المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم السير الذاتية والتراجم
التوضيح
دِيبَاجَة
هو العليم الحكيم
أيّها النور المطلق! و أيّها الروح المجرَّد! أيّها الحدّاد!
لقد كنتَ دوماً بحراً طافحاً فيّاضاً متدفّقاً على طلّاب الحقيقة و نُشّاد سبل السلام بحراً خضمّاً زاخراً لا تُدرك ضفافه. أمواجه التوحيد و المعرفة، و نتاج مياهه الوفيرة الحجّة و البرهان و السطوع و الإيقان و الكشف و الشهود، و البصيرة و الإتقان. فلقد كُنت كالبحر هادراً بأمواج العلم، ساطعاً بنور البصيرة، متجليّاً بشعاع العرفان، و هكذا كنت كاشف الحقيقة لطلّاب الصراط الحقّ و سالكي سبيل الفَناء و الاندكاك في الذات الأحديّة المقدّسة.
و لقد كان الحلم و الصبر، و الاستقامة و التحمّل، و الجَلَد و التمكّن في الشدائد و المصائب، بمثابة ضفاف هذا الشطّ الواسع و البحر العريض و سواحله التي تحفظ مياه هذا البحر الموّاج المتلاطم الطافح بالعلم، و تحرسه من فيضان كثرة العلم و طغيانه و انفلات زمامه، لئلّا يُحمَّل أهل العالم كلاماً أو قولًا فوق طاقتهم فتثقل كواهلهم.
أمّا كنوز هذا البحر العميق و نفائسه، و لؤلؤه و مرجانه، و جواهره الثمينة الغائرة في أعماقه؛ فهي التقوى و الطهارة و النور و العرفان، التي تقدّم كأرقى و أغلى هديّة ملكوتيّة إلى عالم الإنسانيّة.
فالسلامُ عليكَ يوم وُلدتَ و يوم مُتَّ و يوم تُبعثُ حيّاً.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾. (الآيات ٣٥ إلى ٣۸، من السورة ٢٤: النور)
هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَعْوَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى؛ اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ في أرْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ. آهِ آهِ! شَوقاً إلى رُؤْيَتِهِمْ. (أمير المؤمنين عليه السلام، الحكمة ۱٤۷ من «نهج البلاغة»)
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. (الآية ٢٣، من السورة ٣٣: الأحزاب)
ذكرى ارتحال إنسان العين و عين الإنسان، الذي لم يأت الزمان بمثله، العارف الكامل المتحقّق بحقيقة العبوديّة، نقطة الوحدة بين قوسَي
الأحديّة و الواحديّة: الحاجّ السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد، في الثاني عشر من شهر رمضان المبارك لسنة ۱٤۰٤ هجريّة قمريّة.
تأريخ الكتابة: الأوّل من محرّم الحرام
لسنة ۱٤۰٥ هجريّة قمريّة۱
بسم الله الرحمن الرحيم
و لم يزلْ سيّدي بالحمدِ مَعروفا | *** | و لم يزلْ سيّدي بالجودِ مَوصوفا |
و كانَ إذْ ليس نورٌ يُستضاءُ به | *** | و لا ظلامٌ على الآفاقِ مَعكوفا |
فربُّنا بخلافِ الخلقِ كلّهم | *** | و كلّ ما كانَ في الأوهامِ مَوصوفا |
و مَن يرِدْهُ على التشبيهِ ممتثلًا | *** | يَرجع أخا حَصَرٍ بالعجزِ مَكتوفا |
و في المعارجِ يلقي مَوْجُ قدرته | *** | موجاً يعارضُ طرفَ الروحِ مَكفوفا |
فاتركْ أخا جَدَلٍ في الدين مُنْعَمِقاً | *** | قد باشرَ الشكَّ فيه الرأيُ مَأووفا |
و اصحبْ أخا ثقةٍ حُبَّاً لسيِّدهِ | *** | و بالكرامات من مولاه مَحفوفا |
أمسى دليلُ الهدى في الأرض مُبتسماً | *** | و في السماءِ جميلُ الحال مَعروفا۱ |
المُقَدِّمَةُ
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلا بالله العليّ العظيم
حسبنا الله و نعم الوكيل، نعم المولى و نعم النصير
أحد تلامذة المدرسة الأخلاقيّة و العرفانيّة لفريد العصر و حسنة الدهر، العارف الذي لا بديل له و الموحِّد الذي لا نظير له، سيّد العلماء العاملين، و أفضل الفقهاء و المجتهدين: المرحوم آية الله العظمى الحاجّ السيّد الميرزا علي القاضي قدّس الله تربته المنيفة، هو المرحوم السيّد الجليل و العارف النبيل، و الموحِّد بحقيقة معنى الكلمة: الحاجّ السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد أنار الله شآبيب قبره الشريف من أنواره الباهرة القدسيّة حيث يُعدّ من أقدم تلامذة تلك الآية الإلهيّة، و أكثرهم قدرة و تمكّناً في سلوك درب التجرّد، و في طَيّ عالم الملك و الملكوت و تخطّي نشآت التعيّن، و الورود في عالم الجبروت و اللاهوت، و الاندكاك المحض و الفَناء الصِّرف في الذات الأحديّة للحقّ جلَّ و علا.
الحدّاد و ما أدراك ما الحدّاد؟!
و كان الحقير قبل التشرّف بالذهاب إلى النجف الأشرف و لثم العتبة المقدّسة لمولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه صلوات الله و ملائكته
أجمعين، و في الأوقات التي كنت أستفيد فيها من المحضر الفيّاض للُاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه في بلدة قم الطيّبة، كنت أسمعه أحياناً يذكر اسم السيّد هاشم بأنّه من تلامذة المرحوم القاضي القدماء؛ و الذين يملؤُهم العشق و الهيجان، و يلفّهم التحرّر و التمرّد على القيود، و كان ساكناً في كربلاء؛ و كان المرحوم القاضي قد اعتاد الحلول عليه في بيته كلّما تشرّف بالذهاب إلى كربلاء.
و دام ذلك حتّى مَنّ الباري بتوفيق الحقير للتشرّف بالذهاب إلى تلك العتبة، حيث كان خلال تواجده في النجف الأشرف يرجع في الامور العرفانيّة و الإلهيّة -حسب توصية الاستاذ العلّامة- لآية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ أفاض الله على تربته من أنواره، و كان لي معه خاصّةً علاقات حميمة. و كان الشيخ يذكر أحياناً اسم السيّد الحدّاد، كما كان بعض الرفقاء الذين كانوا من تلامذة المرحوم القاضي، و خاصّة بعض المسافرين و الزائرين يذكرونه أحياناً في محضر آية الله القوجانيّ و يستفسرون عن أحواله، فكان يجيبهم: هو في كربلاء، و حاله بحمد الله جيّدة.
و باعتبار وجودي في النجف و انشغالي بالدرس و المباحثة، فلم يكن لي مجال لزيارة سيّد الشهداء عليه السلام إلّا في بعض ليالي الجمعة أو في أوقات الزيارة؛ حيث كنت أذهب إلى كربلاء ثمّ أعود في نفس الليلة أو في اليوم التالي، فلم تسنح لي الفرصة للبحث عن السيّد الحدّاد و الالتقاء به.
و دام ذلك ما يقرب من سبع سنين، حتّى التقى يوماً وسط الصحن المطهّر أحدُ تلامذة المرحوم القاضي و اسمه العلّامة اللاهيجي الأنصاريّ بآية الله الشيخ عبّاس، فقبّلا نواظر بعضهما، فتطرّق الأخير خلال حديثهما و استفسارهما عن أحوال بعضهما إلى ذكر اسم السيّد هاشم و استَفسر عن أحواله، ثمّ قال في كلامه:
«لقد كان للمرحوم القاضي اهتمام خاصّ به، و كان لا يعرّفه لأصحابه في السلوك و يضنّ به لئلّا يضايقه أحد منهم، و كان هو التلميذ الوحيد الذي كان يحصل له الموت الاختياريّ زمن حياة المرحوم القاضي، و كانت ساعات موته تطول أحياناً إلى خمس ساعات أو ستّ. و كان المرحوم القاضي يقول: إنّ السيّد هاشم في التوحيد أشبه بالسنّة المتعصِّبين لمذهبهم؛ فقد كان متعصِّباً في توحيد ذات الحقّ تعالى، و لقد ذاق طعم التوحيد و لمسه بشكل استحال معه لأيّ شيء أن يوجد خللًا فيه».
و لم ينقضِ على هذه المحادثة وقت طويل حتّى حان وقت زيارة أبي عبد الله عليه السلام، و كانت زيارة النصف من شعبان لسنة ۱٣۷٦ هجريّة قمريّة، فوُفِّق الحقير للتشرّف بالذهاب إلى كربلاء للزيارة. و حصل في ذلك السفر أن وُفِّقْتُ لزيارة السيّد هاشم و تقبيل يديه، و انعقدت بيننا الأواصر الحميمة على أكمل صورها، و دامت ثمان و عشرين سنة كاملة لحين رحيله عن دار الفَناء، أي في سنة ألف و أربعمائة و أربعة هجريّة قمريّة، و بقي ذكره منذ ذلك الحين -حيث ينقضي على رحيله ثمان سنين- لا يبرح عنّي، مجسّماً في افق خاطري يزيد بمرّات على ذكري لوالدي، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
عجز المصنّف عن شرح أحوال الحدّاد و بيان مدارجه و معارجه
و لقد كان هذا الرجل ذا مغزى عظيمٍ، جمّ الفضل و العلم يقصر عنه لفظ العظمة، و كان واسع الافق رحبه إلى درجة لا سبيل للتعبير عن سعة إدراكه. و كان متوغّلًا في التوحيد، مندكّاً فانياً في ذات الحقّ تعالى إلى الحدّ الذي يبقى ما نقوله و نكتبه عنه اسماً و رسماً؛ فهو خارج عن التعيّن، متخطٍّ للاسم و الرسم.
نعم، كان السيّد هاشم الحدّاد روحي فداه حقّاً و واقعاً رجلًا تقصر أيدينا عن نيل أذيال أثوابه المتطاولة. و غالباً ما كنتُ ألتقي به أثناء هذه
المدة المديدة في أسفاري التي كانت تحصل مرّة أو مرّتين في السنة و تدوم شهرين أو ثلاثة، فأرد منزله في كربلاء و اعَدُّ من عياله و أولاده؛ لكنّه مع ذلك رحل، و بعد رحيله فقد بَقِيتُ حتّى يومي هذا تلفّني الحيرة و يكتنفني الحياء، خاضعاً مطأطئاً أمام ذلك الشموخ و الرفعة و ذلك المقام و تلك الجلالة.
لقد عَجَزَتِ الألفاظ عن وصفه؛ فما ذا أقول في رجلٍ وقفتْ أمامه الكلمات حيرى و أ كلَّ الواصفين عن وصفه ناهيك عن إدراكه؟!
لذا، لم يُذكَر اسمه في كُتُب الحقير و لم يجرِ فيها التطرّق إلى شرح حاله، حتّى في كتاب «الشمس الساطعة» الذي الِّفَ في ذكرى الاستاذ الكبير سماحة آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه، و قد تطرّق الحديث فيه مفصّلًا عن حالات سماحة القاضي و أحوال بعض تلامذته، بل ذُكِرَ فيه أسماء تلامذته بالترتيب دون اسم السيّد هاشم!
فلِمَ يا ترى؟! و لأيّ سبب؟!
ذلك لأنّه كان يستعصي على القلم فلا يحيط به؛ فقد كان صقراً محلِّقاً بعيد المدى لا ترقى إليه الأفكار و العقول في أوج تحليقها. و مهما جَهَدَتْ في اللحاق به رأته أسمى و أعلى و أفضل و أرقى؛ فيرجع الفكر خاسئاً و البصر ذليلًا و البصيرة كليلة، و تبقى حيرى لا تعرف يمنة عن يسرة و لا فوقاً من تحت و لا أماماً من خلف.
فكيف -يا ترى- يمكن للمحدود بالجهات و التعيّنات وصفَ روحٍ مجرّد يحاول إخضاعه لقالب معيّن، فيدور حوله ليصفه و يبيِّن حاله؟!
و نلحظ هنا روعة و وضوح كلام الملّا الروميّ الذي يتربّع على منصّة الحقيقة و يجد مصداقه في الخارج:
من به هر جمعيّتى نالان شدم | *** | جُفت بدحالان و خوش حالان شدم |
هر كسى از ظنّ خود شد يار من | *** | وز درون من نجست أسرار من |
سِرِّ من از ناله من دور نيست | *** | ليك چشم و گوش را آن نور نيست |
تن ز جان و جان ز تن مستور نيست | *** | ليك كس را ديد جان دستور نيست۱ |
أو حين يقول:
گرچه تفسير زبان روشنگر است | *** | ليك عشقِ بى زبان روشنتر است |
چون قلم اندر نوشتن مىشتافت | *** | چون به عشق آمد قلم بر خود شكافت٢ |
چون سخن در وصف اين حالت رسيد | *** | هم قلم بشكست و هم كاغذ دريد |
عقل در شرحش چو خَر در گل بخفت | *** | شرح عشق و عاشقى هم عشق گفت |
آفتاب آمد دليل آفتاب | *** | گر دليلت بايد از وى رو متاب |
از وى ار سايه نشانى مىدهد | *** | شمس هر دم نور جانى مىدهد |
سايه خواب آرد ترا همچون سَمَر | *** | چون برآيد شمس، انْشَقَّ القَمَر |
خود غريبى در جهان چون شمس نيست | *** | شمس جانِ باقئى كش أمْسْ نيست |
شمس در خارج اگر چه هست فرد | *** | مثل او هم مىتوان تصوير كرد۱ |
ليك شمسى كه از او شد هست أثير | *** | نبودش در ذهن و در خارج نظير |
در تصوّر ذات او را كُنج كو | *** | تا درآيد در تصوّر مثل او۱ |
و كم هو رائع و بليغ قول مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام في تبيانه لمحلّه و مقامه، حيث يقول:
صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى؛ اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ في أرْضِهِ، وَ الدُّعَاةُ إلى دِينِهِ. آهِ آهِ! شَوْقاً إلى رُؤْيَتِهِمْ.
سبب تأليف الكتاب
لكنّ الابن الأرشد و الأفضل و الأعلم لآية الله المعظّم و حجّة الله المكرّم الحاجّ السيّد الميرزا علي القاضي أعلى الله مقامه المنيف، سماحة السيّد المحترم فخر الفضلاء العظام و عماد العشيرة الفخام و سيّد البررة الكرام، الابن الجسميّ و الروحيّ لذلك الفقيد: السيّد محمّد حسن القاضيّ الطباطبائيّ التبريزيّ أدام الله أيّام ظلاله و بركاته قد شرع بتأليف كتاب على قدر من التفصيل و الشرح لأحوال والده المعظّم المرحوم القاضي، ربّما يجد طريقه سريعاً إلى الطبع و النشر بحمد الله و منّه؛ جاء في جزئه الثاني شرح أحوال تلامذة هذا الرجل الإلهيّ الكبير و ترجمة أحوالهم، و قد أوصاني هذا السيّد العزيز المكرّم عبر رسائل شفويّة و خطّيّة بالكتابة عن سماحة السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله تعالى عليه بما علمتُ عنه كي اقدِّمها
لمحضره.
لذا، فقد عقدتُ العزم امتثالًا لأمره الذي هو في الحقيقة امتثال أمر والده المرحوم، على كتابة رسالة -و لو مختصرة- في مدى فهم الحقير و إدراكه؛ و ها أنا اقدِّمها لسماحته و لأرباب السلوك و المعرفة مع الاعتراف بالعجز و الإقرار بالقصور. ﴿و ما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت و إليه انيب﴾ و هو خير هادٍ إلى سواء السبيل.
و كان الشروع في هذه الرسالة ضحى يوم الثلاثاء الخامس عشر من شهر رجب المرجَّب لسنة ألف و أربعمائة و اثني عشر هجريّة قمريّة، في البلدة الطيِّبة للمشهد الرضويّ المقدَّس على شاهده آلاف التحيّة و الإكرام و السلام و الإنعام؛ و سمّيتها «الروح المجرَّد: في ذكرى الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد قُدّس سرّه».
و أنا العبد الحقير الفقير المسكين المستكين
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
عفى الله عن جرائمه
القِسْمُ الأوّلُ: مُقَدِّمَةُ التَّشَرُّفِ وَ التَّوْفِيقِ لِمَحْضَرِ سَمَاحَةِ الحدَّادِ وَ مَلازَمَتِهِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَ صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا و نَبِيِّنَا محمّد وَ آلِهِ الطَّيِّبِينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعِينَ، وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
وَ هُوَ حَسْبُنَا وَ نِعْمَ الوَكِيلُ، نِعْمَ المَولَى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ
تَحَصَّنْتُ بِالمَلِكِ الحَيّ الذي لَا يَمُوتُ، وَ اعْتَصَمْتُ بِذِي العِزَّةِ وَ العَدْلِ وَ الجَبَرُوتِ، وَ اسْتَعَنْتُ بِذِي العَظَمَةِ وَ القُدْرَةِ وَ المَلَكُوتِ؛ عَنْ كُلِّ مَا أخَافُهُ وَ أحْذَرُهُ.۱
اللهمّ صلِّ و سلّم و زد و بارك على صاحب الدعوة النبويّة، و الصولة الحيدريّة، و العصمة الفاطميّة، و الحلم الحسنيّة، و الشجاعة الحسينيّة، و العبادة السجّاديّة، و المآثر الباقريّة، و الآثار الجعفريّة، و العلوم الكاظميّة، و الحجج الرضويّة، و الجود التقَوية، و النقاوة النقويّة، و الهيبة العسكريّة، و الغيبة الإلهيّة. اللهمَّ عجِّل فرجه، و سهِّل مخرجه، و اجعلنا من شيعته و أعوانه و أنصاره.٢
صلِّ اللهمَّ على التجلِّي الأعظم، و كمال بهائك الأقدم، شجرة
الطور، و الكتاب المسطور، و النور على النور في طخياء۱ الدَّيْجور، علم الهدى، و مجلي العمى، و نور أقطار الورى، و بابك الذي منه تُؤتَى، الذي يملأ الأرض قسطاً و عدلًا كما ملئت ظلماً و جوراً.
مقدِّمة التشرّف لمحضر سماحة الحدّاد
كان متعارفاً بين طلبة النجف الأشرف و فضلائها و علمائها في أيّام الزيارات المخصوصة لمولى الكونَينِ أبي عبد الله الحسين سيّد الشهداء عليه و على أبيه و امّه و جدّه و أخيه و التسعة الطاهرة من أبنائه صلوات الله و سلام ملائكته المقرّبين و الأنبياء و المرسلين، كزيارة عرفة و زيارة الأربعين و زيارة النصف من شعبان، أن يذهبوا من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدّسة سيراً على الأقدام، إمّا عن الطريق الصحراويّ المُعَبَّد المستقيم، و طوله ثلاثة عشر فرسخاً، أو عن الطريق المحاذي لشطّ الفرات، و طوله ثمانية عشر فرسخاً. و كان الطريق الصحراويّ قاحلًا يخلو من الماء و الخضرة، لكنّه قصير يمكن للمسافرين أن يطوونه بسرعة خلال يوم أو يومين، على العكس من الطريق المحاذي لشطّ الفرات الذي كان يتعذّر السفر فيه بالسيّارة، فكان ينبغي السير خلاله على الأقدام أو بامتطاء الحيوانات. و كان هذا الطريق منحرفاً غير مستقيم، لكنّه -في المقابل- يتميّز بالخُضرة و تتخلّله بساتين الأشجار و النخيل اليانعة و بين كلّ عدّة فراسخ ثمّة أماكن لاستضافة المسافرين (و هي مضائف مصنوعة من الحصير تعود لشيوخ العرب يستقبلون فيها القادمين فيضيّفونهم مجّاناً مهما شاءوا الإقامة عندهم). و كان الطلبة يسيرون نهاراً ثمّ يأوون إلى هذه
المضايف ليلًا فيبيتون فيها، و كان سفرهم في هذا الطريق المحاذي للنهر يستغرق في الغالب يومين أو ثلاثة.
الذهاب إلى كربلاء مشياً على الاقدام في النصف من شعبان ۱٣۷٦ هجريّة
و لم يوفَّق الحقير خلال مدّة إقامتي في النجف الأشرف، التي دامت سبع سنين، للسفر إلى كربلاء مشياً على الأقدام إلّا مرّتين فقط؛ ذلك لأنّ الوالدة المرحومة كانت على قيد الحياة و بالرغم من عدم ممانعتها للسفر، إلّا أنّ الحقير كان يري آثار الاضطراب عليها، لذا لم أتقدّم للانضمام إلى مواكب المشاة لغاية السنة أو السنتين الأخيرتين من إقامتنا في النجف، حيث رأيت تناقص ذلك الاضطراب عندها من خلال إقامة العلاقات مع العوائل النجفيّة، لذا فقد أرسلتها إلى كربلاء مع بعض المسافرين و الزوّار الإيرانيّين الذين كانوا قد و فدوا علينا، و صحبتُ الرفقاء في المسير إلى كربلاء.
و كان الحقير في هذين السفرين في معيّة سماحة آية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ أفاض الله علينا من رحماته و بركاته، و كان هناك أيضاً سماحة آية الله المرحوم الشيخ حسن علي نجابت الشيرازيّ، و سماحة حجّة الإسلام و المسلمين السيّد محمّد مهدي دستغيب الشيرازيّ الأخ الأصغر للمرحوم الشهيد دستغيب، و قد صحبنا في السفر الثاني أحد الطلبة ممّن له معرفة بآية الله القوجانيّ و اسمه السيّد عبّاس ينگجي، و شخص آخر من مريديه و كان من رجالات طهران المعروفين.
و كان هذا الأخير يمتلك بحقّ صفاءً و نزاهة و عشقاً لأهل بيت الولاية، و لا يزال بحمد الله على قيد الحياة. و كان قد قَدِم إلى النجف الأشرف للتشرّف بالزيارة، فقال للفقيد السعيد آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس: أرغب أن أرتدي يوماً ملابس العمل و أندسُّ بين العمّال الذين يعملون في إصلاح و تبييض جدران أروقة الصحن و تزيينها بالمرايا فأعمل
معهم من الصبح إلى غروب الشمس.
فردعه آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس -و كان الوصيّ الرسميّ للمرحوم القاضي في أمر الطريقة و الأخلاق و السلوك إلى اللهـ عن هذا العمل و قال له: أنت رجل معروف و مشهور، و مهما أخفيت هذا العمل الجميل الحسن فسينكشف أمره في النهاية و يصبح حديث الألسن، و لربّما كان الغرور و العجب الذي سيتداخلك من هذا العمل أكثر ضرراً عليك ممّا يعود عليك منه. و أرى أنّه من الأنسب، بدلًا من نيّتك الخيرة الحسنة هذه، أن تأتي معنا إلى كربلاء ماشياً في أيّام الزيارة المخصوصة للنصف من شعبان! فلن يعرف أحد بهذا الأمر، و إذا ما عرف به فلن يكون مدعاة لإثارة الضجّة كذاك، و لن تصحبه العواقب الروحيّة الوخيمة لكم.
فاقتنع ذلك الرجل المحترم بهذا الكلام و استعدّ للسفر ماشياً، حيث بدأ هذا السفر صباح اليوم الثاني عشر من شهر شعبان المعظّم لسنة ألف و ثلاثمائة و ستّ و سبعين هجريّة قمريّة، و استغرق أيّاماً ثلاثةً و ليلتين؛ و ردنا بعدها كربلاء المقدّسة عصر يوم الرابع عشر.
و مع أنّ هذا السفر مشياً على الأقدام كان أمراً كثير الصعوبة لشخص متنعِّم مُرَفَّه لا عهد له بحياة الطلبة الشاقّة، لكنّ هذا الرجل كان من المحبّين و الموالين لأهل البيت حقيقةً؛ فلم يواكب سائر الرفقاء في هذا الطريق الشاقّ فقط، بل تميّز أيضاً بعشق و ولهٍ خاصّ، و كان خلال السفر يبكي بدموع غزيرة و يتمتم مع نفسه بهذا الشعر الغزليّ لحافظ عليه الرحمة:
صَبا به لطف بگو آن غزال رعنا را | *** | كه عشق كوه و بيابان تو دادهاى ما را |
شكر فروش كه عمرش دراز باد چرا | *** | تفقّدى نكند طوطى شكر خارا |
غرور حسن اجازت مگر نداد اى گل | *** | كه پرسشى نكنى عندليب شيدا را |
به خُلق و لطف توان كرد صيد أهل نظر | *** | ببند و دام نگيرند مرغ دانا را |
ندانم از چه سبب رنگ آشنائى نيست | *** | سهى قدان سيه چشم ماه سيما را |
چو با حبيب نشينى و بادهپيمائى | *** | بياد دار محبّان بادپيما را |
جز اين قدر نتوان گفت در جمال تو عيب | *** | كه وضع مهر و وفا نيست روى زيبا را |
در آسمان چه عجب گر بگفتة حافظ | *** | سماع زُهره به رقص آورد مسيحا را۱ |
و كان يبتعد أحياناً عن الرفقاء لينشغل بنفسه أكثر و ليعرض -على انفراد- مناجاته و لوعته و لهفته. و صادف أن هطل المطر من منتصف الطريق فما بعد، فاستحال الطريق الترابيّ و حلًا، لكنّ هذا الرجل لم يكن ليأبه حين تنغرز قدماه في الوحل، و هكذا فقد سار حتّى لاحت طلائع مدينة كربلاء من على بُعد فرسخ تقريباً، فخلع نعليه من قدميه و شدّهما ببعضهما ثمّ علّقهما حول عنقه.
و لقد توجّهنا و سائر الرفقاء و مَن كان معنا، و آثار التراب و الطين تلوح علينا، بلا غسل الزيارة، إلى الحرم الأنور فتشرّفنا بزيارته، و قد استغرقت هذه الزيارة أقلّ من ساعة، و توجّهنا بعدها نحو قبر أبي الفضل العبّاس عليه السلام فزرناه على تلك الحال و الهيئة.
و كان أحد الرفقاء من أهل الكاظميّة، و اسمه الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ، قد دعانا للعشاء تلك الليلة في الفندق و المسجد اللذين حلّ فيهما، لذا فقد توجّه جميع الرفقاء حين حلّ الليل إلى حمّام المخيّم للقيام بغسل زيارة النصف من شعبان، ثمّ توجّهنا جميعاً لزيارة الحرمين المطهّرين الشريفين، و اجتمعنا بعدها عند الحاجّ عبد الزهراء، و انشغلنا بإحياء تلك الليلة بقراءة القرآن و الدعاء حتّى طلوع الفجر، ثمّ صلّينا صلاة الفجر في الحرم المطهّر وعدنا بعد طلوع الشمس للاستراحة و استرخاء الأعصاب، و تهيّأنا بعدها جميعاً للقيام بغسل زيارة يوم النصف من شعبان و التشرّف بزيارة الحرمين الشريفين.
عودة آية الله الشيخ عبّاس إلى النجف و تشرّف الحقير بلقاء الحدّاد
و كان من المقرّر بعد أداء الزيارة الكاملة أن يعود آية الله القوجانيّ إلى النجف و أنا في معيّته فقط؛ أمّا الحاجّ الشيخ حسن علي نجابت و الحاجّ السيّد محمّد مهدي دستغيب -اللذان كانا قد قَدِما من إيران للزيارة- فكان من المقرّر أن يعودا برفقة ذلك الشخص المحترم إلى شيراز و طهران قبل حلول شهر رمضان؛ كما عزم السيّد عبّاس على العودة إلى النجف عصر ذلك اليوم أو غده. و هكذا فقد ذهبتُ مع سماحة الحاجّ الشيخ عبّاس إلى موقف سيّارات النجف للعودة إليها.
ثمّ إنّ الحقير سأله في الطريق: أ ترغبون أن نذهب لرؤية السيّد هاشم النعلجيّ؟! (و ذلك لأنّه لم يكن قد تشرّف بعدُ بحجّ بيت الله الحرام؛ و كان عمله صناعة حدوات الخيول و تثبيتها في أرجلها، فاشتهر بين الرفقاء بالسيّد هاشم النعلجيّ. ثمّ سمعنا أنّ أحد مريديه من سكنة كربلاء -و هو الحاجّ محمّد علي خلف زاده، و كان حذّاءً يصنع الأحذية، و له علاقة حميمة بالسيّد- قد غيّر هذا اللقب بنفسه إلى الحدّاد احتراماً؛ فصار الرفقاء بعد ذلك يدعونه بالحدّاد.
أجاب سماحته: لقد كان دكّانه لصنع الحدوات يقع سابقاً في العَلْوَة (ميدان الخضار) جنب البلديّة، و في وسط المدينة و هو مكان قريب جدّاً، و كنت أعرف عنوانه و أذهب إليه، ثمّ إنّه غيّره فصار بعيداً جداً، و صرت أجهل عنوانه؛ مضافاً إلى ضرورة عودتي سريعاً إلى النجف، لذا فلا مجال لديّ الآن لذلك؛ فلنَدَعْ ذلك إلى فرصة اخرى!
قلت: لست في عجلة للعودة الآن، أ فتسمحون لي بالبقاء لزيارته؟! أجاب: نعم، لا بأس بذلك. فقام الحقير بتوديع سماحته،
المرّة الاولى لتشرّف المصنِّف في محضر سماحة الحدّاد
ثمّ عدتُ فاستفسرت ممّن في العَلْوَة و ميدان الخضار المعروف في كربلاء عن عنوان السيّد الجديد. فقيل لي: إنّه يقع خارج المدينة خلف مركز الشرطة، و هو
يعمل في دكّان له في إصطبل مديريّة الشرطة.
و هكذا فقد قطع الحقير شارع العبّاسيّ المنتهي بمديريّة الشرطة و سألت في آخره عن الإصطبل فدلّوني عليه، فدخلت ساحة كبيرة مُسَيَّجة تقرب مساحتها من ألف متر مربّع انتظمت محيطها حظائر الخيول المنهمكة في تناول العلف. فسألت هناك: أين يقع محلّ السيّد هاشم؟ قيل: في تلك الزاوية!
توجّهتُ إلى تلك الزاوية، فشاهدت: دكّة صغيرة تقرب أبعادها من ٣ × ٣متراً، يقف فيها سيّد شريف خلف سندان حديديّ و قد غطس نصف جسده في الأرض، بشكل يجعل في متناول يديه الفرن الواقع إلى اليمين و السندان الذي يقابله، و كان منهمكاً بطرق الحديد لصناعة الحدوات، و إلى جانبه مساعده.
كان وجهه متوهّجاً كوردة حمراء تلتمع فيه عيناه أشبه بياقوتتَينِ حمراوين، و قد اكتنف الغبار و ذرّات الفحم و دخان الفرن رأسه و وجهه، كان حقّاً و حقيقةً عالَماً عجيباً، يمدّ يده بالمقبض إلى الفرن فيُخرج الحديد المبيضّ و يضعه على السندان فينهال عليه طرقاً بالمطرقة بِيَدِه الاخرى. عجباً! أيّ أمر هذا؟! و أيّ حساب و كتاب؟! و ما الذي ينطوي عليه؟!
دخلت فسلّمتُ، ثمّ قلت: جئت لتسمِّروا في قدمي نعلًا!
فرفع سبّابته تجاه أنفه فوراً و قال: صه! ثمّ صبّ قدحاً من الشاي المعطّر ذي المذاق اللطيف من إناء الشاي الموضوع على جانب الفرن و وضعه أمامي و قال: باسم الله، تفضّل!
و لم تدم لحظات حتّى بعث بالمساعد بحجّة إنجاز عمل و شراء شيء ما، فلمّا غادر المساعد المحلّ، التفت السيّد إلى فقال: أيّها السيّد العزيز! هذا الكلام محترم جدّاً؛ فَلِم تلفظون كلاماً كهذا أمام معاوني الذي يجهل
مثل هذه الامور؟!
ثمّ صبّ لي قدحاً آخر من الشاي و صبّ لنفسه آخر، و بينما كان يستمرّ في عمله فلا يغفل عن الفرن و المطرقة و المقبض لحظة واحدة، أنشد لي هذه الأشعار بلحن بديع و صوت رخيم يتفجّر عشقاً و هيجاناً و ينثال جاذبيّة و روحانيّة.
روستائى گاو در آخُر ببست | *** | شير گاوش خورد و بر جايش نشست |
روستائى شد در آخُر سوى گاو | *** | گاو را مىجست شب آن كنجكاو |
دست ماليد بر أعضاى شير | *** | پشت و پهلو گاه بالا گاه زير |
گفت شير ار روشنى افزون بدى | *** | زهرهاش بدريدى و دلخون شدى |
اين چنين گستاخ زان مى خاردم | *** | كو در اين شب گاو مىپنداردم |
حق همى گويد كه اى مغرور كور | *** | نى ز نامم پاره پاره گشت طور۱ |
كه لو أنزلنا۱ كتاباً للجبل | *** | لا نصدع ثم انقطع ثم ارتحل |
از من ار كوه احد واقف بدى | *** | پاره گشتىّ و دلش پر خون شدى |
از پدر و از مادر اين بشنيدهاى | *** | لاجرم غافل در اين پيچيدهاى |
گر تو بىتقليد زان واقف شوى | *** | بىنشان بىجاى چون هاتف شوي٢ |
ثمّ عاد المساعد، فقال السيّد: موعدنا معكم في المنزل لأداء الصلاة. ثمّ أعطاني عنوان المنزل.
إقامة صلاة الظهر ليوم النصف من شعبان في منزل الحدّاد و بإمامته
و هكذا فقد ذهبتُ قُبيل أذان الظهر إلى منزله في شارع العبّاسيّة، شارع البريد، جنب منزل الحاجّ صمد الدلّال. و كان منزلًا بسيطاً، يضمّ عدّة غرف بسيطة مبنيّة على الطراز العربيّ، و في زاويته نخلة. و كان بيته ذا طابق واحد، لذا فقد قادونا إلى السطح حيث كان السيّد هناك و قد فرش
سجّادته و استعدّ للصلاة؛ و كان هناك شخص واحد من مريديه و هو الحاجّ محمّد علي خلف زاده يريد الاقتداء به في الصلاة؛ و اتّضح بعد ذلك أن الحاجّ محمّد علي كان غالباً ما يصلّي الظهر في معيّته. فاقتديت به كذلك، و اقيمتْ صلاة الجماعة بمأمومَينِ فقط. و قد أبدى السيّد منتهى اللطف و المحبّة، ثمّ قال: فلتذهبوا إلى النجف، و لقاؤنا في السفر القادم إن شاء الله تعالى.۱
هر چند پير و خسته دل و ناتوان شدم | *** | هرگه كه ياد روى تو كردم جوان شدم |
شكر خدا كه هر چه طلب كردم از خدا | *** | بر منتهاى مطلب خود كامران شدم |
در شاهراهِ دولت سرمَد به تخت بخت | *** | با جام مى به كام دل دوستان شدم |
اى گلبن جوان برِ دولت بخور كه من | *** | در ساية تو بلبل باغ جهان شدم |
از آن زمان كه فتنة چشمت به من رسيد | *** | ايمن ز شرّ فتنة آخر زمان شدم |
أوّل ز حرف لوح وجودم خبر نبود | *** | در مكتب غم تو چنين نكته دان شدم |
آن روز بر دلم در معنى گشوده شد | *** | كز ساكنان درگه پير مغان شدم |
قسمت حوالتم به خرابات مىكند | *** | هر چند كاينچنين شدم و آنچنان شدم |
من پير سال و ماه نيم يار بى وفاست | *** | بر من چو عمر مىگذرد پير از آن شدم |
دوشم نويد داد عنايت كه حافظا | *** | باز آ كه من به عفو گناهت ضمان شدم |
فقبَّلتُ يديه و ودّعته ذلك اليوم: النصف من شعبان، و عدتُ قافلًا إلى النجف.
التشرّف بزيارة كربلاء المقدّسة في شهر رمضان المبارك
و لمّا كانت حوزة النجف تعطِّل دروسها في شهر رمضان المبارك، فقد استثمر الطلبة ليالي هذا الشهر في دراسة الدروس الاستثنائيّة المختصرة و التي لا تعدّ من الدروس الرسميّة، كاصول العقائد و الرسائل الصغيرة؛ مثل «قاعدة لاضرر» و «مسألة إرث الزوجة» و «قاعدة الفراغ» و «قاعدة لا تعاد الصلاة» أو بحث «فروع العلم الإجماليّ»، و كان الحقير، مضافاً إلى عدم مشاركتي في أشهر رمضان السابقة في هذه الدروس، و قضائي الليالي -تبعاً لأمر آية الله الشيخ عبّاس- ببعض الأدعية و الأوراد و قراءة سورة القدر أو سورة الدخان؛ قد وجدتُ لديّ رغبةً هذه السنة للتشرّف بزيارة كربلاء المقدّسة لزيارة الحرمين المباركين و للقيام بتلك الأعمال في كربلاء، و للاستفادة من محضر الحاجّ السيّد هاشم.
و هكذا اصطحبت الوالدة و الأهل مع طفلَيّ الصغيرين: السيّد محمّد صادق و كان له آنذاك أربع سنين، و السيّد محمّد محسن و كان له سنتان و خمسة أشهر، و تشرّفنا بالذهاب إلى كربلاء لقضاء الشهر المبارك. فاستأجرنا غرفة في الحسينيّة البحرانيّة في الزقاق المجاور للمخيّم الحسينيّ (خيمه گاه) بمبلغ بسيط، فبسطنا فيها أمتعتنا المتواضعة.
و صادف ذلك الوقت في صيف قائظ، حيث الليالي قصيرة جدّاً، لذا فقد جرت العادة طوال الشهر على أن أسهر في الليل و أنام في النهار إلى ما قبل الظهر بساعتين، أستعدّ بعدها للتشرّف بزيارة الحرم المطهّر و الصلاة فيه، ثمّ التشرّف بالذهاب إلى الحرم المطهّر لأبي الفضل العبّاس عليه السلام ثمّ أقوم بعد أداء الزيارة بتهيئة ما يحتاج إليه المنزل و أبقى في البيت إلى الغروب. ثم أتشرّف بعد أداء صلاتَي المغرب و العشاء و تناول الإفطار و بعد انقضاء ساعتين من الليل بالذهاب إلى منزل السيّد فأعود إلى البيت قرب أذان الصبح لتناول السحور. و كان السيّد قد عيّن بنفسه أوقات اللقاء في الليل، إذ كان يذهب للعمل نهاراً.
المبيت خلال شهر رمضان في محضر الحاجّ السيّد هاشم في دكّة
و كان محلّ الاجتماع دكّة جنب المسجد الذي كان السيّد يتعاهد أمر تنظيفه، و هي دكّة بطول و عرض ٢، ٢ متراً تقريباً و ينخفض سقفها إلى الحدّ الذي يتعذّر الصلاة فيه من قيام، إذ كان الرأس يرتطم به آنذاك. و في الحقيقة فإنّها لم تكن غرفة، بل محلًّا زائداً كان البنّاء قد أوجده هناك كمخزن أسفل الدرج المؤدّي إلى سطح المسجد۱، لكنّ السيّد الحدّاد كان قد اختار ذلك المكان في المسجد لخلوته بنفسه و ذلك لظلمته و عزلته، و كان
مناسباً جدّاً للدعاء و قراءة القرآن و الأوراد و الأذكار التي يعطيها المرحوم القاضي، و خاصة للسجدات الطوال؛ أمّا الصلاة فكان السيّد يقيمها داخل المسجد، و كان يقتدي في الصلوات الواجبة بإمام جماعة ذلك المسجد و اسمه الشيخ يوسف.
و كان في تلك الدكّة «سماور»۱ و أدوات إعداد الشاي، و في جانب الدكّة قدر من أثاث المسجد ملقى. فيا للّه من هذه الدكّة بهذا الوضع و الكيفيّة التي لم يكن يعلم بها غير المرحوم القاضي نفسه، حيث كان يأتيها أثناء تشرّفه للقدوم إلى كربلاء المقدّسة! و لم يكن أحد ليعلم بعظمتها و روحانيّتها إلّا أمثال بعض أصدقاء الحدّاد، مثل الحاجّ حبيب السماويّ، و الحاجّ عبد الزهراء الگرعاويّ، و الحاجّ أبي موسى محيي، و الحاجّ أبي أحمد عبد الجليل محيي، و البعض الآخر ممّن شاهدها أو بات فيها.
و هكذا، فقد أضاف الحاجّ السيّد هاشم، في تلك الدكّة الحقير، جميع ليالي الشهر المبارك، و يا لها من ضيافة!
و لم يكن الحاجّ أبو موسى محيي و الحاجّ حبيب السماويّ و رشيد الصفّار قد تعرّفوا عليه في ذلك الوقت، فقد تعرّفوا عليه بعد ذلك. فكان رفقاؤه و ملازموه هم الحاجّ محمّد علي خلف زاده من كربلاء و الحاجّ عبد الزهراء من الكاظميّة، ثمّ انضمّ أخيراً في الليالي الأخيرة الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل محيي، و كان أعزباً آنذاك، و عُرف بعد ذلك بأبي نبيل ثمّ بأبي أحمد.
بيان عشق المرحوم السيّد الحدّاد و شوقه
كان الليل ينقضي إلى قرب الأذان في الحديث و قراءة القرآن
و البكاء و قراءة أشعار ابن الفارض و تفسير النكات العرفانيّة العميقة و دقائق أسرار عالم التوحيد و العشق و الهيام الذي لا يوصف لأبي عبد الله الحسين عليه السلام. و كان باب المكاشفات مفتوحاً للرفقاء الحاضرين في تلك الجلسات، و خاصّة للحاجّ عبد الزهراء، و كان الحاجّ عبد الزهراء يبيِّن مطالب شيِّقة، ممّا جعل شهر رمضان ذاك مشحوناً بالهيجان و الطلاقة و البساطة بشكل يبعث على العَجب. و كان الحاجّ عبد الزهراء يبكي فى تلك المجالس حتّى تتورّم عيناه، و يدوم ذلك منه ساعات، ثمّ يقوم إلى داخل المسجد فيديم البكاء و يهوي للسجود على حصير مفروش هناك.
كان طافحاً بالوَلَه و اللوعة و الشوق اللاهب، ذلك اللهب المحرق الذي كان يمتدّ إلى الآخرين فيؤثِّر فيهم.
قال لي سماحة السيّد الحدّاد ذات ليلة بعد ذهاب الحاجّ عبد الزهراء إلى المسجد بعد البكاء الطويل المقرح للعيون: يا سيّد محمد الحسين! أ ترى هذا البكاء و هذه اللوعة؟ إنّ لديّ ما يزيد عليها مائة «قاط» (مائة ضعف) لكنّ ظهورها و بروزها بشكل آخر.
هذا و قد اعتاد الحقير على العودة إلى المنزل قبل الأذان بثلاثة أرباع الساعة، و كان الطريق يستغرق عشر دقائق تقريباً؛ فقال لي السيّد ذات ليلة: لما ذا تنهض كلّ ليلة و تذهب إلى البيت لتناول السحور؟ إنّني أجلب معي بعض الطعام فأتسحّر به، فابق معي نتسحّر سويّاً!
و هكذا بقيت معه في الليلة التالية للسحور، فذهب قرب الأذان إلى منزله -و لم يكن يبعد عن المسجد كثيراً- و عاد بخوان، و كان عبارة عن قميص عربيّ (دشداشة) لأحد أبنائه، و قد وُضع فيه قَدَرٌ من الفجل و التمر و رغيفان من الخبز؛ فوضعه على الأرض و قال: باسم الله!
و لقد أمضينا تلك الليلة بقدر من الخبز و الفجل و بضع تميرات، ثمّ
حلّ اليوم التالي فأحسست عصراً أنّ قدرتي قد تلاشت من شدّة الضعف و الجوع، و كان النهار طويلًا جدّاً و الهواء لافحاً من شدّة الحرارة، فقلت في نفسي: إنّ هذا الغذاء لا يلائمني، و إن دام الأمر على هذا الوضع فسأسقط مريضاً و أعجز عن الصيام. و من ثمّ فقد كنت بعد ذلك أتناول السحور معه ثمّ أعود إلى البيت فوراً فأتناول قدراً من ماء اللحم المطبوخ أو الطبيخ الذي يعدّونه في البيت، أو آخذ السحور معي من المنزل فنتسحّر سويّاً به.
أما نومه: فلم أره ينام خلال هذا الشهر الكامل، فقد كان يسهر الليل إلى طلوع الفجر بالتهجّد و الدعاء و الذِّكر و السجود و التأمّل و التفكّر، و كان يذهب صباحاً إلى عمله في محلّ مديريّة الشرطة بعد شراء الخبز و احتياجات المنزل، و كان يصلّي الظهر في البيت ثمّ يتشرّف بزيارة حضرة الإمام؛ و يقال إنّه لم يكن ينام العصر مطلقاً. و كان أحياناً يحسّ بالتعب في بدنه صباحاً فيذهب إلى الحمام الواقع في نهاية الشارع فيعيد النشاط إلى جسمه بالاستحمام بالماء الحارّ، أو إنّه كان أحياناً يستلقي صباحاً للاسترخاء ثمّ ينهض فيذهب للعمل، ذلك العمل الشاقّ المرهق. و لم يكن ليصنع الحدوات فقط، بل كان عليه أيضاً أن يقوم بتسميرها في أقدام الخيول، لكنّ ذلك الوُجْد و تلك الحال و تلك الشعلة المتأجِّجة في أعماقه لم تكن لتدعه يستريح لحظة واحدة.
