حريم القدس

مقالة في السير و السلوك

حريم القدس 4126
مشاهدة المتن

المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسم الاخلاق والحکمة والعرفان


التوضيح

وهي مقالة جاد بها يراع سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته، في تقديمه للترجمة الفرنسيّة للكتاب الشـريف «لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب» تأليف سماحة العلّامة الطهراني قدّس الله سـرّه.
/۱۲۵
حريم القدس - التمهيد حريم القدس - القسم الأول حريم القدس - القسم الثاني حريم القدس - القسم الثالث حريم القدس - القسم الرابع بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

1

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

2
  • [المدخل‌]

  • عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام، قال:

  • «إنّ اللَهَ تَبارَك و تَعالَى أكمَلَ لِلنّاسِ الحُجَجَ بِالعُقول»

  • الكافي، ج ۱، ص ۱٣

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

8
  • الفهرس

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

10
  • فهرس المواضيع

  • حريم القدس

  • مقالة في السير و السلوك الي الله

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

16
  • ‌‌ 

  • ‌ 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  •  

  • ‌تمثّل هذه الرسالة القيمة التى نضعها بين يدى القارئ العربى مقدّمةً للترجمة الفرنسية للكتاب الشريف‌ «لبّ اللباب في سير وسلوك أولى الألباب» من تأليف سماحة العلّامة الطهرانى قدّس الله سرّه، وقد جاد بها يراع سماحة آية الله الحاج السيد محمّد محسن الحسينى الطهرانى دامت بركاته.

  • ولمّا كانت هذه المقالة تتضمّن مطالب راقية ومواضيع مهمّة للقارئ العربى، لذا بادرت لجنة ترجمة وتحقيق‌ «دورة علوم ومبانى الإسلام والتشيع» بتعريبها وتقديمها للقارئ العربى لتعمّ الفائدة منها.

  • وهنا نودّ أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى بعض الملاحظات والتنبيهات حول عمل اللجنة في هذه الرسالة:

  • أوّلًا: إنّ أصل هذه الرسالة مع جميع هوامشها باللغة الفارسية، وقد قامت اللجنة بتعريبها.

  • ثانيا: إنّ جميع العناوين الموجودة داخل الكتاب، والموجودة كذلك في فهرس المواضيع هى من وضع اللجنة، وليست من قبل المؤلّف المحترم.

  • ثالثًا: قامت اللجنة بمراجعة وتحقيق التخريجات التيكانت موجودة في النسخة الفارسية المطبوعة من الرسالة، كما وأضافت بعض التخريجات الضرورية في الهامش، وأشرنا إلى ذلك بالرمز (م).

  • رابعًا: عمدت اللجنة إلى إضافة بعض التوضيحات في الهامش في بعض المواطن التى تساعد القارئ الكريم على فهم المراد من النصّ، وهذه التوضيحات من قبل اللجنة وليست من قبل المؤلّف المحترم، وقد أشرنا إليها بالرمز (م).

  • وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

  • لجنة ترجمة وتحقيق‌

  • «دورة علوم ومبانى الإسلام والتشيع»

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

18
  • التمهيد

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

19
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللَه الرَحْمَنِ الرَحِيمِ‌

  • الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِينَ‌

  • وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلى المَبْعُوثِ إِلَى الخَلائِقِأَجْمَعِينَ‌

  • وَآلِهِ الأوْصِياءِ المُنْتَجَبِينَ‌

  • وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَى أَعْدَائِهم مِنَالأَوّلِينَ وَالآخِرينَ إِلى يوْمِ الدِّينِ‌

  •  

  •  

  • خطبة الكتاب‌

  • الحمدُ الأبدى والثناءُ الأزلى لذات واجب الوجود الذى أخرجَ بسيط الماهيات الإمكانية بِيمن صرافة الوجود إلى زينة التعين والتشخّص، ومنحَ مقام الإنسان الرفيع تاجَ‌ {لَقَدْ كَرَّمْنا} مِن بين جميع الكائنات، وجعله مُفتخرًا بكونه مَظهرًا لتجلّى الذات واستعداده لتلقّى التجلّى الأعظم.

  • والسلام اللامتناهى على النفوس المطهّرة لأرواح الأنبياء والرُسل الإلهيين، الذين يهدون التائهين في وادى الحيرة والضائعين في تيه الضلال، فيوصلونهم إلى المنزل المقصود ودائرة المقام المحمود، مستمدّين من المدد والنور السبحانى، خصوصًا سيد الكائنات ومحور حدوث وبقاء الموجودات، أبى الأكوان بفاعليته وأمّ الإمكان بقابليته۱ البشير النذير

    1. أبو العوالم من جهة وحيثيّة فاعليته، وأمّ جميع المخلوقات بلحاظ حيثيّة قبوله واستعداده (وذلك لتحقق حيثيّتين مختلفتين؛ الأولى: نزول حقيقة الوجود بالإضافة الإشراقيّة، والثانية: تشكّلها في القوالب والأوعية المختلفة وتعيّنها بالتعيّنات المختلفة. فهما جهتان وحيثيّتان وانتسابان في كيفية البدء والختم، ويعبّرون عن الحيثيّة الأولى: بالحيثيّة الفاعليّة، وعن الثانية: بالحيثيّة القابلة، وتنبع كلتا هاتين الحيثيّتين من وجوده المبارك، وتحققُهما حاصلٌ في نفسه الشريفة).

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

20
  • والسراج المنير، خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله وأهل بيته، الشموس الطالعة والنجوم الزاهرة في نشأتى التكوين والتشريع، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

  • وإنِى وإنْكنتُ ابنُ آدمَ صورةً***فَلى فِيهِ مَعنىً شاهِدٌ بِأبوّتى‌۱
  • سبب تأليف هذه المقالة

  • يقول كاتب هذه السطور، العبد الحقير السيد محمّد محسن الحسينى الطهرانى عفا الله عن جرائمه:

  • بيانٌ إجمالى لما تمتاز به «رسالة لبّ اللباب»

  • لمّاكانت الرسالة الشريفة والقيمة «لبّ اللباب في سير وسلوك أولى الألباب» إحدى مؤلفات العارف الكامل والسالك الواصل، إنسان العين وعين الإنسان، العالم بالله وبأمر الله، سيد الفقهاء الربانيين، وسند الأولياء الإلهيين، مولانا ومقتدانا آية الله العظمى السيد محمّد الحسين الحسينى الطهرانى‌ أفاض الله عليه شآبيب رحمته ورضوانه، تمثّل تقريرات البحوث السلوكية العِلمية والعَملية لأستاذ الكلّ في الكلّ، فخر الحكماء المتألّهين، وأسوة العلماء السالكين، سيدنا الأكرم، وعمادنا الأعظم، سماحة العلّامة الطباطبائى قدس الله سرّه؛ فإنّها تتميز بمزايا فريدةٍ، وخصائص وحيدةٍ، جعلَتها حقًّا عديمة النظير، سواءً في لغة العرب أم العجم. ووفقًا لشهادة أهل الخبرة والنظر، فلم يدوّن حتّى الآن كتابٌ بهذه البلاغة والشمولية، يسلّط الضوء

    1. ديوان ابن الفارض، ص ۱٢۰.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

21
  • على مراتب النفس ومراحل الإيمان، ويبين كيفية السير والسلوك إلى الله، ورفضالعوائق، والأهواء الصارفة، وكيفية العبور من عوالم الضلال والغواية والكثرات والتوهّمات، ولزوم الاستمداد بتربية الأستاذ الكامل وإرشاداته في جميع مراحل السير المختلفة، وهي تبتنى على المبادئ والأصول المسلّمة للسير والسلوك إلى الله، من قبيل: مقام الإنسان ومنزلته في عالم الإمكان، وكيفية سيره نحو الكمال والتحقّق في مراتب الفعلية، وكذلك ضرورة إرسال الأنبياء والرسل الإلهيين لتربية النفوس المستعدّة، وكذلك عدم الاستغناء عن مساعدة الأستاذ الكامل والمهذِّب للنفوس، وضرورة السير والمضى في طريق العرفان والتوحيد، والتولّى بولاية أهل بيت العصمة والكرامة سلام الله عليهم أجمعين، والتبرّؤ من أعدائهم ومخالفيهم باطنًا وظاهرًا. كما وتُبين هذه الرسالة امتياز مدرسة التوحيد عن سائر المدارس المنحرفة والبعيدة عن الواقع والحقيقة - وإن كانت تلك المدارس مصبوغةً بصبغة الدين والولاية والرسالة - وتتعرّض لأسباب معارضة ومواجهة الأشخاص السذّج وعديمى الاطّلاع على حقائق عالم الأُنس؛ وكما قيل:

  • چه داند آنكه نداند كه چيست لذّت عشق‌***از آنكه لذت عاشق وراى لذات است‌۱
  • [يقول: ماذا يعرف من جهل لذة العشق؟ لأن لذة العشق لذةٌ فوق اللذات‌].

  • هذا مضافًا إلى بعض المواضيع الأخرى التييؤدّى الاطلاع عليها إلى زيادة وضوح مسير حركة السالك بشكلٍ أكبرَ، وتجعل استقامته في مواجهة

    1. ديوان العطار، ص ٣٣.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

22
  • العوائق والفتن أشدّ، وعزمَه وإرادته في الوصول إلى الهدف الأسمى أعلى وأرسخ، وتحفظه في مواجهته لوساوس الخنّاسين، وتلبيس أبالسة المسير، وقطاع الطريق ولصوصه؛ فلا يؤثّر فيه كيد الخائنين، ولا يحرم من الحركة والصعود إلى عالم القدس؛ فيخترق بعزمٍ متينٍ حُجب عوالم الكثرة، الواحد تلو الآخر، مترنّمًا بالآية الشريفة: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}۱ ويعبر مراحل الظلمات ومراتب الحجب النورية، ويضع قدمه في ساحة معدن عظمة كبرياء الحق.

  • استقبال النخب لرسالة لبّ اللباب، وترجمتها إلى لغات متعدّدة

  • وقد تمّ إلى الآن ترجمة هذه الرسالة الشريفة - التي كتِب أصلها باللغة الفارسية - إلى العربية والإنكليزية، فأثارت إعجاب القرّاء وثنائهم، وأوجدت في ضمائرهم ونفوسهم المستعدّة أرضيةً للتحوّل والتغير الجادّ، كما اعتُمِدت واشتُهِرت كمصدر يدرس في بعض الجامعات الرائدة والمعروفة في العالم.

  • بعض الآثار الروحية لمطالعة رسالة لبّ اللباب‌

  • وقد قام الحقير بمطالعتها مرّاتٍ عديدةٍ، وفي كلّ مرّةٍ كنت أشعر بالإحساس نفسه من الرقة والنشاط الذى شعرت به أوّل مرّةٍ. وكأنّ عبارات هذا الكتاب تزيل الأغشية عن سويداء قلوب الحيارى وضمائر الساعين والمجدّين إلى حريم المعبود، وتبدى ما يحتاجه الوجدان الطاهر الذي لم تنجّسه زخارف الدنيا - للوصول إلى عالم التوحيد، والكشف عن سلطان المعرفة ليصبح واضحًا وجليا.

  • سبب حصول تلك الآثار الروحية بقراءة كتب الأولياء

  • ويكمُن سِرّ ذلك في أنّ هذه المفاهيم والعبارات كانت قد ترشّحت من يراع وبنان أفرادٍ قد اتصلت أرواحهم بعالم التوحيد والتجرّد، بل اتحدت معه،

    1. سورة الأنعام (٦)، ذيل الآية ٩۱.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

23
  • فكلّ ما يفاض على قلوبهم ويتنزّل على ضمائرهم الملكوتية المطهّرة من المعانى الرقيقة والمبانى الدقيقة ولطائف عالم الأنوار، خالٍ من تصرّف النفس الأمّارة، وتدخّل الأغراض الدنيئة والأهواء الرذيلة؛ ولذلك فإنّ هذه المعانى ستنسجم وتتوافق وتنطبق وتتماشى مع فطرة كلّ إنسانٍ صادقٍ باحثٍ عن الحقيقة وضميره، وسوف لن تفقد رونقها ونضارتها ورَوْحها، ومهما عمل الإنسان على التحقيق والمطالعة والتدبّر فيها، فسيدرك أكثر وأكثر من تلك الحقائق الراقية، وأنوار معرفة الحقّ، كما هو الحال في الكتب المنتسبة إلى السماء، وخصوصًا «القرآن الكريم» و «نهج البلاغة» لمولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام، والروايات الواردة عن حضرات المعصومين عليهم السلام، وفي مرتبةٍ أدنى منها كلمات الأولياء الإلهيين وعباراتهم؛ كشعر حافظ الشيرازى ومولانا جلال الدين البلخى وابن الفارض المصرى، والكتب التى ألّفها فخر العرفاء الشامخين محيى الدين بن عربى، وكتابات ورسائل سائر الأولياء والعرفاء الإلهيين رضوان الله عليهم أجمعين.

  • يقول المرحوم القاضى قدّس الله سرّه:

  • «لقد قرأتُ كتاب «مثنوى معنوى»۱ ثماني مرّاتٍ، وفيكلّ مرّةٍكنتُ أست فيد مطلبًا جديدًا وإفاضةً مغايرةً للإفاضات والمدركات التى حصلت بالمطالعات السابقة».

    1. كتاب «المثنوي المعنوي» هو ديوانٌ مشهورٌ باللغة الفارسيّة وله عدّة ترجمات بالعربيّة، وقد اعتنى به العلماء والأعاظم والعرفاء على الخصوص لما فيه من نكاتٍ سلوكيّةٍ دقيقةٍ تُساعد السالك على تجاوز العقبات في الطريق، وصاحبه هو المولى جلال الدين محمّد المولويّ البلخيّ الروميّ، من أشهر مشايخ العُرفاء وقادتهم الأكابر، وُلِد سنة ٦۰٤ ه، وتوفّي سنة ٦۷٢ ههه. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

24
  • وأمّا في الكتابات الأخرى فإنّنا لا نرى فيها ذلك، وسبب ذلك واضحٌ وجلى؛ لأنّكلّ ما يخرج عن بنان غير الأولياء وبيانهم فهو يصدر من منبعٍ ملوّثٍ بالأغراض وعينٍ مغمورةٍ بالشهوات والتخيلات والحب والبغض، وللناس في ذلك مراتب مختلفةٍ. ومن جهة أخرى فإنّ علومهم حصوليةٌ اكتسابيةٌ ظاهريةٌ، وسوف لن يكون لها من أثرٍأو مردودٍ سوى ترسيخ ذخيرة المحفوظات، بل هم أنفسهم لا يمتلكونيقينًا جازمًا بها.

  • الترجمة الفرنسية لرسالة لبّ اللباب‌

  • وقد وُفِّق أخيرًا أحد الأخلاء الروحيين والإخوة الإيمانيين لترجمة الكتاب إلى اللغة الفرنسية، و طلب من الحقير أن يكتب مقدّمةًتوضّح بعض المسائل الآنفة الذكر؛ لذلك وبسبب أهمية الموضوع، وتضارب الآراء، واختلاف المسالك والمدارس والمناهج المتنوّعة والمنحرفة فيكثيرٍ من الأحيان، ودخول الأوهام والتخيلات المختلفة من قبل عدّةٍ ممّن لا تتوفّر لديهم المعلومات الكافية، ولا حظّ لهم من مواهب عالم القدس ومواعد حريم الأنس، قام هذا العبد بذكر بعضٍ من المسائل والمواضيع المشار إليها، بعنوانه مقدّمة لهذا الكتاب الشريف، آملًا أن يكون زيادة في الاطّلاع للقرّاء الكرام، وذخرًا للكاتب الحقير يوم الجزاء، وما توفيقى إلّا بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب‌.

  • * * *

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

25
  • المقالة

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

27
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللَه الرَحْمَنِ الرَحِيمِ‌

  • الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِينَ‌

  • وَالصَّلَاةُ عَلى المَبْعُوثِ إِلَى الخَلائِقِ أَجْمَعِينَ‌

  • وَآلِهِ الأوْصِياءِ المُنْتَجَبِينَ‌

  • وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَى أَعْدَائِهم مِنَ الأَوّلِينَ وَالآخِرينَ إِلى يوْمِ الدِّينِ‌

  •  

  •  

  • حقيقة العلاقة بين المخلوق والخالق‌

  • رجوع حقيقة الأشياء إلى حقيقتها الربطية

  • لا شك في أنّ الوجود حقيقةٌشامخةٌ وراقيةٌ تُشكل الأصل والأساس لجميع الحقائق المتأصّلة، كالأسماء والصفات الكلية الإلهية، وكذلككافة الحقائق الربطية من قبيل: الأسماء والصفات الجزئية، أو بعبارةٍ أوضح: الماهيات الموجودة في عالم الأعيان والخارج؛ ولذلك قالوا: إنّ حقيقة الأشياء ترجع إلى حيثيتها الربطية، وليس لها من نفسها وجودًا في نفسها ولنفسها، وإنّما ترجع حيثيتها وأصالتها فقط إلى الجنبة الربطية وصِرف التعلّق والفناء في ذات واجب الوجود وحسب.

  • وقد صرح الله تعالى في آيات القرآن الشريفة بهذه المسألة تصريحًا تامًا، قال تعالى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}۱

    1. سورة العنكبوت (٢٩)، الآية ٤٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

28
  • يعنى: إنّ الله خلق السماوات والأرض بالحقّ، ولم يخلقها صدفةً ولا عبثًا أو بلا غايةٍ ولا هدفٍ، ولم يخلقها على أساس التخيلات والأوهام والاعتبارات كما يفعل عامّة الناس في مصنوعاتهم، وإنّ في ذلك دلائلَ للمؤمنين على حقيقة التوحيد في جميع مراتب الذات والاسم والفعل.

  • قانون العلية: المعلول يتّصف بصفات العلّة ولكن بنحوٍ أضعف‌

  • إنّ ظهور وبروز حقيقة الوجود في الأسماء الكلية، ثمّ منها في الجزئيات والمصاديق الخارجية يوجب اتّصافها بنفس هذا الوصف، ومقتضى قانون العلية هو تجلّى العلّة في ماهية المعلول، وبالنتيجة اتصاف المعلول بصفات العلّة في رتبة أدنى وبنحوٍ أضعف وأخفّ.

  • ولمّا وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بأنّه الحقّكما صرّح به في العديد من الآيات وبعباراتٍ مختلفةٍ مثل قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ}۱ فكذلك الموجودات المتدلّية منه والمرتبطة بذاته أيضًا، هى الأخرى تتّصف بأنّها حقٌّ وواقعيةٌ؛ وهذه الواقعية والحقيقةليست سوى واقعيته وحقيقته التى تمثّل حقيقةً واحدةً مشككةً، لا مستقلةً في عرض حقيقةِ حضرة الحق.

  • الطريق الأقرب إلى إرادة الله، أقرب وأسرع في الوصول‌

  • بناءً على ذلك، فإنّ حقيقة كلّ ظهورٍ وتجلّ - سواءً في وجوده أم في مسيرة رشده وتكامله - ترجع إلى استناد هذا الظهور والتجلّى إلى ذات البارى وإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى؛ وكلّما اقتربنا من إرادة حضرة الحقّ ومشيئته واختياره فيكيفية السلوك العملى في طريق التكامل وإيصال الاستعدادات إلى فعليتها، كان ذلك الطريق وذلك السلوك مقرّبًا أكثر، وأجدر بالوصول.

    1. سورة الحج (٢٢)، الآية ٦٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

29
  • الغاية من إرسال الأنبياء والرسل‌

  • وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنّ رسالة جميع الأنبياء الإلهيين هى أن يبينوا مسير التجرّد والتوحيد، وأن يخرجوا الناس من ظلمات الجهل، وهدايتهم إلى عالم النور والبهاء، قال تعالى: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‌ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}۱.

  • وقال عزّ وجلّ في آيةٍ أخرى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}٢

  • والقيام بالقسط يعنى: القيام بالحقّ في جميع مراحل الحياة وأطوارها، سواءً في الجوانب العبادية أم فيالجوانب الاجتماعية والسياسية والأسرية والشخصية؛ وبذلك تصل جميع استعدادات الإنسان وقابلياته إلى منصّة الظهور وتبلغ مرحلة الفعلية والتحقّق، وتحصل له مراتب الكمال الواحدة تلو الأخرى.

  • وإذا لم يراع الإنسان هذا الأمر في جميع المسائل، ولم يقف إلى جانب الحقّ بشكلٍ دائمٍ، واستجاب للإحساسات والميول الدنيوية، فسوف يحرم من الوصول إلى الحقّ وسيمنع من طى مدارج الكمال بنفس هذا المقدار.

  • معيار القبول أو الرفض للشرائع‌

  • المعيار

  • إنّ سبب قبول الأديان الإلهية إنّما هو لأجل نزولها من جانب الحقّ تعالى. والدين الذى تصنعه وتصوغه البشرية ستكون قيمته مساويةًلنفس تلك‌

    1. سورة إبراهيم (۱٤)، الآية ٥.
    2. سورة الحديد (٥۷)، صدر الآية ٢٥.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

30
  • الرتبة البشرية، وسيكون ممزوجًا بالأهواء والتوهّمات والتخيلات، ممّا سيجعله عرضةً للتغيير والإصلاح والتعديل دائمًا؛ ولذا يقول الله تعالى: {وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}۱.

  • فحقّانية أية شريعةتُكتسب بواسطة انتسابها إلى عالم الغيب وحسب، وإذا انقطعت هذه النسبة يومًا ما، فإنّ حجيتها وحقانيتها ستزول أيضًا، وسوف تنحدر رتبتها من الرتبة الإلهية لتصير سُنّةً غابرةً وعادةً قديمةً، كالأنظمة الحاكمة في المؤسّسات والمنظّمات والأمور الدولية، التييختم عليها بختم البطلان وتودع في خزائن التاريخ بتغير بُنية الحكم.

  • سبب نسخ الأديان السابقة

  • ولذلككانت مسألة النسخ من المسائل الحيوية في الأديان الإلهية السابقة. فمع ارتباط الشرائع الإلهية السابقة بعالم الغيب، وتمتّعها بالحجية والتنجُّز والإلزام في زمانها، إلّا أنّها بمجرّد نزول الشريعة الجديدة تسقط عن رتبة الاعتبار، ويصبح البقاء عليها مستوجبًا للسخط الإلهى وغضبه وعدم رضاه.

  • يقول الله في هذه الآية الشريفة: {وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}٢ مع أنّ الله عزّ وجلّ صرّح في العديد من الآيات بأنّ‌الشرائع الماضية والأنبياء السابقون مُنتسِبون إليه، وهذه الآيات تُمضى وتختم على سجّلاتهم بختم الصحّة والإتقان.

  • كذلكيخاطب الله رسوله في آيةٍ أخرى فيقول: {وَ لَنْ تَرْضى‌ عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى‌ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‌ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ}٣.

    1. سورة النساء (٤)، ذيل الآية ۸٢.
    2. سورة آل عمران (٣)، الآية ۸٥.
    3. سورة البقرة (٢)، الآية ۱٢۰.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

31
  • ففي هذه الآية نجد أنّ الله تعالى يحذّر عباده بشكلٍ صريحٍ من اتّباع الأديان الإلهية الماضية والعمل وفق مذاهب الماضين وشرائعهم، وينبّه على خطورة الموضوع بعبارةٍ شديدة اللهجة؛ وذلكبالإخراج عن دائرة الولاية والنصرة الإلهية.

  • التحليل المقبول لمسألة وحدة الأديان‌

  • إنّ مسألة وحدة الأديان تعدّ مقبولةً وممضاةً ما دامت المسألة مرتبطةً بعالم الغيب، وهو المعنى الذى صرّحت به العديد من الآيات الشريفة، وأمّا لو كان المقصود من طرح وحدة الأديان هو نفاذها والإلزام بها ومنحها الحجية وإعطائها الحقانية، وجعلها مُقرِّبةً وموصِلةً إلى مراتب كمال الإنسان، فهذا المعنى مردودٌ وباطلٌ قطعًا.

  • فكيف يمكن تصوّر أن تكون هناكشريعةممضاةٌ من قبل حضرة الحقّ، مع أنّه هو الذى أقدم على نسخها وحذّر رسوله من التدين بها؟! إنّ احترام الأديان الإلهية وتقديس الأنبياء الكرام محفوظٌ في مكانه، كما أنّ اتّباع الإسلام وعدم قبول الأحكام المخالفة له محفوظٌ في مكانه أيضًا، وهذا هو معنى التسليم والإسلام.

  • ولذلكنرى أنّ الله مدح وأثنى على الأفراد الذين تعبدوا بالأديان الإلهية الماضية [حتّى بعد مجى‌ء الإسلام‌]، وجعلوا منهجهم وممشاهم الاعتقادى وأعمالهم طبقًا للشرائع السابقة، لكنّ فِعلهم ذلككان بسبب جهلهم بحقانية شريعة الإسلام، فكان فعلهم ذلك نابعًا من الصدق وصفاء الضمير من دون عنادٍ أو إغراضٍ، فذَكرهم عزّ وجلّ بالخير ونظَر إليهم من جهة الاستضعاف، وعدّهم من المأجورين ومن جملة السعداء.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

32
  • قال الله تعالى فيكتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى‌ وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ}۱.

  • ذلك لأنّ نظام عالم الغيب قائمٌ على أساس الحقّ، ومن كان مستضعفًا وعاجزًا عن إدراك الحقيقة وبلوغ الواقع دون أى تقصيرٍ منه بل بسبب الأمور الدنيوية والمنهج التربوى، فمثل هؤلاءِ لا يعدّون مقصّرين، بل يمنّ الله على هؤلاءِ بتلك الرتبة المقدّرة لهم من الكمال دون أن يجحفهم شيئًا مِن حقّهم، وسيجعل الله تعالى لهم نفس ذلك المصير الذييليق بالمؤمنين المتدينين بمذهب الحقّ وشريعة الإسلام.

  • المعيار في تحديدصحّةالمنهج‌

  • فعلى أساس ما سبق، فإنّ الحركة الغائية للإنسان في نظام عالمَى التكوين والتشريع تتّجه نحو الكمال المطلق، ولمّا كانت ذات الحق المقدّسة هى مُنتهى جميع الكمالات، وأصل كلّ القِيم وترشّحات حقيقة الوجود؛ لذا فإنّ معرفة ذات الله عزّ وجلّ هى نهاية جميع مراتب الكمال والفعليات الإنسانية.

  • بناءً على ذلك، فإنّ كلّ مدرسةٍومنهجٍ يهديان الإنسان إلى هذه النقطة الغائية ويبلغان به هذا المقصد الأسنى فإنهما مدرسةٌومنهجٌ كاملان، وأمّا إذا كانت تلك المدرسة تقف بالإنسان في المراتب الأدنى وتكتفي بما هو أقل من مرتبة الذات، كمراتب الصفات والأسماء والآثار، فسوف تكون في حقيقة نفسها ناقصةً غير تامّةٍ.

    1. سورة البقرة (٢)، الآية ٦٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

33
  • لقد بُعث رسول الإسلام الأكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله وسلّم، لإكمال بعثة الأنبياء السابقين - وذلككما عبّر عن هذه الحقيقة بقوله:

  • «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلَاقِ»۱ - وهو بذلك لم يعرّف عن نفسه أمام العالمِين على أنّه سائرٌ وماضٍبنحوٍ عمليفي نفس المنهج والمسير التوحيدى الذى ابتدأه الأنبياء وحسب، كما لم يكن ذلك مجرّد تأييدٍللأديان الإلهية السابقة وإمضائها وفقطوذلككما تعبّر الآية الشريفة: {قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}٢ - ولكنّه من خلال إظهاره وإبرازه لمبانيأعلى وأرقى بكثيرٍ فيالمراتب التوحيدية وتربية النفوس على أساس تلك المبانى الراقية فقد أوصل هوية الأديان الإلهية المتكاملة - بالقول والفعل - إلى أعلى نقطة من القُلل الرفيعةمن المعرفة ومن إدراك ذات حضرة الحقّ.

