّر أنّه هو الصانع. و أيّ كفر أعلى من هذا!

  • إذَا قُلْتُ ما أذْنَبتُ قَالَتْ مُجِيبَةً***وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ‌۱
    1. جاء هذا الشعر في «ريحانة الأدب» ج ۱، ص ٤٣٣، ضمن ترجمة الجُنيد، و هو شعر أنشدته جارية في زمن الجنيد. قال:وكلمات الجنيد في العرفان و أُصول الطريقة مشهورة و مدوّنة في الكتب المختصّة. و من جملتها قوله: ما انتفعتُ بشي‌ء كما انتفعتُ بهذه الأبيات التي «تغنّت» بها جارية في أحد البيوت:
      إذَا قُلتُ أهْدَي الهَجْرُ لي حُلَلَ البِلَى‌***تَقُولِينَ لَوْلَا الهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الحُبُ‌
      وَ إنْ قُلْتُ هَذَا القَلْبُ أحْرَقَهُ الهَوَى‌***تقُولِي بِنِيرَانِ الهَوَى شَرُفَ القَلْبُ‌
      وَ إنْ قُلْتُ مَا أذْنَبْتُ؟ قَالَتْ مُجِيبَةً***وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ‌
      فلمّا سمعتها صحتُ صيحةً و سقطتُ مغشيّاً عليَّ، فجاءني صاحب الدار و سألني عن حالي، فقلت: إن أبيات هذه الجارية فعلتْ بي هذا. فوهب لي صاحب الدار تلك الجارية، فأعتقتُها.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

122
  • و يقابل هذا الكفر الإسلام الأعظم، و هو الإسلام الذي أمر الحقّ جلّ شأنه به إبراهيم عليه‌السلام: {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ.} و حقيقته عبارة عن التصديق بفناء النفس و الإذعان بالعجز و الذلّة و العبوديّة و الرقّ، بعد كشف الحقيقة و الاعتقاد بأنّ ما يشاهده في نفسه من إحاطة و نور هو عين الفقر و سواد الظلمة، بل بقطع النظر عنها و فنائه و اضمحلاله في جنب الوجود المطلق و النور المحض.

  • التاسع: الإيمان الأعظم

  • و هو عبارة عن مشاهدة و معاينة فنائه، بعد التصديق و الإذعان‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

123
  • بالإسلام الأعظم. و حقيقته شدّة ظهور و وضوح الإسلام الأعظم، و تجاوزه حدود العلم و الإذعان إلى مرتبة المشاهدة و العيان. و لذلك قال تعالى لخليله:{أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}‌۱ [الآية ۱٣۱، من السورة ٢: البقرة]. و يشير إلى الدخول في هذا العالم قوله سبحانه و تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَ ادْخُلِي جَنَّتِي‌}[الآيتان ٢٩ و ٣۰، من السورة ۸٩: الفجر]، لأنّ حقيقة العبوديّة قد تحقّقت حينذاك، و لانّ الدخول في هذا العالم كناية عن المشاهدة و العيان.

  • و يكون السالك في هذه الحال قد ارتحل عن عالم الملكوت، و قامت قيامته الكبرى الأنفسيّة، و ورد في عالم الجبروت، و فاز بالمشاهدات الملكوتيّة و المعاينات الجبروتيّة، و ورد من عالم‌

    1. يُلاحَظ أنّ المصنّف رحمه الله قد عدّ خطاب الله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام بلفظ «أسلِم» على أنّه الإسلام الأعظم، و عدّ استجابة إبراهيم عليه‌السلام بلفظ «أسلمتُ لربِّ العالَمين» على أنّها مرتبة أعلى من سابقتها، أي مرتبة الإيمان الأعظم. و لعلّه استفاد هذا المعنى من إضافة كلمة «ربّ العالَمين»، لأنّ التسليم بعد التصديق بفناء النفس مقابل مشاهدة آثار عظمة الله تعالى بالنسبة إلى جميع الموجودات، و مشاهدة فناء النفس مقابل ربّ العالمين (الذي له جانب الربوبيّة لجميع الموجودات)، و الاعتراف بهذا المعنى و مشاهدته، هو الإيمان الاعظم.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

124
  • النفوس المعلّقة بالأفلاك إلى العالم المنزّه عن الأجسام. و في طلب هذه المنزلة قيل:

  • بَينِي وَ بَيْنَكَ أنّيّ يُنَازِعُنِي‌***فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ أنّيّ مِنَ البَيْنِ‌۱
  • العاشر: الهجرة العظمى

  • و هي عبارة عن هجرة السالك من وجوده و رفضه له، و سفره إلى عالم الوجود المطلق، و التفاته التامّ لذلك العالم. و قد أمِر بهذه الهجرة فقيل: دَعْ نَفْسَكَ وَ تَعَالَ.٢

  • و يشير إليه قوله تعالى: {وَ ادْخُلِي جَنَّتِي}‌ بعد قوله: {فَادْخُلِي}‌

    1. هذا البيت للحسين بن منصور الحلّاج، و قد أورده المرحوم صدرالمتأ لّهين في «الأسفار» ج ۱، ص ۱۱٦.
    2. جاء في «تذكرة الأولياء» ج ۱، ص ۱٤٩، نقلًا عن بايزيد البسطاميّ أنّه قال: لمّا بلغتُ مقام القُرب قيل لي: أَرِدْ. قلتُ: لا إرادة لي، فأَرِد أَنتَ لي. قيل: أَرِد! قلتُ: أريدُك أنت فحسب!... قيل: ذاك محال مادام هناك ذرّة من وجود بايزيد، دَعْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ.
      ونقل في ص ۱٥۰ عن بايزيد أنّه قال: ناجيتُ مرّة فقلتُ: كَيْفَ الوُصُولُ إلَيْكَ؟ فسمعتُ منادياً يقول: يا بايزيد! طَلِّقْ نَفْسَكَ ثَلَاثاً ثُمَّ قُلِ اللهُ.
      أمّا في «طبقات الأخيار» للشعرانيّ، ج ۱، ص ۷۷، فقد نقل كلام بايزيد بهذا اللفظ: وَ كَانَ يَقُولُ: رَأيْتُ رَبَّ العِزَّةِ في النَّوْمِ المَنَامِ فَقُلْتُ يَا رَبِّ! كَيْفَ أجِدُكَ؟ فَقَالَ: فَارِقْ نَفسَكَ وَ تَعَالَ إلى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

125
  • {فِي عِبادِي‌} لأن‌ {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} خطابٌ إلى النفس التي فرغت من الجهاد الأكبر و وردت عالَم الفتح و الظفر، و هو مقرّ الاطمئنان.

  • و لمّا كان هذا القدْر من الوصول إلى المقصد غير كافٍ، فقد أمِر بالرجوع إلى ربّه. و قد ذكرنا تفصيل كيفيّة الرجوع.۱

    1. يمكن القول بأنّ خطاب يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ هو خطاب للنفس التي فرغت من الجهاد الأكبر و وردت في عالم الظفر و الفتح، و سلّمت نفسها للحقّ تعالى، و أدركت الإسلام الأعظم، و بواسطة مشاهدة فنائها في قبال وجود ذات الحقّ و اعترافها و إذعانها القلبيّ بهذا الأمر، فقد بلغت مرتبة الإيمان الأعظم (الذي هو مقرّ الاطمئنان و محلّ السكينة و الطمأنينة) و حطّت رحالها في هذا الموضع، و بعد ذلك جاءها خطاب ارْجِعِي إلى رَبِّكِ يأمرها بالهجرة من وجودها إلى وجود الحقّ (الربّ)، إذ الرجوع بالهجرة أنسب.
      ومعلوم أنّ السالك بعد هذه الهجرة (و هي الهجرة العظمى التي ارتحل فيها من عالم النفس و حطّ رحاله في عالم الحقّ) سيكون راضياً بقضاء و قدر الله التشريعيّ و التكوينيّ، و أنّ أيّ مخالفة أو معصية لن تبدر منه، و هو معنى رضا العبد عن الله تعالى. كما أنّ من المعلوم أنّ الله تعالى سيكون راضياً عن مثل هذا العبد الذي طوى طريق العبوديّة بكامله، و لذلك ستتّصف نفس العبد بصفة «راضيةً مرضيّةً».
      بَيدَ أنّه لمّا كانت الآثار الوجوديّة للعبد غير منتفية تماماً، فينبغي عليه الشروع بالجهاد الأعظم للقضاء على آثارها، و لو كانت بقايا خفيّة. و حينذاك يتحقّق له معنى العبوديّة الذاتيّة، و جملة «فَادْخُلِي في عِبَدِي» دالّة على هذا الجهاد الأعظم الذي هو الغاية القصوى لدرجة العبوديّة. و بعد ذلك يجب أن يزال هذا المَيْز في العبوديّة، الذي أوجد لديه شائبة الاثنينيّة، فيرد بواسطة الفناء المطلق في الذات الإلهيّة في عالم اللاهوت (و هو عالم المُخلَصين) الذي يُدعى جنّة الذات. و يدلّ على ذلك جملة «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» الواردة بعد جملة «فَادْخُلِي في عِبَدِي».
      وبعد الدخول في جنّة الذات ينتهي السير في العوالم الاثني عشر، الذي هو «السير إلى الله تعالى».
      واعلمْ أنّ الله تعالى لم ينسب في قرآنه الكريم الجنّة إلى نفسه إلّا في هذا الموضع، فعبّر عنها بلفظ «جنّتي». و أعلى هذه الأقسام من الجنّات الثمانية يُدعى «جنّة الذات».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

126
  • فقد أمِر إذاً بالدخول ابتداءً في العِباد، و هو الإيمان الأعظم، ثمّ أمر بالترقّي و الدخول في جنّة الله بترك وجوده و بالدخول في عالم الخلوص و الرجوع إلى ربّه. أمّا ما عُبّر عنه بتعبير {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}، فليس إلّا هذه المرحلة: مرحلة الإيمان الأعظم. لأنّ صدق الأمر الذي هو فناؤه، و محلّ السكون الصادق الذي هو الوجود المحض إنّما يحصلان في هذه المرحلة.

  • و بالنظر إلى أنّ المجاهدة العظمى لم تتحقّق بعدُ، و أنّ آثار

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

127
  • وجود السالك لا تزال باقية حتّى الآن، و أنّ اضمحلال تلك الآثار في نظر السالك موقوف على المجاهدة، فإنّه لم يأمن تماماً من سطوات سياط القهر، و هو لذلك يقف في مضمار هذين الاسمَين الجليلَين.۱

  • الحادي عشر: عالم الجهاد الأعظم

  • و هو عبارة عن توسّله بعد هجرته من وجوده بالمليك المقتدر، ليجاهد آثار وجوده الضعيفة، من أجل أن ينفيها بالمرّة ليخطو و هو ممحيّ على بساط التوحيد المطلق.

  • الثاني عشر: عالم الخلوص

  • و قد سمعتَ شيئاً من تفصيله، و هو عالم الفتح و الظفر بعد الجهاد الأعظم. و إليه أشير في قوله تعالى: {أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.}

    1. يعني أنّ السالك لمّا وصل إلى عالم الإيمان الأعظم (و هو موضع الصدق)، فإنّه باعتبار عدم مجاهدته بالجهاد الأعظم، و باعتبار عدم نفيه آثار وجوده نفياً كاملًا سيكون في مضمار الاسمَين الكبيرَين، يعني اسم المليك و اسم المقتدر.
      وبعبارة أخرى، فإنّه سيجد نفسه تحت سيطرة و قهر الملك المقتدر، و عليه أن يجاهد متوسّلًا بهذا المليك المقتدر ليخرج كلّيّاً من بقايا آثار وجوده. و حينذاك سيخرج من مضمار هذين الاسمَين و يدخل تحت اسم أحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

128
  • أمّا و قد أمن الآن من سطوة القهر، و ترعرع في حِجر تربية مربّي الأزل، فسيدخل في مضمار هذا الاسم الذي أشير إليه في‌ {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‌ رَبِّكِ،} و في: {إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‌}[الآية ۱٥٦، من السورة ٢: البقرة].

  • بِدَمِ المحِبِّ يُبَاعُ وَصْلُهُمُ‌***فَاسْمَحْ بِنَفْسِكَ إنْ أرَدْتَ وِصَالًا
  • و حينذاك تقوم قيامته العظمى الأنفسيّة، و يكون قد تخطّى الأجسام و الأرواح و التعيّنات و الأعيان بأسرها، و فَنى منها بأجمعها، و خطى في عالَم اللاهوت، و فاز بالحياة الحقيقيّة الأبديّة، و انتقل من المعاينات الجبروتيّة إلى التجلّيات اللاهوتيّة، و فاز {وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}‌۱، {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ}‌ [الآية ٦۱، من السورة ٣۷: الصافّات‌]، فيخرج آنذاك من تحت‌ {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ‌} [الآية ۱۸٥، من السورة ٣: آل عمران؛ و الآية ٣٥، من السورة ٢۱: الأنبياء؛ و الآية ٥۷، من السورة ٢٩: العنكبوت‌]، إذ ليس عندئذ مِن نفس، و يصبح مصداق‌ {أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ}‌

    1. وردت هذه الآية بهذه الكيفيّة في موضعين من القرآن الكريم، الأوّل: سورة التوبة، الآية ۱۱۱؛ و الثاني: سورة غافر، الآية ٩؛ كما وردت بدون الواو في أربعة مواضع اخرى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

129
  • {وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‌} [الآية ۱٢٢، من السورة ٦: الأنعام‌]، و مصداق‌ {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ‌} في الآية الكريمة {وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ‌} [الآية ٦۸، من السورة ٣٩: الزمر]. و هو آنذاك الميّت الحيّ. فهو ميّت بالموت الإراديّ من عالم الطبيعة و النفس، و حيّ بالحياة الحقيقيّة في عالَم اللاهوت و الخلوص. و من هنا قيل: مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلى مَيِّتٍ يَمْشِي، فَلْيَنْظُرْ إلى عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.۱

    1. لم يعثر هذا الحقير على سند لهذا الحديث على الرغم من تفحّصي الزائد، مع أنّ من الممكن أنّ المصنّف رحمه الله لم يقصد في قوله «و من هنا قيل» أنّ هذا القول حديث، بل لعلّه كلام لبعض الأعلام و العرفاء. بَيدَ أنّ هذا الاحتمال من سياق عبارات المصنّف رحمه الله بعيد، لأنّه حيثما أورد نظير هذا التعبير، فقد نقل كلمات لرسول الله و الأئمّة المعصومين.
      أجل، أورد صدر المتأ لّهين في تفسير سورة السجدة، ص ۱۱۷، الطبعة الحروفيّة، أنّه جاء في حديث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلى مَيِّتٍ يَمْشِي، فَلْيَنْظُرَ إلى عليّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

131
  •  

  •  

  • القِسمُ الثاني: امّا و قد علمت تفصيل هذه العلوم الاثني عشر، فسأُبَّين لك طريق السلوك و السفر فيها على سبيل الإجمال أعَانَكَ اللهُ عَلَيْهِ. و سأذكره لك في بيانَين زيادة في البشيرة. 

  • في طَرِيِق السُّلُوكِ إلى اللهِ وفّقَ بَيَانَينِ‌

  •  

  •  

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

132
  • الفَصل الأوّل: بَيَانٌ إجمَالِيّ في طَرِيقِ السُّلُوكِ إلى اللَهِ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

133
  • عند غياب اليقين العلميّ ينبغي اللجوء إلى التضرّع‌

  • فأقول في البيان الأوّل

  • أوجّه كلامي إلى مَن فكّر بالطلب و لم يكن غافلًا و لا ذاهلًا بالمرّة. و مثل هذا الشخص عليه أوّلًا أن يسعى في الطلب، فيجتهد في تفحّص الأديان و المذاهب على قدر قابليّته، و ينظر في الشواهد و الآيات و البيّنات و القرائن و الأمارات الحسّيّة و الذوقيّة و العقليّة و الحدسيّة، و يبذل في ذلك قصارى جهده من أجل أن يُدرك توحيد الله و حقيقة هدايته و لو بأدنى مرتبة علم اليقين. بل ينفعه في هذا المقام مجرّد الظنّ و الرجحان. و بعد تحصيل هذا التصديق العِلميّ أو الرجحانيّ يخرج من عالم الكفر و يدخل مرحلتَي الإسلام و الإيمان الأصغرَين و يطويهما.

  • و الإجماع واقع في هاتين المرحلتَين على أنّ تحصيل الدليل واجب على كلّ مكلّف. فإن لم يحصل له أيّ رجحان بعد تفحّصه و جهده و تعقّله و نظره، فعليه أن يتعلّق بأذيال التضرّع و البكاء و التوسّل و الابتهال و التذلّل، و أن يصرّ في ذلك، فسيُفتح له حتماً،

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

134
  • كما هو المأثور عن النبيّ إدريس عليه‌السلام و أتباعه.۱

    1. روى المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٥، ص ۷٥، طبعة أمين الضرب، عن «علل الشرايع»؛ و الصدوق في «علل الشرايع» ص ٢۷، طبعة النجف، بإسناده عن وهب بن منبّه قال:
      إن إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا طَوِيلًا... إلى أن قال: وَ إنَّمَا سُمِّيَ إدْرِيسَ لِكَثْرَةِ مَا كَانَ يَدْرُسُ مِنْ حِكَمِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ سُنَنِ الإسْلَامِ وَ هُوَ بَيْنَ أظْهُرِ قَوْمِهِ. ثُمَّ إنَّهُ فَكَّرَ في عَظَمَةِ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَقَالَ: إن لِهَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَ لِهَذِهِ الأرَضِينَ وَ لِهَذَا الخَلْقِ العَظِيمِ وَ الشَّمْسِ وَ القَمَرِ وَ النُّجُومِ وَ السَّحَابِ وَ المَطَرِ وَ هَذِهِ الأشْيَاءِ التي تَكُونُ لَرَبَّاً يُدَبِّرُهَا وَ يُصْلِحُهَا بِقُدْرَتِهِ، فَكَيْفَ لي بِهَذَا الرَّبِّ؟ فَأعْبُدُهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ...
      فَخَلَا بِطَائِفَةٍ مِنَ قَوْمِهِ فَجَعَلَ يَعِظُهُمْ وَ يُذَكِّرُهُمْ وَ يُخَوِّفُهُمْ وَ يَدْعُوهُمْ إلى عِبَادَةِ خَالِقِ هَذِهِ الأشْيَاءِ، فَلَا يَزَالُ يُجِيبُهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، حتّى صَارُوا سَبْعَةً، ثُمَّ سَبْعِينَ، إلى أنْ صَارُوا سَبْعَمِائَةٍ، ثُمَّ بَلَغُوا ألْفاً. فَلَمَّا بَلَغُوا ألْفاً، قَالَ لَهُمْ: تَعَالَوا نَخْتَرْ مِنْ خِيَارِنَا مِائَةَ رَجُلٍ، فَاخْتَارُوا مِنْ خِيَارِهِمْ مِائَةَ رَجْلٍ، وَاخْتَارُوا مِنَ المِائَةِ سَبْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ اخْتَارُوا مِنَ السَّبْعِينَ عَشْرَةً، ثُمَّ اخْتَارُوا مِنْ العَشْرَةِ سَبْعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: تَعَالَوا فَلْيَدْعُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ فَلْيُؤَمِّنْ بَقِيَّتُنَا فَلَعَلَّ هَذَا الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ يَدُلُّنَا عَلَى عِبَادَتِهِ. فَوَضَعُوا أيْدِيَهُمْ عَلَى الأرْضِ، وَ دَعَوا طَوِيلًا، فَلَم يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْ‌ءٌ، ثُمَّ رَفَعُوا أيْدِيَهُمْ إلى السَّمَاءِ، فَأوْحَى اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ إلى إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ نَبَّأَهُ وَ دَلَّهُ عَلَى عِبَادَتِهِ وَ مَنْ آمَنَ مَعَهُ. فَلَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ لَا يُشرِكُونَ بِهِ شَيْئاً حتّى رَفَعَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ إدْرِيسَ إلى السَّمَاءِ وَانْقَرَضَ مَنْ تَابَعَهُ عَلَى دِينِهِ إلَّا قَلِيلًا. ثُمَّ إنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَ أحْدَثُوا الأحْدَاثَ وَ أبْدَعُوا البِدَعَ حتّى كَانَ زَمَانُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

135
  • و من الأفضل في هذه الأوقات أن ينشغل بعدّة أذكار مؤثّرة في حصول اليقين في هذه المرحلة. و سيُشار إلى بعض تلك الأذكار.

  • فإن هو تخطّى هذه المرحلة، فليسعَ جهده في تحصيل الإسلام و الإيمان الأكبرَين. و أوّل ما يلزمه في هذه المرحلة العِلم بأحكام و آداب و فرائض و شرائع الهادي الناجي الذي اعتقد بكونه ناجياً. سواء عن طريق سماعها من ذلك الهادي أم من خليفته أم نائبه، أو عن طريق فهمه لكلامه إن كان أهلًا للفهم أو باتّباع مَن هو أهلٌ للفهم، الذي يدعى في الشريعة بـ «الفقيه».

  • و بعد العِلم بها و تحصيلها و التسليم و الانقياد و ترك الاعتراض، عليه أن يواظب على العمل بها و المحافظة على أداء الفرائض و الآداب، ليزداد بهذا السبب وضوح المعرفة و اليقين بها درجةً فدرجةً، و ليشتدّ بسبب العمل و الآثار الإيمان في الجوارح، أنّ العمل موجب للعلم، و العلم مورث للعمل. و قد صرّح بهذه الطريقة في أخبار كثيرة، حيث ورد في حديث عبد العزيز المذكور: الإيمَانُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مَرْقَاةً بَعْدَ مَرْقَاةً.

  • و يشير إلى ذلك ما ورد في حديث الحسن الصيقل، أنّ أبا عبدالله عليه‌السلام قال: الإيمَانُ بَعضُهُ مِنْ‌ 

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

136
  • بَعْضٍ.۱

  • العلم والعمل يورِثان بعضهما

  • و جاء في حديث إسماعيل بن جابر عنه عليه‌السلام قال: العِلْمُ مَقْرُونٌ بِالعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَ مَنْ عَمِلَ عَلِمَ.٢

  • و أصرحُ منها حديث محمّد بن مسلم، أنّه عليه‌السلام قال‌: الإيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالعَمَلِ وَ العَمَلُ مِنْهُ، وَ لَا يَثْبُتُ الإيمَانُ إلَّا

    1. نُقل هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٤٤، عن الحسن ابن الصيقل.
      كما أورد المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ٦٤، عن «الأمالى» و «المحاسن» بإسنادهما عن الحسن بن الصيقل قال:
      سَمِعْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: لَا يَقْبَلُ اللهُ عَمَلًا إلَّا بِمَعْرِفَةٍ، وَ لَا مَعْرِفَةَ إلَّا بِعَمَلٍ، فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ المَعْرِفَةُ عَلَى العَمَلِ، وَ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ. ألَا إن الإيمَان بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ.
      بيان الروايات الواردة في اقتران الإيمان بالعمل
    2. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٤٤، عن إسماعيل بن جابر؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ۸۱، عن «منية المريد»، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال:
      العِلْمُ مَقْرُونٌ إلى العَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَ مَنْ عَمِلَ عَلِمَ. وَ العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ، فَإنْ أجَابَهُ وَ إلَّا ارْتَحَلَ عَنْهُ.
      كما ورد في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ۸۰، عن «نهج البلاغة» بهذا اللفظ:
      العِلْمُ مَقْرُونٌ بِالعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ. وَ العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ، فَإنْ أجَابَهُ وَ إلَّا ارتَحَلَ عَنْهُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

137
  • بِعَمَلٍ.۱

  • و جاء في حديث جميل بن درّاج‌٢ و عنه عليه‌السلام قال:

    1. روي هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٣۸، بإسناده المتّصل عن محمّد بن مسلم؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥، الجزء الأوّل، ص ٢۱٩، في الإيمان، نقلًا عن «الكافي»، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال:
      سَألْتُهُ عَنِ الإيمَانِ؛ فَقَالَ: شَهَادَةُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أنَّ محمّداً رَسُولُ اللهِ، وَ الإقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَ مَا اسْتَقَرَّ في القُلُوبِ مِنَ التَّصْدِيقِ بِذَلِكَ. قَالَ، قُلْتُ: الشَّهَادَةُ ألَيْسَتْ عَمَلًا؟ قَالَ: بلى. قُلْتُ: العَمَلُ مِنَ الإيمَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الإيمَان لَا يَكُونُ إلَّا بِعَمَلٍ، وَ العَمَلُ مِنْهُ، وَ لَا يَثْبُتُ الإيمَان إلَّا بِعَمَلٍ.
    2. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٣۸، عن جميل ابن درّاج؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥، ص ٢۱٩، الجزء الأوّل، في الإيمان، قال:
      سَألْتُ أبَا عَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الإيمَانِ، فَقَالَ: شَهَادَةُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنَّ محمّداً رَسُولُ اللهِ. قَالَ، قُلْتُ: ألَيْسَ هَذَا عَمَلٌ؟ قَالَ: بلى. قُلْتُ: فَالعَمَلُ مِنَ الإيمَانِ؟ قَالَ: لَا يَثْبُتُ لَهُ الإيمَان إلَّا بِالعَمَلِ، وَ العَمَلُ مِنْهُ.
      وعلى أيّة حال، فقد وردت روايات جمّة نظير هذه الرواية، مثلما جاء في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٤، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: الإيمَان إقْرَارٌ وَ عَمَلٌ. و كما ورد في ص ٣٣ من نفس الجزء عن سلام الجُعفي قال: سَألْتُ أبَا عَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الإيمَانِ، فَقَالَ: الإيمَان أنْ يُطَاعَ اللهُ فَلَا يُعْصَى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

138
  • وَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الإيمَانُ إلَّا بِالعَمَلِ وَ العَمَلُ مِنْهُ.

  • و في تصريحات و تلويحات سيّد الأوصياء عليه‌السلام أنّ الإيمان الكامل يولد من العمل. فمن طلب الإيمانَ الأكبر، فعليه أن يطلبه من العمل.

  • بَيدَ أنّ عليه في هذه المرحلة أن يكون شعاره الرفق و المداراة كما مرّ في حديث عبد العزيز، و أن يداوم على كلّ عمل يبادر إليه، فقد ورد في الأحاديث المتواترة أنّ العمل القليل المستمرّ أفضل عند الله من الكثير غير المستمرّ.

  • و عليه أن يرتفع درجةً فدرجةً، من أجل أن تحظى جميع أعضائه و جوارحه بنصيبها من الإيمان، و لئلّا يبقى عضوٌ لم ينل نصيبه.

  • ثمّ يصل به الأمر إلى حيث تنال جميع أعضائه الظاهرة و الباطنة حظّها الكامل من الإيمان، من الأوامر و النواهي الحتميّة و التنزيهيّة التي لو اهمل منها جزء، لنقص من الإيمان بذلك القدر. و مع وجود قصور الإيمان و لو قيدَ شعرة يتعذّر السير في العالم الذي يعلوه، و قد مرّ أنّ عوالم السلوك إلى الله تعالى شأنها شأن الساعات، فما لم ينطو المتقدّم تماماً، تعذّر الحصول على‌ 

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

139
  • المتأخّر.

  • و قد نُقل أنّ سالكاً أتى إلى شيخ طمعاً في نيل المراتب، فوجده في المسجد، ورآه و هو يبصق في المسجد، فعاد أدراجه و لم يعدّه مهتدياً.۱

  • و آخر سار ثوره مع المحراث في أرض موقوفة ثمّ عاد إلى أرضه، فشاهد أنّ شيئاً من تراب الأرض الموقوفة قد اختلط بأرضه، فلم يأكل من محصولات أرضه.٢

    1. جاء في «تذكرة الأولياء» ج ۱، ص ۱٣۰، ضمن ترجمة حال بايزيد البسطاميّ: نُقل أنّه اخبر بأنّ في المكان الفلانيّ شيخ كبير (في الطريقة)، فقصده من مسافة بعيدة، فلمّا جاءه رآه يبصق تجاه القبلة، فعاد أدراجه و قال: لو كان له شي‌ء من الطريقة، لما عمل خلاف الشريعة.
      المبالغة في الاحتياط لا ينسجم مع مذاق الشرع
    2. نُقل الكثير من هذه الاحتياطات و الاحترازات عن كثير من الأعلام من أرباب السلوك و العرفان و الزهّاد و العبّاد. بَيدَ أنّ هذه الاحتياطات إنّما حصلت على أساس الحال التي كانت تعرض لهم في بعض الأحيان أو في غالبها. لكنّ الشريعة الغرّاء لا تقوم على أساس هذا النوع من الضيق و العسر، إذ إن الشرع المقدّس قد أرسى بناءه على أساس الالتفات التامّ إلى الله تعالى و المراقبة الشديدة في الأخلاق و التزكية. أمّا في الامور الظاهريّة، فقد أرساه على أساس «أصالة الطهارة و الحلّيّة» و نظائر ذلك. أمّا الاحتياطات الزائدة فتصرف السالك عن التفاته إلى الله و تعيقه في سيره التكامليّ نحو عالم الإطلاق و التجرّد؛ و التدقيق الخارج عن ذوق الشرع يجعل الإنسان أسير الأوهام و الوساوس، و يوجّه أفكاره على الدوام إلى هذه الموارد، و يحرمه كلّيّاً من التفكّر و الالتفات و اطمئنان البال (التي هي أدوات السلوك)، و يغلق في وجهه الطريق إلى الله تعالى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

140
  • حَسَنَاتُ الأبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.۱

  • لزوم الحظّ الإيمانيّ لجميع الاعظاء والجوارح‌

  • ويكفي في بيان هذا المطلب قول الحقّ سبحانه و تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‌} إلى قوله‌ {وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ،} لأنّ اللغو لا تخصيص له باللسان، و كلّ عملٍ يصدر من أي عضو بحيث لا يوافق الأمر الإلهيّ، و لا يستوجب الثواب و الأجر و النورانيّة، و لا يرضى به الله، فإنّه يعدّ لغواً.

  • و أهمّ الأعضاء التي يجب أن يوفي حظّه من الإيمان: القلب، لأنّه أمير البدن، و لأنّ إيمان القلب يتعدّاه إلى سائر الأعضاء و الجوارح كما في حديث الزبيريّ و حمّاد السابقَين. فيجب مراقبة القلب في جميع الأحوال. و أمّا إيمانه فبالذِّكر و التفكّر، و لذا فقد ورد في أحاديث عديدة أنّ أفضل العبادة هو التفكّر و الذِّكر. و لذلك جاء في كتاب الله: {وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [الآية ٤٥، من السورة ٢٩: العنكبوت‌]، و به يحصل الإيمان التامّ‌ {أَلا بِذِكْرِ

    1. ليست عبارة حَسَنَاتُ الأبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ مضمون رواية، على الرغم من أنّها حكم صحيح و مطلب واقعيّ و حقيقيّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

141
  • اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‌} [الآية ٢۸، من السورة ۱٣: الرعد]. فإن تخلّف القلب عن آثار إيمانه، تخلّفت معه سائر الأعضاء: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‌} [الآية ٣٦، من السورة ٤٣: الزخرف‌].

  • فإن حَظِيَت جميع الأعضاء و الجوارح بنصيبها من الإيمان و اعتادت عليه، و كانت مصونة عن الطغيان و التمرّد، شرع السالك في عالم المجاهدة، و هجر مرافقة أبناء الزمان و أولياء الشيطان، و ارتحل عن مقتضيات الوهم و الشهوة و الغضب و العادات و الآداب بمقتضى‌ {لا يَخافُونَ‌} [في اللهِ‌] {لَوْمَةَ لائِمٍ}‌ [الآية ٥٤، من السورة ٥: المائدة]، و انتمى إلى عالم العقل،۱ و استعان بعساكر العقل في محاربة حزب الهوى و جُند الأبالسة.

  • و ينبغي ألّا تؤخّر هذه المرحلة بكاملها عن جميع المراحل السابقة، إذ كثيراً ما تكون آثار الإيمان في الجوارح منوطة بصلاح الباطن، و كثيراً ما تكون لوازم و آثار إيمان النفس متعلّقة بأعمال الجوارح. بل هاتان المرحلتان متلازمتان في الحقيقة، بحيث إن النشاط التامّ لكلّ منهما يحصل في آن واحد.

    1. ليس المراد بعالم العقل هنا عالم الروح و الجبروت، لأنّه يأتي بعد الجهاد الأكبر لا بعده، بل المراد هو ترك ما سوى الله تعالى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

142
  • ضرورة نيل أحكام الطبّ الروحانيّ لإصلاح الباطن‌

  • و بإجمال، فإنّ السالك إذا خطى في هذه المرحلة، فإنّ أوّل ما يلزمه العِلم بأحكام الطبّ الروحانيّ، من أجل أن يعرف المصالح و المفاسد، و الفضائل و الرذائل، و الدقائق و الخفايا، و حِيَل النفس و مكائدها، و يتعرّف على سائر جنود إبليس؛ و هذا هو فِقه النفس، مقابل فروع الأحكام التي هي فقه الجوارح. و العقل هو معلّم فقه النفس، كما أنّ الفقيه هو معلّم فقه الجوارح. و يدلّ عليه حديث: العَقْلُ دَلِيلُ المُؤْمِنِ.۱

  • و حديث‌: إن لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَ حُجَّةٌ بَاطِنَةٌ. أمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الأنْبِيَاءُ وَ الأئِمَّةُ، وَ أمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.٢

    1. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٢٥، بإسناده المتّصل عن إسماعيل بن مهران، عن بعض رجاله، عن أبي عبدالله عليه السلام.
      رواية الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في شأن العقل
    2. وردت هذه الفقرة ضمن وصيّة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام إلى هشام بن الحكم، و هي وصيّة طويلة ذكر فيها الإمام مزايا العقل و خصوصيّاته... قال فيها:
      يَا هِشَامُ! إن لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَينِ: حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَ حُجَّةٌ بَاطِنَةٌ، فَأمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الأنْبِيَاءُ وَ الأئِمَّةُ، وَ أمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.
      وقد وردت هذه الرواية المباركة في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ۱٣، عن أبي عبدالله الأشعريّ، عن بعض أصحابنا مرفوعاً، عن هشام بن الحكم.
      ذكر الروايات الواردة في مكارم الاخلاق
      ووردت الوصيّة بتمامها في «تحف العقول» ص ٣۸٣. و نقلها المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ٤٣، عن «تحف العقول». و مطلعها: يَا هِشَامُ! إن اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بَشَّرَ أهْلَ العَقْلِ وَ الفَهْمِ في كِتَابِهِ فَقَالَ: «بَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الألْبَابِ». (الآيتان ۱۷ و ۱۸، من السورة ٣٩: الزمر).