و انقضى شهر رمضان على هذه الحال. و لم يُشاهَد الهلال في الليلة التي احتُمل أنّها ليلة العيد، فاقترح بعض رفقاء الطريق -كشُكر لإتمام صيام شهر رمضان- السفرَ إلى النجف للتشرّف بالسلام و الزيارة؛ و لكي يفطروا هناك في اليوم التالي إن ظهر أنّه من شهر رمضان.
و هكذا فقد تشرّفنا بالذهاب إلى النجف عصر يوم التاسع و العشرين
بسيّارة الحاجّ عبد الزهراء التي يدعونها بـ «الحسينيّة السيّارة»۱ بصحبة السيّد و الحاجّ محمّد علي و الحاجّ عبد الجليل، و ذهبنا فوراً إلى الصحن المطهّر، ثمّ ذهبنا بعد أداء السلام و الزيارة إلى مسجد السَّهْلة للإفطار هناك، فحللنا ضيوفاً على المرحوم الشيخ جواد السَّهْلاويّ، و بتنا هناك إلى الصبح بالدعاء و الذِّكر و التأمّل و التوجّه، ثمّ تحرّكنا صباحاً للتشرّف بزيارة الحمزة و القاسم٢ (جاسم)، فبقينا من الظهر إلى العصر في مرقد الحمزة،
و تحرّكنا لقضاء الليل عند القاسم۱ فبتنا تلك الليلة في ذلك المكان المقدّس.
و قد بيّن السيّد تلك الليلة مطالب عن عظمة القاسم، و كيفيّة حركته و اختفائه عن خصومه أعداء الدين؛ و قال: لقد تجلّت كثيراً جلالة و عظمة ولاية الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في ولده العزيز هذا، لذا فإنّ صحنه و قبره و حرمه و قبّته المنوّرة، و حتّى أراضي الأطراف المجاورة له تمتاز بمعنوية و جاذبيّة خاصّة.
ثمّ تحرّكنا بعد ساعة أو ساعتين من طلوع الشمس في نفس الحسينيّة
السيّارة نحو كربلاء راجعين فوصلناها قرب الظهر.
التشرّف الاوّل للحقير في محضر آية الله الانصاريّ قدّس سرّه في النجف
و لقد حدث عصر يوم التاسع و العشرين حين كنّا مشغولين بالزيارة في الحضرة المقدّسة لأمير المؤمنين عليه السلام أن قال السيّد: يبدو أنّ الإمام جعل ثواب زيارتك هذه في العودة إلى إيران و الاستفادة من محضر آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ؛ لذا فحين تذهب إلى إيران اذهب أوّلًا عنده و كن تحت تعليمه و تربيته!
قلت: لو أمرني بالبقاء في إيران، فإنّ فراقكم و البُعد عنكم سيكون أمراً عسيراً! قال: أينما حللت في العالم فنحن معك؛ إنّ رفقتنا و ميثاقنا قد احكما فلا انفصام لهما. فلا تخف! و لا تخش! فلو كنت في غرب الدنيا أو شرقها فستكون قربنا. ثمّ قال:
گر در يَمَنى چو با منى پيش مَنى | *** | ور پيش مَنى چو بى مَنى در يَمَنى۱ |
و هكذا فحين حلّ صيف ذلك العام، عزمتُ على السفر إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السلام و تجديد العهد بالأرحام و الأحبّة و الأعزّة من الأصدقاء، و لم أكن قد قَدِمتُ إلى إيران منذ سبع سنوات، أي منذ ذهابي إلى النجف الأشرف حتّى ذلك الوقت، و كان ذلك يتضمّن في الجملة تغييراً للجوّ بالنسبة للوالدة المرحومة المبتلاة بضغط الدم و ضعف القلب و الربو الرئويّ و كانت العواصف الرمليّة و هبوب الرياح الشديدة في النجف
مَا لِلنَّوَي ذَنْبٌ وَ مَنْ أهْوَي مَعِي | *** | إنْ غَابَ عَنْ إنْسَانِ عَيْنِي فَهوَ فِي |
تؤلم صدرها كثيراً؛ مضافاً إلى أمر مراجعة الطبيب حول انحراف صحّة الأهل، على نيّة قضاء أيّام الصيف هناك و الرجوع بعد ذلك إلى النجف الأشرف.
لذا، فقد تحرّكتُ يوم الثامن من شوّال من النجف للقيام بدورة كاملة لزيارة الأئمّة عليهم السلام، فقصدت كربلاء و الكاظميّة و سامرّاء، ثمّ سافرتُ بسيّارات النقل الكبيرة، فقضيت ليلة في قم أيضاً في زيارة أعتاب السيّدة المعصومة سلام الله عليها، و وصلنا يوم الثامن عشر إلى طهران.
التشرّف بالذهاب إلى همدان و إدراك محضر آية الله الانصاريّ و ملازمته
و قد تأخّر السفر إلى همدان إلى ما بعد العاشر من المحرّم بسبب الزيارات المتبادلة، و لحلول العشر الاوَل من محرّم الحرام لسنة ۱٣۷۷ هـ و الانشغال بمراسم العزاء في المسجد، و هكذا فقد تشرّفت بعد العاشر من المحرّم بالحضور في محضر آية الله الأنصاريّ.
و لا يخفى أنّ علاقتي بسماحته كانت قد بدأت قبل أربع سنين، و صحبتها لقاءات طويلة الأمد؛ فقد تشرّف قبل أربع سنوات بالقدوم لزيارة العتبات المقدّسة و بقي هناك مدّة شهرين، قضى منهما شهراً كاملًا في النجف على الخصوص؛ حلّ خلاله في منزل الحاجّ محمّد رضا الشيرازيّ و منزل السيّد محمّد مهدي دستغيب. و كان الحقير يذهب بعد أداء صلاة فريضة المغرب و حضور درس الاصول عند آية الله الحاجّ السيّد أبي القاسم الخوئيّ أدام الله ظلّه۱ و ذلك في معيّة الاستاذ آية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ، فأتشرّف بالحضور عنده. و كان يحضر أيضاً حجّة الإسلام السيّد محمّد رضا الخلخاليّ و شخص آخر من المسافرين الإيرانيّين
اسمه الحاجّ حسن شركت الإصفهانيّ. و صادف ذلك أيّام شهر رجب، و كان الهواء آنذاك بارداً و الليل طويلًا، لذا فقد كان المجلس يدوم إلى ساعتين تقريباً. و حقّاً لقد كانت مدّة الشهرين تلك حافلة بالاستفادات المهمّة، حتّى أنّ الحاجّ الشيخ عبّاس استاذ الحقير كان يقول لي: بَيِّنْ له حالاتك و اطلب منه طريقة للعمل!
و قد استجزت سماحة الشيخ القوجانيّ رضوان الله عليه بعد ذلك بسنتين في السفر إلى همدان مباشرة فأذِنَ لي بذلك، فوردت عليه و حللت ضيفاً في منزله في شارع «سنگ شير» أربع عشرة ليلة؛ و كان من بين الضيوف الذين حلّوا عليه من داخل إيران آية الله الحاجّ السيّد عبد الحسين دستغيب و آية الله الشيخ حسن علي نجابت و حجّة الإسلام الشيخ حسن نمكي البهلوانيّ الطهرانيّ.
و قد استغرق ذلك السفر بأجمعه ستّة و عشرين يوماً. فقد كنت مقيّداً بعدم مغادرة العراق بدون زيارة العتبات المقدّسة، لذا فقد قضيت ليلة في كربلاء و ليلتين في الكاظميّة و أربعاً في سامرّاء في منزل ابن خالي العزيز: المرحوم آية الله الميرزا نجم الدين الشريف العسكريّ رضوان الله عليه، ثمّ بقيت عند العودة ليلة في باختران (كرمانشاهان) في انتظار الحصول على تأشيرة السفر من العراق، و من ثمّ فقد استغرق السفر ما استغرق و لم أذهب إلى طهران؛ فقد كان ذلك سيؤثِّر سلباً على الدروس. و لقد انتخبتُ أوقات السفر هذه بحيث تبدأ من منتصف شهر صفر إلى أوائل شهر ربيع لتنسجم مع فترة تعطيل الدروس.
عزم الحقير على التوقّف في طهران و الارتباط العميق مع آية الله الانصاريّ
لقد كان آية الله الأنصاريّ رجلًا كاملًا و لائقاً و منوّراً بنور التوحيد بما يفوق المعتاد، و كان مع الحقير في منتهى اللطف و المحبّة و الإكرام. و لقد أبلغه الحقير رسالة السيّد الحدّاد، و سألته: أيّهما أصلح لي بلحاظ المعنويّة
و السلوك العرفانيّ، إيران أم النجف الأشرف؟! قال: ساجيب فيما بعد.
ثمّ سأله الحقير بعد يوم بحضور جمع من الأحبّة و الأعزّة: ما ذا كان الجواب؟!
قال: النجف جيّدة، و طهران جيّدة أيضاً؛ لكنّكم لو بقيتم في النجف فسيكون كلّ ما تكسبونه لكم وحدكم، أمّا لو بقيتم في طهران فسنشارككم فيما تحصلون عليه!
و باعتبار دلالة الجواب على أرجحيّة طهران، فقد صمّم الحقير على العودة إليها فوراً مع أنّني لم أكن راغباً في ذلك قيد شعرة؛ فقد كنت اتّخذت النجف وطناً أصليّاً و دائميّاً، فاشتريت في الأيّام الأخيرة بيتاً، و رتّبت اموري للإقامة هناك ما دمت على قيد الحياة، و لقد عانيت الكثير حتّى استقرت الامور بعض الشيء، و صمّمت على البقاء بقلب مطمئنٍّ؛ لذا فقد كان رجحان طهران صعباً و ثقيلًا عَلَيّ، بل كان أشدّ من انهيار الجبال على رأسي! و من جانب آخر فقد كانت طهران وطني و مسقط رأسي، و المكان الذي هربتُ منه و بعت جميع ما أملكه فيه، فلم يعد لي فيه من أثاث البيت حتّى حبل الغسيل، فقد جمعتُ ذلك كلّه و اتّجهت نحو أعتاب مولى الموالي؛ و كنت إذا شاهدت طهران في المنام أضطرب، ثمّ أقول و أنا أفتح عيني فزعاً: الحمد للّه فقد كان حلماً!
و لقد اتّخذ الحقير قراره على الفور بالعودة إلى طهران، و عدت بعد شهر صفر إلى تلك الأعتاب المحروسة بالملائكة: النجف الأشرف، و مرّت ثلاثة شهور تقريباً حتّى بيع البيت، ثمّ عدت إلى طهران و انتظمت المكاتبة و الملاقاة و التزاور بشكل متناوب مع آية الله الأنصاريّ مرّة كلّ شهرين أو ثلاثة تقريباً، مع الطاعة التامّة و الامتثال الكامل لأوامره و تعليماته. و لقد كان حقّاً آية جليلة من الآيات الإلهيّة، لم يتأبّ عن تقديم
كلّ مساعدة و معونة، بل كان يستقبل الواردين بكمال الخلوص فيضيفهم عنده.
ثمّ قمتُ في نهاية تلك السنة مع بعض الأصدقاء في السلوك بالتشرّف بأداء فريضة الحجّ عن طريق العراق ذهاباً و إياباً، و استغرق كلّ ذلك شهرين؛ زرت خلالها السيّد الحدّاد في كربلاء المقدّسة تكراراً و مراراً و استفدت من حالاته و معنويّاته. ثمّ تشرّف السيّد بالمجيء إلى الكاظميّة للتوديع و ذهبنا سويّاً إلى سامرّاء لزيارة الإمامين العسكريّينِ عليهما السلام، ثمّ عدت في معيّته إلى الكاظميّة و تحرّكت راجعاً إلى إيران بعد مراسم التوديع؛ حيث توقّفت عدّة أيّام في همدان في منزل سماحة الشيخ الأنصاريّ، و عدت بعد ذلك إلى طهران.
كانت روابط الطاعة و الولاء لهذا الرجل الإلهيّ الجليل و ثيقة و قويّة و مؤثِّرة، حتّى التحق بدار الخلود يوم الجمعة الثاني من شهر ذي القعدة الحرام لسنة ۱٣۷٩ هـ، بعد الظهر بساعتين على أثر جُلطة في الدماغ و ذلك في سنّ التاسعة و الخمسين، و كنت حاضراً عنده حين احتضاره، إذ كنت قد ذهبتُ إلى همدان قبل ذلك بيومين. ثمّ حُمِلَتْ جنازته إلى قم فطيف بها حول قبر السيّدة المعصومة سلام الله عليها، ثمّ دفن منتصف الليل في مقبرة عليّ بن جعفر. و قد نزل الحقير معه إلى قبره و فتحتُ الكفن عن وجهه فوضعته على التراب، ثمّ قبّلت وجهه المنوّر القُبلة الأخيرة و خرجت من القبر.
الادلّة الخمسة لبعض مَنِ ادّعى عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله
هذا و قد نشب بين الرفقاء في طهران من مريدي سماحة الشيخ الأنصاريّ اختلاف شديد بعد رحلته؛ فكان الحقير يصرّ على أن لا مفرّ من وجود استاذ لطيّ هذا الطريق و سيره و سلوكه، و أنّ الوديان و المهاوي العميقة المهلكة و العقبات و المرتفعات الشاقّة الصعبة لا يمكن تخطّيها
و عبورها إلّا بواسطة الاستاذ، و أنّ طيّ الطريق بتهوّر لن يكون من عاقبته إلّا الشقاء و الهلاك و السقوط أسيراً في وادي إبليس و منعطفات النفس الأمّارة تسحقه و تتوطّأه فيها أقدام الشيطان الرجيم.
و كان هناك شخص من مريدي المرحوم الأنصاريّ قدّس الله سرّه و المتردّدين على محضره، و كان قبل ذلك يتردّد على المرحوم القاضي قدّس سرّه، لكنّه كان -أساساً- تلميذاً و ملازماً للمرحوم السيّد عبد الغفّار المازندرانيّ في النجف، و اسمه...، و لا يزال بحمد الله على قيد الحياة حتّى الآن. و قد قام هذا الشخص بمخالفة اقتراح الحقير و بدأ معارضته فكان يتحدّث في مجالس و محافل انس الأصدقاء ببيان جذّاب ملفت للأنظار، يمكنه بسهولة أن يستلفت إليه أفكار السالكين و خاصّة غير المتعلّمين و الدارسين منهم، طارحاً بإلحاح مسألة عدم الحاجة إلى استاذ؛ و كان كلامه و حديثه يتضمّن عدّة مطالب:
الأوّل: إنّ الاستاذ الحقيقيّ هو إمام العصر و الزمان عجّل الله فرجه الشريف، و هو حاضر و ناظر و حيّ و محيط بعالمنا، فهو مطَّلِع على امور كلّ سالك و حالاته، فهو يوصله على أكمل نحو و أتمّه إلى نتائج السلوك. و نحن الشيعة مكلّفون أن نذكره في الأدعية و الزيارات، فنسلّم عليه و نعرض حاجاتنا عليه لهذا السبب. أ وَ ليس من الخطأ -مع الاعتقاد بالإمام الحيّ و الدعاء بتعجيل فرجهـ أن تُطلب الحاجات من غيره و يُستمدّ العون من استاذ سواه؟! أ وَ ليس من المخجل -مع وجود الإمام الحقيقيّ الممتلك للولاية الكلّيّة الإلهيّة- أن يمدّ الإنسان يد الاستعانة إلى الاستاذ الذي هو مثله يخطئ و يسهو؟!
الثاني: إنّ ما يعلّمه الاستاذ للإنسان ليس إلّا ظهورات نفسه هو؛ و حقّاً! أ يمكن لأحد أن يتخطّى حدود نفسه و يتجاوزها؟!
لذا، فإنّ التبعيّة للُاستاذ تمثّل متابعة أفكاره و آرائه، و الجري على نهجه و طريقه النفسانيّ، و هو أمر خاطئ بلا ريب. لأنّ الله سبحانه خلق الإنسان فوهبه قوّة الاستقلال و التعقّل بنفسه؛ أ فليس من الحيف و الظلم أن يحطّم الإنسان هذه القدرة، و يقضي على العزّة و الاستقلال الموهوبَينِ من الله، فيصبح تابعاً لشخص هو مثله لا غير؟!
الثالث: لقد وهب الله تعالى للإنسان القوّة التي يمكنه بها الاتّصال بعالَم الغيب و اكتساب حاجاته منه، و على الإنسان أن يصل إلى الحقائق عن طريق المكاشفات؛ لذا فإنّ التبعيّة للعلماء أمر خاطئ أيضاً، لأنّهم يحصلون على الأحكام من عمليّات الإضافة و الطرح و الضرب و القسمة، و يجعلون الأحكام عن طريق صياغة القواعد، فالتبعيّة لهم لن توصل الإنسان للحقيقة. و كيف -يا ترى- يرجع الناس إلى ذلك العالِم الذي يفتقد نفسه العلم فلا يعرف طريق صرف الوجوه الشرعيّة في مظانّها فيستأمنونه على أموالهم و حقوقهم؟! لذا فإنّ على الجميع أن يسيروا بالتزكية و الأخلاق الإنسانيّة و الإسلاميّة فيوصلوا أنفسهم إلى الملكوت و يأخذوا أحكامهم الضروريّة منه.
الرابع: إنّ روح المرحوم الأنصاريّ حيّة، و إنّها تدرك معاناة الرفقاء و عشّاق الدرب و طريق الله فتعينهم. على أنّ قدرة روح سماحة الأنصاريّ أقوى بعد موته، لأنّها قد خلعت لباس عالم الكثرة و لَوَث الطبيعة و وصلت إلى التجرّد المحض الأبديّ؛ و سيكون -لذلك- في صدد تكميل رفقائه السلوكيّين على نحو أفضل و أشمل و أسمى.
أ وَ لم يكن زمن حياته بسعته و امتداده مراقباً و مواظباً لحال رفقائه في اليقظة و النوم، و في السرّ و العلن، و في الغياب و العيان، و في السفر و الحضر؛ مع أنّه كان أسير عالم الطبع و البدن و الطبيعة؟ أ فيمكن أن
لا يدير امور رفقائه بشكل أفضل؟ مع أنّه من المسلّم أنّ تجرّده بعد موته أقوى، و إحاطته أكثر، و علمه أوفر؟! و من ثمّ فإنّ الرجوع إلى غير الأنصاريّ هتك لحرمة الأنصاريّ و كسر لحريمه، و هو ذنب لا يغتفر.
الخامس: إنّ المرحوم الأنصاريّ نفسه لم يكن له استاذ، فقد سمع الجميع قوله: «لم أتتلمذ على يد استاذ؛ و لقد طويتُ هذا الطريق بلا دليل و لا معلم». و حين يقرّر هذا الأمر ذلك المرحوم الذي تعترفون باستاذيّته و بقدرته على فهم أسرار البشر، فكيف تريدون استاذاً؟! أ صرتم تفوقونه في الإخلاص و المعرفة مع أنّكم تلاميذه و مريدوه؟!
و لقد كان هذا الشخص المحترم يسكن كربلاء، و قد جاء أخيراً إلى طهران للزيارة، و كان له مع الرفقاء من أهل طهران روابط عميقة، ثمّ عاد بعد ذلك إلى كربلاء. و قد ذكرتُ أنّه كان من ملازمي المرحوم السيّد عبد الغفّار المازندرانيّ، أحد العُبّاد المعروفين في النجف من أهل الزهد و التقوى، و كانت تحصل له أحياناً مكاشفات مثاليّة و صوريّة؛ لكنّه كان مخالفاً بشدّة لأهل التوحيد، و كان يُدين في مجالسه و محافله العرفاء الأجلّاء الإلهيّين الأعزّاء و أهل التوحيد ببيانه و سيرته.
و كان سماحة السيّد الحدّاد يقول: قال لي سماحة السيّد يوماً (و يعني السيّد القاضي): لقد كان لي مع السيّد عبد الغفّار علاقات صداقة نوعاً ما، لكنّه شرع الآن بالمعارضة بكلّ قواه. و كنتُ دوماً اسَلِّمُ عليه حيثما التَقَيْتُه في الطريق، فصرتُ أخيراً اسلِّم عليه فلا يردّ عَلَيّ؛ و لذا فقد عقدت العزم أن لا اسلِّم عليه بعد الآن. و قد نقل نفس هذا الأمر سماحة الشيخ القوجانيّ و أضاف: لم يكن السيّد عبد الغفّار من أهل التوحيد، بل كان يكتفي بالأدعية و الأذكار و التوسّلات و الزهد.
ادّعاء البعض أنّ المراقبة و الذِّكر و التأمّل و المحاسبة أمر خاطي
نعم، لقد أثار ذلك الشخص المحترم تلك الضجّة في طهران، و التي
أيّده فيها بعض الرفقاء في طهران ممّن كان يمتلك مقاماً في السلوك (و قد ارتبط معه مؤخّراً بعلاقات النسب)، فصار هو الآخر يتحدَّث في الجلسات و الاجتماعات عن عدم الحاجة إلى استاذ.
و كان لهما -مضافاً إلى ذلك- مخالفة شديدة في أمرين آخرين:
الأوّل: عدم الحاجة، بل عدم صواب الالتزام بالذِّكر و الورد و الفكر و المحاسبة و التأمّل و المراقبة، بل خطأ ذلك.
والثاني: خطأ الرياضات المشروعة، و أيّ التزام في نوعيّة و كمّيّة الغذاء و الصيام و صلاة الليل و أمثال ذلك؛ و كانا يسعيان لإثبات رأيهما ببيانات شيّقة و جذّابة و مفصّلة تدوم أحياناً ساعات متتالية.
و كان الحقير زمن ارتحال آية الله الأنصاريّ في سنّ الخامسة و الثلاثين، و كان ذانك الشخصان بمثابة الأب لي من ناحية العمر؛ فقد كانا أكبر منّي سنّاً و أميل إلى سنّ الشيخوخة، فكنت غالباً ما ألتزم جانب السكوت و الإصغاء في المجالس، و لم يكن لي أساساً مجالٌ و استعداد لإثارة الجلبة و الضجّة، و لربّما كنت أحسّ بقدر من الاحترام لهما باعتبار سابقتهما، ممّا سبّب في أن تصبح تلك المجالس خاضعة بأجمعها لنفوذهما و تأثيرهما، حتّى أنّ بعض المعمّمين من الذين تربطهم بالحقير نسبة سببيّة و بعضاً من الرفقاء التجّار شغفوا بأجمعهم بذلك الاسلوب و تلك الطريقة.
و بالطبع فقد كنتُ أذكّر تكراراً و مراراً، بالنسبة لذينك الشخصين المحترمين و بالنسبة إلى البعض الآخر منهم، أنّ هذا الاسلوب ليس صحيحاً و أنّ الحاجة إلى استاذ و الالتزام بالذِّكر و المراقبة و التأمّل هي من أركان السلوك، فلا يمكن بدونها أن تُخطى خطوة واحدة للأمام. و أنّ التجمّع و السهر حتّى الصباح بقراءة أشعار حافظ و ذكر الصالحين و سيرة الطالبين
و إثارة المجالس بهذا النحو، ثمّ تناول طعام العشاء و الانشغال بهذه الامور إلى وقت متأخّر من الليل، ثمّ النوم بلا تهجّد، و القناعة و الاكتفاء بفريضة صلاة الصبح وحدها؛ كلّ هذا لن يصحّ دواءً لداء، و لن يُزيح عقبة من أمام أقدام السالك. و بالطبع فإنّ هذه المجالس ستكون جيّدة لو اقترنت بالتعاليم السلوكيّة العميقة من المشارطة و المراقبة و المحاسبة، بالشكل الذي يجعل السالك في السوق و إلى جانب الميزان و في المعاملات التجاريّة و سائر الامور الاخرى في نشاطٍ و مراقبة كما هي حاله في هذه المجالس! لا أن يذهب صباحاً إلى عمله بلا التزام و رقابة باطنيّة، فيقوم ببعض المعاملات الربويّة و المصرفيّة و المعاملة بالصكوك و الكمبيالات، أو أن يرتكب لا سمح الله عملًا غير صحيح و صائب أثناء عمله و في زحام السوق و المعاملة، فيتحلّل من كلّ قيد و يفعل ما يحلو له، ثمّ يُبهج نفسه بحضور الجلسة الليليّة! فهذا الاسلوب خاطئ لا ميزة له و لا فضيلة، بل يؤدّي إلى إتلاف العمر و الانشغال ببعض الامور التي تستهوي القلوب، شأنه في ذلك شأن سائر الطبقات الاخرى.
و لقد أوضح الحقير هذا الأمر و بيّنه لمشرفي تلك الجلسات و مديريها واحداً واحداً (لا لجميع الأفراد فرداً فرداً) بالرغم من قيامي في بعض المجالس بتفسير القرآن حسب طلب الرفيق و الصديق الشفيق و العاشق الحقيقيّ للإمام الحسين عليه السلام المرحوم الحاجّ المشهديّ هادي خان صنمي الأبهريّ، ذلك الشيخ الواله المتحمّس المحزون صاحب القلب المضني الأسير، الذي كان يحبّ قراءة القرآن و تفسيره في الجلسات، فكان يطلب منّي القيام بذلك؛ فكنت اشير ضمن بيان التفسير باستمرار إلى جميع نقاط ضعف اسلوب و أفكار اولئك السادة بشكل إجماليّ و عامّ، و كانت هذه التفاسير تصل بالطبع إلى آذان الجميع فتتمّ الحجّة بذلك عليهم.
الردّ على الادلّة في عدم الحاجة للُاستاذ مع وجود إمام العصر عجّل الله فرجه
هذا و قمت مرّات عديدة برفض تلك الأدلّة الخمسة، و صار ثابتاً للجميع أنّ ما يقوله الحقير صحيح و صائب.
أمّا الجواب الأوّل فهو: من الصحيح أنّ إمام العصر و الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف حيّ و حاضر و ناظر لجميع الأعمال، و أنّ له الولاية الكلّيّة الإلهيّة حسب عقيدة و إيمان الشيعة، فهو تكويناً و تشريعاً في مصدر الولاية و منهل الأحكام و جريان الامور؛ و لكن هل يُغلِق هذا الاعتقاد و العقيدة طريقنا إلى الاستاذ؟! أ وَ يوصلنا -بلا تعليم منه و بلا إطاعة لإرشاداتهـ في طريقنا في السير و السلوك إلى مقصدنا؟! أ وَ يجعلنا نطلب العون من إمام العصر و الزمان فقط دون سواه و هو الغائب عن أنظارنا فلا مجال لنا في الظاهر للاتّصال به؟!
لما ذا -يا ترى- لا نفعل هذا الأمر في سائر المسائل الاخرى؟! لما ذا نذهب فنبحث عن استاذ في دراسة الحديث و التفسير و الفقه و الاصول و جميع العلوم الشرعيّة في الحكمة و الأخلاق، فنختار أفضل الأساتذة و أعلمهم في فنّهم، و نقضي السنين المتمادية بل العمر كلّه تحت تعليمه و تدريسه؟! إن كان وجود إمام العصر و الزمان يغنينا عن الاستاذ، فَلِمَ لا يغنينا في هذه العلوم؟ في حين تعتقدون و تدّعون أنّ إمام العصر له الإحاطة العلميّة، بل الإحاطة الوجوديّة بجميع العالم و مخلوقاته و جميع علومه و أسراره و بغيب الملك و الملكوت، فلما ذا إذاً تعدّونه فاقداً للإحاطة في مثل هذه العلوم؟! ثمّ تتحمّلون آلاف المحن و المصاعب و الأسفار الطويلة إلى النجف الأشرف، و العيش في حياة بسيطة قاسية، و قضاء سنين متمادية في جوّ النجف و حرارته اللاهبة و تنفّس العواصف الرمليّة السامّة التي تقتلع الرمل و الحصى من الأرض فيغبرّ لها الجوّ و يظلمّ و يستحيل النهار ليلًا بهيماً، ثمّ تعيشون في السراديب العميقة ذات السلالم التي يصل
عدد درجاتها إلى اثنتي عشرة درجة أو خمساً و عشرين أو خمسين؛ كلّ ذلك لتحصيل العلم، و من أجل أن تصبحوا أخصّائيّين مجتهدين، و فلاسفة و مفسّرين، و محدِّثين و ادباء بارعين.
فلو جلستم في بيوتكم و اكتسبتم هذه العلوم عن طريق التوسّل بإمام العصر و الزمان لكان أيسر لكم و أسهل كثيراً!
فهل تكون العلوم الباطنيّة و العقائد و المعارف و الأخلاق، و المرتفعات العسيرة الصعبة العبور إلى عالم التوحيد، و بيان منجيات الدرب و مهلكاته، و إراءة طرق التسويلات الشيطانيّة و كيفيّة التخلّص منها، و معرفة حقيقة الولاية و درجات التوحيد في الذات و الاسم و الصفة و الفعل و أمثالها أهمّ؛ أم دراسة الصَّرف و النحو و الأدب و الفقه و التفسير و الحكمة؟ ستقولون جميعاً: إنّ الأمر الأوّل أهمّ، لأنّ كمال سعادة الإنسان و شقائه مرتبط به.
و نسأل: كيف يعسر على إمام العصر العمل في مثل هذه الامور غير المهمّة و في هذه العلوم الظاهريّة السطحيّة، فتشيدون لأجلها المدارس و المساجد و المكتبات و تتحمّلون مشقّة الأسفار الخطيرة؛ بينما يتمكّن من ذلك في تلك الامور الأهمّ و الأدقّ و الأعظم، فتفوزون بها بلا سبب و لا وسيلة؟! لا مفرّ من أن تجيبوا أن ذلك متعذّر على إمام العصر في الأمرين و الحالين، أو أنّه لا يتعذّر عليه في كليهما معاً!
أمّا حلّ المسألة: فهو إنّ جميع الامور و الشؤون في يده المباركة، لكن هذا الأمر لا يستلزم تعطيل سنّة الأسباب؛ كما أن جميع الامور بِيَدِ الله و لم يستلزم ذلك تعطيل سلسلة الأسباب و المسبّبات، و ذلك لأنّ الأسباب و المسبّبات هي تحت الإحاطة الشاملة لعالم التوحيد و الولاية. فالسعي للتعلّم سواء في الامور الظاهريّة الفقهيّة أو في الامور الباطنيّة الوجدانيّة
خاضع للإحاطة التكوينيّة و التشريعيّة في كلا الحالين.
و من ثمّ فإنّ البحث عن استاذ و الانضواء تحت سيطرته و تربيته، ليس فقط غير منافٍ لولايته عليه السلام، بل هو مؤيّد و مُمْضٍ و ممدّ لذلك النهج و تلك الطريقة في نزول النور من عالم التوحيد إلى هذا العالم.
و لو صحّ أمر عدم الحاجة للُاستاذ في العلوم العرفانيّة -حسب منطقكم- للزم منه استغناء الناس عن الاستاذ في جميع الصنائع و الحرف من النجارة و البناء و الطبّ و الصيدلة و التعدين و سائر العلوم الطبيعيّة، و حلّهم مشاكلهم بتوجّههم للإحاطة العظيمة الولائيّة لإمام العصر عليه السلام. أ وَ يُقنع هذا الكلام أيّ إنسان -حتّى المتوحّش في الغابات- فيلتزم به؟! أ وَ يمكنه أن يجعله برنامج حياته و معيشته؟!
أمّا جواب الإشكال الثاني: فصحيح إنّ من يتابع الاستاذ، فإنّه سيتبع طريقته و اسلوبه النفسيّ، لكنّه في المقابل لو عمل وفق رأيه هو، لكان قد عمل بطريقته و وفق هوى نفسه. فالكلام ينحصر في الأمر التالي: أيّهما أفضل في إيصال الإنسان إلى المقصود، ولاية الاستاذ و نفسه الروحانيّة و الملكوتيّة، أو نفس السالك في بداية الطريق: تلك النفس الملوّثة و الفاسدة؟!
فلو تبع ولايةَ الاستاذ لصارت نفس الاستاذ هادية لوجود السالك؛ و لو عمل بإرادته و اختياره هو -مع تلوّثهـ لصار قائداً و هادياً لنفسه. هذا مع الافتراض أنّه سالك و ليس رجلًا كاملًا، و أنّه يسير في الطريق و لم يطوه بعد؛ لذا فإنّ رغباته ستنبع من النفس الأمّارة و التسويلات الشيطانيّة، و سيكون غروره و استقلاله أشبه بغرور النفس البهيميّة و استقلالها، يضرب و يكتسح و يكسر و يدمّر، كالحيوان الهائج و كالفرس بلا عنان، لكنّ الاستاذ يأتي فيلجمه و يضع عليه العنان و الركاب فيصبح مروّضاً
جاهزاً للقيادة.
لقد عمل أمثال نيرون و شابور ذي الأكتاف و هتلر و بلعم باعوراء و جميع المستكبرين في كلّ عصر و زمان بقوّة استقلالهم النفسيّ، و كانوا لا يخضعون لُاستاذ و مربٍّ أخلاقيّ؛ فجرّوا العالَم بنفسهم الأمّارة إلى الدمار و سفك الدماء و الويلات، و ارتكبوا فيه المجازر و أحالوه جحيماً لا يُطاق.
لكنّ اولئك أنفسهم لو خضعوا لولاية الاستاذ و تبعوا سيره النفسيّ لتحطّم غرورهم و انهار كبرياؤهم و استبدادهم، و لصاروا أمثال سلمان الفارسيّ و رُشَيد الهَجَريّ و إبراهيم الأدهم و نظراءهم.
لم يكن لمعاوية فرق مع حِجْر بن عُدَي سوى أنّ الأوّل كان يعمل بإرادته المستقلّة، و كان الثاني يخضع لتربية الاستاذ؛ فصار ذلك جهنّماً و آل هذا رضواناً.
أ فتمثّل مسألة الشيطان و الغرور و جهنّم في الآيات القرآنيّة غير مسألة النزوع إلى الاستقلال و رفض الخضوع إلى التعليم و التربية؟!
الردّ على الإشكالات الثلاثة الأولى في عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله
أمّا الإجابة على الإشكال الثالث: فصحيح أنّ هناك قوّة أودعها الباري في غريزة الإنسان و فطرته يمكنه بها الاتّصال بعالَم الغيب، و لكن هل هذه القوّة موجودة بالفعل في جميع سكّان العالم؛ أم أنّ هذه القابليّة تكتسب فعليّتها إثر تربية الاستاذ و تعليمه، فتتجلّى إذ ذاك هذه القابليّة و تتفتّح هذه البراعم الكامنة في أكمامها؟!
أ يمتلك -يا ترى- جميع البشر، العالِم فيهم و العامّيّ، و الشريف فيهم و الوضيع، هذه القدرة التي يمكنهم بها اكتساب الحقائق من عالم الغيب؛ أم أنّ هؤلاء قلّة لا يمكن العثور على أحدهم و لو بين عدّة ملايين؟! و من ثمّ فهل ستثمر الإحالة إلى عالَم الغيب إلّا الإحالة إلى الشيطان و الخواطر الإبليسيّة في طيّ الطريق، و إلى أوهام و أفكار الجنّ
المتمرّدين، و إلى التسويلات الضالّة و المضلّة للنفس الأمّارة؟!
إنّ طريق كسب الأحكام في زمن الغَيبة هو الطريق المعهود للفقهاء، و على عامّة الناس أن يأخذوا الأحكام عن طريق التعلّم و التعليم و الدرس و التدريس و بيان روايات الأئمّة المعصومين، و أن يسيروا على نهج الفقهاء و يقتفوا آثارهم. و هو أمر تقرّه الأدلّة القطعيّة و الشواهد اليقينيّة، و طريق أوحد لا يوجد سواه تبعاً لضرورة الإجماع المسلّم للمسلمين و لجميع الشيعة. فلا مناص لعامّة الناس إلّا في الرجوع إلى العلماء و الفقهاء، و إلّا لهَوَوا في فم الشيطان الفاغر، فصاروا لقمةً سائغة يزدردها دفعة واحدة.
الردّ على الإشكال الرابع في عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله
أمّا الإجابة على الإشكال الرابع: فإنّ هذا الاستدلال هو عينه استدلال عمر حين قال أن لا حاجة لنا بعد رسول الله بالإمام الحيّ؛ فسنّة رسول الله في أيدينا و كتاب الله يكفينا: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، كَفَانَا كِتَابُ اللهِ.
فإن كانت روح آية الله الأنصاريّ كافية بعد موته للقيام بتدبير امور العالَم الظاهريّ، فلا حاجة لُاستاذ حيّ حرّ مهذّب منزّه عن هوى النفس، فلِمَ أورد رسول الله صلى الله عليه و آله كلّ هذه التعليمات و التأكيدات و البيانات و الخطب في الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام؟ و لِمَ أخّر تلك الجموع الحاشدة عند الرجوع من حجّة الوداع في رمضاء الصيف في الجُحفة في بقعة غدير خم، ليخطب فيهم تلك الخطبة الغرّاء البليغة؟ أ كانت روح آية الله الأنصاريّ أقوى أم روح رسول الله؟!
و لِمَ أوصى أمير المؤمنين عليه السلام للإمام الحسن المجتبى؟ و لِمَ أوصى كلّ إمام من الأئمّة عليهم السلام للإمام الحيّ الذي يليه؟ و ها نحن في زمننا هذا نقول بوجود الإمام الحيّ؟ و نعتقد أن قضاء الحاجات و قبول التوسّلات و تدبير امور العالَم بِيَدِ وليّ الله المطلق الأعظم الحجّة بن
الحسن العسكريّ أرواحنا فداه؛ بالشكل الذي يرجع فيه التوسّل بكلّ إمام و وليّ متوفّى إليه عليه السلام، فيجتمع رتق الامور و فتقها بِيَدِه المباركة.
و لِمَ عمد كلّ نبيّ إلى تعيين وصيّ له و خليفة من بعده؟ فلقد كان يكفي -حسب قولكم- أن يقول لجميع الامّة: إنّ روحي ستصبح أقوى بعد موتي و إنّها ستصبح أكثر تجرّداً، و سأعينكم و أهديكم إلى معارج الكمال و مدارجه أفضل ممّا كنت أفعل أيّام حياتي؛ فلا حقّ لكم أن ترجعوا إلى أحد من عظماء امّتي المعنويّين و الروحيّين، بل ادعوا أن يُعجَّل لي بموتي ليزداد تجرّدي و يمكنني إذ ذاك أن اربّيكم تربيةً أفضل و أكثر خلوصاً و نزاهة!
أستحلفكم بالله! أ ليس هذا هو مفاد ذلك القول و لا شيء آخر سواه؟! أ وَ يمثّل مجمل كلام عمر و عصارته شيئاً غير هذا؟!
فيا أيّها العزيز! إنّ من الثابت الذي لا شكّ فيه حسب الأدلّة الفلسفيّة و البراهين الحكميّة و المشاهدات العينيّة و الروايات و الأحاديث الواردة، أنّ جميع الموتى بلا استثناء يصبح تجرّدهم بعد موتهم أكثر، أي إنّهم يتوغّلون أكثر في فناء التوحيد في الذات؛ و هذا ما يستلزم انصرافهم عن عالم الطبيعة، بل و انصرافهم عن عالم المثال و الصورة، و لهذا فإنّ البرهان القطعيّ قائم على ضرورة و وجوب وجود الإمام و المربّي الحيّ إلى يوم القيامة؛ فلو لم تتّصلوا بالمربّي الحيّ و لم تعملوا بتعاليمه و تقتفوا آثاره، و جلستم إلى يوم القيامة في انتظار أن تربّيكم روح الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، لرحلتم عن هذه الدنيا بأيدٍ خالية تجترّون حسرة الندامة! و لبقيتم كالثمرة الفجّة التي لم تنضج بعد! و لربّما انحدرتم من حيث لا تشعرون في مهاوي النفس الأمّارة و الشيطان، تحسبون أنّكم قد نلتم الرقيّ و الرفعة؛ بينما تُبتلون بعقاب الله الدنيويّ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ
لا يَعْلَمُونَ﴾!۱
فلِمَ تنتظرون إفادات و إفاضات المرحوم الأنصاريّ قدّس الله نفسه بعد وفاته؟! أ وَ لم تكن منذ هبوط آدم على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام إلى الآن روح أفضل و أقوى منه و أكثر تجرّداً؟ و لِمَ لا تنحازون إلى روح نوح عليه السلام فتقولون: إنّ تجرّده بعد الموت أفضل، لذا فإنّ بإمكانه أن يدير امورنا أفضل، فلا حاجة لنا معه إلى مربٍّ حيّ؟! و لِمَ لا تتوسّلون بموسى و عيسى عليهما السلام؟ أ وَ لم يكونا من الأنبياء اولي العزم؟
إنّ دليلِي الواضح القاطع هو: هل قمتم بتربية شخصٍ موحِّد واحد كنموذج لما تدّعونه منذ زمن ارتحال آية الله الأنصاريّ في الثاني من ذي القعدة ۱٣۷٩ هـ. ق و حتّى يومنا هذا: الرابع و العشرين من شهر رجب المرجب لسنة ۱٤۱٢ هـ. ق، حيث تنقضي مدّة ثلاث و ثلاثين سنة؟! و هل ربّيتم شخصاً اجتاز عالم المثال و العقل و وصل إلى التجلّيات الذاتيّة؟! أرونا إيّاه لطفاً، فها هم عشّاق وادي الحقيقة يبحثون عن شخص كهذا شارعاً فشارعاً و بيتاً فبيتاً! فاعلموا إذاً أنّ هذا الدرب خاطئ، و أنّه ليس إلّا درباً للظُّلمة! و أنّ تحمّل مسؤوليّة تربية جماعة ثمّ تركهم أحراراً و إيكالهم إلى إرادتهم و اختيارهم بلا مربٍّ و لا معلِّم ليس إلّا تضييعاً للنفوس القابلة، و إبطالًا للموادّ المستعدّة.
الردّ على الإشكال الخامس في عدم ضرورة الاستاذ في السير إلى الله
أمّا الإجابة على الإشكال الخامس: فإنّ ما يستفاد من بيانات سماحة الشيخ الأنصاريّ أنّه قد حضر عند الأعاظم، و من جملتهم رجلٌ مجذوب
كان يأتي إلى همدان فيجني من جبال «ألبُرْز» عشباً خاصّاً فيجمعه؛ كما كان يتردّد كذلك على بعض تلامذة المرحوم آية الله الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ قدّس الله تربته، كالسيّد الحاجّ حسين الفاطميّ و السيّد الحاجّ محمود، و كان له معهم مذاكرات و مباحثات.
و مضافاً إلى ذلك فإنّ طريق ذلك المرحوم لم يكن صحيحاً في بداية أمره؛ فقد قال للحقير مرّة: «حين ذهبتُ إلى قم للدراسة كنتُ في محاربة أهل العرفان، و كان لي خصومة شديدة مع أحد المعروفين منهم في همدان، الذي كان يدّعي هذه المطالب. و كنتُ بعد ذهابي إلى قم امارس بعض الرياضات لتسخير الأرواح و الجانّ، لكنّ الله رحمني فأنقذني من وسط هذا الطريق الضالّ، و هداني نحو الحقّ و الحقيقة و العرفان الإلهيّ؛ و كانت مشيئة الباري أن يمنَّ على هذا العبد الضعيف بهدايته». ثمّ أضاف: «من كان له اتّصال بالجانّ -و لو بمسلميهم- فسيرحل عن الدنيا كافراً في النهاية».
مشكلات المرحوم الانصاريّ هي التي جعلت رحيله في سنّ التاسعة و الخمسين
و كان رحمه الله يقول: «و بعد أن بصَّرني الله تعالى بخطأ ذلك الاسلوب و أنّ طريق الحقّ في عشق الله و العبوديّة له، بقيت وحيداً لا أعلم ما العمل، و كيف الخلاص! فكنت أهيم على وجهي في الجبال و البراري وحيداً إلى غروب الشمس، و دام تحيّري و ضياعي على هذا المنوال أربعين أو خمسين يوماً، حتّى بلغت أقصى درجات الاضطرار، فحُرِمت الطعام و النوم؛ ثمّ برقت في قلبي في تلك الحال بارقة الرحمة، و داعبني النسيم العليل من عالم الربوبيّة، فاستطعت أن ابصر طريقي».
و كان هذا الاكتشاف للدرب هو الذي فتح له باب المكاشفات، ثمّ وصل أخيراً إلى المقصد و صار يمتلك التوحيد الذاتيّ الإلهيّ. و لكنّ رفقاءه من همدان يعلمون وحدهم أيّ محن و مشاكل قد تحمّل في سبيل ذلك، ثمّ
رحل و هو في عنفوان الرشد و الكمال الروحيّ و قد أينعت ثمار شجرة التجرّد التامّ و التوحيد الكامل لديه؛ أي في سنّ التاسعة و الخمسين۱. و بالتأكيد فإنّه لو كان قد اهتدى في سلوكه إلى استاذ كامل لأزاح جميع هذه المشاكل و العقبات من طريقه، و لعمّر إلى سنّ السبعين أو الثمانين كأغلب العظماء، مثل المرحوم الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ و الشيخ محمّد البهاريّ الهمدانيّ و الحاجّ الميرزا علي القاضي.
إن أفضل دليل على الحاجة للُاستاذ هو قول ذلك المرحوم نفسه: «لقد بحثتُ طويلًا في قم بلا جدوى، عن استاذ كامل خبير ينفعني و يُشير لي إلى طريق العلاج و الخلاص، لذا فقد أصبت بمحنة و قادتني المحنة و الاضطرار».
و لو وجد المرحوم استاذاً في بلدة قم الطيّبة آنذاك، لرجع إليه
بلا تأخير؛ و كان بنفسه يقول: «كان المرحوم آية الله الميرزا جواد قد رحل عن الدنيا آنذاك».
