المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الله
التوضيح
أصل هذه الابحاث دورة تفسيريّة جرى فيها المذاكرة والتحرير من الآية المباركة {اللَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} إلى {وَاللَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وقد جري البحث والمذاكرة في هذه الأبحاث عن مسألة التوحيد الذاتي والأسمائي والأفعاليّ للذات المقدّسة للحقّ تعالى، وعن كيفيّة نشوء عالم الخلقة، وربط الحادث بالقديم، ونزول نور الوجود في مظاهر الإمكان، وحقيقة الولاية وربط الموجودات بذات الباري تعالى، وعن لقاء الله والوصول إلي ذاته المقدّسة بفناء الوجود المجازي المُعار واندكاكه في الوجود الحقيقيّ المطلق الأصيل.
البَحْثُ ٢٥ إلى ٣۰: جَمِيعُ النَّاسِ- سوى الْعُرَفَاءِ- يَرَوْنَ اللهَ بِنَظْرَةٍ مُزْدَوَجَةٍ و تفسير سورة التكاثر
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
تفسير العلّامة لسورة التكاثر.
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
(سورة التكاثر كاملةً، و ترتيبها الثانية بعد المائة)
يقول سماحة أستاذنا الأعظم العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تفسيره هذه السورة المباركة:
«بيان:
توبيخ شديد للناس على تلهّيهم بالتكاثر في الأموال و الأولاد و الأعضاء و غفلتهم عمّا وراءه من تبعة الخسران و العذاب، و تهديد بأنّهم سوف يعلمون و يرون ذلك و يُسألون عن هذه النِّعم التي اوتوها ليشكروا فتلهّوا بها و بدّلوا نعمة الله كفراً.
قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، قال في «المفردات»: اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه. قال، و يقال: ألْهَاهُ
كَذَا، اي شغله عمّا هو أهمّ إليه، قال تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ- انتهى.
و قال الراغب: و المُكَاثَرَة و التَّكَاثُر: التباري في كثرة المال و العزّ. و قال أيضاً: المِقْبَرَة (بكسر الميم و فتحها): موضع القبور، و جمعها مَقَابِر؛ قال حتى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ كناية عن الموت- انتهى كلام الراغب.
فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا و زينتها و التسابق في تكثير العدّة عمّا يهمّكم، و هو ذكر الله، حتى لقيتم الموت فعمّتكم الغفلة مدى حياتكم.
و قيل: المعنى شغلكم التباهي و التباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالًا، و هؤلاء: نحن أكثر حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم.
و هذا المعنى مبنيّ على ما ورد في أسباب النزول أن قبيلتين من الأنصار تفاخرتا بالأحياء ثمّ بالأموات، و في بعضها أن ذلك كان بمكّة بين بني عبد مَناف و بني سَهْم فنزلت السورة، و ستأتي القصّة في البحث الروائيّ.
قوله تعالى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ردع على اشتغالهم بما لا يهمّهم عمّا يعنيهم و تخطئة لهم، و قوله: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهّيكم هذا و تعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.
قوله تعالى: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، تأكيد للردع و التهديد السابقَينِ، و قيل: المراد بالأوّل علمهم بها عند الموت، و بالثاني علمهم بها عند البعث.
قوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ردع بعد ردع تأكيداً، و اليقين العلم الذي لا يداخله شكّ و ريب.
و قوله: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، جواب لو محذوف، و التقدير لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي و التفاخر بالكثرة، و قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، استئناف في الكلام، و اللام للقسم، و المعنى اقسم لتروُنّ الجحيم التي جزاء هذا التلهي كذا فسّروا. ۱
قالوا: و لا يجوز أن يكون قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب لو الامتناعيّة، لأنّ الرؤية محقّقة للوقوع و جوابها لا يكون كذلك.
و هذا مبنيّ على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال: وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى،۱ و هو غير مسلّم، بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة و هي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه، قوله تعالى:
وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.٢
و قد تقدّم الكلام فيها، و هذه الرؤية القلبيّة قبل يوم القيامة غير محقّقة لهؤلاء المتلهّين، بل ممتنعة في حقّهم لامتناع اليقين عليهم.
قوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ، المراد بعين اليقين نفسه،
و المعنى لتروُنّها محض اليقين، و هذه بمشاهدتها يوم القيامة، و من الدليل عليه قوله بعد ذلك ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، فالمراد بالرؤية الاولى رؤيتها قبل يوم القيامة، و بالثانية رؤيتها يوم القيامة.
و قيل: الاولى قبل الدخول فيها يوم القيامة، و الثانية إذ دخلوها. و قيل: الاولى بالمعرفة، و الثانية بالمشاهدة. و قيل: المراد الرؤية بعد الرؤية، إشارة للاستمرار و الخلود. و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة.
قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، ظاهر السياق أن هذا الخطاب و كذلك الخطابات المتقدّمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربّه عن ربّه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، و ما في السورة من التوبيخ و التهديد متوجّه إلى عامّة الناس ظاهراً واقع على طائفة خاصّة منهم حقيقة و هم الذين أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ.
و كذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقه و هو كلّ ما يصدق عليه أنّه نعمة، فالإنسان مسؤول عن كلّ نعمة أنعم الله بها عليه.
و ذلك أن النعمة- و هي الأمر الذي يلائم المُنعَم عليه و يتضمّن له نوعاً من الخير و النفع- إنّما تكون نعمة بالنسبة إلى المُنعَم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع، و أمّا لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه، و إن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
و قد خلق الله تعالى الإنسان و جعل غاية خلقته التي هي سعادته و منتهى كماله التقرّب العبوديّ إليه كما قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.۱
و هي الولاية الإلهيّة لعبده، و قد هيّأ الله سبحانه له كلّ ما يسعد
و ينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خُلِق لها و هي النعم فَأسْبَغَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً.۱
فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله و ينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية و هو الطاعة، و استعمالها بالجمود عليها و نسيان ما وراءها غيّ و ضلال و انقطاع عن الغاية و هو المعصية، و قد قضى سبحانه قضاء لا يُردّ و لا يُبدّل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه و يجزيه، و عمله هو استعماله للنِّعم الإلهيّة، قال تعالى:
وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى، وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.٢
فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله، أ شَكَرَ النعمة أم كفر بها.
شأن نزول سورة الهيكُمُ التَّكَاثُرُ.
«بحث روائيّ»
في «المجمع»، قيل: نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، و بنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا. ضلالًا، عن قتادة.
و قيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا، عن أبي بريدة.
و قيل: نزلت في حيّينِ من قريش بني عَبد مَناف بن قُصَيّ، و بني سَهْم بن عَمْرو، تكاثروا و عدّوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف.
ثمّ قالوا: نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم و قالوا: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم، لأنّهم كانوا أكثر عدداً في الجاهليّة، عن
مقاتل و الكلبيّ.
و في تفسير «البرهان» عن البرقيّ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، قال: المعاينة.
أقول: الرواية تؤيّد ما قدّمناه من المعنى.
و في «تفسير القمّيّ» بإسناده عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلتُ له: لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ. قال: تُسْألُ هَذِهِ الامَّةُ عَمَّا أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهَا بِرَسُولِهِ ثُمَّ بِأهْلِ بَيْتِهِ.
و في «الكافي» بإسناده عن أبي خالد الكابليّ قال: دَخَلْتُ عَلَى أبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَا بِالغَدَاءِ، فَأكَلْتُ مَعَهُ طَعَاماً مَا أكَلْتُ طَعَاماً أطْيَبَ مِنْهُ قَطُّ وَ لَا ألْطَفَ.
فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الطَّعَامِ قَالَ: يَا أبَا خَالِدٍ! كَيْفَ رَأيْتَ طَعَامَكَ- أوْ قَالَ: طَعَامَنَا-؟!
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! مَا أكَلْتُ طَعَاماً أطْيَبَ مِنْهُ قَطُّ وَ لَا أنْظَفَ، وَ لَكِنْ ذَكَرْتُ الآيَةَ التي في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»!
فَقَالَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَمَّا يَسْألُكُمْ عَمَّا أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ!
و فيه بإسناده عن أبي حمزة قال:
كُنَّا عِنْدَ أبِي عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ جَمَاعَةً، فَدَعَا بِطَعَامٍ مَا لَنَا عَهْدٌ بِمِثْلِهِ لَذَاذَةً وَ طِيباً، وَ اتِينَا بِتَمْرٍ تَنْظُرُ فِيهِ أوْجُهُنَا مِنْ صَفَائِهِ وَ حُسْنِهِ.
فَقَالَ رَجُلٌ: لَتُسْألُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ الذي تَنَعَّمْتُمْ بِهِ عِنْدَ ابْنِ رَسُولِ اللهِ!
فَقَالَ أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: أن اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أكْرَمُ وَ أجَلُّ أن
يُطْعِمَ طَعَاماً فَيُسَوِّغَكُمُوهُ، ثُمَّ يَسْألَكُمْ عَنْهُ!
إنَّمَا يَسْألُكُمْ عَمَّا أنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
أقول: و هذا المعنى مرويّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بطرق أخرى و عبارات مختلفة و في بعضها أن النعيم ولايتنا أهل البيت.
و يؤول المعنى إلى ما قدّمناه من عموم النعيم لكلّ نعمة أنعم الله بها بما أنّها نعمة.
بيان ذلك أن هذه النعم لو سئل عن شيء منها فليست يسأل عنها بما أنّها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنّها سمع أو بصر أو يد أو رِجل مثلًا، و إنّما يُسأل عنها بما أنّها نعمة خلقها الله للإنسان و أوقعها في طريق كماله و الحصول على التقرّب العبوديّ، كما تقدّمت الإشارة إليه، و ندبه إلى أن يستعملها شكراً لا كفراً.
مرجع السؤال عن النعيم إلى السؤال عن العمل بالدين
فالمسؤول عنها هي النعمة بما أنّها نعمة، و من المعلوم أن الدالّ على نعيميّة النعيم و كيفيّة استعماله شكراً و المبيّن لذلك كلّه هو الدين الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله و نصب لبيانه الأئمّة من أهل بيته.
فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كلّ حركة و سكون
المراد بالنعيم هو الولاية
و من المعلوم أن السؤال عن النعيم الذي هو الدين سؤال عن النبيّ صلى الله عليه و آله و الأئمّة من بعده الذين افترض الله طاعتهم و أوجب اتّباعهم في السلوك إلى الله الذي طريقه استعمال النعم كما بيّنه الرسول و الأئمّة.
و إلى كون السؤال عن النعيم سؤالًا عن الدين يشير ما في رواية أبي خالد من قوله: إنَّمَا يَسْألُكُمْ عَمَّا أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ.
و إلى كونه سؤالًا عن النعيم الذي هو النبيّ و أهل بيته يشير ما في
روايتي جميل و أبي حمزة السابقتين من قوله: تُسْألُ هَذِهِ الامَّةُ عَمَّا أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهَا بِرَسُولِهِ ثُمَّ بِأهْلِ بَيْتِهِ أو ما في معناه.
و في بعض الروايات النَّعِيمُ هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ أنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَى أهْلِ العَالَمِ فَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ.
و في بعضها أن النَّعِيمَ وَلَايَتُنَا أهْلَ البَيْتِ.
و المآل واحد و من ولاية أهل البيت افتراض طاعتهم و اتّباعهم فيما يسلكونه من طريق العبوديّة.
و في «المجمع»، و قيل: النَّعِيمُ الصِّحَّةُ وَ الفَرَاغُ عن عكرمة، و يعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم قال: نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَ الفَرَاغُ.
و فيه، و قيل: هو يعني: النَّعِيمُ الأمْنُ وَ الصِّحَّةُ. عن عبد الله بن مسعود و مجاهد، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله.
أقول: و في روايات أخرى من طرق أهل السنة أن النعيم هو التمر و الماء البارد و في بعضها غيرهما، و ينبغي أن يحمل الجميع على إيراد المثال و في الحديث النبويّ من طرقهم: ثَلَاثٌ لَا يُسْألُ عَنْهَا العَبْدُ: خِرْقَةٌ يُوَارِي بِهَا عَوْرَتَهُ، أوْ كِسْرَةٌ يَسُدُّ بِهَا جُوعَتَهُ، أوْ بَيْتٌ يَكِنُّهُ مِنَ الحَرِّ وَ البَرْدِ- الحديث.
و ينبغي أن يحمل على خفّة الحساب في الضروريّات و نفي المناقشة فيه و الله أعلم»۱
كان هذا ما ذكره الاستاذ الأكرم قدّس الله سرّه في تفسيره. و أمّا ما سمعه الحقير خلال بحوثه الشفهيّة و دوّنته عنه، فهو أكثر صراحة ممّا قيل
في إثبات وحدة الذات المقدّسة للحقّ تعالى. فقد قال سماحته صراحة: «لا توجد لدينا آية أكثر وضوحاً و صراحة في إثبات الوحدة من هذه. بل أن هذه الآيات قد تجاوزت حدود الصراحة كذلك، و إنّما عجبي هو من عدم إصغائنا لها!».
فهذه الآيات تقول: يا أيّها الناس لقد كنتم تعرضون عن رؤية الحقّ الواحد المعبود المسجود له و لقائه في طوال سنيّ عمركم حتى تُقبرون، حيث تصوّرتموه في شئون الكثرات بصورة المقيّد و المتعيّن؛ و هذه هي حقيقة الجحيم و النار النزّاعة للشوى المتمثّلة بحجبكم وجه الحقّ تعالى.
ضعوا عنكم ستار التعيّن لعالم الوجود و الكثرة حتى يتجلى لكم جمال الواحد الأحد، فتلبسون لباس النعمة الحقيقيّة و هي لباس الولاية و العبوديّة الصرفة في مقابل هكذا ربّ، و لا تعرضوا عن ذلك النعيم و تبطلوه و تحرموا أنفسكم من فيض الولاية التي هي حقيقة القرب. و لا تُحرقوا بنار الكثرات و التعيّنات المستعرة أعينكم؛ و ما ترونه في هذه الدنيا سيظهر لكم في الدار العقبى على صورة جهنّم.
فإن أزلتم ستار حجاب الملكوت عن أبصاركم الرمداء و الحولاء، فسوف ترون في الحال بعلم اليقين و المعاينة أن التهافت على التكاثر و الاستزادة إنّما هما سدّ عظيم صنعتموه بأيديكم و لن يتسنى لكم رؤية جمال الحقّ تعالى إلّا بتخلّيكم عن الكثرات و المباهاة في كثير من الامور الواهية و الاعتباريّة و المجازيّة فتشاهدوه و تأنسوا به و تتمتّعوا بقدر كاف من واقعيّة النعيم!
قال العلّامة: «أن التفسير الأوّل و الذي يخصّ السورة ليس مستساغاً بما فيه الكفاية؛ خلافاً للتفسير الثاني الذي يعتبر مقبولًا و مرضيّاً». و لمزيد من البيان، نورد هنا مقتطفات من كلامه الذي ذكرناه في ذِكراه:
قال: «ففي الآية إطلاق و أن أيّ نوع من أنواع الاستكثار [سواء في الأموال و الأولاد، أو في الخيرات، أو في العلم، أو في الفقه و الاصول و الحكمة و الحديث و التفسير و سائر العلوم و الفنون] يحول من بلوغ الإنسان إلى مقام الوحدة و السلوك إلى الله.
إن هذا التفسير أفضل من التفسير الأوّل: فالأوّل ليس مقبولًا بما فيه الكفاية».
و قال: «و قد اجتاز القرآن مرحلة أو دائرة الصراحة في بعض الأماكن؛ و لكن في الوقت ذاته تأبى أنفسنا إلّا أن نُؤوِّل ذلك تأويلًا آخر.
لقد حال الاستكثار و الحرص بينكم و بين رؤية جمال الحقّ و الوحدة المطلقة و جعلكم تغفلون عن ذلك حتى اقبِرتُم».
و قال أيضاً: «و معنى ذلك هو: أن هذه الكثرات و الاستكثارات و الحرص كلّ ذلك أشغلكم بأنفسكم، و ألهاكم عن لقاء الحقّ و رؤيته حتى حان الموت. أيّ أنّكم تجرون وراء الكثرات ما دمتم أحياء؛ و هكذا حتى يأتيكم اليقين و يدرككم الموت فتموتون!».۱
و قال أيضاً: [قال الإمام الصادق عليه السلام مخاطباً أبا حنيفة في أحد المجالس: ليس المراد بالنعيم الطعام و الشراب و أمثالهما] بل المراد من النعيم ولايتنا أهل البيت فيُسأل الناس يومئذٍ: ما مدى تولّيكم و سيركم على خطى أئمّتكم و سيرتهم و منهاجهم في سيركم و سلوككم إلى الله؟!
و إلى أيّ حدّ ذُبتم في مقام العبوديّة المحضة المطلقة؟!
و المراد ب- جنّة النعيم الواردة في القرآن هو هذه الجنّة كذلك. اي: «جنّة الولاية» التي هي جنّة المُخلَصين و المقرّبين من أولياء الله و الواصلين إلى مقام التوحيد الذاتيّ و المندكّين في عوالم الربوبيّة و صفات الجمال و الجلال الإلهيينِ. جنّة اولئك الذين تخلّصوا من أدرانهم الوجوديّة بالكامل و سلّموا كلّ ذلك بِيَدِ الحقّ تعالى.
و هكذا علمنا بوساطة جميع هذه الشواهد و القرائن الحاقّيّة الداخليّة و العارضة الخارجيّة أن الولاية كُنِّيت بالنعمة؛ و إن كان الظاهر أن المراد بها هو مطلق النعمة، إلّا أنّه في الحقيقة يجب أن يكون المراد بالنعمة هو الولاية.
العلّامة: من المقابلة بين النعيم و الجحيم يستنتج أنّ النعيم هو الولاية
و الحقّ أنّنا لا نروم من هذا التفسير (تفسير النعمة بالولاية) الحصول على هذا المعنى بتضمين الروايات الواردة، بل أن هدفنا هو استقاء هذا المعنى من نفس الآيات و الشواهد الموجودة فيها.
لاحظوا أنّه بعد أن وُصِف التكاثر باللهو، و عُبِّر عنه بالجحيم و النار المستعرة في حال وجود علم اليقين و عين اليقين؛ فقد اعتُبِر النعيم بالمقابل، و هو مقام التوحيد- الذي يتجلى في العبد و يُعَبَّر عنه بالعبوديّة المحضة- أكبر عامل يؤاخذ عليه و يُسأل عنه؛ حيث يجب التغاضي عن التكاثر و هو الزيادة و الحرص و الرجوع إلى النعيم الذي يمثّل النظرة الموحّدة و الوحدويّة.
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
يُستفاد من الآية في حدّ ذاتها أن النعيم هدف سام جدّاً و مطلب رفيع، بل هو أسمى المهمّات و أرفع الأهداف في عالم الخلقة. و كما قال
عليه السلام بأنّ الرجل يُسأل عن كلّ النعم الإلهيّة التي اغدقت عليه من أوّل عمره و حتى آخره و هذا المعنى، حسبما يظهر، بعيد جدّاً عن مفاد الآية.
و يعني هذا أن على أفراد البشر البحث عن النعمة الحقيقيّة و الواقعيّة تلك هي الولاية التي تعتبر حلقة الوصل التي تربط بين عالم الخلقة و ذات الله سبحانه؛ و بين الخالق و المخلوق، و بين الحادث و القديم، و بين ممكن الوجود و واجب الوجود؛ بجدّ و سعي حثيثينِ في الدنيا مستفيدين من كلّ النعم التي وهبها الله إيّاهم.
فإذا تمّ حصولهم على ذلك فهو (أهدى سبيلًا) و إلّا فقد دخلوا الضلال و الإضلال.
إن جميع البشر في العالم يعيشون و يتعاشرون و يتناكحون و يأكلون و يستريحون و ينامون و يشتغلون في الزراعة و التجارة و الصناعة؛ و مع ذلك فإنّ مجموعة منهم فقط ينظرون إلى ظاهر هذه الامور و يُعرضون عن بواطنها، فهؤلاء هم (كما قيل عنهم في القرآن الكريم) بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً.۱
و أن جماعة صغيرة تبحث خلال هذه الامور الكثيرة المتكاثرة عن حقيقة واحدة و هذا ما يدعى بالنعيم».٢
و قد ذكر العلّامة آية الله الحكيم و المتكلّم و المفسّر و المحدِّث و الفقيه و الاصوليّ و الشاعر المرموق الجامع للعلوم الرياضيّة و الطبيعيّة
و الفلكيّة و العلوم الغريبة الأخرى، و الذي يُعتبر بحقّ فخر الإسلام، العلّامة الشيخ بهاء الدين محمّد العامليّ الجُبَعيّ، أعلى الله تعالى مقامه، مسألة في هذه الباب جديرة بالنقل هنا لما لها من شموليّة بهذا الخصوص. فهو يقول:
«تبصرة»: أن المراد من معرفة الله تعالى هو التّعرف و الاطّلاع على نعوته و الصفات الجلاليّة و الجماليّة بقدر وسع البشر. و أمّا الاطّلاع على حقيقة ذاته المقدّسة و معرفتها فهما من الامور البعيدة جدّاً عن منال الملائكة المقرّبين و الأنبياء و الرسل و لا أمل لهم في الحصول على ذلك، فما قولك بغيرهم؟
و يكفينا هنا استقراء كلام سيّد البشر حيث قال: مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ!
و ورد في حديث آخر أنّه قال: أن اللهَ احْتَجَبَ عَنِ العُقُولِ كَمَا احْتَجَبَ عَنِ الأبْصَارِ. وَ أن المَلأ الأعلى يَطْلُبُونَهُ كَمَا تَطْلُبُونَهُ أنْتُمْ!
و على هذا لا نعير أيّة أهمّيّة إلى مَن يظنّون أنّهم توصّلوا إلى كنه حقيقة ذاته المقدّسة، بل خسئوا! ذلك أنّهم لا ريب قد ضلّوا طريقهم و اختاروا سبيل الضلال، و كذبوا و افتروا بادّعائهم هذا!
ذلك أن أمر الذات و شأنها أرفع من أن تلوّث بظنون البشر و أسمى و أطهر من ذلك كلّه. و أن ما يتصوّره الراسخ في العلم عن الدين يُبعده في الحقيقة فراسخ عن حرم كبريائه تعالى.
و أقصى ما يستطيع التفكّر العميق من الوصول إليه و الحصول عليه تابع لدقّته القصوى و تبحّره. و ما أجمل ما قيل حول ذلك في البيت التالي:
آنچه پيش تو غير از آن ره نيست | *** | غايت فهم تست الله نيست۱ |
هست در راه او به وقت دليل | *** | نطق تشبيه، خامشى تعطيل |
گر نگوئى ز دين تهى باشى | *** | ور بگوئى مُشبِّهى باشي |
بل لو استثنينا ذات الله و الكلام فيها، فإنّ معرفتنا عن صفاته التي أثبتناها له سبحانه و تعالى هي معرفة محدودة تناسب حدود تفكيرنا و فهمنا و تلائم قوّة مخيّلتنا و مقدرتها على ذلك.
فنحن و بحسب عقولنا القاصرة نصف الله سبحانه بأنّه أشرف، من خلال صفتين كلّ منهما مناقضة للُاخري،۱ في حين أن الله سبحانه و تعالى أرفع و أجلّ من جميع ما تصفه به!
و في كلام الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام إشارة إلى
هذه المسألة المهمّة: حيث قال:
كُلُّ مَا مَيَّزْتُمُوهُ بِأوْهَامِكُمْ في أدَقِّ مَعَانِيهِ، مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مِثْلُكُمْ، مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ! وَ لَعَلَّ النَّمْلَ الصِّغَارَ تَتَوَهَّمُ أن لِلَّهِ تعالى زُبَانَيْنِ، فَإنَّ ذَلِكَ كَمَالُهَا، وَ تَتَوَهَّمُ أن عَدَمَهُمَا نُقْصَانٌ لِمَنْ لَا يَتَّصِفُ بِهِمَا. وَ هَكَذَا حَالُ العُقَلَاءِ فِيمَا يَصِفُونَ اللهَ تعالى بِهِ- انتهى كلامه صلوات الله عليه.
و قال بعض المحقّقين۱: هذا كلام دقيق و يحتوي في طيّاته على متانة و استحكام ظريفين، و أروع منه أنّه صادر عن مصدر وثيق و مورد دقيق.
و يكمن سرّ هذا الأمر في: أن التكليف المناط ببني البشر متوقّف على معرفة الله تعالى حسب وسعهم و طاقتهم و مستندٌ عليهما. و أن غاية ما كُلّفوا به هو معرفة الله من خلال الصفات التي ألفوها و استأنسوا بها. و هي صفات لمسوها في وجودهم و لاحظوها فيها، مع طرح النقائص الناشئة عن نسبة تلك الصفات إلى الإنسان و نبذها.
و لمّا كان وجود الإنسان واجب بالغير، و كان عالماً و قادراً و مريداً و حيّاً و متكلّماً و سميعاً و بصيراً فهو مكلّف إذاً بالاعتقاد بوجود هذه الصفات في الحقّ تعالى مع سلب النقائص الناشئة من نسبتها إلى الإنسان و رفعها. و الاعتقاد بأنّ الله سبحانه و تعالى واجب الوجود لذاته لا بالغير عالم بجميع العلوم، قادر على جميع الممكنات؛ و هكذا الحال مع الصفات الأخرى.
هذا، و لم يُكلّف الإنسان بالاعتقاد بصفة في الله في حين لا وجود لمثل تلك الصفة فيه هو، أو لا يمكن العثور على وجه آخر لتلك الصفة في وجوده.
و لو أنّه كُلّف بمثل هذا الأمر لاستحال عليه إدراك حقيقة تلك الصفة. و هذا أحد المعاني المذكورة في قوله عليه السلام: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ- انتهى كلام بعض المحقّقين.
اعلم أن للمعرفة التي يمكن لعقول البشر الوصول إليها مراتب متخالفة و درجات متفاوتة و متباينة.
قال المحقّق الطوسيّ طاب ثراه في بعض مصنّفاته:
إن مراتب تلك المعرفة هي بمثابة المراتب التي للنار.۱
لأنّ أدنى تلك المراتب هي أن يسمع أحدهم أن في عالَم الوجود يوجد شيء يُفني كلّ شيء يُواجهه، و يَترك آثاره على أيّ شيءٍ يكون في مقابله و بمحاذاته، و لا يصيبه النقص أو النقصان على الإطلاق مهما اخِذَ أو اقتُبِسَ منه؛ و يسمّون ذلك الموجود بالنار. و نظير هذه المرتبة هي مرتبة
معرفة المُقلّدين التي نجدها في باب معرفة الله تعالى و هم الذين قاموا باعتناق الدين دون وقوفهم على برهان أو حجّة إلهيّة.
و أفضل من هذه المعرفة هي معرفة الشخص الذي يرى دخاناً فيعلم أن لا بدّ من وجود مُؤثّر أوجدَ هذا الدخان، فيحكم مستنداً على ذلك بوجود النار. و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر و الاستدلال و الذين يحكمون بوجود الصانع على أساس البراهين القاطعة.
و أعلى من تلك، مرتبة مَن يُحسّ بحرارة النار بسبب مجاورته لها و يرى الموجودات بنورها فينتفع من ذلك الأثر. و نظير هذه المرتبة في معرفة الله سبحانه معرفة المؤمنين الخُلّص الذين تطمئنّ قلوبهم بالله و تهدأ، فاستيقنوا أن «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ»؛ كما و صف الله تعالى نفسه بهذا أيضا.
و أسمى من ذلك مرتبة مَن يُحرق كلّ وجوده و يذوب و يفنى فيها، فيتلاشى و جميع كلّيّته و آثاره في تلك النار. و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود و الفَناء في الله سبحانه.
و هذه هي أعلى المراتب و أسمى الدرجات و آخر المراحل: رَزَقَنَا اللهُ الوُصُولَ إلَيْهَا وَ الوُقُوفَ عَلَيْهَا بِمَنِّهِ وَ كَرَمِهِ- انتهى كلام الخواجة أعلى الله مقامه».۱
كلام الشبليّ البغداديّ في التوحيد
و قد ذكر الشيخ العارف الشِّبليّ البغداديّ كلاماً في علوّ مقام التوحيد و عظمة الفَناء فيه و التي علمنا من خلال عبارات الخواجة أنّها آخر المراتب، هذا نصّه:
مَنْ أجَابَ عَنِ التَّوْحِيدِ بِعِبَارَةٍ فَهُوَ مُلْحِدٌ، وَ مَنْ أشَارَ إليه بِإشَارَةٍ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَ مَنْ أوْمَى إليه فَهُوَ عَابِدُ وَثَنٍ، وَ مَنْ نَطَقَ فِيهِ فَهُوَ غَافِلٌ، وَ مَنْ سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَ مَنْ وَهَمَ أنَّهُ (إلَيْهِ) وَاصِلٌ فَلَيْسَ لَهُ حَاصِلٌ، وَ مَنْ ظَنَّ أنَّهُ (مِنْهُ) قَرِيبٌ فَهُوَ (عَنْهُ) بَعِيدٌ، وَ مَنْ (بِهِ) تَوَاجَدَ۱ فَهُوَ (لَهُ) فَاقِدٌ.
وَ كُلُّ مَا مَيَّزْتُمُوهُ بِأوْهَامِكُمْ وَ أدْرَكْتُمُوهُ بِعُقُولِكُمْ في أتَمِّ مَعَانِيكُمْ، فَهُوَ مَصْرُوفٌ مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ؛ مُحْدَثٌ مَصْنُوعٌ مِثْلُكُمْ!.٢
و أنشد الشيخ العارف الخواجة عبد الله الأنصاريّ قدّس الله روحه كذلك شعراً بهذا الخصوص حيث قال:
مَا وَحَّدَ الوَاحِدَ مِنْ وَاحِدِ | *** | إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ |
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ | *** | عَارِيَةٌ أبْطَلَهَا الوَاحِدُ |
تَوْحِيدُهُ إيَّاهُ تَوْحِيدُهُ | *** | وَ نَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ |
و يقول الشيخ العارف و الفقيه الصوفيّ الكامل بالمعنى الحقيقيّ، فخر الإسلام و سند الشيعة و ذخر الملّة، العالِم بالله و بأمر الله: السيّد حيدر الآمليّ:
... ۱
«و أمّا أقوال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام و التي لا توجد في «نهج البلاغة» لكنّها مشهورة و معروفة، فهي كلامه الذي ذكرناه في مقدّمتنا و الذي يُخاطب فيه كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ النَّخَعِيّ رضي الله عنه:
سؤال كميل لامير المؤمنين عليه السلام: ما الحقيقة؟.
كان كميل قد سأل الإمام في أوّل حديثه: مَا الحَقِيقَةُ؟
قَالَ: مَا لَكَ وَ الحَقِيقَةَ؟!
قَالَ: أ وَ لَسْتُ صَاحِبَ سِرِّكَ؟!
قَالَ: بَلَى! وَ لَكِنْ يَرْشَحُ عَلَيْكَ مَا يَطْفَحُ مِنِّي!
قالَ: أ وَ مِثْلُكَ يُخَيِّبُ سَائِلًا؟!
قَالَ: الحَقِيقَةُ كَشْفُ سُبُحَاتِ۱ الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: مَحْوُ المَوْهُومِ مَعَ صَحْوِ المَعْلُومِ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِّرِّ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: جَذْبُ الأحَدِيَّةِ بِصِفَةِ التَّوْحِيدِ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: نُورٌ يَشْرُقُ مِنْ صُبْحِ الأزَلِ، فَتَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ۱ التَّوحِيدِ آثَارُهُ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: أطْفئ السِّرَاجَ فَقَدْ طَلَعَ الصُّبْحُ!».٢
شرح السيّد حيدر لحديث كميل «ما الحقيقة».
و قد أورد السيّد حيدر كلاماً في شرح هذه المحاورة قائلًا:
«هذا الكلام يحتوي معانٍ كثيرة و قد ذكره الشارحون في شروحاتهم.
و أمّا شرح ذلك (الكلام) بالإجمال فهو:
يشير الإمام إلى ظهور الله تعالى في صورة المظاهر، و على عدم المظاهر في عين ثبوتها. لأنّ قوله: كَشْفُ سُبُحَاتِ الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ، إشارة إلى رفع الكثرة الأسمائيّة بعد رفع الكثرة الخلقيّة، و التي يُعبّر عنهما
كيفيّة أحوال و سلوك المرحوم السيّد حيدر الآملي قدّس الله سره
ب- «المظاهر».
و إشارة كذلك إلى إثباتها و تحقّقها دون إشارة، سواء أ كانت الإشارة عقليّة أو حسّيّة. و هذا هو رمز الخير و الذي يشير إلى إحاطة الحقّ تعالى و إطلاقه؛ و ذلك بسبب أن المحيط المطلق ما كان ليقبل الإشارة أبداً. لأنّ تلك الإشارة لا يمكن لها أن تكون، بل هي ممتنعة و مستحيلة.
و تقييد ال- «سُبُحات» بالجلال دون الجمال إنّما هو بسبب أن الجلال مخصوص بالأسماء و الصفات، بينما اختصّ الجمال بالذات؛ أو اختصاص الجلال بالصفات القهريّة، و الجمال بالصفات اللطفيّة، كما علمت. و على كلٍّ من التقديرين فإنّ سُبُحات الجلال أنسب في التقدّم من سُبُحات الجمال، لأنّ كشف سُبُحات الجمال غير ممكن إلّا بعد كشف سُبُحات الجلال و هذا هو سير من الكثرة نحو الوحدة، و من الخلق نحو الحقّ. و هذا السير مقبول لدى أكثر علماء الطريق و العرفاء بالله.
و قول الإمام مَحْوُ المَوْهُومِ مَعَ صَحْوِ المَعْلُومِ يشير أيضاً إلى رفع المظاهر و مشاهدة الظاهر فيها بالحقيقة. و ذلك أن السالك عند ما يرى بالعيان محو الموهومات التي هي عبارة عن ال- «غير» و المسمّاة بال- «مخلوقات»- و التي هي بدورها ليست سوى رَسمٌ خالٍ موهوم استقرّت و رسخت فيه بسبب استيلاء القوّة الواهمة و الشيطان معاً عليه- و عند ما يرى كذلك زوال ذلك كلّه و ارتفاعه عن وجوده بصورة كاملة؛ حينئذٍ سيبين معلومه الذي هو الحقّ تعالى من بين الشكوك و الشبهات الوهميّة، و سيتحرّر السالك تماماً من الحجاب و ينال الخلاص.
أي أن سماء قلبه و روحه ستصفو من الغمام و الكثرات الخلقيّة و ستظهر، تماماً كما تصفو السماء الحقيقيّة من الغيوم و السحاب و تروق؛ و هكذا سيظهر له الحقّ تعالى من خلال غيوم الكثرة تلك كسطوع الشمس
بعد زوال الغيوم عن وجهها؛ فيرى الحقّ تعالى كما يرى البدر في ليلة تمامه، حسب قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم:
سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ!
و قول الإمام: هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِّرِّ، ينطوي على معنيينِ:
الأوّل: إذا ما تغلّب هذا السرّ على الإنسان فلن يقوى على إخفائه بعد ذلك أو تجنيب روحه عنه؛ مثل الحلّاج و غيره. بل على العكس إذ إنّه لن يخشى في كشفه و إظهاره لومة لائم. و قد يكون ذلك الكشف و هذا الإظهار خارجاً عن إرادته و محض اختياره كما يتصرّف المخمور في الظاهر.
و قد أشار الإمام إلى هذا الأمر حيث قال: وَ لَكِنْ يَرْشَحُ عَلَيْكَ مَا يَطْفَحُ مِنِّي.
الثاني: إذا ما تغلّب هذا السرّ على الإنسان فلن يلتفت بعدها إلى السُّتُر و الحُجُب التي هي عبارة عن مظاهر، و لن يعاين فيها إلّا الظاهر فيها.
و على حسب هذا المعنى، يكون مفاد قوله هو أن الستار سيزول و يرتفع عن وجه المحبوب، و سيُهتَك الحجاب عنه تماماً و يتمزّق. اي سيرتفع بالكامل و يزول.
و هذا المعنى أنسب من المعنى الأوّل قياساً إلى ما نقوم نحن بإثباته هنا.
و قول الإمام جَذْبُ الأحَدِيَّةِ (الإنسانَ) بِصِفَةِ التَّوْحِيدِ مباشرة بعد تلك الجملة خير شاهد على هذا المعنى، و ذلك لأنّ الإمام يعنى أن مقام الأحديّة الذاتيّة الذي لا يقبل الكثرة و الذي يلي هذه المرحلة سيجذبه نحو التوحيد الصرف و نحو الوحدة المحضة التي هي عبارة عن حضرة الجمع تعالى و مقام فَناء المحبّ في المحبوب، و الذي سيأتي بيانه فيما بعد.
و لهذا شرع الإمام في مرحلة كيفيّة الظهور و تفاصيل الحقّ الذي هو مقام الفرق من بعد الجمع، بعد أن اجتاز بكلامه من هذا المقام و قال:
نُورٌ يُشْرُقُ مِنْ صُبْحِ الأزَلِ، فَتَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ التَّوْحِيدِ آثَارُهُ.
أي أن الحقّ المسمّى بالحقيقة، هو نور يُشرق اي يظهر من خلال صبح الأزل الذي هو الذات المطلقة. فَيَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ التَّوْحِيدِ اي يظهر على جميع مظاهر الوجود بآثاره و أفعاله و كمالاته و خصوصيّاته.
و هذا إخبار عن ظهور الذات في مظاهر الأسماء و الصفات في الأزل و الأبد، و مشاهدة الوحدة في صُوَر الكثرة، و الجمع في عين التفصيل، و وجود التفاصيل في عين الجمع؛ و هو ما مرّ ذِكره توّاً. و تلك هي مرتبة لا يعلوها مقام و لا وجود للشهود في ما وراء ذلك، و هو ما عَبّر عنه الإمام بقوله لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً۱. و قال آخرون غير الإمام: لَيْسَ وَرَاءَ عُبَّادَانَ قَرْيَةٌ٢.
معنى: لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً
و لأجل هذا لمّا طلب كميل من الإمام زيادة في البيان و تفصيل في الشرح أجابه الإمام: أطفئ السراج فقد طلع الصبح. و المقصود أطفئ سراج العقل و السؤال بلسان الفكر وقت طلوع صبح المكاشفة و مشاهدة وجه الحقّ في ذلك الكشف! ذلك أن الكشف و الشهود غنيّان عن فهم ذلك و إداركه؛ كما هو الحال مع الصبح في استغنائه عن السراج و تألّقه. و لا حاجة للعيان إلى البيان؛ وَ لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ.
فإذا قلتَ: أن هذا الكلام غريب عجيب متناقض؛ و لم نفهم معناه و لم نجد سبيلًا إلى إدراكه؛ فأزح الستار قدراً و قل كلاماً أوضح من ذلك و أفصح منه! أو ائتِ بصورة مثال يكون أقرب إلى الذهن بشرحه و بيانه حتى نعيه و نصل من خلاله إلى مقصودنا و مطلوبنا!
لأنّنا لا نشاهد في هذا العالم إلّا الكثرات المتباينة و المختلفة و التي هي عرضة للزوال و التغيّر. و لا علم لنا بها و لا معرفة إلّا أن تكون غير الحقّ و أنّها مخلوقة و مصنوعة. في حين أنّك تقول إنّها حقّ و أن لا وجود لأيّ شيء في هذا العالم غير الحقّ تعالى، و أن جميع الموجودات إنّما هي مظاهر له، و أن لا فرق في الحقيقة و الواقع بين الحقّ و مظاهره!
و هذا أمر مشكل للغاية، و كلام جدّ دقيق لا نفقه معناه. و نحن لا نفرّق بين الكثرات و بين الحقّ تعالى إلّا على الوجه الذي قلناه؛ و بهذا فإنّ بين كلامنا و كلامك بينونة و اختلافاً شديدين.
أجبتك قائلًا: أن هذا الأمر سهل يسير، بل أن إدراكه في غاية
البساطة، و معناه واضح كلّ الوضوح، و قد تكرّر ذكره مراراً و تكراراً لكنّك مُطوّق بظلمات الطبيعة و دركات البشريّة، بل في أسفل السافلين من الدرجات التقليديّة و التي هي من أعظم الحُجُب!
و الحقّ أن النسبة بينك و بين هذه الجماعة التي تعي هذا المعنى كنسبة الجنين المقيّد في غياهب المشيمة و الطفل المميِّز، أو كنسبة الطفل المميِّز إلى الشخص العاقل، أو كنسبة الشخص العاقل إلى الرجل العالِم، أو كنسبة الرجل العالم إلى الرجل العارف، أو كنسبة الرجل العارف إلى الوليّ الكامل، أو كنسبة الوليّ إلى النبيّ! و الفرق بين هذه المراتب كبير و عظيم.
و لهذا قال الله سبحانه: أن في ذلك لآيات لاولى الألباب.۱ حتى لا يطمع القشريّون و أصحاب العقول الخاوية في ذلك؛ أولئك أصحاب الظاهر و السفسطة و المغالطة فقط. و هذا من جهة أن هذه الزمرة بالمقارنة مع الأنبياء و الأولياء الكاملين الذين هم اولو الألباب كنسبة القشر إلى اللبّ.
الاستدلال الجميل للسيّد حيدر على وحدة الوجود بحديث كميل
السيّد حيدر: إثبات وحدة الوجود من آية: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
و مع هذا فإنّنا سنشرع توّاً في بيان ذلك و تفسيره مرّة أخرى، بل مرّات عديدة، بأحسن وجه و ألطف الأمثلة؛ و سنسعى إلى إيصال هذه المعاني إلى ذهنك، متّكلين في ذلك على الله تعالى.
و على هذا الأساس نقول: إعلم أنّك لمّا تحقّقت في هذه المسألة و برهنت على أن الوجود واحد، و أن ذلك الوجود مطلق لا مقيّد، و أن
الموجودات المقيّدة منسوبة إلى ذلك الوجود المطلق؛ و علمتَ في هذه الحالة أن الموجودات المقيّدة لا وجود لها في الحقيقة، ذلك أن وجودها إضافيّ نسبيّ، لأنّها عبارة عن إضافة و نسبة المطلق إلى المقيّد و هذه الإضافة و تلك النسبة لا تحقّق لهما في الخارج.