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

143
  • لكنّ أكثر العقول قد تكدّرت بدخولها في عالم الطبيعة، و منازعتها جُنود الوهم و الغضب و الشهوة، فأضحت قاصرة عن إدراك دقائق مكائد جند الشيطان و سبيل التغلّب عليهم، لهذا لا مناص لها من الرجوع إلى الشرع و القواعد المقرّرة فيه، حيث قال صلّى الله عليه و آله و سلّم: بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاقِ.۱

    1. جاء في «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ» مادّة «خ ل ق» و مادّة «ب ع ث» عن «الموطّأ» لمالك، باب حُسن الخلق، ص ۸، أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
      بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ.
      وجاء في «إحياء العلوم» ج ٣، ص ٤٣؛ و ج ٢، ص ۱٣۸ و ٣۱٣، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّمَا بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ. و قال في التعليقة: رواه أحمد و الحاكم في «المستدرك» و البيهقيّ.
      بَيدَ أنّيّ لم أعثر على هذه الرواية بهذا اللفظ في جوامع و أُصول
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

144
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الشيعة. بلى جاء في «مكارم الأخلاق» للطبرسيّ مرسلًا أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ.
      وللمرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٦ (في النبوّة)، ص ۱٤٦ و ۱٤۷، في تفسير قوله تعالى: وَ إنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ بيان جاء فيه:
      سُمِّيَ خُلُقُهُ عَظِيماً لِاجْتِمَاعِ مَكَارمِ الأخْلَاقِ فِيهِ، وَ يَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: إنَّمَا بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ. وَ قَالَ: أدَّبَنِي رَبِّي فَأحْسَنَ تَأدِيبِي. كما جاء في «سفينة البحار» ج ۱، ص ٤۱۰: و قال صلّى الله عليه و آله و سلّم: بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ.
      أمّا في «الأمالى» للشيخ الطوسيّ، ج ٢، ص ٢۰٩، فقد روى بإسناده المتّصل عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، عن آبائه الواحد عن الآخر، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: سَمِعْتُ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ.
      وروي هذا الحديث بعينه في «بحار الأنوار» ج ٦، ص ۱٦٣، عن «الأمالى» للشيخ الطوسيّ.
      كما روى الطوسيّ في «الأمالى» ج ٢، ص ٩٢، بإسناده المتّصل عن الإمام الرضا عليه‌السلام، عن آبائه الواحد عن الآخر، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      عَلَيْكُمْ بِمَكَارِمِ الأخْلَاقِ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ بَعَثَنِي بِهَا. وَ إن مِنْ مَكَارِمِ الأخْلَاقِ أنْ يَعْفُوَ الرَّجُلُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَ يُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ، وَ يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، وَ أنْ يَعُودَ مَنْ لَا يَعُودَهُ.
      وروى المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱٥، (جزء الأخلاق)،
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

145
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      ص ٢۱٦، هذه الرواية عن «الأمالى» للطوسيّ.
      وروى الصدوق في «معاني الأخبار» ص ۱٩۱، بإسناده المتّصل عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال:
      إن اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى خَصَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بِمَكَارِمِ الأخْلَاقِ، فَامْتَحِنُوا أنْفُسَكُمْ، فَإنْ كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَ ارْغَبُوا إلَيْهِ في الزِّيَادَةِ مِنْهَا. فَذَكَرَهَا عَشَرَةً: اليَقِينُ وَ القَنَاعَةُ وَ الصَّبْرُ وَ الشُّكْرُ وَ الرِّضَا وَ حُسْنُ الخُلُقِ وَ السَّخَاءِ وَ الغَيْرَةُ وَ الشَّجَاعَةُ وَ المُرُوءَةُ.
      وورد نظير هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٥٦، عن الإمام الصادق عليه‌السلام بأدنى اختلاف في اللفظ، إلّا أنّه أورد لفظ «خَصَّ رُسُلَهُ» بصيغة الجمع بدلًا من «خَصَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ».
      كما أورد في نفس الصفحة رواية اخرى بإسناده المتّصل عن الصادق عليه‌السلام قال:
      إنَّا لَنُحِبُّ مَنْ كَانَ عَاقِلًا فَهِماً فَقِيهاً حَلِيماً مُدَارِياً صَبُوراً صَدُوقاً وَفِيَّاً. إن اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَصَّ الأنْبِيَاءَ بِمَكَارِمِ الأخْلَاقِ، فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلْيَتَضَرَّعْ إلى اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَ لْيَسْألْهُ إيَّاهَا. قَالَ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَ مَا هُنَّ؟ قَالَ: هُنَّ الوَرَعُ وَ القَنَاعَةُ وَ الصَّبْرُ وَ الشُّكْرُ وَ الحِلْمُ وَ الحَيَاءُ وَ السَّخَاءُ وَ الشَّجَاعَةُ وَ الغَيْرَةُ وَ البِرُّ وَ صِدْقُ الحَدِيثِ وَ أدَاءُ الأمَانَةِ.
      وروي في «كنوز الحقائق» للمناويّ (المطبوع في هامش «الجامع الصغير» للسيوطيّ) ج ۱، ص ٩٩، عن «ق» و «حم» (يقصد البخاريّ و مسلم و مسند أحمد بن حنبل) عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

146
  • ضرورة الاستاذ والشيخ‌

  • فلا مفرّ للطالب في هذه المرحلة أيضاً من الرجوع إلى الهادي، أو إلى خليفته، أو نائبه، أو فهم كلماته.

  • و نظراً لضرورة الاستنباط في هذه المرحلة و استخراج دقائقه، و معرفة الأمراض النفسانيّة و معالجاتها، و تشخيص المصالح و المفاسد، و معرفة مقدار دواء كلّ شخص و طريقة معالجته الخاصّة، فإنّ القائم بهذا الاستنباط باعتبار دقّته و خفائه يجب أن يكون تامّاً ذا نظر ثاقب و قوّة كبيرة و مَلَكة قدسيّة و علمٍ غزير و سعي كثير. و لهذا السبب فإنّ حصول هذا العلم قبل العمل به أمرٌ متعسّر، بل متعذّر. و لا مفرّ للطالب و الحال هذه من الرجوع إلى الهادي أو من يقوم مقامه، و يُعبَّر عنه بالشيخ أو الاستاذ.۱

    1. لزوم رجوع الجاهل إلى العالِم في جميع موارد الحاجة في مراحل الأحكام الثلاثة (الفطريّة، العقليّة، و الشرعيّة) أمرٌ مسلّم و ثابت يتّفق عليه عقلاء العالَم. و تدلّ عليه الآية المباركة: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (الآية ٤٣، من السورة ۱٦: النحل؛ و الآية ۷، من السورة ٢۱: الأنبياء). و أصرح منها في أمر التربية و الهداية إلى الصراط المستقيم قول إبراهيم عليه‌السلام لآزر: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (الآية ٤٣، من السورة ۱٩: مريم). لأنّه يصرّح: يا أبتِ لقد جاءني من العِلم ما لم يأتِك، فعليك 
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

147
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      أن تتبعني لأهديك إلى الصراط المستقيم.
      وأهل الذِّكر و أساتذة الفنون الإلهيّة و المعارف الحقّة الربّانيّة، الذين يخبرون طرق السلوك و منجيات النفوس و مهلكاتها ليسوا سوى العلماء بالأحكام الظاهريّة الشرعيّة. و ينبغي في سلوك الطريق إلى الله تعالى و كشف الحُجب أن يستشير السالك أُستاذاً متخصّصاً في هذا الفنّ، و هو الذي يدعى «العالِم بالله». و هناك في هذا الباب روايات تفوق الحصر. و لعلماء الأخلاق و العرفان الإلهيّ بيانات نفيسة و قيّمة في هذا المجال.
      وقد عبّر أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته لكميل بن زياد عن هذا الاستاذ بـ «عالِم ربّانيّ»، و جعل التعلّم على سبيل النجاة منحصراً في متابعته، و عبّر عن هؤلاء بالحُجج الإلهيّة... فقال:
      اللّهُمَّ بلى لَا تَخْلُو الأرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ؛ إمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، أوْ خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَ بَيِّنَاتُهُ. وَ كَمْ ذَا وَ أيْنَ أُولَئِكَ؟ أُولَئِكَ وَ اللهِ الأقَلُّونَ عَدَداً وَ الأعْظَمُونَ قَدْراً، يَحْفَظُ اللهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَيِّنَاتَهُ حتّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَ يَزْرَعُونَهَا في قُلُوبِ أشْبَاهِهِمْ.
      هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى.
      أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ في أرْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ. آهْ آهْ شَوْقاً إلى رُؤْيَتِهِمْ، انْصَرِفْ إذَا شِئْتَ. («نهج البلاغة»، باب الحِكم، ص ۱۷۱ إلى ۱۷٤).
      والمراد بالحجّة المشهور أو الخائف المغمور: مطلق أولياء الله
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

148
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      تعالى و الحُجج الإلهيّة الذين يتكفّلون بتعليم الامّة و تربيتها و هدايتها إلى الحضرة الأحديّة جلّ و عزّ. و ليس المراد بهم في هذا الحديث خصوص الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
      والدليل على ذلك أوّلًا أنّ الإمام بعد أن حصر جميع أفراد البشر في ثلاثة أصناف: عالِم ربّانيّ، و متعلّم على سبيل نجاة، و همج رُعاع، فإنّه تحدّث عن الحُجج الإلهيّة. و معلوم أنّ العالم الربّانيّ في اللغة لا يختصّ بالامّة، على الرغم من أنّه أفضل و أعلى و أشرف هؤلاء الأفراد. و بناء على ذلك فإنّ الحُجج الإلهيّة في هذا الكلام هم ضمن مصاديق العالم الربّانيّ، و ليس هناك قرينة لصرف تلك المصاديق إلى الأئمّة الطاهرين، و يجب القول على أساس إطلاق الكلام بأنّ كلّ من يمتلك هذه الصفات و الحالات، فإن بإمكانه أن يتصدّى لمقام تربية سالكي طريق الله، و أن يعلّم الأسرار الإلهيّة لمتعطّشي وادي المعرفة و مولّهي عالم لقاء الذات الأحديّة و الفناء فيها، كما هو مشهود في طريقة آية الله الكبرى الآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ رحمة الله عليه، و في طريقة تلامذته العرفاء المبرّزين، الذين تلألأ كلٌّ منهم نجماً ساطعاً في سماء التوحيد و المعرفة.
      وثانياً أنّ الإمام يقول في كلامه بأنّ الله تعالى يحفظ حُججه و آياته البيّنات بهم، حتّى يودعوا تلك الأسرار الإلهيّة نظائرهم، و يزرعوها في قلوب أمثالهم. و من الجليّ أن ليس من شبيه و لا نظير لشخص الإمام عليه‌السلام، لأنّ مقامه (الإمامة) أعلى و أسمى من مقام جميع الأفراد.
      فيكون المراد بالحُجّة المشهور أو الخائف المغمور أولياء الله تعالى، الذين بلغوا مقام المخلَصين، و الذين لا يتصوّر لهم أشباه
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

149
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      ونظائر.
      ومن جملة الأدلّة على لزوم متابعة السالك للهادي البصير الخبير بصراط المعرفة، كلام الإمام السجّاد عليه‌السلام المنقول في «كشف الغمّة»:
      هَلَكَ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَكِيمٌ يُرْشِدُهُ.
      وعبارة سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام ضمن خطبة له في «مِني»، و قد عدّها البعض لأمير المؤمنين عليه‌السلام (كما في «تحف العقول»):
      وَ أنْتُمْ أعْظَمُ النَّاسِ مُصِيبَةً لِمَا غُلِبْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَنَازِلِ العُلَمَاءِ لَوْ كُنْتُمْ تَشْعُرُونَ (تَعْنُونَ خ ل) ذَلِكَ بِأنَّ مَجَارِي الامُورِ وَ الأحْكَامِ عَلَى أيْدِي العُلَمَاءِ بِاللهِ، الامَنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ.
      ومعلوم أنّ مجاري الامور الباطنيّة و الأسرار الربّانيّة منحصرة لدى العالِم الربّانيّ الذي ورد منهل الشريعة، و اطّلع على مصدر الأحكام، و تعرّف على دقائق النفوس و أسرارها.
      والشاهد و الدليل الآخر على هذا المدّعى ما أورده المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ٩٣، عن كتاب «البصائر» بسندَين بأدنى اختلاف في اللفظ مرفوعاً عن الصادق عليه‌السلام قال:
      أبَى اللهُ أنْ يُجْرِي الأشْيَاءَ إلَّا بِالأسْبَابِ، فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‌ءً سَبَباً، وَ جَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحاً، وَ جَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْماً، وَ جَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَاباً نَاطِقاً، عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ، وَ جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ نَحْنُ.
      لأنّه علّل الرجوع في أيّ مقصود إلى السبب المختصّ بالوصول
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

150
  • ...۱

  • شرائط أُستاذ فقه النفس‌ وصعوبة التعرّف عليه

  • و كما أنّ هناك شروطاً مُفترَضة في أُستاذ فقه الجوارح، بحيث لا يجوز الرجوع إليه قبل معرفة تحقّقها فيه، و بحيث يبطل من دونها العمل؛ فإنّ الأمر كذلك في فقه النفس و الطبّ الروحانيّ، كما أنّ معرفة الاستاذ في هذا الفنّ أصعب، و شرائطه‌أكثر.

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)إلى ذلك المقصود. و من الواضح أنّ الأمر كذلك في مجال الأمراض الروحانيّة التي يجب الرجوع فيها إلى المتخصّص و الطبيب الروحانيّ.وأصرح منها جميعاً: كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في «نهج البلاغة»، الخطبة ٢٢۰، حيث يذكر مطالب تثير العجب في آثار و صفات هؤلاء العلماء الربّانيّين:وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ في البُرْهَةِ بَعْدَ البُرْهَةِ وَ في أزْمَانِ الفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ في فِكْرِهِمْ، وَ كَلَّمَهُمْ في ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ في الأبْصَارِ وَ الأسْمَاعِ وَ الأفْئِدَةِ.يُذَكِّرُونَ بِأيَّامِ اللهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ الأدِلَّةِ في الفَلَوَاتِ، مَنْ أخَذَ القَصْدَ حَمِدُوا إلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَ مَنْ أخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إلَيْهِ الطَّرِيقَ وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الهَلَكَةِ.وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَ أدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ، وَ إن لِلذِّكْرِ لأهْلًا أخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أيَّامَ الحَيَاةِ وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ في أسْمَاعِ الغَافِلِينَ، وَ يَأمُرُونَ بِالقِسْطِ وَ يَأتَمِرُونَ بِهِ، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ، فَكَأنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَأنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أهْلِ البَرْزَخِ في طُولِ الإقَامَةِ فِيهِ، وَ حَقَّقَتِ القِيَامَةُ عَلَيهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لأهْلِ الدُّنْيَا، حتّى كَأنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ...إلى أن يقول:يَعِجُّونَ إلى رَبِّهِمْ في مَقَاوِمِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ، لَرَأيْتَ أعْلَامَ هُدى وَ مَصَابيحَ دُجَى، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ المَلَائِكَةُ، وَ تَنَزَّلتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أبْوَابُ السَّمَاءِ وَ اعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الكَرَامَاتِ، في مَقَامٍ اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ إلى آخر الخطبة.ومن المسلّم أنّ مثل هؤلاء الأفراد يمكنهم التكفّل بتربية السالك، لأنّهم وفقاً لهذا الكلام الذين يهتفون في أسماع الغافلين بالطرق المختلفة يزجرونهم عن ارتكاب محارم الله تعالى التي سبقوهم في التناهي عنها، و يأمرونهم بالعدل و القسط الذي سبقوهم بالعمل به. حتّى كأنّهم اطّلعوا على خفايا أهل البرزخ في طول إقامتهم فيه، فهم يكشفون لأهل الدنيا عن تلك الامور الحقّة. و كأنّهم يرونَ ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون. قد أحاطت بهم ملائكة السماء من كلّ صوب و حدب، و تنزّلت عليهم السكينة، و فُتِحت لهم أبواب السماء، و أُعدّت لهم مجالس الكرامة، في مقام لا يطّلع عليه إلّا الله تعالى، قد شَكَر اللهُ سَعيهم و حمِد مقامهم.
      طيّ اين مرحله بي همرهي خضر مكن***ظلماتست بترس از خطر گمراهي‌
      يقول: «لا تطوينّ هذه المرحلة دون أن تصطحب الخضر، فهي ظُلمات عليك أن تخشي الضياع فيها!».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

151
  • خَلِيلَيّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ إلى الحِمَى‌***كَثِيرٌ وَ لَكِنْ وَاصِلُوهُ قَلِيلُ‌۱
  • و هناك فرق آخر بين أُستاذ الفقه الجسمانيّ (الذي يُدعى بالفقيه) و بين أستاذ الفقه الروحانيّ (الذي يُدعى بالشيخ)، و هو أنّ طريق فقه الجوارح جليّ و ظاهر، و أنّ قطّاع طريق الله فيه قليلون و ظاهرون؛ فيكفي أُستاذ هذا الفقه أن يشير إلى الطريق و أن يُشخّص المخادعين. خلافاً لطريق فقه النفس و الطبّ الروحانيّ، حيث يختلف طريق كلّ شخص، و يتفاوت مرضه، و حيث يتعذّر معرفة مقدار المرض و مقدار الدواء، و يعسر معرفة مرض كلّ شخص و معالجته، و حيث عقبات الطريق بلا حصر، و امتداد ارتفاعاته بلا انتهاء، و قطّاعه بلا عدد، و معرفة لصوصه مستصعب مُشكل‌٢. إذ يحصل كثيراً أن يتلبّسون بلباس الدراويش.

    1. ذكر صاين الدين عليّ بْنُ محمّد بن تركه هذا البيت في رسالته إلى فيروز شاه، و جاءت في ص ٣۰۰ من كتابه «جهارده رسالة فارسي» (= أربع عشرة رسالة بالفارسيّة) بهذا اللفظ:
      خَلِيلَيّ قُطَّاعُ الفَيَافي إلى الحِمَى‌***كَثِيرٌ وَ أَمَّا الوَاصِلُونَ قَليلُ‌
      ضرورة تبعيّة السالك لُاستاذ مُتألِّه‌
    2. نقل في «حِلية الأولياء» ج ۱۰، ص ٤۰، عن بايزيد البسطاميّ أنّه قال:لَوْ نَظَرْتُمْ إلى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الكَرَامَاتِ حتّى يُرْفَعَ في الهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حتّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَه عِنْدَ الأمْرِ وَ النَّهْيِ وَ حِفْظِ الحُدُودِ وَ أدَاءِ الشَّرِيعَةِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

152
  • لزوم ملازمة ومراقبة الشيخ الروحانيّ لمعرفته‌

  • فلا مناص إذن من مرافقة الاستاذ و الشيخ و مراقبته في جميع الأحوال، و من عرض الحال عليه في كلّ عقبة.

  • و من هنا نجد السالكين يلازمون الاستاذ مدّة متمادية، و لا يفارقونه دقيقة واحدة.

  • واعلم أنّ حال فقه النفس كحال فقه الجوارح في أنّ تمام إيمان النفس موقوف على تمام ظهور آثارها، و أنّ أثراً من آثارها لو أُهمل، فإنّ إيمان النفس سينقص بنفس القدر، فيعجز السالك من ثمّ عن السير في العالم الذي يعلو عالمه.

  • فإن طوى السالك بالعناية و التوفيق الربّانيّين، و بتعليم الشيخ الروحانيّ و جاهد كما ينبغي له المجاهدة، فإنّ النقصان الذي كان موجوداً في إسلامه و إيمانه الأصغرَين سيرتفع. فإن أخطأ آنذاك، بدا له خطأه بوضوح، و تجلّى أمامه الصراط المستقيم، و انتقل من الظنّ و التخمين إلى المشاهدة و اليقين:

  • {وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‌} [الآية ٩٩، من السورة ۱٥: الحجر]، {وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [الآية ٥٤، من السورة ٢٤: النور]،

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

153
  • {وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}[الآية ٦٩، من السورة ٢٩: العنكبوت‌]، {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى}‌۱. [الآية ۸٢، من السورة ٢۰: طه‌].

    1. و أجاد حافظ الشيرازيّ رحمه الله حين أنشد في هذا المعنى:
      مرا به رندي و عشق آن فضول عيب كند***كه اعتراض بر اسرار علم غيب كند
      كمال صدق و محبّت ببين نه نقص گناه‌***كه هر كه بي هنر افتد نظر به عيب كند
      ز عطر حور بهشت آن زمان بر آيد بوي‌***كه خاك ميكدة ما عبير جيب كند
      چنان بزد ره اسلام غمزة ساقي‌***كه اجتناب ز صهبا مگر صهيب كند
      كليد گنج سعادت قبول اهل دلست‌***مباد آنكه در اين نكته شكّ و ريب كند
      شبان وادي ايمن گهي رسد به مراد***كه چند سال به جان خدمت شعيب كند
      ز ديده خون بچكاند فسانة حافظ***چو ياد عهد شباب و زمان شيب كند
      يقول: «يعيب على ذلك الفضول عشقي و لا مبالاتي؛ و هو في ذلك إنّما يعترض على عِلم الغيب.انظر إلى كمال الصِّدق و الحبّ، لا إلى نقص الذنوب؛ إذ مَن كان بلا فنّ، تطلّع إلى العيوب. سيعبق يوماً عطر حور الجِنان، إذا هنّ ضمّخن جيوبهنّ بتراب حانتنا.لو أشار الساقي بطَرفه على طريقةِ أهل الإسلام، لَما امتنع عن الصهباء حتّى صُهيب.مفتاح كنز السعادة هو قبول أصحاب القلوب، فلا يعتريك في الأمر شكّ و لا ريب.قد يدرك راعي الغنم في الوادي الأيمن مراده، إن قضى من شبابه سنوات في خدمة شُعيب.إذا تذكّر حافظ عهد شبابه و مشيبه، تقاطرت قصّة لوعته من ناظرَيه دماً».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

154
  • قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف المجاهدين و غاية أحوالهم:

  • فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ العَمَى وَ مُشَارَكَةِ أهْلِ الهوى، وَ صارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أبْوَابِ الهُدَى، وَ مَغَالِيقِ أبْوَابِ الرَّدَى، وَ أبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ، وَ عَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ. فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ.۱

    1. فقرة من كلامه عليه‌السلام في «نهج البلاغة»، الخطبة ۸٥، و مطلعها:
      عِبَادَ اللهِ! إن مِنْ أحَبِّ عِبَادِ اللهِ إلَيْهِ عَبْداً أعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ. بَيدَ أنّ فيها لفظ قَدْ أبْصَرَ بدلًا من وَ أبْصَرَ؛ كما ورد فيها بعد قوله: وَ قَطَعَ غِمَارَهُ جملة: وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ العُرَى بِأوْثَقِهَا، وَ مِنَ الحِبَالِ بِأمْتَنِهَا، ثمّ قال: فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ.
      وأمّا كلامه الآخر: «هجم بهم العلم»، فقد ورد أيضاً ضمن حِكمه عليه‌السلام في «نهج البلاغة» ج ٢، ص ٥٤۸، شرح المولى فتح الله؛ و في شرح محمّد عبده، ص ۱۷۱، الحكمة رقم ۱٤۷، في موعظته لكُمَيل، و مطلعها: يَا كُمَيْلُ! إن هَذِهِ القُلُوبُ أوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أوْعَاهَا، و ورد في «النهج» لفظة مُعَلَّقَةٌ بدلًا من مُتَعَلِّقَةٌ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

155
  • و قال أيضاً في وصفهم:

  • هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى ....

  • اللهمّ إلّا مَن قصّر في طريق الطلب، و تسامح في مرحلة من مراحله؛ كمن قصّر في بذل الجهد خلال الفحص الأوّل الضروريّ في الإسلام و الإيمان الأصغرَين فاختار دليلًا ضالّا، أو انحرف عن متابعة فقيهه و شيخه، أو قصّر في سعيه في معرفتهما، أو قصّر في إعطاء حظّ الجوارح أو النفس من الإيمان، أو أخطأ في ترتيب المعالجة، و سنذكر لك أنموذجاً من ذلك.

  • فإذا فرغ الطالب السالك من هذه المراحل، و تغلّب على حزب الشيطان و الجهل، و ورد عالَم الفتح و الظفر، فسيحين زمن‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

156
  • طيّه للمراحل اللاحقة، إذ إنّه طوى عالم الجسم و دخل في مُلك الروح. و حان زمن السفر الأعظم و السفر من عالم النفس و الروح، و الانتقال من دولة الملكوت إلى مملكة الجبروت و اللاهوت و غيرها.

  • الذِّكر و التفكّر و التضرّع أساس طريق السير، بعد الانتقال من عالم إلى ملك الجبروت‌

  • و أساس طريق السير في هذه المرحلة يتمثّل بعد مبايعة الشيخ البصير في الذِّكر و التفكّر و التضرّع و الابتهال و التبتّل‌و البكاء: {وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الآية ۸، من السورة ۷٣: المزّمل‌]، {وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً} [الآية ٢۰٥، من السورة ۷: الأعراف‌].

  • و من هنا فقد قال ربّ العالمين بأنّ ذِكره أكبر من الصلاةِ التي هي عمود الدِّين، و قال الصادق عليه‌السلام بأنّ التفكّر أفضل العبادة، و أنّ تفكّر ساعة واحدة أفضل من عبادة سبعين سنة.۱

    1. لقد فسّر الكثير من الأعلام الآية المباركة على النحو الذي فسّرها به المصنّف رحمه الله، فقالوا بأنّ ذِكر الله أكبر من الصلاة.
      بَيدَ أنّ هذا المطلب لا يمكن القبول به، لُامور:
      أوّلها: أنّ الصلاة هي بذاتها ذِكر، بل من أعظم مصاديق الذِّكر، لأنّ روح الصلاة في جميع أفعال الصلاة و أقوالها هو حضور القلب، و هو حقيقة الذكر.
      وثانيها: أنّ هذه الآية، أي الآية ٤٥، من السورة ٢٩: العنكبوت: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‌ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ، لا تقول بأنّ ذِكر الله أكبر من الصلاة. بل وردت جملة وَ لَذِكْرُ اللهِ تعليلًا للجملة السابقة.
      أي أنّها تريد القول بأنّ الصلاة التي هي بذاتها ذِكر تنهى عن الفحشاء و المنكَر لأنّها ذِكر الله الأكبر. و أنّ الصلاة أكبر و أشدّ تأثيراً في النهي عن الفحشاء و المنكر من أيّ شي‌ء آخر.
      فإن لم نعتبر الجملة تعليليّة، فإنّ معناها سيبقى: أنّ الصلاة التي هي ذِكر الله أكبر من الفحشاء و المُنكر، و أنّ ذِكر الله (أي الصلاة) أكبر و أعلى من كلّ لذّة و سرور غير مشروعَين.
      وثالثها: أنّ مذاق الشرع و الرسول (الذي جاء بهذه الآية) يفيدان أنّ الصلاة أكبر و أعلى من كلّ عمل و موضوع؛ فقد قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، وَ مَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ. و قال: الصَّلَاةُ مِيزَانٌ، مَنْ وَفي اسْتَوْفي. و قال: الصَّلَاةُ عَمُودُ الدِّينِ. و قال: إنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ عَمُودِ الفُسْطَاطِ. و قال: أوَّلُ مَا يُسْألُ العَبْدُ عَنْهُ الصَّلَاةُ. و قال: الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيّ.
      وأصرحُ منها جميعاً ما رواه الكلينيّ في «الكافي» ج ٣، ص ٢٦٤، عن معاوية بن وَهَب قال:
      سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أفْضَلِ مَا يَتَقَرَّبُ العِبَادُ إلى رَبِّهِم وَ أحَبِّ ذَلِكَ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: مَا أعْلَمُ شَيْئاً بَعْدَ المَعْرِفَةِ أفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ، ألَا تَرَى أنَّ العَبدَ الصَّالِحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ: «وَ أوْصَانِي بِالصَّلَوةِ وَ الزَّكَوةِ مَادُمْتُ حَيًّا».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

157
  • فإن انتهت هذه المرحلة بدورها، فقد تمّ الكلام و التفكّر

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

158
  • و العزلة و السير و السلوك و الطلب و الطالب و المطلوب و النقصان و الكمال‌ إذَا بَلَغَ الكَلَامُ إلى اللهِ فَأمْسِكُوا.۱

  • و هذا هو البيان الإجمإليّ الأوّل لطريق سلوك سبيل عالم الخُلوص.

    1. روى الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ٩٢؛ و الصدوق في «التوحيد» ص ٤٥٦؛ و المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٢، ص ۸٣، عن «المحاسن» للبرقيّ، بإسنادهم جميعاً، عن سليمان بن خالد قال: قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إن اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: «وَ أنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنتَهَي»؛ فَإذَا انتهى الكَلَامُ إلى اللهِ فَأمْسِكُوا.
      كما نقل المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٢، ص ۸٢، عن تفسير على ابن إبراهيم في تفسير الآية المباركة وَ أَنَّ إِلى‌ رَبِّكَ الْمُنْتَهى، عن ابن أبي عمير، عن جميل، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا، و تكلموا فيما دون العرش و لا تكلموا فيما فوق العرش، فإن قوما تكلموا فيما فوق العرش فتاهت عقولهم، حتى كان الرجل ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه، و ينادى من خلفه فيجيب من بين يديه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

160
  • الفَصل الثاني: بَيَانٌ تَفصِيليّ لِطَريقَةِ السُّلُوكِ إلى اللهِ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

162
  • و أمّا البيان الثاني‌

  • فاعلم أنّ علماء الطريقة ذكروا منازل و عقبات للسالك، و بيّنوا طريق السير فيها. و أنّهم اختلفوا في عدد المنازل و ترتيبها، حتّى تفاوتت ما بين سبعة منازل على أقلّ الأقوال و سبعمائة شرح المولى جعفر كبوتر آهنكي للحُجب الخمسة في الدعاء لاميرالمؤمنين عليه السلام‌

  • و هو قول الأكثريّة و صرّح بعضهم بأنّها تبلغ سبعين ألفاً.۱

    1. اعلم أنّه إنّما عبّر عن اختلافهم في الحُجُب الواقعة في طريق السالك، فقد عدّ البعض الحُجب حجاباً واحداً، و هو عبارة عن النفس، و اعتبروا أنّ رفعه يحصل إمّا بواسطة العرفان، إذ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ، أو بواسطة بتزكية النفس و تطهيرها كما في قَدْ أفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، أو عبورها، حسب مقولة: أمَاتَ نَفْسَهُ وَ أحْيَى قَلْبَهُ.ومنهم من قال بأنّ الحجاب هو الدنيا، و المقصود بالدنيا: «ما سوى الله»، حيث قيل: أخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أبْدَانُكُمْ.وعدّه بعضهم الإنّيّة و الوجود، حيث قيل:
      بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أنّيّ يُنَازِعُنِي‌***فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ أنّيّ مِنَ البَيْنِ‌
      وعدّ بعضهم الحُجب حجابَين: الظاهر و الباطن، أو الدنيا(تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

163
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)الحُجب الخمسة في صلوات ابن عربي على الرسول الاكرموالآخرة، حيث قيل:
      از تو تا مقصود چندان منزلي در پيش نيست‌***يكقدم بر هر دو عالم نِه كه گامي بيش نيست‌
      يقول: «ليس بينك و بين مقصودك إلّا منازل معدودة، فاخطو على العالَمَين فليس أمامك إلّا خطوة».أو الشريعة و الطريقة، فإن هو أفاد منهما سويّاً بلغ إلى الحقيقة؛ أو هما عالما الشهود و الغيب، أو عالما الخلق و الأمر.واعتبرها بعضهم ثلاثة حُجب: الطبع، المثال، و العقل؛ و قال: بأنّ عبور هذه المنازل هي الوقوف على المطلوب.واعتبرها بعضهم أربعة حُجب، حيث نُقل عن بايزيد البسطاميّ أنّه قال: تركتُ الدنيا في اليوم الأوّل، و تركتُ الآخرة في الثاني، و تخطّيتُ ما سوى الله في الثالث، و في اليوم الرابع سُئلتُ: مَا تُرِيدُ؟ فقلت: أُرِيدُ أنْ لا أُرِيدَ. و هو إشارة إلى ما قاله البعض في تعيين المنازل الأربعة: الأوّل: تَرْكُ الدنيا؛ الثاني: ترك العُقبى؛ الثالث: ترك المولى؛ و الرابع: تركُ التَّرْك.واعتبرها بعضهم خمسة حُجب، و دعوها عوالم الحضرات الخمس‌حيث ورد في الدعاء المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام: اللَّهُمَّ نَوِّرْ ظَاهِرِي بِطَاعَتِكَ، وَ بَاطِنِي بِمَحَبَّتِكَ، وَ قَلْبِي بِمُشَاهَدَتِكَ، وَ رُوحِي بِمَعْرِفَتِكَ، وَ سِرِّي بِاسْتِقْلَالِ اتِّصَالِ حَضْرَتِكَ يَا ذَا الجَلَالِ وَ الإكْرَامِ. و يقول المرحوم الحاجّ المولى جعفر كبوتر آهنكي في شرحه:وَ كُلِّيَّاتُ هَذِهِ المَرَاتِبِ مُنْحَصِرَةٌ في خَمْسٍ: اثْنَانِ مِنْهَا مَنْسُوبَتَانِ إلى الحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَ ثَلَاثٌ مَنْسُوبَةٌ إلى الكَوْنِ، وَ تُسَمَّى بِالحَضرَاتِ(تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

164
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الخَمْسِ الكُلِّيَّةِ.
      الاولَى: حَضْرَةُ الغَيْبِ المُطْلَقِ، وَ يُسَمُّونَهَا أيْضاً «غَيْبَ الغُيُوبِ» وَ «عَيْنَ الجَمْعِ» وَ «حَقِيقَةِ الحَقَائِقِ» وَ مَقَامَ «أوْ أدْنَي» وَ «غَايَةَ الغَايَاتِ» وَ «نِهَايَةَ النِّهَايَاتِ».
      الثَّانِيَةُ: حَضْرَةُ الأسْمَاءِ، وَ يُسَمُّونَهَا «حَضْرَةَ الصِّفَاتِ وَ الجَبَرُوتِ» وَ «بَرْزَخَ البَرَازِخِ» وَ «بَرْزَخِيَّةً أُولَي» وَ «مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ» وَ «قَابَ قَوْسَيْنِ» وَ «مُحِيطَ الأعْيَانِ». وَ فِيهَا يَظْهَرُ الحَقُّ بِالالُوهِيَّةِ، وَ تَكُونُ لِلأعْيَانِ فِيهَا ثُبُوتٌ عِلْمِيّ، فهي ظَاهِرَةٌ لِلعَالِمِ بِهَا، لَا لأنْفُسِهَا وَ مِثَالِهَا، فَيَعُمُّهَا اسْمُ الغَيْبِ.
      الثَّالِثَةُ: حَضْرَةُ الأفْعَالِ، وَ يُسَمُّونَهَا «عَالَمَ الأرْوَاحِ» وَ «عَالَمَ الأمْرِ» وَ «عَالَمَ الرُّبُوبِيَّةِ» وَ «غَيْبَ مُضَافٍ» وَ «غَيْبَ بَاطِنٍ»، وَ فِيهَا يَظْهَرُ الحَقُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
      الرَّابِعَةُ: حَضْرَةُ المِثَالِ وَ الخَيَالِ، وَ فِيهَا يَظْهَرُ بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ دَالَّةٍ عَلَى حَقَائِقٍ وَ مَعَانٍ.
      الخَامِسَةُ: حَضْرَةُ الحِسِّ وَ المُلْكِ، وَ فِيهَا يَظْهَرُ بِصُوَرٍ مُتَعَيِّنَةٍ كَوْنِيَّةٍ، وَ هُوَ «العَالَمُ المَحْسُوسُ»، وَ في الثَّلَاثَةِ الآخِرَةِ يَكُونُ لِلأعْيَانِ ظُهُورٌ لأنْفُسِهَا وَ لأمْثَالِهَا عِلْماً وَ وُجْدَاناً.
      وقال محيى الدين ابن عربي في صلواته على خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
      اللَّهُمَّ أفِضْ صِلَةَ صَلَوَاتِكَ وَ سَلَامَةَ تَسْلِيمَاتِكَ عَلَى أوَّلِ التَّعَيُّنَاتِ المُفَاضَةِ مِنَ العَمَاءِ الرَّبَّانِيّ، وَ آخِرِ التَّنَزُّلَاتِ المُضَافَةِ إلى النَّوْعِ الإنسانيّ المُهَاجِرِ مِنْ مَكَّةَ؛ كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْ‌ءٌ ثَانٍ، إلى مَدِينَةَ، وَ هوَ
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