و لو انتفت الحاجة للُاستاذ، فكيف كان المرحوم الأنصاريّ يعتبر نفسه استاذاً للطريقة و يعطي طريقةً للعمل؟! و لقد أعطى للحقير تعليمات في النجف الأشرف حين قدم إليها للتشرّف بالزيارة، و كان يبعث لي بتعليماته خلال إقامتي في النجف الأشرف بعد زيارته لها -و دامت أربع سنوات- و بعد عودتي إلى طهران طيلة السنوات الثلاث التي سبقت رحلته، حتّى أنّه أعطى للحقير الأوراد الواردة التي لم يعطها لأحد سوى المرحوم آية الله الشيخ حسن علي نجابت و حجّة الإسلام السيّد عبد الله فاطمي الشيرازيّ.
الردّ على القائلين بأنّ الذِّكر و الوِرد و التأمّل و الرياضات المشروعة أمر خاطيء
و أمّا الردّ على ذلك الشخص الآخر الذي ينتمي إلى ذاك المحترم بعلاقة سببيّة، و الذي يصرّ على عدم ضرورة الرياضات الشرعيّة، و على إنكار الذِّكر و المراقبة و المحاسبة و التأمّل، بل يعتبر هذه المسائل أمراً خاطئاً مغلوطاً، مضافاً إلى نفيه لضرورة وجود الاستاذ؛ فقد كان الحقير يلفت نظره إلى ذلك تلميحاً لا تصريحاً، فلم يكن ذلك ليجدي نفعاً، فقد كان حاله في وضع يجعله عاجزاً عن القبول بهذه الامور. و لقد جاء يوماً قبل سنتين إلى البيت المتواضع للحقير في مشهد المقدّسة يصحبه اثنان من رفقائه و أصدقائه، فشرع بدون مقدِّمة بانتقاد أمر اتّخاذ الاستاذ و انتقاد الذِّكر و الوِرد و انتقاد الرياضات المشروعة المتداولة، فرأيتُ أنّ السكوت هنا ربّما أدّى إلى إضلال رفيقَيهِ الآخرينِ، فقلت:
«سماحة الحاجّ ... سلّمه الله و أيّده! الجميع يعلم أنّ عملكم السابق هو الزراعة و الفلاحة، أ وَ ليس ذلك حقاً؟» أجاب: «بلى!».
فقلت: «إنّ الفلّاح يحرث الأرض أوّلًا، ثمّ ينثر البذور، ثمّ يسقي
الأرض بالماء، ثمّ ينقّي الحاصل بعد نموّه و اخضراره (باستئصال الأعشاب الضارّة التي تنبت قربه كي لا تقضي عليه) و يقوم عند إصابة الحاصل بالآفات برشّه بالسموم، و غير ذلك من الأعمال التي يقوم بها بالنسبة للأرض و البذر و النبات؛ كلّ ذلك ليجني محصولًا جيّداً و سالماً. أ وَ ليس الأمر كذلك؟» قال: «بلى».
قلت: «أ يمكن أن ينتج محصول بلا فلّاح؟ أ وَ يمكن عند وجود الفلّاح أن لا يقوم بهذه العمليّات، كأن لا يسقي الأرض، أو أن يسقيها فوق حاجتها، أو أن ينثر البذور ثمّ لا يغطّيها بالتراب، أو أن لا يقوم باستئصال الأعشاب الضارّة، أو أن لا يرشّ السموم و أدوية المكافحة؟! و ما الذي سيكون عليه وضع المحصول آنذاك؟ أ فلا تذهب أتعاب الفلّاح أدراج الرياح؟».
أجاب: «بلى!».
فقلت: «فكّروا جيّداً! هل الأمر هكذا أم لا؟».
ردّ قائلًا: «لا حاجة للتفكير، فما تقولونه واضح جليّ؛ فالنبات يحتاج للزارع الذي يجب أن يعمل ذلك!».
فقلت: «إنّ استاذ السير و السلوك -يا عزيزي!- هو ذلك الزارع؛ كما أنّ الوِرد و الذِّكر و المراقبة و المحاسبة و التأمّل هي الماء و الشمس و الأرض المناسبة، و الرياضة هي تحديد مقدار الماء و اقتلاع الحشائش الضارّة و إبعادها عن سيقان النباتات المفيدة كي لا تسلبها ثمرة حياتها و غذاءها».
ثمّ أردفتُ: «هل سبق لكم أن قمتم بتشذيب أغصان شجرة الكرم؟».
أجاب: «كلّا، فلقد كنت مزارعاً، و لم يسبق لي أن عملت في زراعة الأشجار و رعايتها». فقلت: «لا بدّ أنّ هناك قرب أرضكم الزراعيّة، بساتين للأشجار المثمرة -قلّت أو كثرت- و لا بدّ أنّكم شاهدتم أو سمعتم و علمتم
بشكل مُسَلَّم أنّ الشجرة تحتاج للرعاية و للبستانيّ، و تحتاج إلى تعاهد أرضها و تسميدها في أوقات معيّنة و بمقادير معيّنة، كما تحتاج لسقيها بالماء و تشذيب أغصانها؛ فإن اهملت و لم يقم بهذه الأعمال أحد، فإنّ هذه الأشجار ستصبح بلا تعاهد و رعاية كأشجار الغابات طويلة مرعبة لكنّها بلا ثمر، و لن تعطي آنذاك أشجار العنب و المشمش و التفّاح ثمراً، فإن أثمرت كان ثمرها فجّاً مُرّاً و صغيراً لا فائدة فيه. أستحلفكم بالله! أ ليس ذلك حقاً؟».
قال: «بلى!».
السلوك بدون الاستاذ و المراقبة و الذِّكر و الرياضات المشروعة ليس إلّا وهماً
قلت: «إنّ الاستاذ ليس موجوداً هيولائيّاً و غريباً موحشاً ذا قرون ليفرّ منه الناس، بل هو ذلك الفلّاح و البستانيّ الذي يلقّب في الزراعة و تعاهد النباتات بذلك الاسم، و يدعى في التربية الإنسانيّة بالاستاذ؛ كما أنّ الوِرد و الذِّكر و المحاسبة و المشارطة و المراقبة كالماء و الشمس بالنسبة للشجرة و النبات، و استئصال الحشائش الضارّة و تشذيب الأغصان كالرياضة، فهي للنبات بذلك الشكل و للإنسان بهذا الشكل.
إنّكم تتصوّرون أنّ الرياضة تعني مواجهة الجوع الشديد غير المحتمل و قضاء يوم كامل بتناول لوزة واحدة و أمثال ذلك! لكنّ الأمر ليس كذلك، بل هي بمعنى التربية، و لها مفهوم الترويض و التطويع. و في اللغة: رَاضَ يَرُوضُ رِيَاضَةً؛ أي التسخير و التذليل.۱
يقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام:
وَ أيْمُ اللهِ يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ لأرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إلى القُرْصِ إذَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَ تَقْنَعُ بِالمِلْحِ مَأدُوماً، وَ لأدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعُهَا.۱
فالإمام يقول هنا: إنّني ارَوضُ نفسي و اذلّلها و اربّيها بهذه الطريقة، فيا له من معنى كبير للرياضة أن تكون بمعنى التأديب!
إنّ النفس الإنسانيّة هيولائيّة، أي أنّها قابليّة محضة و استعداد صرف؛ فإن اهملت تربيتها سقطت في أحطّ الدركات و أسوئها، و فاقت في الوحشيّة كلّ شيطان و وحش مفترس، أمّا لو ادِّبت لارتقت إلى أعلى علّيّين و لفاقت الملائكة».
ثمّ قلتُ: «أ ليس الأمر كذلك؟» قال: «بلى!».
و لقد بُهِتَ من كلامي بهذا النحو، أمّا رفيقاه فاستبدّ بهما الوجد و الشغف، لكأنّ أمراً معضلًا لديهما قد انحلّت عُراه المستعصية. و لقد تصوّر الحقير آنذاك أنّ هذا البيان قد غيّر طريق هذا الشخص و نهجه، و أنّه ليس لديه ثمّة انتقاد لمسألة ضرورة الاستاذ و إعطاء الوِرد و الذِّكر و للمحاسبة و التأمّل، و لكن مع الأسف، فحين جاءوا إلى المنزل مرّة اخرى -بعد سنة تقريباً- و تطرّق الكلام إلى هذه المقولة، رأيتُ أنّه يكرّر نفس المطالب السابقة، فعلمتُ أنّ كلامي و بياني لم يستطع اقتلاع أساس أفكاره المسجّلة و استئصالها، و أنّ ذلك الاسلوب و النهج صار كالعادة التي لها حكم الطبع الثانويّ المقترن بروحه، و المتحوّل جزءاً من غرائزه.
نعم، لقد كان السرّ الحقيقيّ لإعلانات ذلك الرجل و تأييد الرجل
الثاني له لهذا الأمر هو عدم رغبتهما بالخضوع لولاية و هيمنة الاستاذ السيّد هاشم الحدّاد، مع أنّهما كانا يعرفانه حقّ المعرفة و يعترفان بمقاماته الروحيّة و كمالاته المعنويّة؛ ذلك الرجل الأوحد في سماء التوحيد و الولاية. و لم يكن بين تلامذة المرحوم الأنصاريّ شخص يتّفق الجميع على اتّباعه، لذا فقد ظهر هذا التشتّت و الاختلاف. لكنّ هؤلاء بقوا بلا استاذ فلم يلجأوا إلى ركن وثيق، كما أنّهم لم يستفيدوا من الاستاذ الحدّاد، و الناس حيارى لا مسلمون و لا نصارى، نعوذ بالله.
و لم تكن تلك الجماعة و ذلك الرجل المحرّك خاصّة ليجرؤوا في حضور الحقير على نقد سماحة السيّد الحدّاد، و لكن كان يطرق سمعي أحياناً أنّهم ينتقدونه باحترام و أدب فائقينِ. و حصل أن قال الحقير مرّة في أحد المجالس:
الحدّاد و ما أدراك ما الحدّاد؟! فوجم بعضهم و امتقع وجهه، و سمعتُ بعد ذلك أنّه قال للبعض: كيف يصف رجلًا بسيطاً عاديّاً بهذا الوصف؟!
ثمّ تطرّق الحديث ليلة إلى ذكر سماحة الحدّاد، فالتفت ذلك الشخص المحرّك نحوي قائلًا: إنّ الحدّاد يصف الله بالعُري؛ و الله لا يعرى!
فلم ينبس الحقير ببنت شفة، ثمّ رأيتُ ليلتها في عالم الرؤيا أنّه كان يواجهني فاتحاً فاهه بحيث تبدو أسنانه للعيان، و أنّي ضممتُ قبضة يدي اليمني و قلت له: إن عدت ثانية إلى الانتقاد في مسألة توحيد الحقّ تعالى فسأنهال بيدي على فمك و احطّم أسنانك فيه!
نعم! لقد كان ذنب الحدّاد أن يصف الله تعالى منزّهاً بلا رتوش و بلا تجميل، و يشخّص حقيقة معنى «لا إله إلّا الله» و «الله لا إله إلا هو»؛ و لكن ما جدوى ذلك مع الآذان الصمّاء و الأعين العمياء!
﴿وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.۱
﴿وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً﴾.٢
﴿ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾.٣
و لقد بقي الحقير عند ذلك وحيداً، فلم ينضمّ معي من تلك الجماعة التي كان جميع أفرادها يُظهرون المحبّة و الصداقة و يرتبطون معي بسابق المعرفة و لو شخص واحد. بقيتُ وحيداً بكلّ معنى الكلمة. لذا فقد رأيت أن لا مفرّ من اعتزال تلك الجماعة، و من أن يكون لي مجالس خاصّة مع بعض الشباب النزهاء البسيطين الفقراء من أهل المسجد على أساس استاذيّة سماحة السيّد الحدّاد و دوره في التربية.
و لقد حصل للحقير حتّى الآن مرّات عديدة لم يقبل فيها كلامي المحقّ و لو شخص واحد، فكنتُ أختار العزلة عن الجمع الكثير الذي ارتبط بكلّ فرد منهم بالعلاقات العائليّة المديدة أو بعلاقات الصحبة و الرفقة، و كان هذا المورد أهمّها.
و كنت في هذه الخلافات أحسّ و ألمس جيّداً مظلوميّة مولانا و جدّنا أمير المؤمنين عليه السلام، و كيف تُرِك وحيداً مع تلك السوابق و المعرفة الطويلة. و ذلك إثر صدعه بالحقّ و جهره بالصدق، بحيث توجّب على
حليلته فاطمة -إتماماً للحجّة على هذه الامّة التعيسة- أن تمتطي الدابّة ليلًا فتطرق بيوت المهاجرين و الأنصار تسألهم النصرة على أن يشهدوا بالحقّ. فكانوا يقولون: كلامك صحيح يا بنت رسول الله، و كلامك يا عليّ حقّ، و لكن قد مضت بيعتنا لهذا الرجل فلا مجال بعد لفسخها، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول عليّ كرّم الله وجهه [عليه السلام]: أ فكنتُ أدَعْ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم في بيته لم أدفنه، و أخرج انازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له؛ و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم.۱
نعم! لقد تنحّى أمير المؤمنين عليه السلام جانباً عن الجماعة المشركة العاصية لربّها، و أخلد في منزله للعزلة خمسة و عشرين عاماً لا يتجاوز أصحابه عدد أصحاب الكهف، قضاها محزوناً مَغيظاً:
صَبَرْتُ وَ في العَيْنِ قَذَى وَ في الحَلْقِ شَجَى.٢
و لقد اعتزل الحقير أيضاً جميع هؤلاء و قاطعت محافلهم و نهجهم و سيرتهم، و توكّلت على الباري ظاهراً و باطناً؛ و حقّاً فكم كان للمرحوم الحاجّ السيّد هاشم روحي فداه من كرامة و من موقفٍ نبيل! و كم أنجى من السقوط في المواقع الخطيرة و في مزالق المحيط و الامور الاجتماعيّة! و كم كان شبيهاً بالامّ الحنون حين كان يأتي من كربلاء البعيدة إلى طهران، يستوي لديه الليل و النهار! و كم كانت مساعداته صحيحة و في محلّها؛
استبان سرّ بعضها في آنه، و تبيّن بعضها فيما بعد تدريجيّاً، و اتّضح أمر بعضها الآن بعد ثمان سنين من رحيله، و الله يعلم ما سيظهر بعد!
خطاب الله سبحانه لاصحاب الكهف الذين آووا إلى الكهف
نعم، يقول الباري في شأن ذلك النفر القليل المؤمن الموحِّد من أصحاب الكهف الذين اعتزلوا الجمع و المجتمع المشرك و قدرته و هيمنته:
﴿وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً﴾.۱
و هذه الآية تلت الآية التي يصف الله سبحانه فيها حال اولئك القوم المشركين فيقول:
﴿هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾.٢
هذا، و لم يصحب الحقير في نهجه في متابعة السيّد الحدّاد إلّا الرفقاء الهمدانيّون الذين كانوا تلامذة المرحوم آية الله الأنصاريّ و من ملازميه ذوي السابقة و الخبرة، كالسيّد الحاجّ أحمد الحسينيّ الهمدانيّ رحمة الله عليه، والد الصديق العزيز الدكتور السيّد أبي القاسم الحسينيّ الهمدانيّ الطبيب في الأمراض النفسيّة و المقيم في مشهد المقدّسة منذ خمس و عشرين سنة، و المرحوم غلام حسين الهمايونيّ (الخطّاط المعروف) و المرحوم الحاجّ غلام حسين السبزواريّ، و الحاجّ محمّد حسن البياتيّ، و حجّة الإسلام و المسلمين السيّد أحمد حسينيّان، و الحاجّ إسماعيل تختهسنگي (مهدوي نيا)، و المرحوم الحاجّ آقا اللهياريّ من أبهر، و الحاجّ محسن شركت من إصفهان.
أمّا مريدوه في العراق فهم: حجّة الإسلام الشيخ صالح الكميليّ، و آية الله السيّد هادي التبريزيّ (و هو أحد تلامذة المرحوم الشيخ مرتضى الطالقانيّ القدماء الذين استفادوا من ذلك المرحوم كثيراً، و كان يحضر أحياناً عند المرحوم القاضي)، و حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ محمّد جواد المظفّر من البصرة، و حجّة الإسلام السيّد حسن معين الشيرازيّ من طهران (أخو زوجة الحقير) و حجّة الإسلام السيّد شهاب الدين الصفويّ من أصفهان، و كذلك الحاجّ الشيخ أسد الله طيّارة من أصفهان، و الحاجّ محمّد علي خلف زاده، و الحاجّ أبو موسى محيي، و الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل محيي، و الحاجّ موسى محيي، و الحاجّ عبد الزهراء، و الحاجّ قدر السماويّ (أبو أحمد)، و الحاجّ حبيب السماويّ، و الحاجّ محمّد حسن ابن الشيخ عبد المجيد السماويّ (أبو عزيز)، و الحاجّ حسن أبو الهوى، و كان يحضر عنده أحياناً من النجف الأشرف آية الله السيّد عبد الكريم الكشميريّ و المرحوم السيّد مصطفى الخمينيّ رحمة الله عليه، كما كان المرحوم السيّد كمال الشيرازيّ يحضر عنده أحياناً؛ فكان المرحوم الحدّاد يستقبل جميع هؤلاء و يُشير عليهم و يوردهم كلًّا حسب استعداده و استيعابه. و كذلك فقد كان آية الله الشيخ حسن الصافيّ الأصفهانيّ، و حجّة الإسلام الشيخ ناصر دولتآبادي، و حجّة الإسلام الشيخ محمّد تقي جعفريّ الأراكيّ دام عزّهم يتشرّفون بالحضور لديه و الاستفادة من محضره، لكنّ استاذهم في النجف كان المرحوم آية الله الشيخ عبّاس القوجانيّ، كما كان السيّد حسين دانشمايه النجفيّ و الميرزا محمّد حسن النمازيّ بهذه الكيفيّة.
القِسْمُ الثَّانِي: السَّفَرُ الأوَّلُ لِلْحَقِيرِ إلى العَتَبَاتِ المُقَدَّسَةِ، سَنَةَ ۱٣۸۱ هِجْرِيّة قَمَرِيَّة عَدَا السَّفَرِ إلى بَيْتِ اللهِ الحرام
السفر الأوّل للحقير إلى العتبات المقدّسة
سنة ۱٣۸۱ هجريّة قمريّة
عدا السفر إلى بيت الله الحرام
لقد كانت لي إقامة رسميّة في العراق، فكان ميسوراً لي بعد عودتي إلى إيران أن أعود إلى هناك متى شئت، بمراجعة بسيطة لأخذ سمة الخروج، دون المرور بسلسلة الإجراءات الطويلة في مديريّة السفر و الجوازات. و على الرغم من عزمي على السفر بعد مرور سنة من رحيل آية الله الأنصاريّ، إلّا أنّ عوائق أعاقتني عن ذلك إلى ما بعد رحيله بسنتَينِ، حيث انقضى إذ ذاك على سفري إلى بيت الله الحرام أربع سنوات مررت فيه ذهاباً و إياباً بالعراق فاستفدت كثيراً من لقائي بالمرحوم الحدّاد هناك، كما كان قد انقضى على عودة الحقير من النجف الأشرف خمس سنوات.
و هكذا تحرّكت للسفر أواخر شهر ذي القعدة الحرام لسنة ۱٣۸۱ هـ لزيارة العتبات المقدّسة و للقيام بالزيارة الخاصّة بيوم عرفة، و في نيّتي البقاء في الكاظميّة المقدّسة لعشرة أيّام، ثمّ التشرّف بزيارة كربلاء و النجف و سامرّاء.
و في الكاظميّة حللتُ ضيفاً على الحاجّ عبد الزهراء، و كان قد اتّخذ منزلًا في منطقة الگريعات قرب الكاظميّة، و قد انقضى أغلب الوقت في زيارة المرقدين المطهّرين، ثمّ ذهبتُ بناءً على دعوة ابن الخال المحترم
العلّامة السيّد مرتضى العسكريّ أدام الله أيّام بركاته۱ فحللت ضيفاً عليه في منزله في محلّة الكرّادة الشرقيّة٢. و لم يحالفني التوفيق خلال تلك الأيّام للتشرّف بزيارة الحرم المطهّر إلّا لمرّة واحدة فقط، و كان الحديث يدور غالباً في المسائل العلميّة و الاجتماعيّة و طبيعة الانحراف لدى المسلمين و سبل معالجته.
و لقد أوصل الحاجّ عبد الزهراء نبأ قدومي إلى كربلاء، فقام الحاجّ محمّد علي بمصاحبة سماحة الحاجّ السيّد هاشم للزيارة إلى الكاظميّة، فبقيا هناك عدّة أيّام استفدنا فيها كثيراً من محضره.
بيان حالات التجرّد الممتدّة و المستمرّة للسيّد الحدّاد
و كان حال السيّد الحدّاد آنذاك بشكل انصرف معه من عالم الطبيعة بشكل كامل، فلم يكن ليحسّ بالجوع، و لم يكن ليميّز للطعام مذاقاً، و لم يكن ليسمع صوتاً إلّا بصوت عال يكرّر عليه المرّة تلو المرّة؛ و لو أمكننا أن نصوّر خلع البدن خلال الأيّام المتمادية و الشهور المتوالية بشكل متناوب، لكان وجود السيّد الحدّاد انموذجه العينيّ و الخارجيّ.
و كنّا نبيت في تلك الليالي في بيت الحاجّ عبد الزهراء الواقع في منطقة سكنيّة حديثة الإنشاء في الكاظميّة، تحوطه بساتين النخيل و البرتقال من كلّ جانب كما زرعت الخضروات و البقول في أرضه. و كان الهواء عليلًا و لطيفاً جدّاً، و مع أنّ الوقت كان يصادف الأشهر الأولى
للربيع، فلا بدّ من استعمال الأغطية (اللحاف) ليلًا. و كانوا قد وضعوا فراش السيّد الحدّاد في الغرفة بجوار النافذة المفتوحة المشرفة على البساتين، و كان فراشي إلى جانبه. فلمّا أصبحنا قال السيّد: اصبتُ بالبرد ليلة البارحة، و لقد كان الهواء لطيفاً أوّل الليل فلم ألقِ على جسدي غطاءً، ثمّ برد الجوّ عند منتصف الليل فأحسست بلذع البرد بحيث عجزت فيه عن النوم؛ فحاولت القيام لإغلاق النافذة، فأحسست أن لا قدرة لي على الحركة! ثمّ حاولت أن ألقي عَلَيّ الغطاء الموضوع عند قدمي، فعجزت عن الحركة! فأردت أن أقول: أيّها السيّد محمّد الحسين، ألقِ عَلَيّ الغطاء؛ فرأيت أن لا قدرة لي على الكلام. و هكذا فقد بقيت على حالي تلك إلى الصباح و اصبت بالبرد الشديد.
و كان الرفقاء من الكاظميّة يقولون: لقد جئنا يوماً مع السيّد الحدّاد من كربلاء إلى الكاظميّة في سيّارة نقل عامّة صغيرة (سيّارة عراقيّة في هيئة علبة الكبريت تتّسع لعشرين راكباً) فجاء مساعد السائق في الطريق ليجمع الاجرة من المسافرين، فسأل: كم عددكم؟ أجاب السيّد الحدّاد: خمسة أشخاص.
فقال: كلّا، أنتم ستّة أشخاص! فكرّر السيّد العدّ و قال: بل نحن خمسة! و لقد كنّا نعلم أنّنا ستّة أشخاص، لكنّنا تعمّدنا عدم قول شيء ليتّضح أمر السيّد الحدّاد. قال مساعد السائق من جديد: أنتم ستّة!
فقال السيّد: خُوُيَ مَا اتْشُوُفْ؟! هَذَا وَاحِدْ، او هَذَا اثْنَيْنْ، او هَذَا اثْلَاثَهْ، او هَذَا أرْبَعَهْ، او هَذَا خَمْسَهْ! بَعَدْ شِتْگُوُلْ إنْتَ؟!
قال: يَا سَيِّدْ! إنْتَ مَا تِحْسِبْ نَفْسَكْ؟!۱
و كان الرفقاء يقولون، و لقد كان عجيباً أنّ السيّد الحدّاد بقي مع ذلك لا يلتفت إلى نفسه، و مع أن معاون السائق يقول له: إنّك لا تعدّ نفسك، إلّا أنّه كان غارقاً في عالم التوحيد و الانصراف من عالم الكثرة، للحدّ الذي عجز معه -مع هذا- أن يلتفت إلى لباس البدن فيعدّه ضمن الركّاب و يضيفه إلى مجموعهم.
و لقد قال السيّد الحدّاد بنفسه للحقير: لم أستطع في تلك الحال بأيّ شكل أن أعدّ نفسي، فقال الرفقاء لي أخيراً: أيّها السيّد! عدّ نفسك أنت أيضاً، فهذا الرجل صادق فيما يقول حين يريد منّا اجرة ستّة أشخاص. و هكذا فقد أعطيته اجرة ستّة أشخاص بغير يقين منّي بكلامه و لكن تعبّداً بقول الرفقاء. ثمّ ترجّلنا من السيّارة للصلاة في مسجد بَراثا، و هناك رأيت إمام المسجد: الشيخ علي الصغير مشغولًا -هو الآخر- بالحديث عن التوحيد و المناداة بنداء: لا هو إلّا هو!
و حين قَدِمنا إلى الكاظميّة و ذهبنا إلى المغاسل العموميّة للتوضّؤ، رأيت أنّني أجهل التوضّؤ. فيا إلهي! لما ذا أجهل كيفيّة الوضوء؟! بل إنّي لا اميِّز وجهاً و لا يميناً و لا شمالًا. فما العمل و الصلاة لا تجوز بغير وضوء؟! قلت في نفسي: فلأسأل عن كيفيّة الوضوء من هذا الرجل المنهمك بالتوضّؤ، ثمّ قلت في نفسي: ما الذي سيجيبني به يا ترى؟!
ألن يقول لي: أيّها السيّد العجوز! أ لَا تعرف الوضوء و قد انقضى من عمرك ستّون سنة؟!
ثمّ أحسست و أنا أتّجه نحوه أنّ الوضوء جاء تلقائيّاً، فقد مددت يدي إلى الماء بلا اختيار و لا علم، فغسلت وجهي ثمّ يدي، ثمّ مسحت المسحين، فرأيت ذلك الرجل المنهمك في وضوئه يقول لي حالما لمحني: أيّها السيّد! الماء هو الله، الوضوء هو الله؛ لا يخلو من الله مكان!
كيفيّة فناء السيّد الحدّاد في الله و تحيّره في ذات الله
و كان السيّد يقول: كنتُ أحسّ أحياناً بخفّة الوزن و فقدان الأثر، تماماً مثل قشّة من التبن دائرة مع الهواء. و كنت أحسّ أحياناً بالتجرّد من بدني، تماماً كما تفعل الحيّة حين تبدّل جلدها، و كنتُ أصبح شيئاً آخر، و لقد كان بدني و أعماله أشبه بجلد حيّة، يظهر بشكل كامل كأنّه حيّة واقعيّة يخيّل لمن يراه من بعيد أنّه كذلك، لكنّه في الحقيقة ليس إلّا جلداً للحيّة.
و كان يقول: و لقد تكرّر كثيراً أن أذهب للحمّام، فأخرج منه و قد ارتديت الدشداشة (اللباس العربيّ الطويل) مقلوبة.
و يضيف: و كان صاحب الحمّام يقف دوماً خلف الصندوق فيستلم من الواردين نقودهم و ودائعهم، فيسلّمها إليهم عند خروجهم. فذهبت يوماً للحمّام و دفعت نقودي عند دخولي لصاحب الحمّام الواقف خلف صندوقه، فلمّا خرجت و أردت استرجاع ما استودعته، كان مساعده يجلس خلف الصندوق فسأل: أيّها السيّد، كم تبلغ وديعتك؟
قلت: دينارين! فقال: لا، يوجد هنا ثلاثة دنانير فقط!
قلت: لِمَ تؤخّرني؟ خذ واحداً منها لك و أعطني دينارين لأذهب. فلمّا سمع صاحب الحمّام كلامنا سأل مساعده: ما الأمر؟! قال: هذا السيّد يقول إنّ لديه دينارين، و هنا ثلاثة دنانير.
فقال له: لقد استلمت منه ثلاثة دنانير بنفسي، هذه الدنانير الثلاثة له؛ و لا تصغِ أبداً إلى كلام هذا السيّد لأنّه غالباً مضطرب و حاله ليست على ما يُرام!
و كان السيّد الحدّاد يقول: لقد كنتُ آنذاك في حال لا يمكنني معه أن أتأخّر هناك لحظة واحدة لأتكلّم معهم، و لو عطّلوني قليلًا لتركتهم و ذهبت.
و كان يقول: إنّ علوماً في منتهى العمق و البساطة و الكلّيّة تمرّ عَلَيّ في كلّ آن، و حين احاول الالتفات إلى أحدها في اللحظة التالية اشاهد أنّها ابتعدت -و يا للعجب- عنّي فراسخ عدّة.
و هكذا فقد توقّفت في الكاظميّة لعدّة أيّام كنت فيها معه، شددنا بعدها الرحال إلى كربلاء فحللنا في منزله. و كانت تلك الدكّة في زاوية المسجد قد خُرِّبت خلال توسعة شارع العبّاسيّة، فصارت ضمن رصيف الشارع، فلم يبقَ للسيّد محلّ آخر للعبادة و الخلوة، حتّى في منزله المتواضع لكثرة عياله؛ فاضطرّ إلى الاستفادة من منزل يقع في آخر الزقاق المغلق الذي يقع فيه منزله. و هو منزل أشبه بالخربة يعود إلى والد الحاجّ محمّد حسن شركت من سهم الثلث و الخيرات العائد له، وضعه تحت تصرّف ولده، فوضعه بدوره تحت تصرّف سماحة الحاجّ السيّد هاشم ليستفيد منه. و كان يضمّ غرفتين -إحداهما تعلو باب المنزل لا تتجاوز أبعادها عن ٢ × ٢ متراً، و الاخرى في الداخل لا تتجاوز هي الاخرى عن ٢ × ٣ متراً- و فيه سرداب صغير، فخمّنتُ أنّ مساحة ذلك المنزل لا تتجاوز الأربعين إلى الخمسين متراً.
لكنّ هذا المنزل كان يمتاز -مع قدمه و تصدّعه و رطوبته و الاحتمال الكبير في انهيارهـ بوقوعه في نهاية الزقاق المغلق، فكان لهذا محلًّا أميناً خالياً من الصخب و الضوضاء، و مناسباً جدّاً ليكون محلّا لعبادة السيّد و لاستقبال ضيوفه.
و على الرغم من الصخب الشديد الذي كان يثيره أطفال المنطقة، إلّا
أنّه كان يقول: إنّني لا أسمع صخباً!
و صادف أن وفد عليه ذلك الوقت بعد أيّام الحجّ أحد أقاربه في النسب ترافقه زوجته، فأعطاه تلك الغرفة التي تعلو باب البيت ليستريح فيها، فما انقضت ساعة إلّا و هبط منها إلى الأسفل و ذهب إلى السرداب قائلًا: إنّ صراخ أطفال الزقاق و صخبهم لا يمنع من النوم فقط، بل إنّه أمر غير محتمل حال اليقظة.
فقال السيّد: إنّني لا أسمع صخباً، و كنت مرتاحاً في الأوقات التي أقضيها في تلك الغرفة.
عسرة معيشة سماحة السيّد الحدّاد خلال فترة الفناء الذي لا يوصف
و لقد أدى به التوارد المتوالي لتلك الحالات، إلى أن صار تحمّل العمل و الكسب متعذّراً عليه، أي أنّ بدنه كان ينهار و روحه كانت تنصرف عن عالم الطبع، بالشكل الذي جعل إدارة امور عالَم الطبع من أعسر المشاكل، بل من الامور المتعذّرة و المستحيلة. لذا فقد أناط إدارة الدكّان إلى مساعده السابق كي يأخذ لنفسه من حاصل العمل ما يكفيه و يجلب الباقي للسيّد.
و كانت تلك هي طريقته حتّى عند ما كان يذهب بنفسه إلى الدكّان؛ إذ لم يكن قد عيّن مرتَّباً معيَّناً لمساعده، و لم يكن يتناصف معه ما يكسب من العمل من الصباح حتّى وقت تعطيل الدكّان، بل كان يقول لمساعده: كم تحتاج اليوم؟ فكان يقول مثلًا: نصف دينار! أو سبعمائة فلس، أو أيّ مبلغ آخر؛ فكان يعطيه ذلك و يجعل ما تبقّى لنفسه. و ربّما كان يبقى له أحياناً خمسون فلساً فقط، أو لا يبقى له شيء؛ و كم كان يرجع بتلك الخمسين فلساً إلى البيت أو يعود بأيدٍ خالية.
فما الذي سيفعله -ترى- بهذه العائلة الكبيرة؟! إنّ الله سبحانه يبيّن هنا واجب رفقاء الطريق بأن يراقبوا بدقّة كاملة و يهتمّوا بحال بعضهم
البعض، فإذا صادف أن واجهت أحدهم جذبة روحيّة شديدة جعلته يعجز عن تدبير امور عائلته بحيث يتعرّضون للفاقة و الحاجة، فإنّ على رفقائه أن لا يَدَعوه يتردّى في وادي الفقر و الهلاك، بل عليهم أن يتعاهدوه و عائلته من أموالهم حتّى يخرج السالك من تلك الحالة فيمكنه تدبير اموره بنفسه.
نعم، عليهم ألّا يؤجّلوا أمر مساعدته و تدبير اموره إلى حين دفع الحقوق الشرعيّة الواجبة كالخمس أو من صدقاتهم و زكاتهم و كفّاراتهم، بل عليهم أن يتكفّلوا امور عائلته بجميع ما يملكون، بلا حساب و لا تردّد أو تأخير، كما لو كانوا يتعاهدون امور عوائلهم، بل أولى و أفضل و أتمّ و أكمل من عوائلهم.
ذلك لأنّه رفيقهم في الطريق، الرفيق الذي أنهكته المجاهدات النفسيّة في سبيل الله تلك المجاهدة الكبرى و الجهاد الأكبر، الرفيق الذي جعلته شدّة الواردات المعنويّة و الحالات الروحيّة و التجرّدات النفسيّة و شدّة الاتّصال بعالم الغيب و ظهور التجلّيات الإلهيّة ينسلخ عن الالتفات إلى عالم الكثرة. فهل هناك جهاد أعظم من هذا؟ و هل هناك إنفاق أولى من هذا؟
صعوبة وصف صبر الحدّاد و تحمّله في الشدائد و الامتحانات الإلهيّة
و لكن و يا للأسف الشديد! فها هو السيّد هاشم الذي لا يعلم جيرانه بحالاته، و الذي ليس لعياله اطّلاع على حاله، و الذي لا يعلم حتّى ولده ما أمره! فلم يكن ينبس ببنت شفة في البوح بالأسرار الإلهيّة، و لم يكن طبعه المنيع و روحه المتعالية لتسمح له أن يبيّن هذه الشدّة و العسرة، أو يذكر هذا الامتحان العظيم و الابتلاء الإلهيّ الكبير حتّى لأقرب الأصدقاء الحميمين و الرفقاء المخلصين في هذه المسيرة؛ اللهمّ إلّا اولئك الرفقاء الذين يقومون بأنفسهم بالتنقيب و التفتيش و الاستطلاع، و الذين يسعون و يجهدون في مراقبة و متابعة حال رفيقهم و أمره.
و من الواضح أنّ المتمكّنين من الرفقاء مشغولون بالعمل و الكسب،
فيستبعد أن يصدر من أحدهم مثل هذا التفحّص و التفقّد؛ أمّا العاجزون و الفقراء فما أكثر منهم من تابع الاستاذ -إن قليلًا أو كثيراً- في العسرة و في الواردات القلبيّة، و كان تفقّدهم للأمر أحرى أن يزيدهم غمّاً إلى غمّهم! كما أنّ بيان الأمر للآخرين من قبل أحدهم يعدّ خطأ و إفشاءً للسرّ؛ لو اطّلع الاستاذ عليه و علم به لأسقط ذلك الشخص من الثقة و الاعتبار.
و صادف في هذا السفر أن كانت العسرة قد وصلت لديه إلى حدّها الأعلى، كما أنّ الواردات القلبيّة كانت في أوجها، فكان وجهه يحمرّ و عيناه تتلألآن ممّا يجعل سيماء وجهه في منتهى الروعة. كما كان أحياناً يتهالك و يعتريه التحوّل و الاصفرار، و ينتاب عظامه الألم خلال سرده لواردةٍ جلاليّة.
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ﴾.۱
و نلحظ في هذه الآية الكريمة أن ﴿ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ﴾ جاءت صفة إلى ﴿وَجْهُ رَبِّكَ﴾ و ليس إلى ﴿رَبِّكَ﴾، فوجه الربّ هو الخالد الذي تنزّه عن الحدوث و هو المرتدي لخلعتَي: رحمة الجمال و الإكرام، و عزّة الجلال و العظمة.
و كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم يكثر في هذا السفر من تلاوة القرآن بصوت حزين و جميل، و كانت تلاوته جذّابة جدّاً و ملهبة و مفنية؛ كما كان يقرأ أبيات ابن الفارض و يترنّم بها، خاصّة تائيّته الكبرى.
و كنتُ أقتدي به في صلاة الصبح و الظهر و العصر حين لا يكون في البيت من أحد، اللهمّ إلّا أحد الرفقاء الحميمين، أمّا في صلاتَي المغرب و العشاء فكان يقتدي بالحقير. و كانت صلاتنا تجري غالباً على السطح،
و كان يأمر الحقير بقراءة السور الطوال في الصلاة مثل يس و الواقعة و المسبّحات۱ و تبارك و المنافقون و ﴿هَلْ أَتى﴾ و ما أشبهها و ذلك ليثبّتني في القراءة و في نفي الخواطر حين يقتدي بي؛ و كان يقول: هكذا أفضل من أن تقتدي أنت بي!
و كان الحقير يختار إحدى هذه السور لقراءتها في الصلوات، و بالطبع بلحن و صوت حزين حسب أمره؛ أمّا الحاجّ محمّد علي فكان يقتدي في هذه الصلوات بالسيّد، بحيث كنت أنا إماماً و السيّد مأموماً، فكان الحاجّ محمّد علي يقتدي في هذه الجماعة بالسيّد و يقول: لستُ قادراً على الاقتداء بغير السيّد!
و لقد وبّخه السيّد مرّات في حضوري، و قال له: أنت تخالف الشرع بعملك، فالاقتداء بالمأموم غير جائز! فكان يجيب: إنّ السيّد أينما كان هو الإمام في عالم الواقع، سواء كان مأموماً أم إماماً؛ و لست أقدر و أنا الذي أدركت هذا الأمر، أن أقتدي بسواه.
فكان السيّد يقول: لو صحّ كلامك لوجب عليك أن تقتدي بالسيّد محمّد الحسين لا بي؛ لأنّك تعدّني إماماً في كلّ حال، إماماً أو مأموماً. لكنّ الحاجّ محمّد علي لم يكن ليقتنع بهذا الكلام، حتّى أنّه لم يقتدِ بي -مع وجود السيّد مرّة- واحدة طوال الأعوام المتمادية.
كيفيّة صلاة الليل و سجدات الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد
و كان السيّد يتناول أوّل الغروب بعد صلاة المغرب طعاماً بسيطاً، بعنوان طعام العشاء كان يُجلب له من منزله المجاور، الذي تعيش فيه عائلته و الواقع في بداية الزقاق، ثمّ يرقد بعد أداء صلاة العشاء و ينهض بعد ساعة، فيهبط من السطح و يتوضّأ، ثمّ يصعد فيصلّي ركعات يقرأ فيها من السور
الطوال في القرآن بصوت جميل و لحن رائع، ثمّ يجلس تجاه القبلة فيبقى متأمّلًا، ثمّ يرقد، ثمّ يستيقظ مرّة أخرى فيصلّي ركعات بتلك الكيفيّة؛ و كانت الليالي قصاراً فلم يكن ليتبقّى وقت طويل لحلول أذان الصبح. و كان كثيراً ما يقول في تلك الحال أو في المرّة الأولى حين يستيقظ: أيّها السيّد محمّد الحسين! هات شاياً أو ماءً مغليّاً! فكان الحقير يهبط إلى الأسفل فيعدّ الشاي على سراج نفطيّ و يجلبه على الفور.
و كان السيّد يقول: لقد كان السيّد المرحوم نفسه هكذا (يقصد المرحوم القاضيّ) فقد كان يأمرنا و يقول: تناولوا شيئاً بسيطاً حين تنهضون لصلاة الليل، كالشاي أو اللبن الرائب الممزوج بالماء أو عنقوداً من العنب أو شيئاً بسيطاً آخر يخرج بدنكم من حال الفتور و الكسل، و ليكن لكم نشاط للعبادة.
و هكذا فقد كنتُ أجلب له إلى السطح ما يرغب في تناوله، الماء المغلي أو الشاي أو اللبن الرائب الممزوج بالماء أو الخيار (و لم يكن العنب قد حان أوانه آنذاك) ثمّ اصلّي معه صلاة الصبح بعد الأذان فكان يسجد بعدها فتطول سجدته إلى نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة و لربّما إلى ساعة كاملة. و كان يذهب أحياناً إلى الحمّام ليغتسل بالماء و يخرج لزيارة القبر المطهّر لسيّد الشهداء عليه السلام و القبر المطهّر لأبي الفضل العبّاس سلام الله عليه، ثمّ يعود إلى البيت بعد تهيئة بعض احتياجات المنزل.
و حلّت ليلة عرفة، فوفد سيل من الرفقاء من النجف و الكاظميّة و السماوة و إيران، فغصّت بهم ساحة المنزل و غرفه و شُرفته، ثمّ قُرئت بعض أدعية ليلة عرفة؛ و كان حقّاً مجلساً جذّاباً و شيّقاً. ثمّ تناول الجميع طعاماً بسيطاً و غادروا المنزل للزيارة و للقيام بأعمال تلك الليلة، ثمّ عاد منهم إلى المنزل عدّة قليلة يعدّون من أخصّ أصدقائه و رفقائه.
ثمّ تشرفتُ بالذهاب إلى النجف الأشرف برفقته للقيام بالزيارة المخصوصة لعيد الغدير، و كنتُ و جميع الرفقاء مدعوّين ظهر يوم العيد في منزل السيّد حسين النجفيّ. و كان هناك سماحة آية الله الشيخ عبّاس مع أتباعه جميعاً؛ فكان هو الآخر محفلًا شيّقاً مثيراً للوجد و الحبور.
ثمّ عاد السيّد إلى كربلاء في اليوم التالي للعيد، و بقي الحقير أيّاماً قلائل للتشرّف بالزيارة و الاستزادة منها و لتجديد العهد مع الأصدقاء السابقين. و كنت قد حللت في منزل الاستاذ الحاجّ الشيخ عبّاس، حيث بقيت في النجف الأشرف حتّى اليوم الرابع و العشرين و هو يوم مباهلة رسول الله و أهل بيته لنصارى نَجْران، و اليوم الخامس و العشرين و هو يوم التصدّق بالخاتم و نزول سورة «هل أتى» في شأن أهل البيت عليهم السلام. و كانت أيّام محرّم الحرام قد قربت و نحن على مشارف طلوع هلاله المثير للحزن و الأسى حين عدنا إلى كربلاء لنحظى ببركات العزاء تحت قبّة الحسين عليه السلام.
و من الواضح أنّ منزلي الحقيقيّ في ورودي إلى كربلاء و خروجي منها كان منزل سماحة السيّد الحدّاد؛ ذلك لأنّ العلاقات بيننا كانت حميمة و خالصة إلى درجة كبيرة، بحيث كان يعدّني ولده، و كان أولاده يعاملونني معاملة الأخ لهم. لكنّ الحقير لم يكن يرفض فقط اعتبار نفسه ولداً للسيّد، (إذ لم أكن ولده جسماً و لا روحاً)، بل لو شئنا اختيار اسم يعبّر حقّ التعبير عن وضعي لما وجدنا غير تعبير الغلام المولود بين الاسرة. نعم! لقد كنت ذلك الغلام الذي وُلِدَ في هذا المنزل و وجد في كرامة السيّد و مدده و معونته، حياته الجديدة.
و قد صادف أنّ هذا الاسم قد طابق المسمّى من جهة معيّنة؛ ذلك لأنّ والدة الحقير كانت قد ثقبت اذني اليمنى زمن طفولتي و وضعت فيها حلقة
باسم «الحلقة الحيدريّة» و كانوا ينادونني: الغلام الحيدريّ، أي أنّ هذا الغلام كان العبد الطيّع لحيدر.
و لقد بَقِيَتْ اذني اليمنى مثقوبة لم تلتئم حتّى اليوم و غير قابلة للالتئام بعد، فكيف يمكن لمن انعقدت نطفته بولاية حيدر، و رشف مع اللبن ولاية حيدر و ثُقِبَتْ اذنه باسم حيدر و ختمه، فوضع فيها حلقة العبوديّة أن يكفّ عن تبعيّته و عبوديّته ظاهراً و باطناً، سرّاً و علناً؟!
لقد كان سماحة السيّد الحدّاد أبي الواقعي حقّاً، و كان دخولي منزله و خروجي منه في جميع الأسفار هو دخول و خروج أهل البيت؛ لذا فإنّ من الواضح بعد العودة من النجف أن يعود المسافر إلى بيته و أهله.