  • المقارنة بين الإسلام والأديان السابقة في رتب الكمال‌

  • إنّأعلى مرتبة تكاملية للإنسان في الأديان السابقة كانت الوصول إلى حقيقة الكلمة المباركة «لا إله إلا الله»، وكان الوصول إلى هذه المرحلة متيسّرٌ أيضًا من خلال الفناء في الأسماء والصفات؛ وذلك لأنّ مفهوم هذه الكلمة المباركة هو نفي أى نوعٍ من التأثير والسببية في عالم الأسباب والمسبّبات، وحصر الحقيقة الوحيدة المؤثّرة في عالم الوجود بالذات المقدّسة، وبالتالى نفي أى نوعٍ من أنواع العبودية في قبال عبودية الحضرة الأحدية.

    1. بحار الأنوار، ج ٦۸، ص ٣۷٢، باب ٥٩: الخوف والرجاء وحسن الظن بالله تعالى.
    2. سورة الأنعام (٦)، الآية ۱٦۱.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

34
  • أمّا في مدرسة الإسلام فإنّ شعار مدرسة التوحيد قد خطا إلى مرتبة ومرحلة أبعد مِن مرتبة ومرحلة «لا إله إلا الله»، فبإعلان الكلمة المباركة: «الله أكبر»، قد وصل إلى أعلى النقاط الرفيعة للمعرفة، والتى تتحقّق من خلال فناء ذات السالك في ذات حضرة الحقّ.

  • لم يكن إدراك السالك الواصل في الأديان السابقة بمعنى‌ «الفناء الذاتى»، بل كان السالكيرى من خلال وصوله إلى حقيقة ومفهوم‌ «لا إله إلّا الله» أنّ الله عزّ وجلّ هو المُتّصف بالمُحوضة في العبودية له، وبأنّ التأثير والعِلية منحصرتان بالذات القدسية للحقّ، وبأنّ جميع آثار الوجود ترجع إليها، وهذا ممّا يلازم التوحيد الصفاتى والأفعالى، أمّا في مرتبة «الله أكبر» فلم يعد يوجد أى تعينٍ حتّى يدرِك هذه المعانى؛ فالتعين هناكهو تعين ذات الحقّ المقدّسة، وسيكون إدراك السالك الواصل هو نفس الإدراك والعلم الحضورى لحضرة الحقّ، وكلّ كلامٍ وفعلٍيصدر من الشخص الكامل في هذه المرتبة هو نفس كلام الله سبحانه وتعالى وفعله وإرادته ومشيئته. وهذا المقام هو نفس مقام‌ «الصالحين» الذى أُشير إليه في القرآن.

  • ومن الجدير التنبيه على أنّ‌ «الصلاح» في القرآن المجيد يطلق على مرتبتين من مراتب الكمال والمعرفة: فالمقصود منه في المرتبة الأولى هوبلوغ مقام وحقيقة التوحيد في مرتبة «لا إله إلا الله»؛ كما مرّ فيما يتعلّق بالأنبياء والرسل الإلهيين، وكلّ الأنبياء الإلهيين قد وصلوا إلى هذه المرتبة.

  • بينما في المرتبة الثانية فقد وُعدَ البعض منهم بها في الآخرة كالنبى إبراهيم عليه السلام: {وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}۱. وهذا المقام مختصٌ‌

    1. سورة البقرة (٢)، ذيل الآية ۱٣۰.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

35
  • برسول الإسلام الأكرم وأهل بيته المعصومين والأولياء الإلهيين في الشريعة المحمّدية، الذين ارتقوا قُلل عوالم المعنى الرفيعة الواحد تلو الآخر، وذلك باتّباع أوامر الإسلام الحقّة، والهمّة العالية، وإخلاص العمل، وصدق النية؛ حتّى عبروا في النهاية عن جميع شوائب الكثرة، واستقرّوا في مقام التوحيد الذاتى، وليس ذلك بمجرّد إدراك حقيقة التوحيد الأفعالى والصفاتى والأسمائى، وإنّما من خلال محو الذات والانمحاء في حقيقة الوجود بالصرافة المختصِّ بحضرة الحق، ولم يبقوا لأنفسهم أثرًا من التعين والتشخّص.

  • وفي هذا المجال يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِهَا إِلَيك حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلُوْبِ حُجُبَ النُّوْرِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصِيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزّ قُدْسِك»۱.

  • إنّ وصول السالك إلى هذه الدرجة من المعرفة، والتى هى شهود ذاته في شهود ذات الحق المقدّسة لا منفصلًا عنها، يطلقون عليه اسم «العرفان».

  • العرفان ممتنع بدون اتباع الشريعة وطاعة النبى‌

  • ولمّا كان عرفان الحقّ في مدرسة الإسلام محالًا وممتنعًا بغير اتّباع تعاليم الشريعة وطاعة أوامر النبى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم واجتناب نواهيه؛ لذا كان على السالك إلى الله أن يبذل - من أجل الوصول إلى تلك المرتبة - كامل سعيه وكلّ اهتمامه في رعاية موازين أحكام الشرع المقدّس شعرةً بشعرةٍ، ولا يقصّر مثقال ذرّةٍ عن أداء الفرائض والتكاليف المأثورة.

    1. بحار الأنوار، ج ٩۱، ص ٩۸، باب ٣٢: أدعية المناجاة، المناجاة الشعبانية.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

36
  • ومن البديهى حينئذٍ أنّ الإنسان سوف يحرم نفسه من نيل مراتب الفعلية ومن نتائج استعداداته الكمالية بنفس المقدار الذييهمله ويتسامح فيه في أداء التكاليف.

  • دور الاتباع والطاعة في العرفان‌

  • وتوضيح ذلك: أنّه لا شك أنّ الله تعالى خلق الإنسانبمقتضى حكمته البالغة - على أساس عِلّةٍ غائية وهدفٍ خاصٍّ، وهو نفس تبلور الحقيقة المخفية المشار إليها فيقوله تعالى: {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}۱ وظهورها، ولا يخفي أنّ الله قد عين من أجل الوصول إلى هذا الهدف طريقًا ومنهجًا خاصًّا، من شأنه إيصال القابليات المنطوية في نفس الإنسان وجِبلّته إلى فعليتها، ويعبَّر عن هذا الطريق والمنهج بالدين والشريعة، ولمّا كان لا معنى للأمر العبثى واللغوى في مقام إرادة حضرة الحقّ ومشيئته؛ فلا ريب أنّه قد روعيت فيكلّ واحدٍ واحدٍ من هذهمن الأحكام والتكاليفالتى جعلت لأجل تربية النفوس وإيصالها إلى الفعلية حكمةٌ خاصّةٌ وضرورةٌمعينةٌ، من أجلها شُرِّع هذا الحكم الشرعى؛ وبالتالى فإنّ أى إهمالٍ في تطبيق أى حكمٍ من هذه الأحكام سيؤدّى إلى حصول نقصٍ وخلأٍ في فعلية هذا الإنسان وكماله؛ لأنّ الالتزام بهذه الأحكام له حكم العلّة والمقدّمة الموصلة إلى الكمال المطلوب.

  • ولذلك قال أعاظم العرفاء وأولياء الحقّ: إنّ الوصول إلى مرتبة العرفان وإدراك حقيقة التوحيد سيكون من المُحال من دون الرعاية الدقيقة لجميع موازين الشرع وأداء التكاليف الواردة بنحوٍ أتم‌. وهذا الأمريتطابق مع الشواهد والقرائن التاريخية تمام الانطباق.

    1. سورة الحجر (۱٥)، قسم من الآية ٢٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

37
  • انحراف العديد من الفرق الإسلامية بسبب ترك الشريعة

  • من هنا، نرى أنّ العديد من الفرق الإسلامية المنحرفة، سواءً عند أهل السنّة والعامّة أم عند الشيعة - رغم الفارق فيالمراتب الاعتقادية - قد وقعت فريسةً لوسوسة الشيطان، ومع ادّعائهم الوصول إلى الحقيقة والباطن تركوا العمل بموازين الشرع وأحكامه، وزعموا أنّهم في غنىً عن أداء التكاليف فهُم يعتبرون أنّ الالتزام بها ضرورى للمبتدئين وعديمى الاطلاع على الأمور الباطنية؛ وذلككما في الإسماعيلية وأمثالها من الطوائف الصوفية المختلفة المنتحلة لمعرفة الحق. مع أنّ كلّ هذه المسائل عبارةٌ عنفرارٍ من التكليف وتحرّرٍمن القيود والمسؤوليات ونمطٍ من اللامبالاة لا غير.

  • إنّ الاهتمامبعالم المعنى والالتفات إلى باطن عالم الخلق وحقيقته - وهو ما جذب إليه في هذا العصر أذهان جماعةٍكثيرةٍ من أهل الدنيايختلف اختلافًا كليا وجوهريا عمّا تحاول إثباته سائر الفرق الضالة؛ من أجل التمويه ومن أجل إخفاء ضلالهم وأهوائهم وحبّهم للنزوات والملذّات.

  • بزوغ النزعة نحو المعنويات في العصر الحاضر

  • يأس العالم من المنهج المادى وفشله‌

  • لقد أدرك العالم المعاصر بعد تجربةٍ طويلةٍللاتجاه المادّى والكثراتيتفاهة ووهمية هذه المدرسة وهذا المنهج، فتفصّى من اتّباع المدارس الإلحادية والمادّية، وصار يبحث عن حاجته الفطرية والتكوينية للوصول إلى هدفٍ أرقى من عالم المادّة ومن التجربة الدنيوية؛ وعن الحقيقة التى بإمكانها أن تروى وجدانَه العطِش الحيران، فتُخرجه من الحيرة والتيهان والاضطراب والتشتّت.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

38
  • لقد أدركت البشرية في عصرنا الحاضر هذه الحقيقة، وهى أنّه على الرغم من أنّ الإنساناستطاع أن يؤمّن لنفسه‌إلى حدٍّ ما - الرفاهية الدنيوية والملذّات النفسية من خلال تطوّر العلوم والفنون المادّية، بيد أنّه لم يستطع بأى نحوٍ من الأنحاء أنْ يحقق لنفسه مقدار ذرةٍ من مرتبته وحقيقته العقلانية. فقدِ استُعمل الرقى العلمى والتقدّم التكنولوجى واكتشاف أسرار العناصر المادّية فقط وفقط من أجل ترقية الحياة الدنيوية، فجعل حياته المادّية أكثر رفاهيةً، وهيأ لنفسه أسباب الوصول إلى الشهوات وإلى هوسه الحيوانيحتّى لو بلغ ما بلغ من الوقاحة والقبحلا أكثر.

  • فبات الإنسان يتساءل في نفسه هذه الأيام، ويقول: ما الذى قدّمه هذا الرقى والتطور التكنولوجى من نتائج تنفع في عملية إصلاح النفس وتزكية الروح وتحقيق السكينة؟! وهل حقّقت الحضارة العصرية تحوّلًا فيالنظرة الإنسانيةتجاه القِيم المعنوية وضوابط العلاقات الاجتماعية؟! وهل أوجب ارتقاء الإنسان إلى ذروة العلوم الرفيعة والفنون الدنيوية تكاملًا للقوى العاقلة؟! وهل أدّى ذلك إلى حاكمية فطرته ووجدانه في أموره الشخصية والاجتماعية؟!

  • وهل أنّ موقفه من الانحطاط الأخلاقى، وبربرية القرون الوسطى، وقتل نفوس الأبرياء الذين لم يقترفوا ذنبًا، وهتكالقوانين والنواميس تحت ظلّ القمع والتزوير ...، قد انتهى عند ذلك الزمان؟! أم أنّ عليه - مع كامل الخجل والتأسف ألف مرّةٍ - أن يسرّى حكمه في تلك الفجائع إلى فجائع عصر التكنولوجيا ومصائبه، وما فيه من توحّشٍ حيوانى، ومسخٍ للروح والنفس الإنسانية، وما فيه من الوصول إلى أقصى درجات الشقاوة والقسوة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

39
  • علّة فشل المنهج المادى‌

  • وهنا ينبغى أن نسأل: أين هو أساس المشكلة؟ ولماذا لم يداويالتطوّر الإنسانى في هذه العلوم المشاكل الروحية والانحرافات النفسية والتعدّيات البشرية؟ ولماذا لا يزال يسبح بيديه ورجليه في مستنقع الأنانية والاستبداد، ولا يزال يغوص في بؤرة الشهوات والانحرافات؟ ولماذا يقوم بتسخير ما يكتشفه ويخترعه لمصالحه الشخصية ومفاسده الأخلاقية وتعدّياته، بدلًا من رعاية الأُسس الإنسانية الرفيعة والاستفادة من هذا التطوّر فيالمنافع العقلائية؟

  • وجواب هذه المسألة ما يلى:

  • إنّ وجود الإنسان مزيجٌ من الصفات والملكات والغرائز الفطرية والروحية من جهةٍ، ومِن الغرائز الشهوانية والأهواء النفسية من جهةٍ أخرى، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإنسان مختارٌ ويمتلك إرادةً في مقام العمل فإنّ هذا المزيج بمجموعه يلازمه ويساعده للوصول إلى مقام الفعلية والكمال، خلافًا لخلقة الملائكة التى اقتُصر فيها على جهة العقلانية والملكات الفاضلة وحسب؛ ولهذا السبب لا يمكن أن يصدر منهم الفعل القبيح‌ {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}۱.

  • إنّ انصراف الإنسان إلى الجوانب الشهوانية والغرائز النفسية سوف يؤدّى إلى غفلة الإنسان ونسيانه للبُعد المعنوى للصفات الملكوتية والفطرية.

    1. سورة الأنبياء (٢۱)، الآيتان: ٢٦ و ٢۷.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

40
  • ومِن الضرورى أن لا تراعى الغرائز النفسية إلّا بالمقدار اللازم لتمضية وانقضاء الحياة الدنيوية على أن يجعل ذلك أيضًا في إطار إكمال القوى العقلية والروحية وحسب، ويجب أن يكون ذلك ضمن حدود الاعتدال وبنحوٍ منطقى وعقلانى، فالإفراط في هذا الجانبيوجب قوّة هذه الغرائز وانفلات زمام الأمور عن السيطرة، وفيالنتيجة ستتعطّل قوى الإنسان وغرائزه الروحية والفطرية، ولا فرق في هذه المسألة بين العصور الماضية والعصر الحاضر؛ فإذا تهيأت للإنسان الوسائل والأدوات التى تمكنه من بلوغ أهدافهومقاصده المشؤومة أياً كانالزمان والمكان، فسوف يقدم عليها بمقدار ما لديه من شقاوةٍ وميلٍنحو الانحراف، وبمستوى رسوخ الصفات الخبيثة في نفسه، وسوف لن يألوَ جهدًا فيسبيل تحقيقها.

  • لذلك نرى أنّ التطوّر البشرى فيعصر الصناعة والعلم، لم يقتصر أثره على كونه لم يأخذ بيد الإنسان نحو المعنويات واكتساب الفضائل وحسب، بل إنّه بالغ في تهيئة الأرضية المناسبة للفساد والانحراف؛ وما دام سيره على هذا المنوال فإنّه سيزداد أسرًا في هذه المهلكة يومًا بعد يومٍ.

  • إنّ سبب اللجوء إلى المعنويات والرغبة في المسائل الروحية والباطنيةالتى ظهرت في هذا العصر بين مختلف الشعوب، إنّما يرجع إلى حالة اليأس مِن المدرسة المادية وفشلها في تحصيل الطمأنينة الروحية وسكون الخاطر وراحة الضمير البشرى، فيا له مِن فشلٍذريعٍ ويا له مِن يأسٍ رهيبٍ ومهولٍ!

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

41
  • الأسس التى قامت عليها النزعة نحو المعنوية والروحانية

  • إنّ النزعة المعنوية والروحانية۱ والتوجّه نحو الحقيقة والذات والملكات الروحية والفاضلة للإنسان بلا تقيدٍ بقيود خاصّةٍ وحدودٍ معينةٍ، لهو ظاهرةٌ إنسانيةٌ أفرزتها تجربةٌ طويلةٌومؤلمةٌجدّاً مِن التوغل في الكثرات وعوالم المادة والأهواء؛ ظاهرةٌ بعيدةٌ عن التدخّلات والتصرّفات البشرية وعن إعمال الأذواق النفسية وعن التلوّث بالخرافات والعقائد الجوفاء الواهية التيكانت قد أخذت طريقها إلى الأديان السابقة؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على أساسٍ مِن حاجة وجدان الإنسان وضميره التوّاق إلى نبع الأمل والحياة والنجاة من مستنقع الجهل والشقاء والتشتت؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على أساس المنطق والعقل والحقيقة اللامتناهية؛ ظاهرةٌ ترتكز على أساس الحرية وامتلاك الإرادة والاختيار فيتقرير المصير ونوعيته؛ ظاهرةٌقامت على أساس تجربةٍ مريرةٍ من الخداع والتزوير والاستبداد والشخصانية التى نَجّست ولَوّثت أثواب العديد من المذاهب الإلهية والأديان السابقة وأصحابها ومتوليها؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على المقارنة بين المبانى والقيم الملكوتية للأديان الإلهية الحقّة، وبين ما طرحه حتى الآن رجالات ودعاة هذه الأديان؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على أساس الحرب والصراع بين القوى الملكوتية والعاقلة وبين جنود الشيطان مهما كان لباسهم ومهما كان موقعهم ومقامهم؛ وفي النهاية، هى ظاهرةٌ قائمةٌ على أساس نور الباطن وصفاء الضمير الذى هو وديعةٌ إلهيةٌ في نفوس البشرية للسير نحو الكمال المطلق والبهاء الأتمّ.

    1. spirit uality .

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

42
  • بروز النزعة للمعنويات بين المسلمين وبعض أسبابها

  • وهذه النزعة والميل نحو عالم المعنى لم يلقيا رواجًا فقط بين أتباع الأديان الماضية، مثل: اليهود والنصارى أو سائر الملل والنحل الأخرى، أو حتّى من غير المعتقدين بأى مذهبٍ أو عقيدةٍ [ممن كان يفتقد لنزعةٍكهذه النزعة منذ القِدم‌]، بل إنّ هذه المسألة برزت أيضًا بنحوٍ مثيرٍ للعجب والدهشة بين المسلمين سواءً عند العامّة أم عند الشيعة؛ فقد برزت الحاجة الواقعية والفطرية لدى المسلمين إلى إدراك الحقائق التوحيدية والمعارف الربوبيةعن طريق حصول الشهود والعلم الحضورى والوجدانى - وذلككردّة فعلٍللاهتمام التامّ من قبل المُتصدِّين وزعماء الشرع وتوجّههم فقط نحو مراعاة الأحكام والتكاليف الظاهرية، وعدم عنايتهم بحقيقة الشريعة وأصلها ومحورها الذى هو العِرفان الإلهى وظهور تجلّى التوحيد في نفس السالك إلى الله؛ بل في المقابل ردّ الكثير من العلماء و الفقهاء في التاريخ هذه الحقائق المتعالية ورفضوها وأنكروها.

  • ما هو المعنى الصحيح لعالم المعنى والباطن والحقيقة؟

  • إنّ الاهتمام بالروحانية والنزعة نحو حقائق عالم ما وراء المادّة والطبع، حتّى وإن كان مرغوبًا به بما يمثّله من حركةٍ نحو القيم والكمالات الروحية والمعنوية، فهيتكتسب من هذا الجانب أهمّية وعناية خاصّة، لكن ينبغى التنبّه إلى أنّ الوجود الإنسانى له مراتبٌ مختلفةٌ، من المادّة والصورة والمعنى وصولًا إلى التجرّد التام، فلا بدّ وأن يكون سيرُه الصعودى وارتقاؤه نحو عالم المعنى متطابقًا مع هذاالنحو وهذا النمط من السير.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

43
  • المعاني المختلفة المطروحة ومجانبتها للصواب‌

  • يعبّر في هذه الأيام عن أى مرتبة من المراتب الروحية و النفسية للإنسان بعالم المعنى والباطن والحقيقة؛ فمثلًا نرى أنّ الأفراد الذين يخبرون عن الحوادث والظواهر المستقبلية - طبعًا الصحيح منها - يوصفون بنظر الناس والعوام بالأوصاف الملكوتية والكمالات التجردية، فيرون أنّ رُتبتهم تفوق المراتب البشرية، وأنّهم متميزين عن الآخرين. وكذلك نراهم يصفِّقون للأشخاص الذين يقومون بأفعالٍ غير عاديةٍ؛ فهؤلاء بنظر العوام يمتلكون قدراتٍ فوق القدرات البشرية، وأنّهم حصَّلوا مرحلةً عاليةً من عوالم الوجود؛ ولكن في الوقت نفسه نرى أنّ كلّ تلك الأمور والأفعال الخارقة للعادة بنظر أهل الفنّ وأهل التوحيد وأصحاب الكمالات العالية لا تمثل أى شى‌ءٍ ذو قيمةٍ، وليست أكثر من لعبةٍ طفوليةٍ؛ لأنّ النفس تستطيع بواسطة الرياضات والمراقبات الخاصّة أن تصل بسهولة إلى مثل هذه الفِعليات فتتّصل بمرتبة المثال، من قبيل: المَنام الذييراه النائم فتنكشف له فيه حوادثٌ مستقبليةٌ معينةٌ؛ وكم من الممكن فيكثير من الأحيان بلوغ هذه المسائل وتحقّقها عن طريقٍ غير شرعى وخلافًا للرضا الإلهى. وكم هم الأفراد الكثيرون الذين لا يعتقدون بأية شريعة من الشرائع الإلهية، ومع ذلك فإنّهم استطاعوا أن يكسِبوا نفوسهم مقدارًا معينًا من القوّة بواسطة القيام ببعض الرياضات والمجاهدات النفسانية، واستطاعوا بواسطة التسخير والسيطرة الإجمالية على عالم المثال أنْ يجعلوا المادّة تحت تصرّفهم وانقيادهم.

  • إنّ الاطّلاع على بعض المغيبات، وإحضار الأشياء المخفية، والحركة بطريقةٍ غير معروفةٍ، والتصرّف في الأذهان ونفوس العوام من الناس، والقيام بالأعمال غير العادية، هيمن الأمور التييمكن أن تصدر من‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

44
  • الملتزمين بالشرائع الإلهية، كما يمكن أن تصدر أيضًا من عُبّاد الأصنام وعُبّاد البقر وسائر الفِرق الضالّة، وممّن لديهم ارتباط مع الشياطين والجنّ والنفوس الخبيثة.

  • أهمية تحديد المعنى الصحيح لعالم المعنى والباطن‌

  • من هنا وبناءً على ذلكينبغى التدقيق جيدًالمعرفة مراد ومقصودالمدارس والمناهج الفكرية المختلفة في العالممن دعوتهم للآخرين وحثّهم للتوجّه نحو الأمور المعنوية وإلى باطن الإنسان وإلى عالم ما وراء الطبيعة، فما هو المراد وما هو الهدف المنشود وراء هذا المفهوم الجميل والكلام الآسر للقلوب؟ وما الذييرومونه من ذلك؟ فهل يحسَب مجرّد الوصول اليسير للإنسان إلى هذه الأمور فضيلةً؟ تلك الفضيلة التى لا تستمر جاذبيتها ورونقها إلّا إلى وقت ما قبل الموت، ولكنّها بعد أن تخرج الروح من البدن تصبح بأجمعها فييد الفناء والعدم، وتودع في بوتقة النسيان.

  • هل تنتمى اللذات المعنوية إلى عالم المعنى والباطن؟

  • والنقطة الدقيقة التى تستدعى الدقّة ها هنا؛ هى أنّ النفس البشرية بشكلٍ عامٍ، وبسبب تعلّقها بعالم الطبع وابتعادها عن عوالم المعنى، لا تترك أى جهدٍ أو سعييمكنها من تحصيل اللذّات والمشتهيات النفسانية؛ سواءً في ذلك تمكنت من تحصليها عبر الأمور المادّية والدنيوية - والتى هى أعمّ من أن تكون من جنس المأكل أو المشرب أو الملبس أو المسكن أو المركب أو الرئاسة أو سائر هذه الأشياء - أم أمكنها تحصيل مشتهياتها بواسطة التلذّذ بالأمور المعنوية المتّصلة بدائرة الحواس الصورية والكائنة في بعض الأمور الغير العادية.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

45
  • فمن باب المثال: إذا رَأى العوام فردًا يمسك بأفعى بواسطة خُدعةٍ ما، فإنّك ترى الجميع يجتمعون حوله؛ ولكن إذا أراد هذا الشخص أن يبين حقيقةً من حقائق عالم الوجود والتوحيد لمدّة عشر دقائق فقط، فإنّنا لن نرى إلّا عددًا ضئيلًا من الأفراد مهتمّين بذلك، وأمّا الباقون فسيتركونه ويتفرّقون من حوله.

  • هذا المثال من أصغر وأدنى النماذج من الأمور الخارقة للعادة، فكيف إذا وصل المقام إلى المسائل والحوادث الأرقى والأخّاذة التى تخطف القلوب، من الإخبار بالأمور الخافية والتصرّف في الأمور المادّية وطى الأرض. إنّ كلّ هذه الأمور ترجع إلى الحواس البرزخية والمثالية للإنسان، والحقيقة أنّ البون بينها وبين العرفان والتوحيد وكشف الحُجب النفسانية ما بين الأرض والسماء!

  • ولذا نرى أنّ هؤلاء الزُمرة من الأفراد يتمتّعون بوجاهةٍ وقيمةٍ خاصّةٍ بين الناس، وترى أوساطهم مُحتضنةً لعوام الناس على اختلافهم أكثر ممّا هو لدى أهل التوحيد والمعرفة؛ سواءً عند العوام أم عند المتعلّمين، كما أنّ حضور خطاباتهم تحوز على جاذبيةٍ أكبر عند العوام.

  • تحريف مصطلح العرفان في ثقافة الناس في هذا العصر

  • وللأسف فإنّ اصطلاح العرفان والمعرفة يطلق في ثقافة العوام في هذا الزمان على هذه الزُمرة من الأفراد، فيقال إنّ المعرفة والوصول إلى كنه عالم الوجود مُنحصرٌ بهؤلاء الأشخاص فقط؛ وإنّ العارف إذا ما أراد أنْ يترك له اسماً ورسماً، وأنْ يجعل فَهم الأشخاص يميل نحو حقيقة الوجود؛ فليس له إلّا إبراز بعضٍ من هذه الأمور.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

46
  • كيفية تشويه البعض للوجه المشرق لعرفان العلامة الطهرانى‌

  • إنّ والدنا المرحوم العارف الكامل و السالك الواصل، العلّامة الطهرانى - رضوان الله عليه - كان من جملة العُرفاء المعدودين الذين لم يرَ منه إظهارٌ وإبرازٌ لمثل خوارق العادات هذه إلّا بشكلٍ نادرٍ؛ وكان جُلُّ سعيه وهِمّته طِوال حياته أن يجعل توجّه تلامذته وعموم الأفراد مُنصبًّا على المعرفة الحقّة وبلوغ أسرار عالم التوحيد والتجرّد والولاية. ولكن مع هذا كلّه، نرى أنّ الأشخاص الذين يريدون التعريف عنه، أو تمجيد هذه الشخصية الاستثنائية، أو يريدون إظهار عظمة هذا الرجل، لا يزالون مستمرّين بالثرثرة عن أمورٍ غير عادية صدرت في زمن حياته، ويقولون لولا صدور هذه الحوادث منه، لبقيت منزلتُه ومقامُه مخفيا حتّى الآن!

  • إنّ هذه الثقافة الخاطئة كانت وما زالت شائعةً في المجتمعات العِلمية منها والعامّية منذالقِدم وإلى يومنا هذا. بلينحن نجد في بعض الموارد وبناءً للمصالح والمقتضيات أنّ نفس العارف الإلهييرَى أنّ الصلاح يقتضى إبراز مقدارٍ ضئيلٍ من خوارق العادات، تمامًا كما هو بالنسبة لمعجزات الأنبياء الإلهيين، حيث كانت مبنيةً على هذا المبنى، إلّا أنّه لم يكن مقصد رسالة الرُسل والحُجج الإلهيين وغاياتهم بلوغ هذه النقطة وهذا الهدف.