و علمتَ كذلك أن الوجود المطلق هو نفسه المقيّد بعينه و لكن بوجه آخر. و علمتَ أن المقيّد هو المطلق نفسه مع قيد الإضافة. و علمتَ أن لا وجود لموجود آخر في الخارج إلّا للوجود المطلق، و ذلك أنّك لو أسقطتَ الإضافات و النسب عن جميع الموجودات فإنّك سترى الوجود على صرافة وحدته و محوضة إطلاقه، و ستجد كذلك أن الوجود المقيّد إنّما هو موجود بوجود المطلق و معدوم بعدمه.
و هذا معنى كلامهم: التَّوْحِيدُ إسْقَاطُ الإضَافَاتِ۱.
خراباتى شدن از خود رهائى است | *** | خودى كفر است اگر خود پارسائى است |
نشانى دادهاند اهل خرابات | *** | كه التوحيد إسقاط الإضافات |
نشانى دادهاندت از خرابات | *** | كه التّوحيد إسقاط الإضافات |
لو لم يؤصَّل وحدةٌ ما حصلتْ | *** | إذ غيره مَثارَ كثرةٍ أتت |
ما وُحّد الحقُّ و لا كلّمتُه | *** | إلّا بما الوحدةُ دارتْ معه |
و مثال هذا الأمر بعينه- اي مثال ذلك الوجود المطلق مع الوجود المقيّد، و الموجوديّة المقيّدة و معدوميّتها- مثال الشمس و الظلال الموجودة من أثرها و تكوّن هذه الظلال و تلاشيها، ذلك لأنّ الظلال لا موجوديّة لها إلّا بواسطة الشمس، من جهة أنّه لو لم تكن الشمس موجودة لم يكن هناك وجود للظلّ على الإطلاق، مع أن الشمس لو طلعت بنفسها، لما كان هناك وجود للظلال. إذاً فوجود الظلال منوط بالشمس، و أمّا غيابها و انعدامها عن الشمس فسببه إلى جرم الشمس و أشعّتها.
و هذا من جهة أن الشمس لو ظهرت بشكلها و شعاعها لزالت الظلال و تلاشت عن أصل وجودها و كينونتها. و لو غابت الشمس بذاتها و جرمها عن الظلال و بقي أثر ظهورها عليها، فإنّ تلك الظلال ستبقى على أصل حالها الوجوديّ، فتغدو آنئذٍ ظلالًا متعيّنة بوجود ظلّيتها.
فالواقع أنّه لا وجود إلّا للشمس و أثرها، و لا تمتلك الظلال شيئاً
سوى الاسم و الاعتبار و نحن نعلم أن الاسم و الاعتبار إنّما هما أمران عدميّان و لا موجوديّة لهما في الخارج، و على هذا فإنّ كلّ وجود للموجودات يكون بهذا الوجه بالنسبة إلى وجود الحقّ.
فلو ظهر الحقّ بوجوده، لن يبقى عندها للمخلوق وجود، لأنّ وجود الخلق- كما تقدّم- ليس إلّا أمراً إضافيّاً اعتباريّاً، و لا توجد الإضافة و الاعتبار في الخارج.
و استناداً إلى ذلك، لا وجود لوجود إلّا من أجل الحقّ؛ و هذا معنى قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.۱
أي جميع الموجودات التي لها (صفة) الإضافة و النسبة مع الحقّ كلّها هالكة و فانية إلّا ذاته. فالذات باقيّة أبداً. لَهُ الْحُكْمُ اي أن البقاء الحقيقيّ الأبديّ له. وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بمعنى أن جميع هذه الموجودات بعد طرح النسبة و إسقاط الإضافة عنها راجعة إلى الله. و كلمة «وجه» باتّفاق العلماء يُراد بها ال- «الذات» و لهذا يجب أن يكون التقدير في الآية راجع إلى لفظة ذات كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، أينما تولوا فثم وجه الله.٢
و لهذا يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ.٣
و إنّما أراد بكلمة «عليها» حقيقة الوجود التي بها يكون قيام الموجودات و قد مرّ تفسير هاتين الآيتين مراراً.
و الحقّ أن هاتين الآيتين بعد قول الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- إلى آخر الآية،۱ و قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ-٢ إلى آخر الآية؛ هما من أعظم أيّ القرآن و أشرفها في باب التوحيد و التحقيق.
وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.٣
و لو أشكلْتَ فقلتَ: أن هذا المثال لا يطابق دعواك و لا يلائم ادّعائك، لأنّك قد قلتَ: فلن يكون هناك وجود للظلال إلّا بعد غيبوبة الشمس عنها. و قلتَ كذلك: لا وجود لأيّ شيء في هذا العالم غير الحقّ تعالى. بل و قلتَ أكبر من هذا أن وجود الخلق ليس إلّا أمراً إضافيّاً اعتباريّاً. في حين أن الظلال ليست كذلك.
ذلك أن الظلّ لا يمكنه أن يكون هو الشمس بعينها بأيّ وجه من الوجوه.
فاجيبُكَ قائلًا: أن المطابقة في المثال أعلاه تكفي من وجهة واحدة؛ و تلك الوجهة عبارة عن: أن الظلال لا وجود لها إلّا بالشمس، و بغياب الشمس عنها بجسمها و ذاتها؛ و كذا الخَلق بالنسبة إلى الحقّ فهو على هذا الشكل أيضاً، لأنّ لا وجود للخَلق إلّا بالحقّ و بغيبة الحقّ عنه (أي عن الخَلق) ذاتاً و حقيقة.
إذاً، فكما أن غياب الشمس يمثّل استقرار الظلّ و قيامه بنفسه
و تعيّنه، و أن حضور الشمس يعني فَناء الظلّ و عدمه، فكذلك غَيبة الحقّ التي تمثّل قيام الخَلق بنفسه و تقيّده، و حضوره تعالى يعني فَناء ذلك الخَلق و عدمه.
و كلام الله تعالى القائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ إشارة (صريحة) إلى هذا المعنى. فافْهَم هذا المهمّ لأنّه دقيق؛ لكنّه لطيف مع وجود الدقّة!
و ليس هذا المثال (الشمس و الظلّ) محصوراً بي و مقتصراً عليّ، بل اعتمده جميع المفكّرين و أرباب التحقيق، و لا يخفى هذا الأمر على أهله و أصحابه، و إن شاء الله تعالى ستجد ذلك في كلامهم فيما بعد.
و قد أشار الحقّ جلّ جلاله إلى هذا المعنى في كلامه:
أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً.۱
و لا يمكن أن يكون مراد الحقّ تعالى من الظلّ و الشمس في هذه الآية هو الليل و النهار؛ و هو ما سار على نهجه أرباب التفسير. لأنّه تعالى ذكر بعد ذلك قائلًا: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً.٢
بل المراد من الشمس و الظلّ هو «الوجود و العدم» كما أشرنا إلى ذلك في الأصل الثاني و الثالث من هذا الكتاب. و أمّا تأويل هذه الآية فطويل مطنب و تفسيرها عريض مسهب و هو ما لا يتّسع له المجال هنا.
و معنى كلامنا هو أن المراد بالظلّ و تمديده يشير إلى الوجود الإضافيّ الاعتباريّ المقرّر على جميع الموجودات أزلًا و أبداً. و المراد بسكونه إعدام تلك الموجودات و إهلاكها على الوجه الذي ذُكِرَ آنفاً. و المراد بجعل الشمس دليلًا له هو أن الشمس حقيقة و لها وجود مطلق مُسَمّى بالنور، في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ. و المراد من قبضه عدم إضافته إلى الوجود المطلق و نسبته إليه، و إسقاط ذلك بالجملة. و أمّا المراد من يسيراً هو يسر إسقاط الإضافة و الاعتبار و سهولتهما، و إبقاء الوجود على صرافة وحدته.
فكلّ ما ذكرناه بهذا الخصوص إنّما كان يستند إلى اصطلاحات العرفاء بالله، و ذلك لأنّهم ذكروا هذا الاصطلاح في هذه المسألة؛ فشرعوا بدءاً بتعريف الظلّ و تحقيقه، ثمّ قسّموا الظلال و أطلقوا على تلك الأقسام أسماءً مثل الظلّ الأوّل و الظلّ الثاني و هكذا، ثمّ بعد ذلك عمدوا إلى تفصيل الظلال و تعيينها.
فأمّا ما قالوه في تعريف ذلك فهو: أن الظلّ عبارة عن وجود إضافيّ يظهر بتعيّن أعيان الممكنات؛ و أمّا أحكام الظلال التي هي معدومات فهي تظهر باسم الحقّ الذي هو «نور» و وجود خارجيّ و الذي إليه تُنسَب التعيّنات.
و على هذا فإنّ النور الظاهر بصور الأعيان الممكنة يتسبّب في زوال ظُلمة عدميّتها. و لذا تغدو الأعيان الممكنة ظلًّا، و ذلك لأنّ ظهور الظلّ إنّما يكون بوساطة النور و عدميّته في نفسه و بواسطته هو.
قال الله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ، اي أن الله تعالى أضفى على الممكنات وجوداً إضافيّاً. و عليه فإنّ الظُّلمة المتكوّنة في مقابل هذا النور إنّما هي عبارة عن العدم، فكلّ ظُلمة تعني انعدام النور من شيء له
شأنيّة الاستنارة. و على هذا الأساس سُمِّيَ الكُفرُ ظُلمة و ذلك لانعدام نور الإيمان في القلب الذي له شأنيّة الاستنارة. يقول الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ- إلى آخر الآية.۱
كانت تلك عباراتهم (أي عبارات العرفاء بالله) في تعريف الظلّ، و أمّا كلامهم في تفصيل الظلال و تقسيمها فهو من جهة أن هؤلاء العرفاء اعتبروا العقل الأوّل «ظلًّا أوّلًا»، و اعتبروا جميع العالَم «ظلًّا ثانياً».
فأمّا اعتبارهم العقل الأوّل ظلًّا أوّلًا فهو من جهة كلامهم القائل: أن الظلّ الأوّل عبارة عن العقل الأوّل لأنّه كان أوّل تعيُّنٍ ظهر بنور الحقّ تعالى و تقبّل صورة الكثرة- و التي هي من شئون الوحدة الذاتيّة- على نفسه.
و كذلك من جهة أن الإنسان الكامل المُسمّى ب- «الإنسان الكبير» هو حقيقة هذا العقل أو قل هو العقل نفسه؛ و سَمّوه ب- «ظلّ الإله» قائلين:
ظِلُّ الإلَهِ هُوَ الإنْسَانُ الكَامِلُ المُتَحَقِّقُ بِالحَضْرَةِ الوَاحِدِيَّةِ.
و كذا يقاس هذا الأمر في تسميتهم خلفاء الله ب- «الظلّ» في كلامهم الذي يقولون فيه: أولَئِكَ ظِلُّ اللهِ في الأرْض.
و هكذا الحال في ما قالوه مجازاً عن السلاطين من أنّهم: ظلُّ الله في الأرض؛ و أمثال ذلك.
و أمّا اعتبارهم جميع العالَم ظلًّا ثانياً، فذلك لقولهم: العالَم هو الظلّ الثاني و لا شيء في عالَم الوجود غير وجود الحقّ الظاهر بصور جميع الممكنات.
و لهذا سُمّيَ الوجود الحقّ ب- «سِوَى» و «غَير» لظهور الحقِّ بتعيّنات الممكنات باعتبار إضافة الحقّ و نسبته إلى الممكنات، و ذلك لأنّه لا وجود
للممكن إلّا بهذه النسبة، و إلّا فالوجود هو عين الحقّ، و الممكنات ثابتة في عِلم الحقّ على الرغم من عدميّتها؛ فالممكنات شئون ذاتيّة للحقّ.
و بناءً على ذلك فإنّ العالَم هو صورة الحقّ، و الحقُّ هو هُويّة العالَم و روحه.
و هذه التعيّنات في الوجود هي أحكام للاسم «الظاهر» للحقّ حيث أن «الظاهر» مجلى للاسم «الباطن»؛ و الله أعلم بالصواب و إليه المرجع و المآب».۱
توضيح شرح السيّد حيدر لحديث كميل
و عموماً كان هذا شرح و تفصيل لحديث كميل و الذي ذكره السيّد حيدر، و الحقّ أنّه لم يترك في توضيح ذلك و تفسيره شيئاً من الشرع و العقل و الشهود إلّا و استخدمه فيهما. إلّا أنّه قد استند في موضعين إلى ظاهر لفظ القرآن بدل تأويله:
الأوّل: قال في الآية كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ: وَ أرَادَ بِ- «عَلَيْهَا» حَقِيقَةَ الوُجُودِ القَائِمَةَ بِهَا المَوْجُودَاتُ.٢ مع أنّه واضح من جهة لفظة القرآن و إرادة المعاني الظاهريّة أن مرجع الضمير في عليها يجب أن يكون إلى الأرض لا إلى حقيقة الوجود.
ثمّ إذا كان بالإمكان استنتاج تلك المعاني بالمعنى التأويلي فلا إشكال فيه. فليس لمعاني القرآن الباطنيّة أيّة تنافٍ أو ضدّيّة مع المعاني الظاهريّة له، بل إنّهما سائران على خطّ واحد، فبالحفاظ على المعاني يمكن التمسّك ببواطن القرآن؛ لا أن يُبطِل المعنى الباطنيّ فيه المعنى الظاهريّ، و يمتنع
أو يتجنّب التمسّك بذلك و الاستظهار به فيُزيل ذلك الظاهر من الأصل.
الثاني: قال في الآية أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ- إلى آخر الآية: و ليس مراده بالظل و الشمس، الليل و النهار كما هو رأي أرباب التفسير؛ لأنَّهُ قَالَ عَقِيبَهُ: «وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً». بَلِ المُرَادُ بِهِمَا الوُجُودُ وَ العَدَمُ.۱
و هنا يقال كذلك: بناءً على أصل حجّيّة ظواهر كتاب الله الكريم، يجب أن يكون لفظ الشمس و الظلّ و الليل و النهار بهذا المعنى المصطلح عليه و المفهوم عند العرف و العامّة، و إناطة استنتاج المعنى التأويليّ من ذلك إلى حقيقة وجود الحقّ و التعيّنات؛ لا أن نسلخ الآية من معناها الظاهر بشكل مجرّد و نستعيض عنه بالمعنى الباطنيّ!
و مضافاً إلى هذا لم يتبيّن استدلاله و استشهاده بحسب مدّعاه هو بالآية التي تلتها: «وَ هُوَ الَّذِي». فما الإشكال و الاختلاف بين هاتين الآيتين لو أنّنا أخذنا لفظتي الشمس و الظلّ بمعناهما الظاهريّ و الاحتفاظ بمعنى الليل و النوم في الآية التي بعدها؟!
تفسير سماحة الاستاذ العلّامة لآية: الم تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ
و لهذا نرى أن سماحة استاذنا الأعظم قدّس الله تربته قد أبقى على ظاهر معاني الشمس و الظلّ في تفسيرها لهذه الآيات، حيث قال في تفسيره:
«و أمّا ما ذكروه من أن هذه الآيات نزلت ببعض الأدلّة عن التوحيد على أثر جهل المعرضين عن ذلك و ضلالهم، فإنّ سياق الآيات لا يعين على هذه الدعوى. و نتطرّق هنا لإيضاح ذلك بإيجاز، فنقول:
إذاً فإنّ كلام الله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ
لَجَعَلَهُ ساكِناً، تنظير لشمول جهالة بني آدم و ضلالتهم و رفع الله تعالى ذلك برسالة الرسل و دعوتهم الحقّة كما يشاء هو. و يلزم أن يكون المراد من امتداد الظلّ، ذلك الظلّ الحادث الذي يصبح عارضاً بعد زوال الشمس ثمّ يتزايد شيئاً فشيئاً من جهة المغرب باتّجاه المشرق، بحسب اقتراب الشمس من الافق و ميزان ذلك؛ بحيث لو غربت كان بلغ مقدار امتداد الظلّ غايته، فيجنّ الليل.
و هذا الظلّ متحرّك في جميع حالاته و لو شاء الله لجعله ساكناً.
و قول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؛ دليل على وجود هذا الظلّ و الشمس وحدها بنورها هي التي يمكنها أن تدلّ على وجود ظلّ ما؛ و بانبساط ذلك النور و اتّساعه بالتدريج، تدلّ على تمدّد و انبساط الظلّ تدريجيّاً.
و لو لم تكن الشمس موجودة ما تنبّه أحد أصلًا لوجود الظلّ. و ذلك أن السبب العامّ و العلّة الكلّيّة لتمييز الإنسان بعض المعاني عن بعضها الآخر، هو تحوّل الأحوال المختلفة و اختلاف الحالات المتباينة التي تعرض له من فقدانها و وجدانها.
فالإنسان يتفقّد وجود الشيء الذي كان بحوزته إذا فقده؛ و لو عثر على الشيء الذي كان قد فقده عندها يتنبّه إلى غيابه. و لا يمكن تصوّر أمر ثابت لا يعتريه أيّ تغيّر و لا يشوبه أيّ تبدّل على الإطلاق.
و قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً معناه أنّنا نزيل ذلك الظلّ بشروق الشمس و ارتفاعها تدريجيّاً في الفضاء حتى ننسخه تماماً و نمحوه.
و قد استخدم تعالى لفظة «قبض» للتعبير عن معنى إزالة الظلّ و نسخه، و اجتذابه نحوه، و وصف القبض بال- «يسير»؛ و كلّ ذلك يدلّ على كمال القدرة الإلهيّة، و أن لا شيء يعسر عليه، و أن فقدان الأشياء بعد وجودها۱
معرفة الله ؛ ج٣ ؛ ص٤۱
لا يعني بطلان تلك الأشياء و انعدامها، بل رجوعها إلى الله تعالى و مآلها إليه.
فما ذكرناه في تفسير «مَدَّ الظِّلَّ» بتمديده بعد زوال الشمس مُستنبَط من سياق الآيات- كما أشرنا إلى ذلك- و إن كان يتألّف من معنى لم يذكره المفسّرون، إلّا أنّه غير مخالف لما قالوه.
كقول بعضهم: المراد هو الظلّ الذي يكون ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. و كقولهم: المراد هو الظّل الذي يكون ما بين غروب الشمس إلى طلوعها. أو كقول البعض الآخر: هو ذلك الظلّ الذي يظهر و يتكوّن مقابل الجبال الشامخة أو الأبنية أو الأشجار في مقابل ضوء الشمس. و كذلك قول بعضهم- و هو أسخف الأقوال- المراد به هو ذلك اليوم الذي خلق الله فيه السماء و جعله على شكل القُبّة، ثمّ بسط الأرض تحت تلك السماء فسقط ظلّ السماء على الأرض».۱
تفسير الحقير لكيفيّة إطلاق آية «مدّ الظلّ»
لا جَرَم، أن ما تفضّل به حضرة الاستاذ في هذا المقام، و الذي هو في منتهى الدقّة و الإتقان، لا غبار عليه؛ و لكن خطرت في بال العبد الحقير ملاحظة فيما يخصّ أقواله وجدتُ من المناسب ذكرها هنا، و هي: لما ذا نأتي على ذكر ظلّ الشمس من وقت زوالها و حتى غروبها حصراً؟ في حين يمكننا أن نعمّم الآية على جميع الجهات، و أن يكون المراد من الظلّ، الظلّ في طوال الليل و النهار، من زوال الشمس إلى الزوال اللاحق.
نوضّح هنا: إلى أن الإنسان يرى الظلّ يكبر شيئاً فشيئاً من مكانه باتّجاه المشرق و ذلك وقت زوال الشمس من دائرة نصف النهار، اي حينما تكون الشمس واقعة على سمت رأسه، و يكون أقلّ ذلك الظلّ عند
الزوال و أكبره عند غروبها و استتارها وراء الافق. و حسب افتراضنا هذا أوّل الظلّ. و هو يظهر بوساطة شيء بارز كالجبل أو البناء أو الأشجار و غير ذلك.
ثانياً، أنّه ظِلّ الليل ذلك الذي يصنع حقيقة الليل، و هو عبارة عن الظلّ الحاصل من غروب الشمس و حتى طلوعها. و على الرغم من أن هذا الظلّ غير متباين، و ذلك من جهة عدم سطوع النور عليه، و أن الليل كلّه متساوٍ بالنسبة لوقوعه تحت ظلمة الظلّ المخروطيّ المحيط بنصف الكرة الأرضيّة، لكنّه يختلف من ناحية الشدّة و الضعف.
فكلّما ابتعدنا عن الغروب، فإنّ ظلّ الليل يشتدّ و يثبت أكثر فأكثر، حتى تبلغ ظلمة الليل أقصى حدٍّ لها و ذلك عند منتصف الليل حينما تكون الشمس واقعة على سمت القدم في الطرف الآخر من الأرض. أمّا ابتداءً من منتصف الليل و حتى طلوع الشمس فإنّ شدّة الظلّ و ظلمته تضعف حتى تصل إلى أضعف درجاتها و ذلك قبيل شروق الشمس.
ثالثاً، أن ظلّ النهار يكون من لحظة طلوع الشمس و حتى زوالها. و بمجرّد طلوع الشمس فإنّ ظلّ الليل يتوارى و لا تحمل أيّة ذرّة أو نقطة منه أدنى تحقّق وجوديّ؛ و لكن ما إن تشرق الشمس حتى تتكوّن الظلال على الأرض في إزاء الأشياء البارزة و الأبنية و الأشجار و الجبال و غيرها، و ذلك باتّجاه الغرب، و أطول هذه الظلال تتكوّن لحظة الشروق، و كلّما ارتفعت الشمس أخذت بالتقلّص تدريجيّاً حتى تصل إلى أقلّ حدّ لها و ذلك عند ما تفصلها عن الزوال لحظة واحدة.
و طِوال فترة الليل و النهار تلك يكون الظلُّ موجوداً؛ و لامتداده (أي امتداد الظلّ) مصداق خارجيّ. و دلالة الشمس عليه متحقّقة أيضاً؛ و الله قادر على أيقاف ذلك الظلّ في أيّة لحظة شاء، و ذلك بإيقاف حركة الأرض
و تباطؤ اختلاف الليل و النهار. و كذلك الحال مع جَذب الله الظلّ نحو الذي دعاه بالقبض، فهو يمتلك مصداقاً خارجيّاً في كلّ لحظة من الليل و النهار. و سهولة جذب الظلّ و قبضه واحدة كذلك لدى الحقّ المتعال.
إن شروق شمس الرسالة و تلألؤ نورها و بسطه للمؤمنين و التابعين موجود على الدوام؛ و كذلك عناد المعاندين و ضلالتهم و جهالتهم و عدم إيقانهم و إيمانهم، فهي موجودة بأشكال مختلفة على الدوام؛ فيزداد عنادهم شيئاً فشيئاً منذ الزوال الأوّل الذي عَبّرت عنه الآية في تنظيرها بالظلّ، و يستمرّ بالتزايد تدريجيّاً حتى غروب الشمس حيث تصل الضلالة أقصى حدّ لها دون توقّف، بل و تصل الضلالة الحدّ الأعلى و الأكمل لها عند منتصف الليل حين تكون شمس الرسالة في أبعد نقطة عنهم. و عندها يقبض الله سبحانه الضلالة نحوه و يبدأ الظلّ الليليّ بالتضاؤل حتى طلوع الشمس حيث لن يبقى لذلك أيّ أثر.
و منذ طلوع الشمس حيث يوجد أطول ظلّ ممتدّ إلى جهة المغرب، لا يزال حُكم ضلالتهم الصرفة و تَيْههم البحت قائماً، حتى تتحوّل تلك الضلالة إلى هداية و ظُلمة الظلّ إلى نور و ذلك بارتفاع شمس الرسالة و شروقها تدريجيّاً؛ و هكذا فلن يبقى أثر لتلك الضلالات البحتة حتى الزوال، لأنّ شمس الرسالة قد جذبت الكلّ نحوها فزالت جميع الظلال و امّحت.
و على هذا يكون من الأنسب التمثيل بحالة الشمس و الظلّ في جميع أقسام الليل و النهار، و ذلك للتعبير عن الضلالة و الهداية اللتين ورد ذكرهما في الآيات السابقة و تنظيرها بآية مَدَّ الظِّلَّ.
و من وقت الزوال حتى منتصف الليل حيث يزداد اتّساع الظلّ تدريجيّاً و تتوسّع رقعة الظلام يكون في حُكم المعاندين الذين لم يتّبعوا
ضياء شمس الرسالة فكبرت دائرة ضلالتهم يوماً بعد آخر و غمرتهم الجهالة أكثر فأكثر حتى وصل ذلك أقصى حدّ له. و من منتصف الليل حتى الزوال له حُكم المعاندين و الضالّين و الذين يبدأون بالتخلُّص من عنادهم فيتّجهون نحو الإيمان و صفائه، و يستمرّ ذلك حتى الزوال حيث لن تبقى في داخلهم ذرّة واحدة من تلك الظلمة؛ فقد أصبح اولئك موحّدين خُلَّص و اناساً كاملين، و صاروا أطهاراً و من أهل اليقين و العرفان؛ فجذب الله ظلال وجودهم لتصدُقَ عليهم حينئذٍ عبارة قَبْضاً يَسِيراً.
نعم، و قد تفضّل فخر الفلاسفة و الحكماء المرحوم الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ قدّس الله تربته بنظم بعض الغزليّات اللطيفة لطلّاب صومعته
ترجمة أحوال الحاجّ المولى هادي السبزواريّ بقلم الدكتور غني
... ۱
و عشّاق محيّاه في إمكان العبور من مراحلهم النفسيّة و منازلها و الوصول إلى مقام الفعليّة الإنسانيّة التامّة و حرم حضرة المتكبِّر سبحانه؛ نكتفي هنا بنقل ثلاث غزليّات منه:
أشعار غزليّة للحكيم السبزواريّ في العظمة العرفانيّة للمقام الإنسانيّ
الغزليّة الاولى:
سينه بشوى از علومِ زادة سينا | *** | نور و سَنائى طلب ز وادى سينا |
يار عيان است بى نقاب در اعيان | *** | ليك در أعيُن كجاست ديدة بينا۱ |
ساغر مينا ز دست پير مغان گير | *** | چند خورى غم به زير گنبد مينا |
طعنه به وَيْسِ قَرَنْ زنيّ و قرين است | *** | ديو و ددت قرنها و ساءَ قَرينا |
نيست روا ما قرين ظلمت ديجور | *** | روى تو عالم فروغْ ماه جبينا |
پرتو مهر از فلك به خاك گر افتد | *** | خود چه شود، عيسيا سپهر مكينا |
يك نفس اي خاك راهِ دوست خدا را | *** | بر سر اسرارِ زارِ خاك نشين آ۱ |
الغزليّة الثانية:
ما ز ميخانة عشقيم گدايانى چند | *** | بادهنوشان و خموشان و خروشانى چند٢ |
اى كه در حضرت او يافتهاى بار ببر | *** | عَرضة بندگى بى سر و سامانى چند |
كاى شه كشور حُسن و مَلِك مُلك وجود | *** | منتظر بَر سر راهند غلامانى چند |
عشق، صلح كل و باقى همه جنگ است و جدل | *** | عاشقان جمع و فِرَق جمع پريشانى چند |
سخن عشق يكى بود ولى آوردند | *** | اين سخنها به ميان زمرة نادانى چند |
آنكه جويد حرمش گو به سر كوى دل اي | *** | نيست حاجت كه كند قطع بيابانى چند |
زاهد از باده فروشان بگذر دين مفروش | *** | خرده بينهاست درين حلقه و رندانى چند |
نه در اختر حركت بود و نه در قطب، سكون | *** | گر نبودى به زمين خاكنشينانى چند۱ |
اى كه مغرور به جاه دو سه روزى بر ما | *** | كشش سلسلة دهر بود آنى چند |
هر در أسرار كه بر روى دلت بربندند | *** | رو گشايش طلب از همّت مردانى چند۱ |
الغزليّة الثالثة:
اختران، پرتو مشكوة دل انور ما | *** | دل ما مَظهر كل، كل همگى مظهر ما |
نه همين اهل زمين را همه باب اللهيم | *** | نُه فلك در دورانند به دور سر ما |
برِ ما پير خرد طفل دبيرستان است | *** | فلسفى مُقتبِسى از دل دانشور ما |
گر چه ما خاكنشينان مرقّع پوشيم | *** | صد چو جم خفته به دريوزهگرى بر در ما٢ |
چشمه خضر بود تشنه شراب ما را | *** | آتش طور شرارى بود از مَجمر ما |
اي كه انديشة سر دارى و سر مىخواهى | *** | به كدوئى است برابر سر و افسر برِ ما |
گو به آن خواجه هستى طلب و زهد فروش | *** | نبود طالب كالاى تو در كشور ما |
بازى بازوى نصريم نه چون نسر به چرخ | *** | دو جهان بيضه و فرخى است به زير پر ما |
ماه گر نور و ضيا كسب نمود از خورشيد | *** | خود بود مكتسِب از شعشعة اختر ما |
خسرو مُلك طريقت به حقيقت مائيم | *** | كُلَه از فقر به تارك ز فنا افسر ما |
عالم و آدم اگر چه همگى اسرارند | *** | بود أسرار كمينى ز سگانِ در ما۱ |
و جدير بالذكر أن الأشعار العرفانيّة و الحقائق العِلويّة للحكيم الأديب و الفيلسوف النادر الوجود المرحوم الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ رفع الله مرتبته غير مقتصرة على قالب الغزل، بل كان ينظم أيضاً الترجيعات و الشعر المثنويّ و المقطّعات و الرباعيّات و الخمريّات و التي تحوي كلٌّ منها أسراراً و لطائف جمّة؛ و خصوصاً قصيدته الخمريّة التي صبّ فيها جام أحاسيسه، إذ أعطى الموضوع حقّه مستخدماً من الكنايات و تشبيهات المعقول بالمحسوس أعلاها مرتبة، على غرار القصيدة الخمريّة لِرَضِيّ الدِّينِ الآرْتِيمَانِيّ - في سلاسة الفكرة و عذوبة الذوق في اختيار
... ۱
الهى به مستان ميخانهات | *** | به عقلآفرينان ديوانهات |
الهى به آنان كه در تو گُمند | *** | نهان از دل و ديدة مردمند |
به درياكش لُجّة كبريا | *** | كه آمد به شأنش فرود إنّما |
به دُرّى كه عرش است او را صدف | *** | به ساقيّ كوثر، به شاه نجف |
به نور دل صبح خيزان عشق | *** | ز شادى به اندُه گريزان عشق |
به آن دل پرستان بى پا و سر | *** | به شادى فروشان بى شور و شر |
به رندان سر مست آگاه دل | *** | كه هرگز نرفتند جز راه دل |
به مستان افتاده در پاى خُم | *** | به مخمور با مرگ در اشتُلم |
به شام غريبان به جام صبوح | *** | كز ايشانْست شام سحر را فتوح |
كز آن خوبرو چشم بد دور باد | *** | غلط دور گفتم كه خود كور باد |
كه خاكم گِل از آب انگور كن | *** | سراپاى من آتش طور كن |
خدا را به جان خراباتيان | *** | كزين تهمتِ هستيم وارهان |
به ميخانة وحدتم راه ده | *** | دل زنده و جان آگاه ده |
كه از كثرت خلق تنگ آمدم | *** | به هر سو شدم سر به سنگ آمدم |
مِئى ده كه چون ريزيش در سبو | *** | بر آرد سبو از دل آواز هو |
از آن مى كه در دل چو منزل كند | *** | بدن را فروزانتر از دل كند |
از آن مى كه چون عكسش افتد به باغ | *** | كند غنچه را گوهر شب چراغ |
از آن مى كه چون عكس بر لب زند | *** | لب شيشه تبخاله از تب زند |
از آن مى كه گر شب ببيند به خواب | *** | به شب سر زند از دلِ آفتاب |
از آن مى كه گر عكسش افتد به جان | *** | تواند در آن ديد حق را عيان |
از آن مى كه چون ريزيش در سبو | *** | همه« قُل هو الله» آيد از او |
از آن مى كه در خم چو گيرد قرار | *** | بر آرد ز خود آتشى چون چنار |
مئى صاف ز الودگيّ بشر | *** | مبدّل به خير اندر او جمله شر |
مئى معنى افروز و صورت گداز | *** | مئى گشته معجون راز و نياز |
مئى از منيّ و توئى گشته پاك | *** | شود خون فتد قطرهاى گر به خاك |
به يك قطره آبم ز سر در گذشت | *** | به يك آه بيمار ما در گذشت |
چشى گر از آن باده كوكو زنى | *** | شدى چون از آن مست هوهو زنى |
دماغم ز ميخانه بوئى شنيد | *** | حذر كن كه ديوانه هوئى شنيد |
بگيريد زنجيرم اي دوستان | *** | كه پيلم كند ياد هندوستان |
دماغم پريشان شد از بوى مى | *** | فرو نايدم سر به كاوس و كى |
پريشان دماغيم ساقى كجاست | *** | شراب ز شب مانده باقى كجاست |
بزن هر قدر خواهيم پا به سر | *** | سر مست از پا ندارد خبر |
قوالب العبارات البديعة و سبكها- حتى ليتوجّب علينا اعتبارها كرامة من كراماته.
قصيدة «ساقى نامه» المشبعة بذكر خمر الفناء، للمرحوم السبزواريّ
فمثلًا يقول في قصيدته المفعمة بالحيويّة و الإلهام:
دگر بارم افتاد شورى به سر | *** | به جانم شده آتشى شعلهور |
كه دستارِ تقوى ز سر افكنم | *** | ز پا كندهنام را بشكنم |
ملولم از اين خرقه و طَيْلسان | *** | كه بتهاست در آستينم نهان |
تو بنماى آن چهره آتشين | *** | كه آتش فتد در بت و آستين |
چه آتش كه از خود ستاند مرا | *** | نه ز اغيار تنها رهاند مرا |
ز وحدت دلا تا كى اندر شكى | *** | يكى گو، يكى دان، يكى بين، يكى |
بيا ساقيا دَر دِه آن راحِ روح | *** | كه يابم ز فيضش هزاران فتوح۱ |
صباح است ساقى صبوحى بيار | *** | مِئى كاو نخواهد صراحى بيار |
بلى كِى صراحى بود رازْ دار | *** | به بزمى كه نبود خودى را شمار |
نخستين كه كردند تخميرِ طين | *** | گل ما نمودند با مى عجين |
نديمان وصيّت كنم بشنويد | *** | كه عمر گرامى به آخر رسيد |
چو اين رشته عمر بگسسته شد | *** | به آغازْ انجام پيوسته شد |
بشد مُلْك تن بى سپهدار جان | *** | به يغما ربودند نقد روان |
خدا را دهيدم به مى شستوشوى | *** | بپاشيد سِدرم از آن خاكِ كوي۱ |
بجوييد خشتم ز بهر لَحَد | *** | ز خشتى كه بر تارُك خُم بود |
بسازيد تابوتم از چوب تاك | *** | كنيدم مِى آلوده در زير خاك |
چو از برگ رَز نيز كَفْنم كنيد | *** | به پاى خم باده دفنم كنيد |
بكوشيد كاندر دَم احتضار | *** | همين بر زبانم بود نام يار |
نه شمعم جز آن مَه به بالين نهيد | *** | نه حرفم جز از عشق تلقين دهيد |
ز مرد و زن اندر شب وحشتم | *** | نيايد كسى بر سر تربتم |
به جز مطرب آيد زند چنگ را | *** | مغنى كشد سرخوش آهنگ را۱ |
به خونم نگاريد لوح مزار | *** | كه هست اين شهيد ره عشق يار |
چهل تن ز رندان پيمانه زن | *** | شهادت كنند اينچنين بر كفن |
كه اين را به خاك درش نسبت است | *** | ز دُردى كشانِ مى وحدت است |
كه مىساختى شيخ سجّاده كِش | *** | به يك دم زدن، عاشق باده كش |
ز نظّاره گردىّ اهل كِنشت | *** | همه پارسايانِ تقوى سرشت |
نبودى به جز عاشقى دين او | *** | جز اين شيوة پاكْ آئين او۱ |
همه كيش او خدمت مىفروش | *** | ز جان حلقة بندگيّش به گوش٢ |
الهى به خاصان درگاه تو | *** | به سرها كه شد خاك در راه تو |
به افتادگانِ سر كوى تو | *** | به حسرت كشان بلا جوى تو |
به درد دل دردمندان تو | *** | به سوز دل مستمندان تو |
به حقِّ سبوكش به ميخوارگان | *** | كه هستند از خويش آوارگان |
به پير مغان و مى و ميكده | *** | به رندان مست صبوحى زده |
كه فرمان دهى چون قضا را كه هان | *** | ز أسرار نقدِ روانش ستان۱ |
نخستين ز آلايشش پاك كن | *** | پس آنگاه منزلگهش خاك كن۱ |
ابتلاء القائلين بأصالة الماهيّة من الحشويّة بالثنوية في الباطن
كلّ الناس، سوى العارفين، يرون الله رؤية مزدوجة
لا جَرَم أن الثنويّة و كلّ السائرين على هديها، سواء أ كانوا حشويّين من الإخباريّين كالشيخيّة و الميرزائيّة و القشريّين المنكبّين على الظواهر و المتشبّثين بها، أم كلّ مَن يعتقد بالأصل و الأصالة للماهيّة في مقابل الوجود، و سواء أقرّوا بوحدانيّة الحقّ سبحانه و تعالى لفظاً أم بغير لفظ؛ فهم جميعاً مصابون بعقيدة الثنويّة و الازدواجيّة بصورة عمليّة في الإسلام سواء في العمل أم في حقيقة العقيدة التي يحملونها. و هؤلاء يرون الله بأعين حولاء و نظرة مزدوجة و هم مطاردون و بشدّة، من قِبَل الآيات و الروايات، خلافاً لأهل التوحيد، بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، الذين يؤمنون عمليّاً بأنّ الله هو المؤثّر في جميع عالَم الوجود، و لا يقرّون لغيره بالاستقلال و الأصالة على الإطلاق؛ الذين بلغوا واقع معنى كلمة لا إله إلا الله فاستقرّت حقيقةُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ و لَا هُوَ إلَّا هُو و مفادها في لبّ روحهم و فؤادهم.
و لتوضيح هذا الأمر نكتفي بذكر برهان و استدلال الحكيم المعروف الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ قدّس الله تربته كدليل عقليّ فقط:
يقول السبزواريّ في الفصل الموسوم ب- «غُرَرٌ في أصالةِ الوجود» ما
نصّه:
«اعْلَمْ أن كُلَّ مُمْكِنٍ زَوْجٌ تَرْكِيبِيّ لَهُ مَاهِيَّةٌ وَ وُجُودٌ. وَ المَاهِيَّةُ التي يُقَالُ لَهَا الكُلِّيّ الطَّبِيعِيّ، مَا يُقَالُ في جَوَابِ مَا هُوَ. وَ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ الحُكَمَاءِ بِأصَالَتِهِمَا مَعاً.
إذْ لَوْ كَانَا أصِيلَيْنِ لَزِمَ أن يَكُونَ كُلُّ شَيءٍ شَيْئَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَ لَزِمَ التَّرْكِيبُ الحَقِيقِيّ في الصَّادِرِ الأوَّلِ، وَ لَزِمَ أن لَا يَكُونَ الوُجُودُ نَفْسَ تَحَقُّقِ المَاهِيَّةِ وَ كَوْنِهَا؛ وَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّوَالِي الفَاسِدَةِ.»
ثمّ قال في تعليقته:
«و يلزم وجود شيئين متباينين لأيّ شيء، و ذلك من جهة أنّه لمّا كان علينا مثلًا أن ندعو البياض و العاج شيئين متباينين- إذ أن أحدهما ينتمي إلى مقولة «كيف» و الآخر إلى مقولة «الجوهر»- مع وجود أصل بينهما بحسب الوجود؛ فكيف لا يتحقّق إذاً التباين بين «الماهيّة» و التي هي من أصل عدم الإباء من الوجود و العدم، و بين «الوجود» الذي هو من أصل الإباء من العدم؟».
و قال موضّحاً معنى و لم يقل أحد من الحكماء بأصالتهما معاً: «و ممّن نعاصرهم، من الذين لا يستندون إلى قواعد الحكمة، مَن يقول بأصالتهما (أي أصالة الوجود و الماهيّة)؛ فهو يقول في بعض مؤلَّفاته:
إن الوُجُودَ مَصْدَرُ الحَسَنَةِ وَ الخَيْرِ، وَ المَاهِيَّةُ مَصْدَرُ السَّيِّئَةِ وَ الشَّرِّ؛ وَ هَذِهِ الصَّوَادِرُ امُورٌ أصِيلَةٌ؛ فَمَصْدَرُهَا أوْلَى بِالأصَالَةِ.
و هنا يقول المرحوم الحاجّ: «و أنت تعلم أن الشرور إنّما هي عبارة عن إعدام المَلَكة؛ و علّة العدم هي العدم؛ فأنّى للماهيّة الاعتباريّة أن تكون كافية لتحقّق ذلك؟!».
و في شرح «لزم أن لا يكون الوجود نفس تحقّق الماهيّة» قال: «و ذلك
من جهة أنّه في هذه الصورة لزم أن يكون ما اشرِبَت معه الماهيّة و اشبِعَت و تغذّت فيه كون و تحقّق الماهيّة نفسها لا الوجود؛ و أن يكون للوجود كونٌ و تحقّقٌ خاصّ به».
و في بيانه لعبارة «و غير ذلك من التوالي الفاسدة»، يقول: «مثل عدم انعقاد الحمل بين ذانك الشيئين، و كمثل لزوم ثَنويّةٍ خارجيّة واقعيّة. ففي هذه الصورة يكون الوجود الحقيقيّ نوراً و الماهيّة ظُلمة، و الحال وجوب كونهما معاً موجودينِ أصيلين»۱.
مراد السبزواريّ من القائل بأصالة الوجود و الماهيّة: الشيخ الاحسائيّ
و عموماً يجب أن نعلم أنّ: مراد الحكيم السبزواريّ قدّس الله سرّه من قوله «و ممّن نعاصرهم من الذين لا يستندون إلى قواعد الحكمة» ممّن يقول بأصالة الوجود و الماهيّة، هو الشيخ أحمد الأحسائيّ؛ و لا شكّ في هذه النسبة بين العلماء و الحكماء بُعَيدَ عصر الحكيم السبزواريّ.