تفصيل وقائع عاشوراء التي كانت عشقاً محضاً
لقد كان وضع سماحة الحدّاد متغيّراً و متقلّباً طوال الأيّام العشرة للعزاء، و كان وجهه يحمرّ و عيناه تتلألآن و تنيران؛ لكنّ حال الحزن و الغمّ لم تكن لتبدو عليه، بل كان الابتهاج و السرور يملأ كيانه. و كان يقول: كم أنّ هؤلاء الناس غافلون حين يحزنون و يقيمون المأتم و العزاء لهذا الشهيد القتيل! إنّ مسرح عاشوراء من أبدع مناظر العشق، و من أروع مواطن الجمال و الجلال الإلهيّ، و أحسن مظاهر أسماء الرحمة و الغضب؛ و لم يكن ليمثّل لأهل البيت عليهم السلام إلّا العبور من الدرجات و المراتب، و الوصول إلى أعلى ذروة الحياة الخالدة و الانسلاخ عن المظاهر و التحقّق بأصل الظاهر، و الفناء المطلق في الذات الأحديّة.
و لقد كان في الحقيقة يوم سرور أهل البيت و بهجتهم، لأنّه يوم الظفر و نيل المنى و الفوز بورود حريم الله و حرم أمنه و أمانه، يوم تخطّي الجزئيّة و الدخول إلى عالم الكلّيّة، يوم النصر و النجاح و بلوغ المنشود الغائيّ و الهدف الأصليّ، يومٌ لو كشف عن جزء منه للسالكين و العاشقين و الولهين في طريق الله، لجعلهم إلى آخر العمر مدهوشين من فرط
السرور، و لخرّوا ساجدين إلى يوم القيامة شكراً للّه.
كان سماحة السيّد الحدّاد يقول: إنّ الناس غافلون، أصمّت محبّة الدنيا آذانهم و أعمت أعينهم، بحيث صاروا يتأسّفون لذلك اليوم و يئنّونأنين الثكلى! فهم لا يعلمون أنّها بأجمعها فوز و نجاح و معاملة رابحة لابتياع الأشياء النفيسة و الجواهر الثمينة مقابل إعطاء الخزف و القشور؛ و أنّ ذلك القتل لم يكن موتاً بل كان عين الحياة، و لم يكن انقطاعاً و انصراماً للعمر بل حياة الخلود السرمديّ.
قراءة سماحة الحدّاد أشعار «المثنويّ» في غفلة عامّة الناس عن عاشوراء
و كان يقول: لقد قَدِم شاعر على أهل حلب، فقال:
گفت آرى ليك كو دور يزيد | *** | كِى بُد است آن غم چه دير اينجا رسيد |
چشم كوران آن خسارت را بديد | *** | گوش كرّان اين حكايت را شنيد۱ |
و لقد كان سماحة السيّد الحدّاد يبكي كثيراً و يذرف الدموع غزاراً في الأيّام العشر الأوائل من المحرّم، و كلّ ذلك البكاء من فرط الشوق؛ و كانت دموعه تنصبّ أحياناً من شدّة الوجد و السرور أشبه بميزاب يصبّ ماء الرحمة و مطر العشق على محاسنه الشريفة.
و كان يقرأ في كتاب مولانا محمّد البلخيّ الروميّ هذه الأشعار و يردّدها بصوت لا أروع و لا أبدع منه! لا تزال نبراته و تلك النغمات و فيض الدموع ذلك مجسّماً في خاطري؛ لكأنّ الحدّاد قد جلس الآن أمامي
أشعار المولويّ في مرثيّة سيّد الشهداء عليه السلام
و كتاب «المثنويّ» بيده يقرأ:
زادة ثانى است أحمد در جهان | *** | صد قيامت بود او اندر عيان |
زو قيامت را همى پرسيدهاند | *** | كاى قيامت! تا قيامت راه چند |
با زبان حال مىگفتى بسى | *** | كه ز محشر حشر را پرسد كسى؟ |
بهر اين گفت آن رسول خوش پيام | *** | رَمْزِ موتوا قبل موتوا۱ يا كرام |
همچنان كه مُردهام من قبل موت | *** | زانطرف آوردهام من صيت و صوت |
پس قيامت شو قيامت را ببين | *** | ديدن هر چيز را شرطست اين٢ |
تا نگردى اين ندانيّش تمام | *** | خواه كان أنوار باشد يا ظلام |
عقل گردى عقل را دانى كمال | *** | عشق گردى عشق را بينى جمال |
نار گردى نار را دانى يقين | *** | نور گردى هم بدانى آن و اين |
گفتمى برهان بر اين دعوت مُبين | *** | گر بدى إدراك اندر خورد اين |
هست أنجير اينطرف بسيار خوار | *** | گر رسد مرغى قُنُق أنجيرخوار |
در همه عالم اگر مرد و زنند | *** | دم به دم در نزع و اندر مردنند |
اين سخنها را وصيّتها شمر | *** | كه پدر گويد در آن دم با پسر۱ |
تا برويد رحمت و غيرت بدين | *** | تا ببرّد بيخ بُغض و رَشك و كين |
تو بدان نيت نِگر در أقربا | *** | تا ز نزع او بسوزد دل ترا |
كل آت آت آن را نقد دان | *** | دوست را در نزع و اندر فقد دان |
ور غرضها زين نظر گردد حجيب | *** | اين نظرها را برون افكن ز جيب |
در نياز خشك و بر عجزى مايست | *** | زانكه با عاجز گزيده معجزيست |
عجز زنجيريست زنجيرت نهاد | *** | چشم در زنجير نه بايد گشاد |
پس تضرّع كن كه اى هادى زيست | *** | باز بودم پشّه گشتم اين ز چيست؟۱ |
سختتر افشردهام در سر قدم | *** | كه لَفِى خُسْرَم ز قَهْرَت دم به دم |
از نصيحتهاى تو كر بودهام | *** | بتشكن دعويّ و بُتگر بودهام |
ياد صنعت فرض تر، يا ياد مرگ | *** | مرگ مانند خَزان، تو أصل برگ |
سالها اين مرگ طبلك مىزند | *** | گوش تو بيگاه جنبش مىكند۱ |
تشبيه مغفّلى كه عُمر ضايع كند و در نزع بيدار شود به ماتم أهل حَلب٢
گويد أندر نزع جان از آه مرگ | *** | اين زمان كردت ز خود آگاه مرگ |
اين گلوى مرگ از نعره گرفت | *** | طَبْلِ او بشكافت از ضربِ شگفت٣ |
در دقائق خويش را در تافتى | *** | رمزِ مردن اين زمان دريافتى۱ |
ما أحسن تحقيق الملّا الروميّ لقضايا عاشوراء!
رسيدن شاعر به حلب روز عاشورا و حال معلوم نمودن و نكته گفتن و بيان حال كردن٢
روز عاشورا همه أهل حَلَب | *** | باب أنطاكيّه اندر تا بشب |
گرد آيد مرد و زن جمعى عظيم | *** | ماتم آن خاندان دارد مقيم |
تا بشب نوحه كنند اندر بُكا | *** | شيعه عاشورا براى كربلا |
بشمرند آن ظلمها و امتهان | *** | كز يزيد و شمر ديد آن خاندان٣ |
از غريو و نالهها در سرگذشت | *** | پر همى گردد همه صحرا و دشت |
يك غريبى شاعرى از ره رسيد | *** | روز عاشورا و آن افغان شنيد |
شهر را بگذاشت و آن سو راى كرد | *** | قصد جستجوى آن هيهاى كرد |
پرس پرسان مىشد اندر افتقاد | *** | چيست اين غم بر كه اين ماتم فتاد؟ |
اين رئيسى زَفْت باشد كه بمرد | *** | اين چنين مجمع نباشد كار خرد |
نام او ألقاب او شرحم دهيد | *** | كه غريبم من، شما أهل دِهيد |
چيست نام و پيشه و أوصاف او | *** | تا بگويم مرثيه ألطاف او۱ |
مرثيه سازم كه مرد شاعرم | *** | تا از اينجا برگ و لا لَنگى برم |
آن يكى گفتش كه: تو ديوانهاى | *** | تو نهاى شيعه عدوّ خانهاى |
روز عاشورا نميدانى كه هست | *** | ماتم جانى كه از قرنى به است؟ |
پيش مؤمن كى بود اين قصّه خوار | *** | قدر عشق گوش، عشق گوشوار |
پيش مؤمن ماتم آن پاك روح | *** | شُهرهتر باشد ز صد طوفان نوح۱ |
أبيات عاشوراء في أشعار «المثنويّ»
نكته گفتن شاعر جهت طَعن شيعة حَلَب٢
گفت آرى ليك كو دور يزيد | *** | كى بُد است آن غم چه دير اينجا رسيد٣ |
چشم كوران آن خسارت را بديد | *** | گوش كرّان اين حكايت را شنيد |
خفته بودستيد تا اكنون شما | *** | تا كنون جامه دريديد از عزا |
پس عزا بر خود كنيد اى خفتگان | *** | زانكه بد مرگيست اين خواب گران |
روح سلطانى ز زندانى بِجَست | *** | جامه چون درّيم و چون خائيم دست؟ |
چونكه ايشان خسرو دين بودهاند | *** | وقت شادى شد چو بگسستند بند |
سوى شادروان دولت تاختند | *** | كُنده و زنجير را انداختند |
روز مُلكست و گَه شاهنشهى | *** | گر تو يك ذرّه از ايشان آگهى۱ |
ورنه اى آگه برو بر خود گرى | *** | زانكه در إنكار نقل و محشرى |
بر دل و دين خرابت نوحه كن | *** | چون نميبيند جز اين خاك كُهُن |
ور همى بيند چرا نبود دلير | *** | پشت دار و جان سپار و چشم سير؟ |
در رخت كو از پى دين فرّخى | *** | گر بديدى بَحر كو كفّ سخيّ؟ |
آنكه جو ديد آب را نكند دريغ | *** | خاصه آنكو ديد دريا را و ميغ۱ |
تمثيل حريص بر دنيا به مورى كه به دانهاى از خرمنى قانع نشود٢
مور بر دانه از آن لرزان شود | *** | كو ز خرمنگاه خود عُمْيان بود٣ |
مىكشد يكدانه را از حرص و بيم | *** | چون نميبيند چنان چاش عظيم |
صاحب خرمن همى گويد كه هي | *** | اى ز كورى پيش تو معدوم شيء |
تو ز خرمنهاى ما آن ديدهاى | *** | كاندر آن دانه بجان پيچيدهاى |
اي به صورت ذرّه كيوان را ببين | *** | مور لنگى رو سليمان را ببين |
تو نِهاى آن جسم، بل آن ديدهاى | *** | وارهى از جسم گر جان ديدهاى |
آدمى ديده است، و باقى لَحم و پوست | *** | هرچه چشمش ديده است آن خير اوست |
كوه را غرقه كند يك خُم زِ نَم | *** | مَنفذى گر باز باشد سوى يَمْ۱ |
چون به دريا راه شد از جان خُم | *** | خُم با جِيحون بر آرد اشتلُم |
زين سبب قُلْ گفته دريا بُوَد | *** | گرچه نطق أحمدى گويا بُوَد |
گفته او جمله دُرِّ بَحْر بُوْد | *** | كه دلش را بُوْد در دريا نفوذ |
داد دريا چون ز خُمّ ما بُوَد | *** | چه عجب گر ماهى از دريا بُوَد |
چشم حِسّ افسرده بر نقش قمر | *** | تو قمر مىبينى و او مستقرّ |
اين دوئى أوصاف ديده أحول است | *** | ورنه أوّل آخر، آخر أوّل است |
هين گذر از نقش خُم در خُم نگر | *** | كاندر او بحرى است بى پايان و سَر۱ |
پاك از آغاز و آخر آن عِذاب | *** | مانده محرومان ز قهرش در عَذاب |
اين چنين خُم را تو دريا دان يقين | *** | زنده از وى آسمان و هم زمين |
گشته دريائى دوئى در عين وصل | *** | شد ز سو در بى سوئى در عين وصل |
بلكه وحدت گشته او را در وصال | *** | شد خطاب او خطاب ذوالجلال۱ |
نعم، لقد كان الموت بالنسبة لسيّد الشهداء و سيّد المظلومين عليه السلام عين الدرجة و الارتقاء و الفوز و النجاح، لذا جاء في الرواية التي أوردناها في بحث «معرفة المعاد» أنّ المصائب كلما ازدادت و ادلهمّت يوم عاشوراء و كلّما استعر اوار الحرب زاد إشراق وجهه المنير...
وَ كَانَ الحُسَيْنُ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ ألْوَانُهُمْ وَ تَهْدَا جَوَارِحُهُمْ وَ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا لَا يُبَالِي بِالمَوْتِ! فَقَالَ لهم الحُسَيْنُ عَلَيهِ السَّلَامُ: صَبْراً بَنِي الكِرَامِ! فَمَا المَوْتُ إلَّا قَنْطَرَةً تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ البُؤْسِ وَ الضَّرَّاءِ إلى الجِنَانِ الوَاسِعَةِ وَ النَّعِيمِ الدَّائِمَةِ؛ فَأيُّكُمْ يَكْرَهُ أنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إلى قَصْرٍ؟!
... إنَّ أبي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وَ جَنَّةُ الكَافِرِ، وَ المَوْتَ جِسْرُ هَؤُلَاءِ إلى جِنَانِهِمْ وَ جِسْرُ هَؤُلَاءِ إلى جَحِيمِهِمْ؛ مَا كَذِبْتُ وَ لَا كُذِبْتُ!۱
و ينبغي العلم أنّ ما تفضّل به المرحوم الحدّاد، كان عن حاله الشخصيّ في ذلك الوقت؛ حيث عبر من عوالم الكثرات و وصل إلى الفَناء المطلق في الله. و بعبارة أخرى: فإنّ السفر إلى الله كان قد بلغ غايته، و كان مشتغلًا في السفر الثاني: السفر في الله؛ كما في أحوال الملّا الروميّ عند إنشاده هذه الأشعار، و أحوال ذلك الشاعر الشيعيّ الذي ورد مدينة حلب، حيث تبدّل جانب «وجه الخلق» فيهم إلى جانب «وجه الحقّ» و الوجه الربّيّ و عبروا من درجات النفس و تمكّنوا و استقرّوا في حرم عزّ التوحيد و حريم وصال الحقّ.
أمّا بالنسبة لسائر أفراد الناس الذين لم يتخلّصوا من عالم الكثرات و بَقَوا أسرى فيه، و الذين عجزوا عن تخطّى عالم النفس؛ فإنّ عليهم حتماً البكاء و إقامة العزاء و لطم الصدور و قراءة المراثي، ليتمكّنوا بهذا النحو من طيّ الطريق و نيل ذلك المقصد السامي، فهذا المجاز قنطرة للوصول لتلك الحقيقة. كما أنّهم عليهم السلام أمرونا -كما في الروايات الكثيرة المستفيضة- بإقامة العزاء لنطهّر أنفسنا بهذه الوسيلة، و لتتناغم خطانا في هذا الدرب مع اولئك القادة العظام.
على أن الأسفار الأربعة حين تُطوى فإنّ من لوازم البقاء بالله بعد مقام
الفناء في الله هو التشكّل بعوالم الكثرة، و رعاية حقّ كلّ عالم كما هو حقّه، و هو الكون مع الله في عالم الخلق و الاتّصاف بالصفات الخلقيّة في عين الوحدة الربوبيّة، حيث يوجد العشق و العزاء، و التوحيد و الكثرة معاً. و قد شوهدت هذه الحالات نفسها عند سماحة السيّد الحدّاد أواخر عمره، فقد صار له مقام البقاء بعد نيله مقام الفناء الصِّرف و التمكّن في التجرّد، لذا فقد كان مشهوداً منه بكاؤه بحرقة و لوعة في مجالس العزاء مقروناً بالعشق الشديد. كما أنّ سيّد الشهداء عليه السلام قال بنفسه لابنته الحبيبة سكينة:
لَا تُحْرِقِي قَلْبِي بِدَمْعِكِ حَسْرَةً | *** | مَا دَامَ مِنِّي الرُّوحُ في جُثْمَانِي |
و باختصار و إجمال: فإنّ قصّة كربلاء قصّة غامضة و معقّدة جدّاً، فهي كالعُملة المعدنيّة ذات وجهين، وجهها الأوّل عشق و حماس سيّد الشهداء عليه السلام و فوزه بتلك العوالم، و الوجه الآخر الغمّ و الهمّ و العذاب و الألم و البكاء. لكن الذين يمكنهم رؤية ذلك الوجه الآخر هم الذين شاهدوا هذا الوجه و تخطّوه و عبروه؛ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ.
قراءة سماحة الحدّاد أبيات عاشوراء و كأنّها مختمرة مع روحه و نفسه
نعم، لقد كان اسلوب و كيفيّة قراءة أبيات مولانا هذه بشكل كأنّ السيّد الحدّاد كان متّحداً مع حقيقة تلك المعاني، فهو يتحدّث عن مَعين واقعيّاتها و حقائقها و معادنها. لكأنّ يوم عاشوراء ماثل أمامه، فهو يُخبرعن ضمير سيّد الشهداء عليه السلام و باطنه و يكشف الستار عن أصحابه و أنصاره.
و كان لفظ «الفَناء» أكثر الألفاظ تردّداً على لسان الحدّاد، فلم يكن ليرى مفرّاً و لا مناصاً أسمى من الفناء ليدعو رفقاءه إليه.
و لقد بقي الحقير في كربلاء إلى اليوم الثالث لشهادة الحسين عليه السلام، ثمّ ذهبتُ إلى الكاظمين عليهما السلام برفقة الاستاذ في اليوم الرابع عشر من المحرّم و توقّفنا فيها يومين، ثمّ تشرّفتُ بالذهاب معه إلى
سامرّاء مع بعض الرفقاء، و نهلنا من بركات تلك الأنوار القدسيّة أربع ليال عُدنا بعدها إلى الكاظميّة و منها مباشرة إلى طهران حيث وصلتها بعد العشرين من محرّم الحرام و استغرق سفري هذا خمسةً و خمسين يوماً.
القِسْمُ الثَّالِثُ: السَّفَرُ الثُّانِي لِلْحَقِيرِ إلى العَتَبَاتِ الْمُقَدَّسَةِ، سَنَةَ ۱٣۸٣ هِجرِيَّة قَمَرِيَّة
السفر الثاني للحقير إلى العتبات المقدّسة
سنة ۱٣۸٣ هجريّة قمريّة
و في السنة التالية أحسستُ في نفس الفترة برغبة عارمة للتشرّف بزيارة تلك البقاع المقدّسة و عقدت العزم على ذلك، فراجعت مديريّة السفر لأخذ سمة الخروج، و قطعت تذكرة السفر بالسيّارة من شركة سفر «ميهن تور» على أن يبدأ السفر بعد غد ذلك اليوم. و عند ذهابي لتوديع الأرحام و الأقارب، قالت لي إحدى أخواتي التي مضى على وفاتها و التحاقها بالرحمة الإلهيّة اليوم تسع سنين: يا فلان! أنت تذهب للزيارة، و لكنّ نظم البيت سينفرط بدون إشرافكم و رعايتكم المباشرة، و لربّما نال الإجحاف و الظلم بعض أهليكم!
فقلت: إنني ذاهب إلى الزيارة، و لست أرضى أن ينال أحداً في هذا الأمر التقرّبيّ ظلم و حيف. و ما دام الأمر كذلك، فقد صرفت النظر عن السفر الآن.
و هكذا فقد ذهبت في نفس ذلك اليوم و أعدت تذكرة السفر. و أذكر هذه القضية هنا ليعلم الجيل الآتي مدى ما كان يعانيه رجال الدين و أهل العلم في العهد البهلويّ -الأب و الابن- و ضخامة الأوضاع التي عاصرها الرجال المتديّنون و النساء المحجّبات.
لقد ذهبت لإرجاع تذكرة السفر، فقلتُ لأهل بيتي و كانت بصحبتي:
إنّ محلّ شركة السفر مزدحم، فانتظروني خارجاً و سأذهب لإرجاع التذكرة و أعود. و حين خرجت وجدتها تسير خلف ضابط و هي تقول:
أيّها السيّد! أنا لست شحّاذة!
و لقد كان محلّ شركة السفر (ميهن تور) واقعاً بين شارِعَي «سوّم اسفند» (=الثالث من اسفند) و «ثبت أسناد» (=دائرة تسجيل الأسناد) و هي من المناطق الحسّاسة، إذ يقع هناك مصنع الأسلحة و نادى الضبّاط و دائرة الشرطة و الأمن و وزارة الحربيّة، فهي محلّ تردّد و عبور الكثير من الضبّاط. و لقد شاهد أحد الضبّاط عيالي محجّبة ترتدي العباءة و النقاب فظنّ أنّها شحّاذة و متسوّلة وقفت هناك للاستجداء، لذا فقد وضع في يدها قطعة صغيرة من النقود، فاضطربت و لحقته لإعادة ما أعطاها، فانتبه الضابط و استردّ نقوده و اعتذر قائلًا: سامحيني أيّتها السيّدة!
و لم يكن ذلك الأمر مقتصراً عَلَيّ فحسب، بل كان حماة الدين و حرّاسه يعيشون بأجمعهم ظروفاً كهذه حيث تُعدّ فيها العمامة لباساً للاستجداء، و عباءة عِصمة المرأة رداءً لستر الخجل من استلام نقود الاستجداء. أمّا حاليّاً فالفضلاء و الطلّاب يعرفون قدر عمامة رسول الله، كما تصون نساؤنا أنفسهنّ بحجابهنّ و عفّتهن من أعين الغرباء و يحفظنها من النظرات الشيطانيّة.
و لعدم تيسّر السفر لي في تلك السنة، فقد شددتُ الرحال إلى العتبات المقدّسة في السنة التي تليها، و في الفترة ذاتها، أي أواخر ذي القعدة الحرام.
استئجار سماحة الحدّاد طابقاً في منزل، بعد غصب نصف منزله
و هكذا، فقد قام الحقير بزيارة الكاظمين عليهما السلام عدّة أيّام، ثمّ تحرّكت مع بعض الرفقاء من الكاظميّة إلى كربلاء. و كان السيّد الحدّاد قد غيّر منزله في هذا السفر، و اضطرّ -كي يقوم بأعمال إصلاح البيت و تعميرهـ إلى استئجار طابق منزل يقع مقابل منزله يحوي ثلاث غرف، لكنّه كان يمتلك سطحاً واسعاً مسيّجاً و كان يستفيد منه في الليالي للصلاة
و لاجتماع الرفقاء في ليالي الجمعة و أيّام الزيارة.
و كان منزله ملكاً لعياله، و هبها إيّاه أبوها المدعو بـ «حسين أبو عَمْشة»۱، و كان يحترم السادة و يحبّهم كثيراً و خاصّة صهره السيّد هاشم هذا. و باعتبار كبر عائلة السيّد هاشم فقد قال: إنّ هذا البيت خاصّ بهؤلاء الأطفال السادة. و أوصى بذلك خطّيّاً؛ إلّا أنّ زوج اخت زوجته المدعو بالحاجّ صمد الدلّال أنكر هذه الوصيّة بعد وفاته و قام بمراجعة الدوائر الرسميّة، على الرغم من عدم حاجته و تمكّنه المادّيّ!
و من ثمّ فقد أرسلت الحكومة من قام ببناء جدار وسط البيت؛ فصار هذا البيت الصغير الحاوي على ثلاث غرف صغيرة ناقصاً غير قابل للسكنى، إذ لم يكن لهذا النصف باب إلى الخارج و لا مرافق صحّيّة، فكان أهله و أطفاله يُجبرون على صعود السلّم إلى السطح ثمّ النزول إلى الجانب الآخر عبر سلّم آخر، ممّا أدّى إلى إصابة أهل السيّد هاشم بالأمراض. فاجبروا أخيراً على إخلاء المنزل لنصب باب له و لبناء مرافق صحّيّة و لإصلاح الحائط المحاذي للشارع و الذي كان متداعياً من أساسه.
و كان المرحوم القاضي قد أخبره عن غصب نصف هذا المنزل و عن بنائه و تسليمه إيّاه، و هكذا حدث بالفعل؛ و للمسألة شرح يطول الأمر بذكره.
أمّا ذلك المنزل المستأجر المقابل فقد تسبّب -لفقدانه الإنارة و الامور الصحّيّة بشكل صحيح و كامل- في وفاة أحد أحفاد السيّد هاشم،
و اسمه السيّد محمّد بن السيّد حسن في تلك الأيّام التي حلّ فيها الحقير عندهم إثر إصابته بمرض الحصبة.
و كان هذا الطفل شبيهاً بالمرحوم القاضي للحدّ الذي كان السيّد الحدّاد يسمّيه بالقاضي الثاني، و كان يحبّه كثيراً. و قد تأثّر السيّد الحدّاد لموت هذا الطفل كثيراً؛ و حين نقل الحقير الجنازة معه إلى محلّ غسل الأموات في منطقة المُخَيَّم الحسينيّ، لم يتمكَّن من السيطرة على دموعه التي انهمرت بغزارة. فقلت له عصر ذلك اليوم: أ وَ لم يكن لكم رغبة في بقاء هذا الطفل حيّاً ليردّ الله عنه الموت و يكتب له الحياة؟!
قال: بلى، و لكنّ الأمر من ذلك الجانب يغلب أحياناً، فيسلب الرغبة و الإرادة من هذا الجانب.
و كان السيّد حسن هو ولده الثالث. فقد كان أوّلهم السيّد مهدي، يليه بالترتيب السيّد قاسم و السيّد حسن و السيّد صالح و السيّد بُرهان و السيّد عبد الأمير، و بنت أكبر منهم يدعونها بالعلويّة و اسمها زهراء، و يقال لها فاطمة و أيضاً بَيگم، حيث إنّ تسميتها فاطمة و بيگم يعود إلى أن السيّد الحدّاد كان له ابنتان قبل ابنته هذه توفّيتا في طفولتهما، فكان إسماهما يُطلقان عليها أحياناً.
و كان المرحوم الحدّاد يقول: كان لبگيم سنتان حين رحلت عن الدنيا، و كنتُ آنذاك في حال لا اميِّز فيه بين الموت و الحياة أبداً؛ فقد كانا بالنسبة لي على حدّ سواء. و حين حملنا جنازتها مع والد زوجتي (أبو عَمْشة) و ذهبنا للقيام بالغسل و الكفن و الدفن لم أذرف الدموع أبداً، لكنّه -في المقابل- كان محزوناً و متأثّراً جدّاً، و كان يبكي بحيث تغيّرت حالته النفسيّة. و كان يقول: عجباً لهذا السيّد الذي يمتلك قلباً قاسياً لا يعرف للرحمة طعماً؛ فهو لا يبكي و لا يندب، حتّى أنّ دموعه لم تنحدر! و لأنّا
كنّا نعيش معه في منزل واحد فقد خاصمني مدّة لم يكلمني فيها.
و بعد بيگم توفّيت بنت السيّد الثانية و اسمها فاطمة. فكان يقول عنها: كانت وفاتها ليلًا، فوضعناها في زاوية الغرفة لندفنها في اليوم التالي؛ و كنت قد نظرت إليها مدّة على أنّها طفلة رحلت عن الدنيا، فلم تكن لها تلك الأهمّيّة الكبيرة.
مشاهدة الحدّاد عظمة روحيّة أطفال الشيعة بعد الموت
ثمّ رأيت تلك الليلة أنّ روحها تكبر في زاوية الغرفة حتّى ملأت البيت، ثمّ كبرت فملأت كربلاء كلّها، ثمّ شملت الدنيا بأسرها. و لقد كانت تلك الطفلة تظهر حقيقتها أن: كم أنا كبيرة مع أنّي ما زلت طفلة!
و كان يقول: هذه هي عظمتها الحقيقيّة. لذا فإنّ علينا أن ننظر إلى أطفالنا بعين الاحترام و نلحظهم على أنّهم كبار، لأنّهم كبار فعلًا لكنّنا نتصوّرهم صغاراً. و لقد كان إبراهيم ابن رسول الله ذو السنتين كبيراً و عظيماً بحيث إنّه لو بقي لكان بمثابة نفس النبيّ. لكأنّ النبيّ كان نفس ولده إبراهيم و قد كبر؛ و لكأنّ إبراهيم هو النبيّ نفسه، كلّ ما في الأمر أنّه في زمن طفولته و صباه؛ ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ﴾.۱
و كان يقول: لذا فإنّ من الأجدر على الإنسان احتراماً للطفل المولود حديثاً أن يجتنب الجماع أربعين يوماً، و أن يؤخذ الطفل الصغير الذي لم يتعدّ عدّة أشهر و هو في قماطه إلى مجالس العلم و محافل الذِّكر، و إلى الحسينيّة و أماكن إقامة العزاء التي يذكر فيها اسم سيّد الشهداء؛ لأنّ نفس الطفل أشبه بالمغناطيس تجذب العلوم و الأوراد و الأذكار و قدسيّة روح الإمام الحسين عليه السلام. و مع أنّ الطفل لا يستطيع الكلام لكنّه يتمتّع بالإدراك، و لو وُضعت روحه في محلّ أو محالّ المعصية، لتلوّثت بذلك
الجرم و تلك المعصية، أمّا لو اخذ إلى محلّ أو محالّ الذِّكر و العبادة و العلم لاكتسب تلك الطهارة و الصفاء.
و كان يقول: ضعوا أطفالكم في زاوية الغرفة التي يُقام فيها قراءة التعزية أو الذِّكر الذي تقومون به! فلقد كان العلماء السابقون يفعلون ذلك، لأنّ الآثار التي يكتسبها الطفل في هذه المرحلة تبقى ثابتة فيه إلى آخر عمره و تصبح ضمن غرائزه و صفاته الفطريّة، ذلك لأنّ نفس الطفل في هذه الفترة لها قابلية محضة، مع أنّ عامّة الناس لا يدركون هذا المعنى المهمّ و السرّ الخطير.
و أنا أقول: نعم، الأمر كذلك؛ و لدينا في هذا الموضوع كثير من الشواهد البرهانيّة و الأدلّة العلميّة و التجربيّة و المشاهدات القويّة غير القابلة للتأويل في هذا الموضوع، لا مجال لذكرها الآن.
وفاة ولد الحقير: السيّد محمّد جواد
و من بين الأدلّة التجربيّة و المشاهدة غير القابلة للتأويل، وفاة ولد الحقير ذي الأحد عشر شهراً و اسمه السيّد محمّد جواد. فقد ولد في التاسع من صفر لسنة ۱٣۸۰ هجريّة قمريّة، و قد أطلقنا عليه هذا الاسم للتوسّل بجواد الأئمّة عليه السلام، و لولادته بعد ارتحال استاذ العرفان سماحة آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ رضوان الله عليه بثلاثة أشهر و سبعة أيّام (فقد توفّي الفقيد في الثاني من ذي القعدة لسنة ۱٣۷٩ هـ. ق).
و كان طفلًا طلق المحيّا يسطع النور و الصفاء منه، لكأنّه كان نوراً خالصاً، و قد كان ذلك مشهوداً فيه منذ طفولته تلك، و كنتُ قد لقّبته بـ «مسيح الزمان» و «النور الخالص». و كان لم ينطق بعدُ و لم يمشي على قدميه، بل كانوا يلفّونه بقماط فينهض صباحاً بدون أن يبكي أو يطالب بالرضاعة أو يبحث عن والدته، فيحبو في قماطه و لفّافته تلك صوبي فيجلس في حجري.
نعم، كنّا قد انتقلنا إلى منزل جديد في منطقة «أحمديه دولاب»، و كنتُ قد مرضت بشكل جعلني عدّة أيّام لا أقوى إلّا على تناول عدّة ملاعق من حساء الحليب المعدّ للأطفال، بسبب دُمل داخل اللوزتين و تورّمهما. و انتابتني حمّى شديدة مضافاً إلى المرض المرهق الذي أنهك قواي؛ و خلاصة الأمر فقد كانت حالتي غير جيّدة. و كنت قد رأيت و أنا في الغرفة الخارجيّة (البرّاني) في يوم وفاة ذلك الطفل و قبل ساعة من وفاته رؤيا: كأنّ قطعة نور كانت تأتي من جهة مرقد عبد العظيم الحسنيّ عليه السلام إلى جهة طهران، و كأنّ حرباً قد نشبت في طهران بين المسلمين و الكفّار؛ فجاءت قطعة النور هذه و انضمّت إلى المسلمين و أعانتهم فقهروا الكفّار. و كان ذلك النور السيّد محمّد جواد. ثمّ استيقظتُ و جاء بعد ساعة ولدي الأكبر السيّد محمّد صادق يسأل الحقير عن دروس المدرسة و مسائل الحساب، و كنت مشغولًا معه حين رأيت السيّد محمّد جواد جنب الحوض الصخريّ في ساحة المنزل يلعب بماء الحوض، فهرعت إليه و أدخلته إلى الداخل عند امّه و كانت مشغولة بأعمال الخياطة، و أوصيتها و أكّدتُ عليها بالمحافظة عليه! فهذا الطفل مولع باللعب بالماء و سيعود إلى هناك. ثمّ عدت إلى القسم الخارجيّ من البيت (البرّاني) و انشغلت بملاحظة دروس ولدي الأكبر.
و بالتأكيد فلم تنقضِ دقائق خمس حتّى علا صراخ امّه من ساحة المنزل: الويل لي! لقد مات ولدي! فأسرعتُ من الغرفة إلى ساحة المنزل و شاهدت أن الأمر قد انتهي. و لقد نقلناه على الفور إلى المستشفي حيث اجري له التنفّس بالاوكسيجين و لكن بلا جدوي، فأعدته بنفسي إلى المنزل و وضعته في زاوية الغرفة الخارجيّة و قلت لُامّه و لباقي العائلة: إنّ حال الطفل جيّدة.
و كنتُ أنوي القيام بغسل الطفل ليلًا إلّا أنّ الحاجّ هادي الأبهريّ لم يدعني أفعل ذلك و قال: بأنّ الحاجّ محمّد إسماعيل سيغسله و أنّ آية الله الشيخ صدر الدين الحائريّ سيصبّ عليه الماء. ثمّ إنّه غُسِّل و كُفِّن و دُفِن بعد مراسم مفصّلة في مقبرة «چهل تن دولاب».
و الغرض من هذه القصّة: أنّ عيالي قد تألّمت بشدّة إثر هذه الواقعة، و كانت تتأسّف و تتلهّف. حتّى أتت يوماً إلى مسجد القائم و نقلت الأمر إلى إحدي المخدّرات من مأمومات المسجد و اسمها «فاطمة خانم» فقالت لها: لا تتأسّفي عليه! فقد رأيتُ في المنام أنّ جبلًا كان يوشك أن ينهار على رأس السيّد أبيه، و كان السيّد نائماً تحت ذلك الجبل، فجاء هذا الولد و وقف أمام الجبل و مدّ يديه فأسند بها الجبل فمنعه من السقوط.
و يُستفاد من ذلك أنّ موته كان في الحقيقة اختياريّاً. و كان المرحوم الحاجّ هادي الأبهريّ يقول: كان البلاء يوشك أن يحلّ بهذا المنزل، فضحّى هذا الطفل بنفسه و صدّ بلاءً أكبر من الوقوع. كما هو شأن عليّ الأصغر عليه السلام الذي اختار الاستشهاد بنفسه، و كإبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الذي فدي بنفسه الإمام الحسين عليه السلام و رضي بأن يموت مكانه. و هذه نكتة تستحقّ التأمّل، و هي أنّ الأطفال يمتلكون أرواحاً كبيرة و اختياراً و انتخاباً وجدانيّاً.
عبادات الاطفال حقيقيّة و ليست تمرينيّة
و من بين هذه الشواهد، الأدلّة الشرعيّة لحجّ الأطفال و استحبابه الشرعيّ. بأن يُلبس الأطفال -و لو اولئك الذين لا تتجاوز أعمارهم اليوم الواحد- ملابسَ الإحرام، و أن ينوي وليّ الطفل نيابة عنه و يطوف به و يصلّي عنه و يأخذه معه إلى عرفات و المشعر و مني، و أن يضحّي و يقوم بجميع المناسك مكانه؛ و يقيناً أنّ هذه الأعمال ليست من باب العمل التعبّديّ الصرف و التشبّه بالحجّاج، بل لأنّ روح الطفل و نفسه تمتلك
القابليّة لأن تحجّ حقيقة و تلبّي و تنال الفوز و درجات الشخص المُحْرِم و الحاجّ، أي أنّ آثار حجّ الشخص الحاجّ ستوجد بالاستعداد و القوّة في نفسه؛ مع أنّ مسألة حِجّة الإسلام و وظيفة الحجّ الواجب مسألة اخرى منفصلة. كما يستحبّ أخذ الطفل للعمرة و القيام بالعمرة المفردة بهذا النحو فيكون معتمِراً.
و كذلك لو أتي الطفل بجميع الواجبات و المستحبّات الاخري، فإنّ الآثار الوجوديّة لتلك الأعمال ستؤثّر في روحه؛ و مع أنّ الإلزام و التكليف قد ازيل عنه، إلّا أنّ أصل الأثر باقٍ. و لذا، فقد قال فقهاؤنا رضوان الله عليهم: إنّ أيّ عمل واجب على المكلّفين، له عنوان العمل المستحبّ للصغار غير المكلّفين؛ و إنّ كلّ عمل حرام على المكلّفين، له عنوان العمل المكروه لهم؛ كما أنّ عباداتهم حقيقيّة و ليست تمرينيّة.
أجداد سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد و نسبه
و كان والد السيّد هاشم السيّد قاسم قد تزوّج بامّه و اسمها زينب. و تزوّج السيّد الحدّاد بامرأة اسمها هديّة و تكنّي بامّ مهدي، و تنتمي إلى عشيرة الجنابات و هي من العشائر العربيّة الأصيلة و العريقة و المشهورة بعراقتها و أصالتها، و تتواجد حاليّاً في الحلّة و كربلاء و النجف الأشرف و بعض المناطق الاخري، و من عادة أفرادها أن لا يزوِّجوا بناتهم لغيرهم و لا يتزوَّجوا من غيرهم. و يشغل أفرادها غالباً المناصب الحكوميّة من الرؤساء و الضبّاط؛ لذا فحين ذهبت امّ مهدي مع السيّد الحدّاد مرّة إلى المحكمة لإصدار شهادة الجنسيّة لأولادها، قال لها الحاكم: أ ليس من الحيف أن تتزوّجي من هذا السيّد الغريب الهنديّ المجهول الذي لا أصل له و لا نسب؟!
فما كان من هذه المرأة الثابتة الجنان إلّا أن زمجرت في وجهه كاللبوة: أنت الذي لا أصل لك و لا نسب! فهذا السيّد ابن رسول الله و ابن
أمير المؤمنين و فاطمة الزهراء. هذا هو نسبه، فقل لي نسبك إلى ما قبل مائة سنة، فضلًا عن ألف و أربعمائة سنة!
و هكذا فقد أذعن الحاكم أمام منطقها و اعتذر منها.
و كان أبو زوجته كما أسلفنا هو حسين أبو عَمْشة، و كان اسم امّ زوجته نجيبة.
و كانت كربلاء مسقط رأس السيّد هاشم، كما كان أبوه من مواليد تلك المدينة أيضاً؛ أمّا جدّه السيّد حسن فكان من شيعة الهند، و كان قد وقع في الأسر خلال النزاع و الحرب الدائرة بين طائفتَينِ من أهل الهند بِيَدِ الطائفة المنتصرة، فباع هؤلاء المرحوم السيّد حسن -جدّ الحدّاد- إلى عائلة شيعيّة ملقّبة بـ «أفضل خان»، ثمّ هاجرت هذه العائلة إلى كربلاء و أخذوا السيّد حسن معهم إليها. ثمّ إنّهم أطلقوه من الأسر لمّا شاهدوا منه الكرامات العديدة و لم يعودوا يكلّفوه بعمل. لكنّ السيّد حسن كان يأبى منهم تركه بلا عمل؛ فخيّروه بين عدّة أعمال، فاختار منها السقاية، و قال: هي شغل عمّي العبّاس سلام الله عليه.
و هكذا فقد حطّ السيّد حسن رحاله في كربلاء المقدّسة، ثمّ تزوّج بجدّة السيّد الحدّاد. و من أبنائه السيّد قاسم الذي انجب ثلاثة أولاد: السيّد هاشم الذي وُلِد في «قلعة هندي»، و كان ذلك بسبب الهجوم الذي وقع على كربلاء و قَطْع الماء عنها، ممّا اضطرّ السيّد قاسم و عائلته إلى النزوح عنها و الذهاب إلى المنطقة المذكورة؛ و السيّد محمود و السيّد حسين. و قد التقى الحقير بالسيّد محمود و السيّد حسين كليهما. و كان السيّد محمود يعيش في كربلاء، و قد توفّي قبل السيّد حسين. أمّا السيّد حسين فكان يعيش في بغداد، و يعمل في صناعة الأحذية. و مع أنّهما كانا أصغر من السيّد هاشم، إلّا أنّهما التحقا بالرحمة الأبديّة قبله.
هذا، و قد عمل السيّد حسن في كربلاء بالسقاية، حيث قصّ السيّد الحدّاد قصصاً عن شدّة نجابته و حيائه.
منها: أنّ العرب ذوي الغيرة كانوا أحياناً يرسلون معه نساءهم لوحدهنّ من القري الواقعة في أطراف كربلاء ليشترين ما يحتجْن إليه من كربلاء، فكانت إحداهن تركب الحمار فيسيرون فراسخ عديدة حتّى يصلون المدينة، لكنّ نظره لم يكن ليقع عليهنّ و لو لمرّة واحدة، أي أنّه كان متحفّظاً بحيث لا ينظر إليهنّ و لو سهواً.
و كان متعارفاً عند العرب أن يأتوا مع ابنتهم إلى المدينة عدّة أيّام لشراء لوازم زواج بناتهم فيهيّئون ما يحتاجونه بمساعدة أقاربهم و معارفهم، لكنّهم كانوا يعهدون في السيّد حسن الحياء و العصمة بحيث كانوا يُركبون ابنتهم على الحمار و يرسلونها معه إلى المدينة ليبقوا فيها عدّة أيّام و يشترون ما يحتاجونه و يعودون.
و كان سماحة السيّد الحدّاد يقول: و في كربلاء نفسها حيث كان يسقي بعض البيوت، كان ملتزماً بشكل ينحني معه إلى الجدار عند دخوله المنزل إلى حين خروجه لئلّا يري امرأة ما؛ سواء كان في البيت أحد أم لم يكن. و لهذا فقد كان أصحاب البيوت -و قد عرفوا هذه الروح فيهـ يوصون أهاليهم بأنّ السيّد حسن لا يحتاج لإذن في دخوله البيوت و لا لقرع الأبواب، بل يأتي فيفرغ الماء في المحلّ المعيّن له و ينصرف.
لقد رحل سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد روحي فداه في سنّ السادسة و الثمانين في شهر رمضان المبارك لسنة ألف و أربعمائة و أربع هجريّة قمريّة في مدينة كربلاء (مسقط رأسه و موطنه)، لذا فإنّ ميلاده السعيد سيوافق سنة ۱٣۱۸ هـ. ق.
و كان أوّل لقاء الحقير به في سنة ۱٣۷٦ هـ. ق، ولى من العمر آنذاك
اثنتان و ثلاثون سنة و هو ابن ثمان و خمسين سنة؛ و من ثمّ فقد دامت مدّة استفادة الحقير و نهله من محضر أنواره ثمان و عشرين سنة.
و باعتبار أنّ رحلة سماحة الميرزا السيّد على القاضي قدّس الله تربته كانت في السادس من ربيع الأوّل لسنة ۱٣٦٦ هـ. ق، فإنّ العمر الشريف للسيّد الحدّاد كان آنذاك ثمان و أربعين سنة. و إذا ما علمنا أنّ السيّد الحدّاد قد تشرّف و تتلمذ في محضر سماحة السيّد القاضي و هو في العشرين من عمره، فإنّه سيكون -هو الآخر- قد استفاد من محضر السيّد القاضي ثمان و عشرين سنة. و كان الحاجّ الشيخ عبّاس يقول: لقد أدركتُ محضر السيّد القاضي ثلاث عشرة سنة.
و بما أنّ المرحوم السيّد حسن الإصفهانيّ المَسقطيّ -و كان من أعاظم تلامذة المرحوم القاضي و له علاقات ممتدّة و حسنة جدّاً مع السيّد الحدّاد قد رحل عن الدنيا سنة ۱٣٥۰ هـ. ق، فإنّ المرحوم السيّد هاشم قد اكتسب من فيض المرحوم القاضي أكثر منه بستّ عشرة سنة.
فكم- يا ترى -استفاد المرحوم المسقطيّ من محضر المرحوم القاضي؟ لو كانت الإجابة اثنتا عشرة سنة لاتّضح أنّ رفيقَي الطريق هذين قد تشرّفا في الحضور في محضر المرحوم القاضي في زمن واحد، أمّا إذا كان ذلك أقلّ من اثنتي عشرة سنة، فسيكون السيّد الحدّاد قد سبقه في الاستفادة من محضره.
السيّد حسن المسقطيّ كما يصفه سماحة السيّد هاشم الحدّاد قدّس سرّه
و كان السيّد هاشم يذكر السيّد حسن المسقطيّ كثيراً في كلامه و يقول: كان له حماسٌ شديد و توحيدٌ رفيع، و كان استاذاً في البحث و تدريس الحكمة، و كان متفوّقاً و مميّزاً في المجادلة، فلم يكن أحد ليجرؤ أن يجادله أو ينازعه أو يبحث معه أمراً؛ لأنّه لا يخرج من ذلك إلّا بنصيب الإدانة.
و كان يجلس في الصحن المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام فيدرّس الطلّاب درس الحكمة و العرفان، و كان يثير الحماس و الهيجان بحيث كان يبعث في طلّابه روح التوحيد و الخلوص و الطهارة بدروسه المتينة المحكمة، و يسوقهم إلى الإعراض عن الدنيا و الاتّجاه صوب العقبي و عالم التوحيد الحقّ.
و لقد نقل أتباع المرحوم آية الله السيّد أبي الحسن الإصفهانيّ قدّس سرّه له: بأنّ السيّد حسن لو استمرّ في دروسه لقلب الحوزة العلميّة إلى حوزة توحيديّة، و لأوصل جميع الطلّاب إلى عالم الربوبيّة الحقّ و إلى حقيقة عبوديّتهم.