165
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ كَانَ، مُحْصِي عَوَالِمَ الحَضَرَاتِ الخَمْسِ في وُجُودِهِ «وَ كُلَّ شَيْ‌ءٍ أحْصَيْنَاهُ في إمَام مُّبِينٍ».
      وعبّر البعض عن هذه العوالم بعوالم الطبع و المثال و الروح و السرّ و الذات، و ستجري الإشارة إلى ذلك في أنواع و أقسام المكاشفات.
      واعتبرها بعضهم سبعة حُجب؛ واعتبر أنّ المراد بـ «الأرضون السبع» الحُجب المادّيّة و الظلمانيّة، و أنّ «السماوات السبع» الحُجب النورانيّة و الملكوتيّة، و هي: عالم الحسّ، المثال، العقل، السرّ، السرّ المستسرّ، السرّ المقنّع بالسرّ، و الذات. و قد ورد في الروايات أيضاً تعبير الحُجب السبع.
      واعتبرها بعضهم عشرة عوالم، حيث ورد أنّ للإيمان عشرة أجزاء، و أنّ سلمان الفارسيّ كان له الأجزاء العشرة.
      هذا، و قد قسّم المرحوم نصير الدين الطوسيّ عليه الرحمة في كتابه «أوصاف الأشراف» المنازل إلى ستّ مراحل، ثمّ قسّم كلّ مرحلة من المراحل الخمس الاولى إلى ستّ مراحل، فبلغ مجموع العوالم مع العالم الأخير الذي عدّ له مرحلة واحدة واحداً و ثلاثين عالماً.
      وبلغ بعضهم بالحجب إلى سبعين حجاباً، حيث روي في «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٣٩٣، عن «كشف اليقين» بإسناده عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم رواية عن معراجه صلّى الله عليه و آله و سلّم جاء فيها قوله: فَتَقَدَّمْتُ فَكَشَفَ لي عَنْ سَبْعِينَ حِجَاباً.
      وأوصلها بعضهم إلى مائة حجاب، حيث ذكر الخواجة عبد الله الأنصاريّ في «منازل السائرين» أنّ المنازل عشرة، ثمّ قسّم كلّا منها إلى عشرة أجزاء، فبلغت مائة منزل. و بطبيعة الحال، فإنّ هذه المنازل
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

166
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      المائة تقابل مائة اسم من أسماء الله تعالى، أحدها هو الاسم المخزون المكنون، أمّا التسعة و التسعون اسماً الاخرى فمعلومة. و لذا فقد جاء في كثير من روايات الخاصّة و العامّة أنّ للّه تعالى تسعة و تسعين اسماً.
      فقد جاء في «التوحيد» و «الخصال» مُسنداً عن سليمان بن مهران، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن على عليه‌السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلمّ: إن لِلَّهِ تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ اسْماً مِائَةً إلَّا وَاحِداً، مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ...
      قال الصدوق في «الخصال» بعد عدّ هذه الأسماء واحداً بعد واحد: وَ قَدْ رَوَيْتُ هَذَا الخَبَرَ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ ألفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ.
      وروي في «التوحيد» مسنداً عن الهرويّ، عن الرضا، عن آبائه، عن على عليهم السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم: لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَ تِسْعُونَ اسْماً، مَنْ دَعَا اللهَ بِهَا اسْتَجَابَ لَهُ، وَ مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ.
      كما روي في «التوحيد» مسنداً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إن لِلَّهِ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى تِسْعَةً وَ تِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إلَّا وَاحِداً إنَّهُ وَتْرٌ يُحِبُّ الوَتْرَ مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ.
      وورد في بعض الروايات أنّ للّه تعالى ثلاثمائة و ستّين اسماً، حيث ورد في «أُصول الكافي» ج ۱، ص ۱۱٢، مسنداً عن إبراهيم بن عمر، عن الصادق عليه‌السلام قال:
      إن اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى خَلَقَ اسْماً بِالحُرُوفِ غَيْرَ مُتَصَوِّتٍ، وَ بِاللَّفْظِ غَيْرَ مُنْطَقٍ، وَ بِالشَّخْصِ غَيرَ مُجَسَّدٍ، وَ بِالتَّشْبِيهِ غَيْرَ مَوْصُوفٍ، وَ بِاللَّوْنِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ، مَنْفي عَنْهُ الأقْطَارُ، مُبَعَّدٌ عَنْهُ الحُدُودُ، مَحْجُوبٌ عَنْهُ حِسُّ كُلِّ مُتَوَهِّمٍ، مُسْتَتِرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ؛ فَجَعَلَهُ كَلِمَةً تَامَّةً عَلَى أرْبَعَةِ أجْزَاءٍ مَعاً، لَيْسَ مِنْهَا وَاحِدٌ قَبْلَ الآخَرِ؛ فَأظْهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أسْمَاءٍ لِفَاقَةِ الخَلْقِ إلَيْهَا، وَ حَجَبَ مِنْهَا وَاحِداً، وَ هُوَ الاسْمُ المَكْنُونُ المَخْزُونُ. فَهَذِهِ الأسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ التي ظَهَرَتْ. فَالظَّاهِرُ هُوَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى. وَ سَخَّرَ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الأسْمَاءِ أرْبَعَةَ أرْكَانٍ، فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رُكْناً. ثُمَّ خَلَقَ لِكُلِّ رُكْنٍ مِنْهَا ثَلَاثِينَ اسْماً فِعْلًا مَنْسُوباً إلَيْهَا، فَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ... إلى أن قال: فَهَذِهِ الأسْمَاءُ وَ مَا كَانَ مِنَ الأسْمَاءِ الحُسْنَى حتّى تَتِمَّ ثَلَاثْمِائَةٍ وَ سِتِّينَ اسْماً، فَهِى نِسْبَةٌ لِهَذِهِ الأسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ... وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «قُلِ ادْعُوا اللهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَي». (الآية ۱۱۰، من السورة ۱۷: الإسراء).
      وقال بعضهم بأنّ الحُجب ألف حِجاب، مقابل أسماء الله تعالى الألف. و صرّح بعضهم بأنّها سبعون ألفاً؛ حيث روي في «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٣٩٥، نقلًا عن «كشف اليقين»، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
      وَ وَصَلْتُ إلى حُجُبِ رَبِّي دَخَلْتُ سَبْعِينَ ألْفَ حِجَابٍ، بَيْنَ كُلِّ حِجَابٍ إلى حِجَابٍ مِنْ حُجُبِ العِزَّةِ وَ القُدْرَةِ وَ البَهَاءِ وَ الكَرَامَةِ وَ الكِبْرِيَاءِ وَ العَظَمَةِ وَ النُّورِ وَ الظُّلْمَةَ وَ الوَقَارِ وَ الكَمَالِ، حتّى وَصَلْتُ إلى حِجَابِ الجَلَالِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

167
  • لوازم السلوك إلى الله‌

  • وأكثر هذه المنازل واقعة في عالَم النفس، و من جملة مراحل و منازل الجهاد الأكبر. و يختلف ترتيبها باختلاف الأشخاص.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

168
  • و طيّ جميع مراحل النفس من الضروريّات، لأنّ إيمان النفس سينقص بقدر النقصان الحاصل في تلك المراحل. فلا يليق و الحال هذه أن نذكر بعضها، بل يكفي في هذا المجال أمر السالك بالجهاد الأكبر عند ذكر هذه العقبات و المنازل.

  • و حقيقة السلوك و مفتاحه هو تسخير البدن و النفس تحت راية الإيمان الذي يبيّن أحكامه فقه الجوارح و فقه النفس. ثمّ يأتي دور إفناء النفس و الروح تحت راية الكبرياء الإلهيّ؛ و جميع العقبات و المنازل مندرجة في هذه المراحل.

  • بَيدَ أنّ سلوك هذه المراحل، و طيّ هذا الطريق، و السفر في هذه العوالم موقوف على امور يتعذّر من دونها بلوغ المنزل المقصود، بل يتعذّر مجرّد السير في هذا الطريق. و لذلك فإنّ الوصول إلى المقصد و حصول المطلب منوط بهذه الامور المذكورة، و بلوغ المنزل مشروط بملازمتها.

  • و ليس من مجال في هذا المقام لذكر عدد منازل الطريق، و لا لعقبات النفس و أخطار هذا السفر؛ فإن اقتضى الأمر التعرّض لذكرها، فإنّ ذِكر أحوال الجوارح و الأعضاء و هو فقه البدن سيكون ضروريّاً بدوره، لأنّها أيضاً من منازل السفر.

  • فالمهمّ إذاً أن نذكر الامور التي يمكن بواسطتها طيّ هذا

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

169
  • الطريق الخطر، و البلوغ بالطالب إلى مقصده.

  • و تفصيل هذه الامور: أنّ الطالب إذا وصل بعد الفحص و النظر إلى الإسلام و الإيمان الأصغرَين، فإنّ أوّل ما يلزمه هو تحصيل العِلم بأحكام الإيمان بالطريق الذي مرّ ذِكره. و يدلّ عليه قول: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ وَ مُسْلِمَةٍ.۱

    1. اعلم أنّ رواية «طلبُ العِلم فَريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ» من الروايات المشهورة و المستفيضة. أمّا الرواية التي وردت بعطف لفظة «مسلمة» على لفظة «مسلم»، فلم ترد إلّا في موارد معدودة فقط في روايات مرفوعة.
      أوّلها: في «مصباح الشريعة»، حيث وردت في موضعَين، أحدهما في الباب الثالث، قال: قَالَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَ مُسْلِمَةٍ. و هو علم النفس. و الثاني في الباب الثاني و الستّين، قال: قَالَ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَ مُسْلِمَةٍ، أي: عِلم التقوى و اليقين.
      الثاني: في مقدّمة كتاب «معالم الاصول»، حيث يروى عن الكلينيّ، إلّا أنّ من غير المعلوم أنّه كان بخطّ صاحب «المعالم» أو من إضافات النسّاخ. ذلك أنّ رواية «الكافي» لا تتضمّن لفظ «مسلمة».
      الثالث: في «المحجّة البيضاء» ج ۱، ص ٤، عن الغزّالى، مع أنّ «إحياء العلوم» ج ۱، ص ٣، خالٍ من هذا اللفظ.
      الرابع: رواية في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ٥۷، نقلًا عن «غوالى اللئالي» قال: قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: طَلَبُ العِلْمِ
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

170
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ وَ مُسْلِمَةٍ.
      والخامس: في مقدّمة تفسير «مجمع البيان» ص ۱، قال: و قد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في ما رواه لنا الثقات بالأسانيد الصحيحة مرفوعاً إلى إمام الهدى و كَهفِ الورى أبي الحسن عليّ بْنُ موسى الرضا عليه‌السلام، عن آبائه سيّدٍ عن سيّد، و إمامٍ عن إمام، إلى أن اتّصل به عليه و آله السلام، أنّه قال: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَ مُسْلِمَةٍ، فَاطْلُبُوا العِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ (الحديث).
      وأمّا الطرق الاخرى لهذه الرواية، فخالية من لفظة «مسلمة»؛ حيث روي في نفس المجلد من كتاب «البحار» ص ٥٥، عن «أمالى الشيخ»، بإسناده عن الإمام الرضا عليه‌السلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَاطْلُبُوا العِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ... (الحديث). و ظاهراً أنّ متن هذه الرواية هو متن الرواية التي نقلناها عن تفسير «مجمع البيان»، إلّا أنّها وردت هنا بعطف لفظة «مسلمة»، بينما خلت في الاولى منها.
      وروي في ص ٥٦، عن «أمالى الشيخ» بسنده عن المجاشعيّ، عن الإمام الصادق، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: العَالِمُ بَيْنَ الجُهَّالِ كَالحَيّ بَيْنَ الأمْوَاتِ... إلى أن قال: وَ إن طَلَبَ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
      كما روي في نفس الصفحة عن «بصائر الدرجات»، عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. ألَا إن اللهَ يُحِبُّ بُغَاةَ العِلْمِ.
      و روي في نفس الصفحة عن «بصائر الدرجات» أيضاً، عن الصادق عليه‌السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه‌السلام: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
      وروي في ص ۱٤، عن «روضة الواعظين»، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الشَّاخِصُ في طَلَبِ العِلْمِ كَالمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ. إن طَلَبَ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ...
      وروي في ص ٥۱، عن «روضة الواعظين» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّينِ، فَإنَّ طَلَبَ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
      وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الروايات قد خلت من لفظة «مسلمة»، إلّا أن من المسلّم أنّ المراد بها يشمل النساء المسلمات أيضاً، فقد ورد لفظ «مسلم» للجنس مقابل الكافر، و ليس المراد به الرجل المسلم مقابل المرأة المسلمة. و بطبيعة الحال فإنّ مثل هذا النوع من التعبير الذي يُراد به الجنس لا يُقصَد به خصوص المذكّر، و قد ورد لذلك نظائر و أشباه في أحكام الشريعة أُريد بها الجنس، مثل قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ. أو قوله: المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ التي يراد بها جميع أفراد جنس المسلمين و المهاجرين، دون أن يكون للمذكّر أو المؤنّث دخلًا في ذلك.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

171
  • فمَن لم يكن له هذا العِلم، لم يزده جهادُه إلّا هزيمة و خُسراً. كما قال أبو عبدالله عليه‌السلام: العَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، وَ لَمْ يَزْدَدْهُ السَّيْرُ إلَّا بُعْداً.۱

    1. ورد هذا الحديث في «بحار الأنوار» ج ۱، ص ٦٤، نقلًا عن «الأمالى» للصدوق، عن طلحة بن زيد؛ كما نقله عن «المحاسن». و نقله في ص ٦٥ عن «المجالس» للمفيد بإسناده عن موسى بن بكر، عمّن سمع أبا عبدالله عليه‌السلام قال: العَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى السَّرَابِ بِقِيعَةٍ، لَا يَزِيدُ سُرْعةُ سَيْرِهِ إلَّا بُعْداً.
      التقسيم الرباعيّ للاسفار الإلهيّة واختصاص العشق والسكر بالسفر الاوّل
      ونقل في نفس الصفحة عن «نهج البلاغة» أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال بعد كلامٍ له: فَإنَّ العَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ إلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ. وَ العَامِلُ بِالعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الوَاضِحِ. فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أسَائِرٌ هُوَ أمْ رَاجِعٌ؟
      ونقل في نفس الصفحة عن «المحاسن» للبرقيّ، عن ابن فضّال، عمّن رواه عن الصادق عليه‌السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ، كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

172
  • و كلّما كان هذا العِلم أوضح، كان أثره أكبر و أسرع. فيكون أخذ تلك الأحكام عن النبيّ أو الوصيّ عند الإمكان أشرف. كما أنّ استخراجها من كلامهما أفضل من التقليد. و يندرج في هذا العِلم العلم المجمل بالضروريّات، الذي هو من علوم أهل السلوك. أمّا ما خرج منه فيُعلِم في عِلم النفس. و يلزمه تحصيل مأخذ العِلم. و لا يلزم في بداية الأمر فاعليّة جميعها، بل يجب أن تُظهر تدريجيّاً عند الضرورة. و هذه هي مقدّمات السلوك، و الطالب حتّى الآن ليس في مقام السير و الحركة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

173
  • فإن أتمّ الطالب هذه المرحلة، فعليه أن يبدأ سفره مستعيناً بالعناية الربّانيّة.۱

    1. اعلم أنّ أساطين المعرفة من العرفاء الشامخين قد قسّموا الأسفار الإلهيّة إلى أربعة أسفار. فقد قال المولى صدرا الشيرازيّ قدّس سرّه في أوّل كتاب «الأسفار» ج ۱، ص ۱٣:وَ اعْلَمْ أنَّ لِلسُّلَّاكِ مِنَ العُرَفَاءِ وَ الأوْلِيَاءِ أسْفَاراً أرْبَعَةً:أحَدُهَا: السَّفَرُ مِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ.وَ ثَانِيهَا: السَّفَرُ بِالحَقِّ في الحَقِّ.وَ السَّفَرُ الثَّالِثُ: يُقَابِلُ الأوَّلَ لأنَّهُ مِنَ الحَقِّ إلى الخَلْقِ بِالحَقِّ.وَ الرَّابِعُ: يُقَابِلُ الثاني مِنْ وَجْهٍ، لأنَّهُ بِالحَقِّ في الخَلْقِ.ونظراً لأنّ العِشق و السُّكر ينحصران في السفر الأوّل، و أنّ بقيّة الأسفار تخلو من الحماس و الهيجان، بل في بعض مراحلها الطمأنينة و السكينة، فإنّ شعر الخواجة حافظ:
      نگويمت كه همه ساله مي پرستي كن‌***سه ماه مي خور و نه ماه پارسا مي‌باش‌
      يقول: «لم أقُل لك أن تعبد الخمرة طوال السنة، بل قلت: اقرع الكأس ثلاثة أشهر و كُن تقيّاً في التسعة الباقية».عائد إلى السفر الأوّل، و ليس إلى الثلاثة الباقية.وللمرحوم الحاجّ السبزواريّ قدّس سرّه كلام في هذه الأسفار الأربعة ذكره في حاشيته على «الأسفار» ج ۱، ص ۱۸، نورد خلاصته هنا:قالَ الشيخُ المحقّق كمال الدين عبد الرزّاق الكاشيّ قدّس سرّه: السَّفر هو توجّه القلب إلى الحقّ تعالى، و الأسفار أربعة:(تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

174
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      الأوّل: هو السير إلى الله من منازل النفس إلى الوصول إلى الافق المبين، و هو نهاية مقام القلب و مبدأ التجلّيات الأسمائيّة.
      الثاني: هو السير في الله بالاتّصال بصفاته و التحقّق بأسمائه إلى الافق الأعلى و نهاية الحضرة الواحديّة.
      الثالث: هو الترقّي إلى عين الجمع و الحضرة الأحديّة، و هو مقام قاب قوسَين ما بقيت الاثنينيّة، فإذا ارتفع فهو مقام «أو أدني»، و هو نهاية الولاية.
      الرابع: السير بالله عن الله للتكميل، و هو مقام البقاء بعد الفناء و الفرق بعد الجمع.
      بيان المرحومَين السبزواريّ والقمشئيّ في خصوص الاسفار الاربعة
      ثمّ يذكر المرحوم السبزواريّ قدّس سرّه توضيحات لمرتبة الأحديّة و الواحديّة و معنى القلب و الروح، و معنى العوالم السبعة لدى العرفاء، حيث فسّرها بمقام الطبع و النفس و القلب و الروح و السرّ و الخفي و الأخفي.
      وقسّم في حاشية ص ٢۱، من الجزء الأوّل من «الأسفار» مقام الفناء في الله إلى مراتب، و ذكر تسلسلها: المحو و الطَّمْس و المَحْق. ثمّ قال: المَحْوُ فناء أفعال العبد في فِعل الحقِّ تعالى، و الطَّمس فناء صفاته في صفته، و المَحْق فناء وجوده في وجوده. بَيدَ أنّ المرحوم أقا محمّد رضا القمشئيّ ذكر بياناً في كيفيّة مراتب الفناء بترتيب آخر، فقد ذكر في حاشيته على «الأسفار»، ج ۱، ص ۱٣، فما بعد كلاماً هذا إجماله:
      السفر الأوّل (و هو من الخلق إلى الحقّ) برفع الحُجب الظلمانيّة و النورانيّة، حيث إن الحُجب الظلمانيّة متعلّقة بالنفس، أمّا الحجب النورانيّة فمتعلّقة بالقلب و الروح. و يجب على السالك أن يعبر الأنوار
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

175
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)القلبيّة و الأضواء الروحيّة، و أن يتحرّك من مقام النفس إلى القلب، و من القلب إلى الروح، و من الروح إلى المقصد الأقصى. فالعوالم بين السالك و الحقيقة هي إذاً ثلاثة عوالم، و جميع الحجب التي ورد ذِكرها في الأخبار أو على لسان الأعلام تتعلّق بأجمعها بهذه الحُجب الثلاثة.وحين تُزاح هذه الحُجب الثلاثة، و تُطوى هذه العوالم الثلاثة، يعني النفس و القلب و الروح، فإنّ السالك سيصل إلى معرفة جمال الحقّ، و يفنى في ذات الحقّ. و لذا يدعى هذا المقام بمقام الفناء في الذات. و هنا مقامات ثلاثة: السرّ، و الخفي، و الأخفي؛ و تقع في السفر الثاني. و يُعبّر عن مقام الروح أحياناً بالعقل. و نظراً إلى تفصيل شهود المعقولات، فإنّهم عدّوا مقام العقل غير مقام الروح. و لذا يصبح مجموع المقامات في السفرَين الأوّل و الثاني سبعة مقامات: مقام النفس، مقام القلب، مقام العقل، مقام الروح، مقام السرّ، مقام الخفي، مقام الأخفي.وهذه المقامات السبعة هي مراتب الولاء و بلاد العشق التي ذكرها المولويّ في قوله:
      هفت شهر عشق را عطّار گشت‌***ما هنوز اندر خم يك كوچه ايم‌
      يقول: «لقد طاف «العطّار» بلاد العشق السبعة، و ما برحنا في منعطف الزقاق الأوّل».فإذا عبر السالك من مقام الروح و تجلّى أمامه جمال الحقّ و أفنى نفسه في ذات الحقّ، تمّ سفره الأوّل و أضحى وجوده حقّانيّاً، و طرأ عليه المحو، و بلغ مقام الولاية. ثمّ إنّه يشرع في السفر الثاني من موقف الذات (و هو مقام السرّ)، فيسير الكمالات الواحد تلو الآخر، حتّى(تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

176
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      يشاهد جميع كمالات الحقّ و يشاهد نفسه فانياً في جميع الأسماء و الصفات، فبِه يَسمع و بِه يُبصر و بِه يَمشي و به يَبطِش.
      والسرّ هو مقام الفناء في الذات، و الخفي و هو أعلى منه مقام الفناء في الصفات و الأسماء و الأفعال، و مقام الأخفي هو مقام الفناء عن فنائَي الذات و الصفة، و هو نهاية السفر الثاني.
      وإن شئت قلت: السرّ فناء ذاته، و هو منتهى السفر الأوّل و مبدأ السفر الثاني. و الخفاء هو الفناء في الالوهيّة. و الأخفي هو الفناء عن الفناءين، فيتمّ دائرة الولاية و ينتهي السفر الثاني و ينقطع فناؤه و يأخذ في السفر الثالث.
      فالسفر الأوّل إذاً هو العبور من عالم الناسوت و الملكوت و الجبروت، و السفر الثاني هو العبور من عالم اللاهوت. أمّا السفر الثالث (و هو السفر من الحقّ إلى الخلق) فأعلى من السفر الثاني، أي أنّ السُّكر و المحو سيزولان، فيسير السالك مع وجود الفناء في الحقّ و الفناء في صفات الحقّ و الفناء عن الفناء في مقام أفعال السلوك، و يصبح مع الصحو التامّ باقياً ببقاء الحقّ، و يشاهد جميع عوالم الجبروت و الملكوت و الناسوت بأعيانها و لوازمها، و يُخبر عن معارف الذات و الصفات و الأفعال.
      بيان المرحوم الحكيم العلّامة النوريّ في كيفيّة الاسفار الاربعة
      وقد ذكر المرحوم الحكيم العلّامة الميرزا حسن النوريّ نجل الحكيم المتألّه المولى علي النوريّ في حاشيته على «الأسفار» ج ۱، ص ۱٦ و ۱۷، كلاماً يُلقي مع بساطته أضواء على كيفيّة الأسفار الأربعة، و هو كلام يمكن فهمه من قبل العامّة، و إجماله ما يلي:
      أنّ الإنسان ما لم يخطو في مسيرة السلوك العلميّ و النظريّ، فإنّه
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

177
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      على الدوام سيشاهد الكثرة و يغفل عن مشاهدة الوحدة، فتكون الكثرة حاجباً عن الوحدة.
      فإن هو سار في السلوك العلميّ، و تحرّك من الآثار باحثاً عن المؤثِّر، و من الموجودات مفتّشاً عن الصانع، فإنّ الكثرات ستضمحلّ شيئاً فشيئاً و تتبدّل بالوحدة الصرفة الحقّة الحقيقيّة، بحيث إنّه لن يشاهد الكثرة أبداً و لا ينظر أعيان الموجودات، و لا يرى شيئاً غير الوحدة، فتكون الوحدة آنذاك حجاباً عن الكثرة، و يستغرق السالك في مشاهدتها عن مشاهدة الكثرة.
      ومنزلة هذا المنزل في السلوك الحالى بمنزلة السفر الأوّل للسالك العارف، الذي ذكره المولى صدرا في كتابه. و هو السفر من الخلق إلى الحقّ؛ أي: من الكثرة إلى الوحدة.
      وحين يصل إلى عالم الوحدة و يُحجب عن مشاهدة الكثرة، فإنّه يستدلّ بذات الحقّ بالسلوك العلميّ في أوصاف الحقّ و أسمائه و أفعاله مرتبةً بعد مرتبة؛ و هذه المرتبة بمنزلة السفر الثاني في السلوك الحالى، و هو السفر في الحقّ بالحقّ.
      أمّا في الحقّ، فلكَون هذا السفر في صفات الحقّ و أسمائه و خواصّه. و أمّا كونه بالحقّ، فلأنّ السالك حينئذٍ متحقّق بحقيقة الحقّ، و خارجٌ عن إنّيّته و إنّيّة جميع الكثرات و الأعيان، فانٍ في ذاته و صفاته و أسمائه.
      ويحصل كثيراً في هذا المقام أن ينشرح صدر السالك و تنحلّ عقدة لسانه، فيرى الوحدة في الكثرة، و الكثرةَ في الوحدة، دون أن يحجب أحدهما الآخر، و يكون السالك جامعاً لكلا النشأتَين، و برزخاً بين
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

178
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      المقامَين، و يكون له آنذاك قابليّة تعليم الناقصين، و يصبح مرشداً لضعفاء العقول و النفوس.
      ومنزلة هذه المرتبة من السلوك الحالى و العمليّ بمنزلة السفر الثالث، و هو السفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ. و هناك مرحلة اخرى أرقى من هذه المرحلة و أدقّ و أكمل و أتقن منها، و هي الاستدلال بوجود الحقّ على الحقّ و وجود غير الحقّ، بحيث تنتفي الواسطة في البرهان بين وجوده و وجود سواه. و يُدعى هذا البرهان ببرهان «اللِّمّ» و طريقة «الصدّيقين». و هذه المرتبة بمنزلة السفر الرابع، و هو السفر في الخلق بالحقّ.
      وكما هو ملاحظ، فإنّه قد قام بعملية تنظير بين الترقّيات العِلميّة و النظريّة في الحكمة الإلهيّة و بين السير و تكامل المقامات العرفانيّة العمليّة، و شبّه مراتب السلوك العمليّ لأصحاب المعرفة بمراتب الاستدلالات البرهانيّة على وجود الحقّ جلّ و عزّ.
      وأغلب حالات بكاء السالكين و تضرّعهم و انقلاب أحوالهم تحصل خلال السير الأوّل بسبب جذبهم بالجذبات الإلهيّة التي تجذبهم إلى حريم القُدس الإلهيّ.
      أمّا السفر الثاني فيتمحّض السالك في مشاهدة جمال الأحديّة في مظاهر عالم الإمكان.
      ولعلّ ما أنشده الحاجّ المولى هادي السبزواريّ قدّس سرّه كما في «لغت نامه دهخدا» (= معجم دهخدا) ج «س»، ص ٢٣۷ عائد إلى هذا المقام:
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

179
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      شورش عشق تو در هيچ سري نيست كه نيست***منظر روي تو زيب نظري نيست كه نيست
      ز فغانم ز فراق رخ و زلفت به فغان***سگ كويت همه شب تا سحري نيست كه نيست
      نه همين از غم او سينة ما صد چاك است***داغ او لاله صفت بر جگري نيست كه نيست
      موسئي نيست كه دعويّ انَا الْحقّ شنود***ور نه اين زمزمه اندر شجري نيست كه نيست
      چشم ما ديدة خفّاش بود ور نه ترا***پرتو حسن به ديوار و دري نيست كه نيست
      تطبيق بعض مضامين دعاء سيّدالشهداء عليه‌السلام يوم عرفة على الحاصلة في سفرَي السلوك الثالث والرابعولعلّ الفقرات التي رواها السيّد الأجلّ عليّ بْنُ طاووس في كتاب «الإقبال» عن سيّد الشهداء عليه‌السلام، ذيل دعائه عليه‌السلام يوم عرفة في مناجاته للحضرة الأحديّة، عائداً لبعض مقامات السفرين الثالث و الرابع، و من جملته:إلَهِي! إن اخْتِلَافَ تَدْبِيرِكَ وَ سُرْعَةَ طَوَاءِ مَقَادِيرِكَ مَنَعَا عِبَادَكَ العَارِفِينَ بِكَ عَنِ السُّكُونِ إلى عَطَاءٍ، وَ اليَأسِ مِنْكَ في بَلَاءٍ...كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ في وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إلَيْكَ؟ أيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ، حتّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتَى غِبْتَ حتّى تَحْتَاجَ إلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟ وَ مَتَى بَعُدْتَ حتّى تَكُونَ الآثَارُ هي التي تُوصِلُ إلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيباً، وَ خَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ يَنَلْ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً. يقول: «ليس مِن رأسٍ إلّا و فيه هيجان عشقك، و ليس مِن نظر إلّا و يزدان بمنظرك الجميل.لم تمرّ ليلة إلّا و أنّت كلابُ دربك إلى السَّحَر من آهاتي الحرّى لفراق طلعتك و طُرّة شعرك.ألا ترى صدري قد تصدّع من غمّ الحبيب مئات المرّات، إذ ليس من كَبِدٍ إلّا و أضحت من حرقته كشقائق النعمان.ليس هناك موسى ليسمع نداء «أنا الحقّ»، إذ ليس من شجرة إلّا و تحتها زمزمة بهذا النداء.لو لم تكن أعيننا كأعين الخفّاش، لشاهدت حُسنه الذي لا يخلو منه شي‌ء».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

180
  • و يناط القيام بهذا السفر بأُمور كثيرة، و أهمّها عدّة أُمور:

  • الأوّل: ترك العادات والمجاملات

  • وترك الآداب و الامور المتعارفة التي تعرقل السفر، و تصبح عائقاً في الطريق إلى الله تعالى.

  • بِالقَادِسِيَّةِ فِتْيَةٌ لَا يَحْسَبُونَ العَارَ عَاراً***لَا مُسْلِمُونَ وَ لَا يَهُودَ وَ لَا مَجُوسَ وَ لَا نَصَارَي‌
  • حيث تصرّح بذلك الآية الكريمة {وَ لا يَخافُونَ‌} [في اللهِ‌] {لَوْمَةَ لائِمٍ‌} [الآية ٥٤، من السورة ٥: المائدة].

  • فعلى الطالب أن يكفّ عن تقليد العادات و ينظر إلى ما فيه صلاح نفسه، و أن يعدّ اجتناب ملامة أهل عالَم القدس أولى من‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

181
  • اجتناب ملامة أبناء الدهر. و يمثّل هذا التوبة التي هي بداية مرحلة الجهاد الأكبر. أمّا التوبة عن المعاصي و الذنوب، فهي من فرائض فقه إيمان الجوارح، و هي ممّا يلزم السالك و المجاهد و غير المجاهد.

  • الثاني: العزم

  • و ينبغي أن يكون راسخاً في عزمه، بحيث لا يحتمل رجوعه من مقارعة السيف و السِّنان و مقاتلة الأبطال و الشجعان، و تحمّل الشدائد، و احتمال المخاوف.

  • الثالث: الرفق و المداراة

  • لأنّ النفس تنكسر إذا حُمِّلت فوق طاقتها و تنزجر عن السفر، كما ورد في رواية عبد العزيز المتقدّمة، و جاء في رواية عبد الملك ابن غالب، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال: العِلْمُ خَلِيلُ المُؤْمِنِ، وَ الحِلْمُ وَزِيرُهُ، وَ الرِّفْقُ أخُوهُ.۱

    1. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤۷، و لفظه: إن العِلْمَ خَلِيلُ المُؤْمِنِ، وَ الحِلْمُ وَزِيرُهُ، وَ العَقْلُ أمِيرُ جُنُودِهِ، وَ الرِّفْقُ أخُوهُ، وَ البِرُّ وَالِدُهُ.
      وورد في «بحار الأنوار» ج ۱۷، ص ۱۸٤، عن «تحف العقول»، أنّ الصادق عليه‌السلام قال: إن العِلْمَ خَلِيلُ المُؤْمِنِ، وَ الحِلْمُ وَزِيرُهُ، وَ الصَّبْرُ أمِيرُ جُنُودِهِ، وَ الرِّفْقُ أخُوهُ، وَ اللِّينُ وَالدُهُ. («تحف العقول» ص ٣٦۱).
      وجاء في «تحف العقول» ص ٥٥، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ و في «البحار» ج ۱۷، ص ۱۱۱، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام بأدنى اختلاف في اللفظ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

182
  • و قال أبو جعفر عليه‌السلام: إن‌ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ.۱

    1. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۸۷؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب الأخلاق)، ص ۱۷٣، عن الصادق عليه‌السلام، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
      يَا عليّ! إن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَ لَا تُبَغِّضْ إلى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ «فَ» إن المُنْبَتَّ لَا ظَهْراً أبْقَى وَ لَا أرْضاً قَطَعَ. فَاعْمَلْ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو أنْ يَمُوتَ هَرَماً، وَ احْذَرْ حَذَرَ مَنْ يَتَخَوَّفُ أنْ يَمُوتَ غَداً.
      ونُقل في «سفينة البحار» ج ٢، ص ۱۱٣، مادّة «عَبَدَ»، حديث شريف آخر عنه (أي عن أبي جعفر عليه‌السلام)، عنه صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
      إن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَ لَا تُكَرِّهُوا عِبَادَةَ اللهِ إلى عِبَادِ اللهِ، فتَكُونُوا كَالرَّاكِبِ المُنْبَتِّ الذي لَا سَفَراً قَطَعَ وَ لَا ظَهْراً أبْقَى.
      ثمّ قال (المحدّث القمّيّ):
      بيان: الإيغال: السير الشديد. يريد صلّى الله عليه و آله و سلّم: سِرْ فيه بِرِفق. و يُحتمَل أن يكون الإيغال هنا مُتعدّياً، أي أدخِلوا الناسَ برفقٍ. فإنّ الوُغولَ الدُّخول في الشي‌ء. و المُنْبَتّ: الذي انقطع به في سفره و عَطَبَت راحلتُه، من البَتّ و هو القطع. انتهى موضع الحاجة. و أصل هذا الحديث مرويّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۸٦؛ و روي في «بحار الأنوار» ج ۱٥، (كتاب الأخلاق)، ص ۱۷٢، نقلًا عن كتاب «الكافي».
      وروى السيّد الرضيّ رحمه الله في «المجازات النبويّة» ص ۱۷٤ قال:
      إن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَ لَا تُبَغِّضْ إلى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإنَّ المُنْبَتَّ لَا أرْضاً قَطَعَ وَ لَا ظَهْراً أبْقَى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

183
  • و جاء في حديث حَفص بن البَختري: لَا تُكَرِّهُوا إلى أنْفُسِكُمُ العِبَادَةَ.۱

  • الرابع: الوفاء

  • الخامس: الثبات و المداومة

  • إذ إن العمل القليل المستمرّ في كلّ مقام حاصل أفضل من العمل الكثير غير المستمرّ؛ حيث جاء في حديث أبي جعفر عليه‌السلام في رواية زرارة: أحَبُّ الأعْمَالِ إلى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ العَبْدُ وَ إن قَلَّ.٢

    1. روي هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۸٦، بسنده المتّصل عن حفص بن البَختري، عن الصادق عليه السلام؛ و ورد في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب الأخلاق)، ص ۱۷٣، نقلًا عن «الكافي».
    2. وردت هذه الرواية في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب الأخلاق)، ص ۱۷٤، نقلًا عن «الكافي»، بسنده عن عليّ، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة. («الكافي» ج ٢، ص ۸٢). و رواها في «فروع الكافي» ج ٣، ص ٢۷٤، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن حمّاد، عن حريز. و وردت في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب الأخلاق)، ص ۱۷٣، عن «السرائر»، عن حريز، عن زرارة، بهذا الطريق، قال:
      قال أبو جعفر عليه‌السلام: اعْلَمْ أنَّ أوَّلَ الوَقْتِ أبَداً أفْضَلُ. فَعَجِّلْ بَالخَيْرِ مَا اسْتَطَعْتَ. وَ أحَبُّ الأعْمَالِ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ العَبْدُ وَ إن قَلَّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

184
  • و المراد من الثبات هو أن يثبت على كلّ ما عقد عليه العزم و وفي به، ففي نكوصه عنه خوف الخطر، لأنّ حقيقة العمل تتصدّى للمخاصمة بعد ترك ذلك العمل.