و ممّا ذكره جناب السيّد مرتضى المدرّسيّ الجهاردهيّ في شرح حال الشيخ الأحسائيّ و الذي قام بتصحيحه السيّد عبّاس إقبال الآشتيانيّ٢
ما يلي:
الاحسائيّ سبّب ظهور مذاهب البدعة لعدم حيازته علوم المعقول
«۸- مذهب الشيخ و أتباعه:
كتب الحكيم المعروف المرحوم الحاجّ الملّا السبزواريّ حاشية في شرح منظومته في بحث أصالة الوجود، تيقّن من خلالها جميع أساتذة العلم و الحكمة أن المحقّق السبزواريّ إنّما عنى بكلامه ذاك الشيخ أحمد الأحسائيّ. و ننقل هنا الحاشية التي كُتبتْ على المنظومة:
«لم يكن أحد من الحكماء يعتقد بأصالة الوجود أو أصالة الماهيّة إلّا واحداً من المعاصرين القائل بهذا المبدأ غاضّاً النظر عن القواعد الفلسفيّة، و قد قال في بعض مؤلّفاته:
إن الوجود مصدر الحسنة و الخير، و الماهيّة مصدر السيئة و الشرّ؛ و هذ الصوادر أمور أصيلة؛ فمصدرها أولى بالأصالة.
و بديهيّ أنّكم تعلمون أن الشرّ عدم الملكة؛ و علّة العدم هي العدم و كيف أنّه يولّد الماهيّة الاعتباريّة.
اعلم أن كلّ ممكن زوج تركيبيّ له ماهيّة و وجود. و الماهيّة التي يقال لها الكلّيّ الطبيعيّ، ما يقال في جواب ما هو.
و لم يقل أحد من الحكماء بأصالتهما معاً. إذ لو كانا أصيلين لَزِم أن
يكون كلّ شيء شيئين متباينين»۱.
و قد كتب الحاجّ الملّا نصر الله الدزفوليّ أحد العلماء المشهورين في عهد ناصر الدين شاه و الذي قام بترجمة كتاب «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، إلى الفارسيّة امتثالًا لأمر الشاه المذكور، فخرج في ستّة أجزاء، الشرح المذكور في آخر ترجمة الجزء السادس، و الذي يخصّ موضوع الشيخ أحمد الأحسائيّ و مذهب الشيخيّة، بعبارات كأنّها ترجمة حرفيّة من العربيّة إلى الفارسيّة و هي بعيدة كلّ البعد عن الاصول اللغويّة و قواعد الفارسيّة:
«و علينا أن نعلم في الجملة أن هناك مناقشات و مخالفات حصلت كذلك بين أصحاب مذهب الإماميّة و خاصّة بين علمائهم المتأخّرين. و السبب في حدوث ذلك يرجع إلى التشبّث بمتشابه الأخبار الواردة في كتب الأخبار، و تأويل القرآن استناداً إلى الأخبار غير الموثوقة، فيما يتعلّق بأئمّتهم و بالجملة الغلوّ في شأنهم. ممّا نتج عن ذلك نشوء المذهب الذي يسمّونه ب- (مذهب الشيخيّة) الذي أسّسه الشيخ أحمد الأحسائيّ، و كلّ تلك المصطلحات المستخدمة إنّما هي منه.
و من هنا ارتقت أهداف الشيخ بذلك المسلك و سمت به، حتى صار ذلك المذهب يُنسب إليه. و كان يقال له مذهب السيّد الكاظميّ. و كان من بين تلامذته جهلة و امّيّون، و طلّاب شهرة و مجد، و قد ادّعوا ما لم يدّعيه الشيخ أحمد أو السيّد الكاظميّ، و منهم برزت الأسماء المختلفة كالركن الرابع و الباب و قرّة العين الواضحة الأهداف و المضامين.
يعتبر العلماء هذه المفاسد من جملة مقدّمات ظهور المهديّ قائم آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم».
و كتب الملّا محمّد إسماعيل بن سميع الأصفهانيّ أحد الحكماء المعاصرين للشيخ الأحسائيّ شرحاً على «الرسالة العرشيّة»، للملّا صدرا الشيرازيّ و الذي طبع القسم الأوّل منه في نهاية كتاب «أسرار الآيات» للملّا صدرا في طهران.
و قد أورد الأصفهانيّ في هذا الشرح بعض الانتقادات على شرح عرشيّة الشيخ الأحسائيّ و أجاب على اعتراضاته باسلوب فلسفيّ حكيم.
و نورد هنا مقدّمة الملّا محمّد إسماعيل:
«قام الفاضل النبيل البارع الشامخ شيخ المشايخ الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائيّ حفظه الله من جميع البلايا و رعاه بكتابة شرح على عرشيّة الملّا صدرا مليء بالمثالب و التجريح؛ و ذلك بسبب جهله مراد المصنّف من الألفاظ و العبارات، و عدم اطّلاعه على الاصطلاحات.
فكتاب «الرسالة العرشيّة» سفر عظيم... و قد طلب منّي بعض الأصدقاء أن أكتب شرحاً عليه و أرفع عنه بعض الحُجُب.»۱...
و قد أطنب مؤلّف «روضات الجنّات» في مدح الشيخ أحمد عند شرحه لأحواله؛ و كتب في نهاية ذلك الشرح شرحاً آخر قيّم جدّاً مع إيجازه عن حال الشيخ رجب البُرسيّ، في باب ظهور السيّد على محمّد باب؛ و بحث فيه تأريخ ظهور الأوهام و الخرافات في مذهب الشيعة الاثني
عشريّة، و ينسب ذلك البحث إلى الشيخ أحمد، و حول «مشرب الشيخيّة» كتب يقول:
«ظهر أتباع هذه الجماعة، الذين اتّخذوا التأويل تجارة و حرفة لهم، مؤخّراً، و الحقّ أنّهم ذهبوا في غلوّهم إلى أبعد ممّا ذهب إليه الغلاة... و هم يُدعون بالشيخيّة و ب- «پشتِ سريّة» و هي كلمة فارسيّة منسوبة إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائيّ.
و سبب ذلك أن هذه الفئة تقيم صلاة الجماعة في القسم الجنوبيّ من الحرم الحسينيّ، على العكس من مخالفيهم اي فقهاء تلك البقعة المباركة الذين يصلّون في الناحية الشماليّة من الحرم الشريف و الذين اشتهروا ب- «بالا سريّة».
و مثل هذه الطائفة كمثل النصارى المغالين في عيسى القائلين بالتثليث.
و يعتبر أتباع مذهب الشيخيّة أنفسهم نوّاب الحجّة عجّل الله تعالى فرجه و الباب إليه»۱.
و كتب المرحوم إدْوارْد براوْن في مقدّمة «نقطة الكاف» حول الشيخيّة و اصولهم العقائديّة يقول:
«الغلاة فرق عديدة و هم يختلفون مع بعضهم في الجزئيّات إلّا أنّهم لا يخرجون بمعتقداتهم تلك عن إطار العقائد الأربع: التناسخ و التشبيه أو الحلول و الرجعة و البداء حسبما ذكره محمّد بن عبد الكريم الشهرستانيّ في «الملل و النحل».
و يعتبر الشيخيّة، أتباع الشيخ أحمد الأحسائيّ، في عداد المعتقدين
بالبداء.
و كان الميرزا على محمّد الباب و منافسه الحاجّ محمّد كريم خان الكرمانيّ و الذي لم تزل رئاسة الشيخيّة في عَقِبه كلاهما من هذه الفرقة، اي الشيخيّة.
و لهذا فإذا ابتغينا استقصاء اصول الطريقة البابيّة و جذورها توجّب علينا بحثها في معتقدات الشيخيّة و طريقتهم.
الشيخيّة يعتقدون بالركن الرابع
و تتلخّص اصول الشيخيّة و عقائدهم بما يلي:
۱- الاعتقاد بأنّ عليّاً و الأئمّة الأحد عشر من ولده هم مظاهر إلهيّة تمتلك نعوتاً و صفاتاً إلهيّة كذلك.
٢- لمّا كان الإمام الثاني عشر قد غاب عن الأنظار سنة ٢٦۰ ه- و لن يظهر إلّا في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً و عدلًا بعد ما مُلئت ظلماً و جوراً، و لمّا كان المؤمنون يحتاجون دوماً إلى هدايته و إرشاده، و لمّا كان على الله سبحانه و تعالى أن يقضي حوائج الناس و ذلك بمقتضى رحمته الكاملة و أن يجعل من الإمام الغائب قريباً منهم؛ بناءً على هذه المقدّمات توجّب أن يكون هناك مَن يقوم بدور الوساطة بين المؤمنين و بين الإمام الغائب.
و يسمّون هذا الوسيط «بالشيعيّ الكامل».
٣- عدم اعتقادهم بالمعاد الجسمانيّ؛ فهم يقولون بأنّه لا شيء يبقى من عناصر بدن الإنسان بعد انحلاله إلّا جسم لطيف يسمّونه ب- «الجسم الهور قليائيّ» أو النجميّ.
و على هذا فإنّ الشيخيّة يؤمنون بأربعة أركان فقط من أركان الدين، و هذه الأركان هي:
۱- التوحيد، ٢- النبوّة، ٣- الإمامة، ٤- الإيمان بالشيعيّ الكامل؛
في حين أن المتشرّعة أو البالا سريّة «اي الشيعة العاديّون» يؤمنون بالاصول الخمسة و هي:
۱- التوحيد، ٢- العدل، ٣- النبوّة، ٤- الإمامة، ٥- المعاد.
و يعترض الشيخيّة على الأصلين الثاني و الخامس بقولهم: إنّهما باطلان و لا حاجة إليهما؛ لأنّ الإيمان بالله و رسوله يستلزم بالضرورة الإيمان بالقرآن مع كلّ ما يحويه من الصفات الثبوتيّة و السلبيّة للّه عزّ و جلّ و الإقرار بالمعاد و غير ذلك. و إذا تقرّر أن يكون العدل، الذي هو من الصفات الثبوتيّة للّه تعالى، أحد اصول الدين، فلما ذا لا تكون الصفات الثبوتيّة الأخرى مثل العلم و القدرة و الحكمة و غيرها من اصول الدين؟۱
و الشيخيّة أنفسهم قد أضافوا، في المقابل، أصل آخر على اصول
الدين في باب الاعتقاد بالشيعيّ الكامل، و الذي هو الواسطة الدائميّة لفيض الإمام على الامّة، هذا الأصل أطلقوا عليه ب- «الركن الرابع»؛ و لا شكّ أن الشيخ أحمد الأحسائيّ و من بعده الحاجّ السيّد كاظم الرشتيّ كانا يُعتبران في نظر الشيخيّة مثال الشيعيّ الكامل و واسطة الفيض تلك.
بعد وفاة الحاجّ السيّد كاظم الرشتيّ في عام ۱٢٥٩، لم يكن يُعرف بعد من سيخلفه من بعده، اي ذلك الشيعيّ الكامل، و لم يمرّ وقت طويل حتى خرج مدّعيان لهذا المنصب؛ الأوّل، و هو الحاجّ محمّد كريم خان الكرمانيّ و الذي أصبح فيما بعد الزعيم الأوحد للمتأخّرين من الشيخيّة، و الثاني، الميرزا على محمّد باب الشيرازيّ الذي لَقَّبَ نفسه ب- «الباب».
و كان المعنى المقصود من هذه الكلمة هو بالضبط نفس المعنى الذي اريد به من كلمة «الشيعيّ الكامل»....
بالرجوع إلى مؤلّفات الشيخ المرحوم الأحسائيّ يتأكّد لنا بأنّه كان يحمل مذاقاً أخباريّاً و لكن كان يحمل تلك الأخبار و الأحاديث على مشربه الفلسفيّ و يشرحها وفق هذا المسلك، و كان يعارض العرفان و العرفاء و الفلسفة الإشراقيّة و المشّائيّة، و خير دليل على صحّة هذا القول كتابه الموسوم ب- «شرح الفوائد»؛ حيث يحوي على مصطلحات و شروحات خاصّة، و الذي يُظهر مذهبه الخاصّ به في الفلسفة في إزاء سائر الفلاسفة و العرفاء، ممّا كان السبب في تعرّضه للانتقاد من قبل حكماء عصره»۱.
نعم، أن أصل الإشكال لدى القائلين ب- «أصالة الوجود و الماهيّة» هو الشرك في مبدأ الله تعالى كما هو الحال مع المجوس و الزرادشتيّين القائلين
بوجود مبدءين أصليّين هما النور و الظلمة، و أن صوادر العالم نابعة من هذين المبدأين. و مضافاً إلى كون هذا القول مغلوطاً بالبرهان الأكيد فإنّه يتناقض و مسألتي التوحيد و وحدة الحقّ تعالى، و قد وقع الشيخ الأحسائيّ كما وقع المجوس، في هذا الفخّ و سقط في هذه التهلكة كما سقطوا.
و على هذا يتوجّب العدول عن هذه العقيدة بلا أدنى تردّد و أن نرى لأيّ منهما ترجع الأصالة في عالم الوجود؟ أ للوجود أم للماهيّة؟ قال الحكيم السبزواريّ قدّس سرّه:
إن الوُجُودَ عِنْدَنَا أصِيلُ | *** | دَلِيلُ مَنْ خَالَفَنَا عليل |
كلام الحكيم السبزواريّ في أصالة الوجود و عينيّة وجود الحقّ.
و قد قال الحكيم في شرحه لهذا البيت: «لقد اختلف الحكماء بخصوص القولين، و ذلك أوّلًا أن الأصالة في التحقّق هي للوجود و أن الماهيّة هي أمر اعتباريّ و مفهوم يُشير إليه و يتّحد معه، و هذا هو قول المحقّقين من المشّائين و الصفوة من أصحابنا. و ثانياً أن الأصالة تكمن في تحقّق الماهيّة و أن الوجود إنّما هو أمر اعتباريّ لا غير، و هو قول شيخ الإشراق شهاب الدين السهرورديّ قدّس الله سرّه»۱.
و على كلّ حال، فإنّ هذا البحث متعلّق بالموجودات التي تحمل كلتا الصفتين، اي الوجود و الماهيّة، أمّا ما يخصّ الذات المقدّسة للحقّ تعالى فإنّ ماهيّتها هي عين وجودها و لا ماهيّة لها خارج عينيّة و إنّيّة الوجود و نفس تحقّق الكينونة حتى يُطلق عليها ماهيّةً في مقابل وجوده تعالى كما قال:
وَ الحَقُّ مَاهِيَّتُهُ إنِّيَّتُهْ | *** | إذْ مُقْتَضَى العُرُوضِ مَعْلُولِيَّتُ |
و يقول في شرح البيت المذكور: «لَكِنَّا إذَا قُلْنَا إنَّهُ حَقٌّ فَلأنَّهُ الوَاجِبُ
الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ بُطْلَانٌ، وَ بِهِ يَجِبُ وُجُودُ كُلِّ بَاطِلٍ؛
، ألَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ،
انتهى (قول المعلّم الثاني).
«مَاهِيَّتُهُ» أيْ مَا بِهِ هُوَ هُوَ «إنِّيَّتُهُ» إضَافَةُ الإنِّيَّةِ إليه تعالى إشَارَةٌ إلى أن المُرَادَ عَيْنِيَّةُ وُجُودِهِ الخَاصِّ الذي بِهِ مَوْجُودِيَّتُهُ، لَا الوُجُودُ المُطْلَقُ المُشْتَرَكُ فِيهِ؛ لأنَّهُ زَائِدٌ في الجَمِيعِ عِنْدَ الجَمِيعِ.
فَهُوَ صِرْفُ النُّورِ وَ بَحْتُ الوُجُودِ الذي هُوَ عَيْنُ الوَحْدَةِ الحَقَّةِ وَ الهُويَّةِ الشَّخْصِيَّةِ.۱
الاحسائيّ معتقد بثنويّة «يزدان» و «أهريمن» في لباس الوجود
و لعلّ أبرز الإشكالات التي تعترض مسألة توحيد الحقّ تعالى هي الشرور، فتارة تُناقش هذه المسألة من ناحية صفة العدل و تارة من ناحية حكمته. و يروي لنا التأريخ أن الإيرانيّين كانوا من أوائل الشعوب التي رأت أن حلّ تلك الإشكالات يكمن في وجود مبدءين في عالم الخلقة و التكوين و في عالم صفة الذات الأزليّة القديمة فاعتقدت بالثنويّة في الوجود.٢ و هو الأمر نفسه الذي كان الشيخ أحمد الأحسائيّ يرزح تحت
وطأته هو الآخر، و لهذا رأينا كيف أنّه كان يؤمن بأصلين أصيلين و ركنين شديدين و أساسين قويمين أزليّين في حلّه مسألة الشرور في مقابل
الخيرات، و كان يُقرِن الماهيّة و الوجود جنباً إلى جنب في هذه المسألة؛ ثمّ لجأ في نهاية الأمر إلى الاعتقاد ب- يزدان۱ و أهريمن٢ باسم الوجود و الماهيّة.
و لا شكّ أن هذه المسألة هي من أوضح المسائل المستدلّة و المبرهنة في الإسلام و أبلغها دلالة و أسطعها برهاناً حتى أن المجوس في الماضي تقبّلوا فكرة التوحيد التي يعالجها القرآن بالرغم ممّا عُرف عنهم من تصلّب في عقيدة الثنويّة و بالرغم كذلك من وجود حكماء و فلاسفة ذوي شأن لديهم في هذه المسألة، مضافاً إلى ما كانوا يمتلكونه من عقل و دراية و كياسة. ثمّ تغيّر ذلك الدين القويم و المعتقد العميق الجذور الذي كان راسخاً بينهم لآلاف من السنين و متأصّلًا فيهم، بحيث خرج فيهم فلاسفة مشهورون بحثوا مسألة التوحيد و القرآن منذ بداية ظهور الإسلام حتى أصبحوا بذلك أمثلة يُحتذى بها. و الحقّ أن نبيّ الله زرادشت لم يستطع أن يستأصل جذور الثنويّة في بداية دعوته، و مع أنّه كان يدعو إلى التوحيد، و يعزي مصدر الشرور إلى أهريمن الذي هو أحد مخلوقات الله، و اعتبار «اهورْ مَزْدا» المؤثّر الوحيد في الخلقة و الصفات؛ إلّا أنّه و بالرغم من ذلك لم تمض على شريعته فترة طويلة حتى تغيّرت بشكل جذريّ بعد وفاته و عاد عامّة الناس من جديد إلى الثنويّة التي كانت معتقدهم الأوّل و المتجذّر فيهم، فبدلوا شريعة زرادشت و حرّفوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
و الحقّ أن إعجاز القرآن و كرامته و أصالته و رسالة نبيّنا كان له أبلغ الأثر في نفوس قدماء الإيرانيّين و الفرس الأوائل ممّا جعلهم يتقبّلون
مذهب التوحيد و اشربوا في قلوبهم هذا الدين الجديد، و طووا صفحة أهور مَزْدا و أهريمن (يزدان و ديو/ الإله و الشيطان) و إلى الأبد. فخرّجوا للعالم علماء ذوي شأن و حكماء فطاحل و مؤرّخين يحملون فكرة التوحيد، و أخيراً ذوي عزّة و مقام و مجاهدين صادقين.
و لعلّ من المناسب و اللائق أن نورد هنا مزيداً من البيان و التوضيح حول جذور الثنويّة مقتبسين بعضاً من كلام الصديق العزيز المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ أعلى الله مقامه إحياءً لاسمه و تخليداً لذكراه، ما دمنا هنا نبحث مسألة الثنويّة و نبذها من وجهة نظر الإسلام و ذلك لإبطال عقيدة أصالة الوجود و الماهيّة و مذهب الشيخيّة، بعد أن قمنا بتفنيد اصول معتقداتهم في هذه المسألة و بيّنا أن جميع الكوارث الثقافيّة و العقائديّة التي رمت بالشيخ الأحسائيّ في أحضان الثنويّة المتهرّئة و الفاسدة منشأها جهله بمسائل الحكمة و الاصول المتقنة للفلاسفة و النهج الصحيح للعرفاء بالله و أوليائه، بسبب تعنّته و تشبّثه بآرائه الشخصيّة في دخوله معترك مسائل المعقول بحيث لم يستطع النجاة بنفسه من هذا المستنقع.
فبعد أن يناقش (الشيخ المطهريّ) بعض الأسئلة المطروحة من قبل المادّيّين و الشيوعيّين، و بعض الأفراد الذين يجهلون مسائل التوحيد و ذلك فيما يخصّ الشرور و الأضرار و الآلام و المصائب و الأمراض و الوفيّات و الجراثيم و الزلازل و الفيضانات و المعوّقين على الأخصّ و أنسالهم، يقول:
«هذه بعض الأسئلة التي تُطرح حول مسألتي العدل و الظلم. و مهما يكن من أمر فإنّه يمكن طرحها مع قليل من الاختلاف تحت عناوين أخرى و التي هي الأخرى تنطوي تحت لواء مسائل الإلهيّات تماماً
كمسألتَي العدل و الظلم، من مثل الغايات في العلّة و المعلول، و مسألة العناية الإلهيّة عند بحث صفات الواجب....
و هذه المسائل نفسها يمكن طرحها عند بحث مسألة التوحيد مع اختلاف طفيف تحت عنوان «الخير و الشر». و يكمن الإشكال في أنّ: هناك مبدأ ثُنائيّاً يتحكّم بالطبيعة، و عليه يلزم أن يكون للمسألة أصلان.
في الواقع، أن مسألة الخير و الشرّ تُبحث أحياناً في باب التوحيد لتفنيد شبهة الثنويّة، و تُبحث أحياناً أخرى في باب العناية الإلهيّة التي ترجع إلى مسألة الحكمة البالغة.
و هنا يقال: أن العناية الإلهيّة تستوجب أن ننسب كلّ حدثٍ إلى الخير و الكمال، و أن النظام الموجود هو النظام الأمثل؛ و لذا فمن المفروض أن لا تكون هناك شرور و نقائص تُنزل بالنظام الأمثل أذى كبيراً، في حين أنّنا نشهد وجود هذه الشرور و النقائص موجودة....
مسألة الشرور: إن الإشكال المزدوج الوارد على العدل و الحكمة الإلهيّين يكمن في وجود المصائب و المحن، و بعبارة أدقّ «مسألة الشرور».
و يمكن إدراج مسألة الشرور في باب الظلم، اي باعتبارها مثلباً موجّهاً إلى العدل الإلهيّ؛ و يمكن أن تدرج كذلك في باب الظواهر العبثيّة كنفى للحكمة الإلهيّة البالغة. و من هذا المنطلق، يمكن اعتبارها أيضاً سبباً للانحراف نحو المادّيّة.
فمثلًا عند ما نعتبر التحصينات الدفاعيّة و الأمنيّة للكائنات الحيّة ضدّ الأخطار شاهداً و دليلًا على النظام و الحكمة الإلهيّين، يطرح هذا السؤال نفسه و هو: لما ذا يوجد هناك خطر أساساً حتى تبرز الحاجة إلى اتّخاذ
أنظمة دفاعيّة و أمنيّة؟
ما الهدف من وجود جراثيم ضارّة حتى تتمّ محاربتها بواسطة الكريّات البيض؟
لما ذا تُخلق الوحوش المفترسة لتكون هناك حاجة إلى امتلاك أرجل قويّة للفرار أو قروناً قويّة للدفاع؟
ففي عالم الحيوان نرى مثلًا أن الحيوانات الضعيفة المعرّضة للافتراس من قِبل الوحوش و الحيوانات القويّة تتميّز بالخوف و الجفول و غريزة الفرار، في حين تتّسم الأخيرة بالوحشيّة و صفة الافتراس.
و يواجه بنو البشر سؤالًا محيّراً و هو: لما ذا كلّ أسباب الهجوم و الاعتداء تلك حتى يكون هناك بالمقابل وسائل دفاعيّة مصمّمة على أساس محسوب و مدروس؟
و كما ذُكر آنفاً فإنّ مسألة الشرور تصطدم ببحوث الإلهيّات في مكان آخر كذلك؛ و أعني بذلك مسألة: التوحيد و الثنويّة.
حسب النقل التاريخيّ: كان الإيرانيّون الآريّون يقولون بالثنويّة
الثنويّة: صنّف البشر، و خصوصاً الجنس الآريّ، منذ أقدم العصور، الظواهر في العالم إلى قسمين (الخير و الشرّ). فكانوا يعتبرون النور و المطر و الشمس و الأرض و أشياء أخرى كثيرة في عداد الخير أو الحسنات؛ في حين عدّ الظلمة و الجدب و القحط و الفيضان و الزلازل و الأمراض و الوحوش المفترسة و العظائيّات في عداد السيّئات و الشرور.
و الواقع، فإنّ الإنسان كان يتّخذ من نفسه مقياساً لهذا التصنيف و محوراً له؛ اي أنّه كان يصنّف كلّما يدرّ عليه بالخير و الفائدة في قائمة الخير، و في المقابل كان يطلق على كلّ ما يجلب له الضرر شرّاً.۱
معرفة الله ؛ ج٣ ؛ ص۸۱
حتّى خطرت هذه المسألة في أذهان الأوائل من البشر و هي هل يكون خالق الحسنات و الخيرات هو نفسه الخالق للسيئات و الشرور، أم أن للخيرات خالق و للسيّئات موجداً آخر غيره؟ و هل يكون الخالق للخير و الشرّ واحد أم يجب القول بوجود مبدءين في هذا العالم؟
فاعتقد البعض أن ذلك يعتمد على الخالق نفسه، فإمّا أن يكون خيراً و خيّراً، أو أن يكون شرّاً و شرّيراً. فإن كان خيراً أحجم عن خلق الشرور، و إذا كان شرّاً امتنع عن إيجاد الخيرات و الحسنات. فاضطرّوا، نتيجة لذلك، إلى الاعتقاد بمبدأين و خالقين في هذا العالم.
و هنا ظهرت الثنويّة في إيران القديمة، و هي عبادة إلهينِ معاً، فآمنوا بوجود إلهين هما اهورامَزْدا و أهريمن اللذين عُبّر عنهما فيما بعد بيزدان و أهريمن.
و يروي لنا التأريخ أن الجنس الآريّ ذهب بعد استقراره في بلاد إيران إلى عبادة مظاهر الطبيعة- مظاهر الخير بالطبع- كالنار و الشمس و المطر و التراب و الريح.
و يعتقد المؤرّخون أن الإيرانيّين لم يعبدوا الشرور؛ إلّا أنّه كان هناك شعبٌ غير الجنس الآريّ يعيش جنباً إلى جنب معه و كان هذا الشعب هو الذي يعبد السيّئات و الشرور كذلك حيث كان الهدف من عبادته تلك إرضاء الأرواح الخبيثة.
فما كان موجوداً في إيران القديمة يتمثّل بالاعتقاد بأصلَيْن و خالِقَيْن و ليس عبادة إلهَيْن معاً. اي أن الإيرانيّين كانوا يقولون ب- «الشرك في الخَلْق» لا «الشرك في العبادة».
كون زرادشت موحّداً من الآثار الإسلاميّة و ليس من تحقيق المؤرّخين
ثمّ ظهر زرادشت بعد ذلك؛ و لا يُعرَف بوضوح من الناحية التأريخيّة على الأقلّ فيما إذا كانت دعوة زرادشت هذا في الأصل دعوة توحيديّة أو
دعوة ثنويّة.
مضافاً إلى ذلك فإنّ كتاب الأوِسْتا الموجود في حوزتنا حاليّاً لم يتكفّل برفع تلك الشبهة أو إزالة ذلك الغموض، و يرجع السبب في هذا إلى وجود اختلاف و تناقض كبيرَيْن بين أجزائه و فصوله المختلفة. فالقسم المسمّى منه بال- «وَنْديداد» ينطق صراحة بالثنويّة، في حين لا يمكن العثور على ذلك في القسم الذي يبدأ فيه من ال- «گاتا»۱ بجلاء، بل العكس من ذلك فإنّ بعض المحقّقين يجيز لنفسه الادّعاء باستنباط آثار واضحة المعالم حول التوحيد في هذا القسم.
و بسبب هذا التباين و الاختلاف الكبير يعتقد أهل البحث و التحقيق: أن كتاب الأوِسْتا الموجود حاليّاً ليس من نتاج شخص واحد، بل أن كلّ جزء منه يعود لشخص معيّن.
و البحوث التأريخيّة في هذا الحقل غير وافيه، لكنّنا و طبقاً للتصورّات الإسلاميّة التي نحملها عن المجوس نستطيع أن نستنبط بأنّ الديانة الزرادشتيّة كانت في البداية شريعة توحيديّة. لأنّ الزرادشتيّين، و حسب اعتقاد غالبيّة العلماء المسلمين، يدخلون تحت لواء أهل الكتاب.
و يؤيّد الباحثين من المؤرّخين كذلك هذه الفكرة و يضيفون بأنّ تأثيرات الثنويّة كانت موجودة في الدين الزرادشتيّ حتى قبل ظهور زرادشت نفسه فيما يخصّ عقيدة عبادة إلهينِ عند الجنس الآريّ.
و يجب الإشارة هنا إلى أنّه يمكننا اعتبار شريعة زرادشت إحدى الشرائع التوحيديّة فقط عن طريق منهج التعبّد، اي من خلال الآثار الإسلاميّة، فمن الناحية التأريخيّة أو الآثاريّة التي تُنسب إلى زرادشت،
لا يمكننا الاستناد إلى ال- «گاتا» فحسب و اعتبارها معياراً للبتّ فيما إذا كان دين زرادشت توحيديّاً أم لا، و ذلك لأنّ أقصى ما توصّل إليه الباحثون في باب التوحيد بالاستناد إلى ال- «گاتا» هو أن زرادشت كان مؤيّداً للتوحيد الذاتيّ، اي أنّه كان يقول بوجود موجود واحد قائمٍ بذاته ذلك هو «أهورا مَزْدا» و أن جميع الموجودات- بما فيهم أهريمَنْ أنگره مئنيو «أنگْرَه مَئْنْيَوَهَ» هي مخلوقات أهورا مَزْدا.
أي أنّه لم يقل بغير أصل واحد لشجرة الوجود، إلّا أنّه كان ثنويّاً بمعنى الكلمة من جهة التوحيد في الخالقيّة، إذ يستفاد من تلك التعاليم أن القطب المخالف لـ «انگرهمئنيو» (/ الفكرة الخبيثة) هو «سپنت مئنيو» (/ الفكرة المقدّسة) ف- «سپنت مئنيو» هو مصدر الأشياء الحسنة، اي تلك الأشياء النابعة من الخير و التي يجب أن تكون كذلك.
في حين أن «انگرهمئنيو» أو «أهريمَن» هو مصدر الشرّ، اي مصدر الأشياء التي ما كان من الواجب أن تُخلَق: و أهورا مَزْدا ليس مسؤولًا عن خلق هذه الأشياء، بل المسئول هو «أنگره مئنيو».
و طبقاً لهذه الفكرة فإنّ الوجود ذو شعبتين و إن كان ليس ذا أصلين. اي أن الوجود الذي ينبثق عن أهورا مَزْدا ينقسم إلى شعبتين: شعبة الخير التي تمثّل «سپنت مئنيو» و آثاره الحسنة، و شعبة الشرّ التي تمثّل «انگرهمئنيو» و كلّ مخلوقاته و آثاره الشرّيرة.
لم يستطع زرادشت أن يقضي على الثنويّة، و جاء الإسلام فقضى عليها
فلو اتّخذنا ال- «گاتا»، و هو الكتاب المعتبر الوحيد الذي بحوزتنا من زرادشت، معياراً فإنّنا سنرى أنّه قد وقع في خمس أو ستّ حالات متناقضة من الخير و الشرّ و أن النظام الموجود ليس بالنظام الأمثل الذي ينسجم و الحكمة البالغة. و لعلّ هذه هي الصفة الوحيدة التي تفصله عن قافلة الأنبياء.
و بسبب هذا النقص و امور أخرى لم يتمكّن دين زرادشت من محاربة الثنويّة؛ بحيث إنّها (الثنويّة) عادت من جديد بين الإيرانيّين بعد وفاة زرادشت لتقول بأصلين اثنين للوجود، و كان أتباع الدين الزرادشتيّ في العهد الساسانيّ و المانويّة و المزدكيّة (اللتين يعتبرهما الإيرانيّون شعبتين من الزرادشتيّة) يمثّلون ذروة الثنويّة.
و الواقع أنّه يجب القول: أن دين زرادشت فشل في استئصال اصول الشرك و جذور الثنويّة من قلوب الإيرانيّين و لو في حدود التعاليم ال- «گاتا»، بل يمكن القول أيضاً إنّه هو نفسه أصبح أسير العقيدة الخرافيّة و التحريف.
في حين استطاع الإسلام وحده طرد هذه الخرافة من عقول الإيرانيّين و التي كانت راسخة فيهم لآلاف السنين بفضل كلمة لا إله إلا الله.
هذه هي إحدى مظاهر عَظَمة الإسلام و تأثيره العميق في روح الإيرانيّين حيث تمكّن من إنقاذهم من براثن الثنويّة التي كانت معجونة في دمائهم و كانوا مُكبّلين بقيود هذه الخرافة التي اضطرّتهم حتى إلى تحريف دينهم في سبيلها- لدرجة حَدَت ببعض المستشرقين (أمثال دومزيل) إلى الاعتقاد بأنّ الثنويّة هي أساس الفكر الفارسيّ-.
نعم، إنّه الإسلام الذي صنع من الإيرانيّين شعباً موحّداً بعد أن كان يؤمن بالثنويّة، و قد استولى عليهم حبُّ الله و الخليقة و الوجود و العالم و ملأ كلّ كيانهم بفضل كلمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ۱ و الاعتقاد ب-: الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ،٢ و الإيمان
و إدراك حقيقة أنّ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى؛۱ حتى أنشدوا في مدح نظام الوجود قائلين:
به جهان خرّم از آنم كه جهان خرّم از اوست | *** | عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست |
به ارادت بخورم زهر كه شاهد ساقى است | *** | به جَلادت بكشم درد كه درمان هم از اوست٢ |
و لم يكتفِ الإيرانيّون بعدم القول بأنّ الشرور أصلٌ موازٍ للّه، بل آمنوا بتلاشى الشرور و ذلك من زاوية عرفانيّة راقية، فقالوا: لا وجود للشرّ أساساً أو: أن الشرّ عدم.٣
ابلهى ديد اشترى به چرا | *** | گفت نقشت همه كژ است چرا؟ |
گفت اشتر كه اندرين پيكار | *** | عيب نقّاش مىكنى هش دار |
در كژيّم مكن به عيب نگاه | *** | تو ز من، راه راست رفتن خواه |
هر چيز كه هست آنچنان مىبايد | *** | آن چيز كه آنچنان نميبايد نيست |
هر چيز كه هست آنچنان مىبايد | *** | ابروى تو گر راست بدى كج بودى |
شاه را چون خزانه آرايد | *** | چيز بد هم چو نيك دربايد |
اژدها گر چه عمر كاهان است | *** | هم نگهبان گنج شاهان است |
مار اگر چه به خاصيت نه نكوست | *** | پاسبان درخت صندل اوست |
مرگ هر چند بد نكوست ترا | *** | مال و ميراث جمله زوست ترا |
مرگ، اين را هلاك و آن را برگ | *** | زهر اين را غذا و آن را مرگ |
مدان بد هر آن بدنمائى كه هست | *** | كه آن نيز نيكوست جائيكه هست |
سيه مار كز كفچه شد زهرسنج | *** | زر پخته هم بخشد از ديگ گنج |
همان زهر كو دشمن جان بود | *** | بسى دردها را كه درمان بود |
اهل هنر گر بشمارى درند | *** | بىهنران نيز بكارى درند |
نى كه تهى رويد از خاك رود | *** | گر بدمد باد سر آيد سرود |
قهقهه زد كبك به رفتار زاغ | *** | كز چه نهى پاى پريشان به باغ |
زاغ بدو گفت كه پرواز كن | *** | گر گرو از من ببرى ناز كن |
هيچكسى نيست ز زيبا و زشت | *** | كش نه حكيم از پى كارى سرشت |
قال الغزّاليّ: لَيْسَ في الإمْكَانِ أبْدَعُ مِمَّا كَانَ، اي أنّه لا يمكن أن يوجد نظاماً أجمل من النظام الموجود. إنّه الإنسان الذي تربّى في مدرسة الإسلام، و الذي صار يتملك هكذا تفكير لطيف و سامٍ، و هو وحده يرى كلّ البلايا و المصائب و المعاناة التي تبدو قبيحة و غير مرغوب فيها، جميلة و إنّها لُطف و ذلك من زاوية أسمى و أعمق.
بر كار هيچكس منه انگشت اعتراض | *** | آن نيست كلكِ صُنع كه خطِّ خطا كشد۱ |
و قد بيّن الشاعر حافظ هذه الحقيقة بنظمٍ ذي معنيين ظاهري و باطني:
پير ما گفت خطا بر قلم صُنع نرفت | *** | آفرين بر نظر پاك خطا پوشش باد٢ |
و يقصد بالشيخ: العارف و المرشد حيث يعتبر جميع الأخطاء زائلة و محجوبة و ذلك من وجهة نظر راقية و رؤية سامية؛ و هناك سوف لن ترى العين أيّ خطأ.
فعين الشيخ ترى جميع الأشياء جميلة و زاهية، فكلّ الأخطاء بالنسبة لها نسبيّة و قياسيّة، و هي (الأخطاء) لا تُرى إلّا من خلال نظرة متدنيّة
و مستوى واطئ.
و لا جرم أن هذا النمط من التفكير ولّد خصلة حميدة في الأخلاق الإسلاميّة قوامها الرضا بالقضاء و تقبّل الأنظمة الكونيّة.
يقول المولويّ:
عاشقم بر لطف و بر قهرش به جد | *** | اين عجب، من عاشق اين هر دو ضد۱ |
بحث الحكيم السبزواريّ في الردّ على شبهة الثنويّة
و للحكيم الباحث السبزواريّ قدّس سرّه بحث موجز و شامل حول شبهة الثنويّين في كيفيّة تأثير الموجودات الخبيثة و المضرّة و التي يُعبّر عنها ب- «الشرور» فهو يقول:
غُرَرٌ في دَفْعِ شُبْهَةِ الثَّنَوِيَّةِ، بِذِكْرِ قَواعِدَ حِكْمِيَّةٍ:
ثُمَّ الوُجُودَ اعْلَمْ بِلَا التِبَاسِ | *** | خَيْراً هُوَ النَّفْسِيّ وَ القِيَاسِي |
وَ الخَيْرُ كَالشَّرِّ احْتِمَالًا حَوِيَا | *** | المَحْضَ وَ الكَثِيرَ وَ المُسَاوِيَا |
فَالمَحْضُ كَالعُقُولِ وَ الذي كَثُرْ | *** | خَيْرَاتُهُ مِثْلُ المَعَالِيلِ الاخَرْ |
إذِ الكَثِيرُ الخَيْرِ مَعْ شَرٍّ أقَلْ | *** | في تَرْكِهِ شَرٌّ كَثِيرٌ قَدْ حَصَلْ |
تَرْجِيحُ مَرْجُوحٍ وَ مَا تَمَاثَلَا | *** | شَرّاً كَثِيراً مَعْ مُسَاوٍ أبْطَلَا |
وَ الشَّرُّ أعْدَامٌ فَكَمْ قَدْ ضَلَّ مَنْ | *** | يَقُولُ بِاليَزْدَانِ ثُمَّ الأهْرِمَنْ |
وَ أن عَلَيْكَ اعْتَاصَ تَأثِيرُ العَدَمْ | *** | مِزْ سَلْبَ قَرْنٍ مِنْكَ عَنْ سَلْبِ النِّعَمْ |
الوجود خير؛ و الخيران المحض و الغالب موجودان في عالم الخارج
و فيما يلي موجز ما ورد في شرح هذه الأبيات و التعليق عليها:
«و نذكر هذا البحث لدفع شبهة الثنويّة (القائلين بأصلين و عبادة الأزل). فهم يقولون: إنّنا نرى الخيرات و الشرور في عالم الوجود مثل الجدب و القحط و الغلاء و الوباء و الأمراض و الفتن و المحن و نحو ذلك، و لا يُجيز لنا عقلنا أن نعتبر هذه الشرور نابعة من مبدأ الخير المحض الذي يوصف بالسلامة و الرحمة و الغني عن العالمين؛ و على هذا يجب القول إنّه نابع من مبدأ شرّير غير مبدأ الخيرات و ناشئ عنه. و يدعون ذلك ب- «أهريمَنْ».
و يعتقد القائلون بأصلين و إلهين أنّه «اي أهريمَنْ» قديم و فعّال و يمتلك حرّيّة و استقلالًا تامّين لإيجاد الشرور و خلقها. و بواسطة عقيدة القِدَم و الاستقلال هذه انفصل أرباب الشرائع و الملل الإلهيّة عن مذهبهم. و ذلك، لأنّ الشيطان لا هو قديم و لا هو يمتلك استقلالًا في العمل، بل هو مخلوق من مخلوقات الله لا يمتلك فاعليّة استقلاليّة، لأنّ الوجودات الإمكانيّة، بشكل عامّ و كلّيّ، مجعولة و مخلوقة من قِبل الله تعالى.
لكنّ الوجود في ذاته و بالنسبة إلى الغير هو خير من الناحيتين. فالوجود الذاتيّ هو الوجود الذي يمكن ملاحظته في حدّ نفسه و يطلقون عليه اسم الوجود النفسيّ. و الوجود النسبيّ هو الوجود الذي لا يمكن
ملاحظته إلّا بإضافته و نسبته إلى الغير، و يسمّونه بالوجود الإضافيّ.
و علينا أن نعلم أن الوجود خيرٌ على الإطلاق، سواء أ كان وجوداً نفسيّاً أم وجوداً إضافيّاً. و لا يمكن تصوّر الشرّ في الوجود النفسيّ، و أمّا في الوجود الإضافيّ يمكن ملاحظة شرٌّ قليل في بعض الأشياء التكوينيّة التي تقبل الفساد، و ذلك عند مقارنتها مع الموجودات التي تكون من نفس طبقتها و صنفها و مقايستها بها.
و أمّا قولنا عند مقارنة تلك الموجودات مع موجودات أخرى من نفس طبقتها، فالسبب في ذلك هو أنّنا نقوم في بعض الأحايين بقياس الموجودات الإضافيّة مع عللها، و في هذه الحالة لا نرى انعدام الشرّ فيها و حسب، بل نرى أن جميع المعلولات متطابقة مع عللها التي أوجدتها و منسجمة معها.
و هناك الموجودات الإضافيّة و النسبيّة قياساً إلى الموجودات الأخرى من نفس الطبقة، حيث تصدر عنها أحياناً بعض الشرور. و هنا يبقى أمامنا أن نجيب و نبرهن على أن تلك الشرور هي خير و أن وجودها فرض، اي أنّها أمر عدميّ و لا وجود لها في عالم الكينونة أصلًا.
فاختار أرسطوطاليس الجواب الأوّل في حين آثر أفلاطون الجواب الثاني.