لذا فقد مُنِع تدريس علم الحكمة الإلهيّة و العرفان في النجف؛ كما امِر السيّد حسن بالذهاب إلى «مسقط» للتبليغ و ترويج الدين.
و لم يكن للسيّد حسن أدنى رغبة في الخروج من النجف الأشرف، و كان فراق المرحوم القاضي بالنسبة له من أصعب الامور و المشكلات؛ لذا فقد ذهب إلى استاذه السيّد القاضي و قال له: أ تسمحون أن أستمرّ في الدرس و أتجاهل منع السيّد و أستمرّ في الجهاد في طريق التوحيد؟!
فردّ المرحوم آية الله القاضي عليه: اذهب من النجف إلى مسقط حسب أمر السيّد! إنّ الله معك، و سيهديك و يأخذ بيدك حيثما كنت فيوصلك إلى المطلوب الغائيّ و نهاية درب السلوك و أعلى ذروة التوحيد و المعرفة.
و هكذا فقد سافر السيّد حسن إلى مسقط، و كان إصفهانيّ الأصل و معروفاً بالإصفهانيّ، ثمّ عُرف بعد ذلك بالمَسْقَطيّ. و كان لا يرد- في طريقه إلى مسقط فندقاً أو دار ضيافة، بل كان يأوي إلى المساجد. و حين وصل مسقط كان له حظّ في التبليغ و الترويج، فقد جعل أهل مسقط
بأجمعهم من المؤمنين الموحّدين، و دعاهم إلى الصدق و الإخلاص و إهمال الزخارف المادّيّة و التعيّنات الصوريّة و الاعتباريّة؛ فعرفه الجميع على أنّه مرشد الكلّ و هادي السبل، و أذعن أمام عظمته العالم و الجاهل و العوامّ و الخواصّ. و كان آخر عمره يعيش دوماً مرتدياً لباسَي الإحرام.
و كان أن دعوه للذهاب إلى الهند، فأجاب دعوتهم و شدّ الرحال إلى تلك الديار في سبيله إلى المقصود. و لم يكن كذلك ليحلّ في طريقه بالفنادق بل كان يذهب إلى المساجد فيبيت فيها؛ حتّى وجدوه -و هو في طريقه متنقّلًا من مدينة إلى أخرى- في مسجد من المساجد مرتدياً نفس ثوبَي الإحرام و قد فارق الحياة حال سجوده.۱
خطبة همّام في «نهج البلاغة»
وَ لَوْ لا الأجَلُ الذي كُتِبَ عَلَيهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أرْوَاحُهُمْ في أجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إلى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ العِقَابِ. عَظُمَ الخَالِقُ في أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ في أعْيُنِهِمْ. فَهُمْ وَ الجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَ شُرُورُهُمْ مَأمُونَةٌ، وَ أجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَ أنْفُسُهُمْ عَفِيَفَةٌ.
صَبَرُوا أيَّاماً قَصِيرَةً أعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً؛ تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ
رَبُّهُمْ. أرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَ أسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ.
حتّي يصل إلى قوله عليه السلام:
يَنْظُرُ إلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَي وَ مَا بِالقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ؛ وَ يَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا؛ وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ.۱
نعم! لقد أبعدت حوزة النجف السيّد حسن المسقطيّ؛ و لم تعلم هذه الحوزة الضائعة المتحيّرة أيّ جوهر ثمين فقدت! و أيّ رجل توحيد، و أيّ شخصيّة إلهيّة، و أيّ اسطوانة عِلم و سَنَد فضيلة أضاعت! و لو عَلَمَتْ لكان جهلًا بسيطاً، و لكنّه -و يا للأسف الشديد- الجهل المركب! فالسيّد حسن أينما ذهب؛ إلى مسقط أو الهند أو البحر أو الصحراء، فهو مع الله و الله معه، و هو الساجد الراكع و المرتدي لرداء الإحرام ظاهراً و باطناً، و هو المستغرق في عالم الولاية و مع الوليّ المطلق٢.
تدريس الأبحاث القرآنيّة و العلوم العقليّة و العرفان من ضرورات علوم الحوزات
...۱
نعم، لقد قال السيّد هاشم: كنت مشغولًا في كربلاء بالدروس العلميّة و غيرها من دروس الطلبة، فقرأتُ للسيوطيّ، و حين تشرّفت بالذهاب إلى النجف للدراسة و التحصيل لأنهل من محضر السيّد المرحوم القاضي و لأقوم بخدمة المدرسة (المدرسة الهنديّة: محلّ إقامة المرحوم القاضيّ)؛ و ما إن دخلتُ هناك حتّى رأيت أمامي سيّداً جالساً فأحسست بانجذاب نحوه بلا إرادة، فذهبتُ و سلّمت عليه و قبّلت يده، فقال المرحوم القاضي: لقد وصلتَ!
ثمّ اتّخذتُ غرفة هناك لنفسي، و منذ ذلك الوقت و من هناك فتح باب المراودة مع السيّد. و صادف أن كانت غرفة السيّد الحدّاد هي غرفة المرحوم السيّد بحر العلوم. و كان المرحوم القاضي يتردّد عليها كثيراً؛ و كان يقول له أحياناً: أخلِ الغرفة الليلة! اريد أن أبيت هنا لوحدي!
و كان السيّد يقول: و بعد عودتي إلى كربلاء كنت أتشرّف أحياناً بالذهاب إلى النجف في أوقات الزيارة و غيرها -غير الأوقات التي كان السيّد القاضي يتشرّف فيها بالمجيء إلى كربلاء- فذهبتُ يوماً من كربلاء إلى النجف الأشرف و أخذتُ للسيّد خمسين فلساً (أي درهماً واحداً،
و الدينار العراقيّ عشرون درهماً) و كان منزل السيّد في محلّة الجُدَيْدَة (الشارع الثاني) و كان الجوّ حارّاً، فعلمتُ أنّ السيّد نائم، و قلتُ في نفسي: إن طرقتُ الباب استيقظ السيّد. فجلستُ على الأرض جنب باب البيت، و كنت تعباً لدرجة أنّ النعاس سرعان ما غلبني. ثمّ استيقظت بعد ساعة فرأيت السيّد و قد خرج إلى و لاطفني كثيراً و دعاني إلى الدخول، ثمّ قدّمت له الخمسين فلساً و عدتُ.
التعبّد الشديد للسيّد هاشم بالاحكام الشرعيّة
و لقد كان المرحوم الحدّاد متعبِّداً كثيراً بالنسبة لُامور الشرع و للأحكام الفقهيّة. و كان يستحيل أن يعلم بحكم فلا يعمل به، حتّى العمل بالمستحبّات و ترك المكروهات. و كان بنفسه مصباحاً نورانيّاً من العلم، إلّا أنّه كان -من باب حفظ الشرع و أحكامهـ يقلّد غيره في الامور العباديّة و الأحكام الجزئيّة.
و لقد كنّا في ذلك السفر مجتمعين فوق سطح البيت ليلة عرفة مع جمع من أهالي النجف و الكاظميّة و بغداد و السماوة و غيرها، و كان ذلك بعد صلاتَي المغرب و العشاء، و كانوا يريدون تقديم طعام بسيط لينصرف الحضور إلى الاشتغال بأعمال ليلة عرفة و الزيارة؛ فقال السيّد في بهجة لا تفوقها بهجة: إنّ السيّد فلاناً هو سيّد الطائفتَينِ! (أي: أنّه مجتهد في أمر الشريعة، و مجتهد في أمر الطريقة كذلك). ثمّ قال: لقد كنتُ حتّى الآن اقلِّدُ سماحة الشيخ هادي الشيخ زين العابدين۱ لكنّي ساقلِّده من الآن
فصاعداً!
و كان السيّد ينتقد الحقير أحياناً في المسائل الشرعيّة، فقد قال مرّة: حين تمسح على الرجلين، ضعهما على مكان ثابت كي يكون مسحهما جيّداً؛ لأنّ المسح عليهما معلّقتين ربما غفل خلاله الإنسان، و عند ذلك فلن تكون اليدين هما اللتين تمسحان القدمين، بل ستكون القدمان هما اللتين تمسحان اليدين. و قال مرّة أخرى: إنّ البصاق في المرحاض أمر مكروه، لأنّه من أجزاء بدن المؤمن و ينبغي ألا يختلط بالقاذورات؛ أمّا النخامة التي تلقى من فم الإنسان في المرحاض فليست كذلك، لأنّها ليست من أجزاء البدن بل هي من الفضلات، فلا إشكال في خلطها بسائر القاذورات.
و قال مرّة أخرى: من الأفضل للمرء حين يعطي صدقاته المستحبّة و الخيريّة، أن تكون من أزكى أقسام أمواله؛ فتقسيم المال و إعطاء قسمه المشكوك للفقراء و للسادة خاصّة أمر غير مقبول.
و حصل ذلك في وقت كان الحقير قد أرسل حديثاً مالًا بعنوان الصدقة المستحبّة و الامور الخيريّة إلى أحد السادة، و كنتُ قد استبقيتُ
لنفسي وقت التعيين تلك القسمة الزاكية بلا شبهة، و اخترت القسم المشتبه و مجهول الحال لإرساله لذلك السيّد؛ و يعلم الله أنّه لم يطّلع على ذلك غيري سواه سبحانه. فقام السيّد بهذا الإخبار باطّلاعي و تنبيهي لهذا الأمر المستور، و أعطى كذلك الأمر بالعمل بفحوى الآية القرآنيّة الكريمة:
﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.۱
و صادف مرّة أن وضعتُ قدراً من الثلج في قدح فيه لبن رائب ممزوج بالماء، و أردتُ تقديمه إليه فقمتُ بمزجه و خلطه بسبّابتي لتبريده قبل تقديمه؛ فلم يشربه و قال: استعمل الملعقة للمزج، فأحرى باليد أن تكون ملوّثة! ثمّ قال: لقد اتّفق لي نفس هذا الأمر مع المرحوم السيّد (القاضي) فقد تشرّف يوماً بالمجيء إلى كربلاء و تفضّل بالمجيء إلى دكّاني، فأعددتُ له قدحاً من اللبن الرائب الممزوج بالماء و وضعت فيه الثلج ثمّ مزجته بإصبعي لُاقدّمه له، فاستنكف عن شربه و قال: لا تمزج بإصبعك!
تفسير السيّد هاشم لفائدة حقيقة اللعن في دعاء علقمة
و في يوم تاسوعاء جرى قراءة زيارة عاشوراء في منزله، ثمّ اللعن مائة مرّة و السلام مائة مرّة، ثمّ قُرئ دعاء علقمة بعد صلاة الزيارة؛ فسأل أحد الحاضرين في نهاية الدعاء: كيف تنسجم هذه اللعنات الشديدة الأكيدة بهذه المضامين المختلفة مع روح الإمام الصادق عليه السلام التي كانت مركزاً و منبعاً للرحمة و المحبة؟! ففي هذا الدعاء الذي يبدأ بـ «يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا مُجِيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرِّينَ» يصل إلى القول:
اللهُمَّ مَنْ أرَادَنِي بِسُوءٍ فَأرِدْهُ! وَ مَنْ كَادَنِي فَكِدْهُ! وَ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُ وَ مَكْرَهُ وَ بَأسَهُ وَ أمَانِيَّهُ! وَ امْنَعْهُ عَنِّي كَيْفَ شِئْتَ وَ أنَّى شِئْتَ!
اللهُمَّ اشْغَلْهُ عَنِّي بِفَقْرٍ لَا تَجْبُرُهُ، وَ بِبَلَاءٍ لَا تَسْتُرُهُ، وَ بِفَاقَةٍ لَا تَسُدُّهَا، وَ بِسُقْمٍ لَا تُعَافِيهِ، وَ ذُلٍّ لَا تُعِزُّهُ، وَ بِمَسْكَنَةٍ لَا تَجْبُرُهَا!
اللهُمَّ اضْرِبْ بِالذُّلِّ نَصْبَ عَيْنَيْهِ، وَ أدْخِلْ عَلَيهِ الفَقْرَ في مَنْزِلِهِ، وَ العِلَّةَ وَ السُّقْمَ في بَدَنِهِ؛ حتّى تَشْغَلَهُ عَنِّي بِشُغْلٍ شَاغِلٍ لَا فَرَاغَ لَهُ، وَ أنْسِهِ ذِكْرِي كَمَا أنْسَيْتَهُ ذِكْرَكَ، وَ خُذْ عَنِّي بِسَمْعِهِ وَ بَصَرِهِ وَ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ وَ رِجْلِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَمِيعِ جَوَارِحِهِ، وَ أدْخِلْ عَلَيهِ في جَمِيعِ ذَلِكَ السُّقْمَ، وَ لَا تَشْفِهِ حتّى تَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُ شُغْلًا شَاغِلًا بِهِ عَنِّي وَ عَنْ ذِكْرِي. وَ اكْفِنِي مَا لَا يَكْفِي سِوَاكَ؛ فَإنَّكَ الكَافِي لَا كَافِيَ سِوَاكَ، وَ مُفَرِّجٌ لَا مُفَرِّجَ سِوَاكَ، وَ مُغِيثٌ لَا مُغِيثَ سِوَاكَ، وَ جَارٌ لَا جَارَ سِوَاكَ.۱
كلامه: لا يرشح عن أولياء الله شرّ؛ و لعنهم للاعداء نفع يعود على الاعداء
فكان جوابه على ذلك: أنّ هذا الدعاء كلّه طلب للخير و الرحمة، بالرغم من ظهوره بعبارات و كلمات اللعن. و بشكل عامّ فإنّ جميع اللعنات التي ترد على لسان الله تعالى أو على لسان النبيّ و الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين هي كلّها خير محض؛ فلا ينضح عن الله و أوليائه غير الخير.
و تنصبّ جميع هذه اللعنات على الشخص المعتدي، لا المؤمن المتّقي المشغول بعمله؛ فمهما اعطي ذلك المعتدي الظالم عمراً و صحّة و قدرة، صرفها جميعاً في إضراره بالآخرين و اعتدائه على حرمة المظلومين. و من ثمّ فإنّ في تحديد سلامته و قدرته و حياته دفعاً للضرر، و دفع الضرر ليس في الحقيقة إلّا نفعاً. و قد يخيّل إلينا بهذه النظرة الطبيعيّة
و الحسّيّة أنّ الخير هو على الدوام في السلامة و القدرة و الحياة، من دون ملاحظة لواقعيّة الحياة في النيّة الحسنة أو السيّئة و في الإرادة الحسنة أو السيّئة و في الاعتقاد الحسن أو السيّئ، لكن الأمر ليس كذلك إذ ينبغي أيضاً ملاحظة المعنى؛ فالحياة خير للإنسان حين تكون منشأ خير لنفسه و للآخرين، أمّا لو صارت منشأً للشرّ، فإنّ إطالة عمره و زيادة سلامته و صحّته و زيادة قدرته ستؤدّي إلى ظلمه لنفسه و تعدّيه و تجاوزه على حرمة البشريّة، و لا خير في تلك الحياة هنا، و لا يصدق عليها عنوان الخير.۱
و في هذه الحال و في هذا الفرض، فإنّ ضدّه سيكون خيراً. أي أنّ الموت و المرض و المسكنة لهذا الرجل خير، و لو لم يكن هو أو الآخرون يعلمون بذلك. فحين يستأصل مبضع الجرّاح عضواً فاسداً، فإنّه يقوم بعمل خير و لو استلزم المرض و التخدير و إراقة دم المريض و تناول الأدوية المرّة؛ و على الرغم من أنّ ذلك العضو الفاسد يعتبر نفسه صالحاً، إلّا أنّ الحقيقة ليست كذلك.
و ليست الرحمة مقرونة دائماً بالسمنة و تناول الأغذية الدسمة و الحلويّات، بل هي أحياناً في الهزال و تحمل الجوع و القنوع بتناول الأطعمة البسيطة. و من شأن الطفل أن يطلب من أبيه الحلويّات، لكنّ أباه العطوف لا يعطيه ذلك دوماً بل يعطيه منها أحياناً و بقدر معيّن، فذلك خير للطفل و رحمة. كما أنّه يُعطيه أحياناً المسهل و المرّ، و يزرقه أحياناً اخرى بحقن الدواء، و يُرقده على سرير المستشفى لإجراء عمليّة جراحيّة، و يمنعه من اللعب؛ فلا يرضى الطفل بهذا الاسلوب، لأنّه يرغب دوماً في الركض و اللعب و تناول الحلوى، لذا فإنّه ينتقد أباه لحصره و لمنعه له
و لربّما خطر في باله أنّ أباه عدوّ له و شخص يتعمّد إيذاءه! لكنّ حقيقة الأمر و واقعه غير ذلك، فلقد كانت جميع تصرّفات الأب خيراً للطفل و رحمة لأنّها توجب حياته و لو جهل الطفل ذلك و لم يرضاه. لذا نرى الأب ينزعج كثيراً ممّا ينتاب طفله من سوء، فيستعصي عليه النوم و يقف في المستشفى ساهراً عند سرير طفله و هو ما يمثِّل عين الرحمة.
و قد تتجلّى الرحمة أحياناً في مجال الإعطاء و تقديم الحلوى، و أحياناً في المنع و زرق المغذّي في الوريد، و كلاهما رحمة بمظهرَينِ و كيفيتَينِ.
و لقد جاء الأنبياء و الأئمّة من أجل الحياة الحقيقيّة و السعادة الخالدة للبشر و تركّزت رسالاتهم و انصبّت في هذا المجال، لذا فأينما تعارضت الحياة الواقعيّة الحقيقيّة مع الحياة الطبيعيّة، و الصحّة الحقيقيّة مع الصحّة المجازيّة، و القدرة الأصيلة مع القدرة الاعتباريّة؛ غضّوا عن الثانية لحفظ الأولى. فهم يُصدرون الأمر بالجهاد فيقتلون المشركين و الكفّار و يؤدّبون المنافقين و يعاقبون المجرمين، و هي جميعاً خير لإيصال الشخص المعتدي و الظالم للهدف الإنسانيّ الرفيع.
كما أنّ عرك الاذن للتأديب، و الإصابة بالإقعاد، و الفقر و الفاقة، و المرض و انحراف الصحّة هي خير جميعاً، لأنّها تنبّه الإنسان و تعيده لنفسه، و تقلّل من التمادي و الغرور للنفس الأمّارة و تمنح الإنسان أصالة، فهي خير و رحمة إذاً - انتهى مفاد و محصّل جواب السيّد.
دعاء «الصحيفة السجّاديّة» يشابه دعاء علقمة في لعن الكفّار
و يشاهد نظير هذا الدعاء في الكثير من الأدعية المرويّة عن الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و من بينها دعاء الإمام زين العابدين و سيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السلام الوارد في «الصحيفة الكاملة» في شأن حرّاس و حَفَظَة ثغور الإسلام و المسلمين؛ فهو بعد أن يدعو لهم دعاء الخير و الرحمة مفصّلًا، يدعو في ساحة الربّ بشأن
أعدائهم الذين يواجهونهم:
اللهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَ اقْلِمْ عَنْهُمْ أظْفَارَهُمْ، وَ فَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أسْلِحَتِهِمْ، وَ اخْلَعْ وَثَائِقَ أفْئِدَتِهِمْ، وَ بَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أزْوِدَتِهِمْ، وَ حَيِّرْهُمْ في سُبُلِهِمْ، وَ ضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَ اقْطَعْ عَنْهُمُ المددَ، وَ انْقُصْ مِنْهُمُ العَدَدَ، وَ امْلأ أفْئِدَتَهُمْ الرُّعْبَ، وَ اقْبِضْ أيْدِيَهُمْ عَنِ البَسْطِ، وَ اخْزِمْ ألْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَ نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَ اقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ.
اللهُمَّ عَقِّمْ أرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَ يَبِّسْ أصْلَابَ رِجَالِهِمْ، وَ اقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَ أنْعَامِهِمْ، لَا تَأذَنْ لِسَمَائِهِمْ في قَطْرٍ، وَ لَا لأرْضِهِمْ في نَبَاتٍ!۱
و على كلّ حال، فلقد تشرّف الحقير في هذا السفر -كما فعل في السفر السابق- بالذهاب إلى النجف الأشرف أيّام عيد الغدير و أقمتُ هناك عشرة أيّام، لكنّ السيّد الحدّاد لم يتشرّف هذه المرّة بالمجيء إلى النجف؛ ثمّ عدتُ إلى كربلاء فبقيتُ إلى ما بعد شهادة الإمام بثلاثة أيّام، و تشرّفت بعد ذلك بزيارة الكاظمين و سامرّاء بصحبة السيّد الحدّاد، ثمّ عدت إلى طهران في أوائل العشرة الثالثة من محرّم الحرام.
القِسْمُ الرَّابِعُ: السَّفَرُ الثَّالِثُ لِلْحَقِيرِ إلى العَتَبَاتِ المُقَدَّسَةِ سَنَةَ ۱٣۸٥ هِجْرِيَّة قَمَرِيَّة
السفر الثالث للحقير إلى العتبات المقدّسة
سنة ۱٣۸٥ هجريّة قمريّة
لقد كان محلّ نوم و استراحة عائلة السيّد الحدّاد و زوجات أبنائه في المنزل المستأجر الأخير خلال فصل الصيف منحصراً في سطح المنزل، فمن المعهود عند عرب النجف الأشرف و كربلاء المقدّسة أن يصعدوا في الليالي إلى سطوح منازلهم المسيّجة في فصل الصيف، ذلك لأنّ شدّة الحرّ تجبرهم على النوم في الأماكن المرتفعة المكشوفة و تجعل الغرف غير صالحة كأماكن للنوم و الاستراحة. و كنت مجبراً في سفري و حلولي على سماحة السيّد الحدّاد في منزله المستأجر هذا خلال فصل الربيع و أشهره الأخيرة على النوم مع سماحته على السطح ليلًا، فكانت النساء يرقدن في الغرف، و كنّ بالطبع يتحمّلن الأذى في ذلك، و كان السطح مكشوفاً لا يمكن تجزئته؛ لذا فقد قرّر الحقير أنّه من الأفضل أن تكون سفراتي الآتية للتشرّف بزيارة العتبات المقدّسة في فصل غير فصل الحرّ، كي لا يسبّب ذلك الأذى لأهل بيت السيّد و عائلته، و قد فاتحته بهذا الأمر فأيّد ذلك و أقرّه.
هذا من جهة، و من جهة أخرى فقد سمعتُ بنيّة السيّد على الذهاب لحجّ بيت الله الحرام هذه السنة، حيث يستوعب سفره شهرَي ذي القعدة و ذي الحجّة. و من ثمّ فقد اخترت وقوع السفر التالي في فصل الشتاء و ذلك للقيام بالزيارة الرجبيّة و الشعبانيّة، و هكذا تحرّكت نحو الكاظميّة قبل حلول شهر جمادي الآخرة لسنة ۱٣۸٥ هجريّة قمريّة بأيّام، حيث توقّفت
فيها عدّة أيّام لزيارة ذينك الإمامين الهمامين. ثمّ توجّهت صوب كربلاء و حللتُ في منزل سماحة السيّد الحدّاد فقضيت ليالي و أيّاماً في محضره المبارك.
سفر آية الله السيّد إبراهيم خسروشاهي و لقاؤه بالحدّاد قدّس الله نفسه
و قد شرَّفنا بالمجئ صباح أحد أيّام الزيارة الرجبيّة تلك، صديق الحقير الحميم و رفيقه الشفيق، النزيه الفاضل من أهل الفضل: سماحة آية الله السيّد إبراهيم خسروشاهي الكرمانشاهيّ أدام الله أيّام بركاته حيث قَدِمَ للالتقاء بالحقير و كذلك لزيارة سماحة الحاجّ السيّد الحدّاد ضمناً. و كنتُ جالساً في زاوية الغرفة و السيّد الحدّاد نائماً في الجانب الآخر من الغرفة يتردّد صوت أنفاسه في النوم بشكل واضح.
و كان الحقير قد بحث سابقاً بشكل مفصّل مع هذا الصديق الذي يفوق الأخ في عطفه، و الأكثر إخلاصاً من كلّ صاحب و صديق، و الأكثر خلوصاً و تنزّهاً عن أيّ نوع من الشوائب و الأوهام بشأن عظمة سماحة السيّد الحدّاد و قدرته العلميّة و التوحيديّة و سعة علومه الملكوتيّة و وارداته القلبيّة، و الإجلال و الإكرام اللذين كانا يبديهما له الاستاذ الأعظم آية الله الحاجّ الميرزا علي آقا القاضي قدّس الله تربته.
و من ثمّ فقد دعوتُه بشكل جادّ إلى التبعيّة و التسليم مقابل ولاية السيّد الحدّاد، و قلت له: لقد طفتم عمراً باحثين عن المعارف الإلهيّة، و لم تتورّعوا عن بذل كلّ مسعى لكشف الحجب و للشهود العيانيّ، بل إنّ السيّد الحدّاد يمثّل امنيتكم الكامنة في صدركم الشريف، فلقد بحثتم عن إنسان كامل تسلّمون أنفسكم إليه على يقين و بيّنة! فها هو ذا أمامكم نائماً في تلك الزاوية من الغرفة. و لقد تشرّفتم بالمجيء إلى كربلاء عدّة أيّام، فتعالوا هنا و أنا معكم، و الأمل كبير إن شاء الله تعالى في أن تُقضى حوائجكم و تُحلّ مشاكلكم.
فقال: أخاف ألّا يكون هو من أبغي، و حينذاك سأتورّط في الأمر و لن يكون لي من طريق للنجاة و الخلاص.
قلتُ: لستم طفلًا قاصراً أو سفيهاً لتُخدعوا أو تضلّلوا، فأنتم بحمد الله و منّه من العلماء الذين لهم سابقتهم و فضلهم و لهم معرفتهم بالقرآن و بأخبار المعصومين عليهم السلام، و لقد درستم دروس الحكمة عند استاذنا العلّامة آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الشريفة، و فهمتم جيّداً «شرح منازل السائرين» و «شرح القيصري» و «الفتوحات المكّيّة» لمحيي الدين بن عربي، فليس مقبولًا مع كلّ هذه الامور أن تقولوا: إنّني اخدع، أو إنّني أتورّط في ورطة لا أمل في النجاة منها! إنّ أحداً لا يُجبركم، كما أنّ أحداً لا يدعوكم للتسليم لمحضره؛ بل تعالوا بأنفسكم كشخص عادي و سلوا عن مشكلاتكم بكلّ حرّيّة، ثمّ انظروا هل سيمكنه حلّها أم لا؟! اختبروه في قدرة التوحيد و الوصول إلى أعلى درجة اليقين، و انظروا هل تجدون فيه -و هو الرجل العادي الحدّاد صانع النعل- ما قرأتموه و سمعتموه أم لا؟
فإن لم تجدوا ذلك، فإنّ شيئاً لن يضيركم و ستستمرّون على انتهاج طريقكم السابق، و إذا ما وجدتموه حائزاً للشرائط التي تتطلبونها بأنفسكم فالتزموا بتعاليمه. على أنّه ليس بالشخص الذي يفتح بابه لكلّ وارد، و أنتم ترون انزواءه و عزلته و أنّ أحداً لا يطرق باب بيته، و أنّه غير متفرِّغ لمثل هذه الامور؛ و لكن بناءً على العطف و المحبّة اللذان أبداهما للحقير بكرمه و لطفه، فسأ توسّط في الأمر و أطلب منه ذلك، و إذا ما وافق فلربّما ستجدون ضالّتكم المنشودة هنا!
إن هذا الرجل استاذ كامل خبير في العلوم العرفانيّة و المشاهدات الربّانيّة، فهو يرفض الكثير من كلمات محيي الدين بن عربي و ينقد
اصولها و يُبَيِّن جانب الخطأ لديه، فسلوه عن أعقد مطالب «منظومة» الحاجّ السبزواريّ و «أسفار» الآخوند و أقوال «شرح فصوص الحكم» و «مصباح الانس» و «شرح النصوص» الأشدّ إبهاماً و غموضاً، و انظروا من أيّ افق سيطلع، و كيف سيجيب و يعدّد مطالبها الصحيحة و السقيمة! هذا الرجل لا ينام، بل هو يقظ على الدوام، يقظ في النوم و الصحو؛ نومه و استيقاظه على حدّ سواء، فهو يغمض عينيه لكنّ قلبه صاحٍ متيقِّظ، فما الذي تريدونه أكثر من هذا؟!
قال: لو كان كما تقول، فها هو الآن نائم، فسله عن أمرٍ ما لنرى كيف يفهم في نومه و يجيب!
قلتُ: لا مانع عندي من السؤال، و لكن أ يليق برجل عظيم كهذا أن نُهبطه من ذلك العلو الملكوتيّ الروحيّ و المحو في جمال الحقّ، فنسأل منه مطلباً للامتحان فقط؟! إنّني لم يسبق لي أن قمت بمثل هذه الاختبارات؛ و ما هو مشهود لديّ قد تحقّق بنفسه تلقائيّاً.
و أخيراً استيقظ السيّد و ذهب لتجديد وضوئه، ثمّ عاد بعد أن توضّأ و جلسنا لتناول طعام الفطور. فقال لي السيّد إبراهيم: لا مجال لديّ الآن، فأنا في زيارة لكربلاء لعدّة أيّام -ربّما لأنّه كان يرافق جماعة في سفرهـ و سيبقى ذلك إلى وقتٍ آخر إن شاء الله، عسى الله أن يوفّقني له.
و هكذا فقد انقضى ما حصل اليوم. فلمّا كان اليوم التالي استيقظ السيّد من النوم، فكان يتكلّم مع نفسه في الفراش: «يقال عنه: إنّه لا ينام. يقول: لا أذكرُ في جميع عمري أنّني بقيتُ ليلةً لم أنم فيها؛ فما الذي سيعود علينا لطفه؟ فهو ليس لنا!».
دعوة الحقير لآية الله السيّد إبراهيم لضرورة درك محضر آية الله الانصاريّ
و كان الحقير قد دعا هذا الصديق المكرّم -قبل دعوتي له للسيّد هاشم- إلى المرحوم آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ قدّس الله تربته
زمن حياته، و ألححتُ عليه بإصرار و قلت له: إنّ ضالّتك عند هذا الرجل، فهو رجل إلهيّ ذو صفات إلهيّة، رجلٌ تخطّى نفسه و تجاوزها و فاز بدرجة المخلَصين.
و كان قد قبل دعوة الحقير يوماً و شرّفني بتناول طعام الغداء و كنت آنذاك في النجف الأشرف للتحصيل و الدرس. فجلسنا في السرداب المتعارف للمنزل الذي ابتاعه الحقير في محلّة العمارة جنب السور نتحدّث حول مقامات و كمالات المرحوم الأنصاريّ من وقت الغداء، أي بعد الفريضة لساعتين تقريباً. و كنتُ أعلم أن الحاجّ السيّد إبراهيم -شأنه شأن الحقير والهٌ قد أضناه التمزّق، فهو يبحث عن ضالّته المنشودة من سالف الأيّام، لذا فقد أحببتُ كثيراً أن أدعوه هو الآخر إلى انتهاج السلوك العمليّ و العرفانيّ للمرحوم آية الله الأنصاريّ و مشيه و منهجه.
فقال: أجل، لقد كتبتُ قبل عدّة سنوات من مدينة قم (محلّ سكناه و تحصيله) رسالةً إلى آية الله الأنصاريّ سألته فيها عن امور أردت معرفتها، فأجاب المرحوم الأنصاريّ على رسالتي بمحبّته و لطفه الوافر، و أشار فيها إلى أنّ الطريق مفتوح؛ لكنّي تعلّلت بعد ذلك بعلل و لم اتابع الأمر لجهات عديدة.
منها: أنّه معروف في همدان بالتصوّف، و واضح أنّ نهجنا و طريقتنا غير طريقة الصوفيّة و نهجهم.
و منها: أنّ بعض علماء همدان و أئمّة الجماعة فيها ينتقده و لا يذكره بخير.
و منها: أنّ السيّد... نقل أنّ أحد أصحاب الأنصاريّ انتابته في جلسته حالة من التغيير و انقلاب الحال، فادّعى الوصل و مشاهدات العالم الربوبيّ، ثمّ عرضت له حالة تقيّؤ، فاستبان أنّ انقلاب حاله و ادّعاءه الوصل
و المشاهدة كانا من الإفراط في الأكل و امتلاء معدته و أمعائه.
فقال الحقير: لقد رافقتُ المرحوم الأنصاريّ في النجف الأشرف شهرين كاملين، و صحبتُه في سفره إلى همدان لُاسبوعين كاملين شهدت فيها عن قرب حالاته و مقاماته و كمالاته و شدّة عبوديّته و عاينت حرصه المفرط على احترام الشريعة، و الذي كان بدرجة شديدة ربّما بدت أحياناً في نظر الحقير إفراطاً. ثمّ قصصتُ عليه عدّة قضايا و وقائع بالتفصيل.
و من ثمّ فإنّ جميع هذه الامور المنقولة عنه كذب محض و افتراء، فأوّلًا: إنّ المرحوم الأنصاريّ يخالف بشدّة طريقة الصوفيّين، فقد كان يعدّ ذلك الطريق طريقاً لترقّي النفس و تقويتها لا طريقاً لفَناء النفس. و كان قد صرّح: أنّ طريق التكامل يكمن في الإتيان بأعمال التقرّب سواءً كان لها ظهور أم لم يكن.
الرمي بالتصوّف هو حربة الوعّاظ غير المتّعظين في تحطيم العرفاء و العرفان
نعم، إنّ في عرف العوامّ و المحصّلين الجهلة عندنا أنّهم يلقّبون بالصوفيّ كلّ من يصلّي صلوات النافلة الليليّة و النهاريّة و يقوم بالإتيان بالسجدات الطويلة و يسعى وراء الحلال، و يجتنب مجالس اللهو و الغِيبة و الكذب و أمثالها بشكل جادّ و حازم و يبتعد قدراً -لإصلاح نفسهـ عن عامّة الناس من عبدة الدنيا. و ليس هذا إلّا من تعاسة و شقاء الوعّاظ غير المتّعظين، فكيف بالعوامّ من الناس!
أ لم يدعوا المرحوم الآخوند الملّا حسين قُلي الهمدانيّ في النجف صوفيّاً؟! أ لم يدعوا المرحوم الحاجّ الميرزا علي آقا القاضي صوفيّاً؟! أ لم يسمّوا المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ الكمبانيّ صوفيّاً، و قاموا بإحراق رسالته المطبوعة في المطبعة بهذه التهمة؟! أ لم يعدّوا المرحوم الحاجّ الميرزا جواد آقا التبريزيّ الملكيّ صوفيّاً؟!
فيا أيّها العزيز! ينبغي عدم الإصغاء لكلام المغرضين و المعاندين
و اللاهثين وراء الدنيا و عَبدتها و لو تلبّسوا بلباس أهل العلم، و إلّا فاتتك القافلة إلى يوم القيامة!
و ثانياً: إنّ الأعاظم من علماء همدان، كالحاجّ الشيخ هادي التألّهيّ، و الآقا الآخوند ملّا علي المعصوميّ الهمدانيّ و أمثالهما يمتدحونه بالقدسيّة و الورع المفرط. فلما ذا لا تسألون هؤلاء عن أحوال الأنصاريّ ليصفونه لكم بمرتبة تفوق مرتبة العدالة و لتتّضح لكم -بإقرارهم و عجزهم عن إدراك معلومات الأنصاريّ لقصور معلوماتهم- كمالاتُه بشكل مشهود؟!
و ثالثاً: إنّ تلامذة و مريدي المرحوم الأنصاريّ في همدان لا يتعدّون عدّة أشخاص و هذه هي أسماؤهم: الحاجّ محمّد البيكزاده، الحاجّ السيّد أحمد الحسينيّ، الحاجّ غلام حسين السبزواريّ، غلام حسين الهمايونيّ، محمّد حسن البياتيّ، إبراهيم إسلاميّة، و محسن بينا؛ أمّا بيان أحوالهم و ترجمتهم فهو أشهر من الشمس في سطوعها، فلأيّ شخص منهم حيكت هذه القصّة المختلقة فوصلت إلى قم؛ حتّى ينتقد السيّد... على المنبر المرحوم الأنصاريّ تلويحاً و كناية بما هو أبلغ من التصريح؟!
فلا تتصوّروا أنّ اتّهام أشخاص كهؤلاء أمر يسير! و سيكون لكلّ منهم موقف يوم القيامة يعترضون فيه سبيل من اتّهمهم و يستوقفونه فلا يدعونه يتقدّم خطوةً واحدة ما لم يُجِب على ما فعل، و ليست تلك المواقف إلّا مواقف جزئيّة قبل الوصول إلى المواقف الكلّيّة و العظيمة.
فقال الحاجّ السيّد إبراهيم: أخشى أن أذهب إلى بيته في همدان فيصبح نفس ذهابي -و لو كان للتحقيق و استجلاء الأمر و الحقيقة- في حال تبيّن خلاف الأمر، تأييداً للباطل؛ لأنّ ذهابي و أنا في لباس أهل العلم و زيّهم ليس كذهاب شخص عاديّ و لربّما صار لا سمح الله إمضاءً و تأييداً للباطل و نشراً له.
فقلت: فاذهبوا ليلًا! اذهبوا سرّاً! ضعوا عباءتكم فوق رأسكم و اذهبوا! و لا تذهبوا إلى منزله بل إلى منزل رفقائه الذين يذهب إليهم! فلقد وضع الله سبحانه طرقاً متعدّدة. مَنْ طَلَبَ شَيْئاً وَ جَدَّ وَجَدَ، وَ مَنْ قَرَعَ باباً وَ لَجَّ وَلَجَ.۱
استخارة آية الله السيّد إبراهيم في الرجوع لمحضر آية الله الانصاريّ
و بعد اللتيّا و اللتي قال لي: استخيروا لي! فاستخرت الله فطالعتنا هذه الآية:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.٢
و لم يقل لي لأيّ شيء كانت الاستخارة لكنّها كانت بعد تلك المذاكرة، فحدستُ أنّها كانت للذهاب إلى همدان و الحضور عند المرحوم الأنصاريّ قدّس الله نفسه. ثمّ قرأت عليه الآية فقال: من الواضح أنّها سيّئة. و انقطع الحديث بيننا بشأن آية الله الأنصاريّ إلى اليوم.
و قد ذكرتُ ذلك الأمر بعد مرور سنة إلى أحد السالكين٣ فقال: لقد
أخطأ في ذلك، فهذه الآية لهذا القصد جيّدة جدّاً؛ فهي تدلّ على أنّه لو ذهب إلى همدان و حضر عند آية الله الأنصاريّ لقامت قيامته و لزلزلت الزلزلة الملكوتيّة و الجذبات الجلاليّة أركان وجوده، و لأفنت كلّ أثر من شوائب الوجود و الوجود المجازيّ المُعار فيه، و لوصل إلى مقام الفناء المطلق، فهذا هو تعبير هذه الآية و تفسيرها لهذا الغرض و الهدف.
زهد و ورع آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ محمّد زاده قدّس الله نفسه
و من الجدير بالذكر أنّ الصديق العزيز آية الله الحاجّ السيّد إبراهيم كان سابقاً في قم من التلامذة و المريدين المخلصين لآية الله المرحوم الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ محمّد زادة قدّس الله نفسه، و المجدّين في دروسه الأخلاقيّة و نهجه و طريقته، و كان ذلك المرحوم عالماً جليلًا متخلّقاً و مؤدّباً بالآداب الشرعيّة. و كان قد اختار الابتعاد في قم عن أبناء الدنيا في فترة اشتداد الانحراف و العمى في عهد البهلويّ الكبير، فذهب إلى آخر المدينة و بنى بيتاً قرب مزارع الرمّان. و كانت له حكايات شيّقة في التوسّل بإمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه، و دعوة طلّاب قم و معاشريه إلى تجنّب آداب الكفر، و الابتعاد عن الحضارة الغربيّة الضالّة و المضلّة. و كان رجلًا مجاهداً صريح اللهجة، و له علاقة صداقة حميمة و قرابة صميميّة و كمال المراودة و المعرفة مع الفقيد السعيد القائد الكبير للثورة الإسلاميّة آية الله الخمينيّ قدّس الله نفسه.۱
...۱
و قد استفاد الحقير من المحضر الشريف لآية الله الطهرانيّ، و كنتُ أذهب في بعض أيّام الجمعة حين تشرّفت بالتحصيل و الدرس في الحوزة المباركة في قم، بمعيّة السيّد إبراهيم فنستفيد من محضره المنوّر، و يفيض علينا من مواعظه و نصائحه. و كان له بعض الحالات الروحيّة التي تكشف عن نوع من الاتّصال، لكنّ الآلام الشديدة التي كان يعاني منها في بطنه و قرحة المعدة التي أقعدته لسنين متمادية من جهة، و المحافظة على الأسرار من جهة أخرى، لم تكونا لتسمحان له أن يكشف الستار عن الطلعة التي تختفي وراءه و يبيِّن الحقائق كما فعل العلّامة الطباطبائيّ و آية الله الأنصاريّ.
و كان يقول: لقد وجدتُ جوهرة في خَرِبَة، فلستُ أعلم طريق العثور عليها. و لقد سأله الحقير يوماً عن التوحيد الأفعاليّ فقال: صَهْ! هذا من الأسرار! و اعلمْ إجمالًا أنّ جميع الامور من الله تعالى!
و هكذا فلم تتوثّق بيننا علاقة الاستاذ و التلميذ، لكنّني كنت أتشرّف بالحضور عنده بوصفه عالماً جليلًا مخلصاً ذا فؤاد كليل، و له حُرقة و لوعة خاصّة عند قراءة دعاء الندبة. و حقّاً فلم يكن ليمنع شيئاً أو يبخل بشيء، و لقد صار الكثير من مواعظه يتصدّر برنامج حياة الحقير حتّى اليوم. رحمة الله عليه رحمة واسعة.
لقد كان سماحة آية الله العلّامة فقط هو استاذ الحقير في السلوك
حين كنت مشغولًا بالتحصيل في الحوزة الطيّبة في قم، و كان يعطي تعليمات خاصّة و يشكّل جلسات تضمّ عدّة أفراد. لكنّ السيّد إبراهيم كان له علاقة قلبيّة و التفات أكثر إلى آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ، فكان يطيعه في جميع الامور طاعة محضة، و كان منزله آنذاك مع المرحومة والدته المكرّمة فقط، و كان قرب منزل الحاجّ الشيخ عبّاس، و كان يتردّد على محضره في أوقات الصلاة و في لقاءات خاصّة.
و على هذا الأساس و على أثر شدّة علاقته به، فقد صار أخيراً صهراً له؛ بَيدَ أنّ الحقير لم يكن قد أوكل نفسه إلى ذلك المرحوم، فكنت أمتلك الحرّيّة أكثر في البحث عن الحقيقة، لذا فقد دعوتُه في النجف و كربلاء زمن حياة المرحوم الشيخ عبّاس لمتابعة المرحوم الأنصاريّ، لكنّ دعوتي له لمتابعة سماحة السيّد هاشم كانت بعد ارتحال ذلك المرحوم.
و لقد كان آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ يحبّ الحقير كما يحبّ ولده، كما هو الظاهر من رسالته التي أرسلها إلى النجف الأشرف جواباً لرسالة الحقير. ۱
رسالة الشيخ عبّاس الطهرانيّ للحقير و استعانة بآية الله الگلبايگاني
...۱
مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عمر | *** | -ما همچنان به اول وصلش هم نرسيدهايم |
حيران شدم حيران شدم مجنون و سرگردان شد | *** | از هر رهى گويد بيا دنبال من، دنبال من |
چون مىروم دنبال او، نى زو خبر، نى زو اثر | *** | از هر درى گويد بيا كاينجا منم، كاينجا منم |
چون سوى آن در مىروم | *** | بينم كه گردد بسته در |
يا ربّ اين ترك پرى چهره عجب عيّارى است | *** | كه كند تازه ز وصلش غم هجران مرا |
پهلوى آب و تشنه لب از روى اختيار | *** | در جنب يار و منصرف از بوس و از كنار |
يا ربّ مباد كس چو من خستهكار | *** | غرق وصال، سوخته جان از فراق يار |
گر چراغى نور شمعى را كشيد | *** | هر كه ديد آن نور را پس شمع ديد |
دردا كه در ديار دلم درد يار نيست | *** | و آن دل كه درد يار ندارد ديار نيست |
و لقد كان باب المكاتبة و المراودة بيننا و بينه مفتوحاً بحمد الله و منّه حتّى آخر عمره الشريف، و كان الحقير، حتّى بعد العودة من النجف إلى طهران، يتشرّف أحياناً بالحضور و الاستفادة من محضره في قم أو في طهران في منزل المرحوم الحاجّ الميرزا أبي القاسم العطّار؛ لكن علاقة الاستاذ و التلميذ التي كانت تربط بين الحقير و بين سماحة العلّامة و سماحة الأنصاريّ و سماحة الحدّاد كانت شيئاً آخراً. و كان الحقير يحرص على دعوة الحاجّ السيّد إبراهيم إلى هذه المائدة، فقد كانت روابط الخلوص و الإخلاص عند الحقير تستوجب أن لا يجلس الحقير لوحده إلى هذه المائدة.