  • فإذا لم يجزم على الوفاء و الثبات على عملٍ ما، فعليه أن لا يعزم على القيام به.

  • و من هنا فقد أمِر بالرفق، من أجل أن يطوّع بدنه و نفسه تدريجيّاً، ليمكنها الثبات على الأمر إذا كان فوق ما تزاوله فعلًا. و مادام السالك لم يجزم بعدُ على الثبات في مرحلةٍ ما، فلا يعزم على السير فيها، و ليتوقّف في المرحلة التي تسبقها. و هذا التوقّف لتحصيل المقام في الحال الأوّل ممّا يعتبره أصحاب السلوك بمثابة قصد الإقامة في ذلك المنزل، كما أنّ الثبات المذكور يُعدّ من درجات الصبر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

185
  • السادس: المراقبة

  • و هو عبارة عن تحصيل الالتفات و التوجّه في جميع الأحوال، لكي لا يتخلّف عمّا عزم عليه و عاهد على القيام به.

  • و هناك مراقبتان أخريان سيُشار إليهما.

  • السابع: المحاسبة

  • فقد امِر بها في حديث: حَاسِبُوا أنْفُسَكُمْ قَبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا.۱

  • و قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ.٢

    1. ورد هذا الحديث في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (في الأخلاق)، ص ٤۰، عن «المجالس» للشيخ المفيد، و عن «الأمالى» للشيخ الطوسيّ رضوان الله عليه، بإسناده المتّصل عن حفص، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: ألَا فَحَاسِبُوا أنْفُسَكُمْ قَبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا، فَإنَّ في القَيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفاً، كُلُّ مَوْقِفٍ مَقَامُ ألْفِ سَنَةٍ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ «في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ».
      كما ورد هذا الحديث في «الأمالى» للشيخ، ج ۱، ص ٣٤ و ۱۰٩.
    2. ورد هذا الحديث في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٥٣، بإسناده المتّصل عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَوْمٍ، فَإنْ عَمِلَ حَسَناً اسْتَزَادَ اللهَ، وَ إن عَمِلَ سَيِّئاً اسْتَغْفَرَ اللهَ مِنْهُ وَ تَابَ إلَيْهِ. و نظراً لأنّ هذا الحديث هو فقرة من وصيّة للإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أوصاها إلى هشام بن الحكم، و هي وصيّة مفصّلة؛ لذا فقد وردت هذه الفقرة في «تحف العقول» ص ٣۸٣؛ و «بحار الأنوار» ج ۱، ص ٤٣، نقلًا عن «تحف العقول» ضمن تلك الوصيّة. أمّا عن وجوب محاسبة النفس، فيدلّ عليه صريح الآية القرآنيّة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. (الآية ۱۸، من السورة ٥٩: الحشر).

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

186
  • و هي عبارة عن تخصيص وقتٍ معيّن من يومه لمحاسبة نفسه، فينظر إلى ما عزم على فعله مع سائر الأحكام اللازمة، أخانه عامله (أي بدنه أو نفسه) في تنفيذه أم لا؟

  • الثامن: المؤاخذة

  • و هي عبارة عن التزامه بالتأديب و العقوبة عند ظهور الخيانة، سواء بالعتاب و الخطاب، بل بالزجر و الضرب و التعذيب. و قد أثر عن أحد الأكابر أنّه كان يضع عند مصلّاه سوطاً، فإن تبيّن له بعد محاسبة نفسه أنّها خانته، فإنّه كان يؤدّب نفسه بذلك السوط. و نقل عن آخر أنّه مرّ يوماً فرأى عمارة جديدة في الطريق، فسأل: متى بُنِيت؟ ثمّ عاد إلى نفسه فعاقبها على هذا اللغو بأن حرمها من الارتواء من الماء سنة. و اعتذر شخص في زمن عيسى عليه‌السلام لأنّ نفسه شكت الحرّ يوماً، فعاقبها بالعبادة أربعين عاماً.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

187
  • فإن كانت الخيانة الصادرة ذات عقوبة مقرّرة في الشريعة، فإنّ على السالك أن يُهرع لإيقاع تلك العقوبة بنفسه.

  • التاسع: المسارعة

  • و تعني الإسراع إلى تنفيذ ما عقد عليه العزم بمقتضى‌ وَ سَارِعُوا، قبل أن يجد الشيطان مجالًا للوسوسة و المماطلة.

  • العاشر: الإرادة

  • و هي عبارة عن إخلاصه باطنَه عن تعلّق الخاطر، و أن يكون له تجاه مقنّن قوانين الأعمال و صاحب الشريعة (التي ينتهجها) و خلفائه، بحيث يكون له تجاههم كمال الإخلاص و المحبّة، بعيداً عن أيّة شائبة أو غشّ. و ينبغي أن يصل ذلك عنده إلى حدّ الكمال، لأنّ لهذه المرحلة دخلًا كبيراً في تأثير الأعمال، و يدلّ على هذا المطلب ما ورد من ردّ الأعمال بدون ولاية الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم، بل هو من أعظم الدلالات. و تحصيل هذه المحبّة هي أحد المنازل، و يحتاج طيّها إلى حركة سنتطرّق إلى ذكرها لاحقاً.

  • و من كمال هذه الإرادة الإخلاص و المحبّة لذرّيّة الرسول‌صلّى الله عليه و آله و سلّم و من ينتسب إليهم، و تعظيم شعائرهم، و هي مشاهدهم و قبورهم و الكتب الجامعة لكلامهم الشريف. أجل:

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

188
  • أذِلُّ لآلِ لَيْلَي في هَوَاهَا***وَ أحْتَمِلُ الأصَاغِرَ وَ الكِبَارَا
  • و نظراً لأنّ أساس هذه القوانين و القواعد إنّما هي من قِبل الله تعالى، توجّب ملازمة آثار المحبّة و الشفقة و العطف على جميع المنسوبين إلى الله تعالى (أي على جميع المخلوقات)، من الحيوان و غيره، كلٌّ بحسبه، تبعاً للحديث الدالّ على أنّ أعظم شعب الإيمان هُوَ الشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللهِ الذي يشير إليه.

  • أحِبُّ بِحُبِّهَا تَلَعَاتِ نَجْدٍ***وَ مَا شَغَفي بِهَا لَوْلَا هَوَاهَا
  • و ينبغي إظهار لوازم الخلوص و الشفقة على هؤلاء، لأنّ لذلك التأثير الكبير في حصول الخلوص الباطنيّ، و كذلك الأمر تجاه الاستاذ و الشيخ و المفتيّين الذين يفتون السالك.۱

    1. الظاهر أنّ المراد بالشيخ هو الاستاذ العامّ، و العطف هنا عطف تفسير. و المفتون هم فقهاء الشريعة.
      أو أن المراد بالشيخ مَن أوكل إليه الاستاذ العامّ أمر تربية السالك، حيث إن من المتداول أن يرجع الطالب إلى الاستاذ العامّ لهديه في سلوك الطريق إلى الله تعالى، فيوكل الاستاذ العامّ أمر تربيته في الامور الابتدائيّة إلى أحد تلامذته، و بعد تربية هذا الطالب و ظهور قابليّاته يُكمل طيّ الطريق على يد الاستاذ العامّ.
      نُقل أنّ المرحوم الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ لازم جمال الأولياء و العرفاء المرحوم الآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه مدّة أربع عشرة سنة. قال المرحوم الحاجّ الميرزا جواد: قال لي الاستاذ يوماً: إن تربية الشخص الفلانيّ في عُهدتك. و كان ذلك الطالب ذا همّة عالية و سعي دؤوب بالغ، فقضى مدّة ستّ سنوات في المراقبة و المجاهدة و أتمّ دورة مقدّمات التجرّد، و اكتسب قابليّة إفاضة مقام التجرّد. فأردتُ أن يرتدي هذه الخلعة على يد الاستاذ، فصحبتُه معي إليه و قلت: أيّها الاستاذ، لقد أتمّ هذا الشخص الكريم ما يُراد منه، و المطلوب أن ينال هذا الفيض على يدكم المباركة.
      فأشار المرحوم الآخوند بيده المباركة إشارة و قال: التجرّد كهذا! قال ذلك الطالب: فشاهدتُ على الفور أنّيّ قد انفصلتُ عن بدني، و أضحيتُ أشاهد بدني بكامله واقفاً إلى جانبي.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

189
  • أمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ سَلْمَى‌***أقَبِّلُ ذَا الجِدَارِ وَ ذَا الجِدَارَا
  • وَ مَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي‌***وَ لَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا۱
    1. وردت هذه الأشعار في «جامع الشواهد» بلفظ «ديار ليلي»، و ذكر مؤلّفه أنّها للمجنون قيس بن الملوّح العامريّ.ووردت أيضاً في ديوان المجنون قيس بن الملوّح العامريّ، طبعة طهران، ۱٢۷۰. و نقلها النراقيّ في «الخزائن» ص ٢٤۷ بهذا اللفظ:
      أقَبِّلُ أرْضاً سَارَ فِيهَا جِمَالُهَا***فَكَيْفَ بِدَارٍ حَلَّ فيهَا جَمَالُهَا
      وَ قَدْ كُنْتُ لَا أرْضَى بِوَصْلٍ مُقَطَّع‌***فَهَا أنَا رَاضٍ لَوْ أتَاني خَيَالُهَا

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

190
  • الحادي عشر: المحافظة على الأدب تجاه الباري تعالى و رسوله و خلفائه

  • و هذه المرحلة تغاير مرحلة الإرادة، على الرغم من أنّهما يجتمعان أحياناً؛ و هذا الشرط من أهمّ الشرائط.

  • و قد تكلّم أحد الأشخاص يوماً، فكان في كلامه شائبة من إثبات قدرة للإمام عليه‌السلام، فهوى عليه‌السلام ساجداً فعفّر جبينه المقدّس بالتراب.

  • و خطر على لسان بعضهم كلامٌ فيه اعتراض، فعمد إلى فمه فحشاه بالرماد.

  • و طائفة من أرباب القلوب لم يتلوا القرآن جلوساً، بل كانوا يمسكونه بكلتا يديهم و هم مواجهو القبلة، فيتلونه في منتهى المسكنة و العجز. و كانوا إذا تُلي القرآن إمّا أن ينهضوا وقوفاً، و إمّا أن يتمسّكوا بمنتهى الأدب، شأن مَن يقف أمام السلاطين.

  • و كان البعض ينهضون وقوفاً تعظيماً لأسماء الله تعالى و الأسماء الشريفة للرسول و الأئمّة عليهم السلام.

  • و كان البعض يُراعي في جلوسه و سيره و تناول طعامه و سائر أحواله شؤون الأدب كما لو كان يرى الله تعالى حاضراً.

  • و من جملة اللوازم مراعاة الأدب حين عرض الحاجات،

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

191
  • و الاحتراز عن ألفاظ الأمر و النهي.

  • الثاني عشر: النيّة

  • و هي عبارة عن إخلاص القصد للّه تعالى في السير و الحركة و سائر الأعمال، و قطع الطمع في الأغراض الدنيويّة، بل و الاخرويّة، بل في جميع ما يعود إلى السالك، بل ينتهي الأمر في أواخر الحال إلى انتفاء النيّة، حيث سُئل من أحد الأعلام: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أرِيدُ أنْ لَا أرِيدَ.

  • و على السالك بعد هذه المرحلة أن يغضّ بصيرته عن المشاهدة و عدم المشاهدة، و عن الوصول و عدم الوصول، و عن العِلم و عدم العِلم، و عن الردّ و القبول. بل شرط السلوك في المحبّة الكاملة أن ينسى المحبوب أيضاً۱. إذ لا يزال حتّى الآن يتعامل‌

    1. المحبّة صفة، و المحبوب موصوف، و ما دامت الصفة باقية، فإنّ السالك لم يتخطّ بعدُ التعيّنات، و لن يصل من ثَمَّ إلى مطلوبه، و هو الفناء في الذات. و يجب في هذه المرحلة أن يزول عنوان المحبّة و المحبّ و المحبوب، و أن تحترق الصفة و تفنى.
      نُقل أنّ المرحوم القاضي رضوان الله عليه قال: إن أفضل الطرق و أسرعها في القضاء على الأغراض و النوايا النفسانيّة المؤثّرة في طريق السلوك إلى الله، و التي لها حُكم الطريق المختصر، بحيث تُنجي السالك كلّيّاً و تُخرجه من كلّ داعية و باعث غير إلهيّ، و تخرجه في نهاية الأمر من الصفة: طريقة الإحراق، و هي الطريقة التي علّمنا القرآن
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

192
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      إيّاها. فالذي تنزل به مصيبة مثلًا من موت أهل أو ولد أو غير ذلك، يمكنه أن يسكّن ألمه بطرق مختلفة، كأن يقول: لعلّ أهلي و ولدي سيلحقون بي الضرر مستقبلًا، أو يُتعبونني في تنفيذ طلباتهم. أو أن يقول: لقد فقد الآخرون أهليهم و أولادهم كما فقدت أهلي و ولدي؛ و نظائر ذلك.
      أمّا القرآن الكريم، فيقول: وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إذَآ أصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَ إنَّآ إلَيْهِ رَاجِعُونَ، (الآيتان ۱٥٥ و ۱٥٦، من السورة ٢: البقرة)، أي: أنّ كلّ شي‌ء مِلكٌ مُطلَقٌ لِلَّهِ تعالى، و أنّ الإنسان ليس من حقّه أبداً ادّعاء المِلكيّة. فالمِلك إذاً مِلك الله، و للمالك أن يتصرّف بمِلكه حيث يشاء دون اعتراض. و هذا النوع من التفكير يُريح المُصاب على الفور.
      أو أنّ شخصاً ما مثلًا يريد امتلاك امور مادّيّة و معنويّة كثيرة، لكنّه لا يقدر على نيله، و هو لذلك مكدّر الخاطر و مشوّشه. و حين يلجأ إلى القرآن و يرى أنّ فقره ذاتيّ، فإنّ قلقه سيزال، و سيفهم أنّه مهما أُعطي فإنّ تلك الأشياء ليست مِلكه، بل هي للّه تعالى، و أنّه سيبقى في فقره الذاتيّ.
      ولو أدرك السالك في طريق السلوك أنّ الله تعالى قد جعل نفسه طمّاعة، و أنّها تطمع في كلّ مقام و مكرمة، و أنّه ما لم يتخطّ طمع نفسه و رغباتها، فإنّه لن يصل إلى المقصود. و ذلك بأن يتغاضى بالمرّة عن جميع المشتهيات النفسانيّة من مقام الكرامة و الدرجات، و يُخلي باطنه من جميع النوايا و الرغبات، حيث يجلو ذهنه من جميع غبار الأغيار، فيتجلّى فيه جمال الحضرة الإلهيّة. و نظراً لأنّ هذا النوع من التفكّر كأنّه يحرق جميع النوايا و الصفات، فقد دُعي بطريقة الإحراق.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

193
  • بالمحبّة. و تمثّل هذه المرحلة لدى السالكين قطع الطمع.۱

  • الثالث عشر: الصمت

  • و هو على نوعَين: عامّ و مضاف، و خاصّ و مُطلق.

  • و الأوّل: عبارة عن حفظ اللسان عن مكالمة الناس بمّا يزيد على الضرورة، و الاكتفاء في الضروريّ بِأقَلِّ مَا يُمْكِن. و هذا النوع مما يجب على السالك الالتزام به في جميع أوقات السلوك، بل مطلقاً.

  • و ما جاء في الأخبار إشارة إلى هذا النوع من الصمت. حيث قال الإمام الباقر عليه‌السلام في حديث أبي حمزة: إنَّمَا شِيعَتُنَا الخُرْسُ‌٢

  • . و قد قال أبوعبدالله عليه‌السلام: الصَّمْتُ شِعَارُ

    1. جاء في «حلية الأولياء» ص ٣٦، عن بايزيد البسطاميّ، قال: الجَنَّةُ لَا خَطَرَ لَهَا عِنْدَ المُحِبِّينَ، وَ أهْلُ الجَنَّةِ مَحْجُوبُونَ بِمَحَبَّتِهِمْ. أي: أنّ الجنّة لا أهمّيّة لها لدى المحبّين، و أنّ أهل الجنّة محجوبون عن لقاء الله تعالى بسبب محبّتهم للجنّة، حيث حجبهم عنه تعالى محبّتهم لسواه (أي: للجنّة).
    2. وردت هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ۱۱٣؛ و «بحار الأنوار» ج ۱٥ (قسم الأخلاق)، ص ۱۸٦، نقلًا عن «السرائر»؛ و في ص ۱۸۸، نقلًا عن «الكافي» بإسناده، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي حمزة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

194
  • المُحِبِّينَ‌۱. وَ فِيهِ رِضَا الرَّبِّ، وَ هُوَ مِنْ أخْلَاقِ الأنْبِيَاءِ وَ شِعَارِ الأصْفِيَاءِ.

  • و في حديث البزنطيّ عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال:

    1. وردت هذه الرواية في «مصباح الشريعة» ص ٢۰؛ و نقلها المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (قسم الأخلاق)، ص ۱۸٦، بهذه الكيفيّة: قال الصادق عليه‌السلام: الصَّمْتُ شِعَارُ المُحَقِّقِينَ بِحَقَايِقِ مَا سَبَقَ وَ جَفَّ القَلَمُ بِهِ، وَ هُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ رَاحَةٍ مِنَ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ، وَ فِيهِ رِضَا الرَّبِّ وَ تَخْفِيفُ الحِسَابِ وَ الصَّوْنُ مِنَ الخَطَايَا وَ الزَّلَلِ. قَدْ جَعَلَهُ اللهُ سِتْراً عَلَى الجَاهِلِ، وَ زَيْناً لَلعَالِمِ، وَ مَعَهُ عَزْلُ الهوى، وَ رِيَاضَةُ النَّفْسِ، وَ حَلَاوَةُ العِبَادَةِ، وَ زَوَالُ قَسْوَةِ القَلْبِ، وَ العِفَافُ، وَ المُرُوَّةُ، وَ الظَّرْفُ. فَأغْلِقْ بَابَ لِسَانِكَ عَمَّا لَكَ مِنْهُ بُدٌّ، لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ تَجِدْ أهْلًا لِلكَلَامِ، وَ المُسَاعِدَ في المُذَاكَرَةِ لِلَّهِ وَ في اللهِ، وَ كَانَ رَبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يَضَعُ قِرْطَاساً بَيْنَ يَدَيْهَ فيَكْتُبُ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ في عَشِيَّتِهِ مَا لَهُ وَ مَا عَلَيْهِ، وَ يَقُولُ: آه آه نَجَا الصَّامِتُونَ وَ بَقِينَا. وَ كَانَ بَعْضُ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَضَعُ حَصَاةً في فَمِهِ، فَإذَا أرَادَ أنْ يَتَكَلَّم بِمَا عَلِمَ أنَّهُ لِلَّهِ وَ في اللهِ وَ لِوَجْهِ اللهِ، أخْرَجَهَا مِنْ فَمِهِ. وَ إن كَثِيراً مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتَنَفَّسُونَ تَنَفُّسَ الصُّعَدَاءِ وَ يَتَكَلَّمُونَ شِبْهَ المَرْضَى. وَ إنَّمَا سَبَبُ هَلَاكِ الخَلْقِ وَ نَجَاتِهِمُ الكَلَامُ وَ الصَّمْتُ. فَطُوبَى لِمَنْ رُزِقَ مَعْرِفَةَ عَيْبِ الكَلَامِ وَ صَوَابِهِ، وَ عَلِمَ الصَّمْتَ وَ فَوَائِدَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ أخْلَاقِ الأنْبِيَاءِ وَ شِعَارِ الأصْفِيَاءِ. وَ مَنْ عَلِمَ قَدْرَ الكَلَامِ أحْسَنَ صُحْبَةَ الصَّمتَ، وَ مَنْ أشْرَفَ عَلَى مَا في لَطَائِفِ الصَّمْتِ وَ ائْتَمَنَهُ عَلَى خَزَائِنِهِ، كَانَ كَلَامُهُ وَ صَمْتُهُ كُلُّهُ عِبَادَةً، وَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى عِبَادَتِهِ إلَّا المَلِكُ الجَبَّارُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

195
  • الصَّمْتُ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الحِكْمَةِ، وَ إنَّهُ دَلِيلُ كُلِّ خَيْرٍ ....۱

  • . و لهذا السبب، فقد كان بعض الصحابة يضع في فمه حصاةً، ليعوّد نفسه على ملازمة الصمت.،

  • أمّا الثاني: فعبارة عن حفظ اللسان عن الكلام مع الناس، بل في الخارج مطلقاً، و هو من الشرائط اللازمة في الأذكار الحصريّة الكلاميّة.٢

  • و أمّا في الإطلاقيّات فليس ذلك ضروريّاً، و لو كان أفضل. و عند التعسّر أو التعذّر في الضروريّات، فعليه توزيع الذِّكر على‌

    1. روي هذا الحديث في «أُصول الكافي»، ج ٢، ص ۱۱٣؛ و في «الاختصاص» ص ٢٣٢؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (قسم الأخلاق)، ص ۱۸٤، نقلًا عن «قُرب الإسناد» و «عيون أخبار الرضا» و «الخصال» و «الكافي» ج ٢، ص ۱۱٣، بأدنى اختلاف في اللفظ، و نورد هنا لفظ «الكافي». قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام:
      مِنْ عَلَامَاتِ الفِقْهِ الحِلْمُ وَ العِلْمُ وَ الصَّمْتُ. إن الصَّمْتَ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الحِكْمَةِ، إن الصَّمْتَ يَكْسِبُ المَحَبَّةَ، إنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ.
      ، ورد في «مصباح الشريعة»: و كان بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يضع الحصاة في فمه، فإذا أراد أن يتكلّم بما عَلِم أنّه للّه و في الله و لوجه الله، أخرجها مِن فمه.
    2. لعلّ مراده أنّ الإنسان يكون ساكتاً في باطنه أيضاً، و أن يجتنب محادثة المَلَك و من الالتفات إلى آماله، و يُعرض بالمرّة عن مكالمة غير الحقّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

196
  • أوقات متقاربة، و اجتناب أربعة أشياء: مخالطة العوام، و كثرة الكلام، و كثرة المنام، و كثرة الطعام.۱

  • الرابع عشر: الجوع و قلّة الأكل

  • و أفضله ما لم يستتبع الضعف عن السلوك، و لم يشوّش الأحوال. و هو أيضاً من الشروط المهمّة. و قول الصادق عليه السلام: الجُوعُ إدَامُ المُؤْمِنِ وَ غِذَاءُ الرُّوحِ وَ طَعَامُ القَلْبِ.‌٢

  • بيانٌ‌

    1. نقل أحد أساتيد الحقير أنّ المرحوم آية الحقّ الآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه كتب في رسالة له إلى السيّد علي الإيروانيّ رحمة الله عليه جواباً على رسالة الأخير:عَلَيْكَ بِقِلَّةِ الكَلَامِ وَ قِلَّةِ الطَّعَامِ وَ قِلَّةِ المَنَامِ، وَ تَبْدِيلِهَا بِذِكْرِ اللهِ المَلِكِ العَلَّامِ.وقد جمع هذا البيت آداب السلوك هذه في بيان مختصر جميل:
      صَمْت و جوع و سَهَر وعُزلت وذِكرى به دوام‌***نا تمامان جهان را كند اين پنج تمام‌
      يقول: «صمت و جوع و سهر و عزلة و ذكرى دائمة، هذه الامور الخمسة توصل إلى الكمال مَن لم يبلغه».
    2. و هو فقرة من حديث مرويّ نقله بتمامه المرحوم الشيخ جعفر الكشفي في «تحفة الملوك» في السُّدس الأخير من كتابه. و الحديث هو:مَا مِنْ شَيْ‌ءٍ أضَرَّ لِقَلْبِ المُؤْمِنِ مِنْ كَثْرَةِ الأكْلِ، وَ هي مُورِثَةٌ شَيْئَيْنِ: قَسْوَةَ القَلْبِ وَ هَيَجَانَ الشَّهْوَةِ. وَ الجُوعُ إدَامُ المُؤْمِنِ وَ غِذَاءٌ لِلرُّوحِ وَ طَعَامٌ لِلقَلْبِ وَ صِحَّةٌ لَلبَدَنِ. و قد ورد أصل هذا الحديث في «مصباح الشريعة»، الباب الحادي و الأربعين بهذا اللفظ باختلاف يسير في اللفظ، بإسناده عن الصادق عليه‌السلام.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

197
  • لهذه المرحلة.

  • و أفضل أصنافه الصوم، و قد يلزم أحياناً كما سيأتي في شرائط بعض الأذكار الكلاميّة.

  • الخامس عشر: الخلوة

  • و هي على قسمَين: خلوة عامّة، و خلوة خاصّة.

  • الخلوة العامّة (و تُدعى بالعُزلة)، و هي عبارة عن اعتزال غير أهل الله من الناس، سيّما النسوان و الأطفال و العوامّ و أرباب العقول الضعيفة و أهل العصيان و طالبي الدنيا، إلّا بقدر الحاجة و الضرورة، أمّا مجالسة أهل الطاعة فلا تتنافى مع هذه الخلوة، و لا يشترط فيها مكان خاصّ.

  • و ما ورد في أخبار المعصومين عليهم السلام، فالمراد به هذا النوع. حيث قال أبوعبدالله عليه‌السلام: صَاحِبُ العُزْلَةِ مُتَحَصِّنٌ بِحِصْنِ اللهِ مُتَحَرِّسٌ بِحَرَاسَتِهِ. فَيَا طُوبَى لِمَنْ تَفَرَّدَ بِهِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً.۱

    1. هذه فقرات منتزعة من رواية مفصّلة وردت في «مصباح الشريعة» ص ۱۸؛ و «بحار الأنوار» ج ۱٥ (الجزء الثاني)، ص ٥۱، نقلًا عن «مصباح الشريعة»، بإسناده عن ابن معروف، عن الصادق عليه‌السلام قال:
      صَاحِبُ العُزْلَةِ مُتَحَصِّنٌ بِحِصْنِ اللهِ تَعَالَى، وَ مُتَحَرِّسٌ بِحَرَاسَتِهِ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ تَفَرَّدَ بِهِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً. وَ هُوَ يَحْتَاجُ إلى عَشَرَةِ خِصَالٍ: عِلْمُ الحَقِّ وَ البَاطِلِ، وَ تَجَنُّبِ الفَقْرِ، وَ اخْتِيَارُ الشِّدَّةِ، وَ الزُّهْدُ، وَ اغْتِنَامُ الخَلْوَةِ، وَ النَّظَرُ في العَوَاقِبِ، وَ رُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ في العِبَادَةِ مَعَ بَذْلِ المَجْهُودِ، وَ تَرْكُ العُجْبِ، وَ كَثْرَةُ الذِّكْرِ بِلَا غَفْلَةٍ فَإنَّ الغَفْلَةَ مُصْطَادُ الشَّيْطَانِ وَ رَأسُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَ سَبَبُ كُلِّ حِجَابٍ وَ خَلْوَةُ البَيْتِ عَمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ في الوَقْتِ. قَالَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اخْزِنْ لِسَانَكَ لِعِمَارَةِ قَلْبِكَ، وَ لْيَسَعَكَ بَيْتُكَ، وَ فِرَّ مِنَ الرِّيَاءِ وَ فُضُولِ مَعَاشِكَ‌ [و في نسخة «مصباح الشريعة»: وَ اسْتَحِي مِنْ رَبِّكَ‌]، وَ ابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَفِرَّ مِنَ النَّاسِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ وَ الأفْعَى، فَإنَّهُمْ كَانُوا دَوَاءً فَصَارُوا اليَوْمَ دَاءً، ثُمَّ الْقَ اللهَ متى شِئْتَ. قال ربيعُ بن خُثيم: إن اسْتَطَعْتَ أنْ تَكُونَ‌ [اليَوْمَ‌] في مَوْضِعٍ لَا تَعْرِفُ وَ لَا تُعْرَفُ فَافْعَلْ. وَ في العُزْلَةِ صِيَانَةُ الجَوَارِحِ، وَ فَرَاغُ القَلْبِ، وَ سَلَامَةُ العَيْشِ، وَ كَسْرُ سِلَاحِ الشَّيْطَانِ، وَ المُجَانَبَةُ بِهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَ رَاحَةُ الوَقْتِ. وَ مَا مِنْ نَبِيّ وَ لَا وَصِيّ إلَّا وَاخْتَارَ العُزْلَةَ في زَمَانِهِ، إمَّا في ابْتِدَائِهِ، وَ إمَّا في انْتِهَائِهِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

198
  • و قال‌: فِرَّ مِنَ النَّاسِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ وَ الأفْعَى، فَإنَّهُمْ كَانُوا دَوَاءً فَصَارُوا دَاءً ...

  • و قال: مَا مِنْ نَبِيّ وَ لَا وَصِيّ إلَّا وَ اخْتَارَ العُزْلَةَ في زَمَانِهِ، إمَّا في ابْتِدَائِهِ، أوِ انْتِهَائِهِ.

  • و قال: كُفُّوا ألْسِنَتِكُمْ وَ الزَمُوا بُيُوتِكُمْ.۱

    1. روي حديث كُفُّوا ألْسِنَتِكُمْ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٢٥؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (الجزء الرابع، و هو كتاب العشرة)، ص ۱٤۰، عن «الكافي». كما روي في «وسائل الشيعة» ج ٢، كتاب «الأمر بالمعروف»، باب «تحريم إذاعة الحقّ»، ص ٥۰۷، عن أحمد بن محمّد ابن خالد البرقيّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

199
  • و قضيّة غار حراء دالّة على هذا المطلب، و الآية الكريمة: {وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} [الآية ۷۰، من السورة ٦: الأنعام‌] ناطقة له. و هذه الخلوة راجحة في كلّ الأحوال.

  • و أمّا الخلوة الخاصّة، فإنّها و لو كانت لا تخلو من فضل في جميع العبادات و الأذكار شرط لدى مشايخ الطريقة في طائفة من الأذكار الكلاميّة، بل في جميعها. و مراد أهل الأوراد من الخلوة: هذا النوع منها.

  • و يشترط فيها الوحدة و الابتعاد عن محلّ الزحام و الضوضاء و الأصوات التي تشوّش البال، و حِلّيّة المكان و طهارته حتّى السقف و الجدران و أن تكون على قدر سعة الذاكِر و عبادته فحسب. و قول عيسى عليه‌السلام: وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ‌۱ إشارةٌ إليها.

    1. ورد هذا القول عن عيسى عليه‌السلام ضمن رواية عن الصادق عليه‌السلام، و قد نقلناها في الهامش السابق نقلًا عن «مصباح الشريعة» و «بحار الأنوار».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

200
  • و أفضل البيوت ما كان له باب واحد و لم يكن فيه نافذة أو كوّة. و الذاكرُ مندوب أن يقول إذا دخل في البيت:

  • {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}.۱

  • ثمّ يقول: بِسْمِ اللهِ وَ بِاللهِ وَ صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ.

  • ثمّ يصلّي ركعتَين، يقرأ في الاولى بعد الحمد هذه الآية:

  • {وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.٢

  • و في الثانية:

  • {رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ.}٣

  • و عليه خلال الذِّكر أن يفترش الأرض أو ما ينبت منها، كالحصير و ما شابهه، و أن يجلس تجاه القِبلة متورِّكاً أو مربّعاً. و أن يهتمّ بالتعطّر في تلك الحال، سيّما بالبخورات اللائقة.

  • السادس عشر: السَّهَر

  • بالقدر الذي تطيقه طبيعة البدن؛ قوله تعالى: {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ‌}

    1. الآية ۸۰، من السورة ۱۷: الإسراء.
    2. الآية ۱۱۰، من السورة ٤: النساء.
    3. الآية ٤، من السورة ٦۰: الممتحنة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

201
  • {ما يَهْجَعُونَ.}۱

  • السابع عشر: دوام الطهارة

  • الثامن عشر: المبالغة في التضرّع و الذلّة و المسكنة و التذلّل في فِناء ربّ العِزّة

  • التاسع عشر: الاحتراز عن المشتهيات بقدر الاستطاعة

  • العشرون: كتمان السِّرِّ

  • و هو من أهمّ الشروط، و قد بالغ مشايخ الطريقة و أساتذة الأذكار في الوصيّة بهذا الشرط، سواء في العمل و الأوراد، أو في الحالات و الواردات الحاليّة و المقاميّة، و كانوا يعدّون أبسط تخلّف‌أو تخطٍّ لهذا الشرط ممّا يُخلّ بالقصد و يمنع بلوغ المطلوب. كما كانوا يعدّون التورية في الكلام و مخالفة العزم عند الإشراف على الإفشاء من لوازم السلوك. و مقولة وَاسْتَعِينُوا عَلَى حَوَائِجِكُمْ بِالكِتْمَانِ‌

  • دالّة على هذا المطلب.٢

    1. الآية ۱۷، من السورة ٥۱: الذاريات.
      الرواية الواردة في كتمان السرّ.
    2. نقل المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱۷، ص ٤٦، عن «غوالى اللئالى» ضمن حِكم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قوله: اسْتَعِينُوا عَلَى الحَوَائِجِ بِالكِتْمَانِ لَهَا.
      وجاء في «تحف العقول» ص ٤۸؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱۷، ص ٤٤، نقلًا عن «تحف العقول»، قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: اسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ بِالكِتْمَانِ، فَإنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

202
  • و من هنا قال سيّد الأولياء عليّ عليه‌السلام إلى ميثم التمّار:

  • وَ في الصَّدْرِ لُبَانَاتٌ‌***إذَا ضَاقَ لَهَا صَدْرِي‌
  • نَكَتُّ الأرْضَ بِالكَفِ‌***وَ أبْدَيْتُ لَهَا سِرِّي‌
  • فَمَهْمَا تَنْبُتُ الأرْضُ‌***فَذَاكَ النَّبْتُ مِنْ بَذْرِي‌۱
  • و قال أبو عبدالله عليه‌السلام:

  • مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْ‌ءٍ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الحَيَاءِ.