  • ومن هنا فإنّ معيار التكامل - عند هؤلاء - وفعلية المراتب الوجودية للعرفاء الإلهيين، سيكون مِن هذا المنطلق مرتبطًا بمقدار ظهور خوارق العادات وصدورها من الفرد.

  • قيمة خوراق العادات عند العلامة الطهرانى‌

  • لقد كان المرحوم العلّامة الطهرانى - قدّس سرّه - يقول مرارًا:

  • «إنّ حظّ الفرد ونصيبه في المعرفة وإدراك عوالم التوحيد سيكون أقلّ؛ كلّما ظهرت منه هذه الأمور بشكلٍ أكبرٍ. وكلّما كانت السِعة الوجودية للإنسان أكبر، وكان مقدار تحقّق مراتب الأسماء الإلهية

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

47
  • في وجوده أكثر، فإنّ ظهور وبروز هذه الأمور منه سيكون أقل؛ ذلك لأنّ غاية أهل المعرفة والتوحيد هى عرفان حضرة الحق، وهذا الأمر المهم لن يحصل بهذه الأمور».

  • لذا فإنّ الأعاظم ولأجل سَوْق الناس نحو هذا الهدف العالى قلّما يظهرون لهم هذه الأمور، حتّى لا تَأنس النفس ويألف الذهن هذه المسائل، فتصبح أسيرةً لفخّ الحواسّ الباطنية والصور البرزخية.

  • سبب إبراز البعض للأمور الجاذبة للناس!

  • أمّا الذين بقوا عاجزين عن معرفة الحقّ وإدراك توحيد الخالق تعالى وكانت أرجلهم مشلولةً وأيديهم قاصرةً عن الوصول إلى تلك الذروة العليا، فإنّهم لن يجدوا مناصًا من إبراز مثل هذه الأمور لديهم؛ لكييجلبوا انتباه العوام لناحيتهم. وهذا هو الفرق بين منهج العرفان وسائر المناهج الأخرى، حتّى مع كونهم جميعًا متّجهين نحو عوالم ما وراء المادّة والطبع.

  • محورية العقل والفطرة في العرفان الصحيح‌

  • إنّ الله المتعال من خلال إيداعه الصفات والغرائز القيمة والمعنوية في فطرة الإنسان، قد عبّد له طريقه نحو بلوغ الحقيقة وإتبّاع الحقّ، فيتّبع المنطق العقلى فيكلّ موطنٍ وحادثةٍ؛ فالتنقيب والبحث عن المعرفة والشعور بالانشداد نحو الكمال والعثور عليه والوصول إلى عالم القدس والسكينة والطمأنينة جُعل في جِبِّلَته وطبيعته؛ فليس هناك أى عاملٍيقدر أن يمنع العقل والفطرة من الانتصار والفوز، سواءً الوساوس أو الوسائل المختلفة، بحيث يمكنه أن يسدّ عليه مسيره نحو المعرفة والتكامل، ويحرمه من الفيوضات والألطاف الإلهية.

  • وإذا ما ابتليت النفس - بواسطة إلقاء الشبهات عليها - بالوسوسة وصار سيرها منحرفًا لبعض الوقت، فسيأتى اليوم الذى تستيقظ فيه من رقدتها وتفيق من غفلتها، وذلك بواسطة النغمة الملكوتية للوجدان والفطرة؛ ليزيح‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

48
  • عن وجهه الأستار الباعثة على الوسوسة، وليطوى طريقه نحو الحقيقة والعرفان الإلهى بعين مفتوحةٍ وهِمّةٍ عاليةٍ مع ثباتٍ متينٍ.

  • برو به كار خود أى واعظ اين چه فرياد است‌***مرا فتاده دل از ره تو را چه افتاده است‌
  • به كام تا نرساند مرا لبش چون ناى‌***نصيحت همه عالم به گوش من باد است‌۱
  • [يقول: اذهب بحال سبيلك أيها الواعظ فما هذا العويل؟ لقد حاد قلبى عن الطريق لكن ماذا أصابك أنت؟

  • وما لم توصلنى إلى شفته الحلوة كقصب السكر، فإنّ نصائح جميع الناس لن تجدى، بل هيكالهواء في أذنى‌].

  • منهجان باطلان في الوصول إلى الله‌

  • المنهج الأوّل: التوجّه نحو الباطن دون ظاهر الأحكام‌

  • إنّ عدم الالتفات للتكاليف الإلهية وطى المسير بطريقة لا أباليةبالشكل المذكور - هو مجرّد تبرير للهوس والشهوات النفسانية في هذه الدنيا الدنية؛ وما نُشاهده عند بعض الفِرق الصوفية وغيرها؛ ومثيل ذلكيرى حتّى في غير هذه الفِرق بدون هذا التبرير والتأويل، وكم هم كثيرون أولئك الأفراد الذين هم من أهل العلم والدراية الذين لم يقتصر عدم الاعتناء بالتكاليف والوظائف على أنفسهم، بل إنّ طريقة تصرّفاتهم أدّت إلى انحراف أولئك العوام وأوجدوا لديهم اليأس والنظرةالسلبية تجاه المسائل المعنوية والقِيم المتعالية للشريعة الإلهية.

    1. ديوان حافظ الشيرازي، ص ٢۸.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

49
  • المنهج الثانى: التوجّه نحو ظاهر الأحكام دون باطنها

  • وفي مقابل هؤلاء، هناك أشخاصٌ وجّهوا كلّ همّتهم وهدفهم نحو ظاهر الأحكام والاهتمام بالقيام بالتكاليفمن دون الالتفاتإلى جنبتها الباطنية، وهؤلاء أنكرواكلّ حقيقةٍ وواقعيةٍ وراء هذه التكاليف والوظائف، ولذا فقد سقطوا أيضًا في الاشتباه والغفلة سقوطًا مريعًا؛ إنّ مَثل التوجُّه نحو ظاهر الأحكام من غير ملاحظة حقيقتها وواقعيتها - والتيتمثّل الجنبة العِلية بالنسبة لها - يشبه أكل قشرة الفاكهة مع إلقاء نفس الفاكهة ولبّها بعيدًا! فالأشخاص الذين ينكرون أنّ الهدف الغائى والنتيجة المرجوّة من القيام بالأعمال والتكاليف الظاهرية هى المعرفة الإلهية وعرفان الحقّ تعالى، وقنعوا أن تكون هذه الأعمال فقط وفقط لمجرّد إسقاط التكليف وبراءة الذمّة الظاهرية، فسعوا وطلبواالمراتب الدنية من النِعم الإلهية في الجنّة، يجب عليهم أن يعلموا أنّهم خسروا خسارةًفادحةً، واستعاضوا عنإكسير السعادة والفلاح الأبدى بزجاجاتٍ وبلّوراتٍ مقلّدةٍ غير أصليةٍولا قيمة لها.

  • زاهد از تو حور مى خواهد قصورش بين‌***به جنت مى گريزد از درت يا رب شعورش بين‌۱
  • [يقول: الزاهد يريد منك الحور العين فانظر إلى قصوره! وهو يسرع إلى الجنة تاركاً بابكيا رب فانظر كم هو شعوره!].

  • گداى كوى تو از هشت خلد مستغنيست‌***اسير بند تو ازهر دو عالم آزاد است‌٢
    1. منتخب من إحدى غزليّات فروغي بسطامي.
    2. ديوان حافظ الشيرازي، ص ٢۸.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

50
  • [يقول: المستعطى في حيكيا رب مستغن عن جنان الخلد الثمانية، والمقيد بغلال حبّك حرّ فيكلا العالمين‌].

  • * * *

  • فكر بهشت و حورى و غلمان كجا كند***دلداده عاشقى كه نگارش برابر است‌
  • [يقول: ماذا يفعل العاشق بالجنة والحور والغلمان؟ فما يعطى قلبه أعلى منها بدرجات‌].

  • فكما أنّ عدم الاعتناء بالتكاليف الإلهية موجبٌ لسخط الله عزّ وجلّ وغضبه وإبعاده، وموجب للحرمان من الفيوضات المعنوية، كذلكعدم الاعتناء بالحيثية المعنوية والتكاملية لأحكام الشريعة، والتى هى العِرفان الحقيقى لحضرة الحق المتعال، موجبٌ لإهدار الاستعدادات وإهراق رأس مال الوجود الإنسانى لتحصيل ونيل مراتب الفعلية والكمال، وسيكون صرف رأس مال العمر ونعمة الحياة حينئذٍ بدون فائدة.

  • لذلكنرى أنّ الفطرة والوجدان يظلّان في حالة من البحث والتحقيق عن عالم السكينة والاطمئنان والتكامل النفسى والعرفان الإلهى؛ فيشرعان من خلال العقل الفطرى والضمير المرتبط بعالم المعنى بالسير في مراتب المعرفة الشهودية والإحساس القلبى والوجدانى لعالم الوجود، ويبدءان برفع كلّ ما يعيق سيرهما وتحييد جميع الموانع، وإبعاد كلّ الظواهر الصارفة عن التوجّه نحو المعنويات وسحقها تحت الأقدام؛ سواءً الرفاهية الدنيوية، أم التطوّر التكنولوجى، أم ترقّى العلوم المادية والاجتماعية، ويعرض كذلكعمّا تلوثّت به الأديان جميعًا من الخرافات والوساوس النفسانية والشيطانية بواسطة المدارس الإلحادية، ومدارس الفكر المادى، عمّا طرأ على الأديان‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

51
  • الإلهية بشكلٍ أعمّ من اليهودية والنصرانية والإسلام، وكذلك الأديان الغير الإلهية والتيأضاعت نفسها.

  • دور العقل وحجيته في تشخيص الحقّ‌

  • وفي هذا السياق فإنّ كلّ مسيرٍ وطريقٍيمكنه أن يوضّح للإنسان السبيل للوصول نحو هذا الهدف الغائى في إطار حدوده الوجودية، ويمكنه من تحصيل وإدراك نصيبه من نبع المعرفة، فإنّه يتصف بالحجّية والكاشفية، والإنسان ملزمٌ باتّباعه والانقياد له، كما أنّ كلّ تكليفٍيندرج في سياق هذا المقصد، يكون ممضىً في نظر الشارع، وكلّ عملٍيوجب بُعد الإنسان عن الوصول إلى الغاية سيكون ممنوعًا.

  • فحجية العقل القائمة على أساس البراهين المنطقية إنّما تعود إلى هذا الملاك. فالعقل وُضع في فطرة الإنسان وسجيته بعنوانه الوديعة الإلهية التى تُوجب تشخيص الحقّ من الباطل وتميز الواقع من المجاز، وتفرز الأصول والمبانى من الاعتبارات. وهو بذلكيجعل مسير حركة الإنسان نحو عالم الحقائق والمعرفة والكمال واضحًا و بينًا؛ فالإنسان بدون القوّة العاقلة لا يتفاوت مع الحيوان أى تفاوت، ولازم الفصل الحقيقى للإنسان هو وجود مقولة العقل في ذاته وفطرته.

  • بعض الشواهد الشرعية على حجية العقل‌

  • إنّ الحركة في مسيرة الاعتدال في جميع الأبعاد، سواءً الشخصية منها أم الاجتماعية أم الإلهية، ستكون أمرًا ممتنعًا ومستحيلًا بدون الاستفادة من القوى العاقلة؛ فالمجتمع الذى لا يعتنيبهذه الموهبة الإلهية ضمن تشريعه للأنظمة وسنّ القوانين، سيكون مجتمعًا حيوانياً بعيدًا كلّ البعد عن الإنسانية.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

52
  • لذلك نجد جميع الكتب السماوية وبالخصوص القرآن الكريمتدفع المجتمع والأمّة مِن خلال التأكيد على هذه المسألة الحياتيةنحو الاهتمام بالرقى والتعالى، وتُرغِّبهمباتّباع الأوامر الإلهية، حيث نرى أنّ القرآنيتحدّث عن أصل إثبات الصانع فيقول:

  • {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا}۱؛

  • أو الآية الشريفة: {لإِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ}٢؛

  • أو آية: {وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}٣؛

  • كما أنّه في موضوع حجية القرآن وانتسابه للّه عزّ وجلّ، يقول تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‌ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}٤.

  • كذلك الآية الكريمة: {وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}٥ ومثلها الآية: {أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‌ قُلُوبٍ أَقْفالُها}٦.

  • هذا بالإضافة إلى الكثير من الآيات التى ورد فيها عبارة: {أَ فَلا يَعْقِلُونَ}۷، أو قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}۸، أو

    1. سورة الأنبياء (٢٢)، صدر الآية ٢٢.
    2. سورة آل عمران (٣)، الآية ۱٩۰.
    3. سورة لقمان (٣۱)، الآية ٢٥.
    4. سورة الإسراء (۱۷)، الآية ۸۸.
    5. سورة النساء (٤)، مقطع من الآية ۸٢.
    6. سورة محمّد (٤۷)، الآية ٢٤.
    7. سورة يس (٣٦)، ذيل الآية ٦۸.
    8. سورة الزمر (٣٩)، مقطع من الآية ٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

53
  • عبارة: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}۱ وأمثالها، والتى تعتبر العقل مُشخِّصًا للحقّ ومعيناً لمسير الحركة ومحدِّدًا لاتجاه الإنسان نحو الرقى والتكامل.

  • إنكار حجية العقل إنكارٌ لحجية كلام الأنبياء

  • وبشكلٍ عامٍّ، بدون هداية العقل سيكون من الممتنع السير والحركة بشكلٍ معتدلٍ. ولن يكون هناك أى مفهومٍ لحجية كلام الأنبياء الإلهيين والرسل؛ لأنّ إثبات الحجية إنّما تمّ وثبتَ من خلال البرهان العقلى، ومع انهيار هذا الصرح فلن يكون هناك أية قيمةٍ لإرسال الرسل وإنزال الكتب.

  • لقد بُعث الرسل الإلهيين إلى الناس بوصفهم «العقل المنفصل»؛ وذلك لكييقوموا - بواسطة اتصالهم بعالم الغيب - باستكمال عقل الإنسان وترقيته، ومن أجل تنمية براعم الفعلية الكامنة في هذا العقل؛ والعقل - باستخدامه البراهين المنطقية المتولّدة من حقيقته الجوهرية - يرى أنّ اتّباعهم والانقياد لهم واجبٌ، وأنّ مخالفتهم حرامٌ؛ وكلّما تحرّك الإنسان منقادًا لهذه العقول المنفصلة، فإنّ فعليته ورقيه العقلانى سيزيدان تبعًا لذلك، حتّى يبلغان الحدّ الذييصبح فيه مُلْحقًا ومتّحِدًا بعالم العقول، فيصبح مستَنيرًا وملهَماً بشكلٍ مباشرٍ من النفس الجوهريةالتى له، وذلككما نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام في روايةٍ عجيبةٍ جدّاً تتناول هذا الموضوع، حيث قال:

  • «لَا تَحِلّ الفُتْيا لِمَنْ لَا يسْتَفتِى مِن الله عَزَّ وَجَلّ بِصَفَاءِ سِرِّهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ وَعَلَانِيتِهِ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ»٢

    1. سورة الروم (٣۰)، مقطع من الآية ٢۱.
    2. مستدرك الوسائل، ج ۱۷، باب ۱٥، باب نوادر ما يتعلّق بأبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به؛ بحار الأنوار، ج ٢، ص ۱٢۰، باب ۱٦: النهي عن القول بغير علمٍ والإفتاء بالرأي وبيان شرائطه، نقلًا عن مصباح الشريعة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

54
  • فهذه المرحلة التييشير إليها الإمام عليه السلام هيعبارةٌ عن اتصال «العقل الجزئى» والساذج بـ «العقل الكلى» واتحاده به، والاستنارة من عالم القدس والمشيئة.

  • يعرِّف الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وهو الإمام السابع للشيعة هذه الموهبة والوديعة الإلهية ويبين مقدار أهميتها في تكامل الإنسان، فيقول:

  • «إنّ الله تَبَارَك وَتَعَالَى أَكمَلَ لِلنَّاسِ الحُجَجَ بِالعُقُوْلِ وَنَصَرَ النَّبِيينَ بِالبَيانِ وَدَلَّهُم عَلَى رُبُوبِيتِهِ بِالأَدِلّةِ، فَقَالَ:

  • {وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}۱ و٢

  • ثمّيكمل الإمام عليه السلام، فيقول:

  • «مَا بَعَثَ الله أَنْبِياءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادَهُ إلّا لَيعْقِلُوا عَنِ اللهِ فَأَحْسَنُهُم استِجَابَةً أَحْسَنُهُم مَعْرِفةً، وَأَعْلَمُهُم بِأَمْرِ اللهِ أَحْسَنُهُم عَقْلًا، وَأَكمَلُهُمْ عَقْلًا أَرْفَعُهُم دَرَجَةً في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ»٣

  • يوضّح الإمامفيهذه الفقرات أنّ المِعيار في إحراز المرتبة التكاملية والتقرّب إلى الله ومعاينة عالم الغيب، إنّما يقاس بمقدار تكامل العقل، وأنّ‌

    1. سورة البقرة (٢)، الآيتان: ۱٦٣ و ۱٦٤.
    2. الكافي، ج ۱، ح ۱٢، كتاب العقل والجهل؛ بحار الأنوار، ج ۱ ص ٢٩، ۱٣٢، باب ٤، علامات العقل وجنوده.
    3. الكافي، ج ۱، ص ۱٦، كتاب العقل والجهل؛ بحار الأنوار، ج ۱، ص ۱٣٦ و ۱٣۷، الباب ٤، علامات العقل وجنوده.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

55
  • تعيين درجات الكمال الإنسانى في عالم الآخرة سيكون تابعًا لتكامله العقلانى، وأنّ معرفة الله عزّ وجلّ إنّما تكمن في طى مدارج الفعلية العَقلانية للإنسان.

  • مِن هنا نعرف مقدار الجهل والضلالة التى وقع فيها أولئك الذين عمدوا إلى تخطئة العقل وتنكروا لنتائجه المنطقية وبراهينه الفلسفية، والحال أنّنا نرى أنّ عظماء الدين وحاملى لواء الشرائع الإلهية يرون أنّ الحقيقة الوجودية للإنسان تكمن في تكامله العقلى، ويعتبرون أنّ القرب من الله عزّ وجلّ مرهونٌ بمقدار معرفته عن طريق ارتقاء الإنسان لمراحل العقلانية.

  • أهمية بحوث الفلسفة والعرفان النظرى لطالبى الهداية

  • إنّ العظماء من الحكماء الإلهيين والفلاسفة الإسلاميين، قد تحمّلوا شتّى أنواع المشقّات والصعوبات بغية الوصول إلى هذه الدرجة والمرتبة من الفعلية، وتحمّلوا السُبَاب والكلام القبيح غير المتزن من الجهّال والبُلهاء، وكان كلّ ذلك في سبيل نشر العلوم المتعالية الإلهية وكشف عوالم المعرفة المجهولة، لتصبح ميسّرةً لطلاب الهداية والباحثين عن عالم القُرب.

  • إنّ معرفة حقيقة عالم الوجود وكشف الأسرار الكامنة فيه، وشهود مراتب الأسماء والصفات لحضرة الحقّ، وكيفية ربط ذات الخالق بعوالم الإمكان، وفي آخر المطاف معرفة كيفية ارتباط الإنسان بمبدأ الوجود ومعرفة الجوهر الوجودى للإنسان، ومسانخته لمبدأ الخلقة، وإدراك حقيقة الخلافة الإلهية، وكيفية رجوع الإنسان إلى ذات الله عزّ وجلّ، وكشف أسرار عالم الوجود، وارتقاء الإنسان في المراتب المختلفة للسير والسلوك إلى الله والوصول إلى حقيقة ذات واجب الوجود والفناء في حقيقة وهوية حضرة الحق، والاندكاك في مرتبة الأحدية، ثم البقاء بالله في السير في عوالم الأسماء

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

56
  • والصفات، والتى هى أعلى وأرقى مراتب التكامل الوجودى الإنسانى؛ كلّ ذلك مرهون بأكمله بإدراك العرفان النظرى والقضايا الفلسفية والمبانى الحِكمية للفلسفة والعرفان الإسلامى.

  • إنّ علماء الشيعة المعروفين ومفاخر العالم الإسلامى، أمثال: أبو عليابن سينا والفارابى والملا صدرا الشيرازى، ومحيى الدين بن عربى، وصدر الدين القونوى، وشهاب الدين السهروردى ومولانا جلال الدين البلخى، وحافظ الشيرازى، وابن الفارض المصرى، وسائر العظماء من العرفاء وفلاسفة الإسلام، بالأخصّ المتأخّرين منهم؛ مثل المرحوم الآخوند الملا حسين قلى الهمدانى، والحاج الملا هادى السبزوارى، والسيد على القاضى، والعلّامة الطباطبائى، والعلّامة الطهرانى وغيرهم، هؤلاء قضوا أعمارهم كاملةً لأجل الوصول إلى هذا الهدف العالى، وقد تمكنوا من إزاحة ستائر الجهل والوهم ستاراً بعد ستار بواسطة بذل سنواتٍ متماديةٍ من الجهد العِلمى والسلوك العَملى، حتّى وصلوا إلى القُلل الرفيعة للمعرفة والشهود.

  • لذلك فإنّ المنهج الفكرى الذييبعد العقل والفلسفة وينحّيهما جانبًا، يكون قد حرم نفسه من أثْمَن موهبةٍ إلهيةٍ، ومن أعظم ظاهرةٍ فيعالم الوجود، و هيأ لنفسه أسباب الدخول في الضلالة والباطل.

  • بعض دعاوى مدرسة التفكيك حول العقل والفلسفة والردّ عليها

  • لقد ورد في هذه الأيام إلى السوق مذهبٌ فكرييدعى بـ «التفكيك»، يدّعيهذا المذهب قصور القوّة العاقلة البشرية في تمييز الحقّ من الباطل، وعدم قدرتها على كشف حقائق عالم الوجود والوصول إلى معرفته، لذلك أنكر أصحاب هذه المدرسة حجية العقل - الذى هو أعجوبة عالم التكوين-

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

57
  • وقلّلوا من فائدته، وأنكروا هذا الأصل المسلّم في نظام خِلقة الإنسان، وأودعوه في دائرة النسيان، وأخرجوه من حيز الانتفاع.

  • إنّ مدّعى هذا النهج المُنحرف، فضلًا عن كونهم لا يمتلكون حتّى طرفًامن المبانى الفلسفية والقياسات البرهانية العقلية ولم يشمّوا حتّى رائحتها، هم كذلكعاجزون حتّى في العلوم الإسلامية الأخرى عن الوصول إلى المعرفة الصحيحة وإدراك حقائق الشرع المبين، فهم بعيدون كلّ البعد عن الفهم الصحيح.

  • الدعوى الأولى: مجال العقل هو المعرفة السطحية في العقائد فقط

  • يعتبر هؤلاء أنّ مجال العقل مختصٌّ بالأمور الجزئية، وأنّ العقل إذا وصل إلى معرفةٍ ابتدائيةٍ سطحيةٍ للمبدأ الأعلى (الله تعالى)، ولنبيه الأكرم، فإنّ دوره قد انتهى، وينبغى أن يترك نسيا منسيا بعد ذلك، إذ لا أثر له بعد ذلك في تكامل البشر والدرجات المعنوية ولا في السلوك العلمى والاعتقادى للإنسان.

  • هذا المنهج هو مثل الأشاعرة الذين جعلوا معيار الحجية وملاكها مبنياً على أساس التعبّد فقط لا غير، دون أى نوعٍ من أنواع الفهم والإدراك والشعور نحو القضايا والمفاهيم الراقية للمعرفة وعالم الوحى والتشريع.

  • الجواب الأوّل: هذا المنهج يفقد العبادة روحها وباطنها.

  • ففي هذا المنهج يكون مقدار معرفة الإنسان للمعارف الإلهية وللذات المقدّسة للحقّ محدودًا فقط بإدراك التكليف العامى، والقيام بالأعمال الظاهرية لا غير؛ وليس هناك أى التفاتٍ أو اهتمام بتوجّه الإنسان نحو الحقيقة وباطن العبادة، التى هى الرابط الذييربط الإنسان بذات الله المتعال، تلك الحقيقة التى تتشكل من واقعية العبودية وخضوع العبد في مقام الطاعة والانقياد للمولى‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

58
  • ولربّ الأرباب، والتى لا تحصل بدون الإدراك الصحيح والمعرفة الواقعية للمولى،

  • فبدونها يكون أداء الأعمال والقيام بالتكاليف مثل القشرة التيتفتقد للّب وحقيقة العمل.

  • الجواب الثانى: مخالفة هذه الدعوى لما وردنا عن الشارع المقدّس‌

  • قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}۱ وكذلك‌ {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‌ مِنْكُمْ}٢ فهل المعرفة التييؤدّى بها الفرد العادى عبادةً من العبادات بحسب رتبته ونظرته وتحصيله ومعرفته مساويةٌ من حيث الإطاعة للكيفية والمعرفة والتحصيل الذييتمتّع به نبى من الأنبياء أو الإمام المعصوم عليه السلام؟! هل يمكن عدّ الصلاة التى تُراعى في تأديتها مجرّد الأحكام الظاهرية وصحّة القراءة والاعتناء بمخارج الحروف بقصد الامتثال للأمر وإسقاط التكليف، مساويةً للصلاة التييتمّ خلال أدائها سحب السهم من قدم مولى المتقين، دون أن يشعر به؟! هل العبادة الحاصلة والمبنية على أساس المعرفة العامية، ومعرفة العوام للذّات الأحدية وللأسماء والصفات، متساويةٌ مع عبادة من يقول فيها:

  • «لمْ أَعْبُدْ رَبًا لَمْ أَرَهُ‌ (أى: لم تره عينُ قلبى وضميرى الواعى)»٣، وهل سيعطى كلٌّ منهما نفسَ المنزلة والرتبة القيمة عند الله عز وجل؟!

    1. سورة فاطر (٣٥)، مقطع من الآية ۱۰.
    2. سورة الحج (٢٢)، صدر الآية ٣۷.
    3. لقد استشهد المرحوم العلامة آية الله الوالد المعظّم رضوان الله تعالى عليه بهذا الحديث الشريف في كتابه الشريف «معرفة الله»، الجزء الثاني، الصفحة ٩٥، في ذيل الأبحاث ۱٦ إلى ۱۸، وذلك ضمن هذه العبارة: «لم أكُ بالذي أعبد ربّاً لم أره»، وقد ذكر في حاشية الموطنالمذكور أنّه عن: «مستدرك نهج البلاغة»، ص ۱٥۷، الباب الثالث، منشورات مكتبة الأندلس‌بيروت، واستند عبد العليّ كارنغ مستشهداً بذلك في كتاب «اثبات وجود خدا إثبات وجود الله» في التعليقة في ص ٥، خلال ترجمة مقالة: «هل للعالم خالق؟» بقلم الدكتور دمرداش، عبدالمجيد سرحان أخصّائي العلوم التربويّة.
      وذُكر الحديث أعلاه في «مفاتيح الإعجاز» شرح «گلشن راز» ص ٥۷، طبعة منشورات المحموديّ، على الصورة التالية: سأل ذِعلب اليمانيّ الإمام عليّ المرتضى عليه السلام: «أفَرَأيْتَ رَبَّكَ؟! فأجاب: أفَأعْبُدُ مَا لَا أرَى؟ ثمّ قال: رَأيْتُهُ فَعَرَفْتُهُ فَعَبَدْتُهُ؛ لَمْ أعْبُدْ رَبَّاً لَمْ أرَهُ! (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)». (الآية الأخيرة، من السورة ۱۸: الكهف).