نعم، لقد عاد الصديق آية الله الحاجّ السيّد إبراهيم أدام الله أيّام سعادته بعد رحيل المرحوم الحاجّ الشيخ عبّاس الطهرانيّ رضوان الله عليه، إلى موطنه «باختران» مدّة فاشتغل في مسجد «الصاحب» هناك بإقامة صلوات الجماعة و التدريس و ترويج الدين، ثمّ ذهب إلى طهران فانصرف إلى وظائف إرشاد الناس و هدايتهم في مسجد بمنطقة «قلهك» ثمّ في «دزاشيب نياوران» في مسجد «المهدي»، حيث يمرّ عليه حتّى الآن ما يقرب من خمسة عشر عاماً اشتغل فيها بإقامة صلوات الجماعة و الإرشاد و التبليغ و التدريس و الترويج للدين. و حقّاً فإنّه عالم حرّ و ذو فهم عال و دقّة نظر، كما أنّه حاضر البديهة، حميم في علاقته بالدين و الشريعة محزون لأجلها؛ لذا فقد ابتلي بأمراض مختلفة كضعف الأعصاب و قرحة المعدة و لا يزال يعاني منها السنين الطويلة. حفظه الله إن شاء الله و عافاه من جميع الآفات و العاهات و أبقاه الله ذخراً للإسلام و المسلمين بمحمّد و آله الطيّبين الطاهرين.
كان الحاجّ السيّد هاشم ما فوق الافق، و كان قد تخطّى الجزئيّة إلى الكلّيّة
لقد كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم يعيش في افق آخر، و إذا ما أوفينا التعبير حقّه فقد كان يعيش في اللاافق، حيث تخطّى التعيّن، و اجتاز الاسم و الصفة، و صار جامعاً لجميع أسماء الحقّ المتعالي و صفاته بنحو أتمّ و أكمل، و صار مورداً للتجلّيات الذاتيّة الوحدانيّة القهّاريّة، و لقد طوى الأسفار الأربعة تماماً و وصل إلى مقام الإنسان الكامل.۱
گرچه لا داشت تيرگىّ عدم | *** | دارد إلّا فروغ نور قدم |
گر چه لا داشت كان كفر و جحود | *** | هست إلّا كليد گنج شهود |
چون كند لا بساط كثرت طى | *** | دهد إلّا ز جام وحدت مِى |
آن رهاند ز نقش بيش و كمت | *** | وين رساند به وحدت قدمت |
تا نسازى حجاب كثرت دور | *** | ندهد آفتاب وحدت نور |
دائم آن آفتاب تابان است | *** | از حجاب تو از تو پنهان است |
گر برون آئى از حجاب توئى | *** | مرتفع گردد از ميانه دوئى |
در زمين و زمان و كون و مكان | *** | همه او بينى آشكار و نهان |
و لم يكن أيّاً من القوى و الاستعدادات في جميع المنازل و المراحل السلوكيّة من الملكوت الأسفل و الملكوت الأعلى و طيّ أدوار عالم اللاهوت و التجوال فيها، إلّا و كان قد تحقّق في وجوده القيّم و وصل إلى الفعليّة.
و لقد كان السيّد هاشم إنساناً له الفعليّة التامّة في جميع زوايا الحياة المعنويّة و نواحيها.
و لقد كان الموت و الحياة، الصحّة و السقم، الفقر و الغناء، مشاهدة الصور المعنويّة و عدمها، و الجنّة و الجحيم، بالنسبة له على حدّ سواء؛ فقد كان رجلًا إلهيّاً انقطعت عنه جميع العلائق و النسب في جميع العوالم إلّا نسبة الله تعالى.
و لقد كنّا معه طيلة ثمان و عشرين سنة من اللقاءات و وصل الليل بالنهار و الأسفار، حيث حسبتُ مجموع الأوقات المتفرّقة التي كنت فيها
معه ليلًا و نهاراً بشكل دقيق، فكانت لو ضممناها إلى بعضها سنتين كاملتين؛ لم اشاهده طيلتها يرجو أحداً أبداً، لم أره يسأل أحداً أن يدعو له، و لم يسأل غيره شيئاً أبداً، كأن يقول له: ادعُ لي أن تكون عاقبة أمري خيراً، أو أن تُغفر ذنوبي، أو أن يوصلني الله إلى هدفي، كلّا لم أرَ منه شيئاً من ذلك أبداً و مطلقاً، لا تلك الامور و لا أمثالها. إذ كيف يسأل هذه المعاني امرؤ هو نفسه في مُنتهى الدرجة من الفقر و العبوديّة، و ليس له مقابل الحقّ الجليل إلا العبوديّة و التخلّي عن الإرادة و الاختيار و فقدان الآمال و الأماني؟!
و من البيِّن أنّ التجلّيات الربوبيّة و المظهريّة التامّة للأسماء الجماليّة و الجلاليّة للحق تعالى هي من لوازم هذه العبوديّة التي لا تنفكّ عنها.
لقد كان الحاجّ السيّد هاشم رجلًا وصل من الجزئيّة إلى الكلّيّة، فلم يكن لينظر بعدُ إلى الكثرات، بل كان محيطاً و مهيمناً و مسيطراً على الكثرات. و لم يكن له في جميع عمره كلام ينبع من مجاملة من المجاملات المعهودة المتداولة، أو وفق مصلحة، كما لن يكن يُظهِر في إجابته لأحد التواضع و الانكسار المتعارف الذي لا ينطبق مع الواقع أبداً، فلم يكن لينبس بجملة أو كلمة من باب التواضع و التذلّل و الانكسار، و ذلك لأنّها كانت بأجمعها -طبقاً لحاله و مقامهـ مجازاً و خلافاً للواقع. إذ كان قد وصل إلى مقام لا يحتاج إلى التلفّظ بهذه الجُمل صدقاً أو حسب المصالح العامّة.
كان الحاجّ السيّد هاشم عبداً للّه بما في الكلمة من معنى
و لقد كان عبداً للّه بما في الكلمة من معنى. لذا فقد كان من الخطأ أن يبحث عن شيء في هذا المجال أو يريده أو يطلبه، ذلك لأنّ نفسه قد استقرّت في مقام أرفع و في افق أرحب و في ذروة أمنع ينظر منها إلى جميع كائنات و مخلوقات الحقّ المتعالي، و لقد كان ناظراً من ذلك المقام المنيع و شاهداً على نفسه و على غيره، فهو مظهر التوحيد، مظهر لا إله إلّا الله، مظهر لا هو إلّا هو.
و قد ذكرنا أنّه كان يقول: ما أشبهني بقشّة تبن تدور في فضاءٍ لا يتناهى، بلا اختيار منّي أو إرادة، و إنّني أخرج أحياناً من نفسي كالحيّة التي تلقي بجلدها، فليس في إلّا هذا الجِلد.
أ تعلمون ما الذي كان يريد قوله في هذه الجملة القصيرة؟!
إنّ الحيّات تبدّل جلودها كلّ سنة بشكل طبيعيّ، أي أنّها تخرج من جِلدها السابق، و إذا ما نظرتم إلى ذلك الجلد لرأيتم حيّة كاملة لها رأس و بدن و ذيل، كما أنّ لون جسمها و نقوشه و تعرّجاته يماثل ما كان للحيّة السابقة، و لربّما يتصوّر الإنسان في البدء أنّ هذا الجلد حيّة حقيقيّة، لكنّه حين يخطو إلى الأمام و يضع يده عليه يتّضح أنّه لم يكن إلّا جلداً و أنّ الحيّة قد خرجت منه.
لقد كان سماحة الحدّاد يقول: إنّ مثَلي كذلك، فلقد كنت أتخطّى نفسي و أخرج منها فأذهب إلى مكان آخر.
أي: أنّني -أنا الذي خرجت منها- الحدّاد بجميع شئونه من البدن و الأفعال و الأعمال و الذهن و الفعل و كلّ الآثار و لوازمها، مع أنّها موجودة و تقوم بأعمالها الطبيعيّة كالعبادات و المعاملات و الاتّصالات و النوم و الأكل و العلوم الذهنيّة التفكيريّة و العلوم العقليّة الكلّيّة و العلوم القلبيّة المشاهديّة، و بدون أيّة ذرّة من التغيّر، فهي بأجمعها موجودة في مكانها، لكنّني لم أعد موجوداً فيها؛ لقد خرجت منها. أي إنّ جميع هذا البدن و آثاره و جميع علومه الذهنيّة و العقليّة و القلبيّة و آثارها و جميع قدراته و جميع أنحاء حياته تصبح كجلد الحيّة، و ليست بأجمعها مقابل حقيقتي إلا جلداً فقط، في حين أنّ حقيقتي التي يُقال لها «أنا» في مكانٍ آخر.
فأين ذلك المكان الآخر يا تُرى؟! من المسلّم أن يكون مكاناً أفضل و أعلى و أرقى من الجزئيّة و الكلّيّة التي هي موطن البدن و المثال و العقل،
هناك كلّيّة تفوق جميع الكلّيّات، و تجرّد يفوق التجرّدات، و بساطة أفضل من جميع البساطات؛ مكان لا يتناهى مدّةً و شدّة و عدّة بما لا يتناهى.
كان الحاجّ السيّد هاشم ظهورَ و مظهرَ كلمة «لا هو إلّا هو»
هناك عالم الفناء المطلق و الاندكاك في ذات الحقّ المتعالي جلّت عظمته، هناك مقام العبوديّة المطلقة، العبوديّة التي قُدّمت على الرسالة في التشهّد فورد: وَ أشْهَدُ أنَّ محمّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ. هناك الإحاطة بجميع النشآت و عوالم الملك و الملكوت، لا أن يكون العبد هناك مثل الله، فهذا التعبير تعبير خاطئ، إذ ليس -مع وجود ذات القهّار الأحد- من معنى لِمِثل و شبه و نظير، ليس هناك إلّا الله تعالى و لا شيء سواه. و هذا هو التعبير الصحيح؛ هناك: الله «موجود» و حسب، و العبد «فناء» و حسب، هناك ظهور و مظهر لا هو إلّا هو۱.
چرا مخلوق را گويند واصل؟ | *** | سلوك و سير او چون گشت حاصل؟ |
وصال حقّ ز خلقيّت جدائيست | *** | ز خود بيگانه گشتن آشنائى است |
چو ممكن گرد إمكان برفشاند | *** | به جز واجب دگر چيزى نماند |
وجود هر دو عالم چون خيال است | *** | كه در وقت بقا عين زوال است |
نه مخلوق است آن كو گشت واصل | *** | نگويد اين سخن را مرد كامل |
عدم كى راه يابد اندرين باب | *** | چه نسبت خاك را با ربّ ارباب؟ |
عدم چبود كه با حقّ واصل آيد | *** | و زو سير و سلوكى حاصل آيد |
تو معدوم و عدم پيوسته ساكن | *** | به واجب كى رسد معدوم ممكن؟ |
اگر جانت شود زين معنى آگاه | *** | بگوئى در زمان: أستغفر الله |
ندارد هيچ جوهر بى عرض عين | *** | عرض چبود و لا يبقى زمانَيْن |
حكيمى كاندرين فنّ كرد تصنيف | *** | به طول و عرض و عمقش كرد تعريف |
...۱
هيولا چيست جز معدوم مطلق | *** | كه مىگردد بدو صورت محقّق |
چه صورت بىهيولا در قدم نيست | *** | هيولا نيز بى او جز عدم نيست |
شده اجسام عالم زين دو معدوم | *** | كه جز معدوم از ايشان نيست معلوم |
ببين ماهيّتش را بىكموبيش | *** | نه موجود و نه معدوم است در خويش |
نظر كن در حقيقت سوى إمكان | *** | كه او بىهستى آمد عين نقصان |
وجود اندر كمال خويش سارى است | *** | تعيّنها امور اعتبارى است |
امور اعتبارى نيست موجود | *** | عدد بسيار يك چيز است معدود |
جهان را نيست هستى جز مجازى | *** | سراسر كار او لهو است و بازي |
مواعظ و إرشادات الحاجّ السيّد هاشم التي صدرت من الافق الرفيع
و لقد كانت إشارات السيّد الحدّاد و دلالاته كلّها من هذا القبيل، أي أنّه كان يستعين و يستهدي بافق الوحدانيّة لا من غطاء وجوده هو.
قال يوماً للحقير: أيّها السيّد محمّد الحسين! أنت مشغول جداً! أي أنّ لك الخواطر المتوالية و المشوّشة!
و لقد كان كلاماً عجيباً! فقد كان للحقير في تلك الساعة كما ذكر، الخواطر النفسيّة التي تتعب الذهن و ترهقه، و لم يكن لأحد إلّا الله اطّلاع على أفكاري.
و كان يقول: تعامل مع الله في كلّ حال! أي: اجعل معاملتك لخلق الله معاملة مع الله. إذ إنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ العيال و الأولاد و الجار و الشريك و مأمومي المسجد كلّهم مظاهر الباري تعالى.
و كان يقول: لو تخاصمتَ مع الناس أو مع أولادك فليكن ذلك بشكل صوريّ لا يلحقك منه أذى و لا يحيق بهم الضرر، فلو خاصمتهم بجدّ فإنّ ذلك سيلحق الأذى بالطرفين؛ و العصبيّة و الجدّيّة تضرّك و تضرّ الطرف المقابل.
كان يقول: أ تفرّ من الناس كي لا يصيبك أذاهم، أو كي لا يصيبهم أذاك؟! إنّ الاحتمال الثاني هو الجيّد لا الأوّل، و أفضل منهما أن لا تراهم و لا ترى نفسك!
و كان يوصي: عوّدْ أولادَك و أهل بيتك أن يبقوا مستيقظين فيما بين الطلوعَينِ.
و كان يقول: إنّ الخواطر على أربعة أقسام:
الأوّل: إلهيّة، و هي الخواطر التي تصرف الإنسان عن نفسه و توجّهه تجاه ربّه و تدعوه إلى قربه.
الثاني: شيطانيّة، و هي الخواطر التي تجعل الإنسان غافلًا عن الله، و تثير في قلبه الغضب و الحقد و الجشع و الحسد.
الثالث: ملكوتيّة، و هي الخواطر التي تقود الإنسان إلى العبادة و التقوي.
و الرابع: نفسانيّة، و هي الخواطر التي تدعو الإنسان إلى زينة الدنيا و إلى الشهوات.
و للإنسان قوّة رفيعة و متعالية يمكنها تبديل جميع الخواطر الشيطانيّة و النفسانيّة إلى حسنات، و استخدامها جميعاً في سبيل الله؛ فيكون جمع المال و الشهوة و جلب الزينة للّه تعالى لا للنفس.
كما إنّ له قوّة أعلى من تلك الأولى، يمكنه بها أن يبدّل جميع تلك الخواطر إلى خواطر ملكوتيّة و خواطر إلهيّة، فيعدّها جميعاً من الله و يراها منه، فلا يكون له أساساً معاملة مع غير الله سبحانه.
و كان يقول: إنّ الأدعية و التوسّلات أمر جيّد، لكن على الإنسان أن يعتبر الأثر من الله تعالى و أن يطلب منه سبحانه.
و قد حدث أن التفت ذات يوم إلى أحد تلامذته من ذوي العلاقة به و كان له سابقته إلّا أنّه كان يتمرّد أحياناً فيُظهر آراءه الشخصيّة، و كان يريد أن يخفي عن السيّد أمراً ما قد وقع؛ فقال له بشدّة و خشونة:
ما الذي تريد إخفاءه عنّي؟! أ تريد أن انزل الأمر الفلانيّ من السماء
الرابعة فأضعه الآن نصب عينيك؟!
و على كلّ حال، فقد تشرّفنا في تلك الأثناء لمدّة عشرة أيّام بالذهاب إلى الكاظميّة و سامرّاء في سيّارة بعض الرفقاء من أهالي الكاظميّة، و ذلك في معيّة سماحة الحاجّ السيّد هاشم و الحاجّ محمّد علي خلف زاده، حيث عدنا إلى الكاظميّة بعد زيارة البقعة المباركة لسامرّاء، فحللنا ضيوفاً في منزل ذلك الرفيق و الصديق صاحب السيّارة: الحاجّ أبو أحمد عبد الجليل محيي. و كان الرفقاء من بغداد و الكاظميّة، و من بينهم سماحة آية الله الحاجّ السيّد هادي التبريزيّ يأتون في الليالي إلى محضر السيّد ثمّ يعودون إلى منازلهم بعد ساعة من الاستفادة من محضره بعد تناول طعام العشاء.
و كانت الموائد في هذه الضيافات تحوي أنواع الأطعمة اللذيذة من الدجاج و السمك و مشهِّياتها، لكنّ السيّد كان يكتفي بلُقيمات من الخبز و ورق الفجل ممّا هو أمامه على المائدة، و لم يجرؤ أحد -بعد أن اطّلعوا على حالهـ على مجاملته و دعوته لأكل ما لذَّ و طاب؛ و كان الرفقاء يتفرّقون بعد العشاء مباشرة.
و كان السيّد يستيقظ بعد نومه بساعتين أو ثلاث فينشغل بنفسه إلى طلوع الفجر، ثمّ يتشرّف بعد أداء الفريضة إلى الحرم مشياً على الأقدام مع أنّ المسافة لم تكن يسيرة، فقد كان منزل الحاجّ عبد الجليل يقع في أوائل شارع مسجد براثا و هو من النواحي الجديدة الملحقة بالكاظميّة.
و لم تحوِ هذه المجالس شيئاً غير ذكر الله و المطالب التوحيديّة، و لم يكن الكلام ليدور في مجالس السيّد عموماً عن الدنيا و أوضاعها و عن العمل و الكسب، فما كان هناك هو التوحيد لا شيء سواه.
ثمّ إنّنا عدنا بعد إتمام فترة السفر بسيّارة المضيِّف تلك إلى كربلاء المقدّسة في معيّة السيّد الحدّاد.
نعم، لقد كان سفري هذا بعد سفر السيّد إلى بيت الله الحرام، فقد حجّ في شهر ذي الحجّة الحرام ۱٣۸٤ هـ. ق، ثمّ تشرّف الحقير في شهرَي رجب و شعبان بالذهاب إلى أعتابه المباركة، لذا فقد كانت معظم أسئلة الحقير للسيّد حول سفره إلى الحجّ، كما أنّه كان يتطوّع بذكر بعض الامور عن سفره.
و كان من جملة الأسئلة: كيف قُمتم بأعمال الحجّ؟ و كيف طُفتم؟ و كيف بدأتم من الحجر الأسود و عددتم الأشواط السبعة؟ و هكذا الأمر في باقي الأعمال مع الحال و الوضع الذي تمتلكونه بحيث تنسون معه بعض ضروريّات الحياة و يعسر عليكم معه الحساب و العدد، و لا تميّزون معه اليد اليمنى عن اليسرى؟!
أجاب: كان ذلك يتّضح لي تلقائيّاً فيكون عملي تبعاً له. فقد دخلتُ المسجد الحرام مثلًا فعرفت ركن الحجر الأسود بدون أن يدلّني عليه أحد، و علمت أنّه ينبغي أن أبدأ الطواف منه، فبدأتُ من هناك، و بدون أن أعدّ الأشواط، فقد كان كلّ شوط مشخّصاً لي، ثمّ انتهى الطواف تلقائيّاً في الشوط الأخير فخرجتُ من المطاف. و هكذا الأمر في محلّ الصلاة خلف مقام النبيّ إبراهيم على نبيِّنا و آله و عليه السلام، و هكذا الأمر في السعي و التقصير.
و قال: لقد كنتُ و جميع الرفقاء الذين سافرتُ بمعيّتهم نقضي أغلب أوقاتنا ليلًا و نهاراً في المسجد الحرام، و كان منظر الطواف و بيت الله الحرام قد شدّني إليه و أعجبني كثيراً و قد بقيت مشغوفاً به.
و كان مسجد الخَيف في أرض منى هو الآخر مثيراً للإعجاب، و كنّا نقضي أغلب أوقاتنا في أيّام التشريق هناك، و كانت قصّة التوحيد تتجلّى في جميع مظاهر الحجّ و أعماله، و خاصّة في المسجد الحرام و مسجد
الخيف.
ورود آية الله الزنجانيّ الفهريّ في مسجد الخيف و لقاؤه بالسيّد الحدّاد
ثمّ قال: دخلتُ ليلة مع الرفقاء إلى مسجد الخيف فرأيت الحاجّ السيّد أحمد الزنجانيّ۱ مع جميع الرفقاء الطهرانيّين و الإيرانيّين جالسين حول بعضهم، و كان متأثّراً جدّاً من وضع طهارة و نجاسة الحجّاج و المعابر و يبدو أنّه كان قد نضح على ملابسه بعض تلك المياه عند دخوله إلى مسجد الخيف، فكان متأثّراً و منقلب الحال إلى حدّ كبير؛ و كان يقول: يا الله، يا إلهي! نريد أن نصلّي ركعتين في مسجدك على طهارة، فانظر هل يدعنا هؤلاء الناس و هؤلاء القوم نفعل ذلك بهذا الوضع و هذه الكيفيّة؟!
فنهرتُه و قلتُ: لقد ذهب أحد المريدين من عند استاذه إلى أحد الأجلّاء، فقال له ذلك الرجل الجليل: ما علّمكم استاذكم؟!
قال المريد: علمنا استاذنا الالتزام بالطاعات و ترك الذنوب.
فقال ذلك الرجل الجليل: تلك مجوسيّة محضة؛ هلّا أمركم بالتبتّل إلى الله و التوجّه إليه برفض ما سواه؟!
فيا سيّدي! لما ذا تُغيِّرون دين الله؟ و لِمَ تُدخلون الشريعة في المتاهات و التعقيدات؟ لما ذا تقطعون الناس عن الله حين تسوقونهم إلى
أعمالهم دون التوجّه إليه سبحانه؟
أ وَ لم يكن دين رسول الله دين السهولة و اليسر؟! أو لم يقل: بُعِثْتُ على شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ سَهْلَةٍ؟!
أ وَ لم يقل رسول الله و الأئمّة إنّ كلّ شيء (بأيّ شكل و في أيّ زمان و مكان) لك طاهر حتّى تعلم يقيناً أنّه نجس؟!
فلِمَ تعكسون الأمر فتقولون: كلّ شيء نجس حتّى تعلم طهارته يقيناً؟!
لِمَ لا تَدَعون الناس و شأنهم؟ لما ذا لا تَدَعون الناس مع نبيّهم و دينهم السهل السمح؟ و لِمَ تغلقون عليهم سبيل التوجّه و الانقطاع إلى الله؟ و لِمَ تقفلون هذا الباب المُشرع؟
إنّ على كلّ الناس حين يحجّون، منذ إحرامهم في الميقات حتّى تقصيرهم و تقديمهم الهَدْي و إحلالهم من الإحرام، أن يكون توجّههم و التفاتهم إلى الله سبحانه، و عليهم أن لا يروا إلّا الله و لا يسمعوا غيره، و أن لا يغفلوا عن ذكر الله لحظة واحدة، و أن لا ينظروا إلى أعمالهم و سلوكهم نظراً استقلاليّاً، و أن يكون الله تعالى -لا العمل نفسهـ هو المقصود في جميع الواجبات المنجزة من طواف و صلاة و غيرها. لا بدّ أن يكون الفكر و النيّة متّجهَينِ إلى الله سبحانه، لا إلى صحّة العمل أو بطلانه؛ فهذه هي تلك المجوسيّة المحضة التي تخفي الإله الواحد و تبدّله بإلهَينِ للعمل الصالح و العمل السيّئ.
إنّكم تفصلون هؤلاء المساكين عن الله من الميقات إلى حين خروجهم من الإحرام، و تثيرون التشويشات من وقت الإحرام بتحذيراتكم المتتالية: ينبغي الحذر لئلّا يرشح شيء إلى بدني و إلى إحرامي، و لئلّا ينحرف كتفي عن البيت و لئلّا أخرج من المطاف حال الطواف، و لئلّا
تبطل صلاتي أو يبطل طواف النساء الذي أطوفه فتصبح زوجتي عَلَيّ حراماً! إذ لم يرد شيء من هذه الامور في الشريعة. هذه الصلاة العاديّة التي يصليها الناس صحيحة و طوافهم صحيح، و ها أنتم تبطلونها و تدمغونها بختم البطلان! و ها أنتم تعدّون نضح هذه المياه المشكوكة نجساً!
إنّ حجّ الناس سيضيع كلّيّاً في هذه الحال، أي أنّ الحاجّ الذي ينبغي أن يكون على الدوام مع الله سبحانه ابتداءً من الميقات إلى نهاية حجّه و عمله ثمّ يخرج بالتقصير و الحَلْق بالانقطاع إلى الله و الإحرام مع الله؛ هذا الحاجّ سينصرف عن الله من ابتداء الإحرام و سيبقى هذا الانصراف و التشويش و التزلزل لديه إلى نهاية العمل، و حين سينتهي من عمله سيتنفّس الصعداء و سيجد الله من جديد.
إنّ جميع الاحتياطات التي تُجرى في هذه الموارد و تستدعي التوجّه إلى نفس العمل و الغفلة عن الله سبحانه خاطئة بأجمعها، فأين ورد أمثال هذه الاحتياطات المسبِّبة للعسر و الحَرَج في شريعة رسول الله و في زمنه؟ إنّ الأصل و الأساس الأوّل هو أصل عدم العسر و عدم الحَرَج و عدم الضرر؛ أصلنا الأوّل في القرآن الكريم: ﴿وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾۱ (أي تنصّل و اقطع علاقتك تماماً مع الجميع و اتّجه إلى الله).
الالتزام بالطاعات و اجتناب المعاصي دون التوجّه إلى الله مجوسيّةً
إن الاحتياط الذي كان المرحوم القاضي قدّس الله سرّه قد جعله برنامج عمل لجميع تلامذته، و الوارد ضمن حديث عنوان البصريّ: وَ خُذْ بِالاحْتِيَاطِ في جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا٢، قد قُصِدَ به العمل الذي يفتح
الطريق أمام الإنسان إلى الله، لا أن يُسبِّب سدّ الطريق و يسلبه سبيل التوجّه و الابتهال و حضور القلب. المقصود هو العمل الذي يجلب اليقين للمؤمن و يجعله مستحكماً في إيمانه، لا الذي يزلزله و يشوّشه و يملؤه اضطراباً، و يجسِّم لديه بيت الله الحرام كبيتٍ للعقاب، و يصوِّر له حجّ هذا البيت كعمل إجباريّ اضطراريّ يؤدّيه خوفاً من العقاب؛ فهذه امور تصدر من جهة الشيطان الخبيث، و هي نفس المجوسيّة المحضة.
إنّ جميع أطعمة و أشربة المسافرين و الفنادق حلال و طاهرة، و جميع المياه الناضحة و الراشحة من الميازيب و قنوات المياه طاهرة إلّا حين تُعلم نجاستها و تُحرز. فانهض يا سيّدي بهذه المياه التي نضحت عليك و أدِّ صلاتك؛ فإنّ تصوّر النجاسة و عدم الطهارة لديك من تسويلات الشيطان بلا شكّ، فهو يريد حرمان الإنسان من فيض الصلاة العظيم و من المبيت و الدعاء في هذا المسجد الشريف.
حقيقة رمي جمرة العقبة، و تجلّي عظمة الزهراء عليها السلام لسماحة الحدّاد
و قال سماحة السيّد الحدّاد: لقد كان رمي جمرةِ العَقَبة أمراً شغفني و أدهشني، و ذلك لأنّ الإنسان يقف في رمي الجمرة الأولى و الجمرة الوسطي مستقبلًا القبلة فيرميهما، أي أنّ الإنسان يرمي الشيطان و يطرده باستقبال الكعبة و التوجّه إليها؛ أمّا في جمرة العقبة فيجب على الإنسان أن يستدبر القبلة و يرمي، فما معنى ذلك؟ معناه عين التوحيد. أي أنّ تلك الكعبة التي كنتُ حتّى الآن متوجّهاً إليها بهذه النفس، قد جعلتُها الآن خلف ظهري و اريد رمي الشيطان بالتفاتي إلى أصل التوحيد الذي ليس له جهة
معيّنة، و بنفسٍ خرجت عن تلك النفس فلا تلتفت إلى تلك الجهة.
و من ثمّ فإنّ حقيقة هذا الرمي تتبدّل أيضاً، فهذه رمية أنزه من تينك الرميتينِ و أكثر صفاءً. و لربّما كان سرّ تعدّد الرميات هو تعدّد حقيقتها و واقعيّتها و ليس الأمر التكراريّ.
و كان السيّد يتحدّث عن مجمل حالاته في المدينة الطيّبة فيقول: لقد غمرتني عظمة الزهراء سلام الله عليها في منزلها و في مسجد النبيّ، و خاصّةً في مسجد الرسول؛ حيث كانت عظمتها متجلّية بشكل كأنّ جميع مقام النبوّة بجميع خصوصيّاته و جميع مدارجه و معارجه و جميع درجاته و رُتبه كان متجلّياً فيها سلام الله عليها. و لقد كانت بضعة رسول الله تلك سرَّ رسول الله و حقيقته و جوهره، لم يخلق الله تعالى كمثلها موجوداً حاملًا و ضامناً لهذا السرّ، هو في مقام الوحدة عين رسول الله.
و إجمالًا، فقد أدّى الحقير بمعيّة السيّد هاشم زيارة النصف من شعبان، ثمّ تحرّكت صوب طهران فوردتها يوم الثامن عشر، حيث توفّيت الوالدة رحمة الله عليها بعد ذلك بعشرة أيّام، أي في الثامن و العشرين من شهر شعبان المعظّم لسنة ۱٣۸٥ هـ. ق أثر مرض القلب و الصدر الذي ابتُلِيَتْ به لمدّة طويلة.
و كان الحقير قد دعا السيّد الحدّاد في مناسبات عديدة للمجيء إلى إيران و زيارة ثامن الحجج عليه السلام، و قد أكّدتُ على ذلك في هذا السفر أيضاً، لذا فقد عقد السيّد العزم على السفر إلى إيران.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ : سَفَرُ سماحة الحَاجِّ السَّيِّد هَاشِم قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ إلى إيرَانَ لِمُدَّةِ شَهْرَيْنِ لِلزِّيَارَةِ، وَ تَوَقُّفِهِ في طَهْرَانَ وَ زِيَارته الإمَامِ عَلِيّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ
سفر سماحة الحاجّ السيّد هاشم قدّس الله سرّه
إلى ايران لمدّة شهرين للزيارة، و توقّفه في طهران و زيارته
للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه و على آبائه و أبنائه السلام
لم يكن السيّد قد سافر إلى إيران طوال عمره، و لم يكن قد زار مرقد الإمام الثامن عليه السلام، فرأى لزاماً بعد حجّ بيت الله الحرام و توفّقه لزيارة رسول الله و فاطمة الزهراء و أئمّة البقيع الأربعة عليهم جميعاً السلام، أن يسافر إلى إيران ليكون ذلك مسك الختام و ليكون قد زار المعصومين الأربعة عشر.۱
و من ثمّ فقد كتب الحقير رسالة دعوة و أرسلتها له بعد عودتي إلى إيران بشهرين، ثمّ شفعتُها برسالة أخرى في شهر صفر ۱٣۸٦ هـ. ق، فلمّا تسلّم الرسالة في الكاظميّة و اطّلع على مضامينها قال:
ليس من الجائز التأخير بعد هذه الرسالة، و توجّب أن نستعدّ للسفر.
تفصيل مكث الحاجّ السيّد هاشم في إيران لمدّة شهرين
هذا و قد بذل الرفقاء من الكاظميّة جهودهم لإصدار شهادة الجنسيّة و إعداد جواز السفر، فأكملوه في مدّة شهر، و هكذا قَدِمَ السيّد إلى طهران عبر الطريق البرِّيّ مع حليلته الجليلة المحترمة: امّ مهدي، و حلّ مكرّماً
على الحقير في منزلي الواقع في أحمديّة دولاب.۱
اى كه با سلسلة زلف دراز آمدهاى | *** | فرصتت باد كه ديوانه نواز آمدهاى |
آب و آتش به هم آميختهاى از لب لعل | *** | چشم بد دور كه بس شعبده باز آمدهاى |
آفرين بر دل نرم تو كه از بهر ثواب | *** | كشتى غمزة خود را به نماز آمدهاى |
زهد من با تو چه سنجد كه به يغماى دلم | *** | مست و آشفته به خلوتگه راز آمدهاى |
پيش بالاى تو ميرم چه به صلح و چه به جنگ | *** | كه به هر حال برازندة ناز آمدهاى |
گفت حافظ دگرت خرقه شرابآلودست | *** | مگر از مذهب اين طائفه باز آمدهاى |
و لقد شرع السيّد بتفقّد المنزل فمرّ على أرجاء المنزل و جميع غرفه واحدةً بعد أخرى و هو محتفٍ غير ناعل، ثم صعد إلى السطح فتمشّى فيه، حتّى أنّه دخل الغرفة الموجودة على السطح و إلى المرافق الصحّيّة في ساحة البيت؛ ثمّ قال: لهذا المنزل روحانيّة خاصّة، و هو مناسب جدّاً للتوقّف و الحلول فيه.
هذا و قد جعلنا محلّ استضافته في غرفة من القسم الخارجيّ من المنزل «البرّاني» لها باب منفصل، في حين كانت المخدّرة العليّة العالية: امّ مهدي في الداخل مع أهل البيت و سائر العائلة، أمّا في الليالي فقد جعلنا محلّ استراحة السيّد مع امّ مهدي فوق السطح الواسع المسيّج من جميع أطرافه و الذي لا يُشرف عليه أحد، حيث كان يأوي إليه بعد انتهاء صلاتَي المغرب و العشاء و تناول طعام العشاء مع جميع الرفقاء الحاضرين في القسم الخارجيّ من البيت.
و كان جميع الرفقاء الخاصّين و أصدقائنا السلوكيّين في طهران يأتون إلى محضره صباح كلّ يوم، كما كان الرفقاء الشيرازيّون من أمثال آية الله الحاجّ الشيخ حسن علي نجابت مع جميع تلامذته، و آية الله الحاجّ الشيخ صدر الدين الحائريّ، و الحاجّ السيّد عبد الله الفاطميّ الشيرازيّ من شيراز، و الرفقاء الإصفهانيّون من إصفهان، و الرفقاء الهمدانيّون من همدان، و الأصدقاء القمّيّون من قم؛ يأتون جميعاً إلى طهران فينهلون من محضره كلّ يوم إلى الليل، و إنصافاً فقد كانت مجالس ساخنة و توحيديّة غريبة تنعكس فيها آثار التوحيد على وجوه الحاضرين.
و كان السيّد يجلس ساكتاً غالباً، فإذا وجّه إليه أحدهم سؤالًا أجاب عنه، و كانت إجاباته -على الدوام- مختصرة و موجزة و شافية. و كان يصلّي الظهر عند الزوال، و كان يؤمّ الحاضرين في جميع الأوقات، باستثناء بعض الأوقات التي كان يحضر المجلس فيها شخص غريب، فكان آنذاك يوصيني بالقيام بإمامتهم، و ذلك لدقّته الشديدة في حفظ ظواهر الشرع بحيث يستحيل أن يفوته شيء. و كان الطعام يُقدّم بعد الصلاة، ثمّ ينهض بعض الرفقاء فيهبطون إلى السرداب للاستراحة، و يستريح البعض الآخر في تلك الغرفة مع السيّد.
و بالرغم من أنّ أبواب الغرفة كانت مفتوحة من الطرفين على الدوام، إلّا أنّ الفصل كان صيفاً، و لم نكن نمتلك مبرّدة أو مروحة في البيت، كما لم يكن لدينا ثلّاجة، و لربّما كان ذلك يشقّ عليه؛ و لكن أنّى للسيّد هاشم الذي قضى عمره جنب فرن الحدادة في جوّ كربلاء الحارّ يطرق الحديد المتّقد، و الذي كان يوقد الفرن بنفسه؛ أن يُعير لهذه الامور أهمّيّة، خاصّة و أنّ طبيعة ذلك الرجل الجليل كانت في ذروة العفّة و النجابة، بحيث يستحيل أن ينبس ببنت شفة في أشدّ المشاكل النفسيّة و الروحيّة، و لم يكن لأحد اطّلاع على ما في نفسه، و لديّ في خصوصيّاته هذه قضايا و حكايات لو شئت بيانها لخرج الأمر عن عهدة هذه الرسالة، لذا أكتفي بهذا القدر مجملًا.
و كان يأتي البعض إلى محضره أوقات العصر، أمّا ليلًا فقد قال بأنّه لا وقت لديه للالتقاء بأحد؛ فكان المجلس يُختم بعد صلاتَي المغرب و العشاء و تناول شيء من الطعام للعشاء، فيصعد إلى السطح مع امّ مهدي للاستراحة.
و امّ مهدي هذه لا تزال حيّة حتّى الآن بحمد الله، و هي امرأة عفيفة
مجاهدة مضحّية و عطوفة، تنتمي إلى قبيلة عربيّة تمتاز بالأصالة و النجابة و الشجاعة و حبّ الضيف و التنزّه عن النفاق و الرياء، و لقد كانت هذه المرأة من البساطة و النزاهة و سلامة القلب و الطويّة ممّا يثير العجب.
كيفيّة مبيت السيّد هاشم مع أُمّ مهدي (زوجته) فوق السطح
و كانت امّ مهدي قد قالت لأهل بيتنا: لقد جاء بي السيّد هاشم معه من كربلاء، و بيّن لي أن الإيرانيّين لا يعدّون نوم الرجال بصحبة نسائهم ليلًا أمراً قبيحاً حتّى لو كانوا ضيوفاً عند غيرهم (خلافاً لعادة العرب الذين يعدّون ذلك أمراً مستهجناً، فيستحيل أن يبيت الرجل مع زوجته حين يحلّ ضيفاً على أحد، سواء كانا في السفر أم في الحضر، و من ثمّ فإنّ الرجل ينام في القسم الخارجيّ مع الرجال، و تنام المرأة في داخل البيت مع النساء). لذا فإنّنا نصعد إلى السطح سويّاً ليلًا، فيرقد السيّد هاشم أوّل الليل كمن يُريد مخادعتي و إرقادي، ثمّ ينهض فيأوي إلى زاوية السطح فيصلّي أو يجلس تجاه القبلة متأمّلًا متفكّراً إلى الصباح.
و كان يؤذَّن في بيتنا لصلاة الصبح عند حلول وقتها، فينزل السيّد من السطح و نأتمّ به في الصلاة. و كان يقرأ في صلاة المغرب السور القصار، و يقرأ في صلاة العشاء و الصبح سوراً أطول.
سفر الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد من طهران إلى همدان
انقضت عدّة أيّام في طهران على هذا المنوال، ثمّ وجّه الرفقاء الهمدانيّون الدعوة للسيّد للتفضّل بالذهاب إلى همدان لعدّة أيّام، فلبّى دعوتهم و ذهب معهم بسيّارة سفر (الحافلة) إلى همدان، حيث صحبتُه في سفرته هذه.
و اقتضت المصلحة عند الورود إلى همدان أن يحلّ أوّلًا على منزل المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ قدس الله تربته، ثمّ
يذهب من هناك إلى مكان آخر، و ذلك أداءً لاحترام ذلك المرحوم و إجلالًا لابنه الأكبر الأرشد: الصديق العزيز الحاجّ أحمد آقا الأنصاريّ. و عليه فقد أمضينا في سفرنا هذا ليلةً في سيارة السفر و وصلنا همدان قبل الظهر بثلاث ساعات، حيث توجّه السيّد الحدّاد مباشرة إلى منزل آية الله الأنصاريّ و بقي ساعة في القسم الخارجيّ لمنزل ذلك المرحوم، الواقع في شارع «شِوِرين» زقاق «حاجّ خدا كَرَم»، و استقبله هناك الحاجّ أحمد آقا حفظه الله تعالى، ثمّ توجّه إلى منزل الحاجّ محمّد حسن البياتيّ.
و حين خرجنا من منزل المرحوم الأنصاريّ قال لي السيّد: لقد كنّا ننتظر من آثار المرحوم في القسم الخارجيّ من منزله شيئاً أكثر!
و كان الرفقاء الهمدانيّون قد سعوا لإعداد مكان يتمتّع بجوّ لطيف، فاستأجروا بستاناً خارج همدان، فكان السيّد يذهب إليه نهاراً و يعود إلى همدان ليلًا. و قد أمرني السيّد بإمامتهم في صلاة الجماعة و كان يقتدي على الدوام.
و كانت المجالس الجيّدة تعقد في الليالي بعد الصلاة، و كان كثير من الرفقاء الطهرانيّين قد قَدِموا إلى هناك، كما كان سماحة آية الله الحاجّ الشيخ هادي التألّهيّ الجولانيّ الهمدانيّ أدام الله بركاته و المرحوم حجّة الإسلام الحاجّ السيّد مصطفى الهاشميّ الخَرَقانيّ و المرحوم السيّد وليّ الله الجورقانيّ رحمة الله عليهما قد جاءوا أيضاً. و كانت جميع المذاكرات تحصل دائماً بعد قراءة قدر لا بأس به من القرآن الكريم، يتلوه تفسير يلقيه الحقير، و كان الحديث يتطرّق أحياناً إلى أمر من المعارف فيطلبون منه بيانه و إيضاحه.۱
و كانت فترة التوقّف في همدان تسعة أيّام، و قد اصطحبه الرفقاء يوماً إلى مزار ابن سينا فلم تبدُ شخصيّته في نظر السيّد مثيرة للإعجاب. ثمّ اصطحبوه يوماً آخر لزيارة أهل القبور في منطقة «بهار» التابعة لهمدان، و كذلك لزيارة قبر المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ رضوان الله تعالى عليه، و صحبه إلى هناك جميع الرفقاء الهمدانيّين و الطهرانيّين في سيّارتي سفر صغيرتين (ذات ۱۸ راكباً) حيث وقف مدّة مع الرفقاء على قبر المرحوم البهاريّ و هم مستقبلو القبلة، قرأ فيها الفاتحة و دعا لعلوّ درجاته و مقاماته. ثمّ انصرف من ذلك القبر و شرع بالتجوال بين القبور و الاستغفار للمدفونين هناك لمدّة نصف ساعة تقريباً.
الرشحات المعنويّة للحاجّ السيّد هاشم عند مزار الشيخ محمّد البهاريّ
و كنت أصحبه وحدي في تجواله بين القبور و يتبعه بفاصلة باقي الرفقاء، فقال لي: لقد سمعنا بأنّ المرحوم الأنصاريّ كان يتردّد كثيراً على
هذه المقبرة و يأتي ليزور قبر المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ، و كم كان يأتي ماشياً من همدان التي تبعد عن بهار بمسافة فرسخَين، و ذلك للحصول على الامور الروحيّة و المعنويّة و للاستعانة بروحه. و قد اتّضح الآن أنّ المرحوم البهاريّ لم يكن ليمتلك تلك الدرجة التي تستأهل أن يستمدّ المرحوم الأنصاريّ العون منه و يستعين بروحه و يبحث عن ضالّته فيه؛ لقد كان المرحوم الأنصاريّ يبحث عني، و كان يأتي إلى هذا المكان و يطوي كلّ هذا الطريق لاستنشاق هذه الرائحة في هذه الساعة.
يوم لم يسبق له مثيل عند مزار المرحوم الشيخ محمّد البهاريّ
و على كلّ تقدير فقد كان ذلك اليوم يوماً عجيباً! فقد منح السالكون الشيوخ و الكهول بهذا العدد الذي استوعب سيّارتَي السفر الصغيرتين المقبرة منظراً معنويّاً و روحانيّاً عجيباً في سيرهم خلف السيّد.
و من المعروف و المشهور أنّ الشيخ محمّد البهاريّ يستقبل ضيوفه و زائريه و يقوم بضيافتهم، و لقد امتحن الحقير هذا الأمر بنفسه، فكنتُ كلّما جئت إلى قبر المرحوم الشيخ، سواء في حياة المرحوم الأنصاريّ أم بعد مماته -حيث كنت أتردّد كثيراً على همدان- فقد كان يستقبلني بنحوٍ خاصّ، كما أنّ الكثير من الأصدقاء يدّعون هذا الواقع أيضاً. لكنّ استقبال الشيخ للسيّد كان ذلك اليوم على نحوٍ استوعب جميع منطقة بهار همدان، فاتّجهوا نحو المقابر رجالًا و نساءً.
فقد جلس الحقير مع السيّد بعد التجوال بين القبور في الضلع الشماليّ للمقبرة مفترشين الأرض جنب جدار المقبرة لنستريح مدّة ثمّ نعود إلى المدينة، فما كان من نساء البيوت الواقعة خلف المقبرة حين رأين السيّد إلّا أن أتيْنَ ببساط فرشْنَه للسيّد، ثمّ جئن بفراش لجميع الرفقاء الذين كانوا قد تجمّعوا في المقبرة حول السيّد، فصار الضلع الشماليّ للمقبرة مفروشاً. ثمّ هُرعت بعض النساء من البيوت خارج المقبرة فأخبرن رجالهن، فجاؤوا
بمراوح يدويّة من الحصير للسيّد و لبقيّة الرفقاء، لأنّ الجوّ كان حارّاً آنذاك، ثمّ جاءوا بشراب «البيدمشك» البارد فسقوا الجميع، ثمّ عمد الرجال فوراً إلى جلب مقدار من البطيخ الأحمر المشهور لمنطقة بهار و قطّعوه بالسكاكين و وضعوه أمام الضيوف و هم يتمتمون مع أنفسهم: من هو هذا السيّد القادم من كربلاء؟!
و لم يستطع الرفقاء الهمدانيّون أن يوضِّحوا لهم أكثر من أنّه سيّد من أهل كربلاء جاء لتقبيل أعتاب الإمام الثامن عليه السلام.
و لقد تقاطر أهل المدينة على المقبرة شيئاً فشيئاً حتّى غصّت المقبرة بالناس، في حين لم يبقَ للغروب إلّا نصف ساعة، و كان البعض منهم يقول: نريد أن نذبح ذبحاً تحت قدميه! و بعض يقول: يجب أن يأتي السيّد عندنا الليلة فلا يمكن أن ندعكم ترجعون إلى المدينة.