فأمّا جواب أرسطو المنقول عن كتب الحكمة فهو: أنّنا ننيط الشبهة في ذلك إلى الخير و الشرّ في تقسيمنا للوجود، و نتّخذ من هذا النمط من التقسيم نفسه لدفع الشبهة.
على أساس أنّ: كلًّا من الخير و الشرّ يمكنه أن يكون محضاً أو كثيراً أو مساوياً من جهة الاحتمال العقليّ، و ذلك لأنّ الشّيء الخارجيّ أو الخير هو محضٌ مَثَلُهُ كَمَثل العقول؛ لأنّها لا تمتلك قابليّة و لا تأهّباً، بل هي فعليّة
محضة و كلمات إلهيّة تامّة لَا تَنفَدُ وَ لَا تَبِيدُ؛ و هي أيضاً كالفلكيّات. و على هذا فإنّ هذا النوع من الموجودات هي خير محض بالمعنيين النفسيّ و النسبيّ، و هي موجودة في الخارج و منوطة بالحقّ تعالى و تقدّس و مربوطة و معلولة به.
فإذا تغلّب خيرها على شرّها فهي كثيرة الخير مع شرٍّ قليل مثل باقي المعلولات و الموجودات في عالم الكون و الفساد و الطبيعة. و في هذه الصورة يجب أن تكون موجودة حتماً لأنّ الخير و الشرّ نقيضان: الخير/ اللاشرّ؛ و الشرّ/ اللاخير. و لمّا كان رفع هذين النقيضين أمراً محالًا فإنّ عدم وجود كثير الخير و قليل الشرّ/ وجود كثير الشرّ و قليل الخير.
أي أن عدم وجود موجود كثير الخير أو قليل الشرّ يلزم وجود موجود قليل الخير و كثير الشرّ. و لمّا كنّا نعلم أن هكذا موجود محال وجوده من جانب العلّة الأوّليّة، اي الحقّ تعالى، و ذلك بواسطة لزوم ترجيح المرجوح؛ فعلى هذا محال أن يوجد هكذا موجود، و من جانب آخر يكون نقيضه، اي المعلولات الكثيرة الخير و القليلة الشرّ، لازم الوجود. كان على افتراض أن يكون خيرها كثيراً و شرّها قليلًا.
و أمّا إذا كان كِلا خيرها و شرّها متساويين و متناظرين، لزم أن يكون ذلك ممتنع التحقّق في الخارج كذلك بسبب استحالة الترجيح من دون مرجّح. اي أن إيجادها و خَلقها من لدن الحقّ تعالى محال، لأنّ خيرها و شرّها في كفّتين متساويتي الوزن و الاعتبار.
و أمّا إذا كان شرّها كثيراً و خيرها قليلًا أو كانت شرّاً محضاً، ففي كلتا الصورتين يكون إيجادها من لدن المبدأ تعالى مستحيلًا. ففي الصورة الاولى سوف يكون ذلك بسبب ترجيح المرجوح، في حين يرجع السبب في الصورة الثانية إلى الأولويّة في عدم الإيجاد، و ذلك لأنّنا إذا اعتبرنا
صورة قليل الخير و كثير الشرّ مُحالة، و أن صدورها من المبدأ الفيّاض صاحب الرحمة غير ممكن، فمن باب أولى أن يكون إيجاد موجود هو شرٌّ محض مستحيلًا.
الشرّ أمر عدميّ، كعدم الملَكة
و أمّا ما يقوله الحكماء: أن الوجود خيرٌ بذاته، فذلك لأنّ ديدن الوجود طرد العدم و نفيه، و رفع القوّة و الاستعداد و إزالتهما و إضفاء الفعليّة، و هو النور الصريح و الظهور البيّن و عين الحبّ المطلوب.
أ لا ترَ إلى النملة كيف تنقبض و تنكمش فوراً إذا ما نَخَستَ رأسها بطرف الشوكة المدبّب؛ فتولّي هاربة خوفاً من مفارقة معشوقها الذي هو وجودها و الذي هو مقوّم وجودها و قيّوم حقيقتها.
و سبب ربطنا عنوان الشرّ ببعض الأشياء الكونيّة القابلة للفساد في أوقات قصيرة هو أن لا وجود للشرّ في الأفلاك و الفلكيّات، فما بالك بوجوده في عالم الفعليّات و العقليّات.
و ذلك إمّا أن يكون الشرّ معدوم الذات، أو غير مكتمل الذات؛ كفقدان أصل البدن أو فقدان صحّته، و كعدم وجود الفاكهة أو كعدم وجود اللون و الطعم المتوقّع منها بسبب عروض البرد و غيره. و لهذا فلا مجال لتحقّق الشرّ في العالم العلويّ الذي لا يأتيه الفساد من بين يديه و لا من خلفه.
نعم، يمكن توقّع النقص و تحقّقه في جميع ما سوى الله، إلّا أنّنا يجب أن نعلم أن النقص غير الشرّ إلّا إذا استخدمنا الشرّ مجازاً في الناقصات.
و أمّا سبب قولنا بالأوقات القصيرة، و ذلك مثلًا إذا قسنا تضرّر زيد في بدنه و أمواله بسبب مجاورته للنار مع مقدار انتفاعه بها سواء من ناحية قوام وجوده الأصليّ أم من ناحية تكامله؛ سنرى أن نسبة ذلك مع المنافع
التي لا تُحصى و التي يمكنه استغلالها قليلة جدّاً، فما بالك بمقارنة تضرّره مع المنافع التي تحصل عليها جميع الموجودات في عالم التركيب و غيرها من النار.
و أمّا اقتصار الموجودات في العالم بالخير المحض و بكثير الخير فلأنّ كلّ واحد من هذين العنوانين (الخير و الشرّ) ينقسم إلى أربع صور باعتبار تجويز العقل هي: المحض، الأكثر بالنسبة إلى العنوان المقابل، و الأقلّ بالنسبة إلى العنوان المقابل، (و أخيراً) المساوي. و من الصور الثمان هذه فإنّ صورة الأكثريّة لكلّ واحد بالنسبة إلى المقابل تستلزم الأقليّة لكلّ واحد بالنسبة إلى ذلك؛ و على هذا تسقط تلك الصورتان. و يضحي عنوان (المساوي) كذلك الذي هو مكرّر واحداً، فيكون الباقي خمس صور فقط. صورتان موجودتان في الخارج هما صورة الخير المحض و كثير الخير.۱ و ثلاث صور أخرى هي صورة الشرّ المحض و كثير الشرّ و المساوي المُمتَنِع.
لا ريب أن تقسيم الخير و الشرّ في الوجود على هذه الشاكلة يتمّ بحسب الفرض العقليّ و احتماله؛ و إلّا فقد علمنا أن ما هو متحقّق في
الخارج لا يتعدّى أن يكون إحدى صورتين فقط.
هذا هو منهج أرسطو في حلّ المسألة بهذه الطريقة، و ذكروا أنّه كان يفتخر في دفع الشبهة بهذه الطريقة، لأنّه جعل مناط دفع الشبهة هو نفسه مناط الشبهة التي تمثّل تقسيم الوجود إلى الخير و الشرّ؛ و لكن مع هذا فإنّ المنهج الذي انتهجه أفلاطون يبدو أكثر استقامة و سلاسة و حلاوة.
الشرّ أمر عدميّ، و علّته انعدام علّة الوجود
يقول أفلاطون: ليس للشرّ وجود خارجيّ على الإطلاق، بل هو عدم. بمعنى الشرور القليلة التي تقع في الخارج لا تحتاج إلى علّة الموجود، لأنّها تعود إلى العدم، كما أن الوجود يعود إلى الوجود.
و محصّل هذا الكلام هو: الوجود علّة الوجود، و العدم علّة العدم، اي أن علّة الأشياء الموجودة يجب أن تكون موجودة حتماً، في حين يكفي عدم تحقّق علّة الوجود في الأشياء المعدومة؛ إذاً فعلّة العدم عبارة عن عدم علّة الوجود.
و علينا أن نعلم أن الشرور التي تحدث في الخارج ليست كسائر الامور العدميّة فتكون نافية للإيجاب، بل إنّها معدومة المَلَكة، و لا حظّ للوجود في معدوم المَلَكة. و على هذا يجب أن لا يستعصي على الإنسان فَهْم تأثير العدم في إيجاد الشرّ.
و تشبه حالة معدوم المَلَكة حالة العدم في الشيء الذي يمتلك المقوّمات و العوامل اللازمة لان يوجد و لكن لا يتحقّق هذا الوجود، كالعمى الذي هو أمر عدميّ، لكنّ حالة عدم الإبصار هذه موجودة في إنسان يمتلك عينين و كان يمكن له الرؤية بواسطتهما.
فإذا اصيب شخص ما بالعمى فهذا يعني أن شرّاً ما قد حصل، لأنّه إنسان يمتلك قابليّة الإبصار و على أن يكون ذا عينين. و يقال لهذا العدم اي عدم وجود علّة الإبصار شرّاً. لأنّ مرجعه هو انعدام تحقّق علّة وجود
الإبصار. و واضح أن انعدام علّة الإبصار تسبّب في العمى. إذاً علّة الشرّ هنا كانت أمراً عدميّاً و هو عدم تحقّق علّة الإبصار في الخارج.
و على هذا لا يُسمّى الجدار الذي لا عين له أعمى و ذلك لفقدانه قابليّة امتلاك العين. و استناداً إلى هذا، فإنّ عدم امتلاك الجدار للعين لا يُعتبر شرّاً بالنسبة له سوى أنّه سُلِب هذا العنوان، اي عدم امتلاكه للعين كسائر الامور العدميّة.
فإذا تأمّلتَ جيّداً سترى أنّك لا تمتلك قروناً! و هذا ليس بشرٍّ أو عيب أو ضرر لك، و ذلك لأنّ الإنسان ليست له قابليّة امتلاك القرون، و لم تُخلَق في وجوده تلك القابليّة أصلًا حتى يتسبّب فقدانها في إيجاد منقصة أو عيب أو ضرر فيه. في حين أنّك لو ألفيتَ نفسك أصمّاً أو أعمى أو أبكماً فهذا هو الشرّ و الضرر و العيب بعينه، لأنّ ذلك حصل في حالة امتلاك لحاسّة السمع و البصر و النطق. و لهذا يبدو واضحاً لك أن علّة الصمم تكمن في عدم وجود علّة السمع، و علّة العمى في عدم وجود علّة البصر، و علّة البكامة في عدم وجود علّة النطق و حسب، لا أمراً وجوديّاً آخر غير ذلك.
و على هذا الأساس، فإنّ علّة جميع أقسام العدميّات هي العدم؛ اي عدم علّة الوجود. و أمّا فيما يخصّ مسألة الشرور فإنّ هذا العدم يتّخذ لنفسه صبغة خاصّة و عدم مَلَكَة، لأنّه متحقّق في موضوع كان له قابليّة الوجود في حين كان يفتقدها.
فما أضلّ اولئك الذين كانوا يقولون بأصلين لهذا العالم (يزدان) و (أهريمن). أن الله سبحانه و تعالى هو وحده خالق الوجود و لا علّة للاعدام سوى العدم. فلم يخلق الله سبحانه في الأعمى علّة الإبصار، و على هذا فعلّة ذلك عدم إيجاد علّة الوجود، لا أن يكون للعمى علّة خاصّة به في مقابل
البصر.
كون الشرّ عدماً هو أمر بديهيّ لا يحتاج إلى برهان
و ما أكثر وضوح مسألة انتماء مسألة الشرور إلى الامور العدميّة حتى تمّ اعتبارها من البديهيّات. اي أنّهم اعتبروا خيريّة الوجود و شرّيّة العدم من البديهيّات، و على هذا فهي لا تحتاج إلى برهان. و مع ذلك فقد ذكر العلّامة الشيرازيّ دليلًا قويّاً و برهاناً ساطعاً على ذلك في شرح «حكمة الإشراق».
و لذا فإنّ اولئك الذين قاموا بقدح العلماء و الإشكال عليهم قائلين: لقد اكتفوا بذكر الأمثلة العديدة لهذه المسألة و لم يبرهنوا ذلك و وقعوا في الخطأ، مع أن لهذه المسألة أهمّيّة قصوى في التوحيد.
و من جملة الأمثلة التي ذكروها في هذا الباب، هذا المثال و هو إذا قام أحدٌ بقتل شخص ما، فلا جَرَم أن الضرر و الشرّ قد وقعا للمقتول في عمليّة القتل هذه. و عليه يجب البحث و التقصّي في هذه المسألة للعثور على مكمن علّة الضرر و الشرّ؟ فهل يكمن العيب و الضرر و الشرّ في قدرة القاتل و حركة يده، أم في حدّة سيفه، أم يكمن في تقبّل عضو الشخص المقتول و ضعفه الذي أدّى إلى قبول القطع؟ أم أن ذلك يكمن في امور وجوديّة أخرى غيرها؟
و بقليل من التأمّل و الدقّة نتبيّن أن كلّ تلك الأشياء هي خيرات و حسنات؛ و لكلٍّ منها أثرها الصحيح و الجذّاب في عالم الوجود، بحيث لو كانت غير ذلك لكانت خراباً و عيباً.
فالشرّ في هذه القصّة يرجع فقط إلى عدم تعلّق الروح بجسد المقتول و ذلك أمر عدميّ. اي أن دوام العمر و استمراره فيه كان مطلوباً، و قد تسبّب هذا السيف في قطعه فقَصُر بذلك عمره. أيّ أن وجود عمره «اي المقتول» و دوامه و طوله مطلوب؛ فتسبّب هذا القتل في عدم وجود ذلك في
هذا المقطع الزمنيّ.
و أمّا المثال الآخر فهو: أن البرد الذي يصيب الفواكه و يتسبّب في فسادها إنّما هو خير من جهة أنّه كيفيّة وجوديّة و قوّة فعليّة لها أثر كبير في تنظيم عالم الكون و هو مضافاً إلى ذلك واسطة الجود و الفيض للوجود الربّانيّ. و قبول الفواكه للون الأسود في ظروف كهذه على أساس الفعل و الانفعال و التأثير و التأثّر في العالم كلّ ذلك هو خير.
و يكمن الشرّ في عدم حلاوة الثمر هنا في حين يمتلك ذلك الثمر القابليّة و الاستعداد لذلك. و عدم الحلاوة هذا هو شرّ؛ اي عدم وجود علّة الحلاوة في الفواكه.۱
و أعتقد أن أفضل مثال ضربه الحكماء هو مثال الظلّ و الشمس. فإذا وضعنا في الأرض عموداً نرى أن الجهة المعاكسة للشمس مظلمة؛ و يقال لهذه الظلمة ظلًّا. فالظلّ هو عدم النور؛ و كلّما ازداد العدم، اي كلّما ابتعدت الشمس أكثر صار الظلُّ أكثر ظُلمة؛ حتى يغدو كالليل المدلهمّ حين تكون الأرض واقعة في الظلّ المخروطيّ الشكل للشمس فتصل ظُلمة الليل أوجها. و الواقع أن حقيقة الدَّرْف الذي يقال له الظلّ هو فقدان النور، و ليس هناك أكثر من مبدأ وجوديّ واحد للنور و الظلّ و هو الشمس. فالبقاع المضيئة على الأرض تستمدّ نورها من الشمس و يرجع السبب في استنارتها إلى تشعشع الشمس نفسها. في حين أن الظلّ لا يملك مبدأ آخر لكي يبعث بشعاع ظلّه من هناك و إيصاله إلى جميع البقاع الظليلة، و ذلك لأنّ نور الشمس يخالط العدم (أي النور الضعيف) فيبرز على أثره ظلًّا فاتح
اللون؛ و أمّا إذا زال نور الشمس فجأة و ظهر الليل فستكون النتيجة ظهور ظلٍّ غامق و ستَغمرُ العالَم ظلمة بحتة و ديجور صرف. فمبدأ الظلّ الذي هو أمر عدميّ، هو مبدأ عدميّ أيضاً: اي عدم وجود علّة النور.
الإجابة الثالثة على إشكال الشرور، و الآثار الحسنة للشرور
نعم، كان هذا قسمين من عدّة أقسام في الجواب حول الإشكال الوارد على مسألة الشرور و الذي سبق لنا ذكره. و قد ورد جواب آخر في كتب حكماء الإسلام و هو عبارة عن البحث في فوائد الشرور و آثارها الحسنة، و أن كلّ شرّ مُوَلِّدٌ للخير.
ففي القسم الثاني حول كون الشرور امور عدميّة، يُجاب فيه على أتباع الثنويّة القائلين بوجود أصلَيْن للوجود؛ و بإضافة القسم الأوّل فقد اجيب على المادّيّين الذين يعتقدون بأنّ الشرور هي إشكال وارد على الحكمة الإلهيّة، و على مَن استندوا إلى إشكال الشرور في انتقاص العدل الإلهيّ.
و يُعرض القسم الثالث من البحث النظام الجميل و البديع لعالَم التكوين، حيث يمكن اعتباره جواباً مستقلًّا لكن مقنعاً، أو جواباً مُكَمِّلًا و مفيداً للجواب الأوّل.۱
و لصديقنا الراحل المرحوم بيان موجز حول عجز الفلسفة الغربيّة عن حلّ إشكالات المسائل الواردة في فلسفة الشرق، لكنّه بيان جامع يستحقّ أن نذكره هنا:
فلاسفة أُوروبّا عاجزون عن حلّ معضلات المسائل
نحن و فلاسفة الغرب:
لا شكّ في أن مسألة النظام الأحسن هي من أهمّ المسائل الفلسفيّة. و كما بيّنا في القسم الأوّل فإنّ هذه المسألة كانت السبب في ظهور الفلسفة
الثنويّة و المادّيّة و التشاؤميّة. و قَلّما يوجد شخص لم يُعرِ هذه المسألة أهمّيّة واضحة أو يُبيّن فيها رأيه.
فقد استرعت مسألة إشكال الشرور انتباه فلاسفة الشرق و الغرب على السواء، إلّا أن فلاسفة الغرب، حسب ما آل إليه عِلمي و دراسَتي، لم يفلحوا في صياغة الجواب القاطع لهذا الإشكال۱.
و لقد صادفني أثناء بحوثي في الفلسفات الاوروبّيّة أن الاوروبّيّين لم يتمكّنوا من حلّ هذه الشبهة. في حين قام فلاسفة الإسلام و حكمائه بتحليل و دراسة هذا الإشكال، و الحقّ أنّه يجب أن نعترف أنّهم قد أحسنوا الإجابة عنه فحلّوا بذلك لغزاً مهمّاً.
و من المناسب أن نذكر جملة تخصّ الحكمة الإلهيّة في الشرق و أن نُثني جزيل الثناء على هذه المكتبة المعنويّة الكبيرة. أن الحكمة الإلهيّة في
بلاد الشرق هي تراث عظيم و قيّم وُلِد في أحضان نور الإسلام الوهّاج؛ لكن و ممّا يؤسَف له لم تسبر أعماق هذا التراث إلّا فئة قليلة و أشخاص معيّنون، و ما أكثر الظلم الذي لحق بهذا التراث من قِبل العابثين و الأعداء المتعصّبين.
و يعتقد البعض أن الحكمة الإلهيّة الإسلاميّة هي نفسها الفلسفة اليونانيّة القديمة، حيث دخلت الإسلام خِلسة. فأولئك قد وقعوا في خطأ جسيم مرتكبين و عن قصد أو بغير قصد، جناية عظيمة بحقّ الإسلام و المعارف الإسلاميّة.
فنحن نعتقد أن هذه الفكرة إنّما هي وليدة الاستعمار. فما بين الحكمة الإسلاميّة و الفلسفة اليونانيّة بون شاسع يشبه إلى حدّ كبير البون الموجود مثلًا بين الفيزياء عند أينشتَين و الفيزياء عند اليونان.
و هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى أن حكمة ابن سينا كذلك لم تصل اوروبّا كاملة، إذ لا زال الاوروبّيّون يجهلون هذا التراث القيّم.
و كما ذكرنا في هوامش الجزء الثاني لـ «اصول الفلسفة و منهج الواقعيّة»۱ فإنّ مقولة ديكارت المعروفة: «أنا أفكّر إذاً أنا موجود»، و التي لقيت رواجاً كبيراً في الفلسفة الاوروبّيّة باعتبارها فكرة جديدة و إلماعة قيّمة، لم تكن غير كلمة جوفاء لا معنى لها. و قد نقلها ابن سينا في النمط الثالث في «الإشارات» في صراحة تامّة و وضوح كامل؛ ثمّ دحضها ببرهان محكم فلو كانت فلسفة ابن سينا تُرجِمَتْ إلى الأوروبّيّين بدقّة، ما كان كلام ديكارت ليكون أساساً للفلسفة الجديدة تحت عنوان «اكتشاف جديد» و «فكرة بِكر». لكن ما العمل و الحال أن كلّ شيء مختوم بختم اوروبّيّ
يكون مرغوباً و جذّاباً، و إن كان ذلك الشيء كلاماً فاسداً أكل الدهر عليه و شرب»۱.
و للحكيم الباحث و الفقيه المتبحّر المعاصر الذي كان وجوده لطفاً من لدن الحقّ سبحانه و تعالى و فقدانه خسارة كبيرة للإسلام و التشيّع و عالَم البشريّة و الإنسانيّة المرحوم آية الله أبو الحسن الشعرانيّ تغمّده الله في بحار رضوانه و بحبوحات نعيمه، بحث موجز بهذا الخصوص من المناسب ذكره هنا:
قيمة عمل صدر المتألّهين:
«يجب التذكير بأنّ عقيدة الشيعة تعني وجوب اللطف على الله تعالى؛ اي ما يقرّبنا إلى الطاعة من غير إجبار، لإتمام الحجّة على الناس من قِبل الحقّ جلّ شأنه. و كان وجود صدر المتألّهين في هذا المقطع الزمنيّ هو لطف من قِبل الله تعالى.
ففي الوقت الذي بدأت فيه الصناعات المادّيّة تأخذ طريقها إلى التقدّم، و نحا الناس باتّجاه العلوم الطبيعيّة و استُخِفّ بآراء أصحاب المدرسة اللاهوتيّة؛ جاء الله بهذا الرجل العظيم في العصر المذكور (القرن السابع عشر الميلاديّ) و ألهمه إحكام القواعد الإلهيّة عن طريق الاستدلال و البحث و بقالب من الفصاحة لا نظير له و اقتفاء للأخبار بشكل وَلِهَت قلوب الكثيرين إليه دون أن يكون له أيّ مطمع دنيويّ، إذ قضى جلّ عمره في كسب مرضاة الله و نشر علومه، حتى غدا معظم العلماء في الوقت الحاضر يهتدون بأفكاره و يستندون إليها في دفاعهم عن الشريعة٢.
علم الحكمة مستقلّ عن العلوم الطبيعيّة و قائم على البراهين العقليّة
و محصّلة كلام المحقّق الشعرانيّ في هذه المسألة هي أن الفلسفة الاولى و الحكمة الإلهيّة فنّ و علم مستقلّان عن العلوم الطبيعيّة، و هي قائمة على اصول عقليّة ثابتة و رصينة. و لا تأثير يُذكر لتطوّرات العلوم الطبيعيّة على مسيرة الامور الأساسيّة فيها. و حسب قول الفيلسوف الشهيد المطهّريّ فإنّ «المسائل الرئيسيّة في الفلسفة و التي تشكّل العمود الفقريّ لها هي من نوع المسائل الفلسفيّة الصرفة باستثناء بعض من المسائل الفرعيّة في باب العلّة و المعلول و قسم من بحوث القوّة و الفعل و الحركة و جانبٍ من فروع أخرى تعتمد على النظريّات العلميّة. و الحقيقة أن المسائل ذات العلاقة بمعرفة عالم الوجود من الناحية الكلّيّة و العموميّة كمسائل الوجود و العدم، و الضرورة و الإمكان، و الوحدة و الكثرة، و العلّة و المعلول، و المتناهي و اللامتناهي و غيرها. لها بُعد فلسفيّ صِرف»۱.
«و من هنا يمكن استنباط سذاجة القائلين بأنّ مصير المسائل الفلسفيّة مرهون بآراء العلوم الطبيعيّة و فرضيّاتها و القائلين بأنّ تطوّر المعارف العلميّة هو أساس تطوّر المسائل الفلسفيّة.
فهؤلاء لم يعرفوا حقيقة الفلسفة الاولى حقّ معرفتها فراحوا يخلطون بينها و بين الفلسفة العلميّة. و قد تحدّثنا عن ذلك في موضع آخره»٢.
و ينشد الحكيم و الفقيه المحقّق آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ الكمبانيّ قدّس سرّه الأبيات التالية، فيما يخصّ خيريّة الذات و خيريّة الأفعال، و عدميّة الشرور و اقتصارها على عالم الخلق و ليس عالم الأمر:
وَ المَبْدَا الكَامِلُ خَيْرٌ مَحْضُ | *** | وَ حُبُّ صِرْفِ الخَيْرِ حَتْمٌ فَرْضُ |
إلَى أن قالَ:
وَ حَيْثُ أن الذَّاتَ مَرْضِيّ بِهَا | *** | فَفِعْلُهَا كَذَا لدى اولِي النُّهَى |
وَ هوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ كَمَا وُصِفْ | *** | وَ كَوْنُهُ خَيْراً بَدِيهِيَّاً عُرِفْ |
وَ لَا يَكُونُ الشَّرُّ إلَّا عَدَمَا | *** | فَلَيْسَ بِالذَّاتِ مُرَاداً فَاعْلَمَا |
وَ عَالَمُ الأمْرِ هُوَ القَضَاءُ | *** | لَا بِدْعَ في أن يَجِبَ الرِّضَاءُ |
إذْ هُوَ نُورٌ لَا تَشُوبُهُ الظُّلَمْ | *** | فَكُلُّهُ خَيْرٌ عَلَى الوَجْهِ الأتَمْ |
وَ عَالَمُ الخَلْقِ هُوَ المَقْضِيّ | *** | فَالفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا مَرْضِيّ |
فَإنَّهُ تَصْحَبُهُ الشُّرُورُ | *** | فَفِي الرِّضَا بِحَدِّهِ المَحْذُورُ۱ |
و يُشير في البيت الأخير هذا إلى مصاحبة الشرور للإنسان في عالم الخَلق و التحذير من الرضا بذلك، و المراد مصاحبة الشيطان الذي يقتصر تأثيره على عالم الخَلق و ليس عالم الأمر، و وقوع الإنسان في دركات الجحيم إنّما هو على أثر اتّباع الشيطان و الانقياد له، و التجرّد من جميع المقامات الإنسانيّة. و خلاصة الأمر، فإنّ انجراف النفس الأمّارة بالسوء وراء وساوس الشيطان، تؤدي بالإنسان المختار في الإرادة و العمل معاً إلى أسفل السافلين من جهنّم و تُلقي به في السعير.
و بما أن الحديث قد آل بنا إلى هذا المآل، فإنّه من المناسب هنا أن
نتوسّع بالبحث قليلًا و نتحدّث عن الشيطان و كيفيّة وجوده و ظهوره و عمله، و ذلك لتبرز عظمة الإسلام الذي يستند إلى التوحيد، و كذلك ليتوضّح الفارق بينه و بين أهريمن الذي تؤمن به الثنويّة:
تقول الثنويّة: «أهريمن» قطب مستقلّ مقابل «أهورا مزدا»
الشيطان: يُعتبر الشيطان من عجائب عالم الخلقة، حيث دلّ عليه القرآن الكريم دلالة صريحة في مواضع عديدة، و هو بمثابة المحك للإنس و الجنّ و هو مُكلَّف بمهمّة تفتيشيّة؛ و من خلاله (أي الشيطان) يبلغ الإنسان الفعليّة التامّة و الكمال الإنسانيّ و ذلك عن طريق القابليّة و الاستعداد.
تخالف هذه النظريّة بشكل تامّ النظريّة الثنويّة. فالشيطان (أهريمن) باعتقادهم يمتلك وجوداً استقلاليّاً إزاء (أهورا مزدا). و لهذا فَهُمْ يعزلونهما عن الأقطاب و المحاور الثلاثة: الشهود و الوجدان، و العقل و البرهان، و الشرع و الإيمان.
و يتكرّر اسم موجودٍ في تعاليم الأوِسْتا هو أهورا مزدا باعتباره منشأ و مصدر جميع الخيرات و البركات كالحياة و السلامة و الرفاه و العافية و النور و الحيويّة و ما شابه ذلك. و يتكرّر اسم موجود آخر هو انگرهمئنيو و هو مصدر جميع السيّئات و الآفات و الشرور و الظلمات و الوفيّات و الأمراض و أمثال ذلك.
و يظهر من خلال التعاليم الأوِسْتائيّة و خاصّة القسم المسمّى ب- «وَنديداد» أن مَثَل أهريمن كمثل أهورا مزدا مخلوق أزليّ أبديّ بحدّ ذاته مستقلّ بالذات لم يُخلَق من قِبَل أهورا مزدا، بل اكتُشِفَ من قِبَله. في حين يبدو واضحاً من خلال تعاليم أخرى في الأوِسْتا تدعى بال- «گاتا» أن أهورا مزدا كان قد خَلَق موجودَيْن هما: الأوّل «انگرهمئنيو» (/ الفكرة
الخبيثة)، و الثاني «سپنت مئنيو» (/ الفكرة المقدّسة).
و مهما يكن من أمر فإنّ انگرهمئنيو، الموجود القبيح و الخبيث، يمتلك استقلاليّة في العمل. و كان الزردشتيّون يعتقدون و ما زالوا بأنّ الموجودات و المخلوقات في العالم تنقسم إلى مجموعتين: الخير و الشرّ؛ أو الخيرات المفروض وجودها و المفيدة لنظام العالم الكلّيّ و التي يُفتَرض بجميع البشر الاجتهاد و السعي لإنمائها و إكثارها، و الشرور التي تُعتَبر مُضرّة للعالم، و هذه لم يخلقها أهورا مزدا، بل هي نتاجات أهريمن، و على الناس جميعاً تقع مسؤوليّة محوها و إزالتها من العالم.
فهذه الشرور مخلوقات أهريمن سواء أ كان هو نفسه مخلوق أهورا مزدا أم لم يكن.
و على هذا، فإنّ ما يمكن استنباطه من الأوِسْتا هو أن أهريمن خالق الشرور و الظلمات و السيّئات، و بذلك يقع القسم القبيح و الخبيث من العالم هذا في قبضته. فهو إمّا أن يكون شريكاً لأهورامزدا في الذات و أصلًا قديماً أزليّاً. و إمّا أن يكون مخلوقه لكنّه شريك له في الخِلقة و التكوين. و أيّاً كان ذلك فإنّ (أي أهريمن) يمتلك استقلالًا وجوديّاً في العمل و الخَلق، و الخبير في الخَلْق و عالم التكوين و التدبير.
يقول القرآن الكريم أن الله خلق جميع الموجودات فأحسن تصويرها
لكنّ الأمر مختلف تماماً في نظريّة الإسلام. ففي إطار التفكير و العرفان الإسلاميّينِ جميع الموجودات في العالم خاضعة لمسألة الجمال و الخير و القبول و الحمد و الشكر و التمجيد و التحميد و المدح و الإطراء. فالخالق واحد و كلّ ما هو مخلوق بيده واحد كذلك. و ذلك هو منتهى الروعة و البهجة و النزاهة و الكمال و التمام و الإتقان.
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَ
شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.۱
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.٢
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى.٣
إن أصل خِلقة الشيطان في الأساس هو خير، لأنّ ذلك حادث طبقاً لحكمة الله. و قد علمنا أنّه هو أيضاً مخلوق من مخلوقات الله؛ و كلّ مخلوق من مخلوقات الله هو خير.
الجنّ و الإنس كلاهما مكلّفان بالتكليف الإلهيّ
و طبقاً لما ورد في الآيات القرآنيّة الكريمة فإنّ الشيطان لا أثر له في عالم الخِلقة و التكوين؛ و لا سلطان له في عالم الأمر و الملكوت. و تقتصر دائرة إحاطته و فعليته في عالم الخَلق و الدنيا و حسب، و حتى تلك الإحاطة و الفعليّة تكون مقتصرة على أفكار الجِنّ و الإنس، و على نحو الاختيار و الوسواس لا الإجبار و الاضطرار؛ حتى يتمّ لهُ تضليل اي موجود شاء من الجِنّ أو الإنس إذا ما انقادوا لوساوسه و اتّبعوا أغراضه و أهواءه، ففي الواقع هو مأمور من قِبل الله لتمييز الصالح عن الطالح، و الجميل عن القبيح و السعيد عن الشقيّ، و أصحاب الجَنّة عن أصحاب النار؛ فيكون الإنسان حيئنذٍ مخيّراً في انتقاء طريق السعادة أو الشقاء بملء إرادته في هذه الدنيا التي هي دار تكليف. و ما كان بالإمكان وقوع هذا الأمر أو حصوله بغياب الشيطان و وساوسه في أفكار الإنس و الجنّ.
في البدء، اي قبل عالم التكليف كان الشيطان مَلَكاً من الملائكة، و لذلك تشير الآية التالية أيضاً في خطابها إلى زمرة الملائكة و أمرهم بالسجود:
وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.۱
و لأنّ الشيطان كان مخلوقاً من النار و كان من زمرة الجِنّ كان على صورة مَلَك و في صفّ الملائكة و ذلك قبل التكليف و لهذا امتنع عن الامتثال لأمر الله سبحانه:
وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.٢
الآن و قد تبيّن أن الشيطان كان من الجِنّ، و من ناحية أخرى علِمنا أن الله سبحانه خَلق الجِنّ من ريح حارّة طبقاً للآية الشريفة التالية:
وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.٣
و الآية الشريفة:
وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ.۱
و من ناحية أخرى نعلم أن خلقة الإنسان كانت من تراب كما تبيّن الآية الشريفة:
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.٢
و على هذا تكون خلقة كليهما (الجنّ و الإنس) من عالم الطبيعة و الكون و الفساد و ملوَّثة بالشرور و النقائص؛ خاضعة للتكليف الإلهيّ و الأمر و النهي و الطاعة و المعصية، و أخيراً التحرّك باتّجاه المقصود و المطلوب الأصليّينِ.
و قد شرّفهما الله معاً بأمر التكليف و العبادة، مُبَيِّناً أن الغاية من خلقتهما هي العبادة و العبوديّة:
وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ.٣
و لهذا ذرأ الله جهنّم لكلا الفريقَينِ من الجِنّ و الإنس لتكون مآلًا و مستقرّاً لكلّ مَن يتمرّد على أوامره و يعصيه و يتّبع الشيطان الرجيم:
وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.٤
ثمّ سيخاطب هؤلاء بشدّة من قبل الحقّ تعالى في اليوم الآخِر أن
لما ذا لم تتّبعوا رسلنا الذين نصحوا لكم و حذّروكم يومكم المُستَطير هذا؟!
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.۱
فلمّا كانت أعمالهم على بيّنة منهم و طبقاً لانتخابهم هم أنفسهم و اختيارهم هم أنفسهم طريق الجَنّة أو النار بأيديهم و نيّاتهم، فإنّ جميع المخلوقات من الجِنّ و الإنس ممّن تنطبق عليهم هذه الصورة مشمولون بكلمة العذاب أو الرحمة هاتين و سوف يخلدون في مأواهم هناك إلى الأبد سواء أ كان ذلك المأوى هو الجَنّة أم النار:
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ، وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.٢
و لا يختلف للشيطان إلّا على الذين يعنيهم ما يعنيه هو؛ فيغويهم و يزلّهم عن الطريق. و لأنّ هؤلاء لم يخطوا في هذه السبيل أو يتّبعوا خطوات الشيطان إلّا بمحض إرادتهم و كامل قواهم العقليّة، و ذلك بعد إتمام الحجّة عليهم من جانب الحقّ تعالى بواسطة الرسل و الوحي، فإنّهم سيردون موارد الهلاك و العذاب في الدنيا و يكون مصيرهم الجحيم و الغضب الإلهيّ في الآخرة:
وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ، وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ
لَمَعْزُولُونَ.۱
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ.٢
و يدخل الشيطان بين بني البشر بالكلام القبيح و التهمة و الغيبة و الحديث غير اللائق و الغريب و التحريض على ارتكاب المعصية و الفساد و القبائح و الترغيب فيها:
وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ٣ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً.٤
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.٥
وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً، يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.٦
و مع ذلك كلّه فإنّ كيد الشيطان ضعيف و لا يكون التغلّب عليه إلّا
بقوّة رحمانيّة إيمانيّة إنسانيّة من الله سبحانه، فلو استطاع المخلوق التخلّص تماماً من وساوس الشيطان و حبائله فإنّه لا جَرَمَ سيحوز على الظفر و النجاح و الانتصار عليه.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.۱
فليس للشيطان أيّ سلطان على المؤمنين و المتوكّلين على الله. بل سلطانه إنّما يكون على الذين مهّدوا لأنفسهم طريق ولايته، و اتّخذوه شريكاً مع الله سبحانه و كفؤاً له، فتركوا باب غوايته لهم مفتوحاً على مصراعيه ثمّ انفعلوا بسبب ضعف نفوسهم، و فتحوا نوافذ قلوبهم كاملة أمام وساوسه الضعيفة و ترّهاته الواهية و ادّعاءاته السخيفة، فيتهيّأون للتلّوث بأيّة قذارة و يهلكون أنفسهم بأنفسهم و بمعونة أهوائهم و مساعدة ذلك الخبيث المُخَبِّث.
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.٢
و في اليوم الآخر عند ما يلوم المستضعفون المستكبرين قائلين: أنتم الذين أكرهتمونا على أن نطيعكم و نرتكب الآثام و المعاصي، فعليكم اليوم أن تحملوا عنّا إصرنا و الوِزر الذي حَمّلتمونا إيّاه و ترفعوا عذاب الله. فيُجيبهم المستكبرون حينئذٍ: إنّما نحن مثلكم متورّطون في هذا الأمر، و لا حيلة لنا لأنّنا لا نمتلك الإرادة أو الاختيار و ليست أزِمّة الامور بيدنا!
في هذا اليوم سيقول لهم الشيطان صراحة:
لقد وعدكم الله وعد الحقّ لكنّي وعدتكم باطلًا و أخلفتكم و ها أنتم الآن تَرَوْن نتيجة ذلك، فأنتم الذين تستحقّون اللوم، لأنّه ما كان لي عليكم من سلطان أو قوّة إلّا أن دَعَوتُكم إلى و إلى وساوسي فجئتموني مُلبّين دعوتي بملء إرادتكم و اختياركم؛ فلا تلوموني أو توبّخوني على ذلك!!
فكلانا متورّط في هذا الأمر، فلا أنا أستطيع أن ازيح همّاً عن قلوبكم فاعدّ لكم طريق الخلاص و أدلّكم عليه و لا أنتم قادرون على الأخذ بيدي و تخليصي ممّا أنا فيه!
لقد كنتُ كفرتُ بما أشركتُموني منذ اللحظة التي دعوتكم فيها فاستجبتم دعوتي و اعتبرتموني مؤثّراً في مقابل الله سبحانه و تعالى و لم أقبل بذلك الشِّرك القديم، و كنتُ أعلم أن الله الواحد القهّار هو وحده المؤثّر في جميع عوالم الوجود:
وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.۱
الشيطان مأمور مطيع للّه للتمييز بين الخبيث و الطيِّب
و ممّا ذُكر يمكن استنباط بعض الامور المهمّة و الأساسيّة في العقيدة
الإسلاميّة النابعة عن التعاليم القرآنيّة:
أوّلًا: لقد تبيّن أن الشيطان لا يملك استقلاليّة لا في الوجود و لا في الذات و لا في الأثر و لا في الفعل. فوجوده و فعله أمران موكولان إلى الله تعالى و أمره سبحانه.
ثانياً: أنّه (أي الشيطان) يؤثّر في الجِنّ و الإنس معاً لا في الإنس وحدهم.
ثالثاً: ليس لتأثيره أيّ أمر قهريّ أو اضطراريّ أو اجباريّ، فهو لا يستطيع سحب الإنسان من يده و جرّه إلى ارتكاب المعاصي، بل يقتصر تأثيره في مجرّد الوساوس و صرافة الدعوة، على نحوٍ ضعيف.
رابعاً: يتّبع الإنسان الشيطان و وساوسه بمحض إرادته و اختياره، و لذا فالإنسان لا يحق له أن يؤنّب الشيطان أو يلومه في عالم الحقّ و الحقيقة و عند الوقوف أمام الله سبحانه، أو أن يقول له: أنت السبب في كلّ هذا فعليك أن تحمل اليوم عنّي إصري!
خامساً: أن أصل خلقة الشيطان خير؛ و إنّما خُلِقَ لامتحان البشر و اختبارهم حتى يتمكّن (أي البشر) من السير في الطريق الصعب و اللطيف في نفس الوقت، و ذلك في عالم التكليف و الأمر و النهي الإلهيّين بملء إرادته.
فلولا الشيطان لاختَفتْ كلّ الاستعدادات و القابليّات في بوتقة الإجمال و الإبهام.- سواء أ كان ذلك من ناحية الشيطان الداخلي و النفس الأمّارة أم من ناحية الشيطان الخارجيّ و إبليس اللعين- و لو كان العالم مملوء بدعوات الخير لانعدمت الحركة نحو الكمال، و لم تحصل النهضة باتّجاه ذُرى المعرفة و قممها. و لو لا الشيطان لما كان هناك من خيرٍ أو شرّ أو تكليف أو أمر أو نهي، و ما كان للعاطفة و الحبّ و الجهاد من أثر يُذكَر.
و لو لا الشيطان لما كان من وجود للشقاء أو السعادة أو الجنّة أو النار. و بالجملة فلو لم يوجد الشيطان ما وُجِدَت كلّ تلك العجائب و البدائع في الخلقة و الجمال البشريّ الواقعيّ الفتّان؛ و لولاه لتبدّل العالَم بأجمعه و لكان مختلفاً عمّا هو عليه الآن، كثير الشبه بسلسلة من الموجودات الثابتة غير العاشقة و غير المتحرّكة، كما هو الحال مع عالم الملائكة.
و في هذه الحالة، كان يكفي وجود عالَم الملائكة و لم تكن هناك حاجة إلى إيجاد عالَم الخِلقة بواسطة عالَم المادّة و خلق البشر و إبليس و سجود الملائكة و تمرّد إبليس، و حركة البشريّة و مسيرتها من مبدئها حيث الاستعداد و القابليّة إلى منتهاها حيث أعلى درجة الكمال و اكتمال الذات في مقابل جنس الملائكة.