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

59
  • هل كلام رسول الله عندما يقول: إنّ معيار قرب كلّ إنسان إلى الله هو بمقدار مرتبة فهمه ومعرفته للّه عزّ وجلّ‌۱، إشارةٌ إلى هذه العقول الناقصة؟! وإلى هذا الفهم القاصر والمعرفة العامية للأشخاص العاديين؟!

    1. إشارة إلى ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم حيث قال: «يَا عَلِيّ! إذا تَقَرَّبَ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ، فَتَقَرَّبْ أنْتَ إِلَيْهِ بِالعَقْلِ حتى تَسْبِقَهُمْ». (راجع: الوافي، ج ۱، ص ۱۰۱ و ۱۰٢)؛ وقد أورد الغزّاليّ في «إحياء العلوم»، ج ٣، ص ۱٤ هذا الحديث: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ إلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ البِرِّ، فَتَقَرَّبْ أَنْتَ بِعَقْلِكَ». وُروي في «إحياء العلوم» ج ٣، ص ٣٥٣، عن أبي الدرداء: «إنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَحِجُّ وَيَعْتَمِرُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَغْزُو في سَبِيلِ اللهِ وَيَعُودُ المَرِيضَ وَيُشَيِّعُ الجَنَائِزَ وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَلَا يُعْلَمُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّمَا يُجْزَى عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ.
      وَقَالَ أنَسٌ: أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ‌ [وَآلِهِ‌] وَ سَلَّمَ فَقَالُوا خَيْراً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ‌ [وآلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: كَيْفَ عَقْلُهُ؟! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَقُولُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَفَضْلِهِ وخُلْقِهِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ عَقْلُهُ؟؛ فَإنَّ الأحْمَقَ يُصِيبُ بِحُمْقِهِ أعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الفَاجِرِ، وَإنَّمَا يُقَرَّبُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.
      وينقل العلّامة الطهراني قدّس سرّه في كتابه «معرفة الإمام»، ج ٥، ص: ۱۷۷ روايةً تناسب هذا المعنى عن العلامة الأميني في كتابه الشريف «الغدير»: في كتاب زيد الزَرَّاد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «يَا بُنَيّ اعرف مَنَازلَ شيعَة عَليّ على قَدر روَايَتهم وَ مَعرفَتهم، فَإنَّ المَعرفَةَ هيَ الدّرَايَةُ للرّوَايَة؛ وَ بالدّرَايَات للرّوَايَات يَعلُو المُؤمنُ إلى أقصَى دَرَجَة الإيمَان. إنّي نَظَرتُ في كتَاب عَليّ عليه السَّلَامُ فَوَجَدتُ فيه: إنّ زنَةَ كُلّ امرئٍ وَقَدرُهُ مَعرفَتُهُ؛ إنّ اللهَ يُحَاسبُ العبَادَ على قَدر مَا آتَاهُم منَ العُقُول». (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

60
  • الجواب الثالث: أنّ فيه سدّاً لطريق التكامل وتعريضه لمستنقع الشبهات‌

  • ففي منهج «التفكيك»: بدلًا من الاستفادة من العقول للاستنارة من المبادئ المنفصلة والاتصال بعالم الأنوار، يدعى إلى تعطيل العقل وإبطاله واضمحلاله وخموله؛ وبالتالى الاكتفاء بذلك الاعتقاد البسيط والابتدائى بالصانع الأوّل وبمبادئ عالم الخلق وبإرسال الرسل، فيسدّون بذلك طريق العروج إلى مدارج الكمال وارتقاء القُلل الرفيعة للمعرفة ومراتب الفعلية بشكلٍ تامٍّ! ولكنْ لنا أن نسأل حينئذٍ: ما هى قيمة المعرفة الإنسانية والطاعة والانقياد العمليين فيما لو كانت ستتزلزل أمام الشبهات أو تنهار عند طروّ اعتراضٍ أو إشكالٍ واحدٍ، فتمسى هباءًيذروه الرياح؟!

  • إنّ تعطيل العقل والبراهين الفلسفية على حقائق عالم الوجود، في مدرسة «التفكيك»، يعنى عمليا الحكم بلغوية هذه الظاهرة الإلهية العجيبة في ناموس عالم التكوين وعبثيتها؛ تلكالظاهرة التى تستطيع أن توصل النفس الناقصة والروح الآدمية المتحيرة من حضيض الذلّة والجهالة والتوهُّم والتخيل إلى أعلى مراتب اليقين والمعرفة والإدراك الواسع لأسرار عالم التكوين ونظام الخلق ومبادئه.

  • الدعوى الثانية: رفض الفلسفة لنشأتها عند اليونان‌

  • إنّ تعطيل الفلسفة والحكمة المتعالية - تمسّكا بتلك الحجّة الواهية وهى أن نشأتها كانت في أحضان مدرسة اليونان القديمة - كاد أن يكون وصمة عارٍ من شأنها أن تلوّث ثوب الطهر والعصمة للشريعة الإسلامية.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

61
  • الجواب الأوّل: أنّ الفلسفة عضدت تعاليم الشرع بالعقل ولم تعارضه‌

  • إنّ ظهور الفلسفة والحكماء ذوى المقام العالى في مدرسة الإسلام، وما قاموا به من إثبات الحجية والاستدلال على تعاليمالشرع المطهر والوحى الإلهى بالبراهين الفلسفية والدلائل الكلامية، وكشف الستار عن سرّ عالم الوجود، وإثبات المبدأ الأعلى وصرافة وجود حضرة الحقِّ وتوحيده، كلّ ذلك بأفضل برهانٍ وأكمل بيانٍ وأتقن دليلٍ، لم يتركمكانًا لشبهة خنّاسٍأو لوسوسة أحمقٍ؛ ممّا جعل المدرسة الفلسفية اليونانية، والتى هى مهد الفلسفة الغربية فيأيامنا هذه، تمدُّيدَ العوز والحاجة إلى القبّة الشامخة والبناء المشيد للحكمة المتعالية الإسلامية، ملتمسةً الاستفاضة من أنوارها الساطعة ومن بركاتها العظيمة وطالبةً الاكتساب من فيضها والاستنارة بها.

  • الجواب الثانى: اختلاف الفلسفة الإسلامية عن الفلسفة اليونانية جذريا

  • كما أنّ الفلسفة اليونانية بعدما وردت إلى حوزة المعرفة الإسلامية، وإلى ساحة العلم بمبانى الوحى، وإلى الكلمات الصادرة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام حملة لواء مدرسة التشيع، حصل فيها تحوّلٌ جوهرى، وتبدّلٌ ماهوى، وتغييرٌ جذرى وأساسى، بحيث أنّ هذا الأمر بات واضحًا لا يناقش فيه أحدٌ في حوزة العلم ودراسة الفلسفة وتدريسها.

  • دور الملّا صدرا في تطوّر الفلسفة الإسلامية

  • فمع ظهور الحكيم العظيم والفقيه صاحب الشأن الرفيع، فخر عالم التشيع صدر المتألّهين الشيرازى، وطرحه المباحث العجيبة والدقيقة في الفلسفة الإسلامية، مثل مسألة «أصالة الوجود واعتبارية الماهية»، و «وحدة الوجود وصرافته»، و «برهان الصدّيقين» على إثبات توحيد الصانع، و مسألة «التشخّص الذاتى للوجود»، تسارعت حركة الحكمة الإسلامية المُتعالية بشكلٍ مدهشٍ عمّا كانت عليه. ثمّ عادت وبُنيت جميع القضايا والمسائل الفلسفية ارتكازًا على تلك الأمور الأصلية المذكورة؛ وحتّى الآن وبعد أكثر من أربعمائة سنةٍ من حياة ذلك الرجل العظيم في عالم الإسلام، والفارس‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

62
  • الأوحد في ركوب عرصة التحقيق، لم يكن لأى مدرسةٍ أخرى حتّى الآن القدرة على مواجهة أو معارضة أصوله ومبانيه، وكلّ مدارس الدنيا العلمية والفلسفية والمعرفية يجب أن تُخضع رأسها مستسلمةً لساحة هذه العتبة المقدّسة، لتقطف من عناقيد علومه الإلهية وخصلها.

  • استمداد الملّا صدرا فلسفته من الذوات المقدّسة لأهل البيت عليهم السلام‌

  • إنّ صدر المتألّهين الشيرازى من حيث كونه فقيهًا عالى المقام، ومفسّرًا عظيم الشأن، ومحدّثًا خبيرًا في تضاعيف الروايات، ومتبحرًا في متون الوحى في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، والأهم من ذلك أنّه كان رجلًا نزيهًا ومسلّحًا بالتهذيب النفسانى والأدب السلوكى والمراقبة والمكاشفات الروحانية، وحائزًا للحالات الروحية والمعنوية، وعلى رأس كلّ تلك الأمور كان رجلًا متولّياً بكلّ وجوده لأهل بيت العصمة والطهارة، وفي نهاية الخلوص والصدق والتسليم لهم؛ وقد استطاع بعنايات الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام والتوسّل الدائم والمستمر بساحة القدس للأئمّة الأطهار، والسكن بجانب السيدة المطهرة حضرة فاطمة المعصومة سلام الله عليها، والاستمداد من الروح المقدّسة لسيدة كلا العالمَين، مادًّايد الحاجة نحو عناياتها وبركات نفسها الملكوتية؛ واستطاع بذلكأن يجعل الفلسفة الإسلامية منطبقةً مع جميع موازين الوحى، ومنسجمةً مع الكلمات الواردة من أولياء الأمر، فاعتلت مبانى الفلسفة لتتربّع على آخر قُلةٍ من القلل الرفيعة للمعرفة والفهم، فكانت ثمرة هذه الولاية والتوسّلات بهذه العتبة المقدّسة عبارةً عن النتائج الربانية والملكوتية لفكره الرشيق، والواردات الإلهية النازلة على قلبه المنوّر وضميره المضى‌ء.

  • حديث الملا صدرا الشيرازى عن كيفية هداية الله له وإرشاده إياه.

  • وفي هذا المجال يشير الملا صدر الدين الشيرازيبقلبٍ مطمئنٍّ ويقينٍ رفيعٍ وضميرٍ هادئٍ منوّرٍ بالأنوار الإلهية إلى هذه النعمة العظمى والفلاح‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

63
  • الأبدى والهداية والإرشاد الإلهيين الواردين، فبعد أن بين المرحوم صدر المتألّهين شيئًا من الظلم والانتهاك الذى حلّ بالساحة المقدّسة للعلم والمعرفة والحكمة الإسلامية وبالعرفاء ذوى الشأن الرفيع، من قبل الكثير من الحمقى والجهلاء، ولم يكن هو أيضًا بمعزلٍ عن هذه الأحداث، وبعد استعراضه لمجريات ذلك، عكف على بيان كيفية سلوكه مع العوام والعلماء الجهلة، وثمرات الرياضات والتوسّلات والمراقبات العرفانية والاستفادة من المبانى الفلسفية الرشيقة، فقال:

  • «فكنتُ أوّلًا - كما قال سيدى ومولاى ومعتمدى أوّل الأئمّة والأوصياء وأبو الأئمّة الشهداء الأولياء، قسيم الجنّة والنّار - آخذًا بالتقية والمُداراة مع الأشرار، مخلًّا (أيمتخليا) عن مورد الخلافة، قليل الأنصار مطلِّق الدنيا (إلى الأبد تاركا إياها لأهلها)، مؤثرًا الآخرة على الأولى، مولى كلّ من كان له رسول الله مولى وأخوه وابن عمّه ومساهمه في طمّه ورمّه‌ (أيشريكه في جميع المواهب الإلهية والفيوضات الربانية):

  • " طَفِقْتُ أَرْتَأى‌ (وبقيت مترددًا) بَينَ أَنْ أَصُوْلَ‌ (وأحارب هؤلاء القوم الجاهلين والعلماء عديمى البصيرة وأهل الدنيا والأوهام والشهوات) بِيدٍ جَذّاءَ (مكسورةٍ) أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْيةٍ عَمْياءَ (وعلى هذا الزمن المظلم الكدر بالعصبية والجهالة)، يهْرَمُ فِيهَا الكبِيرُ (ويعيا فيه الرجل المجرّب الخبير) وَيشِيبُ فِيهَا الصَغِيرُ (فيبلغ به سن الشيخوخة والفناء) وَيكدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ‌ (ويلقى المشقّة والتعب) حَتَّى يلْقَى رَبَّهُ‌".

  • فصرتُ ثانيا عنان الاقتداء بسيرته‌ (فوجّهت زمام أمورى نحوه وجعلته أسوةً لى ومقتدى) عاطفاً وجه الاهتداء بسنّته (فاخترت‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

64
  • سنته ومنهاجه)" فَرَأيتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتِى‌ (المصيبة والمشكلة) أَحْجَى‌ (وأولى)، فَصَبَرْتُ وَفي العَينِ قَذَى وَفي الحَلْقِ شَجَى‌"، فأمسكت عنانى عن الاشتغال بالناس ومخالطتهم‌ (وقطعت ارتباطى بهم وحرّمته على نفسى)، وأيست عن مرافقتهم ومؤانستهم، وسهّلت على معاداة الدوران‌ (والدهر) ومعاندة أبناء الزمان، وخلصت عن إنكارهم وإقرارهم‌ (وتخلّيت عن محاربتهم) وتساوى عندى إعزازهم وإضرارهم، فتوجهت توجهًا غريزيا (من أعماق قلبى) نحو مسبّب الأسباب‌ (ومبدأ الوجود) وتضرّعت تضرّعًا جبليا (من باطن القلب والفطرة) إلى مسهّل الأمورالصعاب، فلمّا بقيت على هذا الحال من الاستتار (عن أعين الأغيار والجهال) والانزواء والخمول والاعتزال‌ (مشغولًا بتزكية النفس) زمانًا مديدًا وأمدًا بعيدًا، اشتعلت نفسى لطول المجاهدات اشتعالًا نورياً (وانبعثت أنوار عالم الغيب منها واشتعل صدرى بنار طور سيناء ونار الشوق والوصال. وفي النهاية، أثّر استمرار المراقبات الشرعية أثره وفعل فعله دفعةً واحدةً) والتهب قلبى‌ (في عشق الحقّ) لكثرة الرياضات التهابًا قويا (وانتهى إلى حالٍ من التلاطم نفذت معها طاقتى في الصبر على الفراق).

  • (عندها تداركتْ نفسى عنايةُ حضرة الحقّ) ففاضت عليها أنوار الملكوت وحلّت بها خبايا (وأسرار) الجبروت ولحقتها الأضواء الأحدية (القاهرة فأخذتنى وجذبتنى إليها)، وتداركتها الألطاف الإلهية (الخفية) فاطّلعت على أسرارٍ (من حقائق عالم الوجود) لم أكن أطّلع عليها إلى الآن، وانكشفت لى رموزٌ (ومسائل من خفايا حقائق الوجود وذات الله) لم تكن منكشفةً هذا الانكشاف من البرهان،

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

65
  • بل كلّ ما علمته من قبل بالبرهان عاينته مع زوائدٍ (ولطائفٍ) بالشهود والعيان، من الأسرار الإلهية (التى لا يمكن التعبير عنها)، والحقائق الربانية (وواقعيات نظام عالم الخلقة) والودائع اللاهوتية (التى لا توصف) والخبايا الصمدانية (من الآثار والأسماء والصفات، حينئذٍ وصل عقلى بواسطة أنوار الحقّ إلى مرتبة فعليته وتكامله، وحلّ سكون الخاطر والاطمئنان الواقعى وانبساط النفس محلّ ذلك التشويش والاضطراب والتردّد) فاستروح العقل من أنوار الحقّ بكرةً وعشيا، وقرب بها منه وخلص إليه نجيا (وكانت تأخذ بى أنوار الحقّ نحو مقام الأحدية، وتسوقنى إلى جوار وقرب حريم أنس حضرة المعبود، وحرّرتنى من ظلمات الجهل والنفاق والكثرات وجعلتنى أستقرّ في حرم أمنه وأمانه) ....۱

  • ومن هنا يتبين أنّ المدرسة التى تحرم الإنسان من حقّ المعرفة إنّما تحرمه - في الحقيقة ومن الناحية العملية - من نصيبه من الإنسانية، وتُخرجه من حيزها.

  • الجواب الثالث: كيف نتعامل مع اختلاف العمق في نصوص الشرع؟!

  • مضافاً إلى ذلك، إذا كنتم تعدّون كلّ نوعٍ من التفكير والتعقّل خارج النصوص الدينية لغوًا وعبثًا فهل المفاهيم والنصوص الدينية كلّها على نحوٍ واحدٍ وبمستوىً واحدٍ من حيث الحقيقة والجوهر؟! هل مباحث النصوص الدينية المتعلّقة بعالم الصورة والمادّة متساويةٌ مع المباحث المتعلّقة بالمجرّدات وما وراء المادّة؟! هل المسائل المتعلّقة بالتكاليف والأعمال الظاهرية من قبيل الطهارة والنجاسة والمعاملات وأحكام الإرث‌

    1. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج ۱، ص ۷ و ۸.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

66
  • والقصاص وما شابهها متكافئةٌ رتبةً وصعوبةً مع الحقائق الواردة عن أهل بيت العصمة في معارف المبدأ والمعاد؟! بأى نوعٍ من المعرفة وبأية درجةٍ من الإدراكيمكن أن تُفهم الروايات والنصوص المأثورة عن مولى المتّقين وأمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة»، التى تتعرّض لأوصاف ونعوت حضرة الحقّ وكيفية ارتباط الأشياء وتعلّقهابه في عالم الوجود؟! وكذلك الأحاديث الواردة في هذا المجال عن أولاده الكرام أئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! هل يمكن إدراكها بنفس هذا المستوى العرفي والعامّى من المعرفة؟!

  • بأى معيارٍ وبأية مرتبةٍ علميةٍيمكن أن تُدرَك الآيات القرآنية التى تتناول توحيد ذات الله وصفاته؟ فإذا همّشنا واستبعدنا صناعة البرهان والمفاهيم الفلسفية عن دائرة إدراك الحقائق القرآنية، فبأى نوعٍ من أنواع المعارف الدينية - سواءًالمعرفة الفقهية منها أم التاريخية أم التفسيرية - يمكن الوصول إلى كنه حقائق هذه الآيات؟! وحينئذٍ هل يمكن للفقهاء الذين لم يطّلعوا على شى‌ء من المفاهيم والدروس الفلسفية أن يوضّحوا ويشرحوا معنى قوله تعالى: {وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ}۱ أو الآية: {هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ}٢ أو الآية: {وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ}٣ أو الآيةالشريفة: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا}٤؟

    1. سورة الحديد (٥۷)، مقطع من الآية ٤.
    2. سورة الحديد (٥۷)، مقطع من الآية ٣.
    3. سورة الزخرف (٤٣)، مقطع من الآية ۸٤.
    4. سورة الأنبياء (٢۱)، صدر الآية ٢٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

67
  • الجواب الرابع: كيف نجيب على الشبهات العقائدية؟

  • وهل يمكن للروايات الفقهية أن تُجيب على شبهات ابن كمّونة۱؟ هل يمكن ردّ الإشكال على وحدة الصانع إلّا من خلال «برهان الصدّيقين» الذى بينه صدر الدين الشيرازى - رضوان الله عليه - والمبتنى على مسألة «أصالة الوجود» و «وحدة الوجود»؟!

  • الجواب الخامس: حجية القطع ذاتية فكيف احتاج إلى إجازة الشرع؟!

  • إنّ المدرسة التفكيكية لفي سباتٍ عميقٍ وغفلةٍ غريبةٍ، تدور في دائرة التوهّمات والتخيلات بعيدًا عن إدراك الحقائق، ولا تدرى إلى أين سينتهى بها المسير؟ فحتّى لو فرضنا أنّ الفلسفة الرائجة الآن في مجامعنا الدينية تحت عنوان «الفلسفة الإسلامية» هى نفس فلسفة اليونان القديمة دون أى تغيير ولا تحوّل، فهل يكون قبول القضايا المنطقية والنتائج العقلية محتاجًا إلى أمرٍ وإجازةٍ من الشارع؟! فهل تتعلمون مسائل الرياضيات والهندسة والبناء والطب والفيزياء والكيمياء بإذنٍ من الشرع؟! هل أُثرت هذه العلوم عن الأئمّة المعصومين؟!

  • إنّ أكثر مواقف الإنسان حماقةً هى حينما ينكر المسائل العقلية المبتنية على البرهان والخالية من المغالطة والسفسطة والجدل والخيال، وذلكلأنّ ما

    1. تعتبر «شبهة ابن كمّونة» من المعضلات العقائديّة التي حيّرت العلماء واستمرّ إعضالها عدّة قرون، حتّى صار يُعبّر عنها - كما في أوّل جزءٍ من الأسفار - بـ «افتخار الشياطين»، ويقول آية الله العظمى الشيخ محمّد الحسين الكاشف الغطاء قدّس سرّه: «سمعنا من أساتذتنا في الحكمة، أنّ المحقّق الخونساري صاحب (مشارق الشموس) الذي كان يلقّب بالعقل الحادي عشر، قال: لو ظهر الحجّة عجّل الله فرجه لما طلبت معجزةً منه إلّا الجواب عن شبهة ابن كمونة». (راجع: جنّة المأوى، ص ٣۱٢ وما بعدها)، ولكن في القرن الحادي عشر، قام الملّا صدر المتألهين الشيرازي بحلّ هذه الشبهة العويصة بعد أن أثبت في بحثه الفلسفي أصالة الوجود، ووحدة الوجود. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

68
  • يشكل تمام حيثية الإنسان الوجودية والماهوية هو القوّة العاقلة والعلم، وهذا الذييميزه عن سائر الحيوانات.

  • الدعوى الثالثة: نقض التفكيكيين بعدم الإجماع على الفلسفة، والردّ عليه‌

  • الجواب الأوّل: العقل حجيته ذاتية وليس الإجماع؟

  • يقولون: المسائل الرياضية عليها إجماع العقلاء ولم يخالف فيها أحدٌ من الناس.

  • والجواب: هل منشأ حجية العقل بالإجماع عليه؟!

  • الجواب الثانى: لماذا القبول بعدم الإجماع في الفقه ورفضه في الفلسفة؟!

  • وعلاوة على ذلك، ألستم تشاهدون الاختلاف في الآراء والتباين في الفتاوى في المسائل الفقهية؟! فهلّا أرشدتمونا إلى اثنين من الفقهاء ضمن هذه المدّة البالغة ألفًا وأربعمائة سنةٍ منذ ظهور الإسلام وحتى الآن قد اتّفقا اتفاقًا تامّاً واتحدا برأى واحدٍ في المسائل الفقهية؟ والحال أنّ مستند جميع الآراء والفتاوى إنّما يبتنى على قضايا الوحى من القرآن والأحاديث الواردة عن الحجج الإلهية من الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، ثمّ حتّى لو كان الراوى قد سمع بنفسه وبشكلٍ مباشرٍ من الإمام عليه السلام، فإنّنا نبقى نحتمل الاشتباه في النقل وتغيير العبارات أو بعض الكلمات الواردة في الخبر والحديث، إلّا أنّنا لا نرتّب على هذا الاحتمال أى أثرٍ، بل نعتبره حجّة ونتّبعه.۱

  • الدعوى الرابعة: لا حجية إلّا للوحى، والجواب عليه‌

  • الشى‌ء الوحيد الذييحوز على الحجّية في المدرسة التفكيكية هو كلام الوحى لا غير، ولكن يجب أن يطرح عليهم هذا السؤال: هل أنّ «ثبوت الحجّية

    1. راجع مبحث حجيّة خبر الواحد في كتب أصول الفقه عند الشيعة. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

69
  • للمفاهيم المتّخذة من الوحى» يعنى: «سلب الحجّية عن غيرها وبطلانها»؟ وأنتم إذا ما أُصِبتم بمرضٍ ما، فهل تقومون بإلقاء الوصفة الطبية وبيان كيفية استعمال الدواء جانبًا، وتمتنعون عن الالتزام بأوامر الطبيب لمجرد كونها لم تصدر عن الشرع؟ أم أنّكم تعملون بأوامر الطبيب - سواءًكان مسلماً أم غير مسلمٍ - وذلك لمجرّد الوثوق والاطمئنان إلى صحّة عمله ومهارته، ملتزمين في هذه المسألة بحكم العقل؟!

  • الدعوى الخامسة: إنكار المكاشفات وحجيتها والجواب عليها

  • والمُدّعى الآخر من المدّعيات السخيفة والباطلة للمدرسة «التفكيكية» هو إنكار الواردات القلبية والمكاشفات الروحانية والنورانية لأصحاب المعرفة والشهود، وإخراجها عن دائرة الحجّية والدلالة.

  • أوّلًا: رأى مدرسة العرفان في إمكانية حصول المكاشفات‌

  • مقدّمة فيكيفية خروج الإنسان من عالم التخيلات والاعتبارات‌

  • لا شك أنّ السالك حينما يتقدّم في سيره التكاملى بشكلٍ واقعى، يخرج من الجزئية والكثرة نحو الكلّية والوحدة۱، وكلّما كانت حركته في هذا السير أقوى وتطوّره في بلوغ المعانى الكلّية أكمل، فإنّ قواه الفكرية والعقلية ستكونان أقرب إلى مراتب الفعلية والإتقان، وسيؤديان إلى خروجه من عالم التخيلات والتوهّمات والاعتبارات؛ وكما أنّ هذه الحقيقة تحقّقت في «مثاله‌

    1. يطلق مصطلحي العلم الكلّي وفي قباله العلم الجزئي على عدّة معانٍ والمراد هنا بالعلم الكلّي: هو العلم الذي لا يتغيّر بتغيّر المعلوم بالعرض، والمراد بالعلم الجزئي هو الذي يتغيّر بتغيّر المعلوم. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

70
  • المتّصل» الذى هو عالم الذهن والتصوّر، فإنّها تترك أثرًا أيضًا على مثاله المنفصل وكذلك على المراتب الأعلى والأرقى كالملكوت وما فوقه؛ بل يمكننا أن نقول بعبارةٍ أوضحٍ: إنّ تبدّل وتغير ذهنه إنّما ينشأ من نفس عالمَى مثاله وملكوته المشار إليهما.

  • ومن هنا يمكن أن نفهم أنّ المرتبة التكاملية والمرتبة الوجوديةلأيفردٍ إنّما تتقوّم من طريقة تفكره وتعقّله وتصوّراته وتصديقاته التى ينطوى عليها ذهنه ونفسه؛ وذلك لأنّ مرتبة الذهن والنفس لا تنفصلان ولا تستقلّان بأى‌وجهٍ من الوجوه عن عالمى مثال النفس وملكوتها، بل إنّ نفس المثال والملكوت الآنفي الذكر ينتقشان ويظهران في ذهنه ونفسه، ولا معنى ههنا للإثنينية والاختلاف.

  • وبمقدار ما يكون الإنسان مكبّلًا بالتخيلات والكثرات ومأسورًا للاعتبارات، فسوف يكون بعيدًا عن عالم القدس وغريبًا عن رحمة حضرة الحقّ، كائنًا من كان هذا الإنسان.

  • جان همه روز از لگدكوب خيال‌***وز زيان وسود وز خوف زوال‌
  • نى صفا مى ماندش نى لطف وفر***نى بسوى آسمان راه سفر۱
  • [يقول: لما كانت الروح فيكلّ يومٍ تقع تحت ضغوط الخيال والتفكير في النفع والضرر وخوف الزوال.

  • لذا فلا صفاءَيبقى لها ولا لطفَولا جلال، ولا طريقَ لهاترحل منه صوب السماء.]