و أخيراً قام السيّد من مكانه و توجّه نحو باب المقبرة لركوب السيّارة و قال للجميع: لا مانع لديّ من البقاء هنا الليلة و الضيافة عندكم، لكنّ هذا السيّد المحترم كان قد دعانا الليلة إلى منزله و أعدّ الطعام، و هذا الجمع مدعوّون لديه مع بعض آخر، و هم في الانتظار، و إن وفّقت و جئت إن شاء الله تعالى ثانيةً إلى منطقة بهار فسآتي و أكون في خدمتكم و أبيت عندكم.
و كان الشخص الذي دُعينا إلى منزله تلك الليلة هو الحاجّ محمّد بيك زاده ابن اخت المرحوم الأنصاريّ، و كان بائعاً للشاي، و كان معنا في الجمع الحاضر، فجاء و تحدّث مع أهل بهار، فصار مسلّماً لديهم أنّ السيّد معذور في الذهاب.
أمّا حين أراد السيّد الركوب في السيّارة فقد أحاط به الناس، فمنهم من يُقَبِّل يده، و منهم من يقبِّل رِجلَيه، و آخرون يقبِّلون باب السيّارة، ثمّ جلس السيّد في السيّارة فصاروا يقبّلون زجاج النوافذ من الخارج، ثمّ
تحرّكت السيّارة من وسط هذا الجمع متّجهةً نحو همدان.
و هكذا، و بعد أن قام الرفقاء الهمدانيّون بشرح مشكلاتهم السلوكيّة استفاضوا منه و ارتَوَوا و نالوا مُناهم، فقد عاد السيّد إلى طهران.
لقاء و خلوة المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ
بسماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد رحمة الله عليهما
لقد كان للمرحوم المطهّريّ علاقات الصداقة و المعرفة الممتدّة مع الحقير، و قد ورد الذِّكر المبارك للسيّد بيننا بعض الأحيان بشكل مقتضب غير كامل، فتوجّب بعد مجيء السيّد من كربلاء إلى طهران أن يستفيد هذا الصديق القديم أيضاً من محضره. و من ثمّ فقد قام الحقير بإخبار الشيخ المطهّريّ فتفضّل بالمجيء إلى منزلي في منطقة أحمديّة دولاب، فالتقى بالسيّد في مجلس عامّ و قام بطرح بعض الأسئلة عليه، فأجاب السيّد عليها؛ فشغف المرحوم المطهّريّ به، لكأنّه وجد فيه ضالّته المنشودة. ثمّ جاء مرةً أخرى فتحادثا في هذه الغرفة الخارجيّة العموميّة. و عندها قال لي المرحوم الصديق العزيز المطهّريّ: أ يمكن لسماحة السيّد أن يمنحني من وقته ساعة الاقيه فيها على انفراد؟!
قلتُ: لا مانع في الأمر، فالسيّد يعطيك هذا الوقت، و لدينا كذلك مكان للخلوة!
ثمّ نقلت ذلك للسيّد، فقال: لا مانع من ذلك، فليأتِ و ليسلْ ما يريد. و كان لدينا غرفة صغيرة في سطح المنزل تُبنى عادة للاستفادة منها في حفظ بعض أثاث المنزل و لوازمه، فأعدّها الحقير مكاناً لخلوتهما. ثمّ قام السيّد بتعيين ساعة معيّنة في اليوم التالي لذلك اللقاء الخاصّ. و قد جاء المرحوم الشهيد المطهّريّ في الموعد المقرّر فصحبتُه و سماحة السيّد
الحدّاد إلى سطح المنزل، ثم أقفلتُ باب السطح عند نزولي لئلّا يصعد أحد إلى السطح، حتّى من الأطفال أو من الرفقاء و الأصدقاء الذين لا علم لهم بالأمر.
و قد استفسر المرحوم المطهّريّ منه وقتذاك ما شاء من الأسئلة القديمة و المخزونة التي لم يعثر لها على جواب، ثمّ انقضت الساعة و هبط السيّد و خلفه المرحوم المطهّريّ، فرأيت أنّ المطهّريّ كان مبتهجاً و سعيداً تلوح آثار المسرّة على وجناته.
و لم أسأل من سماحة السيّد و لا من الشيخ المطهّريّ عمّا دار بينهما، و لست أعلم منه شيئاً حتّى يومنا هذا، لكنّ المرحوم المطهّريّ قال للحقير بصوتٍ خافت عند خروجه: إنّ هذا السيّد يبعث الحياة و الروح في الإنسان!
و جدير بالقول إنّ المرحوم المطهّريّ قال للحقير يوماً: لقد كنتُ مع السيّد محمّد الحسينيّ البهشتيّ في قم في ورطة مهلكة، لكنّ لقاؤنا بالعلّامة الطباطبائيّ و إعانته لنا قد أنجانا من تلك الورطة.
و عليه، فإنّ كلام المرحوم المطهّريّ بشأن سماحة الحاجّ السيّد هاشم و قوله: إنّ هذا السيّد يبعث الحياة و الروح في الإنسان، كان في زمن حياة سماحة العلّامة و قبل رحيله -الذي صادف في الثامن عشر من محرّم الحرام ۱٤۰٢ هجريّة- بستّ عشرة سنة؛ على أنّ العلّامة قد خلع لباس البدن و ارتدى ثوب البقاء بعد المرحوم المطهّريّ.
آية الله الشيخ مرتضى المطهّريّ يطلب برنامجاً للعمل من سماحة الحدّاد
و كان للمرحوم المطهّريّ لقاء خاصّ آخر و على انفراد مع السيّد استغرق ساعة كسالفه، و كان بعد عودة السيّد من سفره إلى مشهد المقدّسة -الذي سيأتي تفصيله فيما بعد- و لم يكن للحقير هذه المرّة أيضاً اطّلاع عمّا تبادلا من أحاديث، لكنّ ما أعلمه أنّ المرحوم المطهّريّ كان قد طلب من
سماحة السيّد في هذه الجلسة أن يعطيه برنامج عمل، و أنّ السيّد قد أعطاه ذلك.
ثمّ طلب منّي المرحوم المطهّريّ أن أعطيه صورة للسيّد الحدّاد ليضعها في غرفته، فقلت له: سأعطيكم صورته لتحتفظوا بها، فلا تعلّقوها في غرفتكم، بل ضعوا بدلًا منها صورة المرحوم القاضي، و ذلك لأنّ الحاجّ السيّد هاشم رجل غير معروف و أنتم من المشهورين الذين يتردّد عليكم جميع الطبقات، و سيسألكم هؤلاء حين يرون صورته لديكم: مَن هذا الرجل؟ و لما ذا صورته هنا؟ و هكذا فإن الأمر سيسبّب لكم الأذى، كما أنّ السيّد لا يرغب أن يصبح اسمه مشهوراً، أمّا بالنسبة للمرحوم القاضي فالأمر مختلف.
و هكذا فقد ذهب الحقير يوماً إلى منزل ذلك المرحوم، فرأيت أنّه قد وضع في غرفته ثلاث صور: صورة المرحوم أبيه: الشيخ محمّد حسين المطهّريّ، و صورة المرحوم الحاجّ الشيخ الميرزا علي آقا الشيرازيّ، و صورة المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا السيّد علي آقا القاضي التبريزيّ الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم و أعلى درجاتهم و مقاماتهم جميعاً.
و كنت كذلك قد أعطيت للمرحوم المطهّريّ عند سفره للتشرّف بزيارة العتبات المقدّسة عنوان منزل الحاجّ السيّد هاشم، فذهب إليه في كربلاء مرّتين، و دام لقاؤه الأوّل ساعة تقريباً، ثمّ ذهب إليه يوماً آخر صباحاً فتناول معه طعام الفطور.
عبارة المرحوم الحدّاد للمطهّريّ: فمتى تصلّي إذاً؟!
و كان المرحوم المطهّريّ مسروراً يبدو به الوجد عند عودته من هذه اللقاءات، و كان يقول: ذهبتُ يوماً إليه فسألني: كيف تصلّي؟
قلت: بانتباه كامل إلى معاني كلمات الصلاة و جملاتها!
فقال: فمتى تصلّي إذاً؟! إنّ انتباهك و التفاتك لا بدّ أن يكون في
الصلاة للّه فقط لا لسواه، فلا تلتفت إلى المعاني!
و لقد كانت جملته هذه -إنصافاً- تضمّ الأسرار و الدقائق، و كانت حقيقة الأمر كما تفضّل، و ذلك لأنّ الإنسان إن توجّه في صلاته إلى معاني الكلمات، كأن يركِّز على معنى عبارة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، و هو: أنّني أعبدك إيّاك فقط و أستعين بك فقط، فإنّ انتباه المصلّي و فكره سيتوجّه إلى هذه الحقيقة، فيغفل عن التوجّه الكامل إلى الله سبحانه؛ في حين أنّ التوجّه ينبغي أن يكون إلى الله تعالى، و أن يكون المخاطب هو الله سبحانه فقط. و في هذه الحال فإنّ المصلّي لن يتوجّه إلى المعنى إلّا باللحاظ الآلي و المرآتيّ. و هكذا في باقي الصلاة التي ينبغي ألّا يكون انتباه الإنسان إلى ألفاظها و عباراتها غير التوجّه الآليّ و المرآتيّ.
و ذلك لأنّه إن بذل اهتمامه و انتباهه إلى ألفاظ الصلاة من جهة صحّة أدائها و تجويدها و أداء مخارج حروفها، فلن تكون الصلاة عند ذاك صلاة، لأنّها تفتقد التوجّه إلى الله و التوجّه إلى المعنى.
أمّا إذا كان التوجّه إلى الله سبحانه، فلم يغفل الإنسان عن الله لحظةً واحدة في خطابه و كلامه معه و لم يفكّر في ألفاظ الصلاة و لا في معانيها، فإنّ جميع الألفاظ ستأتي عند ذاك تلقائيّاً بنحو آليّ و مرآتيّ، أي بالنظر غير الاستقلاليّ، و تتبعها جميع المعاني أيضاً بالطريق الآليّ و المرآتيّ لا بالنظر الاستقلاليّ، و ستكون قد ادّيت بأجمعها بالشكل الصحيح و المطلوب بدون أن يرد خلل في حضور القلب و التوجّه التامّ إلى الله سبحانه و تعالى.
و على سبيل المثال، فلو لاحظنا هذه المكالمات و المحادثات التي تدور بيننا ليلًا و نهاراً، و الكلمات و الخُطَب و المراجعات و فصل الخصومات و سائر الامور التي تضمّ عنوان التخاطب و المحادثة، لوجدنا أنّ
جميع تركيزنا يتوجّه على الشخص المخاطب لا على الخطاب، و سيكون ما يجري في الخطاب عند ذاك من عقل الإنسان و فكره على لسانه صحيحاً و صائباً بأجمعه بدون أن نلتفت إلى صحّته و صوابه. أمّا إذا انتبهنا إلى العبارات و المطالب المتبادلة، فإنّ أساس الالتفات في الخطاب سيزول، و لن يكون في تلك اللحظة وجود لمخاطب ما.
و لقد قال أعلامنا: إنّ الجمع بين لحاظين استقلاليّ و آليّ أمر غير ممكن. فلو كان لحاظنا في الصلاة مستقلًّا إلى الله تعالى فإنّ ألفاظها و معانيها ينبغي حتماً أن تكون آليّة و غير استقلاليّة و تبعيّة. أمّا إذا كان لحاظنا مصروفاً إلى ألفاظ الصلاة أو معانيها بشكل مستقلّ، فإنّ التفاتنا إلى الله سيكون -بشكل قهريّ و اضطراريّ- تبعيّاً ضمنيّاً و غير استقلاليّ.
و حين أتكلّم معكم فأقول مثلًا: «أيّها السيّد! لا تسافروا اليوم و ابقوا في حرم الإمام الرضا!» فإنّ التفاتي و انتباهي ينصبّ بأكمله عليكم و على حقيقتكم، و هذا ما يدعونه بالنظر الاستقلاليّ. و بالطبع فإنّ هذه المعاني ستخطر في ذهني بلا خطأ، فيقوم ذهني باستخدام ألفاظ تتناسب مع تلك المعاني و تُجرى هذه المعاني و الألفاظ على لساني بشكل متعاقب بدون أيّ خطأ ليظهر لكم ذلك المقصود. أمّا لو شئت استحضار معنى «لا تسافروا اليوم» في ذهني، أو تصوّر ألفاظه على الخصوص، فإنّ مسألة كونكم مخاطبين ستزول و ستفقد استقلاليّتها، و لا مفرّ من أن تكون أمراً ضمنيّاً و تبعيّاً و آليّاً و مرآتيّاً.
و لا بدّ أن يكون الإنسان في صلاته -و هي أهمّ الامور- منقطعاً إلى الله في حضور قلب، فلا تمرّ في ذهنه أيّة خاطرة أو فكرة، و هذا الأمر يمكن تحقّقه فقط حين تخطر في الذهن جملات الصلاة و عباراتها المتضمّنة لمعانيها بالطبع، ثمّ تجري على اللسان بدون أيّ التفات إليها.
و حينذاك ستكتسب الصلاة حقيقتها و واقعيّتها، فيصحّ تسميتها بالصلاة. أي أنّ المخاطب فيها هو الله و حضور القلب فيها كان مع الله، أمّا بغير ذلك فإنّ حضور القلب سيكون إلى الألفاظ و المعاني، و سيكون الله العليّ الأعلى مهجوراً لم تجْر ملاحظته و الالتفات إليه إلّا بالنظر الضمنيّ الذي ليس في الحقيقة نظراً.
نعم، لقد كان المرحوم الحاجّ السيّد هاشم يحبّ المرحوم المطهّريّ، و حين التقى الحقير في سفره الأخير إلى الشام بعد شهادة المرحوم المطهّريّ بسماحة السيّد -الذي تشرّف هو الآخر بالذهاب إلى هناك للزيارة فقد أبدى السيّد تأسّفه لتلك الخسارة. رحم الله الغابرين و ألحق الباقين بهم إن شاء الله تعالى.
تفسير الحاجّ السيّد هاشم لمعنى التجرّد، و قصّة تعليق القَرْعَة في العنق
و لقد سأل أحدهم الحاجّ السيّد هاشم ذات يوم: ما هو التجرّد؟ فأجاب:
التجرّد عبارة عن معرفة الإنسان بالمشاهدة أنّ حقيقته هي غير هذه الظواهر و المظاهر.
ثمّ أردف بعد سكوت قليل: لقد عمد شخص ـ من أجل أن لا يُضيع نفسه ـ إلى قَرْعَةٍ فثقبها و علّقها في عنقه، فكانت معلّقة في عنقه في الحضر و السفر، و في النوم و اليقظة، و كان سعيداً على الدوام، يفكّر: لم يحدث حتّى الآن أن أضعت نفسي مع وجود هذه العلامة الكبيرة، و لن اضيع نفسي معها إلى آخر العمر.
و حدث أن سافر مع رفيق له، فناما ذات ليلة مظلمة، فاستيقظ رفيقه منتصف الليل، فنهض و فكّ القَرعة من عنق صاحبه و علَّقها في عنقه، ثمّ أخلد إلى النوم من جديد. فلمّا أصبحا نهض الرجل صاحب القرعة، فرأى أنّها ليست معلّقة في عنقه، و أنّه لذلك سيضيّع نفسه، ثمّ لاحظ أنّ القَرعة
معلّقة في رقبة رفيقه النائم، فقال: من المؤكَّد أنّني أنا ذلك الرفيق النائم، لأنّ علامتي معلّقة في عنقه.
و هكذا فقد بقي مدّة متحيّراً يفكّر: يا إلهي! ما الذي حدث لي فتبدّلتُ! فأنا أجد -من جهة- أنّني أنا، و لكن أين صارت القَرعة التي في عنقي؟!
و أجد -من جهة أخرى- أنّ القَرعة كانت علامتي التي لا تنفكّ عنّي، فأنا إذاً هذا الرجل النائم الذي عُلِّقَت القَرعة في عنقه. و بقي مترنّماً مع نفسه:
اگر تو منى پس من كيَمْ | *** | اگر من مَنَم پس كو كدوى گردنم۱ |
نعم، تجب ملاحظة كيف أنّ ذلك التفسير، و من ثمّ هذا المثال اللطيف الذي بيّنه السيّد هاشم قدّس الله تربته المنيفة كانا في نهاية الوضوح و البيان لهذا المعنى، و كم كان بيانه مثيراً للعجب حين أوضح حقيقة التجرّد بهذا الجلاء!
إنّ الإنسان العاديّ و العامّيّ الخارج عن مسيرة السلوك و العرفان، يفصل نفسه عن عالم الحقيقة بهذه الآثار و اللوازم الطبيعيّة و المادّيّة و النفسيّة، كالنسبة للأب و الامّ و المحيط و الزمان و المكان و العلوم المحدودة و القدرة المحدودة و الحياة المحدودة و سائر الصفات و الأعمال و الآثار التي يعتبرها تابعة له و ينسبها لنفسه، في حين أنّه يعدّ الله القادر القاهر الحيّ القيّوم العليم السميع البصير إلهاً خياليّاً و تصوّريّاً، يتصوّره موجوداً محدوداً و مقيّداً في زاوية الحياة و في الموارد الاستثنائيّة كالزلزلة
و السيل و الموت و أمثالها، أو في أعالي السماء؛ بينما الواقع غير هذا، فالله سبحانه هو الأصل و الأصيل و ليست باقي الموجودات مع جميع آثارها و لوازمها إلّا فرعاً منه و تابعاً له.
الله سبحانه هو أصل الوجود، و كمال الوجود، و حقيقة الحياة و العلم و القدرة، و جميع ما سواه امور اعتباريّة و ماهيّات إمكانيّة، حياتها و علمها و قدرتها مجاز و تبع و ظلّ. الله قائم بذاته، أمّا جميع الموجودات فقائمة به.
و هذا الأمر، و هذه النظريّة و هذا النظر إلى الذات و النظرة الاستقلاليّة أمر موجود في الطبيعة البشريّة، اللهمّ إلّا مَن وضع قدمه بثبات على جادّة التوحيد، و استطاع بتربية الاستاذ الإلهيّ في المعارف الدينيّة للشريعة الإسلاميّة الحقّة، و بالمجاهدة للنفس الأمّارة أن يعمد إلى هذا الإله التصوّريّ الذي ليس إلّا وجوده هو، مع الصفات و الآثار المتعلّقة بذاته و التي يراها جميعاً و يعتبرها عائدة له فينسبها لنفسه، و يتصوّر نفسه مستقلًّا على الدوام عملًا و فعلًا -و لو لم يفه بذلك لساناً- فيعمد إلى صنم النظرة الاستقلاليّة هذا فيسقطه، و إلى قصر الاستبداد هذا فيهدمه، و إلى الجبل العظيم للأنانيّة و هوى النفس الأمّارة فيدكه، فيلمس حقيقة ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ﴾.۱ أو حقيقة كلام النبيّ يوسف على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام لصاحبَيه اللذين كانا معه في السجن:
﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ﴾.٢
فالسالك في طريق الله يرى نفسه بالوجدان و المشاهدة و باللمس
و العيان -لا بالدليل و البرهان- خارج هذه الحدود و خارج هذه النِّسَب الاستقلاليّة. فهو يرى أنّه -و يا للعجب- كان وجوداً أفضل و أعلى و أسمى و أرقى، و أن لا وجود لذاك الوجود المجازيّ الذي كان حتّى الآن ينسبه لنفسه و يتصوّره أنّه هو، فنفسه شيء آخر مجرّد و منوّر و بسيط، يمتلك حياةً و علماً و قدرة حقيقيّة، في حين كان ذلك الوجود السابق شيئاً قذراً ظلمانيّاً و محدوداً و مقيّداً و ذا حياة و علم و قدرة محدودة و مجازيّة.
فهو يرى من جهة أنّه كان كذلك فصار هكذا و ظهر بهذه الصورة القيّمة البسيطة و الجميلة، فلا شكّ و لا ريب أنّ هذا ليس إلّا نفسه. و يرى من جهة أخرى أنّ هذا ليس ذاك، فلا تناسب و لا تشابه بينهما؛ فذاك ميّت و هذا حيّ، و ذاك جاهل و هذا عالم، و ذاك عاجز و هذا قادر، و هو محدود و هذا مجرّد، و ذاك ظلمة و هذا نور و منير، و ذاك ثقيل و هذا خفيف متسام.
و خلاصة الأمر أنّ جميع صفاته و أسمائه قد تغيّرت، فصارت له صفات إلهيّة و أنّه خرج من لباس الشيطان فارتدى خلعة المَلَك و الملكوت و اللباس الإلهيّ، فلا شكّ لديه أنّ هذا ليس ذاك.
تماماً، كتلك القَرْعة التي علّقها ذلك الرجل في عنقه. على أنّ بعض القَرْع كبير جدّاً و مجوّف يجعله البعض إناءً فيستفيدون منه، و قد شاهد الحقير أنّهم كانوا يصنعون منه سابقاً كوزاً لغليون التدخين. و باعتبار أنّ القَرْع خفيف الوزن و مجوّف، فهو إذا جُفِّف صار يرنّ لو نُقر بإصبع واحدة، و لأنّه كبير الحجم فقد كان اختياراً ملائماً ليصبح هويّة و علامةً لهذا الرجل.
أي أنّ الإنسان بشكل عامّ يحاول حفظ ذاتيّته بهذه الزينة و الحليّ، و بهذه التعيّنات الاعتباريّة، و بهذه التصوّرات الجوفاء الخالية الرنّانة. لكنّ جميع هذه التعيّنات تزول دفعة واحدة لدى السالك في طريق الله، فيشاهد
علامات العلم و القدرة و الحياة و آثارها في وجود آخر يمثّل حقيقته هو. فيتأمّل و يتساءل أن: لو كانت هذه الآثار لي أنا، فلِمَ هي غير موجودة الآن؟ و إن كانت هذه الآثار لحقيقتِي، فلِمَ كانت لهذا الموجود المجازيّ الذي هو أنا؟ فيعترف أخيراً أن لَا مُؤَثِّرَ في الوُجُودِ سِوَى الله.۱
ما عَدَمهائيم و هستىهاى ما | *** | تو وجود مطلقى فانى نما۱ |
أبيات العارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ في معنى التجرّد
و لقد أورد الحكماء الإلهيّون و العرفاء الربّانيّون هذه الحقيقة بالتفصيل في كتبهم و شرعوا في بيانها و شرحها، و نكتفي هنا بذكر أبيات للعارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ:
در إشاره به تَرْسَائي٢
ز ترسائى غرض تجريد ديدم | *** | خلاص از ربقة تقليد ديدم٣ |
جناب قُدس وحدت ديْرِ جان است | *** | كه سيمرغ بقا را آشيان است |
ز روح الله پيدا گشت اين كار | *** | كه از روح القدس آمد پديدار |
هم از الله در پيش تو جانى است | *** | كه از روحالقدس دروى نشانى است |
اگر يابى خلاص از نفس ناسوت | *** | درآيى در جناب قدس لاهوت |
هر آن كس كو مجرّد چون مَلَك شد | *** | چو روح الله بر چارم فلك شد۱ |
تمثيل العارف الشبستريّ لحقيقة معنى التجرّد
بود محبوس طفل شير شيرخواره | *** | نزد مادر اندر گاهواره |
چه گشت او بالغ و مرد سفر شد | *** | اگر مرد است همراه پدر شد٢ |
عناصر مر تو را چون امّ سِفلِى است | *** | تو فرزند و پدر آباء عِلْوى است |
از آن گفته است عيسى گاهِ اسْرا | *** | كه آهنگ پدر دارم به بالا |
تو هم جان پدر سوى پدر شو | *** | به در رفتند همراهان به در شو |
اگر خواهى كه گردى مرغ پرواز | *** | جهان جيفه پيش كركس انداز |
به دو نان ده مر اين دنياى غدّار | *** | كه جز سگ را نشايد داد مردار |
نسب چَبْوَد مناسب را طَلَب كن | *** | به حقّ روآور و ترك نسب كن |
به بحر نيستى هر كو فرو شد | *** | فَلَا أنسابَ نقد وقت او شد۱ |
هر آن نسبت كه پيدا شد ز شهوت | *** | ندارد حاصلى جز گَرْدِ نخوت |
اگر شهوت نبودى در ميانه | *** | نَسَبْها جمله ميگشتى فَسانه |
چه شهوت در ميانه كارگر شد | *** | يكى مادر شد آن ديگر پدر شد |
نميگويم كه: مادر يا پدر كيست! | *** | كه با ايشان به حرمت بايدت زيست |
نهاده ناقصى را نام خواهر | *** | حسودى را لقب كرده برادر |
عَدُوى خويش را فرزند خوانى | *** | ز خود بيگانه خويشاوند خوانى |
مرا بارى بگو: تا خال و عم كيست | *** | وز ايشان حاصلى جز درد و غم نيست۱ |
رفيقانى كه با تو در طريقند | *** | پى هزل اى برادر هم رفيقند |
به كوى جِدّ اگر يك دم نشينى | *** | از ايشان من چه گويم تا چه بينى |
همه افسانه و افسون و بند است | *** | به جان خواجه كاينها ريشخند است |
به مردى وارهان خود را چه مردان | *** | و ليكن حقّ كس ضايع مگردان |
ز شرع ار يك دقيقه ماند مُهْمَل | *** | شوى در هر دو كون از دين معطّل |
حقوق شرع را زينهار مگذار | *** | و ليكن خويشتن را هم نگهدار |
ز سوزن۱ نيست الّا مايه غم | *** | به جا بگذار چون عِيسيّ مريم٢ |
حنيفى شو ز قيد هر مذاهب | *** | درآ در دَيْرِ دين مانند راهب |
تو را تا در نظر أغيار و غير است | *** | اگر در مسجدى آن عين دَيْر است |
چو بر خيزد ز پيشت كسوت غير | *** | شود بهر تو مسجد صورت دير |
نميدانم به هر جائى كه هستى | *** | خلاف نفس كافر كن كه رستى |
بت و زُنّار و ترسائيّ و ناقوس | *** | إشارت شد همه با ترك ناموس |
اگر خواهى كه گردى بندة خاص | *** | مُهَيّا شو براى صِدق و اخلاص |
برو خود را ز راه خويش برگير | *** | به هر يك لحظه ايمان دگر گير۱ |
به باطن نفس ما چون هست كافر | *** | مشو راضى بدين اسلام ظاهر |
ز نو هر لحظه ايمان تازه گردان | *** | مسلمان شو مسلمان شو مسلمان |
بسى ايمان بود كان كفر زايد | *** | نه كفر است آن كزو ايمان فزايد |
ريا و سُمْعَه و ناموس بگذار | *** | بيفكن خرقه و بر بند زنّار |
چو پير ما شو اندر كفر فردى | *** | اگر مَردى بده دل را به مَردى |
مجرّد شو ز هر إقرار و إنكار | *** | به ترسازادهاى ده دل به يكبار۱ |
حتّى يصل إلى قوله:
يكى پيمانه پر كرد و به من داد | *** | كه از آب وى آتش در من افتاد |
كنون گفت از مى بىرنگ و بىبو | *** | نقوش تختة هستى فرو شو |
چه آشاميدم آن پيمانه را پاك | *** | در افتادم ز مستى بر سر خاك |
كنون نه نيستم در خود نه هستم | *** | نه هشيارم نه مخمورم نه مستم |
گهى چون چشم او دارم سَرِى خَوش | *** | گهى چون زلف او باشم مُشَوَّش |
گهى از خون خود در گلخنم من | *** | گهى از روى او در گلشنم من۱ |
المرّة الأولى لحصول التجرّد للسيّد هاشم الحدّاد في كربلاء
المرّة الأولى لحصول التجرّد للسيّد هاشم الحدّاد في كربلاء
بمتابعة أمر الاستاذ المرحوم القاضيّ
بالصبر و التحمّل و مخالفة النفس مقابل الشدائد و أذى الناس
قال سماحة السيّد الحدّاد: لقد حصل لي التجرّد للمرّة الأولى في
كربلاء، و تفصيل ذلك أنّه كان يعيش مضطرّاً لعُسر المعيشة مع أبوي زوجته، فكان اولئك يعيشون في جانب من البيت و هؤلاء في جانب، في غرفة أعطاها إيّاه والد زوجته مجّاناً، و دام ذلك اثنتي عشرة سنة. و كان والد زوجته -حسين، أبو عمشة- يحبّه كثيراً، أمّا والدتها فكانت على العكس من ذلك، و لم تكن لتفتقد مشاعر العطف و المحبة نحوه فقط، بل كانت لا تتورّع عن إبداء أنواع الأذى في القول و الفعل. و كانت امرأة قويّة البُنية بذيئة اللسان و من عشيرة الجنابات العربيّة، امرأة شجاعة و جريئة بشكل لم يكن لأيّ رجلٍ الحقّ في العبور ليلًا قرب منزلها خوفاً منها، فكان لها القدم الراسخ في حفظ عائلتها و بناتها إلى حدّ كبير، و إذا ما صادف أحياناً أن يعبر شخص فقد كانت تذهب إليه بمفردها و تحاسبه على ذلك.
و كان السيّد يقول: لم يكن يفصل بين غرفتهم و غرفتنا في هذا الجانب سوى أكياس الرزّ الذي له رائحة العنبر و ظروف السمن المعدنيّة المكدّسة على بعضها، لكنّهم لم يكونوا ليعطونا منها شيئاً، بل كانت امّ زوجتي -و اسمها نجيبة- تتعمّد أن ترانا في شدّة و عسر، لكأنّها كانت تسعد بذلك و تسرّ. و كنت و زوجتي نفتقد الفراش و الغطاء، و كنا نسحب نصف الحصير من أسفلنا أحياناً فنلقيه علينا من شدّة البرد.
و بالرغم من أنّني كنت أذهب للعمل بصورة منتظمة، لكنّ أكثر المراجعين كانوا من الفقراء الذين يعرفونني، و الذين كانوا يأخذون منّي نسيئة، و كان بعضهم لا يدفع الثمن. كما كان معاوني يأخذ ما يحتاج من مصارف، فلم يَبْقَ لي شيء غالباً إلّا مائة أو خمسون فلساً كانت بالكادّ تغطّي نفقات شراء الخبز و النفط و فتيلة المصباح و أمثالها، و كانت الأشهر تتصرّم فأعجز خلالها عن شراء قليل من اللحم لأحمله لعائلتي.
و كان سبب نفور هذه المرأة منّي مسألة الفقر التي كانت في نظرها
أمراً قبيحاً، و مع هذا الوضع الذي كانت تلمسه و الذي كان يوجب عليها أن تمدّ يد المساعدة لنا، إذ كانت متمكِّنة و ثريّة، لكنّها كانت على العكس تسعى إلى أن يتلف لدينا شيء ليزداد ضيقنا و محنتنا.۱
و من جهة أخرى فلم تكن شدّة الحالات الروحيّة و الاستفادة من محضر سماحة المرحوم القاضي لتسمح لي بجمع المال و تكديسه، أو ردّ الفقير و المحتاج، أو رفض إقراض الآخرين، و كانت حالتي بهذه الكيفيّة التي لم يكن يسعني أن أمتلك غيرها.
أمر آية الله القاضي بالصبر و تحمّل أذى أُمّ الزوجة
و كانت زوجتي تتحمّل و تصبر، لكنّ صبرها و تحمّلها كانا محدودَينِ. و هكذا فقد ذكرتُ للمرحوم القاضي بأنّ أذى حماتي لي بالقول و الفعل قد بلغ حدّه الأقصى، و لقد عِيل صبري في الحقيقة فلم أعُدْ أمتلك الصبر و الحلم و التحمّل على أذاها، و طلبتُ منه الإذن في طلاق زوجتي.
فقال المرحوم القاضي: بغضّ النظر عن هذه الامور، فهل تحبّ زوجتك؟ أجبتُ: نعم!
قال: أ فتحبّك زوجتك؟ قلت: نعم!
قال: لا إذْن لك في الطلاق أبداً! فاذهب و اصبر، فإنّ تربيتك على يد زوجتك، و بهذا الشكل الذي بيّنته، فإنّ الله سبحانه قد قرّر أن يكون تأديبك على يد زوجتك؛ فعليك بالتحمّل و المداراة و الحلم!
و لم أكن لأتخطّى تعليمات المرحوم القاضي أو أتجاوزها أبداً،
و كنت أتحمّل ما تضيفه امّ زوجتي هذه فوق مصائبنا. حتّى كانت ليلة من ليالي الصيف، عدت فيها إلى المنزل من الخارج بعد أن مرّ جزء من الليل، تعباً مرهقاً و جائعاً و عطشاناً اريد الذهاب إلى الغرفة، فرأيت امّ زوجتي جالسة قرب الحوض في ساحة المنزل و قد كشفت عن ساقيها من شدّة الحرّ و شرعتْ بصبّ الماء عليهما من الحنفيّة الموضوعة فوق الحوض، و حين علمتْ أنّني قد دخلتُ المنزل، شرعتْ في كيل كلمات التجريح و السباب و الشتائم التي تخاطبني بها، و لم أدخل إلى الغرفة، بل اتّجهت نحو السلّم فصعدت إلى السطح لأستلقي هناك، فرأيت أنّها رفعت عقيرتها و زادت نبرات صراخها بحيث صار الجيران يسمعونه فضلًا عنّي، و هكذا فقد كالت لي سيل الشتائم و السباب، و استمرّت تُعدّد و تعدّد حتّى عِيل صبري، فهبطتُ الدرج بدون أن أنتهرها أو أردّ عليها بكلمة واحدة، و خرجتُ من باب البيت فهمتُ على وجهي بلا هدف، و رُحتُ أسير في الشوارع بلا قصد أو انتباه، بل هكذا أسير في الشوارع دون أن أعرف إلى أين أذهب؛ كنت أسير فقط.
و فجأة رأيت في تلك الحال أنّني صرت اثنين: أحدهما السيّد هاشم الذي اعتدتْ عليه امّ زوجته و سبّته و شتمته، و الآخر هو أنا مجرّد و محيط و متسام لم ينلني سبابها و شتائمها، فلم تكن أساساً تسبّ سيّد هاشم هذا، و لم تكن لتسبّني أو تشتمني، بل كان سيّد هاشم ذاك هو الجدير بكلّ أنواع القبيح من القول. أمّا سيّد هاشم هذا، الذي هو أنا، فلا يستحقّ أن يسبّ، بل إنّها مهما سبّت و شتمت فإنّ ذلك لن يصل إليّ.
فانكشف لي في تلك الحال أنّ تلك الحالة الرائعة التي حصلت لي و التي تبعث على السرور و البهجة إنّما حصلت إثر تحمّل تلك الشتائم و الألفاظ القبيحة التي كالتها لي امّ زوجتي، و أنّ إطاعة أمر الاستاذ المرحوم
القاضي قد فتحت لي هذا الباب، فلو لم اطعه و لم أتحمّل أذى حماتي، لبقيت إلى الأبد ذلك السيّد هاشم المحزون المغموم الضعيف المشتّت الفكر و المحدود.
و للّه الحمد فأنا الآن سيّد هاشم هذا، حيث أتربّع في مكان رفيع و مقام كريم و عزيز، لا ينالني غبار جميع الهموم و الأحزان و الغموم الدنيويّة بذرّة منه، و لا يتمكّن من أن ينالني بشيء من ذلك.
و هكذا فقد عدت فوراً من هناك إلى البيت، فانكببت على يَدَيْ امّ زوجتي و رِجليها أقبّلهما و أقول: لا تتخيّلي أنّني انزعجت من كلامك ذلك، فقولي في بعد الآن ما شئتِ فإنّه مفيد لي!
العمل برواية عنوان البصريّ كان أمراً أساسيّاً من أوامر المرحوم القاضيّ
لقد كان المرحوم الاستاذ الكبير، عارف القرن الذي لا نظير له، بل هو حسب تعبير استاذنا سماحة الحاجّ السيّد هاشم: «لم يأت منذ صدر الإسلام حتّى الآن في مثل شمول و جامعيّة المرحوم القاضيّ»، كان قد أصدر تعليماته لتلامذته و مريديه في السير و السلوك إلى الله، أن يكتبوا رواية عنوان البصريّ و يعملوا بها من أجل تخطّى النفس الأمّارة و الرغبات المادّيّة و الطبعيّة و الشهويّة و الغضبيّة التي تنشأ غالباً من الحقد و الحرص و الشهوة و الغضب و الإفراط في الملذّات.
أي إنّ العمل وفق مضمون هذه الرواية كان أمراً أساسيّاً و مهمّاً. و كان يقول مضافاً إلى ذلك: ينبغي أن تحتفظوا بها في جيوبكم و تطالعونها مرّة أو مرّتين كلّ اسبوع. فهذه الرواية تحظى بالاهمّيّة الكبيرة و تحوي مطالب شاملة و جامعة في بيان كيفيّة المعاشرة و الخلوة، و كيفيّة و مقدار تناول الغذاء، و كيفيّة تحصيل العلم، و كيفيّة الحلم و مقدار الصبر و الاستقامة و تحمّل الشدائد أمام أقوال الطاعنين؛ و أخيراً مقام العبوديّة و التسليم و الرضا و الوصول إلى أعلى ذروة العرفان و قِمّة التوحيد.
لذا، فلم يكن المرحوم القاضي ليقبل تلميذاً لا يلتزم بمضمون هذه الرواية. و هذه الرواية منقولة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و قد ذكرها المجلسيّ في كتاب «بحار الأنوار».
النصّ الكامل لرواية عنوان البصريّ
و لمّا كانت تمثّل برنامجاً عمليّاً شاملًا نُقِلَ عن ذلك الإمام الهمام، لذا نوردها بألفاظها و عباراتها بلا تصرّف ليستفيد منها مُحبّون و عشّاق السلوك إلى الله تعالى:
۱۷- أقُوُلُ: وَجَدْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا البَهَائِيّ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ:
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيّ: نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ أحْمَدَ الفَرَاهَانِيّ رَحِمَهُ اللهُ، عَنْ عِنْوَانِ۱ البَصْرِيّ -و كَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ أتَى عَلَيهِ٢ أرْبَعٌ وَ تِسْعُونَ سَنَةً- قَالَ: كُنْتُ أخْتَلِفُ إلى مَالِكِ بْنِ أنَسٍ سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ عَلَيهِ السَّلَامُ المَدينَةَ اخْتَلَفْتُ إلَيْهِ، وَ أحْبَبْتُ أنْ آخُذَ عَنْهُ كَمَا أخَذْتُ عَنْ مَالِكٍ.
فَقَالَ لِي يَوْماً: إنِّي رَجُلٌ مَطْلُوبٌ وَ مَعَ ذَلِكَ لِي أوْرَادٌ في كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ آنَاءِ اللَيْلِ وَ النَّهَارِ، فَلَا تَشْغَلْنِي عَنْ وِرْدِي؛ وَ خُذْ عَنْ مَالِكٍ وَ اخْتَلِفْ إلَيْهِ كَمَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ. فَاغْتَمَمْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَ قُلْتُ في نَفْسِي: لَوْ تَفَرَّسَ في خَيْراً لَمَا زَجَرَنِي عَنِ الاخْتِلَافِ إلَيْهِ وَ الأخْذِ عَنْهُ.
فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْتُ عَلَيهِ ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ الغَدِ إلى الرَّوْضَةِ۱ وَ صلّيتُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَ قُلْتُ: أسْألُكَ يَا اللهُ يَا اللهُ! أنْ تَعْطِفَ عَلَيّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَ تَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِهِ مَا أهْتَدِي بِهِ إلى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ!
وَ رَجَعْتُ إلى دَارِي مُغْتَمَّاً وَ لَمْ أخْتَلِفْ إلى مَالِكِ بْنِ أنَسٍ لِمَا اشْرِبَ قَلْبِي مِنْ حُبِّ جَعْفَرٍ. فَمَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِي إلَّا إلى الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ حتّى عِيلَ صَبْرِي.
فَلَمَّا ضَاقَ صَدْرِي تَنَعَّلْتُ وَ تَرَدَّيْتُ وَ قَصَدْتُ جَعْفَراً وَ كَانَ بَعْدَ مَا صلّيتُ العَصْرَ. فَلَمَّا حَضَرْتُ بَابَ دَارِهِ اسْتَأذَنْتُ عَلَيهِ فَخَرَجَ خَادِمٌ لَهُ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟! فَقُلْتُ: السَّلَامُ على الشَّرِيفِ!
فَقَالَ: هُوَ قَائِمٌ في مُصَلَّاهُ. فَجَلَسْتُ بِحِذاءِ بَابِهِ، فَمَا لَبِثْتُ إلَّا يَسِيراً. إذْ خَرَجَ خَادِمٌ فَقَالَ: ادْخُلْ على بَرَكَةِ اللهِ. فَدَخَلْتُ وَ سَلَّمْتُ عَلَيهِ. فَرَدَّ السَّلَامَ وَ قَالَ: اجْلِسْ غَفَرَ اللهُ لَكَ!
فَجَلَسْتُ. فَأطْرَقَ مَلِيَّاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَ قَالَ: أبُو مَنْ؟!
قُلْتُ: أبُو عَبْدِ اللهِ!
قَالَ: ثَبَّتَ اللهُ كُنْيَتَكَ وَ وَفَّقَكَ؛ يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! مَا مَسْألَتُكَ؟!
فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَ التَّسْلِيمِ غَيْرُ هَذَا الدُّعَاءِ
لَكَانَ كَثِيراً. ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ ثُمَ قَالَ: مَا مَسْألَتُكَ؟!
فَقُلْتُ: سَألْتُ اللهَ أنْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيّ وَ يَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ؛ وَ أرْجُو أنَّ اللهَ تعالى أجَابَنِي في الشَّرِيفِ مَا سَألْتُهُ.
فَقَالَ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ في قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى أنْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أوَّلًا في نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَ اطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَ اسْتَفْهِمِ اللهَ يُفْهِمْكَ!
قُلْتُ: يَا شَرِيفُ! فَقَالَ: قُلْ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ!
قُلْتُ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! مَا حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ؟!
قَالَ: ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ: أنْ لَا يَرَى العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ مِلْكاً، لأنَّ العَبِيدَ لَا يَكُونُ لهم مِلْكٌ؛ يَرَوْنَ المَالَ مَالَ اللهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أمَرَهُمُ اللهُ بِهِ. وَ لَا يُدَبِّرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً. وَ جُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أمَرَهُ تعالى بِهِ وَ نَهَاهُ عَنْهُ.
فَإذَا لَمْ يَرَ العَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللهُ تعالى مِلْكاً، هَانَ عَلَيهِ الإنْفَاقُ فِيمَا أمَرَهُ اللهُ تعالى أنْ يُنْفِقَ فِيهِ. وَ إذَا فَوَّضَ العَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ على مُدَبِّرِهِ، هَانَ عَلَيهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا. وَ إذَا اشْتَغَلَ العَبْدُ بِمَا أمَرَهُ اللهُ تعالى وَ نَهَاهُ، لَا يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إلى المِرَاءِ وَ المُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ.
فَإذَا أكْرَمَ اللهُ العَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ هَانَ عَلَيهِ الدُّنْيَا، وَ إبْلِيسُ، وَ الخَلْقُ. وَ لَا يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَ تَفَاخُراً، وَ لَا يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزَّاً وَ عُلُوَّاً، وَ لَا يَدَعُ أيَّامَهُ بَاطِلًا.
فَهَذَا أوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَى؛ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ
وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.۱
قُلْتُ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! أوْصِنِي!
قَالَ: اوصِيكَ بِتِسْعَةِ أشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلى اللهِ تعالى؛ وَ اللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ.
ثَلَاثَةٌ مِنْهَا في رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا في الحِلْمِ، وَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا في العِلْمِ. فَاحْفَظْهَا؛ وَ إيَّاكَ وَ التَّهَاوُنَ بِهَا!
قَالَ عِنْوَانٌ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ.
فَقَالَ: أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ:
فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لَا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَ البَلَهَ. وَ لَا تَأكُلْ إلَّا عِنْدَ الجُوعِ. وَ إذَا أكَلْتَ فَكُلْ حَلَالًا وَ سَمِّ اللهَ، وَ اذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: مَا مَلأ آدَمِيّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ. فَإنْ كَانَ وَ لا بُدَّ فَثُلْثٌ لِطَعَامِهِ وَ ثُلْثٌ لِشَرَابِهِ وَ ثُلْثٌ لِنَفَسِهِ.٢
وَ أمَّا اللَوَاتِي في الحِلْمِ:
فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً. وَ مَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَأسْألُ اللهَ أنْ يَغْفِرَ لِي؛ وَ إنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أسْألُ أنْ يَغْفِرَ لَكَ.
وَ مَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَا فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَ الرَّعَاءِ.
وَ أمَّا اللَوَاتِي في العِلْمِ:
فَاسْألِ العُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ؛ وَ إيَّاكَ أنْ تَسْألَهُمْ تَعَنُّتاً٣ وَ تَجْرِبَةً. وَ إيَّاكَ
أنْ تَعْمَلَ بِرَأيِكَ شَيْئاً؛ وَ خُذْ بِالاحْتِيَاطِ في جَمِيعِ مَا تَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا. وَ اهْرَبْ مِنَ الفُتْيَا هَرْبَكَ مِنَ الأسَدِ؛ وَ لَا تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً!