كأنّ الله الخالق و العليم و الحكيم قد ذرأ الشيطان و ادّخره لعالم الكثرة هذه و دار الاعتبار و التكليف لكي يتحقّق به اكتمال الخلقة و لعلّه السبب في أكمليّة الإنسان و أفضليّته و كونه أشرف من الملائكة المقرّبين.
إن الشيطان مكلَّف و مأمور من لدن الحقّ تعالى بالاختبار و التحقيق و تمييز الأفراد المُلوَّثين بإرادتهم- التي لا تنفصل عن إرادة الله تعالى، بل هي عين اختياره و نفس إرادته- و الذين اختاروا السبيل المُعوَجّ، المُدَنّسون بعفونة الكثرات المتعفّنة و الذين هم غير مؤهّلين للدخول إلى حرم الأمن و حريم الأمان الإلهيّ، عن الأفراد الصالحين الطاهرين الطيّبين، و مانع اولئكم من أن يخطوا خطوة واحدة في عوالم قرب الحقّ. و مقرّب الذين دخلوا عالم الخلوص و أفنوا عمراً في حبّ الحقّ الأزَل و الأبد، و أضحوا بذلك من المقرَّبين، دفعة واحدة، حتى يتمكّنوا ببساطة و سهولة من التحليق في عوالم الحضرات، و يدخلوا ذلك الحرم المنيع دون مانعٍ أو رادعٍ و يتعطّروا بعبير التوحيد الطيّب و الأريج الفوّاح للعرفان و الفَناء في ذات الحقّ، بعد أن
اجتازوا حالة التعفّن الحاصلة بالتوجّه نحو الكثرات و الملوِّثات الإنسانيّة المرهقة و المهلكة و المخرّبة، و بعد أن طرحوا عنهم لباس الخلقة و التعيّن و التقيُّد و خُلِعَت عليهم خِلَع ربّانيّة، و آووا إلى ركن شديد و رَوح و ريحان، حاملين لواء الحمد و التوحيد يوم القيامة.
إن الشيطان مأمور مطيع و ممتثلٌ لأوامر الله؛ مهمّته تمييز الطيّب عن الخبيث؛ تماماً كالحرّاس من زنابير العسل الذين يؤمَرون بالوقوف عند باب قَفير النحل و تفتيش الزنابير التي طعمت الأزهار الكريهة الرائحة و المتعفِّنة ليمنعوا دخولها إلى الخليّة و يلسعونها شاطرين إيّاها نصفين؛ و يُجيزون لتلك التي أدّت مهمّتها على أكمل وجه فطعمت الأزهار الطيّبة الرائحة و العطرة الدخول إلى القفير.
الشيطان يقول: سألجم جميع ذرّيّة آدم- إلّا قليل منهم- بلجامي
و ما أروع ما يصف القرآن الكريم و يبيّن مهمّة إضلال الشيطان البشر و التي شُرِّفَ بها من قِبَل الله، حيث يقول:
وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً.
قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا.۱
و تشير الآيات الشريفة التالية من سورة الأعراف إلى الأمر بالهبوط
بعد أن تستعرض قضية خلق آدم و سجدة الملائكة و رَفض إبليسَ السّجود؛ و تبيّن كذلك مهمّة الشيطان في إغواء الإنس بصورة وافية:
قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ.
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً۱ مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ.٢
كلام سماحة العلّامة في إبليس و عمله
و لُاستاذنا سماحة العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه بحث موجز لكنّه شيِّق و متين و أساسيّ فيما يخصّ إبليس و حقيقة وجود و تكوين بني آدم و سرّ ذلك و خلقته و الملائكة، و ذلك خلال تفسيره الآيات الشريفة الواردة في سورة الأعراف.٣ ثمّ ذكر كلاماً حول إبليس و عمله و طريقته و اسلوبه في العالم الإنسانيّ و فيما يلي نصّ الكلام المشار إليه:
كلام في إبليس و عمله:
عاد موضوع «إبليس» موضوعاً مبتذلًا عندنا لا يُعبأ به دون أن نذكره أحياناً و نلعنه أو نتعوّذ بالله منه أو نقبّح بعض أفكارنا بأنّها من الأفكار الشيطانيّة و وساوسه و نزغاته دون أن نتدبّر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسّنا، و ما له من عجيب التصرّف و الولاية في العالَم الإنسانيّ.
و كيف لا و هو يصاحب العالَم الإنسانيّ على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله و ينقرض بانطواء بساط الدنيا، ثمّ يلازمه بعد الممات ثمّ، يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، و هو مع الواحد منّا كما هو مع غيره هو معه في علانيّته و سرّه يجاريه كلّما جرى حتى في أخفى خيال يتخيّله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته، لا يحجبه عنه حاجب، و لا يغفل عنه بشغل شاغل.
كلام العلّامة في جميع الإشكالات المذكورة في قصّة إبليس
و أمّا الباحثون منّا فقد أهملوا البحث عن ذلك و بنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأوّل سالكين ما خطّوا لهم من طريق البحث، و هي النظريّات الساذجة التي تلوح للأفهام العامّيّة لأوّل مرّة، تلقّوا الكلام الإلهيّ ثمّ التخاصم في ما يهتدي إليه فم كلّ طائفة خاصّة، و التحصّن فيه ثمّ الدفاع عنه بأنواع الجدال و الاشتغال بإحصاء إشكالات القصّة و تقرير السؤال و الجواب بالوجه بعد الوجه.
لِمَ خلق الله إبليس و هو يعلم من هو؟
لِمَ أدخله في جمع الملائكة و ليس منهم؟
لِمَ أمره بالسجدة و هو يعلم أنّه لا يأتمر؟
لِمَ لم يُوفّقه للسجدة و أغواه؟
لِمَ لم يُهلِكْهُ حين لم يسجد؟
لِمَ أنظره إلى يوم يُبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟
لِمَ مَكّنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟
لِمَ أيّده بالجنود من خيلٍ و رَجِلٍ و سلّطه على جميع ما للحياة الإنسانيّة من مساس؟
لِمَ لم يُظهْرهُ على حواسّ الإنسان ليحترز مساسه؟ لِمَ لم يؤيّد الإنسان بمثل ما أيّده به؟
و لِمَ لم يكتم أسرار خِلْقَة آدم و بنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائه؟
و كيف جازت المشافهة بينه و بين الله سبحانه و هو أبعد الخليقة منه و أبغضهم إليه و لم يكن بنبيّ و لا مَلَك؟ فقيل بمعجزة و قيل بإيجاد آثار تدلّ على المراد، و لا دليل على شيء من ذلك.
ثمّ كيف دخل إبليس الجنّة؟ و كيف جاز وقوع الوسوسة و الكذب و المعصية هناك و هي مكان الطهارة و القدس؟
و كيف صدّقه آدم و كان قوله مخالفاً لخبر الله؟
و كيف طمع في المُلك و الخلود و ذلك يخالف اعتقاد المعاد؟
و كيف جازت منه المعصية و هو نبيّ معصوم؟
و كيف قُبِلَت توبته و لم يَرِد إلى مقامه الأوّل و التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟
و كيف ...؟ و كيف ...؟
و قد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقيّ و استرسالهم في الجدال إشكالًا و جواباً أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا، آدم
النوعي و القصّة تخيليّة محضة، و اختار آخرون أن إبليس الذي يخبر القرآن الكريم عنه هو القوّة الداعية إلى الشرّ من الإنسان.
و ذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح و الشنائع إليه تعالى و أن جميع المعاصي من فعله و أنّه يخلق الشرّ و القبيح فيُفسِد ما يُصلحه، و أن الحَسَن هو الذي أمر به و القبيح هو الذي نهي عنه.
و آخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيّاً.
و آخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقاً.
و آخرون إلى أنّهم غير معصومين قبل البعثة و قصّة الجنّة قبل بعثة آدم.
و آخرون: إلى أن ذلك كلّه من الامتحان و الاختبار.
و لم يبيّنوا ما هو الملاك الحقيقيّ في هذا الامتحان الذي يضلّ به كثيرون و يهلك به الأكثرون، و لو لا وجود ملاك يحسم مادّة الإشكال لعادت جميع الإشكالات.
و الذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث و يختلّ به نتائجها هو أنّهم لم يفرّقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقيّة من جهاتها الاعتباريّة، و لم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختلّ بذلك نظام البحث، و حكّموا في ناحية التكوين غالباً الاصول الوضعيّة الاعتباريّة الحاكمة في التشريعات و الاجتماعيّات.
إجابة العلّامة على جميع الإشكالات المذكورة في قصّة إبليس
و الذي يجب تحريره و تنقيحه على الحرّ الباحث عن هذه الحقائق الدينيّة المرتبطة بجهات التكوين أن يحرّر جهات:
الاولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلّق بها الخلق و الإيجاد في نفسه- أعني وجوده النفسيّ من غير إضافة- لا يكون إلّا خيراً و لا يقع إلّا حُسناً، فلو فرض محالًا تعلّق الخلقة بما فرض شرّاً في نفسه عاد أمرا۱
معرفة الله ؛ ج٣ ؛ ص۱٢۱
موجوداً له آثار وجوديّة يبتدئ من الله و يرتزق برزقه ثمّ ينتهي إليه، فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشرّ و القبح إلّا أن يرتبط وجوده بغيره، فيفسد نظاماً عادلًا في الوجود، أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها و سعادتها، و هذا هو معنى الإضافة المذكورة.
و لذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهيّة أن ينتفع من هذه الموجودات المضرّة الوجود بما يربو على مضرّتها، و ذلك قوله تعالى: الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ.۱
و قوله تعالى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.٢
و قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.٣
الثانية: أن عالم الصنع و الإيجاد على كثرة أجزائه و سعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوّله، فإيجاد بعضه إنّما هو بإيجاد الجميع، و إصلاح الجزء إنّما هو بإصلاح الكلّ، فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود و هو الذي صيّر العالم عالماً ثمّ ارتباطها يستلزم استلزاماً ضروريّاً- في الحكمة الإلهيّة- نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي و التضادّ، أو بالكمال و النقص و الوجدان و الفقدان و النيل و الحرمان، و لو لا ذلك لعادت جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميّز فيه و لا اختلاف فيبطل بذلك الوجود.
قال تعالى:
وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.۱
فلولا الشرّ و الفساد و التعب و الفقدان و النقص و الضعف و أمثالها في هذا العالم لما كان للخير و الصحّة و الراحة و الوجدان و الكمال و القوّة مصداق، و لا عُقل منها معنى لأنّا إنّما نأخذ المعاني من مصاديقها.
و لو لا الشقاء لم تكن سعادة، و لو لا المعصية لم تتحقّق طاعة، و لو لا القبح و الذنب لم توجد حُسن و لا مدح، و لو لا العقاب لم يحصل ثواب، و لو لا الدنيا لم تتكوّن آخرة.
فالطاعة مثلًا امتثال الأمر المولويّ، فلو لم يمكن عدم الامتثال- الذي هو المعصية- لكان الفعل ضروريّاً لازماً، و مع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولويّ لامتناع تحصيل الحاصل، و معه عدم الأمر المولويّ لا مصداق للطاعة و لا مفهوم لها كما عرفت.
و مع بطلان الطاعة و المعصية يبطل المدح و الذم المتعلّق بهما و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير، ثمّ الدين و الشريعة و الدعوة، ثمّ النبوّة و الرسالة، ثمّ المجتمع و المدنيّة، ثمّ الإنسانيّة، ثمّ كلّ شيء، و على هذا فقس جميع الامور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.
و من هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشرّ و المعصية من أركان نظام العالم الإنسانيّ الذي إنّما يجري على سُنّة الاختيار و يقصد سعادة النوع.
و هو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحاً إلى ربّه ليلاقيه، و من المعلوم أن الصراط إنّما يتعيّن بمتنه صراطاً بالحاشية الخارجة عنه الحافّة به، فلولا الطرف لم يكن وسط،
فافهم ذلك و تذكّر قوله تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.۱
و قوله تعالى: [قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ].
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ.٢
إذا تأمّلت في هاتين الجهتين ثمّ تدبّرت آيات قصّة السجدة وجدتها صورة منبّئة عن الروابط الواقعيّة التي بين النوع الإنسانيّ و الملائكة و إبليس قد عُبِّرَ عنها بالأمر و الامتثال و الاستكبار و الطرد و الرجم و السؤال و الجواب، و أن الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبّر القصّة، حتى أن بعض من تنبّه لوجه الصواب،٣ و أنّها تُشير إلى ما عليه طبائع الإنسان و الملك و الشيطان فقد ذكر أن الأمر و النهي- يُريد أمر إبليس بالسجدة و نهي آدم عن أكل الشجرة- تكوينيّان، فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، و ذهل عن أن الأمر و النهي التكوينيّين لا يقبلان التخلّف و المخالفة، و قد خالف إبليس الأمر و خالف آدم النهي.
الثالثة: أن دلالة قصّة الجنّة- على ما تقدّم تفصيل القول فيها في سورة البقرة- تُنَبِّئ عن أن الله سبحانه خلق جنّة برزخيّة سماويّة، و قد أدخل آدم فيها قبل أن يستقرّ على الحياة الأرضيّة، و يغشاه التكليف
المولويّ، ليختبر بذلك الطباع الإنسانيّة فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلّا أن يعيش على الأرض، و يتربّى في حِجر الأمر و النهي فيستحقّ السعادة و الجنّة بالطاعة، و إن كان دون ذلك فدون ذلك.
و أن لا قدرة للإنسان ليقف في موقف القُرب و ينزل في منزل السعادة إلّا بقطع هذا الطريق.
و بذلك ينكشف أن لا وجود للإشكالات التي أوردوها في قصّة الجنّة، فلا الجنّة كانت جنّة الخُلد التي لا يدخلها إلّا وليّ من أولياء الله تعالى دخولًا لا خروج بعده أبداً، و لا الدار كانت داراً دنيويّة يُعاش فيها عيشة دنيويّة يديرها التشريع و يحكم فيها الأمر و النهي المولويّان، بل كانت داراً يظهر فيها حُكم السجيّة الإنسانيّة لا سجيّة آدم عليه السلام بما هو شخص آدم، إذ لم يؤمَر بالسجدة له و لا ادخِل الجنّة إلّا لأنّه إنسان كما تقدّم بيانه.
العلّامة يوضّح قضيّة إبليس بأحسن وجه
رجعنا إلى أوّل الكلام:
لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرّير الذي سمّاه إبليس إلّا يسيراً، و هو قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.۱
و ما حكاهُ عنه في كلامه: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ.
فبيّن أن بدء خِلقته كان من نار من سنخ الجِنّ و أمّا ما آل إليه أمره فلم يذكره صريحاً، كما أنّه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصّل القول في خلقة الإنسان.
نعم، هناك آيات واصفة لصنعه و عمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب، قال تعالى حكاية عنه:
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ.۱
فأخبر أنّه يتصرّف فيهم من جهة العواطف النفسانيّة من خوف و رجاء و امنية و أمل و شهوة و غضب، ثمّ في أفكارهم و إرادتهم المنبعثة منها.
كما يقارنه في المعنى قوله:
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.٢
أي لُازيننّ لهم الامور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف و زينات مهيّأة من تعلّق العواطف الداعية نحو اتّباعها، و لُاغوينّهم بذلك، كالزنا مثلًا الذي يتصورّه الإنسان، و تزيّنه في نظره الشهوة و يضعف بقوّتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه، فيصدّق به فيقترفه.
و نظير ذلك قوله يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.٣
و قوله: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ.٤
كلّ ذلك- كما ترى- يدلّ على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنسانيّ، و وسيلة عمله العواطف و الإحساسات الداخليّة، فهو الذي يُلقي هذه الأوهام الكاذبة و الأفكار الباطلة في النفس الإنسانيّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.٥
لكن الإنسان مع ذلك لا يشكّ في أن هذه الأفكار و الأوهام المسمّاة
وساوس شيطانيّة أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يُلقيها إليه أو يتسبّب إلى ذلك بشيء، كما في سائر أفكاره و آرائه التي لا تتعلّق بعمل غيره، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، و الأربعة زوج، و أمثال ذلك.
فالإنسان هو الذي يوجِد هذه الأفكار و الأوهام في نفسه، كما أن الشيطان هو الذي يُلقيها إليه و يخطرها بباله من غير تزاحم، و لو كان تسبّبه فيها نظير التسبّبات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبراً أو حكماً أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يُجامع استقلالنا في التفكير، و لانتفت نسبة الفعل الاختياريّ إلينا، لكون العلم و الترجيح و الإرادة له لا لنا، و لم يترتّب على الفعل لوم و لا ذمّ و لا غيره.
و قد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة:
وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.۱
العلّامة: تصرّف الشيطان في الإنسان يتمثّل في نظرته الاستقلاليّة
فنسب الفعل و الظلم و اللوم إليهم و سلبها عن نفسه، و نفى عن نفسه كلّ سلطان إلّا السلطان على الدعوة و الوعد الكاذب، كما قال تعالى:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ.٢
فنفى سبحانه سلطانه إلّا في ظرف الاتّباع، و نظيره قوله تعالى:
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.۱
و بالجملة فإنّ تصرّفه في إدراك الإنسان تصرّف طوليّ لا ينافي قيامه بالإنسان و انتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله، لا عرضيّ ينافي ذلك.
فله أن يتصرّف في الإدراك الإنسانيّ بما يتعلّق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور التزيين، فيضع الباطل مكان الحقّ و يُظهره في صورته، فلا يرتبط الإنسان بشيء إلّا من وجهه الباطل الذي يغرّه و يصرفه عن الحقّ، و هذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولًا، ثمّ لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته، فيحجبه ذلك عن الحقّ و يلهيه عن الحياة الحقيقيّة، كما تقدّم استفادة ذلك من قوله المحكيّ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ.٢
و قوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.٣
و يؤدّي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحقّ، و هو الأصل الذي ينتهي إليه فيحلّل كلّ ذنب، قال تعالى: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.٤
فاستقلال الإنسان بنفسه و غفلته عن ربّه و جميع ما يتفرّع عليه من سيّئ الاعتقاد و رديء الأوهام و الأفكار التي يرتضع عنها كلّ شِرك و ظلم
إنّما هي من تصرّف الشيطان، في حين أن الإنسان يخيّل إليه أنّه هو الموجد لها القائم بها لِما يراه من استقلال نفسه، فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاداً و عمل إلّا صبغه بها.
و هذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان و تدبيره و تصرّفه من غير أن يتنبّه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه، قال تعالى:
إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.۱
و ولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي و المظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات و القُربات، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.٢ و الله من ورائهم محيط و هو الوليّ الذي لا وليّ سواه، قال تعالى:
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ.٣
العلّامة: «الاحتناك» بمعنى الإلجام، كما يُلجم الراكب فَرَسَه
و هذا هو الاحتناك اي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً، وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.۱
أي لألجمنهم فأتسلّط عليهم تسلّط راكب الدابّة الملجم لها عليها، يُطيعونني فيما آمرهم و يتوجّهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أيّ عصيان و جماح.
و يظهر من الآيات أن له جُنداً يعينونه فيما يأمر به و يساعدونه على ما يريد، و هم القبيل الذي ذُكر في الآية السابقة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ. و هؤلاء و إن بلغوا من كثرة العدد و تفنّن العمل ما بلغوا فإنّما صنعهم صنع نفس إبليس و وسوستهم نفس وسوسته، كما يدلّ عليه قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.٢ و غيره ممّا حكته الآيات، نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتُنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم فيما يريده، قال تعالى في ملك الموت:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ.٣
ثمّ قال: حتى٤ إلى غير ذلك.
و تدلّ الآية: الذي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ.٥ على أن في جنده اختلافاً من حيث كون بعضهم من الجنّة و بعضهم من الإنس.
و يدلّ قوله: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ
عَدُوٌّ۱. أن له ذرّيّة هم من أعوانه و جنوده، لكن لم يفصّل كيفيّة إنتشاء ذرّيّته منه.
كما أن هناك نوعاً آخر من الاختلاف يدلّ عليه قوله: وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ، في الآية المتقدّمة، و هو الاختلاف من جهة الشدّة و الضعف و سرعة العمل و بطئه، فإنّ الفارق بين الخيّالة و المشاة هو السرعة في اللحوق و الإدراك و عدمها.
و هناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، و هو الاجتماع عليه و الانفراد، كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:
وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ.٢
و لعلّ قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ٣ من هذا الباب.
فملّخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور و إرادة، و يدعو إلى الشرّ و يسوق إلى المعصية، كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميّز منهم إلّا بعد خلق الإنسان و حينئذٍ تميّز منهم و وقع في جانب الشرّ و الفساد، و إليه يستند نوعاً من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و ميله إلى جانب الشقاء و الضلال، و وقوعه في المعصية و الباطل.
كما أن المَلَك موجود مخلوق ذو إدراك و إرادة، إليه يستند نوعاً من
الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة و منزل الكمال و القرب.
و أن أعوان من الجِنّ و الإنس و ذرّيّة مختلفي الأنواع يجرون بأمره إيّاهم أن يتصرّفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا و ما فيها بإظهار الباطل في صورة الحقّ، و تزيين القبيح في صورة الحَسن الجميل.
و هم يتصرّفون في قلب الإنسان و في بدنه و في سائر شئون الحياة الدنيا من أموال و بنين و غير ذلك بتصرّفات مختلفة اجتماعاً و انفراداً، و سرعة و بطاً، و بلا واسطة و مع الواسطة، و ربّما كانت الواسطة خيراً أو شرّاً، و طاعة أو معصية.
و لا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم و لا بأعمالهم، بل لا يشعر إلّا بنفسه و لا يقع بصره إلّا بعمله، فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان و لا ذواتهم و أعيانهم في عرض وجود الإنسان، غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجِنّ و أنّهم مخلوقون من النار، و كأنّ أوّل وجوده و آخره مختلفان.
نقل العلّامة للإشكالات الإبليسيّة الستّة التي أوردها شارح الإنجيل
بحث عقليّ و قرآنيّ
قال في «روح المعاني»: و قد ذكر الشهرستانيّ عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة و بين إبليس بعد هذه الحادثة، و قد ذكرت في التوراة، و هي أن اللعين قال للملائكة: إنّي أسلّم أن لي إلهاً هو خالقي و موجدي، لكن لي على حكمه أسئلة:
الأوّل: ما الحكمة في الخلق، لا سيّما و قد كان عالماً أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلّا النار؟!
الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنّه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر، و كلّ ما يعود إلى المكلّفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة
التكليف؟!
الثالث: هب أنّه كلّفني بمعرفته و طاعته، فلما ذا كلّفني بالسجود؟!
الرابع: لمّا عصيتُهُ في ترك السجود، فلِمَ لعنني و أوجب عقابي، مع أنّه لا فائدة له و لا لغيره فيه ولى فيه أعظم الضرر؟!
الخامس: أنّه لمّا فعل ذلك، لِمَ سلّطني على أولاده و مكّنني من إغوائهم و إضلالهم؟!
السادس: لمّا استمهلتُهُ المدّة الطويلة في ذلك، فلِمَ أمهلني، و معلوم أنّه لو كان العالَم خالياً من الشرّ لكان ذلك خيراً؟!
قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة و الكبرياء:
يَا إبْلِيسُ! أنْتَ مَا عَرَفْتَنِي؛ وَ لَوْ عَرَفْتَنِي لَعَلِمْتَ أنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ علي في شَيءٍ مِنْ أفْعَالِي!
فَإنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا؛ لَا اسْألُ عَمَّا أفْعَلُ- انتهي.
ثمّ قال الآلوسيّ: قال الإمام الرازيّ: إنّه لو اجتمع الأوّلون و الآخرون من الخلائق و حكموا بتحسين العقل و تقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصاً، و كان الكلّ لازماً.
ثمّ قال الآلوسيّ: و يعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حَمْدان خرج يوماً على جماعته فقال: قد عملت بيتاً ما أحسب أن أحداً يعمل له ثانياً إلّا أن كان أبا فراس، و كان أبو فراس جالساً، فقيل له: ما هو؟ فقال: قولي:
لَكَ جِسْمِي تَعُلُّهُ | *** | فَدَمِي لَا تَطُلُّهُ؟۱ |
فابتدر أبو فراس قائلًا:
قَالَ أن كُنْتُ مَالِكاً | *** | فَلَي الأمْرُ كُلُّهُ |
إجابة العلّامة البليغة على الإشكالات الإبليسيّة الستّة
أقول: ما مرّ من البيان في أوّل الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستّة عن آخرها و يكفي مئونتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأوّلين و الآخرين ثمّ لا ينفع اجتماعهم على ما ادّعاه الإمام، فليست بذاك الذي يحسب، و لتوضيح الأمر نقول...»۱.
و هنا يبدأ سماحة العلّامة بالإجابة تفصيليّاً على الشبهات الستّ خلال صفحات متعدّدة بلغت أربع عشرة صفحة٢ و بأسلوب رائع رصين يسرّ القارئ و يدخله في بحر من العظمة و افق من النور و البهجة، و لو لا خشية الإطناب في هذا الكلام لُقمنا بنقل ذلك كلّه هنا.
إنّه منطق التوراة و تعالى مها التي تُصوّر الله مقهوراً لمنطق الشيطان و مغلوباً على أمره؛ إذ أن الشيطان بإيراده هذه الشبهات الستّ و دخوله الحديث مع الله و الإشكال عليه، كأنّما وضع الله و العياذ بالله في مأزق و حرج للجواب على هذه الشبهات و أجبره على استخدام هراوة الأنانيّة للطرق على رأس الشيطان للتهرّب من الجواب. في حين أنّه طبقاً لمنطق القرآن كما رأينا و كما ذكر سماحة العلّامة ذلك بالبيان الفصيح و اللسان المِنطيق و الكلام البليغ و الاستدلال الرائع بالبراهين، استنتجنا مدى بُعد هؤلاء عن رَكب الإنسانيّة الجاعلين من نظام الخَلق و الإنسان و الشيطان ألعوبة كما يقوم البعض باللهو في مَسرح الدُّمى.
فلم تُحيِّر الشبهات الإبليسيّة شارح الإنجيل فحسب، بل و كما رأينا،
فإنّها جَرَّتْ وراءها الإمام الفخر الرازيّ و الآلوسيّ و سيف الدولة بن حَمدان و شاعره أبا فراس و ألقَت بهم في غياهب بحر الشبهات. و مُلخّص الكلام أن كلّ مَن عجز عن التخلّص من هذه الشبهات و سقط في حبائلها أو حبائل بعض منها، فهو محتاج إذاً إلى نفس القدر من الهداية في داخل نفسه حتى يتبيّن له الإسلام الحقيقيّ بوضوح و جلاء بعيداً عن كلّ ما يُسمّى بشبهة توحيديّة.
التوراة تنسب الكذب إلى الله و الصدق إلى الشيطان!
و العجيب أن التوراة تُصوِّر قضيّة إبليس و إغواءه آدم- أبو البشر- في الجنّة بطريقة و شكل مختَلفَيْن تماماً عمّا ذَكره القرآن الكريم. فالتوراة تعترف صراحةً أن الأكل من ثمر الشجرة المنهيّة (التي نُهيَ آدم عن الأكل منها) كان في صالح آدم، و أن إرادة الله كانت تكمن في إبقاء آدم داخل هالة من الجهل؛ فلمّا عَلِمَ الشيطان ذلك قام بطريقته الخاصّة و اسلوبه المُتميّز بإيقاظ آدم من غفلته و أوصله إلى حدود العلم و المعرفة؛ فالله كان مخالفاً لتوصيل آدم إلى شاطئ العلم و المعرفة في حين كان الشيطان موافقاً على ذلك! و لهذا فقد تنبّهَ (أي إبليس) إلى حيلة الله و مكره و العياذ بالله و أفهمها آدم! فلمّا أطاعَ آدم الشيطان مخالفاً بذلك ما نهاه الله عنه، تَفتّحت بصيرته و عَلِمَ ما كان يجهل من قَبل! فالشيطان إذاً نصير العلم و المعرفة و البصيرة و الهداية، في حين أن الله حاشا له نصير الجهل و الامّيّة و العمى!
جريمة التوراة الحاليّة نحو عالَم البشريّة:
يذكر القرآن الكريم أن الشيطان الذي قام بإغواء آدم قال له: «يا آدم هل أدُلُّك على شجرة الخُلدِ و مُلكٍ لا يبلي».
و التوراة تقول: أن الشيطان الذي قام بإغواء آدم قال له: إذا أكلتَ من هذه الشجرة فإنّك ستحصل على العلم و المعرفة و تستنير بصيرتك.
و طبقاً لمنطق القرآن، فإنّ آدم الذي أزلّه الشيطان و تناول من ثمار الشجرة التي نُهي عنها، طُرِد من الجنّة، و تسبّب أكله من الشجرة المذكورة في عدم خلوده لا في خلوده (كما تدّعي التوراة)، إذاً فكلام الله هو الحقّ، و كلام الشيطان هو الكذب و الباطل و الافتراء.
و تقول التوراة أن آدم الذي أزلّه الشيطان و تناول من ثمار الشجرة التي نُهي عنها، أصبح يملك عيناً و بصيرة و علماً و معرفة فوجد نفسه عرياناً، و لذا فقد تناول من أوراق شجر الجنّة و وضعها على عورته ليسترها. و أن الله إنّما أراد بمنع آدم من الأكل من تلك الشجرة و نهيه عنها، إبقاءه على جهله و عدم اطّلاعه على عورته أو كشفها؛ لكنّه بانقياده للشيطان و مخالفته أمر الله تمكّن من كشف عورته و توصّل إلى المعرفة. و هذا يعني أن كلام الله و العياذ بالله خطأ في حين أن كلام الشيطان كان صحيحاً مطابقاً للواقع!
كذلك خطأ التوراة يكمن في ادّعائها أن الله كان قد وهب الشيطان العلم و المعرفة قبل أمره بالسجود لآدم. و الآية المباركة:
وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.۱
تدلّ دلالة صريحة و واضحة على هذا الأمر. لأنّ المراد من الأسماء هو حقائق الموجودات حيث أن كلّ موجود هو اسم لذات الله المقدّسة و علامة له؛ و هذه المسألة كانت واضحة مسبقاً لدى آدم و كان قد حصل على العلم و المعرفة من قبل.
بل أن الشجرة، طبقاً للعقيدة الإسلاميّة، كانت شجرة خبيثة كخبث
الحسد و البخل و الضغينة؛ و آدم، بإطاعته الشيطان و تناوله من تلك الشجرة، صار موجوداً مادّيّاً و شقّ طريقه نحو الحسد و البخل و الضغينة، فكان مصيره أن طُرِد من الجنّة التي هي مقرّ الأطهار و دار مقامه.
وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.
وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى.
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى.
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى، وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى.
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى.
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى.۱
التوراة تقول: الدين يدعو إلى الجمود و العمي
و يعرّف القرآن الشجرة المذكورة بأنّها شجرة خبيثة، و الشيطان، الذي ادّعى أنّها شجرة الخُلد، كذّابٌ و عدوٌ لآدم. لكنّ التوراة تقول غير هذا. فهي تقول: إنّها شجرة العلم و المعرفة. و أن الله أراد أن يبقى آدم في الجنّة جاهلًا دون علم أو معرفة، و أن الشيطان إنّما دعا آدم ليأكل من تلك الشجرة، فلمّا تناول منها حصل على العلم و المعرفة فوجد نفسه عرياناً.
و حسب كلام التوراة فإنّ الشيطان صادق و صاحب مخلص لآدم، و هو الذي دلّه على الحقيقة و الواقع و هداه إليهما؛ في حين أراد الله أن يبقى آدم بعيداً عن تلك المعرفة و جاهلًا و بمنأى عن ذلك العلم، و لهذا منعه من تناول ثمر شجر المعرفة.
و على هذا الأساس تقول التوراة: أن الله و الدين يدعوان إلى الجمود و الركود و الجهل و العمى، و يريدان من الإنسان أن يكون محاطاً دوماً بالجهل. و إذا أراد الإنسان أن يخرج من تلك الحالة و يحصل على المعرفة، وجب عليه أن يتخلّص من قوانين الدين و تعالى مه؛ لأنّ تلك القوانين و التعاليم لا تمثّل إلّا الجهل و العمى و هي إنّما حُجُبٌ و موانع تحول دون الوصول إلى الحقائق و الواقعيّة. و لذا يمكن القول: أن تعاليم التوراة هذه أكبر جريمة تُرتكب بحقّ البشريّة.
و للمرحوم آية الله المحقّق و الباحث الشيخ جواد النجفيّ البلاغيّ رضوان الله عليه أبحاث قيّمة في هذا المجال.۱
نعم، و لا بأس هنا و نحن مُقبلون على إنهاء مسألة الشرور في قصّة آدم و إبليس أن لا يفوتنا ذكر موضوعين آخرين كذلك؛ الأوّل التشاؤم الفلسفيّ، و الثاني: الاختلافات و التباينات.
فأمّا ما يخصّ المسألة الاولى، نكتفي بإيراد ما قاله المرحوم الصديق العزيز الشهيد الفقيد: آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ قدّس سرّه الشريف. يقول المرحوم:
«يطرح القرآن مسألة الشيطان بشكل مذهل و محيّر حقّاً بحيث لا يؤثّر سلباً على مسألة التوحيد الذاتيّ و أصل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ،٢ و كذا أساس التوحيد في الخالقيّة، و أصل أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ،٣ قُلِ اللَّهُ خالِقُ
كل شيء،۱ لم يتخذ صاحبة ولدا و لم يكن له شريك في الملك٢.
مسألة الشرور غير محلولة لدى المادّيّين، فينظرون إلى العالم
التشاؤم الفلسفيّ:
من آثار «مسألة الشرور» الأخرى هي ظهور التشاؤم الفلسفيّ. و الفلاسفة المتشائمون هم- عادةً- من المادّيّين، و هناك علاقة و ترابط لا يُنكران بين المادّيّة و بين التشاؤم الفلسفيّ. و يرجع السبب في تشاؤم المادّيّين إلى بقاء مسألة الشرور في الفلسفة بدون حلّ.
حسب النظرة الفلسفيّة الإلهيّة فإنّ الوجود يعني الخير، و أمّا الشرّ فهو أمر إضافيّ و نسبيّ، و في خفايا كلّ شرّ هناك خير كامن؛ و لا وجود لهذا الشيء حسب النظرة المادّيّة.
إن النظرة التشاؤميّة نحو العالم هي أمر مؤلم. إنّها لكارثة كبيرة أن يعتبر الإنسان العالَمَ بلا إحساس أو إدراك أو هدف. عند ما يفكّر هذا الإنسان. الذي يرى نفسه طفلًا صغيراً في هذا العالم و أن له طموحاً، و يتأمّل مع نفسه قائلًا بأنّ الكون الذي أنجبني و أفكاري و علّمني أن أكون صاحب هدف، هو نفسه بلا هدف، سيسيطر عليه القلق بلا شكّ.
إن مَن يظنّ بانعدام العدالة في الكون، و أن هناك تمييز و ظلم؛ سيظلّ على تشاؤمه و عدم ارتياحه و لو اعطي نِعَم الدنيا و كنوزها.
و طبيعيّ فإنّ جهود هكذا فرد لنيل السعادة و النجاح له و لبني البشر
لن تكون مقرونة بالأمل و الاطمئنان. و عند ما يكون الظلم هو أساس الوجود، فلا معنى من التحدّث عن العدالة.
و لمّا كان أصل العالم عبثاً فمن الحُمق أن نفكّر بأن يكون لنا هدف.
و من هنا نرى أن المؤمنين يمتلكون الاستقرار و الراحة النفسيّة أكثر من غيرهم، لأنّهم لا يَرَون العالم أبلهاً، بل يؤمنون بأنّه (أي العالم) ذو هدف و حكمة، و أنّه عادل و عاقل. و أمّا فيما يخصّ السيّئات و الشرور فيعتقد أصحاب الأديان و الموحّدون أن كلّ ذرّة منها خاضعة للحساب الدقيق، و هي لا تعدو عن احتمالَينِ، عقابيّة عادلة، أو ابتلائيّة ذات هدف و ثواب.
و لكن ما حيلة غير المؤمنين؟ بما ذا يسْلَوْن؟ فهم يلجأون إلى الانتحار، و على رأي أحدهم فهم يحتضنون الموت بشهامة.
و من ناحية أخرى، أعلنت منظمّة الصحّة العالميّة في إحصائيّة نشرتها عن ارتفاع معدّلات الانتحار و خصوصاً بين المثقّفين. و حسب تقرير المنظّمة المذكورة فقد ارتفع بشكل مريع معدّل الانتحار في ثمان دول اوروبّيّة، حيث تأتي سويسرا- التي نحمل تصوراً عنها أنّها غارقة في النعيم في عداد هذه الدول- و جاء في ذلك التقرير أن الانتحار يأتي في المرتبة الثالثة من أسباب الوفيّات. اي أن ضحاياه تفوق ضحايا السرطان، و أن نسبته في الطبقات المتعلّمة، و مع الأسف، أكثر منها في غير المتعلّمة.
و يضيف التقرير بأنّ معدّل الانتحار يرتفع بشكل مضطرد في الدول النامية التي تُضيعُ إيمانَها يوماً بعد آخر. ففي المانيا الغربيّة مثلًا، يموت حوالي ۱٢۰۰۰ شخص انتحاراً، و ٦۰۰۰۰ آخرون يُقدمون على الانتحار و لكن يتمّ إنقاذهم.
هذا هو الفارق بين من يعتقد بعدم وجود مالك لهذا العالم و بين من
يؤمن بأنّ للكون رب عالِم و هو ربّ العالمين.
أمّا المتشرّبون للتربية الإسلاميّة، فحين تحلُّ بهم المصائب و تعصف بهم الأحداث فإنّهم يضعون هذه الحقيقة نصب أعينهم و هي إنَّا لِلَّهِ وَ إنَّآ إليه رَاجِعُونَ.۱
قضيّة أبو طلحة و أمّ سليم و موت الابن، و دعاء النبيّ لهما
و ينقل هنا المرحوم المطهّريّ قضيّة أبي طلحة و امّ سليم و قصّة موت ولدهما المعبّرة، و ذلك لبيان أثر روح الإيمان على المسلم، حيث إنّه و مع كثرة المصائب الكبيرة و المشاكل التي تقصم الظهر، فإنّه ليس فقط لا يَهِن، بل يثبت و يحتسب كالجبل الأشمّ و يشكر البارئ على نِعَمِهِ.
و ارتأينا هنا أن نورد نصّ القصّة لما تحمل من دلالات و عِبَر جمّة:
روى العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» نقلًا عن كتاب «مُسكِّن الفؤاد» للشهيد الثاني رفع الله درجته عن كتاب «عيون المجالس» عن معاوية بن قُرّة حيث قال:
كَانَ أبُو طَلْحَةَ يُحِبُّ ابْنَهُ حُبَّاً شَدِيداً. فَمَرِضَ، فَخَافَتْ أمُّ سُلَيْمٍ عَلَى أبِي طَلْحَةَ الجَزَعَ حِينَ قَرُبَ مَوْتُ الوَلَدِ، فَبَعَثَتْهُ إلى النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيه وَ آلِهِ.
فَلَمَّا خَرَجَ أبُو طَلْحَةَ مِنْ دَارِهِ تُوُفِّيَ الوَلَدُ. فَسَجَّتْهُ امُّ سُلَيْمٍ بِثَوْبٍ وَ عَزَلَتْهُ في نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ. ثُمَّ تَقَدَّمَتْ إلى أهْلِ بَيْتِهَا وَ قَالَتْ لَهُمْ: لَا تُخْبِرُوا أبَا طَلْحَةَ بِشَيءٍ. ثُمَّ إنَّهَا صَنَعَتْ طَعَاماً ثُمَّ مَسَّتْ شَيْئاً مِنَ الطِّيبِ.
فَجَاءَ أبُو طَلْحَةَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟!
فَقَالَتْ لَهُ: هَدَأتْ نَفْسُهُ! ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَنَا مَا نَأكُلُ؟!
فَقَامَتْ فَقَرَّبَتْ إليه الطَّعَامَ. ثُمَّ تَعَرَّضَتْ لَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا اطْمَأنَّ قَالَتْ لَهُ: يَا أبَا طَلْحَةَ! أ تَغْضَبُ مِنْ وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَنَا فَرَدَدْنَاهَا إلى أهْلِهَا؟!
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ لَا!
فَقَالَتْ: ابْنُكَ كَانَ عِنْدَنَا وَدِيعَةً فَقَبَضَهُ اللهُ تعالى!
فَقَالَ أبُو طَلْحَةَ: فَأنَا أحَقُّ بِالصَّبْرِ مِنْكِ! ثُمَّ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فَاغْتَسَلَ وَ صلى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْطَلَقَ إلى النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَأخْبَرَهُ بِصَنِيعِهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: فَبَارَكَ اللهُ لَكُمَا في وَقْعَتِكُمَا!
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ في امَّتِي مِثْلَ صَابِرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ.
و جاء في نهاية القصّة:
«فقيل: يا رسول الله! صلى الله عليه و آله و سلّم ما كان من خبرها؟ فقال: كان في بني إسرائيل امرأة و كان لها زوج، و لها منه غلامان، فأمرها بطعامٍ ليدعو عليه الناس ففعلتْ، و اجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان يلعبان فوقعاً في بئرٍ كانت في الدار، فكرهتْ أن تنغّص على زوجها الضيافة، فأدخلتْهما البيت و سجّتهما بثوب، فلمّا فرغوا دخل زوجها فقال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت؛ و إنّها كانت تمسّحت بشيءٍ من الطيب و تعرّضتْ للرجل حتى وقع عليها. ثمّ قال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت. فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان. فقالت المرأة: سُبحان الله، و الله
لقد كانا ميّتين، و لكنّ الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري»۱.
ما السبب في عدم كون العالم خيراً محضاً بلا شرور.
الاختلافات و التباينات:
و أمّا المسألة الثانية التي وعدنا ببحثها فهي مسألة سبب الاختلافات و التباينات في عالم الوجود. أ لم يكن حريّاً أن يُخلَق جميع البشر على صورة واحدة و شكل واحد؛ كلّهم أصحّاء، كلّهم أحياء و خالدون، جميعهم مرفّهون و حوائجهم مُستجابة، جميعهم سُعداء و مبتهجون، كلّهم أتقياء و مؤمنون، جميعهم أطهار و طيّبون، الكلّ نشط متحرّك نحو كمال الربّ الموجود الأزليّ الأبديّ الرحيم الودود العطوف و جماله؟!