    1. مثنوي معنوي (طبع كلاله خاور)، الدفتر الأول، ص ۱۱، تحت عنوان: سؤال الخليفة ليلى وجوابها إياه.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

71
  • ما هى موانع حصول المكاشفات التوحيدية والتجليات الجمالية؟

  • إنّ إدراك الحقائق الكلّية لعالم الوجود مشروطٌ بصفاء النفس وتزكية القلب، ومرهونٌ ببلوغ مراتب التجرّد، وبدون تحصيل هذه المراتب لن تستطيع النفس الرؤية والمشاهدة، بل ستعيش في عالم المثال الأسفل في دائرة الصور البرزخية سواءً في النوم أم في عالم المكاشفة الصورية في اليقظة. ولا تختصّ هذه الحالة - أى حالة العيش في عالم المكاشفات البرزخية - بالمؤمن المتدين بالأديان الإلهية، بل من الممكن أن تحصل حتّى لغير المعتقدين بالأديان من المرتاضين وغيرهم، بل إنّ التأثير على النفوس والتصرّف بالأرواح والإخبار عن المغيبات والقيام بخوارق العادات أيضاً إنّما تتحقّق بأجمعها في حدود دائرة عالم المادّة.

  • وأمّا المكاشفات التوحيدية والجذبات الجمالية والبوارق الجلالية التى توجب انقطاع النفس عن التعلّق بالغير، وحتّى عن تعلّق السالك بنفسه وذاته، فهى إنّما تتجلّى بشكلٍكاملٍ في عالم التوحيد والنور والتجرّد، وما لم تصل النفس إلى مرحلة التجرّد والانقطاع عن ذاتها من خلال التزكية والتهذيب والمراقبة، فسوف يكون من المحال إدراك هذه المعانى سواءًكان ذلك من خلال المكاشفات التوحيدية أم بواسطة الرؤية الصادقة أو من خلال إعمال العقل الفعّال في النفس العاقلة للسالك.

  • ولذلك نرى عظماء الطريق وكبار العرفاء ذوى الشأن الرفيع وفلاسفة الإسلام يعتبرون أنّ مجرّد الاشتغال بالعلوم العقلية والفلسفية - دون رعاية جانب تهذيب النفس ومراقبتها وتهذيبها والرقّى بها في مراتب الفعلية والتجرّد - غير كافٍ للتكامل ولا وافٍ بهذا الغرض، كذلك الأمر بالنسبة إلى‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

72
  • أداء التكاليف الشرعية والقيام بالواجبات دون الالتفات إلى جهتها المعنوية والباطنية، فجميع ذلك لن يقدّم للمكلّف شيئًا من الترقّى والقرب ولو بمقدار مثقال ذرّةٍ.

  • إنّ الاشتغال بالعلوم الإلهية إنّما يكون مستوجبًا للتكامل والرقى وفتح باب العوالم الربوبية والتوسّط في الإفاضة والإفادة، حينما تكون هذه العلوم توأمًا مع الاتّباع لمفاهيمها ومعانيها وتطبيق نتائجها البرهانية والنورانية، وفي غير هذه الصورة لن يستفيد الإنسان من هذه العلوم شيئًا ولن تعالج فيه وجعًا، بل سيستوجب ذلك ابتعاد النفس عن عالم التجرّد بشكل أكثر، وستحبس النفس في دائرة الأنانية وعبادة الذات، وتتحوّل بنفسها إلى حصارٍ وسجنٍ ذاتى تتلهّى فيه بمكتشفاتها العقلية، وتأخذ بالتلذّذ بتلك المعانى والمفاهيم الكامنة فيها فتصير أسيرةً لها. وهذه القضية مشهودة بوضوح في طريقة تفكير هذا النوع مِن الأفراد وكيفية حركاتهم وسكناتهم وحياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.

  • فالأفراد الذين أصيبوا من خلال العلم والكشف، بهوس العلم وهوس الفلسفة والعرفان، قد أغلقوا فيوجههم طريق الوصول إلى هذه الحقائق، ووقعوا في فخّ الانشغال بهذه المفاهيم وصرف العمر على بحثها ودرسها وإقامة الندوات والمؤتمرات حولها، والتأليف والكتابة عنها ونشرها، وهؤلاء هم أكثر الناس خسرانًا وأشدّهم عجزًا؛ وذلكلأن حصّتهم ونصيبهم الوحيد من الاشتغال بهذه العلوم هو تضييع العمر الثمين وتفويت فرص الأوقات الذهبية، وهدر الاستعدادات وإغلاق نوافذ القلب أمام أنوار جمال حضرة الحقّ وجلاله.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

73
  • {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}۱.

  • يقول المرحوم صدر المتألّهين في هذا المجال:

  • «وليعلم أن معرفة الله وعلم المعاد وعلم طريق الآخرة ليس المراد بها الاعتقاد الذى تلقّاه العامّى أو الفقيه‌ (الذى ليس له نصيب من المعارف الإلهية وحقائق عالم الوجود) وراثةً وتلقّفًا (وتقليدا أعمىً للماضين بدون أى تأمّلٍ وتدبرٍ)، فإنّ المشغوف بالتقليد والمجمود على الصورة لم ينفتح له طريق الحقائق‌ (حقائق عالم ما وراء الطبيعة ومراتب الأسماء والصفات) كما ينفتح للكرام الإلهيين (العظماء من أولياء الله). ولا يتمثّل له ما ينكشف للعارفين المستصغِرين لعالم الصورة واللّذات المحسوسة من معرفة خلّاق الخلائق وحقيقة الحقائق‌ (أولئك العرفاء الذين لم تتعلّق قلوبهم بهذه الدنيا الدنية وغضوا طرفهم عن جميع اللذائذ والأهواء النفسانية، وما هو بالنسبة لأهل الدنيا عظيمٌ وذو شأنٍ، فهو حقيرٌ ولا قيمة له عندهم، واستعاضوا عن حطام الدنيا وزخارفها بمعرفة الذات المقدّسة للبارى فاختاروا الحقّ والحقيقة وسرّ عالم الوجود) ولا ما هو طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحسين المرام كما هو عادة المتكلّم‌ (لأنّه يجعل كل همّته ودقّته في الاشتغال بهذه الأمور، وليس له في نفسه أى أثرٍ من معانيها ومفاهيمها، وكما مرّ سابقًا، بدلًا من الإدراك والتلقّيللمعانى ولحقائق العلوم، فإنّهيتلف وقته في نفس العلم والتحقيق والتفحّص وما يرتبط بذلك من أمثال هذه الأمور)، وليس أيضًا هو مجرّد البحث البحت كما هو دأب أهل النظر وغاية أصحاب

    1. سورة الكهف (۱۸)، الآيتان: ۱۰٣ و ۱۰٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

74
  • المباحثة والفكر، فإنّ جميعها {ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}۱، (وسيبقى طريقه في الظلمات وستبقى أحواله وأقواله ورغبته في عالم الظلمة والأنانية).

  • بل ذلك نوع يقينٍ، هو ثمرة نورٍيقذف في قلب المؤمن‌ (وبه يميز الحقّ عن الباطل، والمجاز عن الواقع، والأصل عن الاعتبار، والنور عن الظلمة، والله من الشيطان) بسبب اتصاله بعالم القدس والطهارة وخلوصه بالمجاهدة عن الجهل والأخلاق الذميمة وحب الرئاسة والإخلاد إلى الأرض (و التوجّه إلى عالم المادّة) والركون إلى زخارف الأجساد.

  • وإنّى لأستغفر الله‌ (الرؤوف الغفور) كثيرًا مما ضيعت شطرًا من عمرى في تتبّع آراء المتفلسفة والمجادلين من أهل الكلام وتدقيقاتهموتعلّم جربزتهم في القول وتفنّنهم في البحث‌ (والحال أنّ أفكارهم غير قائمةٍ على أساسٍ محكمٍ)، حتّى تبين لى آخر الأمر بنورِ الإيمان وتأييدِ المنّان: أن قياسهم عقيمٌ وصراطهم غير مستقيمٍ، فألقينا زمام أمرنا إليه وإلى رسوله النذير المنذر، فكلّ ما بلغنا منه آمنّا به وصدّقناه ولم نحتل أن نخيل له وجهًا عقليا ومسلكا بحثيا، (ولم نسلك بذلك ما سلكه أهل الجدل من تغييرٍ وتوجيهٍ لكلماته عليه السلام) بل اقتدينا بهداه وانتهينا بنهيه امتثالًا لقوله تعالى: {وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}٢، حتّى فتح الله على‌

    1. سورة النور (٢٤)، ذيل الآية ٤۰.
    2. سورة الحشر (٥٩)، مقطع من الآية ۷.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

75
  • قلبنا ما فتح، فأفلح ببركة متابعته (الله ورسوله) وأنجح (بنيل السعادة الأبدية) ...»۱

  • متى تحصل المراتب العرفانية؟

  • إنّ بُلوغ هذه المراتب - وحتّى ما هو أعلى منها ممّا حصل لصدر المتألهين وسائر العرفاء الإلهيين - إنّما يتمّ على إثر تهذيب النفس وتجرّد الروح، والتربية السلوكية والرياضات الشرعية، وبسبب المداومة على الأذكار والأوراد، والابتعاد عن الدنيا وعالم النفس والخيال والكثرة، بالإضافة إلى الانعزال عن عوام الناس والجهّال ممّن وُصِفوا بالعلماء، وعن عديمى العقول والمخالفين للسير والسلوك إلى الله، وبالاشتغال بالنفس وأعمالها وأقوالها وعقيدتها، فضلًا عن التوسّل بالولاية ووساطة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين.

  • ثانيا: الإشكال والنقض على إنكار المكاشفات‌

  • في المدرسة التفكيكية العابثة والتى تفتقد إلى الأساس، لا وجود لأى مرتبةٍ أو منزلةٍ لحركة السالك والمؤمن نحو العالم الربوبى وانكشاف حقائق عالم الوجود، وكأنّه لا قيمة للروايات التى تدلّ على اختلاف مراتب الصحابة وأصحاب النبى والأئمّة المعصومين عليهم السلام!

  • وحينئذٍيطرح هذا السؤال: ما معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله حين يقول:

  • «لَوْ عَلِمَ أَبُوْ ذَرٍّ بِمَا في قَلْبِ سَلْمَانَ‌

  • (من الأسرار والمعانى) لَكفّرَهُ أَوْ

    1. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج ۱، ص ۱۱ و ۱٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

76
  • قَتَلَهُ»۱؟ كيف لا يطيق أبو ذرٍّ سماع المدركات والمشاهدات التى في قلب سلمانَ مع ما له من مقامٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ في الإيمان والقرب؟

  • وكذا الحال في أصحاب الأئمّة؛ مثل: ميثم التمّار، ورشيد الهجرى، وحبيب بن مظاهر الأسدى، وجابر بن يزيد الجعفي، ومعروف الكرخى وبشر الحافي، وسائر أصحاب سرّ أهل بيت العصمة ومحط أسرارهم، فلماذا امتاز هؤلاء عن سائر أصحاب الأئمّة؟ ولماذا لم تكن المشاهدات والمكاشفات والمعانى الواردة على قلوب هؤلاء قابلة للتحمل والقبول؟ فهل إدراك هذه المعانى واكتشاف هذه الأسرار كان منحصرًا فيهم فقط وفقط؛ بحيث يمتنع حصوله للعظماء والأولياء الإلهيين في عصر الغيبة؟! وهل يختلف عصر الغيبة عن عصر الحضور بالنسبة إلى الإمام عليه السلام؟!

  • ثالثًا: كيف نعرف أنّ مكاشفات العرفاء مطابقة لمدرسة أهل البيت؟

  • إن قيل: إنّ المشاهدات التى شاهدها هؤلاء الأصحاب أو أدركوها بالمكاشفات المعنوية كانت متطابقةً مع مبانى ومعتقدات مدرسة أهل البيت، وهذا الأمر ليس محرزًا بالنسبة إلى سائر الأفراد.

  • فالجواب: كيف يمكن لعالم عظيم الشأن كالسيد ابن طاووس أو السيد مهدى بحر العلوم أو السيد على الشوشترى الذى استلم مجلس درس الشيخ الأنصارى بعد وفاته لمدّة ستة أشهرٍوكان درسه على أحسن وجهٍ وأفضل‌

    1. الكافي، ج ۱، ص ٤۰۱، باب فيما جاء أن حديثهم صعبٌ مستصعبٌ.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

77
  • نحوٍ وأكمله، أو المرحوم الأخوند ملا حسين قلى الهمدانى أستاذ الشيخ الأنصارى في الأخلاق‌۱ والمرحوم السيد أحمد الكربلائى، وأستاذ الكلّ في الكلّ آية الله السيد على القاضى، والعلّامة الطباطبائى والعلّامة الطهرانى، والذين كانوا جميعهم من الفُقهاء العظام وأصحاب المقام العالى وأبطال ميدان التحقيق والتدقيق والمشار إليهم بالبنان من حيث الغزارة العلمية والنبوغ الفكرى، كيف يمكن أن يتوقّع من هؤلاء أن تكون مشاهداتهم ومكاشفاتهم على خلاف موازين ومبانى الشريعة، و لا يحصل لهم إطلاع على صحّتها وسقمها؟!

  • وكيف يكون استنباط مجتهدٍ عادى موردًا للقبول وحائزًا على الحجية؟ أمّا العلم واليقين بصحّة المدركات والواردات القلبية والمكاشفات‌

    1. كان الشيخ الأنصاري قدّس سرّه يتردّد زمن حياته على السيّد علي الشوشتري قدّس سرّه بنحوٍ منتظمٍ، وكان يأخذ منه الدستور السلوكي، و من ناحيةٍ أخرى كان السيّد علي الشوشتري يحضر درس المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري من باب الأدب والاحترام لا من باب الدراسة، ولكنّه لم يكن ينبس ببنت شفة أثناء الدرس، وكان أغلب الحضور لا يعرفون من هو هذا السيّد، إلّا أنّهم كانوا يرون كيف كان الشيخ الأنصاري يقدّره ويحترمه، وبعد ارتحال الشيخ، جاء بعض الأفراد الذين كانوا مرتبطين بالشيخ الأنصاري قدّس سرّه، وكانوا يعرفون في الوقت ذاته مقام السيد علي الشوشتري إلى السيد، وطلبوا منه أن يحلّ مكان الشيخ ويكمل الدرس.
      وكان من بين تلامذة الشيخ الأنصاري الذين يحضرون درسه الآخوند المولى حسين قلي الهمداني حيث كان يدرس عنده ويستفيد من درسه في الفقه والأصول، وكان الآخوند الهمداني من تلامذة السيّد علي الشوشتري السلوكيّين أيضًا، وقد أوصى السيّد علي الشوشتري الشيخَ الأنصاريَّ وأمره في ذلك الزمان ضمن توصياته له بأن يرجع إلى الشيخ حسين قلّي الهمداني ويراوده ويستفيد منه، ومن هنا يمكن القول: إنّ الشيخ حسين قلّي كان أستاذًا سلوكيًّا للشيح الأنصاري في نفس الوقت الذي كان تلميذًا له في الفقه والأصول، وكان الأستاذ السلوكي والواقعي لكليهما في نفس الوقت هو السيّد علي الشوشتري قدّس الله أسرارهم جميعًا. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

78
  • المعنوية لهكذا مستوى من أعاظم الفقهاء وأكابر الحكماء؛ كصدر المتألهين الشيرازى وأستاذه الميرداماد والشيخ البهائى وغيرهمفيكون فاقدًا لأى نوعٍ من القيمة وملاك الحجية؟!

  • رابعًا: ملاك حجية الشهود والمكاشفة

  • إن قيل: إنّ ملاك حجية فتوى الفقيه هو استناده إلى كلام المعصوم عليه السلام، وأمّا في شهود أهل العرفان ومكاشفات الأولياء الإلهيين فلا يوجد مثل هذا الاستناد، بل تقوم فقط على الواردات وإدراك الصور والمعانى المرتسمة في النفس، ولذلك من الممكن أن تكون مشوبةً بالاشتباه؛ لأن حضور الصور والمعانى في نفس الإنسان غالبًا ما يكون على أساسٍ من التخيل والتوهّم وخلق النفس بدون استناد إلى أصلها أو اتكاء على مبدئها العِلِّى، ولذلك لم يقبل عظماء أهل المكاشفة والشهود بأى مكاشفةٍ، ولم يظن أحدٌ منهم أن أى إدراك لصورةٍ أو معنىً هو منطبقٌ مع الحقيقة والواقع.

  • وجواب هذا الكلام: إنّه بالرغم من كون احتمال الاشتباه في الواردات القلبية واردًا بالنسبة إلى جميع الأفراد، إلّا أنّ تطبيقها على مصادر الوحى ومبانى التشيع وأحاديث أهل البيت عليهم السلام والأصول المسلّمة للحكمة المتعالية سينفي بنحوٍ قطعى احتمال الخطأ، وسيحصل السالك في هذه المرتبة على كشفٍيقينى واعتقادٍ جازمٍ، وإذا كان هناك احتمالٌ للخطأ في بعض موارد الشهود، أو اشتباه في الكشف المعنوى، فلا ينبغى ترك الاحتياط فيها، كما هو الحال في السلوك الفقاهتى عند الشك والتردُّد؛ إذ لا بدّ من التوقّف حينئذٍ في الفتوى والاحتياط في العمل.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

79
  • خلاصة الإشكالات على المدرسة التفكيكية

  • وحاصل الكلام: أنّ المدرسة التفكيكية بإقصائها للبراهين العقلية وعدم استخدام القوة العاقلة فيكشف المعضلات وإدراك الكلّيات، قد حكمت على هذه الموهبة الإلهية العظيمة بالبطلان وعدم الصواب في اكتشاف الحقيقة من الباطل، وألقت بها في بوتقة النسيان، كما أنها بإنكارها الواردات القلبية وشهود أهل المعرفة والعرفان الإلهى قد قطعت السبيل بنحوٍكاملٍ أمام الوصول إلى عالم الحقائق والمجرّدات، وسدّت الطريق نهائياً في وجه أسرار عالم الوجود والإفاضات النورية والروحانية من جانب حضرة الحق؛ مع أنّ النصوص الواردة عن أولياء الشرع وحملة راية مدرسة الوحى في الميادين الاجتماعية والعِبادية والاعتقادية المختلفة تمتلك - كما مرّ - مراتب مختلفةٍ من المعنى والفهم والإدراك والمعرفة، وسيكون الوصول إليها أمرًا محالًا وممتنعًا فيمالو لم يتمّ الاستعانة بالمبانى القيمة للفلسفة والحكمة المتعالية ومفاهيم العرفان النظرى والسلوك القلبى.

  • والنتيجة: أنّ المبانى المختلقة لهذه المدرسة والأسس الموهومة التى تقوم عليها، مردودةٌ قطعًا من وجهة نظر الشرع الإسلامى المقدّس ومدرسة أهل بيت العصمة الأصيلة، وسوف يضِلّ أتباعها ويتيهون في وادى الضلالة والحيرة.

  • ترسم نرسى به كعبه اى اعرابى‌***كاين ره كه تو مى روى به تركستان است۱
  • [يقول: أخشى أن لا تصل إلى الكعبة أيها الأعرابى؛ فإنّ هذا الطريق الذى تسلكه يؤدّى إلى بلاد الترك‌].

    1. گلستان سعدى (فارسى)، باب دوم در اخلاق درويشان.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

80
  • أثر الإخلاص في السير والسلوك: تصحيح المسار الخاطئ‌

  • والمسألة المهمّة في المقام هى أنّه لما كان ظهور حقيقة التوحيد والذات بالصرافة لحضرة الأحد جلّ وعلا سيتحقق في عالم الكثرة بواسطة مقام إرادته ومشيئته (والذييسمّى في الاصطلاح بمرتبة الولاية والسيطرة على عوالم الوجود والتعينات الجزئية)، فلن يكون طريق الوصول إلى المعارف الإلهية والمعرفة الحقيقية لذات الله ممكنًا إلّا بالاستمداد من أهل بيت الوحى والتوسّل بذيل ألطافهم وعناياتهم، وكذلكالحركة نحو الرشد والتجرّد والتكامل الإنسانى إنّما تتمّ برعاية تلك الذوات المقدّسة من خلال مجرى فيض نفوسهم القدسية.

  • وإذاما سار السالك في طريق التجرّد وتهذيب النفس وكان غافلًا في البداية عن هذه الحقيقة، فحتّى لو كان متديناً بدينٍ ومذهبٍ مغايرٍ لمذهب أهل البيت عليهم السلام، فلا بدّوأن يلتفت أثناء سيره وطيه الطريق إلى هذه المسألة، وبمعونة الأئمة المعصومين عليهم السلام سيعتنق مذهب التشيع.

  • وفي هذا المجال يقول الأستاذ الفريد في السير والسلوك العملى؛ العارف الكامل والفقيه العالى المقام حضرة آية الحقّ السيد على القاضى الطباطبائى:

  • «من المحال أن يصل السالك إلى أى مقام دون الاستمداد من الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام، وإذا ابتلى بخطأ في بداية المسير، فلا شك أنه سيهتدى إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم بمعونة أئمة الهدى وعنايتهم».

  • ولا شك أنّهذا الأمر إنّما يحصل للسالك عندما يكون سيره وحركته على أساس الصدق وفي طريق الخلوص بنحوٍ دائمٍ، وكانت هذه المسألة الحيوية والمُهمّة نصب عينيه في جميع مراحل السلوك والمعرفة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

81
  • من هنا يقول ابن الفارض العارف المصرى الكبير:

  • ذهب العمر ضياعًاوانقضى***‌باطلًاإذ لم أفز منكم بشى‌
  • غير ما أوتيت من عَقدِى وِلا***عترة المبعوث من آل قصى‌۱
  • هدف مدرسة العرفان هو التوجّه إلى حضرة الحقّ وحسب‌

  • إنّ مدرسة العرفان التيبمعنى المعرفة الحقيقية لذات الحقّلا تُعنى بسائر الأمور من الكرامات والأمور الخارقة للعادة والملفتة للانتباه، بل هيتبتنى وترتكز على انكشاف أسرار حقيقة الوجود فقط، وذلك من خلال اتّباع شريعة الإسلام والاقتداء بسنّة أهل بيت النبى صلّى الله عليه وآله ومنهجهم، أمّا المدارس والمناهج الأخرى فهى مشغولةٌ بخوارق العادات سواءًكانت من قبيل الإخبار بالغيب أم الاطلاع على النفوس أمكشف أسرار عالم المادّة والخواص المادّية للأشياء، أم تحصيل المال وحطام الدنيا والحصول على علم الكيمياء وأمثاله، أم حتّى المعرفة الظاهرية بإمام العصر - عجل الله تعالى فرجه - وتعيين زمان ظهوره وتوجيه الناس في هذا الاتجاه، أم القيام بطى الأرض وسائر الأعمال الخارقة.

  • إنّ كبار العُرفاء وأهل التوحيد يعدّون توجّه السالك إلى غير الله المتعال سببًا لخسرانه وهدرًا لرأسمال عمره وتبديلًا لجوهر الوصل النادر الوجود بالأحجار الرخيصة الحقيرة.

  • واللافت للنظر في هذا الشأن، هو أنّ انتساب جماعةٍ من أهل الدنيا إلى مدرسة العرفان صار سببًا لسوء ظنّ الكثيرين بأهل التوحيد والمعرفة، فقد

    1. ديوان ابن الفارض، ص ٣٦.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

82
  • صار هؤلاء سببًا لإساءة النظرة إلى مدرسة العرفاء وعقيدة الأولياء الإلهيين بسبب تغييرهململامحهم الظاهرية مع تعلّمهملبعض المصطلحات من أهل العرفان، والتظاهر بالزهد والانعزال عن الخلق، بل وبتركهم الآداب الشرعية وعدم رعايتهم التكاليف والأحكام الظاهرية غالبًا.

  • التصوّف أم العرفان؟

  • أوّلًا: علاقة التصوّف بالعرفان‌

  • لقد اختلف مصطلح «الصوفي» في الثقافة الشرقية هذه الأيام عن مصطلح «العارف»، وخصوصًا عند الناطقين باللغة الفارسية.

  • لكنّ حقيقة «العِرفان» و «التصوُّف» واحدةٌ، وهى الإدراك الشهودى لذات الحقّ المقدّسة، وكشف خفِيات عالم الوجود ببصيرةِ القلب والعلم الحضورى، وقد كان هذا النهج والمسلكشائعًا ومتحقّقًا - منذ زمن رسول الله وخلال مدّة ولاية أهل البيت عليهم السلام - بين مجموعةٍ من خواصّ أصحابهم؛ مثل: سلمان الفارسى، وأويس القرنى، والمقداد بن الأسود، وميثم التمار، ورشيد الهجرى، وحبيب بن مظاهر الأسدى، وجابر بن يزيد الجعفي، ومحمّد بن مسلم، وبِشر الحافي، وأبويزيد البسطامى، ومعروف الكرخى، وسرى السقطى، وأمّا بعد زمن الحضور - أى في عصر الغيبة إلى زماننا هذا - فقد تحقّقت فيأمثال: الخواجة شمس الدين حافظ الشيرازى، وشمس المغربى، وشاه نعمة الله ولى، وأبو سعيد أبو الخير، والشيخ محمود الشبسترى، ومولانا جلال الدين محمّد البلخى، والشيخ العطار النيشابورى، ومحيى الدين ابن عربى، وابن الفارض المصرى، والسيد مهدى بحر العلوم، والسيد على الشوشترى، و [أستاذه‌] النسّاج، والآخوند ملا حسين قلى الهمدانى، والشيخ‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

83
  • محمّد البهارى، والسيد أحمد الكربلائى، والسيد جمال الدين الگلبايگانى، والسيد على القاضى، والعلّامة الطباطبائى، والسيد حسن المسقطى، والسيد هاشم الحدّاد، والعلّامة السيد محمّد الحسين الحسينيالطهرانى.

  • وهناك الكثير من نخب المعرفة والتوحيدحتماً؛ كالمرحوم الآخوند ملا محمّد جعفر كبوتر آهنگى، والسلطان محمّد الجنابذى، والمرحوم الأنصارى الهمدانى، وآخرين ممن لا يسع المجال في هذه الرسالة لذكرهم جميعًا.

  • اتحاد حقيقة العرفان والتصّوف في كلمات السيد القاضى‌

  • يقول المرحوم العلّامة الطهرانى عن أستاذ الأخلاق الأوحد السيد على القاضى:

  • «كان السيد على القاضييتمتّع بالجهتين العِلمية والعِرفانية، أيإنّه كان فقيهًا عظيماً وعالماً جليلًا في العلوم الفقهية الظاهرية، كما كان عارفًا واصلًا وإنسانًا كاملًا، طوى الأسفار الأربعة في العلوم الباطنية، وقد قاده جمعه بين الظاهر والباطن، والشريعة والطريقة بكلّ ما للقيادة من معنى إلى وادى الحقيقة واقعًا.

  • وكان ينتقد العلماء الذين يشتغلون على الدوام بكتابة المصنّفات الظاهرية وأبحاث أصول الفقه المفصّلة والتى لا طائل منها، في حين كانت تبقى أيديهم خاليةً من المعرفة، وكان يقبِّح هذه الطريقة في نظر تلاميذه.

  • وفي الوقت نفسه كان يعارض ويحارب بشدّة الدراويش والمتصوّفة الذين لا يعيرون أهمّيةً لظاهر الشريعة، ويقول:" إنّ سلوك طريق الله مع عدم الاعتناء بالشريعة - التى هى نفس الطريق - هو جمع بين المتضادين أو المتناقضين‌".

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

84
  • وهو نفسه كان يهتم بإتيان المستحبّات وترك المكروهات إلى حدٍّ صار مَضربًا للمثل بهذا الأمر في النجف الأشرف، حتّى أنّ بعض المعاندين وعديمى البصيرة، الذين لم يكن لديهم القدرة على تحمّل هذا النور وتلك الحقيقة، ممّن يجدهم الإنسان متمركزين في الحوزات العلمية دائمًاوخصوصًا في النجف، والذين لا يألون جهدًا فيتشويه الصورة الحقيقية للعارف الجليل والإنسان النزيه إلّا ويبذلونه من خلال إلقاء التهم، فكانوا يقولون: إنّ هذه الدرجة من الزهد والعبادة والالتزام بالمستحبّات وترك المكروهات هى لخداع الناس ووضع الشبهات في طريقهم، وإلّا فهو مجرّد رجلٍ صوفي لا يعتقد ولا يلتزم بشى‌ء!!