قُمْ عَنِّي يَا أبَا عَبْدِ اللهِ! فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ، وَ لَا تُفْسِدْ عَلَيّ وِرْدِي؛ فَإنِّي امْرُءٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي. ﴿وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى﴾.۱
تعاليم المرحوم القاضي وصيّة من الإمام الصادق المقتبسة من القرآن
و بالتأمّل و التدقيق في المطالب الواردة في هذا الحديث المبارك في مراده، و العظيم في مفاده، تتَّضح لنا درجة السمو و الرفعة التي ارتقت إليها تعاليم آية الحقّ و العرفان، و سند التحقيق و الإيقان، و عماد البصيرة و البرهان: الحاجّ السيّد علي القاضي قدّس الله تربته الزكيّة. فلقد كان يعطي هذه التعاليم التي تنصبّ بشكل كامل في طريق الإعراض عن مشاعر العداء و الانتقام و كسر صولة النفس الأمّارة، و العثور على نافذة للإطلال على عالم المعنى و التجرّد و الملكوت، و من ثمّ لعرفان ذات الحقّ تعالى و اندكاك الوجود المعار المجازيّ في الوجود المطلق و الوجود المحض و الصرف السرمديّ الأزليّ الأبديّ الذي لا يُتناهى لذاته القدسيّة.
فرواية عنوان البصريّ ينبغي أن تُؤَلَّف الكتب في شرحها و تفصيلها، و بالرغم من أنّ ذلك قد حصل فعلًا، إلّا أنّ تلك الكتب لم تأت باسم شرح رواية عنوان البصريّ. أ وَ ليس كتاب «إحياء الإحياء» القيّم الجليل للفيض الكاشانيّ الذي دعاه بـ «المحجّة البيضاء» و كتاب «جامع السعادات» للحاجّ الملّا مهدي النراقيّ جدّنا الجليل، و كتاب «عدّة الداعي»
و غيرها من الكتب بالحمل الشائع الصناعيّ غير شرح و تفصيل هذه المطالب القيّمة؟!
و لقد استشهد الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية بهذه الآية المباركة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. يعني: أيّها السيّد هاشم! إن كنتَ تطلب عالم النور و التجرّد و المنزل الباقي و الخالد للقاء الله و الورود في حرم أمنه و أمانه، و إن كنت تفتِّش عن رضا المحبوب، و إن جعلتَ همّك الأكبر في عرفان الذات القدسيّة، و إن كنت قد عشقته فعلًا، فأنت تسعى لوصال المعشوق و نيل المُنى؛ فليس أمامك من سبيل إلّا التسامي و التعالي و التنزّه عن الفساد في الأرض.
و إن كنت جادّاً في السعي لنيل ذلك المقام المنيع، فعليك الإغماض عن أذى امّ زوجتك و تجاهله، و إلّا فلو رددتَ عليها و جازيتها على فعلها أو طلّقت زوجتك -مع أنّ ذلك حقّك الشرعيّ- فإنّك لن تصل إلى هذا المقام. فهذا هو الشرع الأعلى، و الجهاد الأكبر، و هذه هي الهجرة الكبرى؛ و ينبغي تطبيق هذه التعاليم بصورة صحيحة للوصول إلى ذلك الهدف.
تعاليم الإمام الصادق عليه السلام متّخذة من آيات القرآن المعجزة الخالدة
و لقد كانت تعاليم الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذه الرواية أيضاً مُتّخذة من آيات القرآن الكريم المعجزة في قوله:
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾.۱
أو قوله: ﴿وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً﴾.٢
حتّى يصل إلى قوله:
﴿وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾.۱
و لدينا في القرآن الكريم أن: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾٢؛ حيث إنّ الوصول إلى لقاء الأحديّة و مشاهدة الجمال و الجلال الأزليّ هو من أفضل أقسام البرّ و الخير، و لن يكون ميسوراً بالطبع، إلّا إذا صرف سالك طريق الله نظره عمّا يملك و أنفقه في سبيل الوصول لهذا الهدف الأعلى و المقصد الأسنى.
كما أنّ مخاصمة و شتم المخاصم المعتدي، و الردّ عليه بالمثل هي من الغرائز الطبيعيّة للإنسان، و من الطبيعيّ أن يرغب كلّ شخص في إحقاق حقّه و الاقتصاص من شاتمه، لكنّ هذه الرغبات ناشئة جميعاً من الأهواء و الرغبات النفسيّة؛ فما لم يتخطّ الإنسان رغبات نفسه و آثارها، فلن يصل إلى ما وراء النفس. فالتجرّد عن الهوى و الهوس تجرّد عن الميول و الرغبات النفسيّة، كما أنّ الإصرار و الإبقاء على المشتهيات النفسيّة و اللذائذ الطبيعيّة و الانغماس في الشهوات الحيوانيّة و الأوهام الشيطانيّة و ثورات الغضب السبعيّة كلّ ذلك يجعل وصول الإنسان إلى مقام التجرّد محالًا، لأنّه يمثل الجمع بين النقيضَين.
التجرّد هو التنزّه من النفس و آثارها النفسانيّة، بينما الإصرار على مشتهيات النفس يعني الإصرار على إبقاء النفس و آثارها النفسانيّة، و هما أمران يقعان على طرفي نقيض. و من ثمّ ينبغي رفع اليد عن الرغبات و الميول النفسيّة و تجاهلها، ليتجلّى جمال زينة عالم ما وراء النفس.
لقد كان سماحة الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد يعدّ الكثير من أعمال الخير من حظوظ النفس، لأنّ النفس تلتذّ به، و كان يقول: إنّ المجالس التي يشكّلها بعض السالكين فيقرءون فيها الشعر، هي غالباً من حظوظ النفس، و مع أنّهم يحصلون فيها على لذّة معنويّة لكنّها تبقى من حظوظ النفس، كذلك الذين يأتون بالكثير من الأذكار و الأوراد لأغراض النفس و حظوظها.
فالقرآن الذي يتلونه، إن جذبهم فيه جمال جلده و ورقه و خطّه، و لو تلوه و هو على رَحْل مشبّك بحيث أثَّر ذلك الرحل في حال قراءتهم لكان ذلك من حظّ النفس. كما أنّ السجّادة البيضاء بلا نقوش أمر مطلوب و مقبول، في حين أنّ السجّاد الجميل الملوّن الذي تنتظمه النقوش هو من حظّ النفس. كذلك فإنّ تربة سيّد الشهداء عليه السلام أمر مطلوب لو كانت على هيئة القالب المعيّن المعهود المستعمل للسجود عليه في الصلاة و لو كان سطحها خشناً غير مستوٍ، أمّا لو اشترط فيها صفاء سطحها و صقله لتحوّلت إلى حظوظ النفس.
و من ثمّ ينبغي الانتباه بدقّة كم أنّ الشيطان قد وسّع دائرة نفوذه، بحيث إنّه يرغب في إعمال تأثيره في محلّ سجود المؤمن الشيعيّ، و ذلك على التربة الطاهرة لتلك الأرض المقدّسة.
كما أنّ المِسبحات الجميلة التي تؤثّر في ذِكر الإنسان هي جميعاً من حظّ النفس، و هكذا الأمر بالنسبة للعمامة و العباءة و الرداء و غيرها من الأشياء التي تؤثّر في عبادة و صلاة و دعاء و زيارة و تلاوة و ذِكر المؤمن و ورده.
و كان السيّد الحدّاد يقول: إنّ الرغبة في الأحلام و الرؤيا المعنويّة و الروحيّة هي من حظوظ النفس، كما أنّ طلب المكاشفات و الاتّصال بعالم
الغيب و الاطّلاع على الضمائر و العبور على الماء و الهواء و النار و التصرّف في موادّ الكائنات و شفاء المرضى هي بأجمعها من حظوظ النفس.
السيّد هاشم الحدّاد: لما ذا يطلب الناس مكاشفة؟! العالَم بأرجائه مكاشفة
و كان يقول: أعجبُ لتلك الجماعة من السالكين الذين يريدون المكاشفة! فليفتحوا أعينهم، فهذا العالم كلّه مكاشفات.
إن المكاشفة ليست مشاهدة صورة في زاوية على هيئة خاصّة و حالة استثنائيّة، بل إنّ كلّ كشف عن إرادة الحقّ و اختياره و علمه و قدرته و حياته هو مكاشفة. فافتح عينيك و تأمّل أنّ كلّ ذرّة في هذا العالم الخارجيّ مكاشفة، و أنّها تحوي عجائب و غرائب لا سبيل للفكر إلى منتهاها.
و إذا ما أراد السالك في السير و السلوك -أو في غير هذا الطريق عموماً- شيئاً غير الله، فإنّه لم يرد الله سبحانه، و ستكون إرادته و رغبته النفسيّة هذه مانعة من وصوله إلى ذات الحقّ القدسيّة.
فإن طلبتَ الجنّة، أو الحوريّة و الغلمان، فلن تكون قد طلبت الله أو أردته! و إن طلبت المقامات و الدرجات فمن الممكن أن يمنّ بها الله عليك، لكنّك لم ترد الله؛ لذا فقد تسمّرت في ذلك المقام و الدرجة و استحال عليك الارتقاء منها إلى أعلى منها، و ذلك لأنّك لم ترد و لم تطلب.
و لو جاءك جبرئيل مثلًا فقال لك: تَمَنَّ ما شئت من الدرجات و المقامات و السيطرة على الجنّة و الجحيم و خلّة سماحة النبيّ إبراهيم عليه السلام و مقام الشفاعة الكبرى لمحمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم و الحبّ له، فقل: ما أنا إلّا عبد! و لا طلب للعبد في شيء؛ فما أراده لي ربّي فهو المطلوب. و إن أنا أردتُ، لتخطّيت بذلك القدر من إرادتي المتعلّقة بي، ساحةَ عبوديّتي و لوضعتُ قدمي في ساحة عزّ الربوبيّة، لأنّ الإرادة و الاختيار مختصّان به وحده سبحانه.
﴿وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.۱
كما لا تقل: اريد الله! فمن تكون أنت -ترى- لتريد الله؟! فأنت لا تقدر و لن تقدر أن تريده و تطلبه! فهو غير محدود و أنت محدود و طلبك بنفسك و الناشئ عن نفسك محدود، فلن تقدر به أبداً أن تريد الله اللامتناهي أو أن تطلبه. و ذلك لأنّ الإله الذي تطلبه محدود في إطار طلبك و محدود و مقيّد بإرادتك، و وارد في حدود مجال نفسك بسبب طلبك، و ذلك الإله ليس هو الله، بل إنّ ذلك الإله المتصوَّر و المتوهَّم بتصوّرك و توهّمك، ليس في الحقيقة إلّا نفسك التي تصوّرتها إلهاً.
بناءً على هذا، عليك أن تكفّ عن طلبك، فادفن امنيتك هذه معك في القبر: أن ترى الله أو أن تصل إلى لقائه أو أن تطلبه! فعليك أن تخرج بنفسك من الطلب، و أن تترك طلبك و رغبتك التي كانت لك حتّى الآن، و أن تَكِلَ نفسك إلى الله و تدعه يُرِد لك و يطلب لك!
و ستكون في هذه الحالة غير واصل إلى الله، كما لم تصله قبل و لن تصله بعد؛ بَيدَ أنّك لمّا خرجت و تنصّلت من طلبك و إرادتك فأوليتَه زمامك و سلّمته قيادك، فإنّه سيقودك في معارج و مدارج الكمال الذي حقيقته السير إلى الله مع فناء المراحل و المنازل و آثار النفس، و اندكاك و فناء جميع وجودك في النهاية في وجود ذاته المقدّسة. فالله سبحانه هو العارف بنفسه، و لست أنت العارف بالله! إنّ وصول الممكن إلى الواجب أمر محال. فوجود شيئَين هناك محال.
إنّ الممكن و الواجب و الوصول هي بأجمعها ضمّ و ضميمة تستلزم
تركيب ذاته القدسيّة، و تنتهي أخيراً إلى حدوثه الذي ينافي قِدَمه سبحانه.
أمّا الفَناء المطلق للعبد و اندكاكه في ذاته تعالى، و اضمحلاله في جلاله و جماله فلا إشكال فيه! و لكن ينبغي العلم أنّ العبد لا يمكنه الورود في تلك الذات البحتة المحضة غير المتناهية، لأنّه عنوان العبد، أو عنوان فَناء العبد حيث لا تقبله الذات، و ليس هناك أيّ شيء غير الذات، لا العبد و لا فَناؤه، بل هناك الذات؛ و الذات هي الذات. هناك الله، و الله هو الله.
كَانَ اللهُ وَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيءٌ وَ الآن كَمَا كَانَ.۱
وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالحَمْدِ مَعْرُوفاً | *** | وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالجُودِ مَوْصُوفاً |
المراد بعرفان الله، الفَناء في ذاته
و ينبغي أن يعلم الجميع أنّ المراد بلفظ الوصول و لقاء الذات الأحديّة و معرفتها ليس ذلك النحو من المعاني الذي يستلزم الثنائيّة و البينونة، بل المراد بالمعرفة و المشاهدة و اللقاء و أمثالها جميعاً هو الاندكاك و مقام الفناء المطلق. و ذلك لأنّ المعرفة بالله مختصّة بالله وحده، فمعرفته من قبل غيره أمر محال. فالأفراد الذين لم يصلوا إلى الفَناء المطلق لم يعرفوه
بعد، لأنّ المحدود لا يعرف غير المحدود. أمّا الأفراد الذين وصلوا إلى الفَناء المطلق فلم يعد لديهم وجود ليعرفوا الله، لأنّ الوجود هو وجود واحد لا غير، و هو وجود الحقّ جلّ و علا، فهو الذي يعرف نفسه، عرفها أوّلًا كما يعرفها الآنَ؛ و الآنَ كَمَا كَانَ.
إنّ نهاية سير كلّ موجود هو الفَناء في الموجود الأفضل و الأعلى منه، أي فناء كلّ ظهور في مُظهره، و كلّ معلول في علّته؛ و نهاية سير الإنسان الكامل الذي وصلت جميع قواه و إمكاناته إلى مرحلة الفعليّة هو الفناء في الذات الأحديّة و الفناء في ذات الله سبحانه، و الفناء في «هو»، و الفناء في ما لا اسم له و لا رسم له.
فهذه هي غاية سير كلّ موجود و غاية السير المتصوّرة للإنسان الكامل، و غاية سير الأنبياء و المرسلين و الأئمّة الطيّبين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و المراد و المقصود الصحيح من المعرفة و نتيجة السلوك و السير نحو مقامه المقدّس جلّ شأنه و السير العمليّ العرفانيّ و البحوث العلميّة للعرفاء بالله علت أسماؤهم؛ لا شيء آخر سواه.
فَتَأمَّلْ يَا أخِي في هَذَا المَقَامِ فَإنَّهُ مِنْ مَزَالِّ الأقْدَامِ. وَهَبَكَ اللهُ هَذَا بِمُحَمَّدٍ وَ آلِهِ أجْمَعِينَ.۱
آنان كه ره دوست گزيدند همه | *** | در كوى شهادت آرميدند همه |
در معركة دو كون فتح از عشق است | *** | هر چند سپاه او شهيدند همه |
تشرّف الحاجّ السيّد الحدّاد بزيارة المرقد الإمام الرضا عليه السلام
تشرّف الحاجّ السيّد هاشم الحدّاد بزيارة المرقد المطهّر
للإمام الثامن الضامن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام
و إقامته عشرة أيّام في ذلك البلد المبارك
استعدّ سماحة الحاجّ السيّد هاشم للسفر إلى خراسان، و كان يرغب بالسفر في الحافلات العاديّة، لكنّ زوجته -امّ مهدي- التي لم يسبق لها السفر بالطائرة، أصرّت على أن يكون سفرهم من طهران إلى مشهد للتشرّف بالزيارة بواسطة الطائرة، فوافقها السيّد على ذلك. لذا فقد سافرا بالطائرة و تبعهم بالسيّارات بقيّة الرفقاء للتشرّف بالزيارة، و كان عددهم يقرب من خمسة عشر شخصاً من طهران و غيرها.
و لا يخفى أنّ الحقير كان في نيّته اصطحاب ولديه الكبيرين - السيّد محمّد صادق، و له من العمر ثلاث عشرة سنة، و السيّد محمّد محسن و له من العمر إحدى عشرة سنة و نصف و لم يكن في نيّتي اصطحاب أخيهما الأصغر منهما -و اسمه السيّد أبو الحسن و له ثمان سنين- فقد كان الأوّلان يستطيعان إدارة امورهما بنفسهما تقريباً، أمّا بالنسبة لهذا الطفل الصغير فقد كان الأمر صعباً، لذا فلم أقطع له -كأخويهـ تذكرة للسفر حين أعددت تذاكر السفر بالسيّارة مع الرفقاء. و حين عرف سماحة السيّد الحدّاد بذلك قال: أيّها السيّد محمّد الحسين! لِمَ لَم تقطع تذكرة سفر للسيّد أبي الحسن؟!
قلت: إنّه طفل صغير، و سيبقى مع امّه. فردّ قائلًا: كلّا، إنّ السيّد
أبا الحسن كبير، فاقطع له تذكرة هو الآخر!
قلت: سأفعل ذلك. و هكذا فقد قطعت له تذكرة معنا. و قد وصلنا مشهد بالسيّارة مع الرفقاء، و صادف وصولنا بعد وصول السيّد الحدّاد. و كان الصديق العزيز الحاجّ عبد الجليل محيي (أبو أحمد) قد جاء كذلك إلى مشهد مع عائلته و أعدّ مكاناً مستقلًّا للسيّد و له. و مع أنّ ذلك المكان كان واسعاً نسبيّاً إلّا أنّه لم يكن ليتّسع لحلول جميع الرفقاء، لذا فقد ضمّ إليه مكاناً آخر، فكان السيّد يتردّد على هذين المكانَين في الأيّام العشرة من إقامته.
و كان من دأب السيّد حين يتشرّف بزيارة الحرم المطهّر، أن يغتسل أوّلًا، ثمّ يُقبّل باب الصحن كلّما ورده، ثمّ يُقبّل باب محلّ خلع الأحذية و إيداعها، ثمّ باب الرواق و باب الحرم. و كان عند وروده يقبّل العتبة المباركة بعد الاستئذان، ثمّ يطوف بالقبر الشريف سبعة أشواط قبل أن يزور، و يبدأ طوافه من جانب اليسار، ثمّ يزور الإمام و يصلّي عند رأس الإمام عليه السلام أو حيثما أمكن ذلك. و كان الحقير مع جميع الرفقاء الذين تشرّفوا للزيارة معه و في معيّته نزور على هذا النحو، فنقبّل إطار الأبواب، و نطوف سبعة أشواط، ثمّ نزور و نصلّي.
و باعتبار أنّ فعل أولياء الله حجّة، فقد دأب الحقير حتّى الآن على هذا النحو في الزيارة، من تقبيل الأبواب و الطواف، أي إلى الزمن الذي لم يكونوا قد وضعوا عند الضريح المطهّر حائلًا يفصل بين الرجال و النساء. فكان الحقير يفعل ذلك لمدّة أربع عشرة سنة تقريباً كلّما وُفِّق للزيارة في أشهر الصيف و بعض الأوقات الاخرى، كشهر رجب أو في الثالث و العشرين من ذي القعدة الحرام. و كنت أقوم بالطواف بهذه الأشواط السبعة بناءً على متابعة سماحة السيّد الحدّاد.
و أجد لزاماً هنا أن أقوم ببيان هذا المطلب لسائر الإخوة في الدين و الأخلّاء الروحانيّين سواء بالنسبة إلى الطواف أم في تقبيل العتبة المباركة، و بإيراد بحث فقهيّ بهذا الشأن للبرهنة على جواز الطواف و جواز تقبيل العتبة في كلّ من المراقد الشريفة للأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين.
بحث الدليل الفقهي على جواز الطواف حول أضرحة الائمّة الاطهار
بحث فقهيّ في جواز الطواف
حول أضرحة الأئمّة الأطهار عليهم السلام
أقول: عقد الشيخ الحرّ العامليّ عامله الله بلطفه في كتاب مزار «وسائل الشيعة» (ج ٢، ص ٤۱۱، طبعة أمير بهادر) باباً في عدم جواز الطواف بالقبور، ذكر فيه روايتَين لعدم الجواز.
الاولى: محمّد بن عليّ بن الحسين في «العِلَل» عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ. فَإنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ (الحديث). و تتمّة الحديث هي: وَ مَنْ فَعَلَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ يُفَارِقُهُ إلَّا مَا شَاءَ اللهُ.
الثانية: محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن صفوان، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ (الحديث).
أخبار «لا تَطُفْ بِقَبْرٍ» قويّة سنداً، لكنّها خارجة عن المقام دلالةً
و أقول: هاتان الروايتان بالرغم من قوّتهما من جهة السند، لأنّ كليهما رواية صحيحة؛ لكنّهما -من جهة الدلالة- غير راجعتَين إلى
الطواف بمعنى الدوران حول شيء، بل إنّهما غريبتان عن المقام تماماً. فالمراد بالطوف بالقبر في هذين الحديثَين هو التغوّط، لا الطواف و الدوران حول القبر. يشهد على هذا الكلام عبارة الطُّرَيْحيّ في «مجمع البحرين» حيث يقول في مادّة طَوَفَ: و الطَّوْفُ: الغائطُ، و منه الخبر: لَا يُصَلِّ أحَدُكُمْ وَ هُوَ يُدَافِعُ الطَّوْفَ. و منه الحديث: لَا تَبُلْ في مُسْتَنْقَعٍ وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ!
و مضافاً إلى ذلك، فإنّ فقرات الحديث التي تتحدّث عن الشرب حال القيام و التبوّل في الماء الراكد النقيع تناسب التغوّط على القبور و لا تناسب الطواف و الدوران حولها، و خاصّة مع ورود التعليل في الرواية الأولى في أنّ من ارتكب هذه الامور: فَإنْ أصَابَهُ شَيءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ؛ و الذي يناسب التغوّط الذي يفعله الإنسان، فلربّما لدغته عقرب أو حيّة، خاصّة في الأزمنة التي كان التغوّط فيها على القبور في المقابر أمراً شائعاً، فقد كانت الحيّات و العقارب و سائر الحشرات و الهوامّ الأرضيّة تكثر في المقابر. كما أنّ التغوّط على قبور المؤمنين يسبّب هتك حُرْمَة و يمنع من نزول الملائكة.
و مضافاً إلى قولنا، فإنّ الشاهد و الدليل على جواز الطواف رواية أخرى يذكرها في «الوسائل»:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى [وَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ - خ ل] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الطَّيِّبِ، عَنْ عَبْد الوَهَّابِ ابْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبي العَلَاءِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أكْثَمَ في حَدِيثٍ.
قَالَ: بَيْنَا أنَا ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلْتُ أطُوفُ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ، فَرَأيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيّ الرِّضَا يَطُوفُ بِهِ، فَنَاظَرْتُهُ في مَسَائِلٍ عِنْدِي (الحديث).
و يذكر صاحب «الوسائل» هنا محامل لهذه الرواية ليمكنه الجمع بين
مفادها في جواز الطواف و بين تينك الروايتَين، فيقول:
أقُولُ: هَذَا غَيْرُ صَرِيحٍ في أكْثَرَ مِنْ دَوْرَةٍ وَاحِدَةٍ لأجْلِ إتْمَامِ الزِّيَارَةِ وَ الدُّعَاءِ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ، كَمَا وَرَدَ في بَعْضِ الزِّيَارَاتِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ. على أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ، وَ لَا يَدُلُّ على غَيْرِهِ مِنَ الأئَمَّةِ وَ لَا غَيْرِهِمْ؛ وَ القياسُ بَاطِلٌ. وَ رَاوِيهِ عَامِّيّ ضَعِيفٌ وَ قَدْ تَفَرَّدَ بِروَايَتِهِ. وَ يُحْتَمَلُ كَوْنُ الطَّوَافِ فِيهِ بِمَعْنَى الإلْمَام وَ النُّزُولِ كَمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ اللُّغَة، وَ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ معنى الزِّيَارَةِ. وَ يُحْتَمَلُ الحَمْلُ على التَّقِيَّةِ بِقَرِينَةِ رَاوِيهِ، لأنَّ العَامَّةَ يُجَوِّزُونَهُ، وَ الصُّوفِيَّةُ مِنَ العَامَّةِ يَطُوفُونَ بِقُبُورِ مَشَايِخِهِمْ؛ وَ اللهُ أعْلَمُ - انتهى.
لكن الأمر هو ما ذكرناه هنا، و الذي أخذنا فيه معنى الطواف بمعنى التغوّط. لذا فإنّ هاتَين الروايتَين تخرجان عن عهدة الاستدلال بهما، كما أنّ هذه المحامل و التأويلات التي ذكرها الشيخ الحرّ في هذه الرواية الأخيرة ليست صحيحة على الإطلاق، فالمتعيّن في معنى الطواف في هذه الرواية الأخيرة هو الطواف. و نورد هنا لدعم كلامنا شواهد من كتب لغويّة أخرى:
۱- يقول في شرح «قاموس اللغة» (بالفارسيّة) في مادّة طَوَفَ: و الطَّوْف بمعنى الغائط. طَافَ أي جلس للتغوّط، مثل اطّافَ من باب الافتعال.
٢- يقول في «صحاح اللغة»: وَ الطَّوْفُ: الغَائِطُ، تَقَولُ مِنْهُ: طَافَ يَطُوفُ طَوْفاً و اطَّافَ اطِّيَافاً: إذَا ذَهَبَ إلى البَرَازِ لِيتَغَوَّطَ.
٣- و يقول في «تاج العروس»: وَ الطَّوْفُ: الغَائِطُ وَ هُوَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّضَاعِ، وَ أمَّا مَا كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ عِقْيٌ؛ قَالَهُ الأحْمَرُ. وَ في الحَدِيثِ: لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ على طَوْفِهِمَا! وَ في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
لَا يُصَلِّيَنَّ أحَدُكُمْ وَ هُوَ يُدَافِعُ الطَّوْفَ وَ البَوْلَ. وَ في كَلَامِ الرَّاغِبِ مَا يَدُلُّ على أنَّهُ مِنَ الكِنَايَةِ. وَ طَافَ يَطُوفُ طَوْفاً: إذَا ذَهَبَ إلى البَرَازِ لِيَتَغَوَّطَ. وَ زَادَ ابْنُ الأعْرَإبِيّ: كَاطَّافَ اطِّيَافاً إذَا ألْقَى مَا في جَوْفِهِ، وَ أنْشَدَ:
عَشَّيْتُ جَابان حتّى اسْتَدَّ مَغْرِضُهُ | *** | وَ كَادَ يَنقَدُّ إلَّا أنَّه اطَّافَا |
٤- و ذكر في «لسان العرب» ما يشبه ما نقلنا عن «تاج العروس».
وَ العِقْيُ كَمَا ذَكَرَهُ اللُّغَوِيُّونَ: شَيءٌ لَزِجٌ أسْوَدُ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ المَوْلُودِ قَبْلَ أنْ يَأكُلَ وَ يَشْرَبَ.
بحث للعلّامة المجلسيّ في جواز الطواف حول أضرحة الائمّة الاطهار
و قد أورد جدّنا العلّامة المجلسيّ رضوان الله تعالى عليه في هذا الشأن بحثاً بليغاً أدّى فيه حقّ البحث، لذا نذكر نصّ بحثه هنا، فبعد أن نقل الرواية الأولى عن «علل الشرايع» قال في بيانه لها:
يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الطَّوَافِ بالعَدَدِ المَخْصُوصِ الذي يُطَافُ بِالبَيْت، وَ سَيَأتِي في بَعْضِ الزّيَارَاتِ [الجَامِعَةِ: بِأبِي وَ امِّي يَا آلَ المُصْطَفَى إلَّا أنَّا لَا نَمْلِكُ]۱ إلَّا أنْ نَطُوفُ حَوْلَ مَشَاهِدِكُمْ. وَ في الرِّوَايَاتِ: قَبِّلْ جَوَانِبَ القَبْرِ.
ثمّ يروي الرواية الواردة بشأن الطواف في كتاب «الكافي» عن جواد الأئمّة الإمام محمّد التقيّ عليه السلام بنفس الإسناد عن يحيي بن أكثم، فيقول في ذيلها:
وَ الأحْوَطُ أنْ لَا يَطُوفَ إلَّا للإتْيَانِ بِالأدْعِيَة وَ الأعْمَالِ المَأثُورَةِ، وَ إنْ أمْكَنَ تَخْصِيصُ النَّهْيِ بِقَبْرِ غَيْرِ المَعْصُومِ، إنْ كَانَ مُعَارِضٌ صَرِيحٌ. وَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرَادُ بِالطَّوَافِ المَنْفِيّ هُنَا التَّغَوُّطَ.
ثمّ يقول بعده: قَالَ في «النِّهَايَة»: الطَّوْفُ: الحَدَثُ مِنَ الطَّعَامِ، وَ مِنْهُ الحَدِيثُ: نُهِيَ عَنْ مُتَحَدِّثَيْنِ على طَوْفِهِمَا، أيْ عِنْدَ الغَائِطِ. وَ يُؤَيِّدُ هَذَا الوَجْهَ أنَّهُ رَوَى الكُلَيْنِيّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أبي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ قَالَ:
مَنْ تَخَلَّى عِنْدَ قَبْرٍ، أوْ بَالَ قَائِماً، أوْ بَالَ في مَاءٍ قَائِمٍ، أوْ مَشَى في حِذَاءٍ وَاحِدٍ، أوْ شَرِبَ قَائِماً، أوْ خَلا في بَيْتٍ وَحْدَهُ، أوْ بَاتَ على غَمَرٍ۱، فَأصَابَهُ شَيءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَدَعْهُ إلَّا أنْ يَشَاءَ اللهُ. وَ أسْرَعُ مَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ إلى الإنْسَانِ وَ هُوَ على بَعْضِ هَذِهِ الحَالاتِ.
مَعَ أنَّهُ رُوِيَ أيْضاً بِسَنَدٍ آخَرَ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ رَاوِي هَذَا الحَدِيثِ، عَنْ أحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلَامُ أنَّهُ قَالَ:
لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَخْلُ٢ في بَيْتٍ وَحْدَكَ، وَ لَا تَمْشِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ! فَإنَّ الشَّيْطَانَ أسْرَعُ مَا يَكُونُ إلى العَبْدِ إذَا كَانَ على بَعْضِ هَذِهِ الحَالاتِ. وَ قَالَ: إنَّهُ مَا أصَابَ أحَداً شَيءٌ على هَذِهِ الحَالِ فَكَادَ أنْ يُفَارِقَهُ إلَّا أنْ يَشَاءَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ.
ثمّ قال: فَإنَّ كَوْنَ كُلّ مَا في هَذَا الخَبَرِ مَوْجُوداً في الخَبَرِ السَّابِقِ سِوَى قَوْلِهِ «لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ»، مَعَ أنَّ فِيهِ مَكَانَهُ «مَنْ تَخَلَّى على قَبْرٍ»، لَا سِيَّمَا مَعَ اتِّحَادِ الرَّاوِي وَ اشْتِرَاكِ المَفْسَدَةِ المُتَرَتِّبَةِ فِيهِمَا، مَا يُورِثُ ظَنَّاً قَوِيَّاً بِكَوْنِ الطَّوْفِ هُنَا بِمَعْنَى التَّخَلِّي. وَ كَذَا اشْتِرَاكُ المَفْسَدَةِ وَ سَائِرِ الخِصَالِ بَيْنَ خَبَرِ الحَلَبِيّ وَ الخَبَرِ الأوَّلِ، يَدُلُّ على أنَّ الطَّوْفَ فِيهِ أيْضاً بِهَذَا المعنى.
وَ لَا أظُنُّكَ تَرْتَابُ بَعْدَ التَّأمُّلِ الصَّادِقِ في الأخْبَارِ الثَّلَاثَةِ في أنَّ الأظْهَرَ مَا ذَكَرْنَا.
و حين يتأمّل أهل التحقيق في هذا الاستدلال فإنّهم سيرون أنّ المجلسيّ رحمة الله عليه قد أدّى في هذا البحث البليغ الذي أوردناه هنا، حقّ المطلب كما ينبغي. جَزَاهُ اللهُ خَيْراً.
و قد أوردنا كلامه من «البحار» ج ٢٢، من طبعة الكمبانيّ، الباب ٣، من مجلّد المزار، ص ٩؛ و ج ۱۰۰، من الطبعة الحيدريّة الباب الثالث من مجلّد المزار، الحديث ٣ إلى ٦، ص ۱٢٦ إلى ۱٢۸؛ كما أشار المحدِّث القمّيّ إلى هذه المطالب في «سفينة البحار» الطبعة الحجريّة، المجلّد الثاني، في مادّة طوَف، ص ٩٩.
بحث المحدِّث النوريّ في «مستدرك الوسائل» باب «جواز الطواف بالقبور»
و كذلك فقد قام المرحوم المحدِّث النوريّ الحاجّ الميرزا حسين أعلى الله مقامه بإيفاء المطلب حقّه في «مستدرك الوسائل» كتاب المزار، المجلّد الثاني ص ٢٢٦ و ٢٢۷، فقد عقد أوّلًا باباً دعاه: جواز الطواف حول القبور، خلافاً لصاحب «الوسائل» الذي كان قد عقد باباً في عدم جواز الطواف بالقبور. و قد اعتبر رأساً الطوف بمعنى الغائط و الحدث كما ذكرنا. و نورد هنا عين عباراته لئلّا نحرم من فوائدها:
۷٢: بَابُ جَوَازِ الطَّوَافِ بِالقُبُورِ:
۱- عَلِيّ بْنُ إبْرَاهِيمَ في تَفْسِيرِهِ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ أبي عُمَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، وَ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلَامُ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ في قِصَّةِ فَدَكٍ قَالَ في آخِرِهِ: وَ دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيهَا السَّلَامُ المَسْجِدَ وَ طَافَتْ بِقَبْرِ أبِيهَا وَ هي تَبْكِي وَ تَقُولُ: إنَّا فَقَدْنَاكَ فَقْدَ الأرْضِ وَابِلَهَا (الخبر).
وَ رَوَاهُ أحْمَدُ بْنُ عَليّ بْنَ أبي طَالِبٍ الطَّبَرْسِيّ في «الاحْتِجَاجِ» عَنْ
حَمَّادِ بْنَ عُثْمَانَ، عَنْهُ عَلَيهِ السَّلَامُ مِثْلُهُ.
٢- الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ المَشْهَديّ في «المَزَارِ» وَ السَّيِّدُ عَلِيّ بْنُ طَاوُوسٍ فِي «المِصْبَاحِ» قَالا: زِيَارَةٌ مَرْوِيَةٌ عَنِ الأئمَّةِ عَلِيهِمُ السَّلَامُ: إذَا أرَدْتَ ذَلِكَ... إلى أنْ قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: ثُمَّ قَبِّلْهُ وَ قُلْ: بِأبِي وَ امِّي يَا آلَ المُصْطَفَى إنَّا لَا نَمْلِكُ إلَّا أنْ نَطُوفَ حَوْلَ مَشَاهِدِكُمْ وَ نُعَزِّي فِيهَا أرْوَاحَكُمْ (الزيارة).
قُلْتُ: جَعَلَ الشَّيْخُ۱ عُنْوَانَ البَابِ عَدَمَ جَوَازِ الطَّوَافِ وَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ إلَّا الصَّادِقيّ وَ غَيْرَهُ: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ - إلى آخر الحديث.
وَ المُرَادُ بِالطَّوافِ الحَدَثُ في هَذِهِ الأخْبَارِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَ لَا تَبُلْ. وَ يُؤَيِّدُهُ أنَّ الكُلَيْنِيّ رَوَى في الصَّحِيحِ عَنْ أبي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلَامُ قَالَ: مَنْ تَخَلَّى على قَبْرٍ، أوْ بَالَ قَائِماً في مَاءٍ قَائِمٍ، أوْ مَشَى في حِذَاءٍ وَاحِدٍ، أوْ شَرِبَ قَائِماً، أوْ خَلَا في بَيْتٍ وَحْدَهُ، أوْ بَاتَ على غَمَرٍ، فَأصَابَهُ شَيءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَدَعْهُ إلَّا أنْ يَشَاءَ اللهُ. وَ أسْرَعُ مَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ إلى الإنْسَانِ وَ هُوَ على بَعْضِ هَذِهِ الحَالاتِ.
وَ رَوَى أيْضاً بِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أحَدِهِمَا عَلَيهِمَا السَّلَامُ أنَّهُ قَالَ: لَا تَشْرَبْ وَ أنْتَ قَائِمٌ، وَ لَا تَبُلْ في مَاءٍ نَقِيعٍ، وَ لَا تَطُفْ بِقَبْرٍ، وَ لَا تَخْلُ في بَيْتٍ وَحْدَكَ، وَ ذَكَرَ بَاقِي الخَبَرَ باخْتِلَافٍ في الألفَاظِ.
وَ المُتَأمِّلُ يَعْلَمُ اتِّحَادَ الخَبَرَيْنِ وَ أنَّ أحَدَهُمَا نَقْلٌ لآخَرَ.
وَ قَالَ الجَزَرِيّ: الطَّوْفُ: الحَدَثُ مِنَ الطَّعَامِ، وَ مِنْهُ الحَدِيثُ: نهى
عَنِ المُتَحَدِّثَيْنِ على طَوْفِهِمَا: أيْ عِنْدَ الغَائِطِ.
فَظَهَرَ أنَّهُ لَا مُعَارِض لِمَا دَلَّ على جَوَازِ الطَّوَافِ بِالقُبُورِ بِمَعْنَاهُ الشَّائِع. وَ لِذَا ذَكَرْنَا العُنْوَانِ: جَوَازَ الطَّوَافِ. وَ لَوْ سُلِّمَ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا بِالعُمُومِ وَ الخُصُوصِ.
فَلَا بَأسَ بَالطَّوَافِ حَوْلَ قُبُورِهِمْ عَلَيهمُ السَّلَامُ» - انتهى.
أذكر جيّداً أنّني كنت قد تشرّفت بالذهاب إلى أرض قم المقدّسة لتحصيل العلوم الدينيّة في شهر شوّال لسنة ألف و ثلاثمائة و أربع و ستّين هجريّة قمريّة، فحللتُ أوّلًا في منزل آية الله السيّد حسن سيّدي القمّيّ و هو ابن عمّة أبي؛ فجاء يوماً آية الله العظمى السيّد محمّد حجّت كوهكمري لرؤية أبناء عمّته (آية الله السيّد حسن و إخوته الحاجّ السيّد علي محمّد و السيّد محمّد و آية الله الحاجّ السيّد عبد الحسين) و كان الحقير قد جلس في زاوية الغرفة معهم. فدار الحديث عن مواضيع متعدّدة كان من بينها قول لا تَطُفْ بِقَبْرٍ، فقال المرحوم حجّت رضوان الله عليه: ليس المراد به الطواف بل التغوُّط، و أورد شاهداً من كتاب «مجمع البحرين» اللغويّ. رحمة الله عليه رحمةً واسعة.
بحث فقهيّ في جواز تقبيل إطار أبواب الدخول قبور الائمّة عليهم السلام
بحث فقهيّ في جواز تقبيل إطار أبواب الدخول
لقبور الأئمّة عليهم السلام
كان ما ذكرناه، حول جواز الطواف حول قبورهم المطهّرة، و نورد الآن بحثنا لجواز التقبيل، أي تقبيل إطار أبواب أضرحة الأئمّة عليهم السلام، أي أبواب الصحن الشريف و محلّ إيداع الأحذية و أبواب الرواق و الحرم المطهّر.
إنّ تقبيل أبواب قبور الأئمّة عليهم السلام أمر لا شبهة و لا إشكال
فيه، كما أنّه قد ورد في بعض الروايات الواردة في كتاب المزار. و إذا ما قصرنا اللفظ و جمّدناه على معنى العَتَبَة، فإنّ تقبيل الأرض التي أمام الباب و تقبيل الجزء الأسفل من الباب سيكون كذلك جائزاً. فقد ورد في هذه الروايات أن: قَبِّل العَتَبَة ثمّ ادخُل!.
و قال في «شرح قاموس اللغة» (بالفارسيّة): العَتَبَة بالتحريك هي اسكُفَّة الباب أو العارضة العليا التي تعلو قِسْمَي الباب.
و قال في «صحاح اللغة» وَ العَتَبُ: الدَّرَجُ وَ كُلُّ مِرْقَاةٍ مِنْهَا عَتَبَةٌ. وَ الجَمْعُ عَتَبٌ و عَتَبَاتٌ. وَ العَتَبَةُ: اسْكُفَّةُ البَابَ، وَ الجَمْعُ: عَتَبٌ.
و قال في «تاج العروس»: (العَتَبَةُ، مُحَرَّكَةً) كَذَا في نُسْخَتِنَا وَ سَقَطَ مِنْ نُسْخَةِ شَيْخِنَا (اسْكُفَّة البَابَ) التي تُوطَا (أوِ) العَتَبَةُ (العُلْيَا مِنْهُمَا) وَ الخَشَبَةُ التي فَوْقَ الأعْلَى: الحَاجِبُ، وَ الاسْكُفَّةُ السُّفْلَى وَ العَارِضَتَانِ: العُضَادَتَانِ. وَ قَدْ تَقَدَّمَتِ الإشَارَةُ إلَيْهِ في «ح ج ب»، وَ الجَمْعُ: عَتَبٌ وَ عَتَبَاتٌ.
و في اللغة أنّ الاسْكُفَّةَ و الاسْكُوفَةَ هي خَشَبَةُ البَابِ التي تُوطَا عَلَيهَا.
لكنّ سماحة استاذنا المكرّم المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى الحائريّ أعلى الله درجته نقل عن المرحوم آية الله الحاجّ حسين الطباطبائيّ البروجرديّ قدّس الله نفسه أنّه قال: إنّ الانحناء و تقبيل مقدّم الباب له حكم السجدة؛ فالمراد بالسجدة ليس فقط وضع الجبهة على الأرض، بل الانكباب على الأرض و التواضع إلى حدّ جعل الجبهة قُرب الأرض، و عليه فالأفضل تقبيل إطار الباب من غير قسمه الأسفل.
و قد نقل للحقير هذا المطلب عن آية الله البروجرديّ، آية الله الحائريّ، و ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر شوّال المكرّم لسنة ألف و أربعمائة هجريّة قمريّة في مشهد المقدّسة.
تفسير سورة التوحيد في عشرة أيّام في مشهد المقدّسة
نعم، لقد كان دأب سماحة السيّد الحدّاد في مشهد المقدّسة أن يتناول ليلًا -بعد صلاتَي المغرب و العشاء- طعاماً يسيراً ثمّ يأوي للنوم مبكّراً، و يدأب على زيارة المرقد المطهّر بعد أذان الصبح بين الطلوعَين، و في وقت صلاة الظهر التي كان يؤدّيها في الحضرة. أمّا في باقي الأوقات فكان غالباً ما يبقى في المنزل، فإذا شاء أحد لقاءه فإنّ ذلك كان يحصل نهاراً و في البيت. و كان الرفقاء يجتمعون في المنزل حين يكون السيّد هناك. و قد وجّه أمره للحقير -من أجل بعث الحيويّة و النشاط و ذكر الله في المجالس- لأقوم بتفسير سورة التوحيد للرفقاء بحضوره.
فشرع الحقير بتفسير هذه السورة المباركة، فانقضى اليوم الأوّل في تفسير معنى ﴿بِسْمِ﴾، أي معنى الاسم و معنى باء الاسم، و استغرق ذلك ساعة كاملة. و مرّ اليوم الثاني في تفسير معنى ﴿اللَّهِ﴾ و استغرق ساعة كاملة أيضاً. ثمّ قمتُ في اليوم الثالث بتفسير معنى ﴿الرَّحْمنِ﴾، و في اليوم الرابع بتفسير معنى ﴿الرَّحِيمِ﴾، و في اليوم الخامس في معنى ﴿قُلْ﴾، و في اليوم السادس في معنى ﴿هُوَ﴾، و في اليوم السابع في معنى ﴿أَحَدٌ﴾، و في اليوم الثامن في معنى ﴿الصَّمَدُ﴾، و في اليوم التاسع في معنى ﴿لَمْ يَلِدْ﴾، و في اليوم العاشر في معنى ﴿لَمْ يُولَدْ﴾. و بقيت الفقرة الحادية عشرة من السورة إلى حين ذهابنا في معيّته إلى إصفهان بعد العودة من أرض مشهد المقدّسة، فكنّا مجتمعين يوماً بحضور الرفقاء، فجاء ذلك اليوم سماحة حجّة الإسلام الحاجّ السيّد شهاب الدين الصفويّ وفّقه الله لرؤية السيّد، فقال (السيّد الحدّاد): أتمم باقي السورة! فشرع الحقير في الكلام ساعة كاملة في معنى ﴿وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ و تفسيرها. و بحمد الله و منّه فقد ختمت هذه المجالس لهذه الدورة التفسيريّة بعدد (۱۱) المساوي للكلمة المباركة «هُوَ».
و كان من عجائب و غرائب هذا التفسير:
أوّلًا: إنّ الحقير لم يُطالع أساساً و لو سطراً واحداً، و لم اصطحب معي أصلًا كتاباً أو تفسيراً ما، فما ورد من التفسير إنّما كان عبارة عن إنشاءات يجري بيانها، و مطالب لم تُسمَع و لم تُقرَأ و لم تُقل، و كنت بدوري أعجب من رقّة معانيها و علوّ مفاهيمها و دقّة مغزاها. و كان من الجليّ البيِّن أنّها كانت إلقاءات من سماحة السيّد، بينما كان الحقير في حكم مكبِّر الصوت الذي يحكي هذه المعاني، ذلك لأنّني لم أقم حتّى الآن ببيان تفسير بهذا الوضع و الكيفيّة، فأنا الآن أتأسّف لأنّ تلك المطالب لو كانت قد سُجِّلت لمثّلت بنفسها تفسيراً كاملًا لهذه السورة المباركة يصبح في متناول أيدي أهل العرفان و التوحيد لمطالعته و النظر فيه، بالرغم من أنّ هذه المطالب -حسب قول المرحوم القاضي- هي المطالب التي تأتي من هناك ثمّ تعود من حيث جاءت.
و