و بعبارة أخرى: فنحن مُسَلِّمون بأنّ الله هو الخالق، و نُسَلِّم كذلك بأنّ هذا الخلق قائم على أساس من المنفعة و المصلحة؛ و لكن أ لم يكن من الأفضل أن يكون الخلق أفضل من هذا و أرقى منه؟! خلقاً لا وجود للشرور و النقائص فيه و التي هي عدميّات- كما يقول الحكماء- بل عالم تكتنفه الخيرات المحضة و المباهج الصِّرفة و التجلّيات الجماليّة دون تسلّط أو ضَيم، دون لمحة أو بارقة للكبرياء؛ الكلّ فَرِحٌ و سعيد، و مسرور و مُبتَهِج، دون أثر للألم أو المعاناة أو المصائب أو الكوارث أو النفاق أو الكذب أو الزور أو الحسد أو الأضغان، الكلّ جميعاً يعيشون حياة سعيدة و يحيون فعليّة تامّة؟!
أي: أ لم يكن من الأفضل بدءاً أن يخلق الله الجنّة بالخصوصيّات و الميّزات التي بَشَّر بها الأنبياء العِظام و منهم خاتم الأنبياء سيّدنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه و على أولاده الطاهرين و لعنة الله على أعدائهم
أجمعين و الذي بيّن ذلك بالتفصيل، و كذلك القرآن الكريم باعتباره أعظم معجزة إلهيّة و هادياً أقوم الامم إلى الصراط المستقيم۱ الذي شرح ذلك و وصفه بالإطناب و الإجمال في مواقع عدّة؛ فيُسكِنَ فيها بني آدم؟! أ لَم يَكُن ذلك أفضل و أجدر، و أبعد عن المشاكل و اللفّ و الدوران، و أنأى عن آلاف المصائب و البلايا؟!
للجواب على ذلك نقول فقط: أن اختلاف الأشياء الخارجيّة و جميع أفراد البشر يعتمد على ذاتها هي، و هو ضروريّ للنظام الأحسن طبقاً لقانون العِليّة و المعلوليّة.
هذا باختصار هو جَوابنا الذي يَشمل البَراهين الحِكَميّة و الآيات الإلهيّة و الشّواهد الذّوقيّة و الشّهوديّة و العِرفانيّة. و أمّا إذا إبتغيتَ جَواباً أطوَل و شَرحاً أشمَلَ، فَيَكفينا الإستشهاد بالأبيات العِرفانيّة التّالية مِن غَزليّة شَيخ العُرفاء و سَند الواصلين الخواجة محمّد حافظ الشّيرازيّ زادَ الله في عُلوّه و رُتبَته التي يَقول فيها:
صوفى ار باده به اندازه خورد نوشش باد | *** | ور نه انديشة اين كار فراموشش باد |
آنكه يك جرعه مى از دست تواند دادن | *** | دست با شاهد مقصود در آغوشش باد٢ |
پير ما گفت خطا بر قلم صُنع نرفت | *** | آفرين بر نظر پاك خطا پوشش باد |
شاه تركان سخن مدّعيان مىشنود | *** | شرمى از مَظلمة خون سياوشش باد |
گر چه از كبر سخن با من درويش نگفت | *** | جان فداى شكرين پسته خاموشش باد |
چشمم از آينهدارانِ خط و خالش گشت | *** | لبم از بوسه ربايانِ بَر و دوشش باد |
نرگسِ مستِ نوازش كنِ مردم دارش | *** | خون عاشق به قدح گر بخورد نوشش باد |
به غلاميّ تو مشهور جهان شد حافظ | *** | حلقة بندگى زلف تو در گوشش باد۱ |
الاختلافات في عالم الخلقة صحيحة؛ و ليس هناك من تمييز و تفرقة
و أمّا ما يتعلّق بالبراهين الحِكَميّة فنقول: اعلم أن كلّ مشهود في العالَم إنّما هو تباين و ليس تمييز.
و التمييز هو أن نُعطى ضعف الطعام لأحد نفرين مُستَحِقَّيْن لنفس المقدار من الطعام دون الآخر. و ليس التمييز أن نُعطى ضعف الطعام لأحدهما المستحقّ و الجائع أكثر من نظيره المُستَحقّ لكنّه ليس جائعاً كصاحبه؛ بل يُدعى ذلك تبايناً و هو أمر صحيح و مقبول. و كذا الحال مع المُعلّم الذي يقوم بتفصيل الدرس لطالب قليل الذكاء حتى يتمكّن من فَهم الدرس و استيعابه بشكل أفضل في حين يصرف وقتاً أقلّ من ذلك مع طالب آخر أذكى، فهذا هو ما يُسمّى تبايناً لا تمييزاً و هو أمر صحيح و مقبول كما ذكرنا. فلو كان نفس المعلّم يقوم بتدريس المادّة لكلا الطالبيْنِ بمستوى واحد لكان ذلك عدم تباين و هو أمر غير صحيح و غير مقبول.
و هكذا، فقد اتّضح لنا هذا الأمر؛ ثانياً نقول: تَبيّن ممّا تقدّم أن النقائص و الشرور هي امور عدميّة، فموت زيد مثلًا أمر عدميّ و يعود مرجعه إلى حياته في هذا المقطع الزمنيّ المعلوم. فحياته إذاً محدودة بهذا الحدّ من الزمن، و أمّا استمراريّته التي لا وجود لها فهي أمر عدميّ و هو شرٌّ و نقص. و معنى عِليّة الأمر العدميّ للشرور التي هي إعدام هو أن عِلّة وجودها لم تستمرّ إلّا إلى هذا الحدّ و بذلك لم تستطع أن تمنحه الحياة أكثر من ذلك.
«أنا» التي يقولها زيد دليل على وجوده و تمامه، و غير ذلك محال
فإن عمّر زيد خمسين سنة ثمّ مات، فذلك يعني أن علّة وجود حياة زيد امتلكت العلّيّة حتى الخمسين من عمره، و من الآن فصاعداً لن يكون هناك وجوداً لعلّة حياته، إذاً فهو ليس موجوداً.
و تؤول جميع الامور العدميّة إلى محدوديّة الامور الوجوديّة. و على هذا يكون عُمُر زيد الذي دام خمسين سنة قد قُيّد في سجل العلّة و المعلول الثابت لعالم الخلق و نظامه البديع و الأمثل و الذي هو مُسَبَّب من لدن مُسَبِّب الأسباب، و هذا الأمر لا يقبل التغيير و هو عين الخير و الرحمة.
و هكذا قُدِّر لزيد أن يوهبَ عُمُراً مقداره خمسون سنة و ذلك في سجلّ علل امور العالم. و تُعتبر حياته التي دامت خمسين عاماً أمراً وجوديّاً و هي عين الخير و الرحمة، و أمّا عدم حياته بعد هذا المقطع الزمنيّ و الذي نعبّر عنه بالفقدان و الشرّ و الضرر فهو أمر عدميّ. فهو لا شيء لعدم تحقّق علّة وجوده في الخارج، و ما كان من حياته التي دامت خمسين سنة و التي هي أمر وجوديّ هي عين الخير و الرحمة و الصلاح و الحكمة. فما ذا ينتظر زيد أكثر من ذلك؟ و ما الذي يريده من نظام الخَلق؟
و هنا لو قال (زيد): لِمَ لم يبلُغ عمري الستّين؟ لِمَ لم تُضَف عليه عشرُ سنوات اخرى؟
نقول جواباً عليه: أوّلًا لو كانت قد اضيفَت عشر سنوات أخرى على عُمُرك و أصبح ستّين لاعترضتَ بنفس هذا الكلام عند احتضارك و قُلتَ: هلّا بَلَغْتُ السبعين. لِمَ لا تُضاف على عُمُري عشر سنوات أخرى، و هكذا دواليك، فحتّى لو عمّر زيد ألف سنة لتمنّى عند حضور الموت و الفقدان أن يكون عمره ألف سنة و عشراً. و هكذا صعوداً حتى نشهد زيداً و قد وصل عمره الملايين و المليارات؛ و مع ذلك فهو لا يرغب في الموت، لأنّ الموت يكون حينها أمراً عدميّاً كذلك و شرّاً و نقصاً و فقداناً و قطع حياة و معيشة و تكمن مصداقيّة ذلك في «حُكْمُ الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد».
و الخلاصة أن زيداً يطلب الحياة الأبديّة و الخلود.
كان هذا مثالًا عن الحياة. أمّا ما يخصّ جميع نقائص زيد و محدوديّاته فإنّ الأمر على هذا المنوال كذلك. فلو فرضنا أن زيداً حائز على عشر درجات من درجات العلم فسنراه يشكو من عدم حصوله على درجات أعلى من العلم. و يقول في نفسه: لِمَ لم أحصل على مائة أو ألف درجة من العلم؛ و هلمّ جرّا.
و لو امتلك زيد مثلًا مائة درجة من القوّة و القدرة بحيث يستطيع بها رفع ثقل مقداره مائة كيلو غرام، فسنراه يتذمّر من عدم قدرته على رفع مائة و عشرين كيلو غرام أو خمسمائة كيلو غرام ... و هكذا دواليك، و لن نشهد زيداً في أيّة مرحلة قانعاً بما عنده من دون أن يتذمّر أو يطلب الزيادة.
و على هذا لا يمكن إيقاف زيد عند حدّه، فتارة نراه يطلب الحياة الأبديّة، و تارة أخرى يلهث وراء العلم و القوّة السرمديّين، و أخرى لا ينفكّ يطلب شئوناً و امتيازات غير محدودة؛ و كلّ ذلك في هذه الدنيا المقيّدة و المحدّدة بآلاف الحدود و مختلف القيود و أنواع النواقص. فهل مطالب زيد هذه و امنيّاته ممكنة الحصول أو التحقّق حسب ذهنيّتنا، أم أن طلبه هذا من الله هو مُغالاة و إلحاح و هراء و شَكاة؟!
كان هذا هو الجواب الأوّل بهذا الخصوص.
أمثال عبارة «لِمَ لَمْ أكن الشيخ الطوسيّ» تبطل نفسها بنفسها
و أمّا جوابنا الثاني لزيد فهو: أنت تقول: لِمَ لَم أكُن هو دون أنا؟ لِمَ لَم أكن سلطاناً؟ لِمَ لَم أكُن الشيخ الطوسيّ؟ لِمَ لَم أكُن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام؟
و هنا نقف عند كلامك الأوّل، و يكفينا ذلك إلى يوم القيامة و هو حسبنا. نقول: أ لم تَقلْ: «أنا»؟! فما معنى «أنا»؟!
إنّها تعني زيداً الذي يُدعى أبوه ب- «حَسن»، و امّه «فاطمة»، و الذي وُلِدَ (أي زيد) في مدينة مشهد المقدّسة، على مقربة من الحرم الرضويّ
الشريف. ساعة طلوع الفجر، من يوم الأربعاء، من شهر ذي الحجّة، عام ۱٣٩۰ ه-، حيث كان الفصل مثلًا ربيعاً و كان الطقس جميلًا و معتدلًا، و كانت مُوَلِّدَتك السيّدة فلانة المحترمة؛ و كان جَدّك هو الذي سمّاك زيداً و قد شارك ذوو قرباك و معارفك في مراسم نحر عقيقتك، مضافاً إلى آلاف الخصائص و الميّزات الأخرى التي تتميّز بها.
و لو تجاوزنا أصل وجودك، فهناك الكثير من العوارض و المميّزات الزمانيّة و المكانيّة، و الفعل و الانفعال و الكيف و الكَمّ و العلّة و المعلول و غيرها و التي تضافرت مجتمعة و تدخّلت في وجودك و تشخُّصاتك، و قامت بمجموعها بإنشائك و جَعلتْ منك فرداً يُدعى زيداً.
و الآن تقول: لِمَ لَم أكُن الشيخ الطوسيّ؟ لِمَ لَم أكُن العلّامة الحلّيّ؟ لِمَ لَم أكُن السيّد بحر العلوم؟ فالشيخ الطوسيّ مثلًا اسمه محمّد و أبوه يُدعى حَسَن و ولادته كانت في خراسان و قد عاش قبل ألف عام، و تيّارات معلوماته و انفعالاته و خواصّه و آلاف بل بملايين الامور و الفوارق التي تختلف اختلافاً كبيراً مع ما لديك أنت منها.۱
«الذاتيّ لا يُعلّل» قاعدة فلسفيّة لا تتخلّف
إن عبارة «لِمَ لم أكن هو» تُبطل نفسها بنفسها؛ فكلمة أنا تعني أنا، و هو تعني هو. أن الآثار و الخواصّ و الميّزات المتعلّقة ب- «أنا» مؤثّرة في وجود زيد لدرجة أنّنا لو استبدلنا شعرة واحدة من جسمه بشعرة أخرى فإنّ وجود زيد سينعدم أصلًا و لن يكون زيداً البتة. كما لو فرضناً مثلًا: أن حسن الذي هو والد زيد يكون عمّه حسين، حيث سنكون قد ارتكبنا خطاً كبيراً و ضللنا السبيل، و هكذا الأمر في تنظيم و ترتيب سلسلة العلل و المعلولات العجيبة و المحيّرة و المنظّمة الدقيقة لدرجة أنّنا لو قمنا باستبدال شعرة من جسمه و وضعها بالقرب من شفتيه معتبرين ذلك أمراً غير مهمّ في عالم الخلق و معدوم الوجود و الخلقة، فالحقيقة أنّنا بذلك نبتعد عن الواقع و ننأى عن عالم الخلقة و أسرار الخليقة و سلسلة المراتب و العلل.
و الآن افترضوا أنّنا أكملنا كلّ ما يعتبره زيد نقصاً فيه و جعلنا منه إنساناً كامل الوجود و العلم و الحياة و القدرة في إطار الإنسانيّة فإنّ زيداً و بالرغم من كلّ ذلك سيقول: لِمَ لم تتوفّر في صفات و خصوصيّات الحيوانات و الجمادات و النباتات الموجودة على الأرض؟
لِمَ لم يكن جسمي بحجم جسم الفيل؟ لِمَ لا أملك قرنين متشابكين كقرنَي الغزال؟ لِمَ لم تصبح قامتي مثل شجرة الصنوبر؟ لِمَ لا أنير كالبدر في ليلة تمامه أو مثل كوكب الزهرة؟
و ذلك لقول الحكماء: الذاتيّ لا يُعلَّل؛ اي أنّه لا يجب البحث عن علّة وجود الامور التي هي آثار و خصوصيّات لازمة لذات الشيء و لا يجب الاستقصاء عنها بأيّ نحوٍ كان!
جنّة آدم هي جنّة القابليّة؛ و هي غير الجنّة الفعلية التي تليها
و أمّا سبب طرد الإنسان من الجنّة و أن عليه تحمّل المشاقّ و المعاناة للعودة إليها ثانية فهو أن الجنّة صنفان: جنّة القابليّة و جنّة الفعليّة. فالجنّة الاولى التي كان آدم و بنيه فيها كانت جنّة مرحلة النزول من العوالم الملكوتيّة النورانيّة المجرّدة المحضة و التي كانت واصلة إلى عالَم الصورة و المادّة الأوّليّة و التي يُعَبَّر عنها كذلك ب- «عَالَم الذرّ». و أمّا الجنّة التي تُقصَد بعد عالَم الدنيا فهي جنّة بمعنى الكلمة، صاحبة الفعليّة و البروز و الظهور و التفصيل و الانشراح.
فأمّا إطلاق تسمية الجنّة على الاولى فيعود إلى أن التكليف فيها لا يوازي التكليف في عالَم الطبيعة، و هي لا تملك أيّة حركة أو نهضة؛ و هي طهارة و تنزيه و حسب، لكنّ تلك الطهارة تخصّ مرحلة القابليّة فقط. و توجد في (عالَم) الدنيا كلّ مسائل التكليف و الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الجهاد مع النفس الأمّارة بالسوء و التحرُّك نحو المبدأ الأعلى؛ و بالنتيجة تتحوّل جميع القابليّات في الجنّة الثانية، و التي هي مرحلة العروج
و الصعود، إلى فعليّة، حيث البروز و الظهور الخالصين و الشرح و التفصيل اللامتناهيين، فأين هذا من ذاك؟
ميان ماه من با ماه گردون | *** | تفاوت از زمين تا آسمان است۱ |
دانة فلفل سياه و خال مهرويان سياه | *** | هر دو جان سوزند امّا اين كجا و آن كجا؟٢ |
لقد كان خروج آدم من الجنّة سبباً لكماله لا لنقصه. فلو لم يخرج منها لثبت في دار الاستعداد و منزل القابليّة مراوحاً في مكانه دون أيّ تقدّم. لكنّه في نزوله إلى عالَم الطبيعة و تفصيل التكاليف يقطع جميع مراحل مراتب استعداداته البشريّة و قوّته الإنسانيّة، درجةً درجة، باختياره و إرادته، أملًا للوصول بها إلى أعلى درجات الكمال و الفعليّة. و هكذا يخطو قُدُماً للدخول إلى الجنّة الثانية و التي تلي هذه الحياة الدنيا، و يتمكّن منها إلى الأبد.
إن مَثَل الجنّة التي تسبق الدنيا كمثل الجنين، فمع كونه إنسان إلّا أنّه ذو قابليّة محضة؛ حيث لا ضوضاء و لا ضجيج، لا حراك فيه و لا عشق و لا حبّ، لا مقصود فيه و لا مراد؛ و هكذا يتحتّم عليه الخروج من الجنّة و النزول إلى الدنيا، و إلّا فسيؤول إلى الفساد، بعد أن يفقد كلّ مراتب الاستعدادات التي يمتلكها.
إن الجنين و هو يشهد حريّته و قدرته على الاختيار في عالَم الطبيعة وسط التيّارات المختلفة و القوى الملكوتيّة و الإبليسيّة المضادّة لها، و في
خضمّ الدعوة إلى الحسنات و السيّئات، فيسير بقدم ثابتة و إرادة راسخة متينة في مجاهدته للنفس الأمّارة بالسوء؛ فإذا به يرى نفسه في عالم تسوده العظمة و تهيمن عليه الابّهة و الجمال و الجلال؛ عالم تكتنفه الآثار التي تتمثّل في بروز الاستعدادات و ظهورها من حور العين و قصور و جنّات و خُلد و رضوان، و بالتالي الانمحاء و الانصهار في الذات المقدّسة للربّ الحيّ القدير، ثمّ التشكّل بشكل الفعليّة التامّة في جميع مراحل الوجود. و لا سبيل لوصول الإنسان إلى تلك الجنّة إلّا بالعبور من فوق جسور الشهوة و الأنانيّة و اجتيازها بجدارة، و لن يكون ذلك إلّا بالنزول من الجنّة الاولى و السير في دار التكليف و تصارع القوى الشيطانيّة الأمّارة بالسوء مع القوى الملكوتيّة الرحمانيّة. و محال هذا دون ذاك!
و مَثَل الجَنّة الاولى كذلك كمَثَل حَبّة، و مَثَل الجنّة الثانيّة كمَثَل شجرة بالغة و كاملة النموّ. و مع أن هذه الشجرة مع ما تحويه من جذع و جذور و أغصان و أوراق و ثمار و حبوب تلك الأثمار التي تُمثّل كلّ واحدة منها شجرة مستقلّة قائمة بذاتها و لها جميع خصوصيّات تلك الشجرة و آثارها و خواصّها، إلّا أنّها في الحقيقة نفس تلك الحَبّة و التي تحوّلت إلى هذا الشكل و تبدّلت بهذه الصورة. لكن بين هاتَيْن الحالتَيْن بون شاسع و فَرق كبير. أن تلك الحبّة الصغيرة و التي تبدو في بعض الأحيان تافهة و حقيرة و لا يمكن تصوّر خروج شجرة شامخة قويّة خضراء، تلك الحبّة هي شجرة الصنوبر. و لا يمكن المقايسة كذلك من جهة الآثار و المنفعة الوجوديّة بين تلك الحبّة و تلك الشجرة. و لو أنّنا لم نلحظ تلك الحبّة أو لم نَقُم بزرعها بأيدينا و نشهد بأنفسنا خروج و تبرعم تلك الحبّة ثمّ صيرورتها شجرة قويّة عالية و مثمرة، كشجرة التوت مثلًا و التي تُعطي اكلها عشرات السنين و تُسعد الكثيرين و تُبهجهم، لو لا كلّ ذلك لكان من المستحيل علينا أن
نُصدّق أن هذه الشجرة إنّما هي تلك الحبّة الصغيرة الدقيقة.
بل انظر إلى الإنسان نفسه الذي نشأ من نطفة و هي ذرّة دقيقة جدّاً لا تُرى بالعين المجرّدة، كيف تمرّ بأدوار في الرحم و تطوي مراحل عدّة حتى تتشرّف بقوله تعالى عن الإنسان فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ۱، فيخرج إنساناً سويّاً إلى هذا العالم، إنساناً عاقلًا نافعاً عالماً. و على هذه الشاكلة تكون مراحل تكامل الإنسان و خروجه من هذه الدنيا إلى دار التجرّد و النور و الإطلاق.
إن هذا الإنسان الملكوتيّ و الجبروتيّ و اللاهوتيّ هو نفسه الذي كان إنساناً ناسوتيّاً في البدء، لا غيره؛ لكنّه تمكّن بسبب الارتقاء و التكامل اللذين حصلا له، و بسبب حُسن اختياره و قوّة إرادته كذلك، و أيضاً بفضل اجتيازه لمدارج الكمال و معارجه، و تخلّيه عن الأنانيّة الرمزيّة الجوفاء، لأجل كلّ ذلك تمكّن من الوصول إلى مرتبة العبوديّة المحضة و التي تُوازي الربوبيّة المحضة لربّه.
طيّ قوس الصعود يبلغ بالإنسان إلى جنّة الفعلية و ظهور الاعمال
و على هذا، فإنّ خروج آدم من الجنّة الاولى و الذي سبق نزوله إلى هذه الدنيا كان في مصلحته لا في ضرره، بل أن جميع ذلك كان في مصلحته و منفعته. إنّها المنافع الجمّة و اللامتناهية، و كلّما ارتقى سُلّم الرقيّ صعوداً كانت النتيجة منفعة لا متناهية؛ فتسوقه المنافع اللامتناهية تلك نحو الجنّة الثانية، جنّة فعليّته و بروز أعماله و ظهورها و تَميُّز ملكاته و عقائده و حقائقه.
فتعالَ و انظرْ ما قد حصل!
فخلال اجتياز القوس النزوليّ يمرّ الإنسان خلاله عبر مراحل
الاستعداد و القابليّة التي تكمن فيه و يقوم بادّخار ذلك كلّه؛ لكنّه في اجتيازه لطريق القوس الصعوديّ و هي رجعته من نقطة الحضيض هذه باتّجاه المبدأ أو الأصل الأوّل و ربّ حيّ عليم أزليّ أبديّ، يمرّ بالفعليّة و الظهور اللتين يشهدهما في وجوده عياناً.
و على أساس من هذا البرهان المُقتَبَس من مجموع كتب صدر المتألّهين الشيرازيّ، فخرنا و فخر الإسلام و المسلمين و البشريّة جمعاء إلى يوم القيامة، نرى مدى ما يمتلكه الإنسان من عوامل الرقيّ و أسباب الكمال! و نلاحظ كذلك عمق هُوّة الجهل و الظُّلمة اللتين يغوص فيهما مَن ابتعد عن فلسفته و حكمته و لا يحاول قضاء أعزّ شيء عنده و هو عمره في فهمهما!۱ نعم، و مصداق ذلك الآية الشريفة:
در ازل پرتو حسنت ز تجلّى دم زد | *** | عشق پيدا شد و آتش به همه عالَم زد |
جلوهاى كرد رخت ديد ملك عشق نداشت | *** | عين آتش شد از اين غيرت و بر آدم زد |
عقل مىخواست كزان شعله چراغ افروزد | *** | برق غيرت بدرخشيد و جهان بر هم زد |
مدّعى خواست كه آيد به تماشاگه راز | *** | دست غيب آمد و بر سينة نامحرم زد |
ديگران قرعة قسمت همه بر عيش زدند | *** | دل غمديده ما بود كه هم بر غم زد |
جان علوى هوس چاه زنخدان تو داشت | *** | دست در حلقة آن زلف خم اندر خم زد |
حافظ آن روز طرب نامه عشق تو نوشت | *** | كه قلم بر سر اسباب دل خرّم زد |
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱
و أمّا المؤمنون المتوغّلون في العلوم الإلهيّة و السابرون الحكمة المتعالية فهم: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ.٢
كان ذلك موجزاً للبحث الوارد في البرهان حول هذه المسألة.
و أمّا الآيات القرآنيّة فكلّها تدلّ على لزوم التباين بين أفراد البشر، و أن بحثها يقتضي الإطناب، إلّا أنّنا نكتفي بالإشارة إلى بعض الآيات لتكون حسبنا في هذا المجال:
۱- وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.٣
٢- إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.۱
٣- وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.٢
٤- ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.٣
٥- تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً.٤
٦- سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى.٥
الكلام البديع لهشام بن الحكم في الردّ على الثنويّة
و بالجملة، فمن المناسب هنا أن نختم بحثنا بذِكر كلامٍ لعالمٍ جليل و متكلّم نبيل، حكيم الفلسفة ربيب الشيعة، أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ألا و هو هشام بن الحكم، و الذي يُفنّد فيه مذهب الثنويّة، و ذلك لكي نُبطِل نحن مذهب الدهريّة و المادّيّة و الشيوعيّة و الثنويّة، و المعتقدين بأصالة الوجود و الماهيّة معاً من أمثال الشيخ أحمد الأحسائيّ حيث يمكن اعتباره (أي كلام هشام بن الحكم) أفضل البراهين و أجود الأدلّة:
يقول الدكتور أحمد أمين المصريّ خلال بحثه في أحوال و آراء
هشام بن الحكم:
«وَ جَاءَهُ رَجُلٌ مُلْحِدٌ فَقَالَ لَهُ: أنَا أقُولُ بِالاثْنَيْنِ، وَ قَدْ عَرَفْتُ إنْصافَكَ. فَلَسْتُ أخَافُ مشاغَبَتَكَ!
فَقَامَ هِشَامٌ وَ هُوَ مَشْغُولٌ بِثَوْبٍ يَنْشُرُهُ وَ قَالَ: حَفِظَكَ اللهُ!
هَلْ يَقْدِرُ أحَدُهُمَا عَلَى أن يَخْلُقَ شَيْئاً لَا يَسْتَعِينُ بِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ؟!
قَالَ: نَعَمْ!
قَالَ هِشَامٌ: فَمَا تَرْجُو مِنِ اثْنَيْنِ؟! وَاحِدٌ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ أصَحُّ لَكَ!
فَقَالَ الرَّجُلُ: لَمْ يُكَلِّمْنِي بِهَذَا أحَدٌ قَبْلَكَ!».۱
هذا هو برهان هشام القويم في حالة استطاعة أحد الأثنين خلق شيء دون الحاجة إلى معونة صاحبه؛ فلو كان جواب الرجل هو عدم استطاعة أحد الأثنين بفعل ذلك إلّا بمعونة الآخر، لكان جواب هشام على ذلك ما يلي: إذاً فمجموع الأصلينِ القديمينِ معاً و قدرتهما على خلق الشيء كلٌّ بمعونة أحدهما في الواقع أصل واحد و لا بدّ لذلك الأصل أن يكون الله الأزليّ و القديم!
ألبَحْثَانْ ٣۱ و ٣٢: القَائِلُونَ بِوجُودِ أثَرٍ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَي مُبْتَلُونَ بِالشِّرْكِ الخَفِيِ و تفسير الآية المباركة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.۱
(الآية ٦٢، من السورة ٣٩: الزمر)
و وردت الآيات الشريفة التالية بعد الآية المذكورة:
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ، وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
الحقّ سبحانه و تعالى هو عين الوجود و حقيقته.
كلام الفيض الكاشانيّ في الجمع بين ظهور الله و خفائه
٢
معرفة الله ؛ ج٣ ؛ ص۱٦٢
قال آية الله الحكيم المتألّه الصمدانيّ و العارف الباحث و الفقيه الملّا محمّد محسن الفيض الكاشانيّ قدّس الله تربته:
«كَلِمَةٌ بِهَا يَتَبَيَّنُ معنى الوُجُودِ وَ أنَّهُ عَيْنُ الحَقِّ سُبْحَانَهُ.
لا شكّ أن كلّ ما هو غير موجود محتاج إلى الوجود في إيجاده و تواجده، و الوجود موجود بنفسه لا بوجود غيره، و كلّ ما سوى الحقّ محتاج.
إذاً فالحقّ هو عين الوجود و هو موجود بنفسه، و كلّ الأشياء به موجودة. كالنور الذي يُنير بنفسه لا بنور غيره؛ و نور كلّ شيء يكون به. و على هذا فكلّ الأشياء محتاجة إلى الحقّ و الحقّ غنيّ عن كلّ الأشياء؛ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ.۱
گويم سخن نغز كه مغز سخن است هستى است | *** | هستى است كه هم هستى و هم هست كُن است٢ |
و هنا يتجلى سرّ معيّة الحقّ مع الأشياء؛ فليس من شيءٍ بدون الوجود. و يتجلى كذلك أن الوجود واجب الوجود و قائم بذاته و متعيّن بها؛ فلو كان ممكناً أو قائماً بالغير أو متعيّن به لكان محتاجاً إلى الغير. و كلّ شيء كائناً ما كان غير الوجود محتاج إلى الوجود. و لذا فأسبقيّة الشيء على النفس أصبحت لازمة، و على هذا فكلّ شيء عدا الوجود قائم بالوجود، و هو (أي الوجود) غير قائم بشيء.
إذاً فالوجود الذي هو عين الحقّ، هو دليل على الحقّ كما قال
أمير المؤمنين: (يَا مَنْ) دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ بِذَاتِهِ.۱
چون دهان دلبران در هست و نيست | *** | خود به بود خود گواهى ميدهد٢ |
و أصبح معلوماً ممّا ذكرنا أن الوجود بسيط من جميع الوجوه، إذ لو كان مركّباً لكان محتاجاً إلى الأجزاء، و لكان كلّ جزء محتاجاً إليه. ف- «أسبقيّة الشيء على النفس أصبحت لازمة». و صار معلوماً كذلك أن الوجود ليس هذا المعنى المصدريّ الذهنيّ الذي يُعبّر عنه ب- الكون و الحُصُول و التَّحَقُّق، لأنّ هذا هو أمر اعتباريّ لا وجود له إلّا في الذهن و هو مُعتَبَرٌ بالاعتبار، في حين أن الوجود كما قلنا مُحقّق الحقائق و الذوات و كلّ الأشياء محتاجة إليه. و هذا المعنى الذهنيّ هو وجه من وجوهه و عنوان من عناوينه.
و لأنّ الوجود متعيّن بذاته هو، فلا يمكن له أن يمثّل أفراداً متعدّدين بالمفهوم العامّ؛ لامتناع التعدّد و الانقسام على حقيقة الشيء إلّا بأمرٍ خارجيّ من تلك الحقيقة و التي تستوجب تعيّن أفراده؛ و تمييز بعضها عن البعض الآخر. و لذلك قيل:
صِرْفُ الوُجُودِ الذي لَا أتَمَّ مِنْهُ، كُلَّمَا فَرَضْتَهُ ثَانِيَاً فَإذَا نَظَرْتَ فَهُوَ هُوَ؛ «شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لآ إلَهَ إلَّا هُوَ».٣
هم توئى اي قديم فرد اله | *** | وحدت خويش را دليل و گواه٤ |
شَهِدَ اللهُ بشنو و تو بگو | *** | وَحْدَهُ لا إلَهَ إلّا هُو۱ |
و كذلك قيل:
كَلِمَةٌ بِهَا يُجْمَعُ بَيْنَ ظُهُورِهِ سُبْحَانَهُ وَ خَفَائِهِ.
إن وجوده أظهر من وجود سائر الأشياء؛ لأنّ وجوده ظاهر به و وجود سائر الأشياء به ظاهرة. كما قال: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.٢
لأنّ كلمة نور تُطلق على الشيء الظاهر بنفسه و المُظهِر لسائر الأشياء.
همه عالم به نور اوست پيدا | *** | كجا او گردد از عالم هويدا |
زهى نادان كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان٣ |
إن الأشياء بغياب الوجود عدم محض، و الوجود هو مبدأ إدراك الكلّ، من جانب المُدرِك و المُدرَك على حدّ سواء. فوجود المدرَك هو أوّل ما تدرك من كلّ ما تُريد إدراكه، و إن كنتَ غافلًا عن إدراك هذا الإدراك، فقد خفي من فرط الظهور. فلا يمكن إدراك المُبصَر دون واسطة نور آخر كالشعاع، و لأنّ الشعاع يبدو غير مرئيّ من فرط ظهوره في تلك الحالة، بحيث تقوم طائفة بإنكاره. و يجب قياس هذا على النور الذي كان واسطة لإدراك الشعاع.
نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.٤
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: لَا تَتَعَجَّبْ مِنِ اخْتِفَاءِ شَيءٍ بِسَبَبِ ظُهُورِهِ، فَإنَّ الأشْيَاءَ إنَّمَا تُسْتَبَانُ بِأضْدَادِهَا؛ وَ مَا عَمَّ وُجُودُهُ حتى لَا ضِدَّ لَهُ، عَسُرَ إدْرَاكُهُ. فَلَوِ اخْتَلَفَ الأشْيَاءُ فَدَلَّ بَعْضُهَا عَلَى اللهِ دُونَ بَعْضٍ، ادْرِكَتِ التَّفْرِقَةُ عَلَى قُرْبٍ؛ وَ لَمَّا اشْتَرَكَتْ في الدَّلالَةِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ اشْكِلَ الأمْرُ!
وَ مِثَالُهُ نُورُ الشَّمْسِ المُشْرِقُ عَلَى الأرْضِ. فَإنَّا نَعْلَمُ أنَّهُ عَرَضٌ مِنَ الأعْرَاضِ يَحْدُثُ في الأرْضِ وَ يَزُولُ عِنْدَ غَيْبَةِ الشَّمْسِ. فَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ دَائِمَةَ الإشْراقِ لَا غُرُوبَ لَهَا لَكُنَّا نَظُنُّ أن لَا هَيْئَةَ في الأجْسَامِ إلَّا ألْوَانُهَا؛ وَ هي السَّوَادُ وَ البَيَاضُ.
فَأمَّا الضَّوْءُ فَلَا نُدْرِكُهُ وَحْدَهُ، لَكِنْ لَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ وَ اظْلِمَتِ المَوَاضِعُ ادْرِكَتْ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ الحَالَتَيْنِ. فَعَلِمْنَا أن الأجْسَامَ قَدِ اسْتَضَاءَتْ بِضَوْءٍ، وَ اتَّصَفَتْ بِصِفَةٍ فَارَقَتْهَا عِنْدَ الغُرُوبِ؛ فَعَرَفْنَا وُجُودَ النُّورِ بِعَدَمِهِ.
وَ مَا كُنَّا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ لَوْ لا عَدَمُهُ إلَّا بِعُسْرٍ شَدِيدٍ، وَ ذَلِكَ لِمُشاهَدَتِنَا الأجْسَامَ مُتَشَابِهَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ في الظَّلَامِ وَ النُّورِ.
هَذَا مَعَ أن النُّورَ أظْهَرُ المَحْسُوسَاتِ، إذْ بِهِ يُدْرَكُ سَائِرُ المَحْسُوسَاتِ. فَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ وَ هُوَ مُظْهِرٌ لِغَيْرِهِ، انْظُرْ كَيْفَ تُصُوِّرَ اسْتِبْهَامُ أمْرِهِ بِسَبَبِ ظُهُورِهِ لَوْ لا طَرَيَانُ ضِدِّهِ. فَإذَنِ الحَقُّ سُبْحَانَهَ هُوَ أظْهَرُ الامُورِ وَ بِهِ ظَهَرَتِ الأشْيَاءُ كُلُّهَا. وَ لَوْ كَانَ لَهُ عَدَمٌ أوْ غَيْبَةٌ أوْ تَغَيُّرٌ لَانْهَدَمَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الأرْضُ وَ بَطَلَ المُلْكُ وَ المَلَكُوتُ وَ لُادْرِكَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الحَالَتَيْنِ!
وَ لَوْ كَانَ بَعْضُ الأشْيَاءِ مَوْجُوداً بِهِ وَ بَعْضُهَا مَوْجُوداً بِغَيْرِهِ لُادْرِكَتِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ في الدَّلالَةِ، وَ لَكِنْ دَلَالَتُهُ عَامَّةٌ في الأشْياءِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَ وُجُودُهُ دَائِمٌ في الأحْوَالِ يَسْتَحِيلُ خِلَافُهُ؛ فَلَا جَرَمَ أوْرَثَ شِدَّةُ
الظُّهُورِ خَفَاءً.
روحى است بى نشان و ما غرقه در نشانش | *** | جانى است بى مكان و سر تا قدم مكانش |
خواهى كه بيابى يك لحظهاى مجويش | *** | خواهى كه تا بدانى يك لحظهاى مدانش۱ |
،،،
خَفِيّ لإفْرَاطِ الظُّهُورِ تَعَرَّضَتْ | *** | لإدْرَاكِهِ أبْصَارُ قَوْمٍ أخَافِشِ |
وَ حَظُّ العُيُونِ الزُّرْقِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ | *** | لِشِدَّتِهِ حَظُّ العُيُونِ العَوامِشِ |
،،،
اى تو مخفى در ظهور خويشتن | *** | وى رُخت پنهان به نور خويشتن٢ |
لَقَدْ ظَهَرْتَ فَلَا تَخْفَى عَلَى أحَدٍ | *** | إلَّا عَلَى أكْمَهٍ لَا يَعْرِفُ القَمَرا |
لَكِنْ بَطَنْتَ بِمَا أظْهَرْتَ مُحْتَجِباً | *** | وَ كَيْفَ يُعْرَفُ مَنْ بِالعُرْفِ اسْتَتَرا |
حجاب روى تو هم روى تست در همه حال | *** | نهانى از همه عالم ز بس كه پيدائي٣ |
أمير المؤمنين عليه السلام: ظاهرٌ في غيبٍ، و غائبٌ في ظهور.
قَالَ أمير المؤمنين: لَمْ تُحِطْ بِهِ الأوْهَامُ، بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا؛ وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا. وَ قَالَ: ظَاهِرٌ في غَيْبٍ؛ وَ غَائِبٌ في ظُهُورٍ.
وَ قَالَ: لَا يَجِنُّهُ البُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ؛ وَ لَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ البُطُونِ. قَرُبَ فَنَأى، وَ عَلَا فَدَنَا، وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ، وَ بَطَنَ فَعَلَنَ، وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ. أيْ ظَهَرَ وَ غَلَبَ وَ لَمْ يُغْلَبْ.
وَ رَوَى الشَّيْخُ الصَّدُوقُ في «مَعَانِي الأخْبَارِ» بِإسْنَادِهِ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: التَّوْحِيدُ ظَاهِرُهُ في بَاطِنِهِ؛ وَ بَاطِنُهُ في ظَاهِرِهِ. ظَاهِرُهُ مَوْصُوفٌ لَا يُرَى؛ وَ بَاطِنُهُ مَوْجُودٌ لَا يَخْفَى.
يُطْلَبُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ مَكَانٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ. حَاضِرٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ؛ وَ غَائِبٌ غَيْرُ مَفْقُودٍ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا ظَهَرَ بِشَيءٍ مِنَ المَظَاهِرِ إلَّا وَ قَدِ احْتَجَبَ بِهِ؛ وَ مَا احْتَجَبَ بِشَيءٍ إلَّا وَ قَدْ ظَهَرَ فيهِ.
وَ قَالَ آخَرُ: لم يحجبه أحد؛ لأنّ الحجاب محدود و هو لا حدّ له».۱
البحث القيّم لكاشف الغطاء في وحدة الوجود و الموجود.
لقد ألّف آية الله المحقّق المدقّق، و العالِم الكلّ، و الشاعر الباحث المنطيق، و الفقيه القدير و الحكيم ذو العزّة و الإكرام، من نوادر دهره و نوابغ عصره جامعاً جميع العلوم المختلفة و المعارف المتباينة- و قد كنتُ
أنا الحقير أتشرّف بطلعته مدّة سنة أو اثنتين و ذلك في مستهلّ رحلتي إلى النجف الأشرف لكنّي لم أحظَ بالاستفادة من فيض وجوده۱- الشيخ
محمّد الحسين آل كاشف الغطاء أعلى الله تعالى مقامه كتاباً بعنوان «الفردوس الأعلى» حيث قام جناب صديقنا المحترم المرحوم آية الله الشهيد السيّد محمّد على القاضي الطباطبائيّ رضوان الله عليه بالتعليق عليه و قد طُبع الكتاب المذكور مراراً. و قد بُحثت مسائل مختلفة في الكتاب المذكور و منها أربع مسائل مهمّة في الحكمة و هي:
۱- الوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا الوَاحِدُ.
٢- معنى العُقُولِ العَشَرَة.
٣- وَحْدَةُ الوُجُودِ وَ المَوجُودِ.
٤- المَعَادُ الجِسْمَانِيّ.
و الحقّ أنّه كتاب قيّم و جذّاب؛ و بحوثه في ذروة الكمال و الإتقان و الاستحكام. لأنّ الحقير لم يعثر على بحثٍ في مسألة التوحيد الحقّ و الصِّرف الإلهيّ أفضل و أوجز و أجمل و أقوى برهاناً و أحلى عبارة و أشوق تعبيراً من البحث الثالث و هو «وحدة الوجود و الموجود»، فلا أقلّ من أن أنقل نصّ تلك العبارات هنا لمزيد من المعرفة و فتح باب المطالعة العسيرة على البعض إلى عاشقي عرفان الربّ السبحان و الهائمين في الحكمة و البرهان للربّ الرحمن؛ علّهم يستفيدوا منها فتنكشف لهم مسألة التوحيد بهذا المنطق المتين و البرهان الراسخ الأمين للفقيه العالم و المتضلّع بعلوم أهل البيت؛ فلن تبقى بعد ذلك بحول الله و قوّته أيّة شبهة أو شكّ.