  • وفي أحد الأيام، وفي مجلسٍ عظيمٍيضمّ العديد من المراجع وعلماء الفقه والحديث - وكان من جملتهم المرحوم آية الله السيد أبو الحسن الأصفهانى والآغا ضياء الدين العراقى وآخرون - وقد دار بينهم أطراف الحديث وجرى أخذٌ وردٌّ، فقال المرحوم السيد القاضى بصوت مرتفع بحيث يسمعه الجميع:" نِعمَ الرجل أن يكون فَقيهًا صُوفيا"، وقد بقيت هذه العبارة من كلمات السيد القاضيكالأمثال التى تُضرب؛ فالفقيه يعنى: العالم بالشريعة والأحكام، والصُوفييعنى: العالم بطرق النفس الأمّارة، وبطرق النجاة من شراك الشيطان، وكيفية محاربة المشتهيات النفسية ومواجهتها من أجل رضا الربّ المحمود والمنان ذى الطَوْلوالإحسان»۱ - انتهى كلام العلّامة الطهرانى.

    1. مطلع أنوار (فارسي)، للعلّامة الطهرانيّ رضوان الله عليه، ج ٢، ص ٥٤؛ و مهر تابناك (فارسي)، ج ۱، ص ٢۸٣.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

85
  • إنّ مذهب وطريقة هؤلاء العرفاء بالله والأولياء الإلهيين ينحصر فقط في معرفة ذات الحقّ بالشهود والإدراك القلبى، حيث نالوا معرفة ذات الله واتّخذوا من حريم القدس مأوىً لهم، وذلك من خلال العبور من مراتب النفس والإعراض عن اعتبارات عالم الدنيا ورفض جميع الأنانيات وشوائب النفس الأمّارة وطى مدارج الجمال والجلال والعبور من عوالم الظلمة والحجب النورية، وقد دعوا الآخرين إلى تلك المعرفة.

  • من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان‌***قال ومقال عالمى مى كشم از براى تو۱
  • [يقول: أنا الذى صرت ملولًا من أنفاس الملائكة والحديث معهم، تحمّلت لأجلككلام الناس وأذاهم‌].

  • ذلك المقام الذييقول عنه رسول الإسلام الأكرم:

  • «لِى مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يسَعُنِى مَلَك مُقَرّبٌ وَلَا نَبِى مُرْسَلٌ»٢.

  • أو كما يقول المرحوم السيد هاشم الحدّاد:

  • «نحن في مقام لا يقدر جبرائيل على الدنو منه، وإنّه عاجز عن إدراك مرتبتنا الوجودية».

  • اگر ذره اى زين نمط بر پرم‌***فروغ تجلى بسوزد پرم‌٣
    1. ديوان حافظ الشيرازي، ص ٣۱۸.
    2. بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ٢٤٣، تفسير الصافي، ج ۱، ص ۱۱۸، كشف الخفاء، للعجلوني، ج ٢، ص ۱۷٣، فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، ج ٤، ص ۸.
    3. بوستان سعدى (فارسي)، المقدّمة، ص ۱٦.
      اگر يك سر مو برتر پرم‌***فروغ تجلى بسوزد پرم‌
      يقول: لو اقتربت مقدار شعرةٍ إلى الأعلى لأحرقت ريشي أنوار التجلّي.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

86
  • [يقول: لو تقدّمْتُ أكثر من ذلك مقدار ذرةٍ، لأحَرَقتْأنوارُ التجلّيرِيشى‌].

  • ولا يخفي أنّ هذا العبد قد قام إلى حدٍّ ما بتوضيح بعض الأمور المتعلّقة بمرتبة العرفاء الإلهيين وخصوصياتهم وآثارهم في المجلّد الثانى من كتاب‌ «أسرار الملكوت».

  • ثانيا: الصوفي صِنفان: مخلص أو محتال‌

  • ومع ذلك فقد ظهر في زمان الأئمّة عليهم السلام بعض المرائين والمخادعين والماكرين؛ أمثال سفيان الثورى، وجمعوا الناس حولهم، مقابل مدرسة أهل بيت الوحى والطهارة، وقد هيؤوا لعوامّ الناس أرضية الانحراف والاعوجاج، من خلال التظاهر بالعزلة والزهد والإعراض عن الدنيا، وشوّهوا اسم الصوفي والأصحاب الواقعيين لهذه المدرسة من خلال إطلاق اسم «الصوفية» على أنفسهم، وقد استمرّت هذه الحالة على مرّ التاريخ؛ حيث لم يخل هذا المسرح من كلا الصنفين: أهل التوحيد والشهود، وأهل الاحتيال والمكر وعبادة الدنيا.

  • ويطلق حافظ الشيرازى اسم الصوفي على السالك النزيه والسائر مسير الحرم الإلهى قائلًا:

  • صوفي ار باده به اندازه خورد نوشش باشد***ورنه انديشه اين كار فراموشش باد۱)
    1. ديوان حافظ الشيرازي، ص ۸٢
      «الخمر» في اصطلاح العرفاء قد يُذكر كنايةً عن البارقات والنفحات القدسيّة التي تنزل على قلب الإنسان، والتي توجب السكر الروحاني والسكر المعنوي لا السكر المادي القبيح، وتقطع بالتالي ارتباطَ الإنسان وعلاقته بالدنيا، وتجعل الإنسان يخرج من عالم الكثرة، ويزداد تعلّقه بالله تعالى، وهذه هي حقيقة «الخمر» عندهم.
      ومراد «حافظ» هنا في هذا الشعر: أنّ الصوفي إذا عرّض نفسه للتجلّيات الجماليّة والنفحات القدسيّة بحدٍ ومقدارٍ معتدلٍ منها، بحيث لا يخرج عن الحالة العاديّة، فهنيئًا له، وهذا مُراده بقوله «بمقدار»، وأمّا لو أنّه لم يفعل ذلك بل أراد أن يعرّض نفسه لمقدارٍ أكثر من المقدار المتناسب مع سعته و تحمّله من التجلّيات والنفحات والبارقات الجماليّة، فإنّ ذلك يُسبّب له الخروج عن طوره وفقدان السيطرة على نفسه وتجاوز حدّ الاعتدال، وذلك يمكن أن يسوقه للقيام بأعمالٍ وتصرّفاتٍ غير طبيعيّةٍ، ولذا فإنّ حافظ يقول: إنّ هذا التصرّف غير صحيحٍ؛ لأنّه ينبغي على الإنسان أن يكون معتدلًا في مسائل الكمال والاستفاضة، وأن تكون مسألة التجلّيات موزونةً ومحسوبةً بالدقّة!

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

87
  • [يقول: فليهنأ الصوفي إذا شَرِب مقدارًا من «الخمر»، وإلّا فعليه أن يترك هذا العمل ولينسه‌].

  • أو كما يقول في موضعٍ آخر:

  • سحرگه رهروى در سرزمينى‌***همى گفت اين معما با قرينى‌
  • كه از صوفي شراب آنگه شود صاف‌***كه در شيشه برآرد اربعينى‌۱
  • [يقول: في وقت السحر؛ كان «سالك» في بلدٍ من البلاد يحكى هذا اللغز لواحد من أقرانه!!

  • قال: يا أيها الصوفي، إنّما الشراب يصبح صافيا عندما يبقى «أربعينًا» في زجاجته!!]

  • لكنّه يحمل بشدّة على من يقف مقابل هؤلاء الأفراد من أهل النِفاق والمكر والخداع، الذين يظهر عليهم الصلاح والسير والسلوك، فيقول:

  • نقد صوفي نه همه صافي بى غش باشد***اى بسا خرقه كه مستوجب آتش باشد
    1. نفس المصدر، ص ٣۷٦.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

88
  • خوش بود گر محك تجربه آيد بميان‌***تا سيه روى شود هر كه در او غش باشد
  • [يقول: ليس «نقد» الصوفي جميعه صافيا نقيا وما أكثر «الخرق» التى تستحق أن تأكلها النيران!!

  • وحبّذا لو يأتى محك التجربة، لكييسوَدَّ وجه كلّكاذبٍ منافقٍ غشّاشٍ‌].

  • ويقول أيضًا:

  • صوفي نهاد دام وسر حقه باز كرد***بنياد مكر با فلك حقه باز كرد
  • بازى چرخ بشكندش بيضه در كلاه‌***زيرا كه عرض شعبده با اهل راز كرد
  • فردا كه پيشگاه حقيقت شود پديد***شرمنده رهروى كه عمل بر مجاز
  • كردحافظ مكن ملامت رندان كه در ازل‌***مارا خدا ز زهد ريا بى نياز كرد
  • [يقول: لقد نصب الصوفي فخًا وأعدّ الأوعية؛ يريد المكار أن يخادع الأفلاك.

  • إنّ مكر السماء سيغلبه، لأنّه يمارس الشعوذة على أهل السرّ.

  • وغدًا عندما يظهر مقام الحقيقة، سيخجل الذى بنى عمله على المجاز.

  • لا تلم يا حافظ المحتالين؛ وذلكلأنّ الله جعلنا من الأزل أغنياء عن زهد الرياء والدجل‌].

  • ثالثًا: متى يكون العرفان والتصوّف شيئًا واحدًا؟

  • ولذا يرى العديد من أهل الفن أنّ مِصداق هذين العنوانين (العارف والصوفي) واحدٌ؛ وذلك بمعنى أنّ المراد من «العرفان» إن كان هو الإدراك الشهودى لذات الحقّ المُقدّسة والفناء بالله والبقاء بالله، فإنّ إطلاق لفظة

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

89
  • «العارف» و «الصوفي» و «الدرويش» على الشخص الواجد لهذا المقام، هو إطلاقٌ حقيقى وواقعى، وإن كان المقصود: هو مجرّد حفظ أحد الأفراد لبعض المصطلحات وقيامه ببعض الأوراد والتظاهر بالزهد والاعتزال والاعتراض على العُلماء والكبار من صالحى الشريعة، فإنّ العناوين الثلاثة تطلق أيضًا على المنحرف المتظاهر بهذه الأمورولكن بنحوٍ مجازى أو من باب الخطأ والاشتباه.

  • إطلاق لقب «الصوفي» على بعض العرفاءتوهينًا

  • يحكى أنّ جماعةً من المعمّمين من أهل الظاهر كانوا ينسبون إلى المرحوم آية الله العارف الكامل ومُرّبى الأخلاق أستاذ الكل الآخوند الملّا حسين قُلّى الهمدانى تُهماً مُشينةً، وكانوا يحاولون إيذاءه، حتّى سمّوه باسم «الصوفي» في رسالة كتبوها إلى المرحوم الشربيانى مرجع التقليد في ذلك الزمان، فقال المرحوم شربيانى في جوابهم:

  • «إذا كان الصوفي هو ما يمثّل مصداقه شخصيةٌ مثل الآخوند [الهمدانى‌]، فأسأل الله تعالى أن يجعلنى من الصوفية أيضًا».

  • وكذلك بعد وفاة المرحوم آية الله العارف الواصل الشيخ محمّد جواد الأنصارى الهمدانى، صار بعضهم يسمّيه صوفياً، وقد سعوا إلى محق الشخصية العلمية والروحية لذلك الولى الإلهيوتدميرها، عند ذلك قام المرحوم آية الله الآخوند الملّا على الهمدانى، والذيكانت له رتبة المرجعية في ذلك الوقت، وكتب في إعلانه عن مجلس الفاتحة الذى أقامه عن روحه:

  • «إِذَا مَاتَ العَالِمُ ثُلِمَ في الإِسْلَامِ ثَلْمَةٌ لَا يسدّهَا شَى‌ءٌ»۱.

    1. المحاسن للبرقي، ج ۱، ص ٢٣٣؛ الإرشاد للشيخ المفيد، ج ۱، ٢٣۰؛ بحار الأنوار، ج ٢، ص ٤٣، ح ٩، الباب ۱۰، حق العالم.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

90
  • أى: إذا مات عالمٌ من سالكى طريق الهداية ومذهب أهل بيت العصمة (أولئك الذين يقول الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم:

  • «أَنْتُمْ وَاللهِ نُوْرٌ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ»۱ ثُلم في الإسلام ثلمةٌ لا يسدّها شى‌ءٌ.

  • وحيث أنّ محور هذه المقالة هو لزوم السير والسلوك إلى الله وضرورته، وكذلكبيان أنّه بدون توجّه النفس إلى حقائق الأفعال والعبادات فلن يحصّل الإنسان أى مرتبةٍ أو منزلةٍ من خلال أدائه لتلك العبادات، وكذلك التأكيد على أنّ متابعة الإنسان للأستاذ الكامل والعارف الواصل هو أصلٌ مسلّمٌفيالترقى والتكامل لا يتبدّل ولا يتغير؛ لذا فإنّ التحقيق فيمسألة «العرفان» و «التصوّف» موجبٌ لتطويل البحث بلا طائلٍ، وسيؤدى إلى الخروج عن الهدف المرجوّ منه؛ ولذا نكتفي بهذا المقدار من التوضيح في هذا المجال، ولكن ما يراه الكاتب - وإن كانت كلمات الأعاظم مختلفةٌ في هذه المسألة - هو نفس ما تقدّم، وأنّه لا فرق بين مصداقى هذين العنوانين؛ سواءً مصداق الفرد الكامل والسالك الواصل منهما، أو مصداق الفرد المتظاهر المرائى.

  • بعض مميزات منهج العرفان‌

  • أوّلًا: ضرورة استثمار العمر بأفضل وجهٍممكنٍ‌

  • إنّ ما يستفاد من مجموع الكتب السماوية - وخصوصًا الآيات القرآنية الشريفة والأحاديث المنقولة عن أولياء الأمر المعصومين عليهم السلام، وكذلكالبيانات الراقية للعرفاء والأولياء الإلهيين، وأيضًا ما يعترف به الوجدان والفطرة الإنسانية - هو أنّ وجود الإنسان النازل إلى عالم المادّة

    1. الكافي، ج ۸، ص ٢۷٥.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

91
  • والدنيا من مقام ذاتِ حضرة الحقّبخطاب‌ {وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}۱، يمتلك في مكامن ذاته قابليةَ مقام الخلافة الإلهية (والتى تعنى: ظهور وبروز جميع صفات ونعوت حضرة الحقّ سبحانه وتعالى) كما يمتلك قابليةَ الوصولِ إلى مرتبة فعلية تلك الخلافة؛ فإذا جعل همّه وغمّه في المراقبة وأداء التكاليف وتنفيذ البرنامج المرسوم من قبل أولياء الدين وحملة لواء الشرع المبين، فسوف ينال تلك النعمة العظمى والفوز الأبدى، وسيعانق الحبيب ويشاهد الوصال وينال الوفود إلى حريم قدس وأمان حضرة الحقّ، وسيحظى ويفوز بسعادة كلا الدارين.

  • أمّا إن أفنى عمره في هذه الدنيا بجمع الزخارف الدنيوية، وبالوصول إلى الرئاسات، وبالاشتغال بأمور الدنيا؛ فإنّه سيبتلى بالخسران والخيبة الأبدية. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاشتغال بالدنيا خارج دائرة الشؤون الإلهية والدينية، وبين أن تكون ضمن نطاق الأمور العبادية، والعلوم الدينية، والتصدّى لشؤون الناس، وحلّ المشكلات الدينية والاجتماعية.

  • إنّ المهمّ هو ما تكون عليه نِيته وغايته مِن الاشتغال بهذه الأمور: هل هدفه الوصول إلى معرفة الله ورفض عالم الأنانية والنفس والكثرات وانكشاف حقيقة التوحيد في القلب والضمير؟ أم أنّ الهدف هو نفس الاشتغال بهذه الأمور وتضييع الوقت وتحقيق رغبات النفس الأمّارة ومطالبها والرئاسات الدنيوية واللّذات النفسية في قالب المظاهر العبادية والمعنوية والشَرعية؟!

    1. سورة الحجر (۱٥)، قسم من الآية ٢٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

92
  • لذلك، وكما تقدّم، فمجرّد الاشتغال بدراسة العلوم الإلهية وصَرف الأوقات في تحقيقاتها وتدقيقاتها، لن يداوى من النفس الحيرى والتائهةأى داءٍ، بل سيشعر الإنسان بعد مرور مدّةٍ مديدةٍ من عمره وصرفه للوقت في تلك الأمور الدينية، سيشعر أنّ نفسه لا تزال تائهةً متحيرةً، خاويةً من المعارف الشهودية لعالم الخِلقة وأسرار الوجود في المبدأ والمعاد، وحينئذٍ سيبدأ بالتفكير في التعويض عمّا فات، والاستعداد للانطلاق في مسير التكامل فيما تبقى من أيام عمره القليلة.

  • لقد أدركالمرحوم الآخوند الملا حسين قلى الهمدانيبعد مرور مدّةٍ من الزمن التيصرف فيهاعمره فيالتحقيق لمبانى الدين المبين والاطلاع على الفقه والتفسير والحكمة والتاريخ، أنّ ما تعلّمه لا يكاد يجديه، وأنّه لا بدّ أن يتّخذ لنفسه حركةً جديدةً ونظامًا مُغايرًا لما سبق، يعتمد به على إصلاح نفسه وتهذيب قلبه، وأن يبحث من أجل ذلك عن الأستاذ الكامل والسالك الواصل ليتمكن من هداية نفسه الناقصة الحيرى إلى عالم الكمال والمعرفة.

  • وكذلك السيد على الشوشترى، فبعد أن صرف عمره في العمل على إعلاء مذهب التشيع والتصدّى لشؤون الناس، شمله التوفيق الإلهى وسار بمساعدةٍ من أستاذه العارف إلى المنزل المقصود وشاهد وصال المعرفة.

  • وكذا أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، فبعد أن قضى عمره في الانشغال بأمور الدنيا وتولّى المسؤوليات الحكومية والمطالعة والبحث وتدريس العلوم الإلهية، تنبّه إلى أنّ منهجه وممشاه السابق لم يروِ وجدانه الظمآن ونفسه المتلهّفة إلى المعرفة وأنّه سيرحل الآن عن هذه الدار صفر اليدين، خاسرًا لرأسماله، بوجودٍ ناقصٍ غير مكتملٍ. لذا يقال أنّه في أواخر عمره كان دائماً يعيش في حالٍ من الانزواء والابتهال والتضرّع والتهجّد

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

93
  • والمراقبة والرياضات الشرعية؛ علّه بذلكيصير مشمولًا بنصيبٍ من ذلك العالم ويتدارك بعض الشى‌ء ممّا انصرم من عمره.

  • إنّ ما يستفاد من تجارب الماضى وانقضاء العمر والتأمّل والتفكر في مصير الإنسان، هو أن الإنسان بعد انقضاء عمره الثمين وخسران نعمة الحياة ووصول سنوات العمر إلى نهايتها، بعد كلّ ذلكيضع الإنسان يد الحزن على رأسه، جالسًا مجلس العزاء في مأتمٍ وفاجعةٍ، لفقده جوهر الحياة والغاية النهائية منها.

  • إذنكم هو جميلٌ أن ينال الإنسانَ - قبل وصول هذه اللحظة - توفيقٌ إلهى لإزاحة ستار الجهل والغفلة عن الأعين، كى تُشرق حقائق عالم الوجود على قلبه ونفسه؛ فيرتوى ضميره المتعطّش الواله من عين ماء الحياة، وتُوصِل أنوارُ عالم القدس النفسَ المنغمرة في الكثرات إلى حريم الوِحدة ومقام عظمة الحقّ.

  • ثانيا: أفضلية علوم العرفاء وتوحيدهم على سائر علوم العلماء

  • يقول المرحوم العلّامة الطهرانى رضوان الله عليه:

  • «لو أنّ ذرّةً من العِلم والتوحيد اللذين يحظى بهما العرفاء أُنزلت إلى هذا العالم، لعادلت جميع علوم عالم المادّة وعلوم الجامعات، بل زادت عليها؛ ومع ذلك نرى أنّ مجموعة من الجهلة، وبدون أدنى اطلاع على مدارج الكمال ومراتب العلوم الحقيقية الإلهية، يقفون منها موقف الإنكار ويعدّونها من جملة التخيلات والأوهام».

  • وكثيرًا ما كان يتردّد على لسان العلّامة الكبير المرحوم آية الله الشيخ حسين الحلّى رضوان الله عليه قوله:

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

94
  • «إنّ هذه المسائل راقيةٌ ورفيعةٌ جدًا؛ بحيث لا يمكن أن تكون من نصيب أى شخصٍ، وأين لى ولأمثالى الوصول إلى إدراك هذه الذروة من مراتب الشهود وانكشاف الحقيقة».

  • كذلكيبين العلّامة الطهرانى في مقام تعريف مرتبة العُرفاء الإلهيين ومنزلتهم، معتبرًا أنّهم الطائفة الوحيدة المطّلعة على الوحدة بالصرافة والمُدركة بالسرّ والضمير لحقيقة التوحيد كما هى، حيث يقول:

  • «الآن يمكنكم أن تُدركوا مدى عمق ودقّة وعظَمة كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - المتين، ومنطقه القويم، وبرهانه القوى اللطيف والدقيق، الذى لم يصل إلى كافّة جوانبه حتّى صدر المتألّهين، ولم يتفوّه به على مرّ التاريخ غير العُرفاء بالله، وكان العرفاء لا يسلكون طريق الاستدلال والبرهان فيكتاباتهم للوصول إلى النتائج؛ ولذلك بقيت هذه الدقائق مُبهمةً ومستورةً إلى أن استخدم العُرفاء بالله في الأزمنة المتأخّرة طريق الاستدلال والبرهان أيضًا؛ حيث كانوا من مُدرّسى الحكمة والفلسفة الإلهية إلى جانب كونهم عُرفاء.

  • وقد بين هؤلاء العُرفاء أمثال المرحوم السيد على الشوشترى (أستاذُ ووصى الشيخ مرتضى الأنصارى في الأخلاق والعرفان)؛ وأمثال أفضل تلامذته الناجحين الآخوند الملاحسين قلّى الهمدانى؛ وأمثال أفاضل تلامذة الملّا الهمدانى: كالشيخ محمّد البهارى والسيد أحمد الكربلائى الطهرانى؛ وأمثال التلميذ الأفضل للأخير: المرحوم الميرزا على القاضى التبريزى؛ ومِن أفضل تلامذته: العارف والحكيم والفقيه والمتكلم ومفسِّر

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

95
  • الزمان ونابغة العصر حضرة الأستاذ العلّامة المرحوم السيد محمّد حسين الطباطبائى التبريزى قدّس الله أسرارهم الزكية.

  • شكر الله مساعيهم الجميلة، ورزقنا من علومهم، وجعلنا من تابعيهم في القول والعمل بمحمّد سيد المرسلين وبوصيه أمير المؤمنين وبالأئمّة الأوصياء من ذريته سلام الله عليهم أجمعين».۱

  • لقد كان هؤلاء من العظماء الذين خطَوا في طريق السير والسلوك إلى الله بعد إحرازهم لأعلى وأرقى مراتب العلوم الظاهرية، وغضّوا الطرف - بعزمٍ متينٍ وإرادةٍ ثابتةٍ - عن الملذّات الدنيوية والأهواء النفسية، وحطّوا رحالهم ونصبوا خيامهم في حريم القدس وحرم حضرة المحبوب.

  • كما أنّه قال عن آية الله العظمى السيد أحمد الكربلائى رضوان الله عليه:

  • «وأما فيما يتعلّق بالعلم والفقاهة والتضلّع في العلوم الرسمية، فيكفي ترشيحه للمرجعية العليا للشيعة حينما كان في الأربعين من عمره، وقد أقرّ الجميع بنبوغه العلمى وتقواه من الناحية الروحية، ولكنه لم يكن يقبل أن يفتى، ولا أن يكتب رسالةً عمليةً، بل امتنع حتّى عن إقامة صلاة الجماعة في الملأ العام، وهذا ما فعله أيضًا كلّ من الأستاذ القاضى والأستاذ العلّامة الطباطبائيرضوان الله عليهم أجمعين»٢.

    1. توحيد علمي وعيني (فارسي)، ص ٢۱٣ و ٢۱٤، ونلفت عناية القارئ الكريم إلى أنّه تمّ تعريب الاقتباس السابق بأكمله، ما عدا الفقرة الأخيرة باللون الغامق، فهي عين عبارة العلّامة قدّس سرّه. (م)
    2. توحيد علمي وعيني (فارسي)، ص ٢٣.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

96
  • ثالثًا: غاية العرفان: مرتبة الذات الأحدية

  • نعم، إنّ منهج هؤلاء العظام وطريقتهمهى السير والسلوك إلى الله حتّى الوصول إلى مرتبة الذات الأَحدية، أى: مرتبة الإدراك الحقيقى لكافّة مراتب الأسماء والصفات الإلهية، وبعد ذلك الاندكاك والانمحاء والفناء في ذات حضرة الحقّ المقدّسة؛ بحيث لا يبقى أى اسمٍ أو رسمٍ لذات السالك، ولا يبقى وجودٌ لأية حقيقةٍ سوى حقيقة الذات الأحدية.

  • وهذه المرتبة تُسمى: مرتبة «لا اسم ولا رسم»، وهيالتيينكر الكثيرون إمكان الوصول إليها؛ لأنّهم يحسبون ذات البارى منفصلةً ومستقلةً عن أسمائه وصفاته، ويرون أنّ التعينات والتشخّصات فيعوالم الوجود هى مراتب نازلة عن الأسماء والصفات، وأنّ ذات البارى تعالى فوق جميع الأسماء والصفات، ولا يرون أى ارتباط بين الذات وبين الأسماء والصفات.

  • وحيث إنّهم يعتقدون أنّ حقيقة الولاية هى الظهور الخارجى لأسماء وصفات حضرة الحقّ، فإنّ منتهى حركة السالك وسيره إلى الله - بحسب ما يعتقدونه - هو الانمحاء والفناء في الولاية، التى هى نفس تلك الأسماء والصفات الكلية الإلهية في نظرهم، دون أنيجدوا طريقًا إلى ذات الحقّ المقدّسة.

  • انحرافات الشيخ الأحسائى في التوحيد

  • ينقل العلّامة الطهرانى رضوان الله عليه:

  • «يقول وصى المرحوم القاضى المرحوم حضرة آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس القوجانى أعلى الله درجته: قلتُ يومًا لحضرة الأستاذ السيد القاضى: ما هو الإشكال في عقيدة الشيخية؟! فهؤلاءِ أيضًا أهل عبادةٍ وأهل ولايةٍ، وخصوصًا فيما يتعلّق بالأئمّة عليهم السلام، فإنّهم مثلنا يظهرون المحبّة الشديدة

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

97
  • والإخلاص، وفِقههم هو فقه الشيعة أيضًا، ويرون أنّ كتب الأخبار معتبرةٌ ويعملون برواياتنا؛ والخلاصة: أنّا مهما بحثنا لنجد في أخلاقهم وسلوكهم موردًا للإشكال، فلا نجد!

  • فقال السيد القاضى: جئنى غدًا بـ «شرح الزيارة» للشيخ أحمد الأحسائى.

  • وفي اليوم التالى جئته بـ «شرح الزيارة»، فقال لى: اقرأ! فقرأت منها قرابة الساعة.

  • فقال:" يكفي! هل اتّضح لك الآن أين هو موضع إشكالهم؟ إنّ إشكالهم في عقيدتهم!

  • إنّ هذا الشيخ يريد أن يثبت أنْه لا اسم ولا رسم لذات الله، وأنّ ذاته هى فوق أسمائه وصفاته، وأنّ ما يتحقّق في هذا العالم إنّما يتحقّق بواسطة الأسماء والصفات، وهى المبدأ لخلقة العالم والإنسان، وهى المؤثّرة في تدبير شؤون هذا العالم في البقاء واستمرار الحياة.