  • و قال: أمْرُنَا مَسْتُورٌ مُقَنَّعٌ بِالمِيثَاقِ، فَمَنْ هَتَكَ عَلَيْنَا أذَلَّهُ‌ 

    1. قال المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٩، ص ٤۷٢: وَ جَدْتُ في مَزَارٍ كَبِيرٍ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ السَّيِّدِ فَخَّار أوْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرَهُ بِإسْنَادِهِ (ثمّ يذكر الإسناد) عَنْ مَيْثَمِ التَّمَّارِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: أصْحَرَ بِي مَوْلَايَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (ثمّ يذكر مناجاة الإمام و دعاءه و بثّه أسراره في البئر، حتّى يصل إلى قوله:) يَا مَيْثَمُ! 
       *** وَ في الصَّدْرِ لُبَانَاتٌ إذَا ضَاقَ بِهَا صَدْرِي *** 
      والمراد بحفر الأرض بالكفّ و إخفاء السرّ فيها و إنبات الأرض ذلك السرّ إمّا استعارة و كناية طبق محاورات عامّة الناس عن عدم وجود مَن يبثّه المرء سرّه، فيضطرّ إلى إخفاء سرّه في التراب، أو أنّ الإمام أراد بنفسه القدسيّة كتمان تلك الأسرار في أعماق الأرض و في روح الأرض و ملكوتها، لتنبت الأرض فيما بعد تلك الأسرار نباتاً، مثل أولياء الله يصبح صاحب سرّ الإمام.
      في «الكافي»: الخَبَاءِ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

203
  • اللهُ.۱

  • و جاء في حديث الثمالى: وَدِدْتُ وَ اللهِ أنِّي افْتَدَيْتُ خَصْلَتَيْنِ في الشِّيعَةِ لَنَا بِبَعْضِ لَحْمِ سَاعِدِي: النَّزَقُ وَ قِلَّةِ الكِتْمَانِ.٢

  • و في حديث سليمان بن خالد، عن الصادق عليه‌السلام، قال: إنَّكُمْ عَلَى دِينٍ، مَنْ كَتَمَهُ أعَزَّهُ اللهُ، وَ مَنْ أذَاعَهُ أذَلَّهُ اللهُ.٣

  • يقول جابر بن يزيد: حدّثني أبو جعفر عليه‌السلام بسبعين ألف حديث لم أحدّث بها أحداً قطّ، و لا أحدِّث بها أحداً أبداً. فلمّا ارتحل عليه‌السلام ضاق صدري و بهظني حَملُ تلك‌

    1. روي حديث «أمْرُنَا مَسْتُورٌ مُقَنَّعٌ بِالمِيثَاقِ» في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (الجزء الرابع، كتاب العشرة)، ص ۱٤۰، عن «الكافي»؛ و في «وسائل الشيعة» ج ٢، ص ٥۰۷، بإسناده عن خالد بن نجيح، عن الصادق عليه‌السلام.
    2. نقل حديث الثمالى «وَدِدْتُ وَ اللهِ» في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٢۱؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب العشرة)، ص ۱٣۷، عن «الكافي»؛ و في «الخصال» ص ۱٣٦.
    3. وردت هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢٢٢؛ و في «المحاسن» للبرقيّ، ج ۱، ص ٢٥۷؛ و في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب العشرة)، ص ۱٣۷، عن «الكافي»؛ و في «وسائل الشيعة» ج ٢، ص ٥۰۸، بإسناده عن «المحاسن» للبرقيّ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

204
  • الأحاديث، قصدتُ أبا عبدالله عليه‌السلام فأخبرتُه بحالتي. فقال: أخرُج إلى الجَبّانِ فاحفِر حَفيرةً و دَلِّ رأسَكَ فيها، ثُمّ قُل: حدّثني محمّد بنُ عليّ بكذا و كذا، ثمّ أهِل التراب عليها.۱

  • الحادي و العشرون: الشيخ و الاستاذ

  • و هو على نوعَين: أستاذ خاصّ و أستاذ عامّ.

    1. و هو جابر بن يزيد الجُعفي، و هو ثقة من أصحاب الصادقَين عليهما السلام. و قد رواها عنه الشيخ الكشّيّ باختلاف يسير، قال: جبرئيل بن أحمد، حدّثني محمّد بن عيسى، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي قال:
      حَدَّثَنِي أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبْعِينَ ألْفَ حَدِيثٍ لَمْ أُحَدِّثُ بِهَا أحَداً قَطُّ، وَ لَا أُحَدِّثُ بِهَا أحَداً أبَداً. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لأبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إنَّكَ حَمَّلْتَنِي وَقْراً عَظِيماً بِمَا حَدَّثْتَنِي بِهِ مِنْ سِرِّكُمُ الذي لَا أُحَدِّثُ بِهِ أحَداً، فَرُبَّمَا جَاشَ في صَدْرِي حتّى يَأخُذَنِي مِنْهُ شِبْهُ الجُنُونِ!
      قَالَ: يَا جَابِرُ! فَإذَا كَانَ ذَلِكَ فَاخْرُجْ إلى الجَبَّانِ فَاحْفِرْ حَفِيرَةً وَ دَلِّ رَأسَكَ فِيهَا، ثُمَّ قُلْ: حدّثني محَمَّدُ بْنُ عليّ بِكَذَا وَ كَذَا.
      وقد ورد هذا الحديث في «اختيار معرفة الرجال» (المعروف بـ «رجال الكشّيّ») الذي طبعته دانشكدة إلهيّات مشهد (= كلّيّة الإلهيّات في مشهد) بمناسبة الذكري الألفيّة لولادة الشيخ الطوسيّ أعلى الله مقامه، ص ۱٩٤. و في طبعة بمبي، ص ۱٢۸؛ كما ورد في «معجم رجال الحديث» ج ٤، ص ٢٢.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

205
  • فالاستاذ الخاصّ هو الذي نُصّ عليه و خُصّ بالدلالة و الهداية، و هو النبيّ و خلفاؤه الخاصّون.

  • و أمّا الاستاذ العامّ، فهو الذي لم يُنصّ عليه بالهداية، بل هو داخل في عُموم: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‌} [الآية ٤٣، من السورة ۱٦: النحل‌]. وَ لَا مَفَرَّ للسالك في كلّ حال من الاستاذ الخاصّ، حتّى لو كان بلغ هدفه المقصود۱، لأنّ ذلك الاستاذ

    1. إن أولياء الله و الأفراد الذين ارتقوا إلى مقام الكمال الإنسانيّ قد يتعدّدون في كلّ زمان، بحيث يكون كلّ منهم لائقاً لهداية السالكين و إرشادهم؛ أمّا الإمام (و هو خليفة رسول الله) صاحب الولاية الكبرى و حافظ الشريعة و الطريقة، و المُهيمن على جميع العوالم، و المحيط بالجزئيّات و الكلّيّات، فهو في كلّ عصر واحد فحسب. و جميع الأولياء تحت لوائه و ضمن شريعته و طريقته. و من الضروريّ للسالك أن يكون ملتفتاً إليه على الدوام، و هو معنى المرافقة الذي ذكره المصنّف. و من المسلّم أنّ المرافقة البدنيّة غير مُشترطة، بل المشترط هي المرافقة الروحيّة.
      وهي مبتنية على سيطرة روح الوليّ على السالك، مضافاً إلى توجّه السالك و التفاته التامّ إلى الوليّ، وصولًا إلى صدق المرافقة. و يحصل عمدة سير السالك من خلال مرافقته للإمام الذي عبّر عنه المصنّف رحمه الله بالاستاذ الخاصّ، و ينحصر في زمن الغَيبة الكبرى بوجود صاحب العصر و الزمان، حجّة الله البالغة محمّد بن الحسن العسكريّ عجّل الله فرَجه. أمّا سائر الأولياء الذين يُعينون السالك، فإنّما بالتبعيّة للُاستاذ الخاصّ أوّلًا، و إن ضرورة الاستعانة بهم إنّما تتحقّق عند عدم التمكّن من الاستاذ الخاصّ ثانياً. أمّا في زمن التمكّن من الاستاذ الخاصّ، فلا يلزم الاستعانة بهم، و لو كانت ممكنة و خالية من الإشكال.
      على أنّ مرافقة السالك للُاستاذ العامّ لازمة أيضاً، لأنّ النفحات الرحمانيّة من جانب ربّ العزّة تصل إلى السالك عن طريق الحجاب الأقرب (و هو الاستاذ الخاصّ) بواسطة قلب الاستاذ العامّ. و من هنا فإنّ على السالك أن لا يغفل عن الإفاضات القلبيّة للُاستاذ العامّ كي لا يُحرم من إفاضاته المعنويّة.
      أمّا الأولياء الذين بلغوا مقاماً خاصّاً بدون توسّط الإمام و الاستاذ الخاصّ، فإنّهم لمّا لم يتابعوا الإمام في طريق الشريعة سيعُدّون من المستضعفين في حال افتراض قصورهم و عدم إنكارهم أو جُحودهم، و ستشملهم آية: وَ أمْرُهُمْ إلى اللهِ.
      فإن شملتهم العناية الإلهيّة في هذه الحال، فطلع عليهم باطن مقام الولاية الحقّة للإمام، صاروا بلا شكّ مُستبصرين، وانضمّوا في التشريع تحت لواء الإمام أيضاً، على الرغم من قد يُجبرون على التقيّة و التورية لفقدان المحيط المساعد. و إن هم لم يقفوا على باطن ولاية الإمام، توقّفوا في أماكنهم، و انسدّ أمامهم سبيل الوصول إلى المعرفة الإلهيّة، و لو تظاهروا بالوصول و المعرفة.
      وإن هم سلكوا سبيل الجحود و الإنكار، امتنع عليهم طيّ الطريق، و تعذّر الوصول إلى مقام الكمال، لأنّ الطريق قائم على أساس الخلوص المتنافي مع الجحود و الإنكار.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

206
  • يعلّمه آداب الوطن أيضاً، و لأنّه الوالى في تلك المملكة أيضاً.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

207
  • و مرافقته من الضرورة العامّة في حال السلوك، بل في أواخر السلوك (عند حصول التجلّيات الذاتيّة و الصفاتيّة). و ما ورد عن أرباب السلوك في باب آداب خدمة الشيخ و تعاهده، فقد أرادوا به الاستاذ الخاصّ، و لو كان ملاحظة الأدب و الاحترام لازمَين للُاستاذ العامّ أيضاً لقيامه في الهداية مقام الاستاذ الخاصّ.

  • و ما يفهمه الأكثريّة من توقّف السلوك على الشيخ، أنّ طلب السلوك بدون إرشاد الشيخ و الاستاذ و متابعتهما غير ممكن. و مع أنّ الأمر كذلك، إلّا أنّ هناك مرحلة اخرى أعلى من هذه المرحلة، إذ إن مرافقة الاستاذ الخاصّ في جميع الأحوال في ترتيب المظاهر و هو ما سيُشار إليه من أهمّ الشرائط و أعظم اللوازم. كما أنّ مرافقة الاستاذ العامّ أولي و أنسب، سيّما للمبتدئ.

  • و تحصل معرفة الاستاذ الخاصّ في بداية الأمر حسب الطريقة التي مرّت في تحصيل الإيمان الأصغر، كما أنّه سيعرّف نفسه في نهاية المطاف.

  • أمّا الاستاذ العامّ فلا يعرف إلّا بمصاحبته في الخلاء و الملاء، و بالمعاشرة الباطنيّة و ملاحظة تماميّة إيمان جوارحه و نفسه. و حَذارِ من متابعته بالانخداع بظهور خوارق العادات، و بيان دقائق النكات، و إظهار الخفايا الآفاقيّة و الحبايا الأنفسيّة، و تبدّل بعض‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

208
  • حالاته، لأنّ الإشراف على الخواطر و الاطّلاع على الدقائق، و العبور على الماء و النار، و طيّ الأرض و الهواء، و الإحضار من المستقبل و أمثال ذلك يحصل في مرتبة المكاشفة الروحيّة، و هي مرحلة يفصل بينها و بين المنزل المقصود طريق بلا انتهاء.۱

    1. المكاشفات على أنواع:
      الأوّل: المكاشفات المادّيّة و الطبيعيّة، و هي الاطّلاع على المخفيّات، و تحصل للإنسان في عالم الطبع. كالعلوم الطبيعيّة و الرياضيّة و الهيئة و أمثالها.
      الثاني: المكاشفات التي تحصل للسالك بعد العبور من عالم الطبع و الورود في عالم المثال، و تدعى بالمشاهدات القلبيّة، لأنّها تجسّم بعض المعاني في صور مثاليّة، و مثلها في عالم اليقظة مثل الرؤيا و الأحلام التي يشاهدها الإنسان في منامه.
      الثالث: المكاشفات التي تحصل للسالك بعد العبور من عالم المثال و الورود في عالم الروح و العقل، و تدعى بالمشاهدات الروحيّة، لأنّها تحصل بواسطة قدرة الروح و سيطرتها في العالم، مثل الإحاطة بالخواطر و الأفكار، و طيّ الأرض، و طيّ الهواء، و العبور من النار، و الاطّلاع على المستقبل، و التصرّف في النفوس بالمرض أو الصحّة، و التصرّف في أفكار العامّة.
      الرابع: المكاشفات التي تحصل للسالك في عالم الخلوص و اللاهوت بعد العبور من الروح و الجبروت، و تدعى بالمكاشفات السرّيّة، لأنّها كشف أسرار عالم الوجود و الاطّلاع على المعاني الكلّيّة و كشف الصفات و الأسماء الكلّيّة الإلهيّة. الخامس: المكاشفات التي تحصل للسالك بعد الكمال و العبور من مراتب الخلوص و الوصول إلى مقام التوحيد المطلق و البقاء بالله، و تدعى بالمكاشفات الذاتيّة، لأنّها إدراك حقيقة الوجود و آثاره و ترتيب نزول الحكم إلى عالم الإمكان، و مصدر القضاء و القدر و المشيئة الإلهيّة و مصدر التشريع و الوحي، و الإحاطة بجميع العوالم النازلة، و كيفيّة تحقّق الحادث و ربطه بالعوالم الربوبيّة، و اتّحاد الوحدة و الكثرة و أمثال ذلك.
      ويتبيّن بناء على ما قيل أنّ المكاشفات الروحيّة تحصل قبل الورود في العالم الإلهيّ، و أنّها مشتركة بين المؤمن و الكافر، و أنّها لا تدلّ بأيّ وجه على وجود الكمال أو انتفائه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

209
  • و ما أكثر المنازل و المراحل! و ما أكثر السائرين الذين طووا هذه المرحلة، ثمّ انحرفوا بعدها عن الجادّة و دخلوا في وادي اللصوص و الأبالسة! و ما أكثر الكفّار الذين حصلوا بهذا السبيل على اقتدار على فِعل أشياء كثيرة! بل لا يمكن أيضاً الاستدلال بالتجلّيات الصفاتيّة على وصول صاحبها، لأنّ ما يختصّ بالواصلين إنّما هو التجلّيات الذاتيّة، بنوعها الربّانيّ لا الروحانيّ.۱

    1. التجلّيات على أربعة أنواع:
      الأوّل: التجلّيات الفعليّة، و هي أنّ السالك إذا ما فعل شيئاً لم يره مِن فعل نفسه، بل يراه على الإجمال من فِعل موجود آخر. أو أنّه يرى الأفعال التي يفعلها الناس على أنّها ليست من فِعلهم، بل هي قائمةً بغيرهم. كأن يُدرك أنّ جميع حركات الناس و سكناتهم و ذهابهم
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

210
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      وإيابهم و كلامهم قائمٌ بذات واحدة لا غير.
      الثاني: التجلّيات الصفاتيّة، و هي أن السالك لا يرى صفته راجعة إليه، بل يُدرك إجمالًا أنّها من ذات اخرى. كأن يسمع كلاماً، فلا يرى أنّ نفسه هي السامع، بل يرى أنّ السامع موجود آخر. أو يرى شيئاً، فلا يرى أنّ نفسه هي التي رأت، بل يرى الرائي موجوداً آخر. و هكذا الأمر بالنسبة إلى الصفات الاخرى، و إلى صفات سائر الناس، فإنّه يرى ذلك مستنداً بأسره إلى علم و قدرة و سمع و بصر و حياة موجودٍ آخر.
      الثالث: التجلّيات الذاتيّة، و هي أن يُدرك السالك الصفة مع قيّومها معاً في هيئة الاسم؛ كأن يسمع شيئاً فيرى السميع ذاتاً اخرى، و يرى الحيّ و العليم و البصير و القدير ذاتاً اخرى، و هكذا في بقيّة أفراد الناس، حيث إنّه لا يرى أسماءهم لهم، بل يراها بأجمعها من أسماء الله تعالى.
      الرابع: تجلّي الذات، و هي أن يرى السالك أصل حقيقة وجوده أو وجود موجود آخر، أو وجود سائر الموجودات من ذات الحقّ القدسيّة. و يصطلح البعض على هذا التجلّي بالتجلّيات الذاتيّة أيضاً.
      وعلى أيّة حال، فقد قصد المصنّف رحمه الله أنّ التجلّيات الصفاتيّة الإلهيّة ليست دليلًا على بلوغ صاحبها المقصد، بل يلزم في ذلك امتلاك التجلّيات الذاتيّة بنوعها الربّانيّ لا الروحانيّ.
      واعلم أنّيّ لم أعثر على تقسيم التجلّيات الذاتيّة إلى ربّانيّة و روحانيّة في أيّ من كتب القوم، و هو ظاهراً من التعبيرات الخاصّة بالمصنّف، و مراده بها غير واضح. و يُحتمل أن يكون المراد بالتجلّيات الربّانيّة التجلّيات الأسمائيّة في عالم الذات و الربوبيّة. مثل تجلّي اسم الحيّ و العليم و القدير و السميع و البصير. و المراد بالتجلّيات الذاتيّة الروحانيّة التجلّيات الأسمائيّة في عالم الفعل، كالخالق و الرازق و أمثال ذلك. كما يحتمل أنّ المراد بالتجلّيات الذاتيّة الربّانيّة تجلّي الاسم، و حقيقته فناء السالك في ذلك الاسم المتجلّي عليه، فيكون السالك في هذه الحال مَجلى الاسم الربوبيّ، و يكون فانياً في ذلك الاسم. و المراد بالتجلّيات الذاتيّة الروحانيّة صرف انكشاف ذلك الاسم في عالم الروح، دون أن يتحقّق للسالك فناء في ذلك الاسم، على الرغم من أنّ هذا لا يُصطلح عليه بالتجلّي، بل بالكشف و الانكشاف، و الله العالِم

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

211
  • و هناك طريقة اخرى لمعرفة الاستاذ و شيخ الطريقة سنشير إليها إن شاء الله تعالى.

  • الثاني و العشرون: الوِرد

  • و هو عبارة عن عدّة أذكار و أوراد كلاميّة لسانيّة تفتح أبواب الطريق و تُعين السالك في العقبات و العوائق و المهمّات. و من شروطها أن تكون بإذن من الاستاذ، إذ لا يُسمح الشروع بها بدون إذن منه، إنّها في حُكم الدواء الذي منه ما ينفع و منه ما يضرّ، بل هو دواء حيناً و سُمّ حيناً آخر. و بعضه شفاء، و بعضه الآخر داء. يُضاف إلى ذلك أنّ بعض الأوراد قد ينفع بفرده، فإذا ضُمّ إلى وِرد آخر أضحى ضارّاً. و قد يتعرّض السالك للخطر إذا زاد في الوِرد على عدد معيّن، أو أنقصه عن ذلك العدد.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

212
  • أجل، هناك رخصة عامّة فيما رخّص الأساتذة الحاذقون فيه بإذن عامّ.

  • و الوِرد على أربعة أقسام: القالبيّ و النفسيّ، و كلّ منهما ينقسم إلى إطلاقيّ و حَصريّ. و أصحاب السلوك لا يُعيرون اهتماماً للورد القالبيّ.۱

  • الثالث و العشرون إلى الخامس و العشرين: نفي الخواطر، نفي الفكر، و نفي الذكر

  • و هذه المراحل الثلاث من مهمّات وسائل الوصول إلى المقصد، بل هو ممتنع بدونها. كما أنّ الإتيان بها من أصعب الامور و أشقّها.

    1. ورد في حاشية الكتاب هذه العبارة: «المراد بالذكر القالبيّ ما انجمد في قالب الوِرد و لم يتعرّض للمعنى، و النَّفسيّ بخلافه. و المراد بالوِرد الإطلاقيّ الوِرد غير المحدود بعدد معيّن؛ و الوِرد الحَصْريّ بخلافه».
      وقد ذكر سماحة العلّامة الطباطبائيّ في بيانها:
      المراد بالوِرد القالبيّ الوِرد الجاري على اللسان دونما ملاحظة لمعناه، و المراد بالوِرد النفسيّ الوِرد الجاري على اللسان مع ملاحظة معناه. و المراد بالإطلاقيّ الوِرد الذي لا يُشترط فيه عدد معيّن، بل يكرره السالك بمقتضى حاله بلا ضبط للعدد؛ و المراد بالوِرد الحصريّ الذي يُشترط فيه عدد معيّن.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

213
  • و لا أقصد أنّ أصل العمل بها شاقّ و عسير مع أنّ الأمر كذلك حقّاً بل أرمي إلى أنّ هذه الأودية الثلاثة أودية على درجة كبيرة من الخطورة، و أنّها مراحل مخوفة يُخشى فيها من الهلاك الأبديّ و الشقاء السرمديّ.

  • و أكثر الذين انحرفوا عن الجادّة و هلكوا، إنّما هلكوا بسبب هذه المراحل و المرحلتين السابقتَين عليها، بَيدَ أنّ خطورة هذه المراحل الأخيرة أشدّ و أكبر و أعظم!

  • ذلك أنّ خطر المرحلة السابقة أكثره فساد البدن و تعويق المهمّات، و خطر المرحلة التي تسبقها و كذلك خطر التقصير في مرحلة فِقه الجوارح و النفس هو عدم الوصول إلى المطلوب، إلّا أن يسبّب الخطأُ فيها الخطأ في المراحل الثلاث الأخيرة.

  • و خطر هذه المراحل الثلاث هو الهلاك الأبديّ و الشقاء السرمديّ؛ و كلّ ما طرق سمعك من عبادة الأصنام و الأوثان و البقر و الكواكب و النار و الحيوانات و مراتب الغلوّ و الإلحاد و الزندقة و الإباحة و ادّعاء الحلول و الاتّحاد و غيرها، ناشئٌ بأجمعه عن هذه المراحل، و عائد إلى إحداها، كما سيُشار إليه إن شاء الله تعالى. و سيَفهم الذكيّ الفَطِن ما نُشير إليه خلال هذه المراحل.

  • نفي الخواطر

  • فنقول: أمّا نفي الخواطر، فعبارة عن صمت القلب‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

214
  • و تسخيره، كي لا يتكلّم إلّا بمشيئة صاحبه، و هو من أعظم مطهّرات السرّ و مُنتج أكثر المعارف الحقّة و التجلّيات الحقيقيّة؛ و هو عقبة كؤود وقِمّة عسيرة. فإن أراد الطالب ارتقاءها، هاجمته الخواطر من كلّ صوب وحدب، و شوّشت عليه. و على السالك أن يكون في هذا المقام كالجبال الرواسي، و أن يهوى على كلّ خاطر يتحرّك و يظهر بسيف الذِّكر، و أن لا يتسامح في المحقَّرات، لأنّها و لو كانت حقيرة تافهة كالشوكة في قدم السالك، تجعلة يعرج في مسيره. و كثير من المتشيّخين يوصون تلامذتهم بطيّ هذه المرحلة بالذِّكر۱، و يحاولون نفي الخواطر بالذِّكر، و هذا أوّل‌

    1. اعلم أنّ هناك طريقَين مشهورَين لنفي الخواطر:
      الأوّل: الطريق الذي ذكره المصنّف رحمه الله، و هو أن يعمد السالك إلى تقوية ذهنه من خلال التوجّه و الالتفات التامّ إلى شي‌ء من الأشياء، كقطعة من الحجر أو الخشب أو الصور الرقميّة لأسماء الله تعالى، ثمّ يعمد بعد ذلك إلى نفي الخواطر، و ذلك بأن يفرض المرء نفسه حارساً لقلبه، فيقوم بطرد كلّ خاطر يحاول الورود إليه. و بعد أن يقوى السالك في هذا الموضوع، فإنّه ينصرف إلى الذِّكر و التوجّه.
      الثاني: الطريق الذي رفضه المصنّف رحمه الله و نسبه إلى المتشيّخين، و هو نفي الخواطر بحربة «الذِّكر». أي أنّ السالك يعمد إلى ذِكر الله و التوجّه إليه تعالى أو إلى أحد أسمائه، من أجل أن لا يُبقي في ذِهنه مجالًا لخُطور خاطر آخر. فيتبع نفي الخواطر الذِّكرَ تلقائيّاً،
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

215
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      ويكون السالك ذاكراً على الدوام، و يكون ذهنه تبعاً للذِّكر خالياً من الخواطر.
      وقد كانت هذه هي طريقة المرحوم الآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ و أتباعه و طريقة المرحوم الحاجّ الميرزا على القاضي رضوان الله عليهم. و يمكن الاستدلال على صحّتها بعدّة أُمور:
      (۱) إن نفي الخواطر لا يحصل تلقائيّاً، إلّا أن يلتفت السالك خلال مرحلة المقدّمات إلى شي‌ء ما كقطعة من الحجر أو الخشب ثمّ يقوم بنفي الخاطر. و على الرغم من أنّ ذلك العمل له عنوان المقدمة لتصفية الذهن و التجلّيات الإلهيّة، فإنّ السالك لو داهمه الموت على تلك الحالة لم يكن ذاكراً للّه، إن نفي الخاطر ليس ذكراً، بل هو مقدّمة للذكر.
      (٢) إن ما يستفاد من منهج الشرع هو أنّ أئمّة الشريعة و حُماة الدين قد أمروا الناس على الدوام بالذِّكر، و أنّهم كانوا لا يجيزون لهم الابتعاد عن الذِّكر منذ القَدَم الأوّل للسلوك إلى مرحلته الأخيرة، و منذ العبادات الابتدائيّة إلى العبادات النهائيّة. حيث تحصل التجلّيات الصفاتيّة و الذاتيّة خلال الذِّكر. و ما ذكره المصنّف رحمه الله من أنّ السالك إذا أعرضَ فإنّ المحبوب الغيور سيصفعه على قفاه، لا يختصّ بحال من أحوال الذِّكر، بل إن السالك إذا ما انشغل بالذِّكر بعد حصول نفي الخواطر لديه ثمّ عرضت له خاطرة ما، فإنّ هذا الأمر سيتحقّق، و سيُعاقب هذا السالك من قِبَل المحبوب الغيور. أمّا إذا انشغل السالك بالذِّكر من دون نفي الخواطر، ثمّ ظهر بالجمع من دون أن يغفل عن المذكور، فإنّه سيأمن من الإصابة بأيّ ضرر. و حاصل الكلام هو أنّ خطر غيرة الحبيب و الأمن من خطر غيرة الحبيب أمر متصوّر ممكن في كِلا النهجَين. ٣) إن الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (الآية ٢۰۱، من السورة ۷: الأعراف) تدلّ بصراحة على وجوب طرد الخواطر الشيطانيّة عن طريق الذِّكر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

216
  • خَبطهم، لأنّ نفي الخواطر أمر عسير ينبغي أن لا يستسهله المجاهد، و أن يستمرّ في المجاهدة مدّة ليصل إلى هذه المرحلة، و هي مرحلة يسمّيها أرباب السلوك بالداء العضال.

  • في الذِّكر

  • و الذِّكر بمثابة ملاحظة المحبوب و قصر النظر على جماله من بعيد. و حين يكون النظر إلى المحبوب، فإنّ من اللائق أن يُغضّ النظر عمّن سواه، إذ المحبوب غيور، و مِن غيرته أن لا يُجيز للعين التي تنظر إليه أن تنظر إلى سواه، و من غيرته أن يُعمي العين التي تُعرض عنه لتنظر إلى غيره. فإن تكرّرت الإعراض و التوجّه في هذه الحال، غدا بمثابة الاستهزاء، و أعقب صفعة يصفعها المطلوب على قفا الطالب، لا يبحث بعدها عن رأسه و لا عن عمامته.

  • ألم تسمع قوله: أنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي.

  • و قوله: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}‌ [الآية ٣٦، من السورة ٤٣: الزخرف‌].

  • أفتظنّ أنّ المحبوب يُدني إليه مَن ينهض مِن مُجالسته فيكون‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

217
  • قريناً للشيطان؟ أو تخال أنّ الرحمن يجلس في موضع تنجّس بالشيطان الرجس النجس؟

  • أتَلْتَذُّ مِنْهَا بِالحدِيثِ وَ قَدْ جَرَي‌***حَدِيثُ سِوَاهَا فِي‌خُرُوقِ المَسَامِعِ‌۱
  • بل إن محض نفي الخواطر غير كافٍ في تجويز الشروع بالذكر، لأنّ نفي الخواطر بمثابة تطهير المنزل من الغبار و الأشواك، و هذا القدر لا يكفي لمنزل المحبوب، بل يلزم كذلك تزيينه بالفرش و تطييبه.٢

    1. هذا البيت و الذي يليه للعاشق المحبّ قيس بن الملوّح العامريّ المشهور بمجنون ليلى. و قد ورد في ديوانه المطبوع في بمبي، ص ۱۰٩ مع بيتين آخرين بهذا الترتيب:
      تَمَنَّيْتُ مِنْ لَيْلَى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً***لِيُطْفي جَوَيً بَيْنَ الحَشَا وَ الأضَالِع‌
      فَقَالَتْ نِسَاءُ الحَيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَى‌***بِعَيْنَيْكَ لَيْلَى مُتْ بِدَاءِ المَطَامِعِ‌
      وَكَيْفَ تَرَى لَيْلَى بِعَيْنٍ تَرَى بِهَا***سِوَاهَا وَ مَا طَهَّرْتَهَا بِالمَدَامِعِ‌
      وَ تَلْتَذُّ مِنْهَا بِالحَدِيثِ وَ قَدْ جَرَى‌***حَدِيثُ سِوَاهَا في خُرُوقِ المَسَامِع‌
    2. لعلّ مراد المصنّف رحمه الله من تزيين المنزل و تطييبه بعد تطهيره بنفي الخواطر قبل حلول ضيف الذِّكر، التوجّه إلى مقام الاستاذ الخاصّ الذي سيكون مُعدّ الذكر و مُمدّه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

218
  • وَ كَيْفَ تَرَى لَيْلَى بِعَيْنٍ تَرَى بِهَا***سِوَاهَا وَ مَا طَهَّرْتَهَا بِالمَدَامِعِ‌۱
  • أجل، هناك نوع واحد من الذكر مُرخّص فيه لنفي الخواطر، و هو الذي يكون بقصد ردع الشيطان و ليس بقصد الذِّكر.٢

    1. أورد المرحوم النراقيّ في كتابه «خزائن» ص ۱٣۰، هذه الأبيات الأربعة لأمجنون ليلى، بَيدَ أنّه أورد البيتين الأوّلين بهذه الكيفيّة:
      وَ إ ذْ رُمْتُ مِنْ لَيْلَى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً***لُاطْفي بِهَا نَارَ الحَشا وَ الأضالِع‌
      تَقُولُ نِسَاءُ الحيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَى‌***مَحَاسِنَ لَيْلَى مُتْ بِدَاءِ المطَامِعِ‌
      وَ كَيْفَ تَرَى***...
    2. اعلم أنّ الخواطر التي تخطر على ذهن الإنسان عدا الخواطر الرحمانيّة و ذِكر الله تعالى هي بأجمعها خواطر شيطانيّة يجب طردها بسيف الذِكر. و الآية المباركة إن الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ أفضل دليل و شاهد على مدّعانا. و حين يقال بأنّ كلّ خاطرة ينبغي أن تُطرد بالذِّكر، فإنّما يعنون بذلك أنّ الشيطان يجب أن يُطرَد بنور الله، و أنّ المعاصي يجب دفعها بتأييد الله تعالى. إلَهِي! إن لَمْ تَبْتَدِئْنِي الرَّحْمَةُ مِنْكَ بِحُسْنِ التَّوْفِيقِ، فَمَنِ السَّالِكُ بِي إلَيْكَ في وَاضِحِ الطَّرِيقِ.ومضافاً إلى ذلك، فإنّ نفي الخواطر المطلق ممكن أساساً لمن تخطّي جميع درجات الذكر التعيّنيّ، حيث يمكنه آنذاك أن يُبقي ذهنه دونما ذكر معيّن. و من الجليّ أنّ مثل هذا الذهن سيكون ذاكراً للّه تعالى بدون لباس التعيّن، و عارياً عن جميع الملابسات و الشؤونات التقييديّة و الأسماء و الصفات المعيّنة. و بطبيعة الحال فإنّ الذكر له تقدّم رتبيّ على هذا المقام.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

219
  • كمثل مَن يريد طرد الغير من المجلس ليدعو إليه المحبوب؛ فلا تكون غايته ملاحظة المحبوب و لا الالتذاذ بوصاله، بل قصده تخويف الغير و تهديده. و كيفيّة ذلك أنّ السالك إذا اشتغل بنفي الخواطر، فهاجمه في تلك الحال خاطر تعسّر عليه طرده، فعليه أن يلجأ إلى الذكر لطرده، و هو المراد من قوله تعالى:

  • {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ‌} [الآية ٢۰۱، من السورة ۷: الأعراف‌].

  • و طريقة المحقّقين في هذا السبيل و الواصلين الواعين في تعليم المبتدئين و إرشادهم، أن يأمروهم ابتداءً بنفي الخواطر، ثمّ بممارسة الذِّكر.۱

  • أمّا نفي الخواطر، فيتمّ بأن يتوجّه السالك ابتداءً إلى أحد المحسوسات، كقطعة من الحجر أو جسم آخر سواه، و قد رُخّص‌

    1. فيه إشكال... كما تقدّم سابقاً، و لنا أدلّة اخرى ليس ها هنا مجال ذكرها.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

220
  • في التوجّه إلى الصور الرقميّة للأسماء الحُسني‌۱، بل هو مُستحسَن. بحيث يركّز العين الظاهرة على ذلك الشي‌ء، و أن لا يُغمض عينيه مهما أمكن إلّا قليلًا.٢

  • و أن يتوجّه إلى ذلك الشي‌ء بجميع قواه الظاهريّة و الباطنيّة، و يداوم على ذلك مدّة من الزمن، و الأفضل أن يداوم عليها مدّة أربعين أو أكثر.