يقول سماحته:
وحدة الوجود أو وحدة الموجود:
هذه القضيّة من امّهات أو مهمّات قضايا الفلسفة الإلهيّة و هي تتّصل اتّصالًا وثيقاً بعلم الحكمة العالية و الإلهيّ بالمعنى الأعمّ الذي يُبحث فيه عن الامور العامّة، كالوجود و الموجود و كالواجب و الممكن، و العلّة و المعلول و الوحدة و الكثرة، و أمثالها ممّا لا يتعلّق بموضوع خاصّ، و لا حقيقة معيّنة من الأنواع لا ذهناً و لا خارجاً، و للتمهيد و المقدّمة نقول:
إن من المسائل الخلافيّة بين حكماء الإسلام و فلاسفة المسلمين مسألة أصالة الوجود أو الماهيّة، بمعنى أن المتحقّق في العين و الخارج هل هو الوجود و الماهيّة أمر اعتباريّ يُنتزع من الوجود المحدود المقيّد المتعيّن بالتعيّن الذي يميّزه عن غيره بالجنس و النوع و غيرهما من الاعتبارات؟ أو أن المتحقّق في ظرف العين و الخارج و نفس الأمر و الواقع هو الماهيّة و الوجود مفهوم اعتباريّ خارج عنها مُنتزَع منها محمول عليها من خوارج المحمول لا المحمولات بالضميمة؟
فماهيّة النار مثلًا إذا تحقّقت في الخارج و ترتّبت عليها آثارها الخاصّة من الإضاءة، و الإحراق و الحرارة صحّ انتزاع الوجود منها و حمله عليها، فيقال: النار موجودة و إلّا فهي معدومة.
و هذا القول، أعني أصالة الماهيّة و أن الوجود في جميع الموجودات حتى الواجب اعتبار محض، على الظاهر كان المشهور عند الحكماء إلى أوائل القرن الحادي عشر و عليه تبتني شبهة الحكيم ابن كمّونة۱ التي
أشكل بها على التوحيد زاعماً أنّه:
«ما المانع من أن يكون في ظرف التحقّق و نفس الأمر و الواقع هويّتان مجهولتا الكُنه و الحقيقة؛ بسيطتان متباينتان بتمام ذاتيتهما و ينتزع وجوب الوجود من كلّ منهما و يحمل على كلّ واحدة منهما من قبيل خارج المحمول لا المحمول بالضميمة، لأنّ ذات كلّ منهما بسيطة لا تركيب فيها، إذ التركيب يلازم الإمكان و قد فرضنا وجوب كلّ منهما».
و قد أعضلت هذه الشبهة في عصره على أساطين الحكمة و استمرّ إعضالها عدّة قرون حتى صار يُعبَّر عنها كما في أوّل الجزء الأوّل من «الأسفار» ب- افتخار الشياطين.
و سمعنا من أساتذتنا في الحكمة أن المحقّق الخونساريّ۱ صاحب «مشارق الشموس» الذي كان يُلقّب بالعقل الحادي عشر، قال: «لو ظهر الحجّة عجّل الله فرجه لما طلبتُ معجزة منه إلّا الجواب عن شبهة ابن كمّونة». و لكن في القرن الحادي عشر الذي نبغت فيه أعاظم الحكماء كالسيّد الداماد،٢ و تلميذه ملّا صدرا،٣ و تلميذيه
الفيض۱ و اللاهيجيّ (صاحب «الشوارق» الملقّب بالفيّاض)٢، انعكس الأمر و اقيمت البراهين الساطعة على «أصالة الوجود»، و أن الماهيّات جميعاً اعتبارات صرفة ينتزعها الذهن من حدود الوجود، أمّا الوجود غير المحدود، كوجود الواجب جلّ شأنه فلا ماهيّة له، بل (ماهيّته إنّيّته).
إثبات أصالة الوجود، و إبطال أصالة الماهيّة
و قد ذكر الحكيم السبزواريّ رحمه الله٣ في منظومته البراهين القاطعة على أصالة الوجود مع أنّه من أوجز كتب الحكمة، فما ظنّك «بالأسفار» و هي أربع مجلّدات بالقطع الكبير، و يكفيك منها برهان واحد و هو اختلاف نحوي الوجود، حيث نرى بالضرورة و الوجدان أن النار مثلًا بوجودها الذهنيّ لا يترتّب عليها شيء من الآثار من إحراق و غيره بخلاف وجودها الخارجيّ، و لو كانت هي المتأصّلة في كلا الوجودين لترتّبت آثارها ذهناً و خارجاً، و إليه أشار في المنظومة بقوله:
وَ إنَّهُ مَنْبَعُ كُلِّ شَرَفِ | *** | وَ الفَرْقُ بَيْنَ نَحْوَيِ الكَوْنِ يَفي |
و حيث أسفرت الأبحاث الحِكَمِيّة عن هذا الحقيقة الجليّة من أصالة الوجود الخارجيّ غير المحدود الذي نعبّر عنه بواجب الوجود جلّت عظمته، يستحيل أن يُفرَض له ثاني لَا ثَانِي لَهُ، فإنّ كلّ حقيقة بسيطة لا تركيب فيها يستحيل أن تتثنّى و تتكرّر لا ذهناً و لا خارجاً و لا وهماً
و لا فرضاً، و قد أحسن المثنوي۱ بالإشارة إلى هذه النظريّة القطعيّة، حيث يقول: عن استاذه شمس التبريزيّ:٢
شمس در خارج اگر چه هست فرد | *** | ميتوان هم مثل او تصوير كرد |
شمس تبريزى كه نور مطلق است | *** | آفتاب است و ز انوار حق است |
شمس تبريزى كه خارج از اثير | *** | نبودش در ذهن و در خارج نظير٣ |
الاشتراك اللفظي في إطلاق لفظ الوجود على مراتبه يستلزم
توحيدُه تمييزُه عن خَلْقه؛ و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة
و بعد أن اتّضح بطلان أصالة الماهيّة، و أشرق نور الوجود بأصالته، اختلف القائلون بأصالة الوجود بين قائل بأنّ الوجودات بأجمعها واجبها و ممكنها الذهنيّ منها، و الخارجيّ المتباينة في تشخّصها و تعيينها قطعاً، هل إطلاق الوجود عليها من باب المشترك اللفظيّ، و هو إطلاق اللفظ على المعاني المتكثّرة و المفاهيم المتباينة التي لا تندرج تحت حقيقة واحدة، و لا يجمعها قدر مشترك كالعين التي تستعمل في الباصرة و في النابعة
و الذهب إلى آخر ما لها من المعاني المتباينة، على عكس المترادف الذي هو عبارة عن ألفاظ كثيرة لمعنى واحد، و المشترك الذي يعني وجود معاني كثيرة تحت لفظ واحد.
و قد نسب هذا القول إلى المشّائين أو لأكثرهم.
أو أنّه من المشترك المعنويّ، فوجود النار و الماء في باب المفاهيم، و وجود زيد و عمرو في باب المصاديق شيء واحد و حقيقة فريدة، و إنّما التباين و التعدّد في الماهيّات المنتزعة من حدود الوجود و تعيّنات القيود، فحقيقة الوجود من حيث هو واحدة بكلّ معاني الوحدة، و مابهالامتياز الامتياز هو عين ما به الاشتراك. فتدبّر هذه الجملة جيّداً كي تصل إلى معناها جيّداً.
و حيث أن القول الأوّل يستلزم محاذير قطعيّة الفساد؛ وَ مَا يَسْتَلْزِمُ الفَسَادَ فَاسِدٌ قَطْعاً. و من بعض محاذيره لزوم العزلة بين وجود الواجب و وجود الممكن و عدم السنخيّة بين العلّة و المعلول المنتهي إلى بطلان التوحيد من أصله و أساسه. و إلى هذا أشار سَيِّدُ المُوَحِّدِينَ وَ إمَامُ العُرَفَاءِ الشَّامِخِينَ أمير المؤمنين سلام الله عليه، حيث يقول:
تَوْحِيدُهُ تَمْيِيزُهُ عَنْ خَلْقِهِ؛ وَ حُكْمُ التَّمْيِيزِ بَيْنُونَةُ صِفَةٍ لَا بَيْنُونَةُ عُزْلَةٍ.
و للّه هذه الحكمة الشامخة و الكلمة الباذخة ما أجلّها و أجمعها لقواعد التوحيد و التجريد و التنزيه و دحض التشبيه، و الأصحّ الذي لا غبار عليه أن حقيقة الوجود من حيث هي واحدة لا تعدّد فيها و لا تكرار، بل كلّ حقيقة من الحقائق و ماهيّة من الماهيّات أيضاً بالنظر إلى ذاتها مجرّدة عن كلّ ما سواها يستحيل تعدّدها و تكرّرها، و من قواعد الحكمة المتّفق عليها أنّ: حَقِيقَةُ الشَّيءِ لَا تَتَثَنَّى وَ لَا تَتَكَرَّرُ، وَ المَاهِيَّاتُ إنَّمَا تَتَكَثَّرُ وَ تَتَكَرَّرُ بِالوُجُودِ؛ كَمَا أن الوُجُودَ إنَّمَا يَتَكَثَّرُ بِالمَاهِيَّاتِ وَ الحُدُودِ. يعني أن ماهيّة الإنسان و حقيقته النوعيّة إنّما تكثّرت بالأفراد العينيّة و المصاديق الخارجيّة،
و التعيّن إنّما جاء من الوجود و به تكرّرت الماهيّة و تكثّرت، و لو لا الوجود لما كانت الماهيّة من حيث هي إلّا هي لا تعدّد و لا تكثّر، و كما أن الماهيّة بالوجود تكرّرت و تكثّرت فكذلك الوجود إنّما تكرّر و تكثّر بالحدود و التعيّنات التي انتزعت منها الماهيّات، فالقضيّة مطّردة منعكسة تكثّر الوجود بالماهيّة، و تكثّر الماهيّة بالوجود۱.
پيش ازينت بيش ازين غمخوارى عُشّاق بود | *** | مهرورزىّ تو با ما شُهره آفاق بود |
ياد باد آن صحبت شبها كه در زلف توام | *** | بحث سِرّ عشق و ذكر حلقة عشّاق بود |
حسن مَهرويان مجلس گر چه دل مىبرد و دين | *** | عشق ما در لطف طبع و خوبى اخلاق بود |
از دم صبح ازل تا آخر شام ابد | *** | دوستيّ و مهر بر يك عهد و يك ميثاق بود |
ساية معشوق اگر افتاد بر عاشق چه شد | *** | ما به او محتاج بوديم او به ما مشتاق بود |
پيش ازين كاين سقف سبز و طاق مينا بركشند | *** | منظر چشم مرا ابروى جانان طاق بود |
رشته تسبيح اگر بگسست معذورم بدار | *** | دستم اندر ساعد ساقيّ سيمين ساق بود |
بر در شاهم گدائى نكتهاى در كار كرد | *** | گفت بر هر خوان كه بنشستم خدا رَزّاق بود |
در شب قدر ار صبوحى كردهام عيبم مكن | *** | سرخوش آمد يار و جامى بر كنار طاق بود |
شعر حافظ در زمان آدم اندر باغ خُلد | *** | دفتر نسرين و گل را زينت اوراق بود |
ثمّ أن الوجود نوعان: ذهنيّ و خارجيّ، أمّا الذهنيّ فهو اعتبار صرف و مفهوم محض كسائر المفاهيم الذهنيّة المنتزعة من المصاديق، يحمل عليها بالحمل الشائع الصناعيّ من المحمولات بالضميمة لا خوارج المحمول، فقولك زيد موجود كقولك: زيد كاتب و هو كلّيّ واحد منطبق
على أفراده التي لا تحصى و من «المعقولات الثانويّة» باصطلاح الحكيم.
أمّا الوجود العينيّ الخارجيّ الذي يحكي عنه ذلك المفهوم و ينتزع منه فهو بأنواعه الأربعة: ۱- الذاتي و هو بشرط لا و المطلق و هو لا بشرط و المقيّد و هو بشرط شيء. و يندرج فيه.
٢- الرابط و هو مفاد كان الناقصة.
٣- الرابطيّ و هو ما يكون وجوده في نفسه عين وجوده لغيره كالأعراض.
٤- الربط و هو ما يكون وجوده لنفسه في نفسه و لكن بغيره كالجواهر فإنّها موجودة لنفسها و في نفسها لكن بغيرها اي بعلّتها.
وجود واجب الوجود في نفسه بنفسه لنفسه
إطلاق الوجود على مصاديقه على نحو الاشتراك المعنويّ
أمّا واجب الوجود فوجوده: في نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.۱
و هو اي الوجود أيضاً بذاته و بجميع هذه الأنواع وحدانيّ ذو مراتب متفاوتة بالقوّة و الضعف و الأوّليّة و الأولويّة، أعلى مراتبه و أوّلها و أولاها الوجود الواجب الجامع لكمالات جميع ما دونه من مراتب الوجود بنحو البساطة و الوحدة الجامعة لجيمع الكثرات و كلّ الكثرات نشأت منها
و رجعت إليها.
«بسطُ الحقيقةِ كُلُّ الاشياء» هي مفاد «إنّا للّه و إنّا إليه راجعون»
إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.۱
و إليه الإشارة بقولهم: بَسِيطُ الحَقَيقَةِ كُلُّ الأشْيَاءِ وَ لَيْسَ بِشَيءٍ مِنَ الأشْيَاءِ.
و التوحيد الكامل (رَدُّ الكَثْرَةِ إلَى الوَحْدَةِ، وَ الوَحْدَةِ إلَى الكَثْرَةِ).
و هذا الوجود الخارجيّ من أعلى مراتبه الوجوبيّة إلى أخسّ مراتبه الإمكانيّة و هي «الهيولي» التي لها أضعف حظّ من الوجود و هي القوّة القابلة لكلّ صورة، و لعلّها هي المشار إليها في دعاء السمات: وَ انْزَجَرَ لَهَا العُمْقُ الأكْبَرُ كلّه واجبه و ممكنه و مادّيه و مجرّده حقيقة واحدة و إن اختلف في القوّة و الضعف و الوجوب و الإمكان و العلّيّة و المعلوليّة.
و لكن كلّ هذا الاختلاف العظيم لا يخرجه عن كونه حقيقة واحدة و لا يصيّره حقائق متباينة، و إن كان بالنظر إلى حدوده و مراتبه متعدّداً و متكثّراً و لكن حقيقته من حيث هي واحدة لا تعدّد فيها و لا تكثّر.
أ لا ترى أن الماء من حيث أنواعه و أصنافه ما أكثره و أوسعه، فماء السماء و ماء البحر و ماء النهر و ماء البئر و هكذا و لكن مهما تكثرت الأنواع و تعدّدت المصاديق فحقيقة الماء و طبيعته في الجميع واحدة.
و هكذا سائر الماهيّات و الطبائع، إذاً فوحدة الوجود بهذا المعنى تكاد أن تكون من الضروريّات التي لا تستقيم حقيقة التوحيد إلّا بها و لا تنتظم مراتب العلّة و المعلول و الحقّ و الخلق إلّا بها.
فالوجود واحد مرتبط بعضه ببعض من أعلى مراتبه من واجب
الوجود نازلًا على أدناها و أضعفها و هو الهيولى التي لا حظّ لها من الوجود سوى القوّة و الاستعداد ثمّ منها صاعداً إلى المبدأ الأعلى و العلّة الاولى منه المبدأ و إليه المعاد.
ثمّ أن أوّل صادر منه و أقرب موجود إليه هو العقل الكلّيّ و الصادر الأوّل أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ العَقْلُ- إلى آخر الحديث. و هو العقل الكلّيّ الخارجيّ العينيّ لا الكلّيّ الذهنيّ المفهوميّ. و هو ظلّ الله و فيضه الأقدس، نعم و ظلّ الله الممدود من سماء الجبروت عالم السكون و المطلق و مركز الثبات، إلى عالم الملك و الملكوت و الناسوت موطن التغيّر و الحركات.
أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً.۱
و هذا هو «وَجْهُ اللهِ الكَريمُ» الذي لا يفنى و لن يفنى أبداً و هو اسْمُ اللهِ العَظِيمُ الأعْظَمِ، و نوره المشرق على هياكل الممكنات الذي يطلق عليه عند الحكماء بِالنَّفَسِ الرَّحْمَانيّ و عند العرفاء بِالحَقِّ المَخْلُوقٌ بِهِ، و في الشرع رَحْمَتُهُ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ و الحَقِيقَةُ المُحَمَّدِيَّةُ و الصَّادِرُ الأوَّلُ (أوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ نُورِي).
و هو الجامع لكلّ العوالم: عالم الجبروت و الملكوت و الملك و الناسوت، و جميع العقول المفارقة و المجرّدة و المادّيّة الكلّيّة و الجزئيّة عرضيّة و طوليّة، و النفوس كذلك كلّيّة و جزئيّة و الأرواح و الأجسام و المُثُل العليا، و أرباب الأنواع التي يُعَبَّر عنها في الشرع بالملائكة و الروح الأعظم الذي هو سيّد الملائكة و ربّ نوعها.
كل هذه العوالم صدرت من ذلك الوجود المطلق و المبدأ الأعلى الذي
هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى قوّة و شدّة و عدّة و مدّة.
أوجد عزّ شأنه ذلك الصادر الأوّل الجامع لجميع الكائنات و الوجودات الممكنات، أوجده بمحض المشيئة، و صرف الإرادة في أزل الآزال إلى أبد الآباد.
وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.۱
و التشبيه من ضيق نطاق الألفاظ، و إلّا فالحقيقة أدقّ و أرقّ من ذلك.
و هو المَثَل الأعلى الحاكي بنوع من الحكاية عن تلك الذات المقدّسة المحتجبة بسرادق العظمة و الجبروت و غيب الغيوب. يَا مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ.
و ذلك العقل الكلّيّ أو الصادر الأوّل- ما شئت فعبّر- أو الحقيقة المحمّديّة متّصلة بمبدئها غير منفصلة عنه.
لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهَا إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ خَلْقُكَ؛ بَدْؤُهَا مِنْكَ وَ عَوْدُهَا إلَيْكَ.
أنَا أصْغَرُ مِنْ رَبِّي بِسَنَتَيْنِ.٢
و الكلّ وجود واحد ممتدّ بلا مدّة و لا مادّة، من صبح الأزل إلى عشيّة الأبد بلا حدّ و لا عدّ، و لا بداية و لا نهاية.
و من المجاز البعيد، و ضيق خناق الألفاظ قولنا:
هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ.٣
وجوده قبل القبل في أزل الآزال، و بقاؤه بعد البعد من غير انتقال و لا زوال.
همه عالم صداى نغمة اوست | *** | كه شنيد اينچنين صداى دراز۱ |
ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.٢
و ذلك النفس الرحمانيّ و العقل الكلّيّ، و الصادر الأوّل- هو كتاب الله التكوينيّ- الذي لا نفاد لكلماته.
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً.٣
و لو أردنا التوسّع في هذه الغوامض و الأسرار و كشف الرموز عن هذه الكنوز ملأنا القماطير بالأساطير و لم نأت إلّا بقليل من كثير. (مثنوى هفتاد من كاغذ شود).٤
كاشف الغطاء: الوجود واحد؛ و الموجود واحد أيضاً
و لكن ما ذكرناه مع إيجازه لعلّه كافٍ للمتدبِّر في إثبات المعنى الصحيح «لوحدة الوجود» و أنّه مترفّع الافق عن الإنكار و الجحود، بل هو من الضروريّات الأوّليّة، و قد عرّفنا الضروريّ في بعض مؤلّفاتنا بأنّه ما يستلزم نفس تصوّره حصول التصديق به و لا يحتاج إلى دليل و برهان، مثل الواحد نصف الاثنين.
فوحدة الوجود بالمعنى الذي ذكرناه لا ريب فيها و لا إشكال، و إنّما الإشكال و الإعضال هو في وحدة الموجود، فإنّه المتصور المعقول في بادئ
النظر و أن الوجود واحد، و تعدّد الموجود المتحصّل من الحدود و القيود و التعيّنات، و لكنّ الذي طفح و طغى في كلمات العرفاء الشامخين و مشايخ الصوفيّة السالكين و الواصلين هو وحدة الوجود و وحدة الموجود أيضاً.
و كانت هذه الكلمة العصماء يلوح بها أكابر العرفاء و الأساطين في القرون الاولى كَالجُنَيْدِ۱ و الشِّبْلِيّ٢ و بَايَزِيدَ البَسْطَامِيّ٣ و مَعْرُوفَ الكَرْخِيّ٤ و أمثالهم حتى وصلت إلى الحَلّاجِ و أقرانه إلى أن نبغ في القرون الوسطى مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِي و تلميذاه القونَويّ٥ و القَيْصَرِيّ٦ فجعلوها فنّاً من الفنون فألّفوا المؤلّفات الضخام كالفتوحات المكّيّة و غيرها، و المتون المختصرة كالفصوص و النصوص التي شرحها و نقّحها صدر الدين القونويّ.
و انتشرت عند عرفاء القرون الوسطى من العرب كابن الفارض
و ابن عفيف التِّلِمْسانيّ۱ و غيرهما، و من الفرس كثير لا يحصى عددهم كالعطّار٢ و الهاتف٣ و الجاميّ٤ و أضرابهم.
و أحسن من أبدع فيها نظماً العارف التبريزيّ الشبستريّ في كتابه المعروف «گلشن راز» و خلاصة هذه النظريّة أن تلك الطائفة لمّا أرادوا أن يبالغوا و يبلغوا أقصى مراتب التوحيد الذي ما عليه من مزيد، و أن لا يجعلوا للحقّ شريكاً لا في الربوبيّة كما هو المعروف عند أرباب الأديان، و لا في الوجود؛ بل نفوا الشريك له فقالوا: لَا مَوْجُودَ سوى الحَقِّ.
و هذه الكائنات من المجرّدات و المادّيّات من أرضين و سماوات و ما فيها من الأفلاك و الإنسان و الحيوان و النبات، بل العوالم بأجمعها كلّها تطوّراته و ظهوراته، وَ لَيْسَ في الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ،.
و كلّ ما نراه أو نحسّ به أو نتعقّله لا وجود له، و إنّما الوجود و الموجود هو الحقّ جلّ شأنه، و نحن عدم و ليس وجودنا إلّا وجوده.
ما عدمهائيم و هستيها نما | *** | تو وجود مطلق و هستيّ ما۱ |
،،،
كه همه اوست و نيست جز او | *** | وَحْدَهُ لا إلَهَ إلّا هُو٢ |
الامثلة الكثيرة التي أوردها العرفاء على وحدة الوجود.
و قد تفنّن هؤلاء العرفاء في تقريب هذه النظريّة إلى الأذهان، و سبحوا سبحاً طويلًا في بحر هذا الخيال، و ضربوا له الأمثال (فصوّروه) تارة بالبحر و هذه العوالم و الكائنات كأمواج البحر و هي ليست غير البحر و تطوّراته؛ و ليست الأمواج شيئاً سوى البحر، فإذا تحرّك ظهرت، و إذا سكن انعدمت و اندحرت، و هو معنى الفَناء المشار إليه بقوله تعالى.
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ.٣
يفنى وجه الممكن و يبقى وجه الواجب.
چه ممكن گرد امكان بر فشاند | *** | به جز واجب دگر چيزى نماند٤ |
نعم الأمواج تطوّرات البحر، لا شيء موجود غير وجود البحر.
چه درياى است وحدت ليك پر خون | *** | كز او خيزد هزاران موج مجنون |
هزاران موج خيزد هر دم از وى | *** | نگردد قطرهاى هرگز كم از وى٥ |
قالوا:
الوَجْهُ واحِدٌ وَ المَرَايَا مُتَعَدِّدَةٌ.
وَ مَا الوَجْهُ إلَّا واحِدٌ غَيْرُ أنَّهُ | *** | إذَا أنْتَ عَدَّدْتَ المَرَايَا تَعَدَّدا |
و كذلك العدد ليس إلّا تكرار الواحد إلى ما لا نهاية له:
وجود اندر كمال خويش سارى است | *** | تعيّنها امور اعتبارى است |
امور اعتبارى نيست موجود | *** | عدد بسيار و يك چيز است معدود |
چه واحد گشته در اعداد سارى۱ | *** |
و من هذا القبيل التمثيل بِالشُّعْلَةِ الجَوَّالَةِ التي ترسم دائرة ناريّة من سرعة حركتها و ليست هي إلّا تلك الشعلة الصغيرة:
همه از وَهْم تو اين صورتِ غير | *** | چه نقطه دائره است از سرعت سير٢ |
و الوجود واحد و الموجود واحد له ظهورات و تطوّرات، يتراءى أنّها كثرات، و ليس إلّا الذات و مظاهر الأسماء و الصفات و شئون الجمال و الجلال و القهر و اللطف.
و قد رفع الكثير منهم حجب الأستار عن هذه الأسرار حتى أن
محيي الدين بن عربي۱ عبّر عن كلّ هذا بتغيير كلمة في البيت المشهور:٢
وَ في كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ | *** | تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ وَاحِدُ |
ألَا إنَّنَا كُلَّنَا بَائِدُ | *** | وَ أيّ بَنِي آدَمَ خَالِدُ |
وَ بَدْؤُهُمْ كَانَ مِنْ رَبِّهِمْ | *** | وَ كُلٌّ إلى رَبِّهِ عَائِدُ |
فَيَا عَجَباً كَيْفَ يُعْصَى الإل- | *** | - هُ أمْ كَيْفَ يَجْحَدهُ الجَاحِدُ |
وَ لِلَّهِ في كُلِّ تَحْرِيكَةٍ | *** | وَ في كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ |
وَ في كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ | *** | تَدَلُّ على أنَّهُ الوَاحِدُ |
فقال «محيي الدين»:
وَ في كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ | *** | تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ عَيْنُهُ |
ثمّ تحامل و تقحّم إلى ما هو أكثر صراحة و أعظم، حيث قال:
سُبْحَانَ مَنْ حَجَّبَ نَاسُوتَهُ | *** | نُورُ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ |
ثُمَّ بَدَا في خَلْقِهِ بَارِزاً | *** | بِصُورَةِ الآكِلِ وَ الشَّارِبِ |
و مشى على هذه السبيل الصعبة كثير من شعراء العرب و عرفائهم في القرون الوسطى، و قد رفع لواءهم ابن الفارض۱ في أكثر شعره، لا سيّما تائيّته الصغرى و كذا الكبرى التي يقول فيها:
هُوَ الواحِدُ الفَرْدُ الكَثِيرُ بِنَفْسِهِ | *** | وَ لَيْسَ سِوَاهُ أن نَظَرْتَ بِدِقَّةِ |
بَدَا ظَاهِراً لِلْكُلِّ في الكُلِّ بَيْنَنَا | *** | نُشَاهِدُهُ بِالعَيْنِ في كُلِّ ذَرَّةِ |
فكلّ مشاهد محسوس من الذرّة الصغيرة إلى الجبل الشامخ، و من العرش إلى الثرى هي أطواره و أنواره و مظاهره و تجلّياته.
و هو الوجود الحقّ المطلق و لا شيء غيره، فإذا قلتَ لهم: فالأصنام و الأوثان؟ يقول لك العارف الشبستريّ:
مسلمان گر بدانستى كه بت چيست | *** | بدانستى كه دين در بتپرستى است٢ |
و إذا قلتَ: فالقاذورات؟ قالوا: نور الشمس إذا وقع على النجاسة هو ذلك النور الطاهر و لا تؤثّر عليه النجاسة شيئاً.
نور خورشيد ار بيفتد بر حَدَث | *** | نور همان نور است نَپْذيرد خَبَث۱ |
و ما اكتفوا بهذه التمثيلات و التقريبات حتى أخضعوا هذه النظريّة المتمرّدة على العقول لسلطان البرهان الساطع و الدليل القاطع.
برهان وحدة الموجود؛ و الردّ على الشبهات الواردة في شأنه
و بيان و كيفيّة البرهان على وحدة الموجود بتنقيح و توضيح منّا، بعد ذِكر مقدّمتين وجيزتين:
المقدِّمة الاولى: أن الوجود و العدم نقيضان، و النقيضان لا يجتمعان و لا يقبل أحدهما الآخر بالضرورة، فالوجود لا يقبل العدم و العدم لا يقبل الوجود، يعني أن الموجود يستحيل أن يكون معدوماً و المعدوم يستحيل أن يكون موجوداً، و إلّا لزم أن يقبل الشيء ضدّه و نقيضه و هو محال بالبداهة.
المقدِّمة الثانية: أن قلب الحقائق مستحيل، فحقيقة الإنسان يستحيل أن تكون حجراً، و حقيقة الحجر تستحيل أن تكون إنساناً، و هذا لمن تدبّره من أوضح الواضحات، فالعدم يستحيل أن يكون وجوداً، و الوجود يستحيل أن يكون عدماً.
في وحدة الموجود، الموجود هو الحقّ الأزليّ و جميع الكائنات
و بعد وضوح هاتين المقدّمتين نقول: لو كان لهذه الكائنات المحسوسة وجود بنفسها لاستحال عليها العدم، لأنّ الوجود لا يقبل العدم و هو منافٍ له و ضدّ له بطبيعته، مع أنّنا نراها بالعيان توجد و تعدم و تظهر و تفنى فلا محيص من الالتزام بأنّها غير موجودة.
و ليس الموجود إلّا وجود واجب الوجود الأزليّ الحقّ الذي يستحيل
عليه العدم بطبيعة ذاته المقدّسة و كلّ ما نراه من هذه الكائنات التي نحسبها بالوهم موجودة هي أطواره و مظاهره يفيضها و يقبضها، يبقيها و يفنيها و يأخذها و يعطيها، و هو المانع و المعطي و القابض و الباسط، وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.۱
و كلّ الأشياء تجلّياته و ظهوراته و إشراقاته و أنواره، و كلّ الكائنات و الممكنات مضافة إليه بالإضافة الإشراقيّة لا المقوليّة، أطرافها اثنان لا ثلاثة.
و سواء قلنا: بأنّ هذا البرهان صخرة صمّاء لا تمسّه أظافر الخدشة أو أن للمناقشة فيه مجال، فهو برهان منطقيّ على اصول الحِكمة و المنطق، هذا عدا ما يدّعونه من الشهود و المكاشفة و العيان الذي هو أسمى من الدليل و البرهان، إذ يقولون أن الدليل عُكّازة الأعمى:
پاى استدلاليان چوبين بود | *** | پاى چوبين سخت بى تمكين بود٢ |
،،،
زهى احمق كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان٣ |
در آن جائى كه نور حقّ دليل است | *** | چه جاى گفتگوى جبرئيل است۱ |
،،،
سُبْحَانَكَ أ يَكونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حتى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟!
مَتَى غِبْتَ حتى تَحْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟! وَ متى بَعُدْتَ حتى تَحْتَاجَ إلَى مَا يُوصِلُنَا إلَيْكَ؟! عَميَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ وَ لَا تَزَالُ عَلَيْهَا رَقِيباً!٢
و مع هذا كلّه فإنّ علماء الظاهر و امناء الشرع يقولون أن سالك هذا الطريق كافر زنديق و هذه الطريقة- أعني وحدة الوجود و الموجود- عندهم زندقة و إلحاد، تضادّ عامّة الشرائع و الأديان مهما قام عليها الدليل و البرهان، إذ حينئذٍ أين الربّ و المربوب؟ أين الخالق و المخلوق، و ما معنى الشرائع و التكاليف، و ما هو الثواب و العقاب، و ما الجنّة و النار، و مَن المؤمن و الكافر، و الشقيّ و السعيد؟ إلى آخر ما هنالك من المحاذير و اللوازم الفاسدة.
و لعلّ هذا هو مدرك ما ذكره السيّد الاستاذ قدّس سرّه «في العروة الوثقي» ما نصّه۱:
«القَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الوُجُودِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، إذَا التَزَمُوا بِأحْكَامِ الإسْلَامِ فَالأقْوَى عَدَمُ نَجَاسَتِهِمْ».
و إذا أحطت خبراً بما ذكرنا تعرف ما في هذا و أمثاله من كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم.
و إنّي لا أرى من العدل و الإنصاف، و لا من الورع و السداد، المبادرة إلى تكفير من يُريد المبالغة في التوحيد و عدم جعل الشريك للّه تعالى في كلّ كمال.
الكَمَالُ وَ الوُجُودُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
و مع ذلك فهم يؤمنون بالشرائع، و النبوّات، و الحساب، و العقاب، و الثواب، و التكاليف، بأجمعها على ظواهرها.
فالحقيقة لا تصحّ عندهم و لا تنفع بدون الطريقة، و الطريقة لا تجدي بدون الشريعة، و الشريعة هي الأساس و بها يتوصّل ملازم العبادة إلى أقصى منازل السعادة.
و عندهم في هذه المسائل مراحل و منازل و تحقيقات أنيقة و تطبيقات رشيقة و معارج يرتقي السالك بها إلى أسمى المناهج و مؤلّفات مختصرة و مطوّلة فوق حدّ الإحصاء نظماً و نثراً، و أذكاراً سرّاً و جهراً، و رياضات و مجاهدات لتهذيب النفس و تصفيتها كي تستعد للحوق بالملأ الأعلى و المبدأ الأوّل.
و هناك من البهجة و المسرّة و الجمال و الجلال مَا لَا عَيْنٌ رَأتْ وَ لَا اذُنٌ
سَمِعَتْ وَ لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.۱
و هاهنا أسرار عميقة و مباحث دقيقة لا تحيط بها العبارة و لا تدركها الإشارة فلنتركها لأهلها، و نسأله تعالى أن يفيض علينا من فضله بفضلها.
في كلّ طائفة من أصحاب العرفان أفراد أقحموا أنفسهم بدون معرفة
نعم، لا ريب أن كلّ طائفة اندسّ فيها مَن ليس من أهلها من الدخلاء و أهل الأهواء حتى يكاد أن يغلبوا على أربابها الأصحاء فلا ينبغي ضرب الجميع بسهم واحد و أخذهم أو نبذهم على سواء.
كما أن بعض المتطرّفين المتوغّلين في الغرام و الهيام و الشوق إلى ذلك المقام الأسمى قد توقّدت شعلة المعرفة في قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم و ألسنتهم فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبوديّة، مثل قول بعضهم:
أنَا الحَقُّ و (مَا في جُبَّتِي إلَّا الحَقُّ.)
و أعظم منها في الجرأة و الغلط و الشطط قول بعضهم: سُبْحَانِي مَا أعْظَمَ شَأنِي.٢ و هذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على أنّها صدرت من
البعض حالة المحو لا حالة الصحو، و في مقام الفناء في الذات، لا في مقام الاستقلال و الثبات، و لو صدرت في غير هذه الحال لكانت كفراً.
على أن المنقول عن الحلّاج۱ قد قال للذين اجتمعوا على قتله:
(اقْتُلُونِي! فَإنَّ دَمِي لَكُمْ مُبَاحٌ! لأنِّي قَدْ تَجَاوَزْتُ الحُدُودَ؛ وَ مَنْ تَجَاوَزَ الحُدُودَ (اقِيمَتْ عَلَيْهِ الحُدُودُ).
و لكنّ العارف الشبستريّ٢ التمس العذر لهذه الشطحات و حملها على أحسن وجه، حيث قال:
أنَا الحَقّ كشفِ آن اسرار مطلق | *** | به جز حقّ كيست تا گويد أنا الحَقّ |
روا باشد أنَا الحَق از درختى | *** | چرا نبود روا از نيك بختى؟٣ |
يقول من ذا يستطيع غير الحقّ أن يقول أنَا الحَقُّ؟! و إذا صحّ و حسن من الشجرة أن تقول أنَا اللهُ، فلما ذا لا يحسن ذلك من العارف الحسن الحظ؟!
و حقاً أقول: أن مَن أجال فكره و أمعن النظر في جملة من آيات
القرآن العزيز و كلمات النبيّ و الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم و أدعيتهم و أورادهم سيجد في الكثير منها الإشارة إلى تلك النظريّة العبقريّة.
و قد شاعت كلمة رسول الله صلى الله عليه و آله و هي قوله: أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ قَوْلُ لَبِيدٍ:۱
، ألَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ،٢
و قد تضمّنت هذه الكلمة في طيّاتها كلّ ما قاله العرفاء الشامخون من أن الأشياء أعدام، إذ ليس الباطل إلّا العدم و ليس الحقّ إلّا الوجود، فالأشياء كلّها باطلة و أعدام و ليس الحيّ و الموجود إلّا واجب الوجود.
و هذا كلّ ما يقوله و يعتقده اولئك القوم و قد أفاض الله تعالى هذه الكلمة على لسان ذلك الشاعر العربيّ الذي عاش أكثر عمره في الجاهليّة و أدرك في اخريات حياته شرف الإسلام فأسلم.
و قد صدّق تلك الجوهرة الثمينة الصادق الأمين و مثلها كلمة ولده صادق أهل البيت سلام الله عليه: العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ.٣
بل لو أمعنت النظر في جملة من مفردات القرآن المجيد تجدها وافية بذلك الغرض واضحة جليّة مثل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ۱ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.٢
فإنّ المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ حالًا، فكلّ شيء فان فعلًا و هالك حالًا، لا أنّه سوف يهلك و يفنى.
و مهما أحاول أن أوضّح الحقيقة أجدها عنّي أبعد من الشمس بَيدَ أنّها أجلى منها.
و أنّى لهذا اليراع القصير و العقل الصغير أن يجرأ فيتناول جرعة من ذلك البحر الغزير.
يَا مَنْ بَعُدَ في دُنُوِّهِ؛ وَ دَنَا في عُلُوِّهِ.
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إلَيْكَ أنَبْنَا وَ إلَيْكَ المَصِيرُ! سُبْحَانَكَ لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ؛ أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَ فَوْقَ مَا يَقُولُ القَائِلُونَ.
وَ إنَّا لِلَّهِ وَ إنَّآ إليه رَاجِعُونَ».٣
تعليقة آية الله الحكيم على فتوى المرحوم السيّد في «العروة»
و كتب المرحوم آية الله الحاجّ السيّد محسن الطباطبائيّ الحكيم في
تعليقه على فتوى المرحوم السيّد محمّد كاظم اليزديّ قدّس سرّه هذه قائلًا: «أمّا القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة فقد ذكرهم جماعة، و منهم السبزواريّ في تعليقته على «الأسفار» قال:
و القائل بالتوحيد إمّا أن يقول ب- «بكثرة الوجود و الموجود» معاً، مع التكلّم بكلمة التوحيد لساناً، و اعتقاداً بها إجمالًا، و أكثر الناس في هذا المقام.
و أمّا أن يقول ب- «وحدة الوجود و الموجود» جميعاً، و هو مذهب بعض الصوفيّة.
و أمّا أن يقول ب- «وحدة الوجود و كثرة الموجود»، و هو المنسوب إلى أذواق المتألّهين، و عكسه باطل.
و أمّا أن يقول ب- «وحدة الوجود و الموجود في عين كثرتيهما»، و هو مذهب المصنّف (الملّا صدرا الشيرازيّ). و العرفاء الشامخين.
و الأوّل: توحيد عامّيّ؛ و الثاني: توحيد خاصّيّ. و الثالث: توحيد خاصّ الخاصّ، و الرابع: توحيد أخصّ الخواصّ».
و هنا قال المرحوم المعلّق: «حسن الظنّ بهؤلاء القائلين بالتوحيد الخاصّ و الحمل على الصحّة المأمور به شرعاً يوجبان حمل هذه الأقوال على خلاف ظاهرها و إلّا فكيف يصحّ على هذه الأقوال وجود الخالق و المخلوق، و الآمر و المأمور و الراحم و المرحوم؟ وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إليه انِيبُ»۱.
الوحدة الحقيقيّة للوجود و الموجود و الكثرة الاعتباريّة لهما قمّة
و هنا يجب التذكير ببعض النقاط:
النقطة الاولى:
إن كلام السبزواريّ قدّس سرّه في اعتباره قول «وحدة الوجود و وحدة الموجود في عين كثرتيهما» أفضل الأقوال الأربعة و أحسنها، و أن هذا التوحيد مختصّ بمن سَمّاهم بأخصّ الخواصّ؛ يُثير هنا سؤالًا و هو: هل الكثرة التي ذكرها هنا هي اعتباريّة أم حقيقيّة؟
فإن أجاب: أنّها اعتباريّة، فهذا يعني القول الثاني، و هو توحيد بعض الصوفيّة الذي سمّاه بتوحيد الخاصّ. و جميع الصوفيّة، موضع إشارته، يحاولون جهد إمكانهم إثبات الكثرة الاعتباريّة هذه، لا إنكار أصل الكثرة، و إن كان ذلك بنحو الاعتبار. فهل بإمكانكم الإشارة إلى فرد من أيّة فرقة كان ينفي حتى الكثرة الاعتباريّة للوجود و الموجود؟ و لو قال أحد ما بهذا لطردوه من زمرة العقلاء و لم يُحسب لقوله أيّ حساب.
و إذا أجاب: أنّها كثرة حقيقيّة، كما هي كذلك بالفعل و كما صرّح بذلك هو نفسه، و كما هو واضح و جليّ من خلال المراسلات بين العَلَمين الآيتين: المرحوم آية الحقّ و سند التوحيد و العرفان الحاجّ السيّد أحمد الطهرانيّ الكربلائيّ و المحقّق المدقّق و الحكيم الفيلسوف المرحوم الحاجّ الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ قدّس الله أسرارهما، بل أن جلّ نزاعهما كان حول هذه المسألة، حيث يصرّ آية الله الكمبانيّ على إثبات الوحدة و الكثرة الحقيقيّتين، في حين يحاول آية الله الكربلائيّ تفنيد ذلك و ذرّ رماد ادّعاءاته في رياح الفَناء و يوضّح قائلًا إنّه مع وجود الوحدة الحقّة الحقيقيّة و الوجود بالصرافة، فلا معنى أصلًا للتعدّد الحقيقيّ، و لا وجود للكثرة الحقيقيّة إلّا في غيابت جهنّم و زوايا نار الشرك، لا في جنّة التوحيد و المعرفة حيث لا وجود للكثرة فيها؛ و على هذا فسيظهر أمامنا نفس الإشكال في الحال، و هو: أن الوحدة الواقعيّة لا يمكن لها أن تجتمع مع الكثرة الواقعيّة. أن الوحدة و الكثرة نقيضتان متضادّتان. بعبارة أخرى أن
مفهوم الوحدة عكس مفهوم الكثرة و هما نقيضان متضادّان؛ و عليه، كيف يتسنّى لنا الإقرار بكون الكثرة حقيقيّةً في نفس الوقت الذي فرضنا فيه الوحدة على أنّها حقيقيّة؟
و على أساس من ذلك، نرى أنّه يتوجّب علينا وضع قول ذوق المتألّهين بأنّ: وحدة الوجود و كثرة الموجود أمر حقيقيّ، و قول صدر المتألّهين بأنّ: وحدة الوجود و الموجود في عين كثرتيهما كلاهما حقيقيّان، جانباً، و بعد رفضنا القسم الأوّل نشهد أنفسنا مضطرّين إلى قبول ما نقله بعض الصوفيّة و اتّخذوه توحيداً خاصّاً و هو: أن وحدة الوجود و وحدة الموجود الحقيقيّة تكونان بمعيّة كثرة الوجود و كثرة الموجود الاعتباريّة؛ و اعتباره أعلى أقسام التوحيد و المعيار البارز في ذلك.