  • ذلك الإله ليس متّحدًا مع الأسماء والصفات، والأسماء والصفات تعمل بنحوٍ مستقلٍ، وعبادة الإنسان تتوجّه إلى الأسماء والصفات الإلهية، لا إلى ذاته التى لا تقبلُ الوصف ولا تخطر في الوهم.

  • بناءً على ذلك فإنّ الشيخ أحمد الأحسائي يعرِّف الله على أنّه مفهومٌ خاوٍ وبلا أثرٍ، خارجٌ عن الأسماء والصفات! وهذا عين الشِرك!

  • أمّا العارف فيقول: إنّ ذات الله فوقُ الوصف وأعلى من التخيل والتوهّم، ولها هيمنةٌ وسيطرةٌ على الأسماء والصفات، وجميع‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

98
  • الأسماء والصفات موجودةٌ في ذاته المقدّسة بدون حدودها الوجودية وتعيناتها وتقيداتها، وجميع الأسماء والصفات ترجع إلى الذات، والذات هى المقصد والمبدأ والمنتهى، غاية الأمر أنّ الأسماء والصفات هى الطريق، ونحن نشير في قولنا {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ}۱ إلى نفس تلك الذات، حتّى وإن كانت غير معلومةٍ لنا" - انتهى كلام السيد القاضى.

  • ولهذا يقف الشيخية بزعامة الشيخ أحمد الأحسائى في القطب المخالف للعرفاء، وهذا سبب كلّ تلك العَداوة والقسوة اللتين تمارسان عليهم؛ وما ذلك إلّا لكونهما ذا ممشيين متباينين مائة بالمائة٢.

  • رابعًا: لا يمكن الوصول إلى مرتبة الكمال بدون الولاية

  • لقد كانت عقيدة المرحوم القاضي - رضوان الله عليه - فيما يرتبط ببعض العرفاء الإلهيين، بناءً لما ورد على لسان المرحوم العلّامة الطهرانيكما يلى:

  • «لم يكن المرحوم القاضى رضوان الله عليه يعدّ سعدى الشيرازى من أهل الحال والسلوك، بل كان يراه عالماً حكيماً، وكان يقول: إنّ شعره ممّا لم يذكر اسم الله عليه‌.

  • نعم، له غزلٌ جيدٌ قد أحسن نظمه وهو:

  • بجهان خرم از آنم كه جهان از اوست‌***عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست - الخ.
    1. سورة الأنعام (٦)، قسم من الآية ۷٩.
    2. روح مجرد (فارسي)، ص ٤٢٦ إلى ٤٢۸.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

99
  • [يقول: أشرقت الدنيا لأنّ الدنيا مِنه، وأنا عاشقٌ لجميع العالم لأنّ العالم منه - إلخ‌].

  • أمّا الملّا الرومى فكان يعدّه عارفًا رفيع الشأن، ويستشهد بأشعاره، ويعدّه من خُلّص شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يعتقد بأنّه من المحال أنْ يصل شخصٌ إلى مرتبة الكمال الإنسانى دون أنْ تنكشف له حقيقة الولاية، وكان يرى أنّ الوصول إلى التوحيد إنّما يتمّ فقط عن طريق الولاية، وأنّ الولاية والتوحيد هما حقيقةٌ واحدةٌ.

  • وبناءً على ذلك فإنّ العظماء من العرفاء المشهورين والمعروفين والذين كانوا من أهل السنّة إمّا أنّهم كانوا يمارسون التقية وهم في الباطن من الشيعة، وإمّا أنّهم غير واصلين إلى الكمال.۱

  • لقد كان شديد الاهتمام بمحيى الدين بن عربى وكتابه «الفتوحات المكية» وكان يقول:" محيى الدين من العرفاء الكاملين، وتحتوى فتوحاته على الكثير من الشواهد الدالة على أنّه كان شيعيا، وفيكتبه الكثير من المطالب المناقضة للأصول المسلّمة عند أهل السُنّة".

  • ويرى المرحوم القاضى قدّس سره أنّ حافظ الشيرازى عارفٌكاملٌ، وكان يفسّر أشعاره المختلفة على أنّها عبارةٌ عن شرحٍ لمنازل ومراحل السلوك، غير أنّهكان يرى أنّ ابن الفارض المصريكان أكمل منه؛ وكان يذكر شواهدًا على ذلك من ديوان حافظ ومن أشعار ابن الفارض في‌ نظم السلوك‌ (التائية الكبرى) وغيرها من الشواهد».

    1. لقد صرح المرحوم الحدّاد أيضًا مراتٍ عديدةٍ قائلًا: إنّ من المحال الوصول إلى مقام التوحيد والسير الصحيح إلى الله وعرفان الذات الأحديّة بدون وِلاية أئمّة الشيعة والخلفاء بالحقّ: علي بن أبي طالب وأبنائه من البتول العذراء صلوات الله عليهم.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

100
  • خامسًا: أهمية الدستور السلوكى في طريق العرفان‌

  • نعم، إنّ مسألة السير والسلوك إلى الله حقيقةٌ لا تقبل الإنكار، وهى توفيقٌ من جانب حضرة الحقّ، وهى إنّما تكون من نصيب بعض العقلاء والصادقين من الناس، أمّا سائر الناس فمهما كان لهم نصيبٌ من العلم والتدين والمعرفة فليس لهم طريقٌ إليه؛ وكما يخبر كبار أهل الشهود والواصلين إلى حريم المعبود، وكما تشهد به التجربة والتأمّل في مطالب العظام وحياتهم أيضًا، فإنّ طريق الوصول إلى التكامل البشرى وتحقيق الفعلية التامّة والإدراك الشهودى والحضورى لحقيقة التوحيد لا يمكنأن يتحقّق إلّا عن طريق العرفان واتباع أوامر مدرسة أهل البيت عليهم السلام ودستوراتهم العِلمية منها والعملية، والتمسّك والتوسّل بعناياتهم وألطافهم، وكلّ من كان لديه ادّعاءٌ مغايرٌ أو شاهدٌ مخالفٌ لهذا المطلب؛ فليتفضّل وليبينهفهذا الفرس وهذا الميدان.

  • نموذج من دساتير العرفاء: دستور الآخوند الهمدانى‌

  • لذلك فإنّ العظماء من أهل المعنى ذكرواعدّة برامج عملية في سبيل حركة السالك إلى الله، ومِن جملتها البرنامج الذى أوصى بهأستاذ العرفان، ووحيد عصره في مسألة التوحيد، المرحوم الآخوند الملا حسين قلّى الهمدانى، جميعَ التائقين لمشاهدة الجمال الإلهى والطالبين للوُفود إلى حريم القدس، حيث يقول:

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

101
  • ‌ 

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم‌

  • الحمد للّه رب العالمين‌

  • والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين‌

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • لا يخفي على إخوة الدين أنّه لا سبيل للقُرب من حضرة ملك الملوك جلّ جلاله إلّا بالالتزام بالشرع الشريف في جميع الحركات والسكنات والأقوال واللحظات وغيرها، وأنّ السير بالخرافات الذوقية كما دأَبَ الجُهّالُ وَالصُّوفيةُخذلهم الله جلّ جلاله - لا يوجب إلّا بُعدًا، هذا مع أنّ الذوق في غير هذا المقام جيدٌ، فلوكان الإنسان مواظبًا على تسبيل الشارب وعدم أكل اللحم‌۱، فإنْ كان مؤمنًا ومعتقدًا بعِصمة الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم، فعليه أنْ يعلم أنّ ذلك لن يزيده إلّا بعدًا عن مقام الأحدية، وكذا الأمر في الاتيان بالذكر بكيفيةٍ مغايرةٍلما ورد عن السادات المعصومين عليهم السلام.

  • بناءً على ذلك، ينبغى لهأن يقدِّمالشرع الشريف، وأن يهتمّ بكلّ ما اهتمّ به الشرع الشريف.

  • وإنّ ما استفاده هذا الضعيف‌٢ من العقل والنقل، أنّ أهمّ الأشياء لطالبى مقام القرب، هو الجدُّ والسعى الحثيث في ترك المعصية.

    1. فقد ورد النهي من الأئمّة الأطهار عن تسبيل الشارب وكذا ورد النهي عن ترك أكل اللحم أربعين يومًا. (م)
    2. يقصد بذلك نفسه الشريفة، قدّس الله رمسه. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

102
  • وما لم تؤدّ هذه الخِدمة فلن يمنحذكرُك ولا فِكرُك بأى حال من الأحوال أيما فائدةٍ لقلبِك؛ ذلكلأنّه لن يكون للسعى وخدمة السلطان أية فائدةٍ مِن قبل مَن هو في مقام العصيان والإنكار، وليت شعرى أى سلطانٍ أعظم من هذا السلطان العظيم الشأن؟! وأى نزاعٍ أقبح من النزاع معه؟!

  • فافهم ممّا ذكرتُ، أنّ طلبك المحبّة الإلهية مع كونك مرتكبًا للمعصية أمرٌ فاسدٌ جدّاً، وكيف يخفي عليككون المعصية سببًا للنفرة، وكون النفرة مانعةَ الجمع مع المحبّة؟!

  • وإذا تحقّق عندك أنّ ترك المعصية أوّل الدين وآخره، ظاهره وباطنه فبادر إلى المجاهدة، واشتغل بتمام الجدّ إلى المراقبة من أوّل قيامك من نومك في جميع آناتك إلى نومك، والزم الأدب في مقدس حضرته، واعلم أنّك بجميع أجزاء وجودك ذرّةً ذرّةً أسيرُ قدرته، وراعِ حرمة شريف حضوره.

  • واعبدهُكأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك، والتفت دائماً إلى عظمته وحقارتك، ورفعتِه ودناءتك، وعزّته وذلّتك، وغناه وحاجتك، ولا تُغفل شناعة غفلتك عنه جلّ جلاله مع التفاته إليك دائماً، وقُم بين يديه مقامَ العبد الذليل الضعيف، وتبصبص‌۱ تحت قدميه بصبصة الكلب النحيف، أوَلايكفيك شرفًا وفخرًا أنّه أذِن لك في ذِكر اسمه العظيم بلسانك الكثيف‌٢ الذى نجّسَته قاذورات المعاصى؟

    1. بصبص الكلب: حرك ذنبه خوفًا أو طمعًا أو ملقًا، والتبصبص: التملّق، وبصبص في دعائه: رفع سبابتيه إلى السماء وحرّكهما. (م)
    2. كثيف: كلمة فارسيّة تعني: القذر. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

103
  • فإذن أيها العزيز! بعد أنْ جعل الكريم الرحيم لسانك مخزَنًا لجبل النور، يعنى: ذكر اسمه الشريف، فإنّه لَمِن الوقاحة أن تلوّث مخزن السلطان بنجاساتٍ وقاذوراتٍ الغِيبة والكذب والفحش والأذية وغيرها من المعاصى، فما يليق بمخزن السلطان هو أن يكون ممتلئًا بالعطر وماء الورد، لا محبسًا طافحًا بالقاذورات.

  • ولا شك أنّكلمّا لم تكنْ دقيقًا في المراقبة، لذا فأنت لا تدرى ما ترتكب من المعاصى بجوارحك السبعة، أعنى: الأذن واللسان والعين واليد والرجل والبطن والفرج؟ ولا ما تُشعل من النيران؟ ولا ما تُفسد من دينك؟ ولا ما تُحدث في قلبك من الجراحات المنكرة بسِنان لسانك وسيف كلامك، فإنْ لم تكن قد قُتلت بعد فمن حسن حظك! ولو أردت أن أبين هذه المفاسد لما وسعهاكتابٌ! فماذا بوسعى أنْ أكتب لك في ورقةٍ واحدةٍ؟! وأنتَ الذى لم تُطهِّر جوارحَك من المعاصى حتّى الآن، كيف تتوقّع أن أكتبَ لك شيئًا فيشرح أحوال القلب؟

  • إذن: فالبدار البدار إلى التوبة الصادقة، ثمّ العجل العجل في الجدّ والمراقبة.

  • والخلاصة: إنّه بعد بذل الوسع في المراقبة، فبالطبع على طالب القُرب أن لا يضيع من يدهاليقظة وقيام السحر على الأقل ساعةً أو ساعتين قبل الفجرإلى طلوع الشمس، وأن يؤدّى صلاة الليل مع مراعاة الآداب وحضور القلب، وإن كان لديه متّسع من الوقت فينشغل بالذكر أو الفكر أو المناجاة؛ لكن ينبغى له أن يشتغل مقدارًا معينًا من الليل بالذكر مع حضور القلب، وينبغى أن لا يخلو من الحزن في جميع حالاته، فإنْ لم يكنْ لديه، يحصّله بأسبابه، وبعد الفراغ يسبح تسبيح سيدة النساء، ويقرأ سورة

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

104
  • التوحيد اثنا عشر مرّةٍ، و عشر مرّاتٍ «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك ...» إلى آخره، ومائة مرّة «لا إله إلا الله»، ويستغفر الله سبعين مرّةٍ، ومقدارًا مِن القرآن الكريم، ولا بدّ أن يقرأ «دعاء الصباح» المعروف أعنى: «يا من دلع لسان الصباح ..» إلى آخره، ولا بدّ أن يكون على وضوءٍ دائمًا، وإذاصلّى بعد كلّ وضوءٍ ركعتين فذلك في غاية الحسن.

  • وينبغى له أن يكون شديد الانتباه لئلا تصدر منه أذية تجاه الآخرين بأى وجهٍ من الوجوه، وأنْ يسعى سعيا بالغًا في قضاء حوائج المسلمين لا سيما العلماء ولا سيما أتقياءهم، وأن يتجنّب كلّ مجلسٍ فيه مظنّة الوقوع في المعصية البتّة البتّة البتّة، بل إنّ نفس الجلوس مع أهل الغفلة لغير ضرورةٍ مضرٌّ حتّى لو خلا من المعصية، كما أنّ كثرة الاشتغال بالمُباحات والمِزاح الزائد واللغو في القوّل والاستماع إلى الأراجيف، جميعها تميت القلب.

  • وإذا اشتغل بالذكر والفكر دون المراقبة فلا فائدة فيه حتّى لو حصل له حالٌ!! لأنّ ذلك الحال لن يكون مستمرًا، ولا ينبغيله أن يخدع بالحال الذييحدثه ذكرٌ لا مراقبة معه!!

  • ليس لديالكثير من الطاقة، التمس الدعاء من الجميع التماسًا حثيثًا، ولا تنسوا هذا الحقير كثير التقصير والمعاصى، واقرؤوا سورة القدر مائة مرّة في ليلة الجمعة و مائة مرّة في عصر يوم الجمعة.

  • ومن جملة الأبواب العظيمة للإيمان: الحبّ في الله جلّ جلاله والبغض في الله جلّ جلاله، وقد عقد له في «الوسائل» وغيرها من كتب الأخبار بابًا مستقلّا؛ فارجع إليها لعلّك تعرف عظمته وتأخذ لنفسك نصيبًا منه‌؛ فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ المحبوب الأوّل‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

105
  • هو الذات الأقدس للكبرياء جلّ جلاله، بل وكلّ محبّةٍ لا ترجع إلى محبّته فليست بشى‌ءٍ.

  • ثمّ بعده، ينبغيلكلّ فردٍ أن يضاعف حبّه لهذا السلطان عظيم الشأن، ثمّ أوّل محبوبٍ بعد واجب الوجود: هو الوجود المقدّس للنبى الخاتم صلوات الله عليه وآله، ثمّ بعده أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ثمّ الأنبياء والملائكة، ثمّ الأوصياء، ثمّ العلماء والأولياء.

  • ويرجّح في زمانه محبّة أتقياء ذلك الزمان - لا سيما إن كان عالماً - على الذين يلونهم في الدرجة، وهكذا يتنزّل، ولكن عليه أنْ يسعى لأنْ يكون صادقًا في هذه المحبّة، وهى ليست بالمرتبة السهلة؛ فإذا تفكرتم في ذلك ستفهمون أنّه إذا ظهرت آثار هذه المحبّة في حركات وسكنات الشخص المُدّعى لهذه المحبّة، فهو صادقٌ وإلّا فلا. غير أنّى لا أظنّك تصل إلى حقيقة الأمر ولوازمه، وليس في وسع الحقير أيضًا أكثر من ذلك.

  • والحاصل، لا طريق إلى القرب إلّا بشرعٍ شريفٍ فيكلّ كلى وجزئى - انتهى.۱

  • إنّ هذه الرسالة التى هى في الواقع دستورٌ سلوكى لجميع سالكى حريم الحقّ، وإنْ كانت طويلةً إلى حدٍّ ما وليس لها تلك المناسبة مع غرض وظرفية هذه المقدّمة أو المقالة، غير أنّها أُوردت هنا لكون كاتبها وهو المرحوم الآخوند المولى حسينقلى الهمدانى من أكابر علماء وفقهاء الشيعة الإمامية، ومن جهةٍ أخرى هو رأس سلسلة العرفاء بالله وبداية حلقة الأولياء الإلهيين؛

    1. تذكرة المتقين، ص ۱٩۰ إلى ۱٩٦.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

106
  • بحيث أنّ انتساب التلاميذ والمريدين إليه يعد مفخرةً عظيمةً وموهبةً إلهيةً، وكلّ من ظهر بعده من العرفاء الشامخين استمدّوا جميعهم من البركات الوجودية والفيوضات الربّانية النازلة بواسطة نفسه القدسية؛ أمثال: المرحوم الحاج الشيخ محمّد البهارى، والحاج الميرزا جواد الملكى التبريزى، والسيد أحمد الكربلائى، والمرحوم السيد على القاضى والعلّامة الطباطبائى وأخيه المعظم، والعارف الكامل المرحوم السيد هاشم الحدّاد، والعلّامة الطهرانى وغيرهم.

  • وكان العلّامة الطهرانيكلّما ذكر اسم الآخوند الملا حسينقلى تغير لون وجهه، وكان يذكره بعباراتٍ خاصّةٍ ويفضّله على سائر عظماء أهل المعرفة؛ لذا كان من المناسب أن نذكر رسالته في هذه المقالة بعنوان كونها دستورٍ سلوكى.

  • وتتمحور دستوراته في هذه الرسالة حول ترك المعاصى والمراقبة؛ فبدون المراقبة التامّة وإطاعة برامج السلوك لن يؤدّى الطريق بالسالك إلى أيمكان، حتّى وإنْ نالت النفس تلذّذاتٍ شكليةٍ ومؤقّتةٍ من خلال الأوراد والأذكار والقيام بالعبادة والنوافل.

  • سادسًا: ضرورة الأستاذ الخبير المتخلّص من الهوى‌

  • وممّا ينبغى ذكره في هذا المقام أنّ العمل بالبرنامج السلوكييجب أن يكون تحت إشراف ونظر إنسانٍ سالك مجتازٍ للطريق، واصلٍ إلى المقصد؛ وذلك لأنّ العبور من الشهوات النفسية والأهواء الدنيوية سيكون محالًا بغير هداية أستاذٍكاملٍ مشرفٍ على نفوس السالكين وضمائرهموإرشاده، وهذا ما يصرّح به جميع أساتذة العرفان ومَهرة الفن؛ فالمرحوم القاضي يقول:

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

107
  • «أهمّ ما يلزم في هذا الطريق هو الأستاذ الخبير والبصير المتخلّص من هواه والواصل إلى المعرفة الإلهية، والإنسان الكامل الذى طوى - فضلًا عن السير إلى الله - أسفاره الثلاثة الأخرى، فصار سيره في عالم الخلق ومشاهدته له سيرًا ومشاهدةً بالحقّ».۱

  • ويقول أيضاً:

  • «لو أنّ امرءًا أفنى في طلب الأستاذ ثلثى عمره، ما كان بذلك عن الصراط خارجًا».

  • وقد ورد أيضًا في ضرورة الأستاذ في السير والسلوك:

  • بى پير مرو تو در خرابات‌***هر چند سكندر زمانى‌٢
  • [يقول: لا تسلك طريق الخرابات بغير الشيخ المجرّب، ولو كنت الاسكندر في زمانك‌].

  • إنّ إطاعة دستور الأستاذ الكامل هو الشرط الأساس للسير في الطريق وبقدر ما يستخفّ السالك بهذه المسألة سيصاب بالضرر والخسارة.

  • وعلى هذا الأساس، على السالك أن يقدّم دستور الأستاذ على إرادته وميوله الشخصية، بل عليه أنْ لا يكون لديه أى مطلوبٍ سوى إطاعة مرشده، عادّاً إياه الولى وصاحب الاختيار في جميع أمور حياته: بإذنه يقوم، وبإذنه يقعد، ولا يعمل في العلاقات الاجتماعية إلّا بإذنه وتحت إشرافه بنحوٍكامل.

    1. رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم، ص ۱۸٦.
    2. امثال وحكم دهخدا (فارسي)، ج ۱، ص ٤۸٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

108
  • ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ طاعة الأستاذ والانقياد له يكونان فيكثيرٍ من الموارد على خلاف ميول النفس ومشتهياتها، لكن يجب عليه أن يسعى بعزمٍ متينٍ وإرادةٍ لا وهن فيها أن لا يخلى الساحة للنفس وميولها الدنيوية الشهوانية.

  • هذا، وقد كان عدم تسليم السالك لجميع وجوده قبال الأستاذ سببًا في عدم وصول العديد من ذوى الشأن إلى مراتب الكمال النهائى وتوقّفهم في وسط الطريق، أو - والعياذ بالله - تقهقرهم إلى الوراء رغم سلوكهم في الطريق إلى الله، فاحتفظوا بنصيبٍ من وجودهم في مقام الاختيار والعمل، والأستاذ لا يمكنه في الواقع القيام بعملٍ خارجٍ عن رغبة المريدواختياره.

  • هل يكفي العمل بأوامر العظماء دون التتلمذ علييد أستاذ؟

  • المسألة الأخرى التيينبغى تذكرها في هذا المقام، هى أنّ البعض يتصوّرون أنّ العمل بأوامر العظماء بدون التسليم والانقياد لأستاذ الطريق ومربّى النفوس هو بنفسه كافٍ في إيصال الإنسان إلى الفعلية والكمال؛ ولذلك لا يسعون ولا يبذلون أى جهدٍ في سبيل تحقيق هذه الغاية، وينصرفون إلى أداء الأوراد والأذكار وترتيب أمورهم الاجتماعية والشخصية مرتكزين في ذلك على رغبتهم وذوقهم الخاصّ.

  • فهذه الجماعة أيضًا في غاية الاشتباه والغفلة والضلال؛ وذلك لما تقدّم سابقًا من أنّ المخاطر والموانع الموبقة والمُهلكة تكثر في الطريق إلى درجة أنّها تسلب السالك فرصة الحركة والسير والتكامل، ولا فرق في ذلك بين العامّى والعالِم، بل إنّ المخاطر والبلايا التى تحلّ بالعالِم تفوق تلك التى تعرض على غيره كثرةً وصعوبةً وإهلاكا؛ ولذلك فإنّ كثيرًا من أساتذة العرفان يدعون السالك إلى التأمّل والتدبّر فيما يستقبله من الوقائع والأحداث قبل القيام بإرشاده ومساعدته، ويختبرون عزمه وإرادته في مواجهة هذه المسائل، ويلفتون نظره منذ

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

109
  • البداية إلى بعض موانع وصوارف الطريق، وإذا ما وجدوا فيه ضعفًا وقصورًا يقومون بصرفه.

  • أهمية الأستاذ فيكلمات الأعاظم‌

  • يقول الشيخ العطّار في هذا المجال:

  • در چنين راه حاكمى بايد شگرف‌***بو كه بتوان رست از اين درياى جرف‌
  • حاكم خود را بجان فرمان كنم‌***نيك وبد هر چه او بگويد آن كنم‌۱
  • [يقول: يلزم لهكذا طريقٍ حاكمٌ موفّقٌ، علّنا نستطيع اجتياز ذلك البحر العميق.

  • وبأرواحنا سنُنفّذ أوامر حاكمنا، وسنطيع كلّ ما يأمر به من خيرٍ وشرٍّ].

  • وسئل الجنيد عن المُريد والمُرَاد:

  • «قال: المُريد الذييتولّاه سياسة العلم (أى: إنّ تدبير أموره هو من خلال العلم الحصولى والاكتسابى)، والمُراد الذييتولّاه رعاية الحقّ (فتنظيم أموره هو بواسطة مشيئة الحقّ وإرادته)، والمُريد صاحب السير (فهو يطوى الطريق سيراً)، والمُراد صاحب الطير (فهو المحلّق في السماوات) ولا يدرِك الساير (حال) الطاير».٢

  • ومن كلمات أبى سعيد:

  • «مدارُ الطريقة على الشيخ؛ الشيخ في قومه كالنبى في أمّته».

  • ومن المُحقَّق المبَرهن عليه أنّه لا يمكن للإنسان أن يصل بنفسه إلى أية نتيجة، ولذلكيقول العارف الكبير الشيخ محمود الشبسترى:

    1. منطق الطير (فارسي)، المقالة الخامسة عشر ص ۱٢٦.
    2. تذكرة الأولياء (فارسي)، ص ٤٤٤؛ وأورد فيشرح ابن أبي الحديد، ج ۱۱، ص ٢۱٢: «فقال: المُريد سايرٌ والمُرَاد طائرٌ، ومتى يلحق السائرُ الطائرَ؟!»

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

110
  • دل عارف شناساى شهود است‌***وجود مطلق او را در شهود است‌۱
  • [يقول: إنّ قلب العارف عالم بالشهود فوجوده المطلق في الشهود]

  • السيرة العملية للعلامة الطهرانى مع أساتذته السلوكيين‌

  • كان العلّامة الطهرانييعبّر عن أساتذته بأنّهم في منزلة الأنبياء الإلهيين، ويرى أنّ شخصيتهم هى الشخصية التى تتمتّع بالوصول إلى مقام الإشراف والإحاطة على النفوس والضمائر، دون أن تكون لهم جنبة تشريعٍأو ارتباطٍ بالوحى، وأمْرُ أحدِهم هو أمرُ الله تعالى، ودستوره واجبُ الاتّباع كدستور النبى الإلهى.

  • أذكرُ أنّه في أحد الأيام دار حديثٌ بين العلّامة الطباطبائى والعلّامة الطهرانى - رضوان الله عليهما - في مجلسٍ من مجالسهما حول مدى طاعة المُريد لأستاذه ومعيارها في المسائل السلوكية والتقليد الشرعى، فكان من ضمن ما تفضّل به العلّامة الطهرانى: وهل يمكن للمريد أن يجد حقيقةً غير أفعال أستاذه وأقواله، فيتّخذ منها مِلاكا للتأسّى والطاعة والتقليد؟!

  • * * *

  • خصائص «رسالة لبّ اللباب» وقيمتها السلوكية

  • تُعدّ «رسالة لبّ اللباب في سير وسلوك أولى الألباب» التى ألّفها المرحوم العلّامة الطهرانى، واحدةً من أهمّ وأثمن الرسائل التى أُلّفت في هذا الموضوع منذ بزوغ فجر الإسلام وحتّى يومنا هذا؛ فقد قام كلٌّ من العرفاء

    1. ديوان گلشن راز (فارسي)، ص ٤٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

111
  • الإلهيين بدوره في تقديم بياناتٍ عن السير و السلوك العملى إلى الله لكلّ من كان مستعدّاً، وذلك من خلال رسائلَ أو مقالاتٍ أو كتبٍ، وبأساليب متفاوتةٍ، ولكنّنا لا نجد بين ما كتبوه رسالةً تبين باختصار كيفية التحوّلات والتغيرات التى تطرأ على نفوس البشر، وتوضّح منازل الطريق ومراحله، كما هو الحال في هذه الرسالة الشريفة، وقد ترشّحت هذه الرسالة عن يراع العلّامة الطهرانى تقريرًا وتحريرًا للدروس الأخلاقية التيكان العلّامة الطباطبائى - رضوان الله عليه - يلقيها على بعض تلامذته ومريديه؛ وتستحقّ مزايا هذه الرسالة الشريفة وخصوصياتها أن تدرس من جهتين:

  • أوّلًا: إلقاؤها من قبل رجلٍ قدسي كالعلامة الطباطبائى‌

  • الأولى: وتتمثّل بأنّ مُلقى هذه الدروس هو شخصٌ عظيمٌكالعلّامة الطباطبائى رضوان الله تعالى عليه، ذلك الرجل الذييعجز البيان عن وصفه وتصوير فضائله، ويكلّ اللسان عن مدحه وتمجيده.