  • أمّا الوِرد الذي يكرّره خلال هذه المدّة، فثلاثة أوراد: الاستعاذة و الاستغفار الإطلاقيّ و تعيين عدده و وقته منوط إلى الذاكر٣، و ذِكر «يا فعّال»، و هو ذِكر حصريّ بعدد مُجمَل أو

    1. المراد بالصور الرقميّة المجسّمة للأسماء الحُسنى هي أن يُنحَت للفظ «الله» أو «العالِم» أو «الرحمن» و أمثالها من الحجر أو الخشب ما يكون له جسميّة.
    2. اقتبس المصنّف رحمه الله هذه الطريقة في التوجّه إلى قطعة من الخشب أو إلى أحد المحسوسات من جامي في شرح رباعيّاته، و نسبها جامي في ص ۷۱ و ۷٢، إلى بعض أهل الطريقة من المنتسبين إلى السلطان إبراهيم الأدهَم.
    3. المقصود هو أنّ الاستعاذة ليس لها عدد خاصّ، بل عددها إطلاقيّ، لكنّ على الذاكر أن يوردها بعدد معيّن يعيّنه حسب ما تقتضيه حاله، و في وقت معيّن يراه أصلح له و أنسب.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

221
  • مفصّل؛۱ فالمفصّل بعد فريضة الغداة، و المُجمل بعد فريضة

    1. نحن مجبرون من أجل بيان عبارة المصنّف على ذكر مقدّمة، و هي أنّ لكلّ حرف من الحروف العربيّة الثمانية و العشرين عدد خاصّ حسب حساب الأبجد. و الحروف حسب ترتيب الأبجد مع أعدادها على هذا الترتيب: أبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّي كَلِمَنْ سَعْفَصْ قَرِشَتْ ثَخِّذْ ضَظغ لا:
      أ ۱، ب ٢، ج ٣، د ٤، ه ٥، و ٦، ز ۷، ح ۸، ط ٩، ي ۱۰، ك ٢۰، ل ٣۰، م ٤۰، ن ٥۰، س ٦۰، ع ۷۰، ف ۸۰، ص ٩۰، ق ۱۰۰، ر ٢۰۰، ش ٣۰۰، ت ٤۰۰، ث ٥۰۰، خ ٦۰۰، ذ ۷۰۰، ض ۸۰۰، ظ ٩۰۰، غ ۱۰۰۰، ا ۱.
      وبطبيعة الحال فإنّ الهمزة «أ» و الألف «ا» يحسبان كلاهما بعدد واحد «۱»، و تُحسب الحروف المكرّرة بالتشديد حرفاً واحداً. فكلمة علي مثلًا تحسب ۱۱۰، لأنّ حرف ع = ۷۰، و حرف ل = ٣۰، و حرف ي = ۱۰، و مجموعها ۱۱۰، و تشديد الياء لا يُحتسب. و كلمة قدّوس تحسب ۱۷۰، لأنّ ق = ۱۰۰، د = ٤، و = ٦، س = ٦۰، و الدال المكرّرة في التلفّظ لا تُحتسب، إذ الكتابة هي المناط في الحساب.
      وكلمة فعّال تحسب ۱۸۱، لأنّ ف = ۸۰، ع = ۷۰، ا = ۱، ل = ٣۰. أمّا كلمة الجلالة الله ففيها استثناء في الحساب، لأنّ اللام فيها مشدّدة، إلّا أنّهم يحسبونها حرفَين، كما أنّ ألف الله لا تُحسب، فتكون كلمة الله ٦٦، لأنّ الهمزة أ = ا، ل = ٣۰، ه = ٥. و لهذا السبب فإنّهم يكتبون كلمة الله بدون تشديد، بل يكرّرون حرف اللام، كما لا يكتبون الألف، أمّا في قواعد رسم الخطّ المتعارفة فكان ينبغي كتابتها بهذه الهيئة ألّاه، لكن باعتبار أنّ الخطّ العربيّ تابع لحساب الأبجد، لذا يجب كتابة ألّاه في هيئة الله دونما تشديد فوقها. و على هذا الأساس، فلأنّ الحروف المشدّدة 
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

222
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      بيان المصنِّف في نفي الخواطر منتزع من الطريقة النقشبنديّة
      في التلفّظ تكتب حرفاً واحداً، فإنّها تُحسب حرفاً واحداً كذلك. و وفقاً لما قيل، فإنّ ألف إلاه لمّا كانت لا تُكتب: فإنّها لا تُحتسب أيضاً، فيكون مجموعها ٣۷ لأنّها تكتب في هيئة إله.
      كما أنّهم لا يحسبون ألف رحمان، لأنّها تكتب رحمن، فيكون مجموعها ٢٩۸.
      أمّا و قد علمت هذه المقدمة، فاعلم أنّ كلّ حرف من حروف الأبجد إمّا أن يُحسب وفق الحساب المُجمل، أو الحساب المفصّل.
      فالحساب المجمل هو الذي يحسب فيه عدد الحروف حسب كتابتها، فكلمة قدّوس مثلًا لها أربعة حروف: ق = ۱۰۰، د = ٤، و = ٦، س = ٦۰. و كلمة فعّال لها أربعة حروف: ف = ۸۰، ع = ۷۰، ا = ۱، ل = ٣۰. و يا أحد يا صمد لها عشرة حروف: ي = ۱۰، ا = ۱، أ = ۱، ح = ۸، د = ٤، ي = ۱۰، ا = ۱، ص = ٩۰، م = ٤۰، د = ٤. فتكون قدّوس = ۱۷۰، و فعّال = ۱۸۱، و يا أحد يا صمد = ۱٦٩.
      أمّا المفصّل فتحسب فيه حروف الكلمة كما تُلفظ. أي أنّ كلّ حرف من الحروف يُلفظ بعدّة حروف، فيُحسب في الحساب المفصّل حسب تلك الحروف. فكلمة قدّوس مثلًا لها أربعة حروف: ق، د، و، س. و حرف ق يُلفظ قاف، فيحسب ثلاثة حروف: ق = ۱۰۰، ا = ۱، ف = ۸۰. و حرف د يُلفظ دال، فيحسب ثلاثة حروف أيضاً: د = ٤، ا = ۱، ل = ٣۰. و حرف و يُلفظ واو، فيحسب ثلاثة حروف: و = ٦، ا = ۱، و = ٦. و حرف س يلفظ سين، فيحسب ثلاثة حروف أيضاً: س = ٦۰، ي = ۱۰، ن = ٥۰. فتكون كلمة قدّوس في الحساب المفصّل ٣٤٩.
      وكلمة يا أحد يا صمد كمثال آخر لمّا كان كلّ واحد من حروفها يلفظ بهذه الكيفيّة: يا، ألف، ألف، حا، دال، يا، ألف، صا، ميم، دال؛ فإنّ كلّ واحد من هذه الحروف ينبغي حسابه في الحساب المفصّل بهذا الترتيب: ي ۱۰، ا ۱، أ ۱، ل ٣۰، ف ۸۰، أ ۱، ل ٣۰، ف ۸۰، ح ۸، ا ۱، د ٤، ا ۱، ل ٣۰، ي ۱۰، ا ۱، أ ۱، ل ٣۰، ف ۸۰، ص ٩۰، ا ۱، د ٤، م ٤۰، ي ۱۰، م ٤۰، د ٤، ا ۱، ل ٣۰؛ فيكون مجموعها في الحساب المفصّل ٦۱٩، بينما كان مجموع نفس هذه الكلمة المباركة في الحساب المُجمل ۱٦٩.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

223
  • العشاء، مع ملاحظة الخلوة.

  • و بعد المداومة على ذلك مدّة و حصول حال معيّنة للسالك، فإنّ عليه من ثمّ أن يتوجّه إلى القلب الصنوبريّ (الجسميّ الواقع إلى يسار الصدر)، و الالتفات إليه بالكامل، و عدم الغفلة عنه في أيّة حال من الأحوال، و عدم السماح لأيّ خيال غيره. فإن هاجمته خاطرة۱ و أحدثت له تشويشاً، فعليه استحضار خيال صورة الاستاذ

    1. اعلم أنّ هذه الطريقة التي ذكرها المصنّف رحمه الله لنفي الخواطر هي بعينها الطريقة النقشبنديّة في نفي الخواطر، كما أنّ أغلب العبارات التي أوردها المصنّف في هذا الباب، ابتداءً من قوله: «التوجّه إلى أحد المحسوسات» إلى قوله: «ما لم يُصبه الملل، فإن هو شاهد آثار الملل تركه» مقتبس من كتاب «شرح رباعيّات» عبد الرحمن جامي، (و هو من النقشبنديّة، و كان تابعاً لطريقة الخواجة محمّد النقشبنديّ) حتّى أنّه أورد في أغلب عباراته نفس عبارات الكتاب المذكور دونما زيادة و لا نُقصان. و قال جامي في شرح رباعيّته «وصل اعداد اگر نتواني كرد، كار مردان مرد داني كرد» (يقول: إن عجزتَ عن ربط الأعداد، فإنّ عمل الرجال إنّما يعلمه الرجل). قال الخواجة قدّس الله روحه: إذا حصل تشويش الخاطر... إلى آخر ما قال. و قد وردت هذه المطالب في ص ٦٦ و ٦۷ من «شرح رباعيّات جامي».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

224
  • العامّ، فهو مصدر الذكر و مناسبٌ لحال الذاكر، بعيداً عن بعض المخاطر۱، فذلك أتمّ للفائدة.

  • و إلّا توجّب عليه أن يتنفّس بقوّة ثلاث مرّات كمن يُخرج شيئاً من أنفه، فيُخلي نفسه من ذلك و يعود إلى توجّهه و التفاته.

  • فإن عاد الخاطر من جديد خلال توجّه السالك بالرغم من قيامه بتلك التخلية بالطريقة المذكورة، فعليه الاستغفار ثلاث مرّات ثمّ يقول ثلاثاً:

  • أستَغْفِرُ اللهَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَرِهَ اللهُ قَوْلًا وَ فِعْلًا وَ خاطِراً

    1. لعلّ المصنّف رحمه الله يقصد بأنّ السالك لو استحضر في ابتداء أمره صورة الاستاذ الخاصّ من أجل طرد الخواطر الشيطانيّة، فإنّ هذا الخيال القويّ الذي لا يطيقه السالك قد يؤدّي إلى تشويش له، ممّا قد يؤدّي إلى النظر إلى تلك الصورة في تلك الحال على نحوٍ من أنحاء الإستقلال، فيُبتلى السالك بالشرك و عبادة الصورة. أمّا استحضاره لخيال الاستاذ العامّ باعتباره مصدراً للذكر، و لمناسبته لحال الذاكر، و كونه على قدر من القوّة غير كبير، ممّا ينفي احتمال ابتلاء السالك بسببه بعبادة الصورة، فإنّه سيكون أولى و أنسب.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

225
  • وَ سَامِعاً وَ نَاظِراً وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ.

  • و يكون قلبُه موافقاً للسانه في هذا الاستغفار.

  • ثمّ ينشغل في قلبه باسم «يا فعّال» بحسب المعنى، ثمّ يضع يده على قلبه و يقول سبعاً:

  • سبحان الله الملك القدوس الخلاق الفعال‌ {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.۱

  • فإن لم يندفع بذلك، فليتأمّل في كلمة لَا مَوجُودَ إلَّا اللهُ.

  • فإن عاد إلى التشويش عليه، فليقُل بجهد (جهراً خ ص) «الله» فيمدّ الألف فيها، و يستمرّ في ذلك ما لم يُصبه الملل، فإن هو شاهد آثار الملل تركه. و ليستمرّ على ذلك أيضاً مدّة حتّى تتملّكه حالة يخرج فيها عن طوره. و وِرد هذه المرحلة هو الاستغفار و ذِكر «يا فعّال»، و كلاهما حَصريّ، فالأوّل في الأسحار بالعدد الكبير، و الثاني بعد فريضة الغداة بنفس العدد، و بعد فريضة العشاء بالعدد المفصّل. و عليه أن يكثر من قول «يا باسط» في هاتَين المرحلتين. و الأولى أن يكرّره كلّ ليلة بالعدد المفصّل.٢

    1. من إن يَشَأ يُذْهِبْكُمْ إلى آخره آية من آيات القرآن الكريم، (الآيتان ۱٦ و ۱۷، من السورة ٣٥: فاطر).
    2. اعلم أنّ علماء الأعداد يطلقون على عدد الحروف الأبجديّة من واحد إلى ألف اسم «العدد الكبير»، و يُطلقون على عدد حروف الأبجد من واحد إلى ألف بطرح تسعة تسعة، اسم «العدد الصغير». فحرف «ي» مثلًا بحساب الأبجد الصغير يقابل عدد واحد، لأنّ عدده عشرة، يُطرح منها تسعة، فيتبقّى واحد. و حرف «ن» عدده يقابل خمسة، لأنّ الخمسين إذا طُرح منها تسعة تسعة آلت إلى عدد خمسة. و بناءً على هذا، فإنّ حرف «ط» و حرف «ظ» و حرف «ص» ليس لها عدد أصلًا، لأنّه عند طرح تسعة تسعة من أعدادها لا يتبقّى منها شي‌ء.
      كما أنّهم يطلقون اسم «العدد الوسيط» على الحروف الأبجديّة بطرح «۱٢» «۱٢» منها، و اسم «العدد الأكبر» على الحروف الأبجديّة بمضاعفتها عشرة أضعاف، فحرف «ي» مثلًا يصبح في العدد الأكبر «۱۰۰».
      ولربّما كان مراد المصنّف رحمه الله من العدد الأكبر نفس الحروف الأبجديّة من واحد إلى ألف. و باعتبار أنّه ذكر القسيم بالعدد المفصّل، فإنّ العدد الأكبر سيكون نفس العدد المجمل الذي مرّ بيانه مؤخّراً.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

226
  • فإن هو داوم على هذه الطريقة، و أضحت لديه قوّة على الذِّكر و على طرد الخواطر، رُخّص له في التوسّل بمبادئ الذكر في طرد باقي الخواطر، من خلال استحضار خيال الاستاذ الخاصّ، أو استحضار الصور الخياليّة الكتبيّة القالبيّة لأسماء الله المناسبة لهذه الأحوال الثلاث، من دون الالتفات إلى المعنى.۱

    1. المراد أن يتصوّر في خياله صوراً تناسب حاله من أسماء الله في هيئتها المكتوبة، فيتوجّه إليها فقط من دون ملاحظة معانيها. و هذا هو المراد من لفظ القالبيّة الذي ذكره المصنّف رحمه الله. كما أنّ المراد من الأحوال الثلاث: الحال التي تحصل للسالك إثر «الاستغفار»، و ذِكر «يا فعّال»، و ذِكر «يا باسط».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

227
  • و بعد الترقّي الذي يحصل له عموماً، يُرخّص في التوجّه إلى نورانيّة الاستاذ الخاصّ و الذِّكر النفسيّ الخيالى لطرد الخواطر بالكامل.۱

  • و لو خطر على قلب السالك شي‌ء على سبيل الاختلاس، فإنّه سيندفع و ينطرد حين يدخل في مراتب الذِّكر و التفكّر إن شاء الله تعالى.

  • أمّا خطر هذه المرحلة، فهو السقوط في ورطة عبادة الأصنام و الكواكب و الأجسام. لأنّ التوجّه و الالتفات إلى شي‌ء ما يورث الانس به و يستتبع حبّه. فإن خطى السالك المتوجّه خارجاً، ابتُليَ بعبادة ما كان متوجّهاً إليه.

  • فإن سخّر السالكُ قلبَه و طهّره من نجاسات الخواطر، وضع قدمه في دائرة الذِّكر. و أهمّ الامور في هذه المرحلة، مراعاة الترتيب، لأنّ الطالب سيتخلّف بدونه في الطريق، بل سيبتلى بأخطار عظيمة. و مبادئ الذكر٢ هي حقيقة الذكر، لأنّ المطلوب‌

    1. المقصود بالذكر النفسيّ الخياليّ، هو أن يذكر السالك الذِّكر بلسانه مع التفاته إلى معناه في نفس الوقت.
    2. يطلق تعبير «مبادئ الشي‌ء» على ما له مضافاً إلى كونه ابتداء ذلك الشي‌ء جانب العِلّيّة و التسبيب لذلك الشي‌ء.
      ولعلّ مراد المصنّف رحمه الله من مبادئ التصوّر الخياليّ، صورة الاستاذ العامّ و العمل باسم الوليّ و مسمّاه، و هي مورثة للذكر، بل هي بعبارة اخرى حقيقة الذكر، لأنّ المراد (و هو المذكور) مختفٍ في الذكر و في اسم الوليّ و مسمّاه. و الهدف الكلّيّ من هذا العمل بالاسم و المسمّى بعد نفي الخواطر، تهيئة منزل الذهن للذِّكر، و تزيين المنزل لنزول المذكور بالذِّكر.
      وعليه، فعلى الاستاذ أن يأمر الطالب إذا أنهى مقدّمات الذِّكر أن يستمرّ على الذِّكر، و بمراعاة الترتيب في درجات الذِّكر، و على الطالب أن يراعي الترتيب عند تنفيذ أمر الاستاذ، لتلافي الوقوع في المنزلقات و المخاطر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

228
  • مختفٍ في المذكور.

  • فالغرض الكلّيّ منها هو التهيّؤ للذكر و تزيين المنزل. و على الاستاذ أن يرشد الطالب إلى الترتيب، و على الطالب أن يلتزم به لأنّه من أوجب الواجبات.

  • و هناك جماعة طريقتهم في الترتيب أن يستحضروا في البداية الشخص النورانيّ للُاستاذ الخاصّ (و هو الوليّ)، ثمّ يتعلّمون الذكر الخياليّ القالبيّ، لكنّي لا أرخّص في ذلك.۱

    1. اعلم أنّ الذِّكر في اصطلاح العُرفاء هو غير الوِرد، إذ الورد عبارة عن الذِّكر اللفظيّ الجاري على اللسان؛ أمّا الذِّكر فهو التوجّه إلى المعنى بإمراره أو من دون إمراره على القلب. و ذلك لأنّ أصل معنى الذِّكر في اللغة هو التذكّر و التذكير. و إذا ما أُطلق على بعض الأوراد اللفظيّة، فبسبب أنّ اللفظ باعث على التذكير بالمعنى؛ فهم يُطلقون لفظ المسبّب على السبب.
      وعلى هذا الأساس، فقد أطلق المصنّف رحمه الله الذكر هنا على الأوراد اللفظيّة، و حيثما جرى الحديث عن الذكر، فإنّ المقصود به هو الأوراد اللفظيّة التي تنقسم إلى عدّة أقسام.
      يقول المصنّف رحمه الله: إن أهل السلوك لا يعتنون بالذكر القالبيّ بعد طيّهم درجات معيّنة. أمّا في بداية السلوك، فإنّ الذكر القالبيّ يندرج ضمن الأذكار الضروريّة للسالك. و المراتب الأربع من الذكر التي يتوجّب على السالك أن يلتزم بها بالترتيب ابتداء من أوّلها هي بأجمعها من الأذكار القالبيّة.
      أمّا الذكر الخفي القالبيّ، فمع أنّه أقوى من جميع الأذكار الخياليّة القالبيّة، لكنّ الحاجة إليه ستنتهي بعد طيّ المراحل الثمان للذكر الخيالى القالبيّ و النفسيّ، و بعد طيّ مرحلة الذكر الخفي النفسيّ، و ستنتفي ضرورته كما يأتي لاحقاً بعد ارتقاء الدرجات السابقة.
      فإن ورد السالك الذكر الأكبر و الأعظم بعد طيّه المراحل التسعة السابقة، و بعد طيّه مرحلة الذكر الذاتيّ، فإنّ عليه القيام بها بأجمعها في هيئتها النفسيّة، مع الإعراض عن القالبيّ بشكل كامل، كما ستأتي الإشارة إليه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

229
  • لأنّ الغرض الكلّيّ من هذا الترتيب هو الصعود بالرفق، و الاحتراز عن غيرة المطلوب بسبب احتمال غفلة القلب عنه و ميله إلى المبادئ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

230
  • فينبغي إذاً الابتداء بما فيه النورانيّة الذاتيّة أخفى، و ظهور الغيوريّة فيه أقلّ. و نورانيّة الوليّ أعلى بكثير من الذِّكر الخياليّ القالبيّ.

  • فالمبدأ إذاً هو ذِكر الصور الخياليّة القالبيّة لأسماء الله تعالى.۱

  • و الاستاذ الحاذق ضروريّ في هذه المرحلة، لأنّ روحانيّة المعاني و نورانيّة المسمّى مخفيّة في هذه الأسماء، و هذان الاثنان مؤثّران تامّان في مظهريّة الروحانيّة، حيث تظهر الروحانيّة و النورانيّة في الذاكر بواسطة التوجّه و الالتفات إليهما باستمرار، و تؤثّر في أحواله.

  • و ما أكثر ما حصل بواسطة قصور المبتدئ أو تقصيره في بعض المراحل اللاحقة أن اغترّ بهما، فلم تظهر فيه آثارهما ظهوراً تامّاً، و بقي غافلًا عن سائر المظاهر، فسقط لهذا السبب في وادي الهلاك، كالإباحة و التعطيل و إليأس و الجنون و الفِرعونيّة و الإذاعة و أمثال ذلك.٢

    1. المراد بالذكر الخياليّ القالبيّ هو أن يُجري السالكُ الذِّكر على لسانه دون توجّه إلى معناه.
    2. المراد بالإباحة، الإباحة في الأكل و الشرب. و المراد
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

231
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      المدرسة التربويّة للآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ، وبيان المرحوم القاضي في أهمّيّة الاستاذ في السلوك
      بالتعطيل، نفي الأحكام كلّيّاً بالمرّة، و بعبارة اخرى: عدم التكليف.
      والمراد بالإذاعة، نشر و إشاعة الأسرار الإلهيّة بين الأجانب.
      والأخطار التي ذكرها المصنّف رحمه الله من أهمّ مخاطر السلوك، حيث إن استعمال هذه الأذكار و ما يشابهها ممنوع من دون إشراف و تربية لُاستاذ كامل و عالِم عامل واصل. قيل إن علّة انحراف حسين ابن المنصور الحلّاج في إذاعة و إشاعة المطالب الممنوعة و الأسرار الإلهيّة، هي فقدان تعلّمه على يد أُستاذ ماهر و كامل و دليل خبير واصل. فقد شرع بالسير و السلوك من تلقاء نفسه، فواجه هذه المخاطر. و لذا فقد رفضه الأعلام من أرباب السلوك و العرفان، و لم يعدّوا له وزناً في نهج المعرفة.
      وكمثل الشيخ أحمد الأحسائيّ الذي أراد الوصول بنفسه إلى مقام الحكمة و العرفان، فاعتبر نفسه من أصحاب النظر بمحض مطالعة الكتب الفلسفيّة، فصدرت منه أخطاء كثيرة، مثل الالتزام بتعطيل و انعزال الذات الإلهيّة المقدّسة من الأسماء و الصفات، و كمثل الالتزام بأصالة الوجود و الماهيّة معاً، و هي أُمور أسقطته عند أرباب العلم و النقّاد المتبصّرين ذوي الخِبرة، و ألقت بمؤلّفاته في زوايا النسيان و الإهمال.
      ولم يُشاهد أيّاً من هذه الأخطار لدى أيّ تلميذ من تلامذة المدرسة التربويّة لآية الحقّ الآخوند المولى حسين قلي الهمدانيّ رضوان الله عليه، مع أنّ كلّا منهم قد سطع في سماء الفضيلة و الكمال سطوعاً بقي نوره إلى الأزمنة التي جاءت بعده. إذ كانوا يبثّون النور و الحرارة في شعاع واسع يحيط بمحور و مركز وجودهم المثاليّ و النفسيّ. و أنّيّ يمكن للتأريخ أن يمحو المعارف السلوكيّة العلميّة و العمليّة لآيات من أمثال السيّد أحمد الكربلائيّ الطهراني و الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ و الحاجّ الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ و السيّد محمّد سعيد الحبّوبيّ، و يودعها في زوايا النسيان؟ و من هنا كان المرحوم الحاجّ الميرزا على القاضي رضوان الله عليه يقول: أهمّ ما يلزم في هذا السبيل هو الاستاذ الخبير و البصير، و الإنسان الكامل المتخطّي للهوى، و الواصل إلى المعرفة الإلهيّة، الذي طوى مضافاً إلى السير إلى الله ثلاثة أسفار اخرى، و غدا سائراً متأمّلًا في عالم الخلق بالحقّ.
      وكان المرحوم القاضي يقول: لو صرف طالب سلوك طريق الله نصف عمره في التفحّص و البحث من أجل العثور على أُستاذ يدلّه في طريقه، كان محقّاً.
      وكان يقول: مَن عثر على الاستاذ، طوى نصف الطريق.
      رحمة الله عليهم أجمعين رحمةً واسعة. اللهمّ أعلِ درجتَهم، و اجْعَلهم مع محمّد و آله الطاهرين

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

232
  • ذلك أنّ القاصر إذا توجّه إلى الأسماء المؤثّرة في الحبّ و الرجاء، ظهرت فيه آثار الانس و الرجاء و رفع التكاليف؛ و إذا توجّه إلى أسماء مظاهر الكبرياء، ظهر فيه الغلوّ و الفرعونيّة و خوف اليأس و التعطيل إلى غير ذلك.۱

    1. اعلم أنّ من الممكن على إثر التوجّه إلى الأسماء المؤثّرة في الحبّ و الرجاء أن تظهر آثار رفع التكليف. و على إثر التوجّه إلى أسماء مظاهر الكبرياء، كاسم شديد العقاب، و العظيم، و الكبير، و المنتقم و أمثالها، أن تظهر حالة الغلوّ و الفرعونيّة، أو حالة خوف اليأس من رحمة الله، فيحصل رفع التكليف، و هذه بأجمعها من الأخطار.
      ولذلك فإنّ على الاستاذ أن يسير بالسالك سيراً لا يغلب فيه أثر بعض الأسماء على بعضها الآخر. فإن داوم أحياناً على اسمٍ دواماً أوجب غلبة ذلك الاسم، فمع تعليم ذلك الاسم المعتدل سيجعله إلى حدّ الاعتدال.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

233
  • و هناك كثير لا طاقة لهم بتحمّل المظاهر، فإمّا أن لا تظهر فيهم نورانيّة تلك المظاهر، أو تظهر فتسبِّب جنونهم أو ابتلائهم بأمراض عسيرة، مثل الذِّكر الكبير و الأكبر و الأعظم.۱

  • فإذا عزم السالك على الذكر، فعليه أن يفعل ذلك بعد طيّ المراحل التي تسبقه، و التي أرشده إليها مظهر الذكر.

  • و يجب بطبيعة الحال أن يبدأ بالأذكار الصغيرة، كما يجب في مراتب الذكر الصغير أن يرقاها السالك بالترتيب.٢

  • في أقسام الذِّكر

  • وبيان ذلك، أنّ الذكر أقسام:

  • الخياليّ و النفسيّ و السرّيّ و الذاتيّ.

    1. المراد بالذكر الكبير: لَا إلَهَ إلَّا الله، و بالذكر الأكبر: الله، و بالذكر الأعظم: لَا إلَهَ إلَّا هُو، كما سيأتي.
    2. يعني بعد أن يطوي مقدّمات الذكر، و بعد أن يصل إلى محلّ بروز و ظهور أوّل مرتبة لظهور ذِكره.
      والمراد بالأذكار الصغيرة: ذكر الحيّ، و يا نور، و يا قدّوس، و محيط، و عليم و أمثاله، في مقابل الذكر «الكبير» و «الأكبر» و «الأعظم»، التي ستأتي.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

234
  • و الخيالى ينقسم إلى القالبيّ و الخفي.

  • و كلّ منها ينقسم إلى إثباتيّ و ثبتيّ.۱

  • و ينقسم كلّ منها إلى جمعيّ و بسطيّ.

  • كما ينقسم الخفي إلى القالبيّ و النفسيّ، و لهذا السبب فقد حصلت للذكر درجات. و كيفيّة صعود هذه الدرجات على هذاالنحو:٢

    1. ما يستفاد من تضاعيف الكلمات اللاحقة في هذه الرسالة أن المراد بالذكر الإثباتيّ هو أنّ الذاكر يكون في مقام ادّعاء و إثبات مضمون الذكر. و المراد بالذكر الثبتيّ هو أنّ القصد هو ثبوت نفس المعنى في الخارج و الحقيقة. و الإثبات مقدّم على الثبوت بسبب أنّه أقرب إلى بداية حال السالك، و أنّه يتضمّن الكثرة، و أنّه أبعد عن الوحدة.
      والمراد بالذكر الجمعيّ هو أن يكون توجّه الذاكر حين الذكر إلى القلب. و المراد بالذكر البسطيّ هو أن يكون توجّه الذاكر إلى الخارج، فهو يبسط الذكر إلى خارج القلب، و ذلك مستفاد من أوّل الشرائط الخمسة التي ستأتي، و الله العالِم. (هذه الحاشية في هامش الرسالة بخطّ يد العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه، و قد استفسر منه الحقير عن كونها من إنشائه، فردّ بالقول: نعم، و قد استفدتها من «الطرائق»).
      أنواع الذِّكر لدى العرفاء نقلًا عن «الخزائن» للنراقيّ
    2. قال النراقيّ رحمه الله في «الخزائن» ص ٣٣٥: فائدة: جاء في بعض رسائل العرفاء أنّ الذكر على سبعة أقسام: القالبيّ، النفسيّ، القلبيّ، السرّيّ، الروحيّ، العيونيّ، و غيب الغيوب.
      وبيان ذلك كالتالى: أنّ مداومة الذاكر على ذكر اللسان في بداية
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

235
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة) 
      الإنابة، التي لم يَسْرِ الذكر خلالها إلى باطنه، و لم يتخطّ سيره في السلوك المحسوسات الجزئيّة، يُدعى بالذكر القالبيّ.
      فإن حصل له تبديل بعض الأخلاق الذميمة إثر التكرار و المواظبة، فصار يُدرك أثر الذكر في نفسه، و يسرّ بتعقّل معنى الذكر، دُعي ذِكره حينذاك بالذكر النفسيّ.
      فإن بلغ سيره نهاية عالَم العنصر، و صار لنفسه صفاء في الجملة بسبب تبديل بعض الصفات الذميمة، و خمد غبار كدورات الصفات النفسانيّة و البشريّة، أثّرت فيه حلاوة الذِّكر و غلب عليه الشوق المذكور، فصار ذاكراً دونما تحريك لسان، و غدا يسمع أحياناً إنشاد ذكر القلب كصوت قمريّة أو شدو طائر، دُعي ذِكره آنذاك بالذكر القلبيّ.
      وسيبلغ سيره في هذه المرحلة إلى بداية الأفلاك. فإن زاد صفاء قلبه، تصرّف فيه إثر نورانيّة الذكر القلبيّ، و فرغ سرّه من الالتفات إلى الغير في الجملة، فدُعي ذكره بالذكر السرّيّ.
      وقد يحصل أحياناً إثر تحريك القلب في هذا الذكر، أن يُسمع صوت أشبه برنّة إلقاء أُسطوانة صغيرة في طاس نُحاسيّ. و يصل سير السالك في هذه المرحلة إلى أواسط عالم الأفلاك. فإذا تطهّر سرّ السالك تماماً من التشتّت بالآراء الفاسدة و العقائد المشوّشة، و لم يبقَ للقلب التفات إلى غير المذكور، عبر من نهاية مراتب الأفلاك و بلغ أوائل عالم الجبروت و صار له حُكم الروح، و يُدعى ذلك بالذكر الخفي.
      ويحصل أحياناً همهمة في الباطن بواسطة غلبة توجّه الذاكر، و يُدرَك صوت كصوت ذبابة تحطّ على خيط حريريّ. فإن انتفت واستترت مراتب الوجود المستعار كلّيّاً في جذبات نور الأنوار، و تحقّق بمقام الفناء عن نفسه و عن ما سوى الله، ارتقى سيره إلى السير في عالم اللاهوت. فلم يبقَ وجود للذكر و لا للذاكر في جنب التجلّي المذكور، فصار يذكر ذِكره لنفسه، و لم يبقَ من «الأنا» إلّا الاسم، و من الذكر و الذاكر إلّا تبادل الأوهام، دُعي غيب الغيوب.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

236
  • الأوّل: الخياليّ القالبيّ الجمعيّ الإثباتيّ؛ لأنّ القالبيّ أبعد عن محلّ الغيرة، و له ربّانيّة و نورانيّة أقلّ. و الجمعيّ أقرب إلى اجتماع الخاطر و حصول ملَكة اجتماع الحواسّ؛ و الإثبات مقدّم على الثبت.۱

  • الثاني: الخياليّ القالبيّ الجمعيّ الإثباتيّ.

  • الثالث: الخياليّ القالبيّ البسطيّ الإثباتيّ.

  • الرابع: الخياليّ القالبيّ البسطيّ الثبتيّ.

  • الخامس: الخياليّ النفسيّ الجمعيّ الإثباتيّ.

  • السادس: الخياليّ النفسيّ الجمعيّ الثبتيّ.

  • السابع: الخياليّ النفسيّ البسطيّ الإثباتيّ.

  • الثامن: الخياليّ النفسيّ البسطيّ الثبتيّ.

  • التاسع: الخفي النفسيّ. و أمّا الخفي القالبيّ فلا يُعتنى به بعد

    1. باعتبار أنّ الذكر الجمعيّ هو فقط جمع الذكر في القلب، و أنّ البسطيّ يتكفّل بسرايته من القلب إلى الخارج و بإجراء التوحيد في سائر المظاهر، لذا تقدّم الجمعيّ على البسطيّ، لأنّ غيوريّته منحصرة في القلب، و البسطيّ راجعة إلى القلب و غيره.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

237
  • ارتقاء الدرجات السابقة.

  • العاشر: السِّرِّيّ

  • و يجب أن يكون انتهاء البسط في البسطيّ في القلب، فإن كان ابتداؤه من القلب أيضاً، كان أنسب و أولى.۱

  • وهاتان المرتبتان من الذكر بمنزلة السُّلّم الذي يجب أن يِرقى درجةً فدرجة.

  • و لكن كثيراً ما يكون السالك قويّاً، قد نشر جناحَي العِلم‌

    1. أوضحنا سابقاً أقسام الوِرد، و نُذكِّر هنا بأنّ المراد بالذِّكر القالبيّ هو جريان الذِّكر على اللسان أو على القلب فقط، دون التوجّه إلى معناه.
      والمراد بالذِّكر النفسيّ هو جريان الذِّكر على اللسان أو القلب مضافاً إلى توجّه الذاكر إلى المعنى.
      والمراد بالذِّكر الخيالى هو الذِّكر اللفظيّ.
      والمراد بالذِّكر الخفي هو أن لا يورد الذاكر الذِّكر على لسانه، بل يُمرّه على قلبه فقط، فيكون قلبه هو الذاكر.
      ففي ذكر «الله» مثلًا، إذا ما أجراه في قلبه، كان الذكر الخفي، و إذا توجّه إلى لفظ «الله» في القلب دونما مروره، فهو الذكر السرّيّ.
      والمراد بالذكر الذاتيّ، الذكر الذي يكون الذاكر خلاله ملتفتاً إلى ربّ العزّة بدون تعيّن اسم خاصّ، بل مجرّداً عن جميع الآثار و اللوابس، و مجرّداً عن كلّ اسم و صفة، و عن كلّ قيد و تعيّن، كما سيبيّن المصنّف رحمه الله.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

238
  • و العمل، فلم يمكنه إلّا ارتقاء بعض هذه الدرجات. و التدريج في جميع الأحوال أسلم. و ما لم يتمّ السالك هذه المراحل، فيجب ألّا يشرع في الذكر الكبير أو الأكبر أو الأعظم، لأنّها موضع خطورة، و قد يتعرقل سير السالك بسببها. اللهمّ إلّا أن يكون في تلك الأثناء على درجة كبيرة من القوّة، و أن يُجيز له الاستاذ ذلك. بل ما أكثر بعد طيّ هذه الدرجات أن يأمر الاستاذ السالك بارتقاء بعض هذه الدرجات من جديد، ويرى أنّ صلاحه في أن يسير في الذكر من جديد.

  • الذِّكر الذاتيّ‌

  • فإن أتمّ السالك الدرجات، شرع آنذاك في الذكر الذاتيّ، و هو على هذا النحو: أن يتوجّه إلى ملاحظة حضرة العزّة، مجرّداً عن لباس الحرف و الصوت، و من دون تقييد بصفة مخصوصة عربيّة أو فارسيّة، و لا يدع ملابسات الحوادث من الجسم و العرض و الجوهر تسبِّب له إزعاجاً.۱

    1. هذه العبارة التي أوردها المصنّف رحمه الله مقتبسة من عبارة جامي في شرح رباعيّاته:
      از درون سر آشنا و از برون بيگانه وش‌***اين چنين زيبا روش كم مي بود اندر جهان‌
      يقول: «عارف لباطن السرّ، غريب عن الخارج، و مثل هذا النهج الجميل قليل في هذا العالَم». و قد أورد جامي في ص ۷٢ هذا المطلب إلى قوله «فليضع نَصب بصيرته صفةً نوريّة غير متناهية» نقلًا عن بعض العرفاء قدّس الله أسرارهم دونما زيادة و لا نقصان.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

239
  • فإن لم يستطع ذلك لقصوره، فليضع نَصب بصيرته صفةً نوريّة غير متناهية تبعاً لحديث: رَأيْتُ رَبِّي نُورَانِيّاً۱، فإن‌

    1. لم أعثر على هذه الرواية في أيّ من المجاميع الحديثيّة للشيعة و العامّة. نعم روى مسلم في صحيحه، ج ۱، كتاب الإيمان، ص ۱۱۱ بإسناده عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذرّ قال:
      سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: نُورٌ أنّيّ أرَاهُ.
      وأورد هذا الحديث بهذا اللفظ كلّ من الترمذيّ و أحمد بن حنبل في مجاميعهما، حسب نقل «المعجم المفهرس».
      كما روى مسلم في صحيحه ج ۱، كتاب الإيمان، ص ۱۱۱، بإسناده عن عبد الله بن شقيق قال:
      قُلْتُ لأبِي ذَرِّ: لَوْ رَأيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لَسَألْتُهُ. فَقَالَ: عَنْ أيّ شَيْ‌ءٍ كُنْتَ تَسْألُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أسْألُهُ هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ أبُو ذَرٍّ: قَدْ سَألْتُ، فَقَالَ: رَأيْتُ نُوراً.
      وحسب نقل «المعجم المفهرس» فقد أورد أحمد بن حنبل و الترمذيّ في مجاميعهما هذا الحديث بلفظ «رَأيْتُهُ نُوراً».
      وعلى أيّة حال فمع أنّ ضبط الحديث الأوّل قد ورد في الكتب المطبوعة على هيئة الاستفهام «نورٌ أنّيّ أراهُ»، إلّا أنّ من المحتمل أنّ هذا الضبط من ناشري الكتاب، و أنّ أصل الحديث كان «نورانِيّ أراهُ» بياء النسبة، و بجملة خبريّة. ذلك أنّ راوي الحديث في صورتَيْه شخصٌ واحد، و هو عبد الله بن شقيق، عن أبي ذرّ الغفاريّ، و من الأقرب أن نقول إن كِلا الحديثَين واحد. منتهى الأمر، أنّ رواة الحديث نقلوه بالمعنى، فنجم من ذلك اختلاف لفظ الحديث، و الله أعلم.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

240
  • لم يستطع تصوّره بصفة غير متناهية فيتصوّر ما أمكنه تصوّره، و آناً فآناً يرتفع بتصوير نفيه، و يرتفع بإحاطته و نورانيّته.

  • الذِّكر الكبير

  • و هذه المرحلة من النفاسة بمكان. فإن تخطّى المسافر هذه الدرجات، انشغل بالذِّكر الكبير، و هو ذِكر النفي و الإثبات المركّب.۱

  • ذِكر النفي‌ والإثبات (ت)

    1. اعلم أنّ ذكر النفي و الإثبات في اصطلاح العرفاء هو مركّب لَا إلَهَ إلَّا الله، و أنّهم ينعتونه بالنفي و الإثبات لتضمّنه جملتَين: الاولى جملة لَا إلَهَ مَوجُودٌ و هي نفي، و الثانية اللهُ مَوجُودٌ و هي إثبات. و هم يدعون الجملة بأسرها مركّباً، مقابل ذكر النفي و الإثبات البسيط، و هو ذكر لَا إلَهَ إلَّا هُو أو لَا هُوَ إلَّا هُو الذي يشير إلى الذات البسيطة دونما ملاحظة لاسم أو صفة.
      بَيدَ أنّ من المعلوم وفق النظر الدقيق أنّ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ لا تتضمّن جملتي نفي و إثبات، بل هو جملة نفي واحدة لا أكثر.
      وبيان ذلك أنّ المستثنى (و هو لفظ اللهُ) لو كان يُقرأ بالنصب، كانت الجملة مركّبة من النفي و الإثبات، و كان لكلّ من المستثنى و المستثنى منه مطلب خاصّ. لكنّ المستثنى في هذه الجملة «مرفوع»، حيث تُقرأ عبارة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ برفع كلمة اللهُ باعتبارها بدلًا من إلَهَ المرفوعة محلّا.
      ووفقاً لقواعد العربيّة، فإنّ أداة الاستثناء «إلّا» إذا اتّصلت بالمستثنى، و كان المستثنى منه منفيّاً، فإنّهم يوردونه على البدليّة.
      وبملاحظة بدليّة الجملة، فإنّها لن تكون أكثر من جملة نفي واحدة، و يكون المعنى: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ موَجُودٌ. أي ليس مِن إله إلّا الله. فتأمّل جيّداً.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

241
  • و ذكر النفي و الإثبات المركّب هو كلمة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، و البسيط يَا هُو و الأكبر الله.

  • و بعد طيّ المراحل السابقة۱، فإنّ الذكر القالبيّ في هذه المرحلة و المراحل التي تليها سيكون عبثاً لا فائدة منه، بل ينشغل السالك بالطريق النفسيّ. و هو ذكر في منتهى العظمة، و لأهل الطريق فيه إشارات و رموز كثيرة، و له طرق متعدّدة.

  • الذِّكر بطريق مجمع البحرين 

  • و أفضلها أن يبدأ الذاكر بطريق الجزر و المدّ، ثمّ بطريق التربّع، ثمّ بالطريق الذي يسمّيه المتأخّرون بـ «مجمع البحرَين».٢

    1. يعني ذِكر لَا إلَهَ إلَّا الله.
      بيان المرحوم النراقيّ في «الخزائن» في الذِّكر الخفي أو القلبيّ
    2. يقول المرحوم النراقيّ في «الخزائن» ص ٣٣٣: فائدة في بيان طرق الذكر الخفي «و يدعى أيضاً بالقلبيّ» في كلمة التوحيد:
      اعلم أنّ هناك عدّة أنواع من الذكر منقولة عن مشايخ الطريقة في هذا الخصوص:
      الأوّل: أنّ الذاكر يفترض دائرة يمتدّ قطرها من موضع سرّته إلى فمه، بحيث إن جانبَي الذاكر يشكّلان قوسَي تلك الدائرة. ثمّ يقصد بالكلمة الطيّبة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ على نحوٍ تبدأ معه من السرّة، و بحيث تنطبق
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

242
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة) 
      كلمة لَا إلَهَ على قوس الطرفَين المتعلّقين بنفسه، ليرجع نفي ذلك إلى قطع تعلّق الذاكر بمشتهيات نفسه و مألوفاتها. ثمّ يُنزل إلَّا الله بحيث تنطبق من ابتداء الحلق على قوس اليسار (المتعلّق بالقلب). و عليه أن يحبس نَفَسه قدر الوسع، ثمّ يزفر بقوّة بحيث يتأثّر منها قلبه. و القصد من ذلك إثبات الوحدانيّة و انحصار المطلوبيّة في الذات الأحديّة.
      والبعض يؤدّي هذا الذكر بحركة الرأس و البدن بما يقرب من هيئة دائرة محسوسة، و يكتفي البعض الآخر بتصوّر تلك الحركة. و هذه هي طريقة مشايخ النقشبنديّة. و هم يسمّون هذا الذكر بالحمايليّ و الهيكليّ.
      ونوعه الآخر أن يقوم السالك مع رعاية القوّة و حفظ النفس بوضع رأسه مقابل سرّته، ثمّ يرسم «لا» على القطر المذكور، و ينزل «إلهَ» على الجانب الأيمن بالقصد المذكور، ثمّ يرفع «إلّا» على نفس القطر، فينزل «الله» من الجانب الأيسر إلى القلب. و يدعى هذا النوع من الذكر بالخفي و بالضربات الأربع.
      ونوعه الآخر المسمّى «مجمع البحرين» يقسم فيه الجانبان (و هما السرّة و الحلق) إلى دائرتَين كاملتَين، إحداهما دائرة النفي، و هي رفع «لا» على الطريقة المذكورة و إنزال «إلهَ» على الجانب الأيمن، بحيث إذا اتّصل بالسرّة من جديد، فإنّه سيكون على هيئة دائرة تشكّل هاتان الكلمتان قوسَيها. و ليتصوّر تلك الدائرة دائرة الإمكان، بحيث إن أيّ ممكن لا يقع خارجها، من أجل أن يقع الجميع داخل دائرة النفي. و الاخرى دائرة الإثبات، و هي رفع «إلّا» حسب الطريقة المذكورة و إنزال كلمة «اللهُ» على الجانب الأيسر على الهيئة المذكورة، بحيث يكونان قوسَي هذه الدائرة التي هي دائرة الوجوب في التصوّر. و قال الشيخ نجم الدين الرازيّ في «مرصاد العباد»: لقد علّم جبرئيل هذا الذكر لسيّد المرسلين، و كان صلّى الله عليه و آله و سلّم يشتغل به بعد فريضة الغداة، ثمّ علّمه صلّى الله عليه و آله و سلّم لصاحب سرّه و وليّ عهده عليّ المرتضى، و انتقل منه إلى أولاده الأطهار.
      هذا، و قد فسّر أرباب العرفان الآية الشريفة: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ (الآية ٢۰٥، من السورة ۷: الأعراف) بهذا الذكر، و اعتبروا أنّ عطف دُونَ الْجَهْرِ سوى عطف اذْكُر رَّبَّكَ، و أنّ كلمة دُونَ بمعنى القريب، و فسّروه بالذكر الإخفاتيّ الذي هو وسط بين الجهر و الإخفات انتهى.
      أقول: أراد ذلك المرحوم بالنوع الأوّل طريقة الجزر و المدّ، و أراد بالنوع الثاني (الضربات الأربع) المربّع الذي ذكره المصنّف رحمه الله. و من هنا فإنّ مراد المصنّف من التربّع و الجزر و المدّ و مجمع البحرين واضح بما ذكره النراقيّ رحمه الله.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

243
  • هكذا ذكروا، أمّا أنا فأرجّح تقديم مجمع البحرين على التربّع. أمّا حَبس النفَس، و التوجّه إلى القلب الصنوبريّ، و تصوّر خروج جميع الحروف من اللسان و القلب‌۱، و خلوّ المعدة، و زيادة العدد بالرفق، و الابتداء بالبسملة، و الاستقبال و التربّع في الجلوس و إغماض العينَين، فهي أمور ضروريّة، إلّا في غير حال الخلوة. و من الامور اللازمة: الجلوس في مجمع البحرَين مربّعاً

    1. لأنّ الكلام في الذكر و ليس في الوِرد، لذا يجب ألّا يجري الذكر على اللسان، بل يجب أن يتصوّر خروجه على اللسان و القلب.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

244
  • مُجَنّحاً، و الخلوة مع غير المحارم، و مع النساء و العوامّ و أرباب العقول الناقصة. و من المستحسن إلصاق اللسان بسقف الفم، و جعل وقت الذكر في الليالى و الأسحار و عقيب الفرائض.

  • و يجب لحاظ هويّة الذات في جميع الأحوال، و أن يقول بعد إرادة قطع الذكر بلسانه و قلبه مخاطباً الله تعالى: أنْتَ مَقْصَدِي وَ رِضاكَ مَطْلَبِي وَ بِرَحْمَتِكَ اسْتِغَاثَتِي.

  • الذِّكران الاكبر والاعظم‌

  • ثمّ ينشغل بعد ذلك بالذكر الأكبر۱، فيبدأ بالخفي ثمّ بالسرّيّ. و الأولى أن يبدأ بحرف النداء و ينتهي بدونه. و يستحسن مدّ الله. ثمّ يشرع بالذكر الأعظم‌٢ و هو النفي و الإثبات البسيط، و هو آخر درجات الذكر.

  • و يجب ألّا يخلو في جميع هذه الدرجات من الذكر الذاتيّ، وَلَكِنَّ اللهَ المَذْكُورَ غَرِيمٌ لَا يُقْضَي دَيْنُهُ، رَزَقَنَا اللهُ الوُصُولَ إلى المَقْصَدِ.

  • قال أحد الأعلام:

  • إذَا أرَادَ اللهُ أنْ يُوَلِّيَ عَبْداً فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الذِّكْرِ، ثُمَّ فَتَحَ عَلَيْهِ بابَ القُرْبِ، ثُمَّ أجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيّ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ رَفَعَ‌

    1. يعني الله.
    2. مراده لا إلهَ إلّا هو، أو لا هو إلّا هو.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

245
  • الحُجُبَ، ثُمَّ أدْخَلَهُ دَارَ الفَرْدَانِيَّةِ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْهُ الكِبْرِيَاءَ، ثُمَّ صَارَ العَبْدُ فَانِياً وَ بَرَاءً مِنْ دَعَاوَى نَفْسِهِ.۱

  • في شرائط الذِّكر

  • أمّا و قد علمتَ مراتب الذكر، فاعلَم أنّ خمسة أشياء تلزم السالك في أوقات الذكر و أزمنته:

  • الاوّل: أن يتصوّر في حال الذكر خيال اسم الاستاذ الخاصّ، الذي هو وليّ الولاية الكبرى بطريق الذكر.٢

  • و ليجعل مقامه في (الذكر) الجمعيّ في القلب أدنى من مقام الذكر، أو في أسافل الصدر أدنى من محاذاة الذكر، استشفاعاً

    1. هذه العبارة لأبي سعيد أحمد بن عيسى الخرّاز الذي أدرك مصاحبة ذي النون المصريّ و سَرِيّ السَّقَطيّ و بِشر الحافي.ويقول الشعرانيّ في ج ۱، ص ٩٢ من «الطبقات»:وكان يقول (أي الخرّاز): إذَا أرَادَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ أنْ يُوَالِيَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ، فَتَحَ لَهُ بَابَ ذِكْرِهِ، فَإذَا اسْتَلَذَّ بِالذِّكْرِ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ القُرْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُ إلى مَجْلِسِ الانْسِ، ثُمَّ أجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيّ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُ الحُجُبَ فَأدْخَلَهُ دَارَ الفَرْدَانِيَّةِ، وَ كَشَفَ لَهُ عَنِ الجَلَالِ وَ العَظَمَةِ. فَإذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الجَلَالِ وَ العَظَمَةِ بَقِيَ بِلَا هُوَ، فَحِينَئِذٍ صَارَ العَبْدُ فَانِياً، فَوَقَعَ في حِفْظِ اللهِ وَ بَرِئَ مِنْ دَعَاوَي نَفْسِهِ.
    2. يعني بطريق الذكر: المرآتيّ و الآليّ، لا الاستقلالى، لأنّ اسم الاستاذ الخاصّ هو مرآة الحقّ، لذا فإنّ ذلك الاسم أو اسم الاستاذ العامّ، و بصورة عامّة: كلّ نوع من أنواع تصوّر الوليّ يجب أن يكون مرآتيّاً.
      إذَا تَجَلَّى حَبِيبِي في حَبِيبِي***فَبِعَيْنِهِ أنْظُرْ إلَيْهِ لَا بِعَيْنِي‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

246
  • للذاكر.۱

  • فإن هو جعل اسم الرسول في المقام الأوّل، و الخليفة في المقام الثاني، كان أفضل و أولى.٢

  • و ليجعل مقام الاستاذ في (الذكر) البسطيّ على يمين الصدر بين الثدي الأيمن و العضد، فإن هو تخطّي الذكر القالبيّ‌٣، فإنّه‌

    1. يعني أن عليه جعل مقام الاستاذ الخاصّ أوطأ من مقام الذكر الذي يجريه في أيّ موضع من قلبه. أو أن يجعل الذكر في القلب، و يجعل مقام الاستاذ الخاصّ في أسفل الصدر، بحيث ينخفض مستواه عن مستوى محاذاة الذكر.
    2. يعني أمّا الاسم العنوانيّ للرسول (و هو نفس الرسول)، و الاسم العنوانيّ للخليفة (و هو الخليفة)، أو الاسم الحقيقيّ للرسول (أي محمّد) والاسم الحقيقيّ للخليفة (أي عليّ).
      والمراد من اسم الاستاذ الخاصّ و الوليّ أيضاً إمّا الاسم العنوانيّ، مثل صاحب الأمر و صاحب الزمان و الوليّ، و إمّا الاسم الحقيقيّ، و هو محمّد.
    3. ذلك أنّ الذكر القالبيّ هو أحد نوعَي الذكر الخيالي. و لذلك فلا يمكنه في حال الذكر الخياليّ الجمعيّ أو البسطيّ الذي عُيّن فيه مقامٌ خاص لتصوّر الاستاذ الخاصّ في القلب أو في أسفل الصدر أدنى من مقام الذكر أن يجعل الشبح النورانيّ للرسول و الوليّ في المقام المذكور.
      ولذلك، و بقرينة قوله «فإن هو تخطّى الذكر القالبيّ، فإنّه سيداوم على جعل الشبح النورانيّ للرسول و الوليّ في المقام المذكور» يتّضح أنّ مراده من الذكر الخياليّ الجمعيّ أو البسطيّ الذي يجب فيه تصوّر اسم الاستاذ الخاصّ، إنّما هو خصوص نوعه القالبيّ.
      أمّا في نوعه النفسيّ، و كذلك في الذكر الخفي و السرّيّ و الذاتيّ، فإنّ عليه أن يداوم حال الذكر و غيره على جعل الشبح النورانيّ للرسول و الوليّ في ذلك المقام.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

247
  • سيداوم على جعل الشبح النورانيّ للرسول و الوليّ في المقام المذكور، (متواضعاً للمذكور مُستشفعاً للذاكر).۱

  • و لو تصوّر في هذه الحالات الاستاذ العامّ أيضاً خارج الجسم على جهة اليسار بفاصلة قليلة، مواجهاً إلى صورة الذكر ملتفتاً إليها متواضعاً مستشفعاً للذاكر، كان أولى و أنسب.٢

    1. يعني أنّ عليه أن يتصوّر الشبح النورانيّ للرسول و الوليّ في المقام المذكور في حال من التواضع مقابل المذكور (و هو الله)، و استشفاع للذاكر السالك.
    2. يعني أن يتصوّر السالكُ الاستاذ العامّ خارج الجسم في الجهة اليسرى، متّجهاً بوجهه إلى صورة الذكر، و في حال تواضع تجاه صورة الذكر، بخلاف تصوّر الاستاذ الخاصّ الذي يكون في حال تواضع تجاه المذكور.
      ومن هنا فإنّ تصوّر الاستاذ الخاصّ و الاستاذ العامّ يختلف من جهتَين: الاولى: أنّ مقام الاستاذ الخاصّ في الداخل و ليس في الخارج. الثانية: بلحاظ حال تواضعهما.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

248
  • و قد ذُكر هذان التصويران‌۱ بصورة مُجملة.٢

  • فإن قصدوا التوجّه إلى هذين التصويرَين حال الذكر على جهة اللزوم أو الأولويّة، بحيث يقترن ذلك بالذكر على الدوام، تنافى مع جمع الخاطر و حفظه عن التفرقة، و مع السعي في التوجّه إلى الواحد، بل يمنع الذاكر عن الذكر البتّة. و لهذا السبب فقد كان أُستاذي ينهاني عن هذا الطريق أشدّ المنع، و يقول: على الذاكر أن يتصوّر هذا التصوير في أوائل الليل و النهار و في بداية الذكر و نهايته فقط. أجل، لو اشتغل قبل الشروع في طيّ درجات الذكر ببعض درجات الذكر٣ و اشتغل في اسم الولي و مسمّاه، كان ذلك حسناً،

    1. يعني تصوير الاستاذ الخاصّ و الاستاذ العامّ.
    2. بل مراد القوم هو أن يتصوّر الاستاذ العامّ و الاستاذ الخاصّ حال الذكر بالكيفيّة المذكورة. و هذا المعنى في منتهى الصعوبة، و خاصّةً في بداية الأمر، بلحاظ التوجّه إلى الواحد و السعي في عدم التفرقة. إلّا أنّ هذه المنافاة ستزول تدريجيّاً و تسهل على إثر ازدياد قوّة الذاكر، فيمكنه من ثمّ أن يتصوّر في وقت واحد الاستاذ و يشتغل بالذكر على نحو جيّد. و هذا النحو له الأثر البالغ على تقدّم السالك الذي يزيد على تصوّر الاستاذ في أوائل الليل و النهار، و في بداية الاشتغال بالذكر و الفراغ منه كما قاله المصنّف رحمه الله.
    3. المراد ببعض درجات الذكر، أن يتصوّر الذاكرُ الاستاذ على نحو الذكر الخياليّ النفسيّ، أو على نحو الذكر الخفي القالبيّ، أو الخفي النفسيّ؛ بمعنى أنّ من المستحسن أن يتصوّر الاستاذ الخاصّ أو العامّ مدّة، قبل أن يرد في درجات الذكر، مع توجّهه إلى الاسم و المسمّى، و مع إعراضه عن المعنى و الحقيقة. أو إمرار ذلك في القلب مع أو بدون التوجّه إلى المعنى، و هو ممّا يوجب سريان المحبّة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

249
  • و سبب سريان المحبّة.

  • و ستتّضح في هذه الأحوال حالة هي حقيقة الرسول و الخليفة۱، و يمكن اختبار الاستاذ العامّ بمثلها، بيدَ أنّ بيانها

    1. يعني أنّ حقيقة الرسول و الخليفة ستطلع على الذاكر بالنورانيّة على إثر التوجّه لهما و بسبب كثرة الممارسة في هذا المعنى، و هذا هوالمطلب الذي ذكره المصنّف سابقاً من أنّ الاستاذ الخاصّ سيعرّف نفسه في نهاية المطاف.
      أمّا إذا بلغ الذاكر إلى مقام الطهارة، و أضحى ضميره مجلوّاً عن الأكدار، و صارت له مرتبة عظيمة في الذكر، فإنّ بإمكانه من خلال التوجّه التامّ إلى حقيقة شخص ما أن يعرف ما إذا كان أُستاذاً عامّاً يمكنه إعانة غيره أم لا، و لذا ستتّضح درجة و ميزان حقيقة ذلك الشخص من خلال التوجّه إليها.
      وأمّا إذا لم يبلغ الذاكر مرتبة الطهارة و لم يصبح ذا مرتبة عظيمة في الذكر، فإنّه إذا نظر بنظره الملوّث و توجّه إليه، فإنّ صورة ذلك الشخص ستنطبع على إثر التكرار و الممارسة في ذهن الذاكر، فيخال للذاكر بسبب انطباع صورة ذلك الشخص و محبّته أنّه من الكاملين، مع أنّه قد يكون غير كامل، بل قد يكون من الأبالسة و قطّاع طريق الله.
      أو أن ينظر هذا الذاكر مثلًا ذو الذهن الملوّث إلى أحد أولياء الله الحقيقيّين و يتوجّه إليه، فيلفيه في قلبه الملوّث ملوّثاً، و يحسبه مبطلًا.
      ويستنتج ممّا ذُكر أنّ من غير الممكن إدراك نورانيّة الأشخاص أو اختبار الاستاذ العامّ عن طريق التوجّه إلى الحقيقة و المعنى من قِبل الأشخاص غير الكاملين.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

250
  • متعذّر، إذ ما أكثر أن سبّبت حرف غير صاحب المرتبة العظيمة في الذكر عن الجادّة، و أظهرت الحقّ في هيئة الباطل و العكس صحيح.

  • الثاني: الذكر الكلاميّ أو الوِرد

  • و أهل الفنّ لا يطلقون عليه اسم الذكر، بل يسمّونه الوِرد، و هم لا يعيرون للذكر القالبيّ أهمّيّة، بل حيثما ذكروا الوِرد، قصدوا به نوعه النفسيّ.

  • و الأوراد في أوقات الذكر كثيرة، و يكفي الطالب ما سأذكره بطريقي. و أفضل أوقاته عند السَّحَر، و بعد الفريضتَين: الصبح و العشاء، و في جميع أوقات الذكر. و ليكرّر وِرد كلمة النفي و الإثبات المركّب و البسيط و اسم «محيط» و «يا نور» و «يا قدّوس» بعد الفريضتَين، ألف مرّة لكلّ وِرد. و كذلك وِرد «محمّد رسول الله» و «يا عليّ» مع حرف النداء، و يجوز ذكره في الليالى بدون حرف النداء۱. و وِرد ألف مرّة «التوحيد» في الليالى نفيس؛

    1. أي أنّ هذين الوِردين جديران بالذكر، إلّا أنّ المصنّف رحمه الله لم يعيّن لهما عدداً. و من الممكن أن يؤدّي وِرد «محمّد رسول الله» بالعدد الكبير، و هو «٢٤٥»، و «يا عليّ» مع حرف النداء و بدونه، أي بعدد «۱٢۱» و «۱۱۰». و المراد بالتوحيد: سورة التوحيد المباركة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

251
  • و لا يغفلنّ عن المداومة على هذا الوِرد:

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَهُمَّ أنِّي أسْأَلُكَ بِاسْمِكَ المَكْنُونِ، المَخْزُونِ، السَّلَامِ، المُنْزِلِ، المُقَدَّسِ، الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ، يَا دَهْرُ، يَا دَيْهُورُ، يَا دَيْهَارُ۱، يَا أزَلُ، يَا هُو، يَا هُو، يَا هُو، يَا لَا إلَهَ إلَّا هُو، يَا مَنْ لَا هُوَ إلَّا هُو، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ إلّا هُو، يا مَنْ لا يَعْلَمُ أيْنَ هُوَ إلَّا هُو، يَا كَائِنُ يَا كَيْنَانُ، يَا رُوحُ، يَا كَائِناً قَبْلَ كُلِّ كَوْنٍ، يَا كَائِناً بَعْدَ كُلِّ كَوْنٍ، يَا مُكَوِّناً لِكُلِّ كَوْنٍ، آهياً شراهيّاً٢، يا مُجَلِّيَ عَظَائِمِ الامُورِ، سُبْحَانَكَ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، سُبْحَانَكَ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [الآية

    1. و الدَّيْهَارُ و الدَّيْهُورُ صيغة مبالغة من الدهر، و المراد بالدهر: الله تعالى، و قد ورد في الحديث: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ.
    2. قال سماحة الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه: كان المرحوم آية الحقّ الحاجّ الميرزا على القاضي رضوان الله عليه يقول: يجب أن تُلفظ هاتان الكلمتان على هذا النحو،: أهْيَأً شَرْأهْيَأً، و قال العلّامة الطباطبائيّ: هما كلمتان عبريّتان، و معناهما بالعربيّة: يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

252
  • ۱٢٩، من السورة ٩: التوبة]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الآية ۱۱، من السورة ٤٢: الشوري‌].

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ بِعَدَدِ كُلِّ شَيْ‌ءٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آ لِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

  • الثالث: المناجاة: و أفضلها العلويّة و السجّاديّة.

  • الرابع: التفكّر

  • و هو من الشرائط العظيمة. و على السالك في أوان الخلوّ من الذكر أن لا يُخلي نفسه منه.

  • و عليه في ابتداء الأمر أن يتفكّر في آثار القدرة الإلهيّة، و رأفة الله، و عظمته، و في خاتمة أمره، و أعماله، و فيما بعد الموت و أمثال ذلك ممّا ورد في كتب الأخلاق، و ليتفكّر في دقائق أحكام الرسول، و رأفته، و رحمته، و خلفائه، و سعيهم في إصلاح معاد الرعيّة و أُمور معاشهم.

  • ثمّ يجعل تفكّره في أواسط الأمر في ارتباطه بالخالق، و في ملاحظة أمر مخلوقيّته و عبوديّته و ذلّه أمام خالقه، و في انتسابه إلى الرسول و خلفائه، و في ارتباط كلّ مخلوق بالخالق الواحد، و انتهاء جميع النسب إلى منسوب إليه واحد، ليبعث ذلك على حصول الشفقة و العطف على جميع الأشياء. و يمكن للبصير العالِم تعيين مجاري فكره في جميع الأحوال، و المقصود هو عدم الخلوّ من‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

253
  • التفكّر، وَ أفْضَلُ العِبَادَةِ إدْمَانُ الفِكْرِ في اللهِ وَ في قُدْرَتِهِ،

  • و قد أشار أبو عبدالله عليه‌السلام إلى ذلك.۱

  • الخامس: المداومة على جميع الأذكار و الأوراد

  • من أجل أن تظهر فعليّتها بأسرها. و أثرها في أقلّ من الأربعين ضعيف جدّاً، إلّا الأوراد التي وردت بقدر معيّن.٢

    1. روى الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٥٥، بإسناده المتّصل عن الصادق عليه‌السلام قال: أفْضَلُ العِبَادَةِ إدْمَانُ التَّفَكُّرِ في اللهِ وَ في قُدْرَتِهِ.
      ورواه المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱٥ (كتاب الأخلاق)، ص ۱٩٤، عن «الكافي».
      كما روي في «الكافي» ص ٥٤ من الجزء المذكور (و رواه عنه المجلسيّ في نفس الجزء من «البحار» ص ۱٩٣) أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: نَبِّهْ بِالتَّفَكُّرِ قَلْبَكَ، وَ جَافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ، وَ اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ.
      وروى المجلسيّ هذه الرواية في ص ۱٩٥ (من نفس الجزء) عن «جامع الأخبار» بلفظ «جَافِ عَنِ النَّوْمِ» بدلًا من «جَافِ عَنِ اللَّيْلِ». و روي في «الكافي» ص ٥٥؛ و «البحار» ص ۱٩٤ (عن «الكافي») عن معمّر بن خلّاد قَالَ: سَمِعْتُ أبَا الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ:
      لَيْسَ العِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَ الصَّوْمِ، إنَّمَا العِبَادَةُ التَّفَكُّرُ في أمْرِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
    2. مثل إنَّآ أنزَلْنَاهُ التي ورد قراءتها ألف مرّة في كلّ ليلة من ليالى شهر رمضان، و كمثل سورة الدخان التي ورد قراءتها مائة مرّة في كلّ ليلة من ليالى شهر رمضان، و أمثال ذلك.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

254
  • و ما أكثر ما يبقي مشتغلًا في مرتبة الأربعينيّات، و هو ما يُصطلح عليه بـ «الإقامة».

  • و من الامور المؤكّدة في جميع الأحوال: تقليل اللذائذ و الأطعمة الدسمة، سيّما اللحوم و الأغذية اللذيذة.

  • و هذا هو طريق السلوك و آدابه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

256
  • الفَصل الثّالث: آثَارُ السُّلُوكِ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

258
  • و أمّا آثار السلوك و فيوضاته، فممّا يراه السالك عياناً، و من جملة آثاره حصول الأنوار في القلب. و تبدأ في هيئة مصباح، ثمّ تستحيل شعلة، فكوكباً، فقمراً، فشمساً، ثمّ تأفل و تتجرّد عن اللون و الشكل. و كثيراً ما تكون في هيئة برق يومض، و تكون أحياناً في هيئة مشكاة و قنديل، و هذان الاثنان يحصلان أكثر ما يحصلان على إثر الفعل‌۱ و المعرفة و سوابق الذكر. و يشير إلى المرتبة الاولى قول الباقر عليه‌السلام الذي رواه ثقة الإسلام في «الكافي»، حيث قال عليه‌السلام في بيان أنواع القلوب:

  • وَ قَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ، فَقُلْتُ: وَ مَا الازْهَرُ؟ فَقَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرِاجِ ...

  • إلى أن قال‌: وَ أمَّا القَلْبُ الازْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ.٢

    1. لا يظهر المشكاة و القنديل غالباً مع وجود سوابق الذكر، بل يظهران حال الفعل، كالصلاة و الوِرد.
      ذكر الروايات الواردة في بيان أنواع القلوب
    2. روى الكلينيّ هذه الرواية في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٢٢، بإسناده المتّصل عن سعد، عن أبي جعفر عليه‌السلام بهذه الكيفيّة، قال عليه‌السلام:
      إن القُلُوبَ أرْبَعَةٌ: قَلْبٌ فِيهِ نِفَاقٌ وَ إيمَانٌ، وَ قَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَ قَلْبٌ
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

259
  • ...۱

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      مَطْبُوعٌ، وَ قَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ، فَقُلْتُ: وَ مَا الأزهَرُ؟ قَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرَاجِ. فَأمَّا المَطْبُوعُ فَقَلْبُ المُنَافِقِ، وَ أمَّا الأزهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ، إن أعْطَاهُ شَكَرَ، وَ إن ابْتَلَاهُ صَبَرَ. وَ أمَّا المَنْكُوسُ فَقَلْبُ المُشْرِكِ، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ: «أفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أهْدَى أمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». فَأمَّا القَلْبُ الذي فِيهِ إيمَانٌ وَ نِفَاقٌ، فَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا بِالطَّائِفِ، فَإنْ أدْرَكَ أحَدَهُمْ أجَلُهُ عَلَى نِفَاقِهِ هَلَكَ، وَ إن أدْرَكَهُ عَلَى إيمَانِهِ نَجَا.
      وروى المجلسيّ نفس هذه الرواية في «بحار الأنوار» ج ۱٥، (الجزء الثاني) ص ٣۷، عن «معاني الأخبار» بلفظ «أزهر أنور» بدلًا من «أزهر أجرد».
      كما روى الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٢٣؛ و رواها المجلسيّ في «البحار» ص ٣۷ من نفس الجزء، نقلًا عن «معاني الأخبار»، عن أبي حمزة الثماليّ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال:
      القُلُوبُ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ مَنْكُوسٌ لَا يَعِي شَيْئاً مِنَ الخَيْرِ، وَ هُوَ قَلْبُ الكَافِرِ؛ وَ قَلْبٌ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَالخَيْرُ وَ الشَّرُّ فِيهِ يَعْتَلِجَانِ، فَأيُّهُمَا كَانَتْ مِنْهُ غَلَبَ عَلَيْهِ؛ وَ قَلْبٌ مَفْتُوحٌ فِيهِ مَصَابِيحُ تَزْهَرُ، وَ لَا يُطْفَأُ نُورُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَ هُوَ قَلْبُ المُؤْمِنِ.
      وروى الكلينيّ في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٤٢٢، عن الصادق عليه السلام قال: تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يُخْطِئُ بِلَامٍ وَ لَا وَاوٍ خَطِيباً مِصْقَعاً، وَ لَقَلْبُهُ أشَدُّ ظُلْمَةً مِنَ اللَّيْلِ المُظْلِمِ؛ وَ تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يَسْتَطِيعُ يُعَبِّرُ عَمَّا في قَلْبِهِ بِلِسَانِهِ، وَ قَلْبُهُ يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ المِصْبَاحُ.
      وأورد المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ۱٥، (الجزء الثاني) ص ٣٥، عن «أسرار الصلاة»، قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: قَلْبُ المُؤْمِنِ أجْرَدُ وَ فِيهِ سِرَاجٌ يَزْهَرُ... .