  • نبذة عن أحوال العلامة الطباطبائى ومقاماته المعنوية

  • لقد كان ذلك الرجل الإلهى قدوةَ أهل زمانه في العلوم النقلية من فقهٍ وأصولٍ وتفسيرٍ وغيرها؛ بحيث يمكننا أن نجعل اسمه في هذا القرن الأخير ضمن من عمل على إحياء الشريعة المحمّدية وازدهار العلوم الدينية، كما أنّه على صعيد الفلسفة الإسلامية والحكمة المتعالية كان الحكيم الذى بعث الحياة في الفلسفة الراقية لحِكمة صدر المتألّهين المتعالية الرفيعة.

  • إنّ رشحات أفكاره الرقيقة وفيوضات بحار حكمته وعرفانه جعلت منه شخصيةً استثنائيةً لم تر القرون الأخيرة نظيرًا لها أبدًا. لقد كان رضوان الله عليه رجلًا لمس بكامل أنحاء وجوده الشريف حقيقة وعمق التعاليم‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

112
  • والمبانى الأصيلة للشريعة الإسلامية ومدرسة التشيع، مازجًا بين المُدركات العقلية وعلوم الوحى وحقيقة الشهود معًا.

  • و بعبارةٍ جامعةٍ: كان العلامة الطباطبائى - رضوان الله عليه - أحد مفاخر الإسلام الذين يعزّ نظيرهم منذ صدر الإسلام و حتّى عصرنا الحاضر، في علوّ درجاتهم الروحية، وإتقان مُدركاتهم العقلية، وكشفهم لحجب عوالم المعنى.

  • العلامة الطباطبائى فيكلمات العلامة الطهرانى‌

  • كان المرحوم العلّامة الطهرانيكثيرًا ما يقول:

  • «إنّ العلّامة الطباطبائى هو إنسانٌ لا تأتى الملائكة على اسمه بغير طهارةٍ ووضوءٍ، وهو شخصيةٌ فذّةٌيخفي قدرها وتُجهل منزلتها حتّى عن الأعاظم العلماء والفقهاء».

  • أذكر أنّنى ذهبتُيومًا برفقة المرحوم العلّامة الطهرانى، إلى منزل أحد أبرز طلّاب العلامة الطباطبائى، و كان هذا الشخص من الحكماء المعروفين والمشهورين، وعندما دار الحديث حول العلّامة الطباطبائى، قال ذلك الرجل الحكيم في وصفه:

  • «لقد كان سماحته شخصيةً لم يصدر عنها تركللأولى ولو لمرّةٍ واحدةٍ، لا في السرّ ولا في العلن».

  • وعندما خرجنا من المنزل، التفت إلى العلّامة الطهرانى وقال:

  • «ما هذا التعبير الذى ذُكر في مدح العلّامة الطباطبائى؟! أين العلّامة الطباطبائى من أمثال هذه التعابير؟! إنّه لفي منزلةٍ قد خرج فيها عن حدّ الوصف والنعت والمدح والتمجيد، وأفعاله غير قابلةٍ للوصف أصلًا؛ فكيف يمكننا أن نقول في حقّه مثل هذه النعوت والأوصاف؟!».

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

113
  • وعندما قال أحدهم ذات يوم عن العلّامة الطباطبائى:

  • «لقد رأيت سماحته في مقام التكليم تمامًا كما قال الله سبحانه بحقّ النبى موسى عليه السلام: {وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‌ تَكْلِيماً}۱».

  • فقال العلّامة الطهرانى:

  • «لا يعدّ هذا مقامًا رفيعًا بالنسبة للعلّامة الطباطبائى».

  • ومن المناسب هنا أن نوكل قلم البيان، ووصف هذه الشخصية الاستثنائية، إلى تلك اليد الماهرة، يدِ أفضل طلّاب مدرسة العلّامة الطباطبائى، عملاق ميدان التوحيد والمعرفة؛ سماحة العلّامة الطهرانى رضوان الله عليه، فنستفيد من قلمه الرشيق فيما كتبه عن أستاذه العظيم، حيث يقول سماحته في مقدّمة كتاب‌ «توحيد علمى وعينى»:

  • «و أما بيان أحوال و ترجمة ... أستاذنا الأكرم، ومولانا الأعظم: سماحة آية الله العظمى الحاج السيد محمّد حسين الطباطبائى التبريزى - أفاض الله علينا من بركات نفسه - فهو أمرٌ عسيرٌ على قلم البيان، خارج عن قدرة الوصف، إذ لا يمتلك الفكرُ السعةَ والمقدرةَ على فهم أطراف مقاماته العلمية والفقهية والحِكمية والعرفانية وجوانبها، ولا على دراسة روحه الرفيعة وخلقه العظيم؛ ولا يمكن للمنطق والكلام أن يحصر تلك النفس القدسية وذلك الإنسان الملكوتى والروح المجرّد داخل سياجه.

  • هر چه گويم عشق را شرح وبيان‌***چون به عشق آيم خجل گردم از آن‌
    1. سورة النساء (٤)، ذيل الآية ۱٦٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

114
  • گر چه تفسير زبان روشنگر است‌***ليك عشق بى زبان روشنتر است‌
  • چون قلم اندر نوشتن مى شتافت‌***چون به عشق آمد، قلم بر خود شكافت‌
  • چون سخن در وصف اين حالت رسيد***هم قلم بشكست وهم كاغذ دريد
  • دل در شرحش چو خر در گل بخفت‌***شرح عشق وعاشقى هم عشق گفت‌
  • آفتاب آمد دليل آفتاب‌***گر دليلت بايد از وى رو متاب‌
  • ز وى ار سايه نشانى مى دهد***شمس هر دم نور جانى مى دهد
  • واجب آمد چون كه بردم نام او***شرح كردن رمزى از انعام او
  • اين نفس جان دامنم برتافته است‌***بوى پيراهان يوسف يافته است‌
  • كز براى حق صحبت سالها***باز گو رمزى از آن خوش حالها
  • تا زمين وآسمان خندان شود***عقل وروح وديده صد چندان شود
  • گفتم اى دور افتاده از حبيب‌***همچو بيمارى كه دور است از طبيب‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

115
  • لا تكلفنى فإنى في الفناء***كلّت أفهامى فلا أحصى ثناء
  • كلّ شى‌ء قاله غير المفيق‌***إن تكلّف أو تصلّف لا يليق‌
  • هر چه مى گويد موافق چون نبود***چون تكلف نيك نالايق نمود
  • خود ثنا گفتن زمن ترك ثنا است‌***كان دليل هستى وهستى خطاست‌
  • شرح اين هجران واين خون جگر***اين زمان بگذار تا وقت دگر۱ 
    1. مختارات من شعر مولانا الرومي في: المجلّد الأول، ص ٤، عن «مثنوي» الميرزا محمود وزيري. (تعليقة).
      يقول:
      وكلّ ما أقوله شرحًا وبيانًا للعشق، أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه.
      وبالرغم من أنّ تفسير اللسان موضّحٌ ومبيّنٌ، لكنّ العشق أكثر وضوحًا حينما يكون بغير كلامٍ.
      ومهما كان القلم مسرعًا في الكتابة، فإنّه عندما وصل إلى العشق تحطّم وصار بددًا.
      وعندما وصل الحديث إلى وصف هذا الحال (العشق) تحطّم القلم كما تمزّقت الأوراق.
      والعقل في شرحه عاجزٌ عجزَ حمارٍ غارقٍ في الوحل؛ فشرح العشق إحساسٌ يتحدّث به العشق نفسه.
      والشمس دليلٌ على الشمس، فإن أعوزك الدليل فلا تشح بوجهك عنها.
      والظلّ وإن كان دليلًا عليها، غير أنّها في كلّ لحظةٍ تنشر نورًا من أنوار الروح.
      ومن الواجب ما دام قد ذُكر اسمه، أن نقدّم رمزًا من رموز إنعامه.
      إنّ هذا النفَس قد أخذ بتلابيب روحي، فقد وجدت فيه رائحة قميص يوسف.
      قائلًا: بحقّ صحبة السنين هلّا أعدت على مسامعنا رمزًا من رموز السعادة.
      حتّى تُصبح السماء ضاحكةً والأرض، وحتّى تكون قوّة العقل أضعافًا.
      قلتُ: يا نائيًا عن الحبيب! أنت كمريضٍ ناءٍ عن الطبيب.
      لا تكلّفني فإنّي في الفناء كلّت أفهامي فلا أبغي ثناء.
      كلّ شي‌ء قاله غير المُفيق إن تكلّف أوتصلّف لا يليق.
      وكلّ ما يقوله لمّا لم يكن موافقًا وكان تكلّفًا فهو لا يليق.
      إنّ الثناء منّي هو ترك الثناء، فهو دليلٌ على وجودي، ووجودي ذنب.
      فاترك تفسير هذا الهجران وهذه المشقّة إلى وقتٍ آخر.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

116
  • وحيث أنّ سماحة الأستاذ قد ارتحل من هذا العالم إلى عالم الخلود، وقام الحقير بتأليف رسالةٍ في ذكراه بعنوان «الشمس الساطعة»؛ فقد كنت أمنّى نفسى بأنّنى ربما استطعت أن أقوم بتعريفه إلى حدٍّ ما، وبيان طريقه لعشّاق الحبيب والمشتاقين للقاء جماله السرمدى؛ ولكنّنى عندما أطالع هذه الكتابات من حينٍ لآخرٍ، لا أملك إلّا أن أقول: هيهات، هيهات أن أظنّ أنْ أصلَ إلى فهم مغزى معنويتك، أو أقدر على أن أتفوّه بكمال روحانيتك؛ فيرجع فهميكليلًا، وعينى خائبةً وحسيرةً، ولسانى خارسًا وثقيلًا!۱

  • عنقا شكار كس نشود دام بازگير***كانجا هميشه باد به دست است دام را٢
  • * * *

  • سينه ام ز آتش دل در غم جانانه بسوخت‌***آتشى بود در اين خانه كه كاشانه بسوخت‌
  • تنم از واسطه دورى دلبر بگداخت‌***جانم از آتش مهر رخ جانانه بسوخت‌
    1. إنّ العبارات التي باللون الأسود الغامق من تأليف العلامة الطهراني، وهي ليست معرّبة، فاقتضى التنبيه. (م)
    2. ديوان حافظ الشيرازي، طبع پژمان، ص ۷. (تعليقة).
      يقول: ليس لأحدٍ أن يصطاد العنقاء فاجمع شراكك وارحل؛ فلا شي‌ء هناك سوى الريح.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

117
  • سوز دل بين كه زبس آتش واشكم دل شمع‌***دوش بر من ز سر مهر چو پروانه بسوخت‌
  • ماجرا كم كن وبازآ كه مرا مردم چشم‌***خرقه از سر بدر آورد بشكرانه بسوخت‌
  • هركه زنجير سر زلف گره گير تو ديد***دل سودازده اش بر من ديوانه بسوخت‌
  • شنائى نه غريب است كه دلسوز من است‌***چون من از خويش دل بيگانه بسوخت‌
  • خرقه زهد مرا آب خرابات ببرد***خانه عقل مرا آتش خمخانه بسوخت‌
  • چون پياله دلم او توبه كه كردم بشكست‌***همچو لاله جگرم بى مى وپيمانه بسوخت‌
  • ترك افسانه بگو حافظ ومى نوش دمى‌***كه نخفتم به شب وشمع به افسانه بسوخت‌۱
    1. ديوان حافظالشيرازي، طبع پژمان، ص ۱٥.
      يقول: لقد احترق صدري بنار القلب المؤجّجة حزنًا لفراق الحبيب، فأحرقت ألسنة النار عُشي الآمن.
      وذاب جسدي وانصهر كياني لبعد الحبيب، واكتوت روحي واحترقت نفسي بنار خدّه.
      فانظر إلى احتراق قلبي ونار دموعي المنهمرة كدموع الشمع، وحينما أشفق الحبيب بحالي وزارني ليلة الأمس احترق بناري كالفراشة.
      فأقلّ الحديث عمّا جرى، وارجع إليَّ، فإنسان عيني قد طوّح بالخرقة عن رأسي، وشكراً للّه أنها احترقت. كلّ من شاهد سلسلة شَعرك الجذاب، سوف يحترق قلبه عليّ أنا المجنون بحبك، حرقة قلبي أمرٌ معروفٌ ليس منكرًا، وعندما أحرقني وغبت أحرق قلب الغريب.
      ولقد جرف ماء الخرابات خرقة الزهادة بطوفانه، وأحرقت نار الحانة مستقر عقلي.
      وانكسر قلبي انكسار الكأس بسبب التوبة التي تبتها، واحترق كبدي احتراق الشقائق بغير الخمرة والحانة.
      استغل وقتك يا حافظ بشرب الخمر، فقد احترق الشمع ونحن نقص مثل هذه الحكايات، فكذلك احترق شمع حياتي في حكاية هذه الأباطيل.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

118
  • انتهى كلام العلامة الطهرانى‌۱.

  • سلسلة الانتساب العرفانية للعلّامة الطباطبائى‌

  • أضف إلى ذلككلّه أنّ المرحوم العلّامة الطباطبائييعدّ نفسه - في المعارف الإلهية وكشف حقائق عالم الوجود - في عِداد تلامذة العلّامة آية الله العظمى وحجّته الكبرى العارف الكامل المرحوم الحاج الميرزا على القاضى الطباطبائى، وكان يبين سلسلة انتسابه العرفانى إلى العرفاء الإلهيين على النحو التالى:

  •  

    1. توحيد علمي وعيني (فارسي)، ص ٣٥ إلى ٣۷.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

119
  • فالمرحوم العلّامة الطباطبائى ينتسب إذن إلى مسلك أهل العرفان والسلوك من طريقين اثنين؛ وبناءً على ذلك يمكن القطع بصحّة مضامين ومحتويات هذه الرسالة الشريفة؛ فقد كان صاحبها ومُلقيها أحد علماء الدرجة الأولى عند الشيعة، وكان خبيرًا بكافّة المبانى والمدارس المختلفة والفِرَق المتنوّعة، كما كان على قسطٍ وافرٍ من موهبة الكشف والشهود.

  • ثانيا: تحريرها من قبل عارفٍ عظيم كالعلامة الطهرانى‌

  • وأمّا من‌ الجهة الثانية، فهى انتساب هذا الكتاب الشريف إلى مؤّلفه ومقرّره المرحوم العلّامة آية الله العظمى وحجّته الأكبر السيد محمّد حسين الحسينى الطهرانى، فإنّه شخصية لا يطيق توصيفها وتعريفها كاتب هذه السطور؛ فهو يفوق أفق عقلى وإدراكى، وما الكتابة في هذا المجال إلّا بمثابة بيانٍ للأوهام والتخيلات.

  • منزلة العلامة الطهرانى عند العلامة الطباطبائى‌

  • لقد كان العلامة الطهرانى التلميذ الأوّل والمُميز للمرحوم العلّامة الطباطبائى في العلوم الرسمية من الفلسفة والفقه والتفسير وفقه الحديث. وإضافةً إلى ذلك، فقد كان طيلة السنوات السبع التى أقام خلالها في مدينة قم المقدّسة يستفيد منه يومياً مدّة ساعتين على الأقلّ وبنحوٍ خصوصى، وكان يغترف من فيوضات علم هذا النبع وحكمته فينهل من معين بيانات عرفانه وتوحيده، وقد كانت تلك العلاقة بين الأستاذ وتلميذه على درجة من الصميمية بحيث جعلت المرحوم العلّامة الطباطبائى لا يحتمل فراقه؛ فهو يكتب في إحدى رسائله إليه بعد هجرته إلى النجف:

  • «... ولكن ومع كلّ ذلك - وكما يشهد قلبكم كذلك طبقًاللقاعدة - فإنّ الملامح الرقيقة لوجه جنابكم العالى لا تغيب عن ذاكرتى، ولولا أنّ المسألة كانت هى السفر إلى أعتاب عرش‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

120
  • حضرة أمير المؤمنين عليه السلام، ما كان الحقير ليقبل بسفر حضرتكم لا في مقام العمل ولا التصوّر.

  • وعلى كلّ حالٍ وبكلامٍ مختصرٍ فإنّ قلب هذا العبدعندكم ...».

  • أساتذة العلّامة الطهرانى في العرفان‌

  • لم يكن العلامة الطهرانى في هذه المدّة بمثابة التلميذ الأبرز عند العلّامة الطباطبائيوحسب، بل تربّى عنده كتلميذٍ سلوكى أيضًا، وعمل على تهذيب نفسه، والتزم بالقيام بالدستورات وبرامج المراقبة العملية، والأذكار والأوراد في الليل والنهار، وكان مسلّماً قلبه بكامل الجدّ والاهتمام لأوامر أستاذهودستوراته، ذلك الأستاذ الذيكان يرى أنّ السلوك العملى والارتقاء إلى مرتبة العرفان والتجرّد هو السبيل الأوحد للوصول إلى إدراك ولاية الإمام عليه السلام والإحاطة الحقيقية بمسألة الولاية، وعلى هذا الأساس قام بتربية تلميذه هذا صاحب الاستعداد العظيم.

  • لقد وصل العلّامة الطهرانى بعد هجرته إلى النجف الأشرف، واستفادته من دروس أساتذة العلوم الرسمية، إلى مرتبة من العِلم جذبت إليه الأنظار، حتى صار مشارًا إليه بالبنان، وقد كان شائعًا في الحوزة آنذاك أنّه لو دامت إقامته في النجف لآلت إليه مرجعية الشيعة.

  • في الوقت نفسه، وطبقًالوصية أستاذه العلّامة الطباطبائيفقد أقام صداقاتٍ سلوكيةٍ مع تلامذة المرحوم القاضى، وخصوصًا الحاج الشيخ عبّاس القوچانى، والسيد جمال الدين الگلبايگانى.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

121
  • تعرّض العلامة الطهرانى للأذية لثباته في السير والسلوك‌

  • لم يكن منهجه في الحياة وفي طلب العلم ليرضى علماء أهل الدنيا، الجاهلين بعوالم المعنى، والمغمورين في بوادى النفس الأمّارة؛ لذا فقد تعرّضوا له بالإهانة والإيذاء، غير أنّه لم يكن ليتنازل عن معتقداته ولو بمثقال ذرّةٍ، ولأنّه تفوّق في قدراته العلمية - والتى فاق بها حتّى أساتذته - لم يتركأى مجالٍ للجرأة عليه، ولأنّ منطقه القاطع القويم لم يدع فرصةً للتجاسر عليه من قبل أهل الجهل وتجّار الدين المتظاهرين بلباس أهل العلم، فقد عمل هؤلاء سرًّا على بثّ الأكاذيب والتهم لتشويه صورته؛ فاتّهموه بالتصوّف المُنكر.

  • وينقل هو نفسه أنّ أحد أساتذته (المرحوم آية الله الخوئى رحمة الله عليه) استوقفه يومًا وقال له:

  • «آغا سيد محمّد حسين! إنّها لخسارة أن يصرف مثلكم أوقاته في الأمور السلوكية، والالتزام بالبرامج الخاصّة بهذا الطريق، مع كلّ ما أنتم عليه من الاستعداد والنبوغ العلمى، فهذه مسائل تحصل للإنسان من تلقاء نفسها، ووقت الطلّاب أثمن من أن يصرف في سبيل هذه الأمور!!»

  • فأجابه العلّامة:

  • «أنتم تعلمون بأنّى أقوى تلامذة دروسكم، وأنا مستعدّ للمباحثة معكم في أى مسألةٍ فرعيةٍ تختارونها؛ كييتّضح أينا أشدّ تضلعًا وأقوى استدلالًا وأوفر علماً!؟ فهل ترانى أترك أيامى تنقضى عبثًا كأولئك الذين ليس لهم من عمل سوى إتلاف أوقات العمر والسهرات اللاهية والخوض في الغيبة والتهمة والدخول في خصوصيات الصالحين؟!

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

122
  • ولو أنّ هذه المسائل المعنوية ودرجات العوالم الربوبية كانت تتيسّر للإنسان من تلقاء نفسها، لكنا شاهدناها منكم ومن أمثالكم! أين تحصل هذه المسائل من تلقاء نفسها؟!

  • هيهات هيهات أن يستطيع الإنسان الوصول إلى ذرّةٍ من هذه المعارف، وهو على هذا النحو من التفكير وعلى مثل هذه الرؤى والأنظار!

  • إنّهم يقضون كامل أعمارهم في الشك والحيرة والتردّد والجهل، ويهاجرون من هذا العالم إلى عالم الآخرة صفر اليدين بغير مستمسك أو دليلٍ، ليحين هناك موعد الحساب».

  • ارتباط العلّامة الطهرانى بالعارف الكامل السيد هاشم الحدّاد

  • وبعد مضى سبع سنواتٍ من إقامة العلّامة الطهرانى في النجف، والاستفاضة من بركات العتبة المقدّسة لصاحب الولاية الكبرى حضرة مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام، وبواسطة العنايات التى خصّه بها حضرة بقية الله الحجّة بن الحسن المهدى أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، فقد التقى بأبرز تلامذة المرحوم القاضى في الأخلاق والعرفان، الحاج السيد هاشم الموسوى الحدّاد، تلك الشخصية التى استطاعت أن تجتذب كامل شراشر وجوده وتُخضعها لسيطرتها الولائية، فلم تعد لتبقى في زوايا وجوده أية نقطةٍ من نقاط الإبهام والغموض.

  • إنّ العبارات التيكان يتحدّث بها المرحوم العلّامة الطهرانى عن هذا العارف الفريد تختلف عن العبارات التييشير بها إلى سائر العرفاء والأولياء الإلهيين، سواءً الماضين منهم أم المعاصرين له، ولمزيد من التوضيح في هذا

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

123
  • المجال نحيل القرّاء إلى كتابَى‌ «أسرار الملكوت» الجزء الثانى، و «الشمس المنيرة».

  • وما امتاز به المرحوم الحدّاد من سيرٍ روحى، وقدرةٍ عرفانيةٍ، وسعةٍ في الآفاق الفكرية، وعلوٍّ في الفكر كان قد بلغ حدًّا لم يدع مجالًالحضور غيره في ذهن العلامة الطهرانى، وعقله وقلبه وضميره، وقد نزع منه كلّ إحساسٍ بالتفوّق، وسدّ الطريق أمام أى منقصةٍ أو ثغرةٍ؛ فدخل تحت تربية هذا الرجل الكبير وتهذيبه بكلّ وجوده وبكامل اختياره، وبدّل اختياره باختياره، وأحلّ إرادته مكان إرادته، وكان بين يديه سمعًا كلّه وبصرًا؛ كان بين يديه صفرًا، بل كان عبدًاومريدًا، وكان يرى كلامه عين الوحى، وإشارته عين مشيئة الحقّ، تنتزع الحقيقة والواقع من حركاته وسكناته، لا أنّ فعله وقوله مطابقان للمصلحة والواقع.

  • مِن هنا كان من الطبيعى أن يتغير مستوى التكامل المعنوى وأفق كشف الحقائق التوحيدية عند العلّامة الطهرانى، وأن يختلف فهمه وإدراكه لمسائل التوحيد والعرفان عمّا أخذه سابقًا من سائر الأساتذة، وكان حقًا أن يصل إشراق بوارق الجلال والجمال على قلبه إلى تحوّلٍ جوهرى في وجدانه وضميره، فينال أعلى موهبةٍ إلهيةٍ متمثّلةٍ بالوصول إلى مقام تجرّد الذات والفناء في ذات الله، ويحوز بتأييدٍ من الله على مرتبة البقاء بالله؛ لمساعدة النفوس المستعدّة وهدايتها وإرشادها، فيلقّبه أستاذه السيد هاشم الحدّاد بـ «سيد الطائفتين».

  • ولقد خاطبنى السيد الحدّاد يومًا:

  • «اعلم يا فلان أنّه لن يعثر على نظير لأبيك على وجه الكرة الأرضية، وإنّى سلّمته كلّ ما أملك مائة في المائة».

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

124
  • العلّامة الطهرانيوصى ظاهر وباطن للسيد الحدّاد

  • لقد كان المرحوم العلّامة الطهرانى الوصى الظاهر والباطن للمرحوم الحدّاد وفق وصيته المكتوبة، وقد فُوِّضت إليه كافّة مهامّ المرحوم الحدّاد۱، والمُلفِت أنّ مدّة صحبته للمرحوم الحداد التيكانت ثمانية وعشرين سنةً، مطابقةً تمامًا لمدّة صحبة المرحوم الحدّاد لأستاذه في العرفان: المرحوم السيد على القاضى رضوان الله عليهم أجمعين.

  • لقد وصل العلّامة الطهرانى في المعارف التوحيدية والمقاصد العرفانية إلى أفقٍ لا يتصوّر ما هو أرفع منه، وحيث كان من شيمه وخصائصه في علاقته بأساتذته وأولياء نعمته رعاية الأدب والاحترام واللطف، فقد فتح باب البحث والمذاكرة حول المسائل التوحيدية والعرفانية مع المرحوم العلّامة الطباطبائى في أواخر حياته، فتباحثا في ست جلساتٍ انعقدت في مدينة طهران، عن حقيقة فناء العبد فناءً ذاتيا في ذات الله، وانمحاء جميع التعينات والآثار، حتى العين الثابتة للعبد انمحاءً كلياً، وقد وردت هذه المطالب مفصّلة فيكتابه «الشمس الساطعة»٢. وكان المرحوم العلّامة الطباطبائى في هذه المباحثات يؤكد على عدم الفناء الذاتى وعلى بقاء العين الثابتة، وكان يستدلّ على ذلك بأدلّةٍ خاصّةٍ؛ غير أنّه في النهاية، وبعد الأخذ والردّ والمناقشة للأدلّة، اقتنع بحصول الفناء الذاتى، وقد أدّى اقتناعه بذلك إلى أن تسيطر عليه حالاتٍ من البهجة والنشاط والتعمّق والتفكر.

    1. أسرار الملكوت (فارسي)، ج ٢، ص ٥۱٢.
    2. الشمس الساطعة، ص ٢٢٣ إلى ص ٢۷٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

125
  • وبعد انتهاء هذه الجلسات، والتيكان كاتب هذه السطور قد تشرّف بخدمة الوالد المعظّم بحضورها، سمعتُ العلّامة الطباطبائى يقول: «لقد جعلكم الله وسيلةً لهدايتى وإرشادى»، وإنّها لكلمةٌ تحمل بين ثناياها عالَماً من العظمة والتواضع والخلوص والصدق والبهاء.

  • والملفت في المسألة أنّ هذه المباحثات نفسها كانت قد حصلت بين المرحوم العلّامة الطباطبائى وأستاذه المرحوم القاضى أثناء إقامته في النجف، لكنّ المرحوم القاضى لم يتمكن من إقناعه بهذه المسألة، وقد تحقّقت هذه المهمّة بتوفيق الله على يد العلّامة الطهرانى. وله الحمد وله الشكر وهو الموفّق والمعين.

  • كان ذلك خلاصة عن شخصية مقرّر وجامع هذه الرسالة الشريفة، ورغم أنّ المطالب التى لم تُذكر في هذه المقالة تفوق بكثيرٍ ما ذكر فيها، لكن لن يصعب على أرباب البصيرة والدراية إدراك الحقائق وكشف الرموز مِن بين ما كتب في هذه السطور.

  •  

  • اللهمّ ألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون 

  • وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل والنهار يعبدون

  • بمحمّد وآله الطاهرين.

  • قم المقدّسة، الاثنين ۱٤ شوّال ۱٤٢۷ ه

  • السيد محمّد محسن الحسينى الطهرانى‌