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

260
  • و أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بعض هذه المراتب في قوله:

  • قَدْ أحْيَى قَلْبَهُ وَ أمَاتَ نَفْسَهُ، حتّى دَقَّ جَلِيلُهُ، وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ، وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ البَرْقِ.۱

  • و أحد بطون الآية الكريمة {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ‌} شرح هذه المراحل، إذ إن الشخص الإنسانيّ يؤول في هذه الأحوال إلى مشكاة فيها «زجاجة»، و هي القلب؛ و في الزجاجة «مصباح»، و هو النور المذكور؛ يصبح القلب بعد انتشاره كأنّه «كوكب درّيّ»؛ يُوقَدُ نور الشجرة المباركة ذات النفع الكثير، و هي نورانيّة و روحانيّة ذِكر الله، لم يحصل من شرق و لا غرب، بل ظهر من طريق الباطن الذي لا شرق فيه و لا غرب‌، {وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ}٢،

    1. وردت خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام في «شرح النهج» للمولى فتح الله، ص ٣٥٦؛ و في «شرح النهج» لمحمّد عبده، ص ٣٤٩:
      قَدْ أحْيَى عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ، حتّى دَقَّ جَلِيلُهُ، وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ، وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ البَرْقِ، فَأبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ، وَ تَدافَعَتْهُ الأبْوَابُ إلى بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الإقَامَةِ، وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأنِينَةِ بَدَنِهِ في قَرَارِ الأمْنِ وَ الرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ.
    2. الآية ٣٥، من السورة ٢٤: النور.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

261
  • يعني: إذا لم يغفل عن ذِكر الله، إذ الغفلة توجب مقارنة الشيطان بنصّ: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}‌۱، و الشيطان مخلوق من نار؛ نورٌ على نورٍ، يزداد نورها حتّى تغدو بأجمعها نوراً.٢

  • وَ هَذِهِ الزُّجَاجَةُ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.٣

    1. الآية ٣٦، من السورة ٤٣: الزخرف.
    2. فسّر المصنّف رحمه الله هذه الآية على هذا النحو: أنّها شجرة مباركة كثيرة النفع، لا شرقيّة و لا غربيّة، دائمة الفيض إذا لم تمسسها (أي لم تمسّ الشجرة) نار الغفلة، و لم يقترن بها الشيطان المخلوق من النار.
      وسيكون هذا التفسير تامّاً لو انعدمت «الواو». بل المراد أنّها ذلك الزيت يُنير دائماً وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ النَّارُ (التي تُفيض النور)، إذ إنّه يتشعشع بذاته و من تلقاء نفسه.
    3. باعتبار أنّ المصنّف رحمه الله قد فرض المشكاة شخص الإنسان، و فرض الزجاجة قلبه، فإنّ شخص الإنسان النورانيّ القلب لمّا كان في مقام الخلوة و الذِّكر، فإنّنا إذا اعتبرنا «هذه الزجاجة» المبتدأ المحذوف الذي خبره «في بيوت»، فيكون المراد من البيوت بدن الإنسان. لأنّ ذلك القلب النورانيّ الذي هو عالَم المثال في بيت البدن. و إذا اعتبرنا «هذه المشكاة» هي المبتدأ المحذوف، فيكون المراد بالبيوت: مقام الخلوة و الذكر. يعني أنّ الإنسان النورانيّ القلب في بيت الخلوة و الذكر. لكنّنا إذا اعتبرنا أنّ المبتدأ المحذوف هو «هذه الزجاجة»، فإنّ من الممكن أن يكون المراد من البيوت، مقام الخلوة. يعني أنّ ذلك القلب النورانيّ الذي يتشعشع النور من باطنه، هو مقام الذِّكر و الخلوة. و هذا المعنى أنسب من أن يُراد بالبيوت في هذا الفرض بيت البدن، كما لا يخفى على المتأمِّل.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

262
  • و يقول تعالى في بيان مَثَل نوره: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.}۱

  • و من جملة الآثار، ظهور صوت في القلب. و هو نشيد يشبه في بداية الأمر صدح طائر أو شدو قمريّة. ثمّ يكون أشبه برنّة إلقاء اسطوانة صغيرة في طاس نحاسيّ، ثمّ تكون همهمة في الباطن تُدرك أشبه بصوت ذبابة تحطّ على خيط من الحرير.

  • ثمّ يخمد لسان القلب، و يوكل القلبُ الذِّكرَ إلى الروح.

    1. يعني أنّه يقول في بيان تحقّق هذا النور و مصداقه: إن في تلك البيوت رجالًا يُسبّحون للّه كلّ صباحٍ و مساء.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

264
  • الفَصل الرَّابع: طَرِيقُ ذِكرِ المُؤلِّفِ رَحمَةُ اللهِ عَلَيهِ‌

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

266
  • و أختم هذه التُّحفة بطريق ذكرى على نحو الإجمال:

  • اعلم أنّيّ لمّا أردتُ السلوك عازماً على المجاهدة الكبرى و العظمى، و قصدت السير في وادي الذِّكر، فقد شمّرت عن همّتي في التوبة ممّا كنت أفعل، و هجرت العادات و التقاليد، ثمّ انهمكت في أربعينيّات الأذكار، و جعلتُ في الأربعين أربعيناً.۱

  • و قد علّمني أُستاذي في الذكر الخياليّ اسم «الحيّ» الذي تعلّمه من الآية الكريمة: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.}٢

  • لأنّ الله جعله مقدّمة الإخلاص و منهجاً لحمده.٣

    1. المراد بـ «الأربعين في الأربعين» أربعين أربعيناً أي: أنّيّ كنت أشتغل في أربعين ذكر خاصّ، فاضاعفه أربعين مرّة. أو أنّيّ كنت اضاعف أصل الذكر الذي كنت أقوم به في الأربعين، فأجعله أربعين ضِعفاً. و أهل السلوك يشتغلون بـ «الأربعين في الأربعين» بكِلا الطريقَين المشار إليهما.
    2. الآية ٦٥، من السورة ٤۰: غافر.
    3. التعبير بتقديم «الحيّ» للإخلاص غير تامّ، بل تحقّق و ثبوت الحياة الانحصاريّة للّه هي التي عُدّت سبباً للإخلاص. و لمّا كانت الحياة منحصرة في الله، فإنّ مظاهر الجمال في جميع الموجودات منحصرة فيه أيضاً. و لذلك تكون جميع مراتب الحمد و الشكر مختصّة بذاته المقدّسة. و من هنا فإنّ انحصار الحياة في الله، الذي عُبّر عنه باسم «الحيّ» هو منهج انحصار الحمد في ذاته المقدّسة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

267
  • و هو - مع وجود كلّ هذه النورانيّة و الروحانيّة يلائم جميع الأمزجة، و يبعث القلوب الميّتة، بعيداً عن سائر الأخطار المختلفة. و أكثر الروايات الواردة في الاسم الأعظم لا تخلو من هذا الاسم المكرّم، كما ورد في كتاب «مُهج الدعوات».۱ فالظاهر

    1. أورد ابن طاووس في «مهج الدعوات»، من ص ٤٣٢ إلى ٤٣٩، روايات في تعيين الاسم الأعظم، يستفاد منها أنّ اسم «الحيّ» هو الاسم الأعظم. كقوله في ص ٤٣٢ أنّه رُوي عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنّ الاسم الأعظم هو «يا حيّ و يا قيّوم». و قال في ص ٤٣٤ بأنّ البعض روى عن النبيّ أنّ الاسم الأعظم الذي يستجاب به الدعاء في ثلاث سور: في سورة البقرة: «آية الكرسيّ»: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، و في سورة آل عمران: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، و في سورة طه: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ. و قال في ص ٤٣٩ بأنّه روي عن سكّين بن عمّار، أنّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام كان يقرأ الاسم الأعظم في سجوده تحت الميزاب، و هو:
      يَا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يَا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يَا نُورُ يَا قُدُّوسُ، يَا حَيّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيّ لَا يَمُوتُ، يَا حَيّ لَا يَمُوتُ، يَا حَيّ لَا يَموتُ، يَا حَيّ حِينَ لَا حَيّ، يَا حَيّ حِينَ لَا حَيّ، يَا حَيّ حِينَ لَا حَيّ، يَا حَيّ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ (ثلاث مرّات) أسْألُكَ بِلَا إلَهَ إلَّا أنْتَ (ثلاث مرّات)، أسْألُكَ يَا لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ (ثلاث مرّات)، وَ أسْألُكَ بِاسْمِكَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ العَزِيزِ المُبِينِ (ثلاث مرّات).

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

268
  • أنّه هو الاسم الأعظم.

  • و هو مع ذلك مكوّن من «حاء» و «ياء»؛ فالحرف الأوّل يبعث على الانس و المواصلة، و الثاني على الصبر و الاحتمال و الفتح و النصرة.

  • و وقوع الأوّل في اسم من الأسماء الحسنى يدفع تأثير ناريّة الشيطان، لأنّ ذلك الحرف دافع للحرارة. و اشتماله على الثاني سبب للهداية و كشف الأسرار، كما هو مبيّن في فنّ الأعداد.۱

  • و زيادة الألف و اللام من أجل تأثّر القلب في التأسّي بخصلة الأنبياء و الاتّصاف بصفة الأصفياء، و التأنّيّ في الثبوت في العمل؛ و ذلك الحرف هو ذات القلم الرسّام للأسرار.٢

    1. علم الأعداد علم مستقلّ، و قد ذكر قدر منه في علم «الجفر»، و هو غير علم «الحروف».
    2. يعني أنّ خصوص حرف «اللام» هو ذات القلم؛ لأنّ لفظ القلم مكوّن من ثلاثة حروف: «القاف»، «اللام» و «الميم»، و أحد حروفه الذاتيّة حرف «اللام». و باعتبار أنّ القلم رسّام الأسرار، لأنّ كلّ مطلب إمّا يرسم بالقلم، فإنّ حرف «ل» و هو من ذاتيّات القلم سيكون موجباً لرسم الأسرار في القلب، و باعثاً على كشف الحقائق للذاكر.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

269
  • فقد قضيتُ مدّة في الأربعينيّات المتعدّدة بطرق متعددّة.

  • ثمّ انشغلتُ بسائر الأذكار، و اغتسلتُ في كلّ أربعين غُسل التوبة، و تركتُ حظّاً و لذّة من حظوظ النفس، و ودّعتها الوداع الأخير.

  • و توجّهتُ في كلّ يوم إلى سيّد من ساداتي، فزرتُه بالزيارة التي اخترتُها بنفسي. و شرعتُ في ذلك يوم السبت، لحديث شاهدته في هذا الباب.۱ و كنت أُصلّي ركعتَين أهديهما لروحه‌

    1. نقل السيّد ابن طاووس رضوان الله عليه هذا الحديث في «جمال الاسبوع» ص ٢٥، عن ابن بابويه، و هو عن صَقْر بن أبي دُلَف، عن الإمام على النقيّ عليه‌السلام. و هو حديث مفصّل، و إجماله أنّ «صقر» يقول إنّه سأل الإمام عن حديث مرويّ عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لَا تُعَادُوا الايَّامَ فَتُعَادِيكُمْ، لم يفهم معناه. فقال الإمام: نعم، الأيّام نحن ما قامت السماوات و الأرض؛ فالسبت اسم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و الأحد اسم أمير المؤمنين عليه‌السلام، و الاثنين الحسن و الحسين عليهما السلام، و الثلاثاء عليّ بْنُ الحسين و محمّد بن عليّ و جعفر بن محمّد عليهم السلام، و الأربعاء موسى بن جعفر و عليّ بْنُ موسى و محمّد بن عليّ و عليّ بْنُ محمّد و أنا، و الخميس ابني الحسن بن عليّ عليه‌السلام، و الجمعة ابن ابني، و إليه تجتمع عصابة الحقّ... ثمّ قال: ودِّع و اخرُجْ فلا آمنُ عليك.
      ثمّ نقل المرحوم السيّد بعد هذا الحديث حديثاً عن «القطب الراونديّ»، روى فيه الأدعية التي يجب قراءتها للائمّة في أيّام الاسبوع. فراجع كتاب «جمال الاسبوع».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

270
  • المقدّسة و أتوسّل به.

  • و تعلّقت في كلّ جمعة بأذيال وليّ العصر متوسّلًا به، و قرأت الزيارة و الأدعية التي وردت في التوسّل به في ذلك اليوم.

  • و كنت أُصلّي على النبيّ و آله كلّ جمعة ألف مرّة كما هو المأثور.

  • و كانت أورادي في هذه الأيّام على نوعَين:

  • الأوّل: ما كان علىَّ القيام به كلّ يوم، و هو على النحو التالى: الحَقّ، في الأسحار مائة مرتبة بعد صلاة ركعتَين، مع رفع الأيدي إلى السماء؛ يَا حَيّ يَا قَيُّومُ يَا مَنْ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ ما بين السُّنّة و الفرض أربعين مرّة۱؛ يَا أحَدُ يَا صَمَدُ بعد الفرائض الخمسة بالعدد المجمل ۱٦٩ مرّة أو المفصّل ٦۱٩ مرّة؛ «يا عليّ» بقصد الوليّ في الأسحار و بعد فريضة الصبح‌٢ بالعدد المجمل ۱٢۱ مرّة؛ «يا قريب» كلّ يوم بالعدد المجمل ٣٢٣ مرّة؛ آية «المُلك» بعد فريضة الصبح ٢٢ مرّة٣؛ «الله» في الأسحار بالعدد الكبير مع‌

    1. المراد ما بين صلاة الفريضة و النافلة.
    2. المراد أن يقول «عليّ»، لكنّ مقصوده من عليّ وليّ الولاية الكبرى.
    3. المراد بآية المُلك: الآيتان ٢٦ و ٢۷، من السورة ٣: آل عمران:
      قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَ تَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَ تُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَ تُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ، تُولِجُ الَّيْلَ... إلى بِغَيْرِ حِسَابٍ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

271
  • الإمكان؛ «يا نور يا قدّوس» في الأسحار بالعدد المجمل ٤٤۸ مرّة.

  • الثاني: ما أتممته خلال هذه المدّة، ابتداء من ذكر {رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}‌۱ أربعيناً بالعدد المجمل ٢٥۰۰ مرّة يا {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}‌٢ أربعيناً بالعدد المجمل ٢٣۸٦ مرّة؛ «يا هادي» أربعيناً في كلّ يوم ٥۰۰۰ مرّة؛ و في اليوم الأخير «يَا هَادِيَ المُضِلِّينَ» مائة مرّة؛ «يَا فَتَّاحُ» ثمانية عشرة يوماً، في كلّ يوم ۸۷٩٩ مرّة؛ «يا بَصير» أربعيناً، في كلّ يوم بعد كلّ فريضة ۱٣٣۰ مرّة؛ و الغُسل كلّ يوم مع الإمكان؛ آية الكرسي بعد كلّ فريضة؛ النفي و الإثبات المركّب و البسيط و «الله» و «هو» و سورة التوحيد و الأعلى، كلّ واحد منها

    1. هذا الذكر منتزع من آية قرآنيّة، و هي دعاء النبيّ أيّوب في قوله: أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (الآية ۸٣، من السورة ٢۱: الأنبياء)، و لم يرد في الآية لفظة «رَبِّ».
    2. هذا الذكر منتزع من دعاء يونس الوارد في القرآن الكريم (الآية ۸۷، من السورة ٢۱: الأنبياء): لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، و لم يرد في الآية حرف النداء «يا».

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

272
  • ألف مرّة، و أربعينَين اثنين في الأسحار۱؛ يَا سُبُّوحُ يَا قُدُّوسُ ستّة أربعينات، في كلّ يوم ٢٦۷۰ مرّة (الشرائط: الغُسل كلّ يوم مع الإمكان و الصَّمْت و الجوع)؛ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ لمدّة مائة و ثمانية أيّام، في كلّ يوم ۱٢۰۰ مرّة (الشرط: ترك الطعام الحيوانيّ، بل تركه قبل ذلك بأربعين يوماً)؛ يَا دَيَّانُ لمدّة سبعين يوماً، في كلّ يوم ٥۰۰۰ مرّة؛ يَا كَبِيرُ ثلاثة أربعينات، في كلّ يوم و ليلة ۱٤٦٦ مرّة؛ و في الأربعين الأخيرة ترك الطعام الحيوانيّ، و تكراره كلّ يوم ما أمكن‌٢؛ و لو أمكن تكراره ۷۰۰۰۰ مرّة كان أفضل؛ يَا نُورُ

    1. المراد أنّني قمت بكلّ واحد من هذه الأذكار ألف مرّة لمدّة أربعينين اثنين في الأسحار. يعني أنّني أتممت ذكر لَا إلَهَ إلَّا اللهُ ألف مرّة في مدّة أربعينين اثنين، ثمّ قمت بذكر لَا إلَهَ إلَّا هُو بنفس هذه الكيفيّة، ثمّ ذكر «الله»، ثمّ ذكر «هو»، ثمّ سورة «التوحيد»، ثمّ سورة «الأعلي» ألف مرّة و لمدّة أربعين لكلّ واحد منها بصورة منفصلة. و قرأت في تمام هذه الأربعينات بعد الفريضة آية الكرسي. فيكون حرف العطف «الواو» في قول المصنّف رحمه الله «و أربعينَين اثنين» عطفاً على كلمة «ألف»، يعني أنّني فعلت كلّ واحد منها ألف مرّة، و فعلته في أربعينَين اثنين، لأنّ جمعها كلّها في الأسحار غير ممكن، بل إن قراءة سورة «الأعلي» لوحدها ألف مرّة في الأسحار غير ممكن.
    2. المراد أنّني في الأربعين الأخيرة كنت أُكرِّر الذكر ما أمكنني، مضافاً إلى ۱٤٦٦ في كلّ يوم و ليلة، و لو كُرّر ۷۰۰۰۰ مرّة كان أفضل.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

273
  • بالعدد الكبير۱، و في الليالى أيضاً بهذا العدد من دون سورة، ابتداء من يوم السبت؛ يَا حَيّ يَا قَيُّومُ لمدّة مائة و ثمانين يوماً من السحر إلى الطلوع، أو من الطلوع إلى الاستواء، في كلّ يوم ٣۷۱٦ مرّة؛ يَا مُهَيْمِنُ لمدّة أربعين واحدة أو أربعينَين اثنين، في كلّ يوم ۱۰٤۰ مرّة على غُسل و قبل التكلّم؛ الله أربعيناً واحدة، في كلّ يوم بقدر الإمكان‌٢ مع السعة (بشرط الصوم و ترك النوم إلّا مع عدم الاختيار) و يجب إظهار الهمزة و إسكان الهاء٣ ثمّ يداوم بعد ذلك على هذا

    1. يعني ٢٥٦ مرّة.
    2. المراد أنّ ذكر «الله» يجاء به بلحاظ العدد بقدر الإمكان مع سعة الوقت و ليس مع ضيق الوقت و عدم المجال.
    3. لأنّ بعض الفِرَق يلفظون لفظ الجلالة «الله» متّصلًا بـ «هُوْ» بطريقة المدّ و الجزر، فيرفعون رؤوسهم بقول الله، و يجعلون هاء الله هاء هُو، ثمّ يخفضون رؤوسهم عند تلفّظها، فيكونوا قد تلفّظوا مع كلمتي «الله» كلمة «هو» واحدة، و يكونون قد قالوا اللهو و هو خطأ واضح، لذا صرّح المصنّف رحمه الله بأنّ هاء لفظ الجلالة يجب أن تُسكّن.
      بَيدَ أنّ هذا التسكين ينبغي فعله حينما يُقرأ لفظ الجلالة مع كلمة هُو المباركة، أمّا إذا قرأت كلمة «الله» لوحدها، فإنّ هذا الخطأ لن يقع، بل إنّنا إذا قرأنا «الهاء» مضمومة، فإن همزة الله لمّا كانت همزة وصل تسقط عند درج الكلام، فإنّ ماهيّة كلمة الله ستبدو متغيّرة عند التكرار و الوصل، إذ سيسمع آنذاك لفظ آخر. خلافاً لما إذا كنا نسكّن الهاء، إذ سنجبر آنذاك على المجي‌ء بهمزة القطع، فيُسمع عندئذٍ لفظ الجلالة دونما تغيير.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

274
  • الذكر.

  • و لقد أتممت العمل على هذه الكيفيّة. أمّا جمع بعض الأوراد مع بعضها الآخر في أيّام الأربعين فجائز، و أمّا مضاعفة المدّة في أحدها فمرخّص فيها. و يلزم في جميع هذه الأوراد الأربعينيّة الخلوة و التعطير و اجتناب البُقول ذات الرائحة الكريهة، و الافتتاح و الاختتام بهذه الصلوات:

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى المُصْطَفى مُحَمَّدٍ وَ المرتضى عليّ وَ البَتُولِ فَاطِمَةَ وَ السِّبْطَيْنِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ وَ صَلِّ عَلَى زَيْنِ العِبَادِ عليّ وَ الباقِرِ مُحَمَّدٍ وَ الصَّادِقِ جَعْفَرٍ وَ الكَاظِمِ مُوسَى وَ الرِّضَا عليّ وَ التَّقِيّ مُحَمَّدٍ وَ النَّقِيّ على وَ الزَّكِيّ العَسْكَرِيّ الحَسَنِ وَ صَلِّ عَلَى المَهْدِيّ الهَادِي صَاحِبِ العَصْرِ وَ الزَّمَانِ وَ خَلِيفَةِ الرَّحْمَنِ وَ قَاطِعِ البُرْهَانِ وَ سَيِّدِ الإنْسِ وَ الجَانِ صَلَواتُ اللهِ وَ سَلَامُهُ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.

  • و اعلم أنّ أصل عمل المراتب هي الأذكار، و أنّ الأوراد من أعوانها و متمّماتها، فيحظر ترك بعض منها.

  • و قد اشتغلتُ في هذه الأيّام عند الفراغ بالمناجاة العلويّة

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

275
  • و السجّاديّة، و تبرّكتُ بالأسماء المباركة للآل الأطهار و الصحابة الكبار للرسول المختار و الأركان الأربعة للملائكة الكرام و الأنبياء العظام و مشايخ الشريعة و أساتذة الطريقة، و سلّمت و ترحّمت عليهم مفصّلًا في أكثر الأيّام، و سألتُ من بواطنهم الهمّة.

  • إدامة الرسالة من قبل الناسخ‌

  • يقول الناسخ‌۱: لقد أنهيت مرّة الأربعينات بالطريق المذكور بقدر الإمكان، و شرعت في المرّة الثانية، و جعلتُ أوراد الأربعينات كلمات إدريس عليه‌السلام‌٢ حسب الترتيب و الشرائط

    1. لم يُعرّف الناسخ نفسه، و قد كتب على حواشي بعض النسخ: هو والد السيّد مصطفى الخوانساريّ. و على أيّة حال، فإنّ هذه المطالب التي سيذكرها الناسخ ليست جزءاً من الرسالة، و لا علاقة بها مطلقاً، و الأفضل حذفها لخلوّ الفائدة منها.
      المراد بكلمات النبيّ إدريس عليه السلام
    2. المراد بكلمات إدريس عليه‌السلام أربعون اسماً من أسماء الله تعالى دعاه إدريس بها، و قد فرّع بعد كلّ اسم منها جملة مثل:
      يَا دَيَّانَ العِبَادِ فَكُلٌّ يَا قُومُ خَاضِعاً لِرَهْبَتِهِ، وَ يَا خَالِقَ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَ الأرَضِينَ فَكُلٌّ إلَيْهِ مَعَادُهُ.
      أجل، فقد وردت هذه الأسماء و الكلمات في هيئة دعاء يستحبّ قراءته في أسحار شهر رمضان.
      وقد ذكرها الشيخ الطوسيّ في «مصباح المتهجّد»، و ذكرها السيّد ابن طاووس في «الإقبال» ص ۸۰ و ۸۱.
      وأوردها المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٢۰، ص ٢٥۱، و أوّلها:
      سُبْحَانَكَ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ يَا رَبَّ كُلِّ شَيْ‌ءٍ وَ وَارِثَهُ، يَا إلَهَ الآلِهَةِ الرَّفِيعُ جَلَالُهُ، يَا اللهُ المَحْمُودُ في كُلِّ أَفْعَالِهِ.
      وقال المرحوم السيّد بأنّه وجد في سند هذا الدعاء أنّ هذه هي الكلمات التي دعا بها إدريس ربّه، فرفعه الله إليه. و هذا الدعاء أفضل الأدعية انتهى.
      أقول: و أصحاب الدعوة يقولون لهذا الدعاء بخواصّ و عجائب و غرائب، و لهم في قراءته اهتمام شديد و سعي بليغ، و هم يواظبون على قراءتها لدفع الأمراض و شرّ الظالم، و حُسن عاقبة الدارَين، و غفران الذنوب، و نورانيّة القلب، و كثير من الامور الاخرى.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

276
  • و مقدار الأوقات الواردة في رسالة السيّد ابن طاووس رحمه الله‌۱ التي ألّفها في هذا الخصوص.

  • و اشتغلت في مبادئ الأربعينيّات أوّلًا بذكر {وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ‌} [الآية ۱٦٣، من السورة ٢: البقرة] ۱۰۸۰ مرّة في مجلس واحد، و فعلت ذلك عدّة مرّات.

  • و قرأتُ في مدّة ثلاثة أربعينات سورة «و العاديات» المباركة ٤۰۰۰۰ مرّة.

  • و قرأتُ في هذه الأربعينات الثلاث عقب كلّ فريضة سورة

    1. يعني أنّ السيّد ابن طاووس قد كتب في هذا الباب رسالة عربيّة ثمّ ترجمها إلى الفارسيّة. و ذكر في ترجمتها كيفيّة الأربعينات وفقاً لأربعين اسماً من أسماء الله تعالى، حسب الشرائط و الترتيب و سائر الآداب و الخصوصيّات المذكورة.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

277
  • «الفاتحة» عشر مرّات. و جميع هذه الأذكار الثلاثة تنفع لدفع العوائق الدنيويّة.

  • و كنت أتوسّل أحياناً بروحانيّة عطارد، و استعين بها للهمّة.۱

  • ذلك أنّ أصحاب الأسرار يستعينون بروحانيّته. فإذا نظر إليه‌

    1. التوجّه إلى أيّ موجود من الموجودات إذا حصل بعنوان الاستقلال، فهو ممنوع؛ و إذا حصل بعنوان المظهريّة و المرآتيّة للّه تعالى، و بعنوان اسم من أسماء الله، فلا إشكال فيه عقلًا، سواء في ذلك كان التوجّه إلى عطارد أو إلى سائر الكواكب أو النفوس القدسيّة و الأنبياء و الأئمّة الطاهرين.
      إذَا تجَلَّى حَبِيبِي في حَبِيبِي‌***فَبِعَيْنِهِ أنْظُرْ إلَيْهِ لَا بِعَيْنِي‌
      وفي هذه الحال فإنّ الاستعانة حتّى بقطعة من التبن غلط و مُحرّم. أمّا الاستعانة بالله من نافذة هذا الاسم و الصفة، فممدوح على الدوام.وقد رُغّب في الشرع المقدّس في الاستعانة بأرواح أولياء الله و الأنبياء و الأئمّة و العلماء بالله بعنوان الآليّة و المظهريّة للّه تعالى. أمّا الاستعانة بالأرواح و الكواكب و الجانّ و سائر الجمادات، كالحجر و الخشب و لو بعنوان مظهريّة الله فأمر لم يرد الترغيب فيه، بل هو غير منسجم مع روح الدين. و لعلّ السرّ في ذلك، هو أنّ الشرع المقدّس قد أراد لأفراد البشر أن يتعاملوا في مسيرتهم التكامليّة مع موجودات حيّة و روحانيّة، و ليس مع موجودات لا حياة و لا روح لها في الظاهر، و لا مع التي لها أرواح ضعيفة و تافهة، مثل الجانّ. و ثانياً أنّ التوجّه إلى الكوكب و الحجر قد يجرّهم تدريجيّاً إلى الوثنيّة، و لذلك فقد سدّ الشرع هذا الطريق من أساسه.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

278
  • المرء بعد غروب الشمس أو قبل طلوعها حينما يمكن رؤيته فليسلّم عليه، و ليخطُ تجاهه و ليقل:

  • عَطَارُدُ أيْمُ اللهِ طَالَ تَرَقُّبِيّ‌***صَبَاحاً مَسَاءً كَي أرَاكَ فَأَغْنَمَا
  • ثمّ يخطو خطوة اخرى ويقول:

  • وَهَا أنَا فَامْنَحْنِي قُوَى أُدْرِكُ المُنَى‌***بِهَا وَ العُلُومَ الغَامِضَاتِ تَكَرُّمَا
  • ثمّ يخطو اخرى ويقول:

  • وَهَا أَنَا جُدْ لي الخَيْرَ وَالسَّعْدَ كُلَّهُ‌***بِأَمْرِ مَلِيكٍ خَالِقِ الأرْضِ وَ السَّمَا
  • و تكرار هذا العمل في المبادئ أمر مطلوب.۱

    1. يقول المرحوم الحاجّ المولى أحمد النراقيّ رحمه الله في «الخزائن» ص ۱۱٤: فائدة: من المشهور أنّ من يرى عطارد فينشد هذه الأشعار المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام، فإنّه سيحصل على خير كثير و قدرة:
      عَطَارُدُ أيْمُ اللهِ طَالَ تَرَقّبِي‌***صَباحاً مَسَاءً كَي أرَاكَ فَأغْنَمَا
      فَهَا أَنَا فَامْنَحْنِي قُوَى أَبْلُغَ المُنَى‌***وَ دَرْكَ العُلُومِ الغَامِضَاتِ تَكَرُّمَا
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

279
  • ...۱ و للأمكنة الشريفة و المساجد الكريمة و المشاهد المشرّفة في القابليّة للفيوضات الدخل الكبير، و أكثر أصحاب الحال قد فُتح لهم باب الفيض في أحد هذه الأماكن المكرّمة.

  • و يقول السيّد الجليل: «لقد انتابتني حال تفوق الوصف في «سُرَّ مَنْ رَأَى» من فيض ذلك المكان». و كان أكثر استقراره في أيوان يحاذي السرداب المقدّس. و قد قام السيّد بنفسه ببناء معبد

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      وَ إن تَكْفِنِي المَحْذُورَ وَ الشَّرَّ كُلَّهُ‌***بِأمْرِ مَلِيكٍ خَالِقِ الأرْضِ وَ السَّمَا
      ويقول العالِم المحترم حسن زاده الآمليّ في التعليقة: لم ترد هذه الأبيات في «الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام»؛ و يقول الميبديّ في شرح الديوان ضمن بيان أشعار:
      خَوَّفَنِي مُنَجِّمٌ أخُو خَبلْ‌***تَرَاجُعَ المرِّيخِ في بَيْتِ الحَمَلْ‌
      يتّضح من هذه القطعة أنّ نسبة هذه الأبيات
      ...***عطارد أيم الله طال ترقّبي،
      إلى آخره، إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام خلاف الواقع. و قد قال المولى المظفّر في «التنبيهات»: و نسب البعض هذه الأشعار إلى المولى عليه‌السلام. و قد ورد هذان البيتان في النسخ باختلاف كبير. انتهى.وقد اتّضح من البيانات التي ذكرناها في الهامش السابق أنّ من المسلّم أن هذه الأشعار ليست لأمير المؤمنين عليه‌السلام، و أنّ التوجّه إلى الكواكب و التوسّل بها مخالف لضرورة الإسلام.(تابع الهامش في الصفحة التالية...)

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

280
  • ...۱ عظيم في ذلك الموضع يُعرف بمسجد السيّد ابن طاووس، بَيدَ أنّ آثاره انطمست، فلم يبق له في زمننا هذا من أثر.

  • تمّت هذه الرسالة الشريفة المنسوبة إلى بحر العلوم، بِيَدِ العبد محمّد حسين الطباطبائيّ ليلة الأحد، العاشر من شوّال، سنة ألف و ثلاثمائة و أربع و خمسين للهجرة.

  • تمّ استنساخ هذه النسخة، على نسخة الاستاذ الوحيد: سيّدنا الأعظم الحاجّ السيّد محمد حسين الطباطبائيّ أدام الله ظلّه‌

    1. (... تتمة الهامش من الصفحة السابقة)
      للَّهِ الحمدُ و له الشُّكر أن مَنَّ الربّ المنّان بتوفيق كتابة شرح مختصر لهذه الرسالة النفيسة، يبيّن مشكلاتها، و يعيّن مصادر أحاديثها و أخبارها و أشعارها.
      وَ مَا تَوْفِيقي إلّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ انِيبُ.
      سألك و نتضرّع إلى ساحة عظمتك و جلالك: بحقّ السابقين في ساحة العشق، و المتلهّفين في وادي المحبّة، و الوالهين في عالم التحيّر، و المجذوبين في مقام جذبة حريم قدسك، أن تتقبّل هذه الخدمة اليسيرة من هذا الحقير الفقير إلى عالَم الأخلاق و الولاية و عرفان ذاتك السبّوح القدّوس، و أن تجعلها مورد لطف و رحمة محور عالَم القضاء و التقدير، و قطب دائرة النزول و الصعود: الإمام الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا له الفداء، وَ أنْ تُدْخِلَنَا في كُلِّ خَيْرٍ أدْخَلْتَ فِيهِ مُحَمَّداً وَ آلَ مُحَمَّدٍ، وَ أنْ تُخْرِجَنَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ أخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَ آلَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ خَيْرَ مَا سَألَكَ بِهِ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ وَ نَعُوذُ بِكَ ممّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ المُخْلَصُونَ. تَمَّ بالخير و السعادة في عيد الفطر لسنة ألف و ثلاثمائة و خمس و ثمانين هجريّة، بِيَدِ الراجي عفو ربِّه الغنيّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني عفى الله عن جرائمه. وَ آخِرُ دَعْوَانَا أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

رسالة‌ السير والسلوك‌ المنسوبة‌ إلى بحر العلوم

281
  • الوارف، بِيَدِ هذا الحقير الفقير محمّد الحسين الحسيني الطهراني في يوم الأربعين: العشرين من شهر صفر الخير، سنة ألف و ثلاثمائة و سبع و سبعين للهجرة، و الحمد للّه ربّ العالمين.