النقطة الثانية:
إن وجود الخالق و المخلوق، و الآمر و المأمور، و الراحم و المرحوم في هذه الصورة واضح و جليّ جدّاً، و لا مجال لإنكار ذلك أو التشكيك فيه على الإطلاق.
و أدلّ مثال على ذلك هو الإنسان بقواه الباطنيّة و الظاهريّة. فالنفس الناطقة لأيّ فرد من أفراد البشر لها حسّ مشترك و قوّة مفكّرة و خوف و حافظة، و تمتلك كذلك حاسّة البصر و السمع و الشمّ. و هذه القوى بمجموعها تمثّل عين النفس الناطقة و هما كيان واحد، من جهة الوحدة؛ إلّا أنّهما، و باعتبار التعيُّنات و الظهورات، ظهرتا و تَعيَّنتا على هذه الشاكلة.
و الحقّ كلّ الحقّ أنّنا لا نملك إلّا أن نعترف بوحدتنا و وحدانيّتنا؛ و في نفس الوقت فإنّ التعدّد و التعيُّن و تكاثر القوى أمر لا يقبل التفنيد أو الإنكار.
إن النفس الوحدانيّة عندنا تأمر القوى الباطنيّة و بالتالي القوى
الظاهريّة، و هكذا، و عن طريق ذلك تصدر عنّا ما ندعوها بالأفعال و التي تكتسب طابع الكثرات و تسمّى بها؛ لكن، مع ذلك تبقى وحدتنا في هذه الأفعال و القوى محتفظة بمنزلتها و مكانتها. و على هذا فإنّ قوانا الباطنيّة هي نحن لكن بصورة تلك الظهورات؛ و قوانا الظاهريّة كذلك كالنظر و السمع هي نحن لكن بصورة هذه الظهورات.
إن التعدّد في قوانا و التي توجب العزلة مغلوط. إنّها الوحدة التي تتجلّى و تظهر في مظاهرها و تجلّياتها؛ و هكذا الأمر بالنسبة إليه سبحانه: فهو نفسه لا غيره يظهر في هذه الآيات و المرايا و المظاهر و التجلّيات. أن التعدّد الذي يؤدّي إلى العزلة مغلوط و غير صحيح؛ إنّها الوحدة في ثوب الكثرة؛ الوحدة الحقيقيّة في الكثرة الاعتباريّة.
فالحقّ سبحانه و تعالى، هو الخالق في المرتبة العليا، و هو المخلوق في المرتبة الدنيا. و الآمر في المقام الأعلى، و المأمور في المقام الأدنى. و هو الراحم في الافق المبين و المرحوم في نشأة أسفل السافلين.
الابيات الراقية للميرزا محمّد رضا القمشئيّ في وحدة الوجود
و ما أروع و أبدع و أبهى ما قاله عارفنا الواصل:
آنِ خداى دان همه مقبول و ناقبول | *** | مِنْ رَحْمَةٍ بَدا وَ إلَى رَحْمَةٍ يَؤُولْ |
از رحمت آمدند و به رحمت روند خلق | *** | اينست سرّ عشق كه حيران كند عقول |
خَلقان همه به فطرت توحيد زادهاند | *** | اين شرك عارضى بود و عارضى يزول۱ |
گويد خرد كه سرِّ حقيقت نهفته دار | *** | با عشقِ پردهدر چه كند عقل بوالفضول |
يك نقطه دان حكايت ما كان و ما يكون | *** | اين نقطه گه صعود نمايد گهى نزول |
جز من كمر به عهد امانت نبست كس | *** | گر خوانيَم ظلوم، و گر خوانيم جهول۱ |
المتفقّهون أضافوا إلى النجاسات «وحدة الوجود» هرباً من المسئوليّة
النقطة الثالثة:
لقد كانت هذه المسألة، و منذ أمد بعيد، تشكل للحقير صعوبة كبيرة و هي أنّه لما ذا لا يقوم بعض فقهائنا بإصدار حكم بتكفير المجسِّمة و المعطِّلة و المنزِّهة و المجبِّرة و المفوِّضة و اعتبارهم نَجَس لقولهم ما يقولون مع قبولهم أصل التوحيد و اعتقادهم به؛ في حين يَطرقون على رؤوس مَن يقولون بوحدة الوجود فوراً، لا تأخذهم في المباشرة في ذلك و الإسراع فيه لومة لائم؟
ما الداعي في إضافتهم قسماً يدّعى «الوحدة الوجوديّة» إلى ما هو
موجود من أنواع نَجَس العَين كالبول و الغائط و غيرهما؟ فلأيّ شيء اضيف هذا القسم «نجس العين» إلى النجاسات و منذ متى عُمِل به؟
و هكذا، و بعد الدراسات و المشاهدات و بعد التي و اللتيّا، انتهى الأمر إلى هذه النقطة، و هي أنّه و بسبب دقّة هذا النوع من التوحيد و صعوبة فهمه و إدراكه و الذي هو توحيد المخلَصين و المقرّبين للحقّ جلّ شأنه من جهة، و بسبب الصعوبة و المشاقّ التي تعترض سالك هذا السبيل في سيره إلى الله و وصوله إلى تلك الحال، و هو بالطبع ما يتعارض مع مزاج المُتْرَفين من جهة أخرى، فقد أراحَ القشريّون و الظاهريّون، ذوو المستوى الفكريّ و العلميّ المُتَدنّي و الضحل، أنفسهم بإشهارهم سلاح الكفر و الخروج على الإسلام على هؤلاء، لعدم انسجام هذه المسألة مع أفكارهم و آرائهم، و حتى لا يضطرّوا إلى تقليد هذا الرجل الحكيم الواصل و الانقياد له، فقد قاموا بهدم أساس هذا البناء و تقويض أركانه، و اعتبروهم زنادقة و ملحدين و ذلك باتّهامهم بالنجاسة و التي هي انعكاس للزندقة و الإلحاد.
نعم، فمن الواضح أن التكفير و التفسيق هما سلاح الحمقى، و هو ما برهنت عليه التجارب.
و هؤلاء، بشعار التكفير هذا الذي رفعوه، قد دقّوا إسفيناً في أساس الإسلام، و إلّا أ فليس الإسلام هو شريعة التوحيد؟ و التوحيد هو الوحدة نفسها، و التوحيد على وزن تفعيل و هو فعل متعدّ، و الوحدة ثلاثيّ مجرّد و هو فعل لازم.
فالتوحيد الذي يعنيه الإسلام هو وحدة الكثرات و حصر الفعل و القوّة و العلم و الحياة و القدرة و الوجود و الذات في الحقّ سبحانه و تعالى.
و الوحدة هي أن تصير هذه الأفعال و الأسماء و الذوات وحدة واحدة فيه جلّت قدرته.
۱
معرفة الله ؛ ج٣ ؛ ص٢۰٢
و في هذه الحالة ف- «وحدة الوجود» تعني نتيجة التوحيد و محصّلته، و ثمرة هذه الشجرة المثمرة. فما التناقض الموجود بين التوحيد و الوحدة؟ فالتوحيد الذي ينادي به الإسلام يتلاءم تماماً معها (أي الوحدة)، بل هي بعينه. ف- «وحدة الوجود» هي الشراب الحلو و السائغ لـ «توحيد الحقّ» في مراحل الكثرات.
لكنّ العَجب في أن هؤلاء الجائرين لم يكونوا قادرين و لم يقدروا على اتّهام اولئك ب- «التوحيد في الوجود»، و ذلك لأنّ هذا الكلام كان من الممكن أن يصبح أداةً في أيدي كلّ مِن الأعداء و الأصدقاء على السواء! فما الإشكال في الإنسان الذي دخل الإسلام و حصل على نتائجه الغائيّة التي تتلخّص في التوحيد في الذات و الصفة فيصبح قائلًا ب- «التوحيد في الوجود»! استبدلوا لفظة «التوحيد» ب- «الوحدة»؛ و بدأ العامّة من الناس الذين هم كالأنعام غافلين عن أيّ عِلم بضرب رؤوس الموحّدين بهراوة الوحدة الوجوديّة. و صبغوهم بصبغة نجس العين تحت شعار الكافر الملحد الزنديق الفاسق حتى يمنعوا الناس عنهم.
إن مخالفة المعتقدين بوحدة الوجود هي تعبير آخر لمخالفة أهل التوحيد؛ اي الموحّدين.
إن مشركي العرب و خاصّة قريش الذين كانوا يناجزون الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إنّما كانوا يقومون بذلك على أساس انكارهم للتوحيد و وحدانيّة المبدأ و المعاد و جميع الامور الأخرى المتعلّقة بهما.
كانوا يقولون: أن هذا الرجل زنديق و ملحد، إنّه ساحر، إنّه يدعو إلى التوحيد؛ و هذا خروج على ديننا و عقيدتنا و سنّة آبائنا. إنّه رجل نَجَس و العياذ بالله! أو كانوا ينادون بقتله بجريرة هذا الجُرم أو ذاك، أو إخراجه من مدينتهم و ديارهم، أو تقويض داره على رأسه، أو عزله و إقامة الحصار
عليه!
وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ۱، وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ، ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ، أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ.٢
إن هذه الآيات و نظيراتها التي وردت في القرآن، تدلّ كلّها على أن إشكال المشركين و الكافرين على النبيّ و الإسلام و القرآن كان في مسألة التوحيد و حسب.
و على هذا أ فليس إشكال الدارسين و العلماء الذين يهاجمون القائلين بوحدة الوجود و يتّهمونهم و يؤنّبونهم و يؤاخذونهم في ذلك، يشبه بل هو عين الإشكال الذي نادى به المشركون و الكافرون ضدّ الموحّدين؟! فذاك إشكال على توحيد الوجود و هذا إشكال على وحدة الوجود.
ذاك برميه بالزندقة و الخروج عن الدين؛ و هذا كذلك بالرمي بالزندقة و الخروج عن الدين!!
ذاك تحت لواء انحراف الناس عن العقيدة؛ و هذا كذلك تحت لواء خروجه عن العقيدة الساذجة للسواد الأعظم من الناس!!
موقف أصحاب الرسائل بدون الولاية الإلهيّة خطر يوم القيامة
و طبعاً، من الضروريّ دائماً التكتّم على الأسرار، و لا يجب البوح
بالمسائل العرفانيّة الراقية و السامية لأيّ كان، و أنّه يُستحبّ دائماً، بل واجب مأمور به، التحدّث إلى الناس بمستوى عقولهم و قابليّاتهم؛ و لكنْ كلامنا هذا موجّه إلى الخواصّ و ليس العوامّ، إلى العلماء لا الجهلاء، إلى أهل الفهم و التجربة و الأدب و المطالعة لا إلى الرجل العاميّ المجرّد من أيّ من هذه المسائل.
فنحن نقول: إذا تقرّر أن تكون عقيدتنا توحيداً باللسان و ذلك بعد مضي ألف و أربعمائة عام على شريعة التوحيد المحمّديّة، و أن نغفل عن أسرار و درجات التوحيد الفكريّ و العقليّ و القلبيّ الراقية و القناعة باليقين الكلّيّ، و أن نشنّ حملة شعواء على أهل الوحدة، و هم الموحّدون الحقيقيّون و المسلمون الخُلّص؛ فإذاً ما الفرق بيننا و بين مشركي قريش الذين شَهَروا سيوفهم بوجه النبيّ و أمير المؤمنين عليهما السلام و جميع الموحّدين، اي القائلين بالوحدة الإلهيّة، في معارك بدر و احد و الأحزاب و حنين؟!
أ ما كان علينا، على الأقلّ، و نحن الذين ننادي بالمرجعيّة و ولاية الفقيه، اي نتحمّل مسؤوليّة الحفاظ على أرواح و أموال و أعراض المسلمين إذ نعتقد بولائهم الفكريّ و القلبيّ لنا، أن نقول كلمتنا في مسألة التوحيد؟ حتى لا تتسبّب هذه الفتاوى، لا سمح الله، في هتك الأنفس و الأموال و الأعراض- ليس لنا أن نجعل من أنفسنا حماةً و حرّاساً- و لكن على الأقلّ علينا أن لا نكون كالعدوّ الذي يُشهر سلاحه لصالح الخصم المُشرك، و ضدّ الفرد المسلم الموحّد.
«لَا أمَلَ لَنَا في خَيْرِكَ، فَكُفَّ أذَاكَ عَنَّا».
فساد الاستدلال بالآيات لإثبات الثنائيّة الحقيقيّة بين الخالق
النقطة الرابعة:
و الآن و بعد أن اتّضحت صحّة مقولة الخالق و المخلوق، و الآمر
و المأمور، و الراحم و المرحوم، و قد أثبتتْ صحّتها و رُقيّها آراء روّاد الفلسفة و العرفان الإسلاميّين من أمثال محيي الدين بن عربي و تلامذته و منهم القونَويّ و القيصريّ، و العالم الفقيه النبيل و العارف بلا بديل الغائب عن الأنظار و الأفكار منذ حوالى سبعة قرون ألا و هو: السيّد حيدر الآمليّ و كذلك الفقيه و الحكيم الخبير البصير و العالم المتبحّر المتألّه: الملّا صدر الدين الشيرازيّ، و غيرهم الذين يدين لهم الإسلام و المسلمون و المؤمنون و شيعة أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات و أكمل تحيّات المصلّين بدَيْنٍ عظيم، و الذين استطاعوا بكتبهم البرهانيّة و الشهوديّة أن ينفخوا الروح في الإسلام من جديد بعد أن اصفرّ عُوده من جرّاء ظهور أفكار الحشويّين و الظاهريّين و الأخباريّين الخاوين من العقل و الدراية، و أن يسقوا شجرة التوحيد ثانية و أن يُعيدوا إلى الأذهان خُطَب «نهج البلاغة»؛ بعد أن اتّضح كلّ ذلك نقول:
إن العبارة التي كتبها آية الله الحكيم قدّس سرّه في نهاية تعليقه و فتواه هي:
وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إليه انِيبُ.
و هذه العبارة تتضمّن نقطتين: الاولى:
تحوي هذا المعنى، و هو أن طلب هذه الامور يكون من الله. الثانية: أن ما يريدون بيانه هو: أن الآية تشير إلى ثنائيّة الآمر و المأمور و الراحم و المرحوم؛ لأنّه قد عبّر عن إنّيّةٍ و توفيق إزاء الله، و كذلك عن توكّل و إنابة أمامه (أي الله).
نعم، فإنّ الأمر بهذه الصورة، و لكن، هل هذه الامور (أي الإنّيّة و التوفيق و التوكّل) التي يُعبَّر عنها هي حقيقيّة أم اعتباريّة؟!
إذا كان الجواب حقيقيّة فهذا غير صحيح؛ لأنّه ليس هناك أيّ
استقلال لأيّة ذرّة من الذرّات في مقابل ذات و صفة الحقّ تعالى، سواء أ كان استقلالًا في الوجود أم في الصفة.
و إمّا إذا كانت اعتباريّة، فلا يوجد أيّ تناقض مع ما يقوله الصوفيّة، بل هو عين كلامهم. و ما جاء في القرآن الكريم على لسان النبيّ شُعيب على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام يُشير إلى نفس هذا المعنى:
قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.۱
نه هر كه چهره برافروخت دلبرى داند | *** | نه هر كه آينه سازد سكندرى داند |
نه هر كه طرف كله كج نهاد و تند نشست | *** | كلاه دارى و آيين سرورى داند |
تو بندگى چو گدايان به شرط مزد مكن | *** | كه دوست خود روش بندهپرورى داند |
غلام همّت آن رند عافيت سوزم | *** | كه در گدا صفتى كيمياگرى داند٢ |
وفا و عهد نكو باشد ار بياموزى | *** | و گرنه هر كه تو بينى ستمگرى داند |
بباختم دل ديوانه و ندانستم | *** | كه آدمى بچهاى شيوة پرى داند |
هزار نكتة باريكتر ز مو اينجاست | *** | نه هر كه سر بتراشد قلندرى داند |
مدار نقطة بينش ز خال تست مرا | *** | كه قدر گوهر يكدانه جوهرى داند |
به قدّ و چهره هر آن كس كه شاه خوبان شد | *** | جهان بگيرد اگر دادگسترى داند |
ز شعر دلكش حافظ كسى بود آگاه | *** | كه لطف طبع و سخن گفتنِ دَرى داند۱ |
البَحْثَان ٣٣ و ٣٤: الحَشْوِيَّةُ وَ الشَّيْخِيَّةُ وَ القِشْرِيةُ لا خَلَاقَ لَهُمْ مِنَ اللهِ و تفسير الآية المباركة فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صلى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
(الآية ۱۱٦، من السورة ٢٣: المؤمنون)
و تأتي الآيتان التاليتان بعد الآية المذكورة:
وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ، وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
خسروا گوى فلك در خم چوگان تو باد | *** | ساحت كون و مكان عرصة ميدان تو باد |
زلف خاتون ظفر، شيفته پرچم تست | *** | ديدة فتح ابد عاشق جولان تو باد۱ |
همه آفاق گرفت و همه اطراف گشاد | *** | صيت خُلق تو كه پيوسته نگهبان تو باد |
اي كه انشاى عطارد صفت شوكت تست | *** | عقل كل چاكر طغراكش ديوان تو باد |
طَيْرة جلوة طوبى قد چون سرو تو شد | *** | غيرت خلد برين ساحت بستان تو باد |
نه بهِ تنها حَيَوانات و نباتات و جماد | *** | هر چه در عالم امر است به فرمان تو باد |
حافظ خسته به اخلاص ثنا خوان تو شد | *** | لطف عام تو شفابخش ثنا خوان تو باد۱ |
ليس هناك اختلاف في مسألةٍ ما بقدر الاختلاف في الله تعالى
إنّه لأمر جلل، و معضلة يكتنفها الغموض أن يكون وجود الله الرحمن الرحيم و الحيّ العليم و القدير موضع اختلاف و تباين في الأفكار و العقائد بين الامم و الشعوب إلى حدّ يمكن القول إنّه ليس هناك مسألة أو معضلة اختُلِفَ فيها إلى هذا الحدّ كما هو الحال مع هذه المسألة التي هي من
أكثر المسائل بديهيّة و وضوحاً، بل أن بداهة و وضوح جميع المسائل تنبع من بركات بداهة و وضوح هذه المسألة، و قد وصل الحال ببعض الامم العريقة إلى إنكار أصل وجوده تعالى.
و قد أشار حكيمنا القدّوسيّ و عارفنا القدّيسيّ المرحوم الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ أعلى الله رتبته في كتابه «منظومة الحكمة» إلى أن سبب ذلك هو شدّة ظهوره تعالى:
يَا وَاهِبَ العَقْلِ لَكَ المَحَامِدُ | *** | إلى جَنَابِكَ انْتَهَى المَقَاصِدُ |
يَا مَنْ هُوَ اخْتَفَى لِفَرْطِ نُورِهْ | *** | الظَّاهِرُ البَاطِنُ في ظُهُورِهْ |
بِنُورِ وَجْهِهِ اسْتَنارَ كُلُّ شَيءْ | *** | وَ عِنْدَ نُورِ وَجْهِهِ سِوَاهُ فَيءْ |
و على هذا فلمّا كان الله العلى الأعلى هو الوجود المحض و كان ظاهراً بنفسه، و لمّا كانت بقيّة الموجودات في الوجود و وجودها ظاهرة بوجوده؛ فإنّ شدّة هذا الظهور و فرط هذا النور نيّر و ساطع لدرجة أنّه تسبّب في اختفاء ذواتها. و قد أنكر جماعة وجود الله من الأساس و قالوا: ليس هناك في العالم إله حيّ مدرك عليم قادر كبير متعال؛ فالطبيعة محضة و صِرفة. و الطبيعة و المادّة هما غير الحياة و العلم و القدرة. و هؤلاء هم المادّيّون و الطبيعيّون.
الشيخ أحمد الاحسائيّ لا يعتبر الله حتى منشأ لانتزاع الصفات
و إذا تجاوزنا هؤلاء، فإنّه حتى القائلين بوجود الله و المؤمنين به و الذين يُقال لهم الإلهيّون قد اختلفوا في ماهيّته و وصفه؛ و في صفاته و أفعاله، و في علاقة الموجودات به، و كيفيّة إمكاننا و وجوبه.
و قال بعضهم: ليس هناك أيّ تشابه أو تلائم بين الله و أيّ من الموجودات بأيّ وجه من الوجوه. و ليست هناك أيّة رابطة وجوديّة، بل أساساً لا يوجد أيّ تشابه. فأين الموجود المخلوق من الله الخالق؟
إن ذات الله المقدّسة منزّهة عن كلّ ما يخطر ببال الإنسان من
تصوّرات و أفكار و نسبتها إليه. و ذاته أطهر من أيّة صفة حتى من صفة الوجود نفسها. بل أن نوع و حقيقة وجود الله يختلف عن ذلك الذي تملكه المخلوقات و الموجودات الأخرى، و يختلف في مفهومه أيضاً.
و قد تقدّست و تنزّهت ذاته عن كلّ ما يتراءى للعيان، و صفاته و أسماؤه و أفعاله عن كُلّ ما يُتصوّر. و لذا فلا يمكننا إقامة أيّة علاقة مع الله، لأنّنا موجودات ممكنة الوجود و مخلوقات ضعيفة و فقيرة، و العجز و الجهل متأصّلان فينا، أمّا هو، فواجب الوجود و الخالق القويّ الغنيّ و هو القادر المتمكّن و العالم و الخبير، بكلّ ما لهذه الكلمات من معانٍ.
و تُدعى هذه الجماعة بأهل التنزيه (المُنَزِّهة). اي يريدون أن ينزّهوا الله و يقدّسوه و يطهّروه إلى أبعد الحدود. و هم يبالغون في تنزيه الله و تقديسه إلى الحدّ الذي يقطعون أيّة رابطة للموجودات به و يُعلنون صراحةً: بأن ليس هناك سبيل لمعرفة الله؛ لا إلى أفعال الله و لا إلى أسمائه أو صفاته أو ذاته.
فلا سبيل لنا إلى ذلك المقام الأعلى و الذروة الأسنى، حتى أنّنا لا يمكننا إطلاق كلمة الوجود على الله انطلاقاً من وجهة نظر العقل، فهؤلاء يشكّلون فرقة خاصّة بهم، و من المتأخّرين من ينتمي إلى هذه الفرقة أيضاً. و من القائلين بهذا النوع من التنزيه بعض الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم من كبار العلماء و من الطراز الأوّل، في حين أنّه (أي التنزيه المذكور) كان عقيدتهم المعلنة. و من جملة هؤلاء، الشيخ أحمد الأحسائيّ، حيث أن عباراته التي كتبها في شرحه للزيارة الجامعة الكبيرة (شرح الزيارة) توضّح بجلاء انتمائه لهذه العقيدة.
جاء في بداية رسالة «لقاء الله» للمرحوم آية الله الحاجّ الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ قدّس الله تربته، و تحديداً في المقطع الذي يقول
فيه: «و خلاصة القول فإنّ المذاق الأوّل هو مذاق طائفة من متكلمي العلماء الأعلام. فهؤلاء قد استدلّوا بظاهر بعض الأخبار، و قاموا بتأويل الآيات و الأخبار و الأدعية الواردة التي تخالف أهواءهم». و هنا يكتب المرحوم الحاشية التالية بخطّ يده:
«و يعبّر هذا المذاق عن صريح كلمات الشيخ أحمد الأحسائيّ و تابعيه. و لكنّهم يُؤوِّلون أخبار اللقاء و المعرفة على نحو آخر كما سيأتي ذكره، و يفسّرون جميع الأسماء و الصفات على أساس أنّها من أسماء و صفات مرتبة المخلوق الأوّل. بل إنّهم لا يعتبرون الذات القدسيّة منشأ انتزاع الصفات، و يقولون بالتنزيه الصِّرف- منه عُفيَ عنه».
و قال البعض الآخر: أن هناك تشابهاً بين الله و بين الموجودات من جميع الوجوه؛ سواء أ كان في ذاته أم في صفاته أم في أفعاله. أن للّه رابطاً مع مخلوقاته و للمخلوقات رابطٌ يربطها بالله. و معنى الرابط هو الوحدة و الملاءمة و المشابهة بين ذات العلّة و ذات المعلول، و صفات العلّة و صفات المعلول، و أفعال العلّة و أفعال المعلول.
إن عالم المُلك و الملكوت برمّته هو مخلوق من قِبل الله. و عليه فيجب أن يكون تشابه بين الله سبحانه و تعالى و بين هذه المخلوقات من جميع النواحي. و يقال لهذه الجماعة أهل التشبيه (المُشَبِّهة).
أي أنّهم يقارنون بين الله و الموجودات في الذات و الصفات. و لا نعلم أحداً من الشيعة على هذا المذهب، و لكنّه كانت هناك جماعة من العامّة، و ما تزال، تنتمي إلى أهل التشبيه.
هذه أيضاً عقيدة خاطئة، لأنّ الله خالق الموجودات لا يمكن أن يتشابه معها من جميع النواحي. فأيّ دليل يوصلنا إلى أنّه يجب أن يكون هناك تشابه من جميع الجهات في علّيّة الخِلقة و عالم الوجود؟
و ذهبت هذه الجماعة إلى حدّ القول بجسميّة الله. لأنّ الموجودات المُلكيّة هي أجسام. و بالطبع فإنّ هذه النظريّة و العقيدة باطلة.
أصحاب التنزيه يعدّون الحقّ خالياً من الحياة و العلم و القدرة
إذاً فَالمُنَزِّهَةُ وَ المُشَبِّهَةُ كلاهما على باطل. صحيح أنّنا ننزّه الله؛ لكنّنا ننزّهه من صفات النقص التي توجب الإمكان و الحدوث؛ و من العيب و النقصان، من العجز و الفقر و الضعف. فنقول: أن الله ليس بعاجز و لا ميّت و لا نائم و لا جاهل. فكلّ هذا صحيح. أمّا أن ننزّه الله إلى درجة أنّنا ننزع عنه مفهوم الوجود بحيث لا نطلق عليه كلمة موجود أصلًا أو كلمة حيّ أو قادر و مقتدر، أو عالم و خبير؛ فهذا خطأ.
يقول هؤلاء: لا سبيل لنا إلى معرفة الله: لا إجمالًا و لا تفصيلًا، لا مفهوماً و لا مصداقاً، لا إلى ذاته و لا إلى صفته و اسمه أو فعله.
فمن شدّة التنزيه قد عميت إحدى أعينهم، فهُم ينظرون إلى الله بعين واحدة؛ اي كالأعور. فعينهم المُبصرة هي أنّهم ينزّهون الله عن جميع صفات النقص و التقييد و التحديد، أمّا عينهم العوراء فهم لا يَرَون أن للّه تأثيراً و وجوداً و قدرة و قوّة إفاضة في جميع عوالم الوجود و الخِلقة؛ فهم يُسقطون عنه كلّ الصفات العليا و الأسماء الحُسنى.
فهم يحصرونه (أي الله) في زاوية معيّنة من السماء؛ إلهٌ مُنزّه و طاهر ليس له أيّة علاقة بعالم الوجود و الإيجاد. و المشبّهة من ناحيتها تقول: أن خصائص الله هي نفس خصائص الموجودات.
و لكنّ قول الحقّ هو أن لا التنزيه الصِّرف صحيح و لا التشبيه الصِّرف.
فالذات المقدّسة منزّهة و طاهرة إلى ما شئتَ، من القبائح و الشنائع التي هي من لوازم الإمكان و توجب تقييد الحقّ. أمّا إذا قلنا: أن مفاهيم العلم، القدرة، و الحياة في الأسماء و الصفات تكون بشكل بحيث
لا نستطيع إطلاقها عليه و ننزّهه كذلك عن دلالة هذه المعاني الراقية و المفاهيم السامية عليه، و من هذا المنطلق نقيم بينونة و عزلة بين صفات و أسماء الحقّ و بين مخلوقاته؛ فهذا أيضاً خطأ.
إن صفات الله العالية و أسماءه الحسنى قد ملأت عالم الوجود كلّه؛ فكلّ هذا الضجيج الذي يزخر به عالم المُلك و الملكوت، و عالم المادّة و ماوراء المادّة، كلّ ذلك ينطق بصفاته و أسمائه.
فجبرائيل هو اسم الله، و كذلك الأنبياء هم أسماء الله، و كذا الملائكة و البشر و كلّ الموجودات الأخرى من الحيوانات مثل: الطيور، البهائم، الزواحف، الأحياء المائيّة و كلّ الجمادات هي أسماء الله. لكنّ هذا الاسم هو على نوعين:
اسم كلّيّ، و هو الذي تمتلكه الموجودات الملكوتيّة و النوريّة، و اسم جزئيّ و هو ما للموجودات المُلكيّة و المادّيّة و الظلمانيّة. فكلّ هؤلاء أسماؤه و صفاته و قد برزت في هذه المجالات و المظاهر.
فعالم الوجود برمّته هو الحقّ و شئونه المتمثّلة في ظهوره في شبكات الإمكان، و لا شيء غير ذلك أبداً.
عكس روى تو چو در آينه جام افتاد | *** | صوفى از خنده مِى در طمع خام افتاد |
حسن روى تو به يك جلوه كه در آينه كرد | *** | اين همه نقش در آئينه اوهام افتاد۱ |
اين همه عكس مى و نقش و نگارى كه نمود | *** | يك فروغ رخ ساقى است كه در جام افتاد |
غيرت عشق زبان همه خاصان ببريد | *** | كز كجا سرّ غمش در دهن عام افتاد |
آن شد اي خواجه كه در صومعه بازم بينى | *** | كار ما با لب ساقيّ و لب جام افتاد |
من ز مسجد به خرابات نه خود افتادم | *** | اينم از عهد ازل حاصل فرجام افتاد |
چه كند كز پى دوران نرود چون پرگار | *** | هر كه در دايرة گردش ايّام افتاد |
هر دمش با من دلسوخته لطفى دگرست | *** | اين گدا بين كه چه شايسته إنعام افتاد۱ |
زير شمشير غمش رقص كنان بايد رفت | *** | كآنكه شد كشتى او نيك سرانجام افتاد |
در خم زلف تو آويخت دل از چاه زنخ | *** | آه كز چاه برون آمد و در دام افتاد |
صوفيان جمله حريفند و نظر باز ولى | *** | زين ميان حافظ دلسوخته بدنام افتاد۱ |
التنزيه فاقد للدليل العقليّ و الشهوديّ و الشرعيّ
إذا قلنا بأنّ اسم الله سبحانه و تعالى و صفته هما أساساً خارج هذا العالم، و إنّه قد أوجد عالماً بينه و بين اسم الله و صفته و فعله حجاب؛ ففي هذه الحالة لا يكون هناك أيّ رابط يربط هذا العالم مع الله، و كذلك الله لن يربطه بهذا العالم أيّ رابط؛ و عندها لن يكون هذا العالم مخلوق الله و معلوله.
و هكذا إذا قلنا بأن ليس لذاته المقدّسة أيّ اسم أو صفته، لا إجمالًا و لا تفصيلًا، لا مصداقاً و لا مفهوماً، و أن جميع أسمائه و صفاته خارجة عنه و منفصلة؛ فكيف يمكن لهذا الإله المجرّد و المُفرغ من المحتوى العديم
الحياة و العلم و القدرة أن يكون مبدأ عالم الخَلق و مبدعه؟!
و بناءً على هذا، تكون كلّ أنواع التنزيه الصِّرف للحقّ تعالى بلا برهان عقليّ و شهود وجدانيّ و دليل شرعيّ.
يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار بالنسبة للاسم أحد للحقّ تعالى، وحدانيّته و تجرّده من جميع النسب و الإضافات، و لكنّ الأمر يكون على العكس في اسم واحد، يجب النظر إلى ذاته المقدّسة باعتبارها حاوية على جميع الأسماء و الصفات الكلّيّة منها و الجزئيّة. فوحدانيّته المتمثّلة في الاسم (أحد)، هو تجرّده من جميع شوائب التكثّر حتى في المفاهيم التي تنطبق عليه؛ و أمّا وحدانيّته المتمثّلة في الاسم (واحد)، فهي استجماع لجميع الشؤون و الآثار و الخصائص التي تحتوي عليها و اندراجها جميعها بما في ذلك عالما المُلك و الملكوت مجتمعين تحت اسم الواحد.
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.
إن الأحديّة للحقّ تعالى تعني بساطته الصِّرفة و محوضته المحضة و تجرّده الخالص من أيّ مفهوم أو أيّ شيء تريد نسبته إليه؛ فهو طاهر و منزّه من كلّ هذه الأشياء.
أمّا واحديّة الحقّ تعالى فتعني اعتبار ذاته باعتبار أسمائه و صفاته و كذلك اعتبار نشأة الكثرة و عوالمها النابعة من أسمائه و صفاته الكلّيّة و اللابسة بها لباس الوجود. فكلّ جزء من هيكل عالم الوجود بما في ذلك العالم الظاهر و الباطن و عالم المادّة و التجرّد و نشأة الطبيعة و المثال و العقل، اي جميع أجزاء الدنيا و عالم البرزخ و القيامة كلّها تندرج تحت اسم الواحد للحقّ تعالى.
و على هذا فباعتبار واحديّة الحقّ تعالى، اي كونه لطيفاً و خبيراً و بصيراً و سميعاً و هكذا إلى آخر أسمائه و صفاته، فإنّه قد ملأ جميع ذرّات
عالم الوجود.
فبصره بصر جميع الموجودات، و سمعه سمعها، و علمه و حياته، و هكذا حتى نصل إلى آخر ذرّة تُرى فإنّ الله يكون معها و بمعيّتها. هذا هو معنى واحديّته تبارك و تقدّس.
سيّد الموحّدين مَن يشبّه الله تعالى في عين تنزيهه
فَإنْ قُلْتَ بِالتَّشْبِيهِ كُنْتَ مُحَدِّدَا | *** | وَ أن قُلْتَ بِالتَّنْزِيهِ كُنْتَ مُقَيِّدَا |
وَ أن قُلْتَ بِالأمْرَيْنِ كُنْتَ مُسَدِّدَا | *** | وَ كُنْتَ إمَاماً في المَعَارِفِ سَيِّدَا۱ |
و قد وردت أدلّة كثيرة في الآيات القرآنيّة و الأخبار الواردة عن مصادر الوحي تدلّ كلّها على بطلان التنزيه الصِّرف بمعنى تنزيهه عن أسمائه و صفاته كذلك، و هي آيات و أخبار لا تعدّ و لا تحصى. و نفس الأمر يُقال في مسألة التشبيه الصِّرف بالموجودات و المخلوقات.
النَّفْسُ في الحُدُوثِ جِسْمَانِيَّهْ | *** | وَ في البَقَا تَكُونُ رُوحَانِيَّهْ |
لَمْ تُجَافِ الجِسْمَ إذْ تَرَوَّحَتْ | *** | وَ لَمْ تَجَافِ الرُّوحَ إذْ تَجَسَّدَتْ |
فَكُلُّ حَدٍّ مَعَ حَدٍّ هُوَ هُو | *** | وَ إنْ بِوَجْهٍ صَحَّ عَنْهُ سَلْبُه |
فَإنْ قُلْتَ بِالتَّشْبِيهِ كُنْتَ مُحَدِّدَا | *** | وَ إنْ قُلْتَ بِالتَّنْزِيهِ كُنْتَ مُقَيِّدَا |
وَ إنْ قُلْتَ بِالأمْرَيْنِ كُنْتَ مُسَدِّدَا | *** | وَ كُنْتَ إمَاماً في المَعَارِفِ سَيِّدَا |
و بناءً على هذا فإنّ هاتين المدرستين المعروفتين باطلتان.۱
بطلان منهج الحلول و الاتّحاد
و هناك مدرسة أخرى تقول بالحلول يقول أصحابها أن ذات الله حالّة في كلّ الموجودات، سواء حلّ الله في موجود آخر بعد موت الموجود الأوّل، أم أنّه يحلّ ابتداءً في موجودٍ ما. و هذه العقيدة باطلة كذلك، لأنّ ذاته المقدّسة ليست محدودة حتى يستوعبه ظرف ذلك الوجود، و لأنّ الموجودات جميعاً هي مظاهر للّه؛ و هي ليست غيره حتى يصدق عليها عنوان الظرف و المظروف، أو الحالّ و المُحلّ. و قد استنكر جميع الفلاسفة و كبار العلماء هذا الكلام و اعتبروا بطلان هذه الدعوة من المسلّمات.
و لكنّ النصارى كذلك تقول بهذا القول و تعتقد أن الله حالٌّ في الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و الروح القدس.
و هم يقولون بأنّ الأب هو الذات و الابن هو العلم و الروح القدس (جبرائيل) هو الحياة، و يقولون كذلك: أن لنا ثلاثة آلهة و أن الله حالٌّ في كلّ واحد من هذه الآلهة.
و الحقّ أن فلاسفة النصارى في العالم وقفوا أمام هذه المشكلة خجلى و مطأطئي الرءوس، معترفين بأنّ هذا الشيء محال من وجهة النظر العقليّة، إلّا أنّه يجب التسليم بها لأنّها وردت في الأناجيل.
و هناك مدرسة أخرى تسمّى بمدرسة الاتّحاد. و يقول أصحاب هذه المدرسة: أن الله يتّحد مع الموجودات، بالرغم من حالة الثنائية الموجودة.
فجبرائيل يصير واحداً مع الله، و الأنبياء في بعض الأحايين يصيرون واحداً مع الله و هذا مغلوط أيضاً. لأنّ تصوير الاتّحاد يستلزم تصوير إثبات الثنائيّة و الاثنينيّة في أن يكون ذلكما الشيئان واحداً مع بعضهما. و ليس لدينا في عالم الوجود شيئان، فكلّ موجود هو ذات الله و أسماؤه و صفاته التي هي واحدة، و جميع المخلوقات، من تطوّرات و شئونات و ظهورات و مجالى، هي أسماؤه و صفاته المقدّسة. و لا يمكن تصوّر اتّحاد الثنائيّة. و على هذا، فمذهب الاتّحاد هو باطل أيضاً كسابقه.
جهات خطأ منهج الاعتزال
و إذا تجاوزنا ذلك سنصل إلى مذهب الأشاعرة و المعتزلة.
المعتزلة هم اصحاب واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصريّ. و لهؤلاء عقائد خاصّة في كثير من المسائل. فالمعتزلة تقول: أن طريق لقاء الله مسدود تماماً بوجه غير الله. اي أنّه ليس بإمكان أيّ موجود أن يلقي الله بأيّ شكل من الأشكال، سواء أ كان في الدنيا أم في الآخرة، و سواء أ كان بعين البصر أم البصيرة أم كان ذلك ظاهراً أم باطناً.
و يقولون كذلك بتأويل جميع الآيات و الروايات التي تشير إلى لقاء الله، و ذلك بسلسلة من المعارف تكون مناسبة مع الله. مثل لقاء أسماء الله و نِعَمِه و صفاته و رضوانه و ما شابه ذلك.
و من جملة عقائد المعتزلة قولهم: أن الله خالق الخير و أن الإنسان خالق الشرور و السيّئات، بمعنى أن الشرّ مصدره الإنسان و الخير مصدره الله. و أن في العالم مبدءيْنِ خالقينِ: أحدهما الله و هو خالق الخيرات، و الآخر هو الإنسان خالق الشرور.
و من عقائد المعتزلة الأخرى: أن الله سبحانه و تعالى لمّا خلق الإنسان جعله مستقلًّا و حرّاً في أفعاله بكلّ معنى الكلمة. مثله كمثل الساعة التي تُملأ من قِبل الإنسان ثمّ تقوم بالعمل كذلك لوحدها فتُدير عجلاتها
المسنّنة و عقاربها و تدفع جَرسها على الدقّ في وقت مُعيّن. و كذا الحال مع الإنسان الذي خُلِقَ مِن قِبَل الله، فهو يُؤدّي أفعاله باختياره و حرّيّته التامّة. أن الإنسان هو الفاعل لأفعاله لا غير. ليس لله سبحانه أيّ دَخلٍ في أفعال الإنسان بأيّ شكل من الأشكال.
و هذه مدرسة و مذهب الآخرين، إذ ليس أحد من الشيعة معتزليّ؛ و ما يتوهّم به البعض بإدراج الشيعة في قائمة المُعتزلة أو اعتبار المُعتزلة شعبة منهم، هو خطاٌ محض.
فالمُعتزلة هم من أهل السنّة، مَثَلهم كمَثل الأشعريّة، و كلاهما يقفان في الصفّ المخالف للشيعة.
و بالجملة، فإنّ مذهب الاعتزال غير صحيح كذلك.
أوّلًا: أن لقاء الله سبحانه مفتوح على مصراعَيْه للجميع، و هناك آياتٌ و روايات لا تُعَدّ و لا تُحصى تدلّ كلّها على أن طريق لقاء الله ممكن لكلّ البشر. فالإنسان قادر على لقاء الله و زيارته و التشرّف بمقابلته؛ كلّ ما في الأمر أنّه لا يمكنه رؤيته بحاسّة بصره، لأنّه تعالى ليس بجسم. و على هذا فأفراد البشر قادرون على رؤية الله سبحانه و التشرّف بلقائه بعين الفؤاد و الحقيقة و البصيرة و الإيمان الباطن؛ و هم القادرون على ذلك كما ذكرنا نتيجة تزكية النفس الأمّارة بالسوء؛ و بعد اجتيازهم للمراحل الأربع المذكورة و المدوّنة في كتب الأخلاق المعروفة و هي: التجلية؛ التخلية؛ التحلية؛ الفَناء، و لن يقتصر الأمر على لقائهم الله تعالى و حسب، بل سيستقرّون في رحاب حرمه الآمن و المأمون، و لن يُحرَموا طَرفة عين من شرف الحضور و اللقاء و الزيارة و الفَناء و الاندكاك في ذاته المقدّسة أبداً.
و ليس هناك سند أمتن و مستند أوثق على ما ندّعي من الروايات المتواترة بهذا الخصوص، و أدعية سيّد الموحّدين أمير المؤمنين، و مناجاة
الإمام زين العابدين، و الأخبار الواردة عن صادق آل البيت، و الإمام أبي الحسن الرضا عليهم آلاف التحية و السلام و غاية الصلوات و الإكرام.
ثانياً، أن ما ذكروه من أن الله سبحانه خالق الخير و الإنسان هو خالق الشرّ مغلوط هو الآخر، لقبح تصوير مَبدأيْن في عالَم الخَلق، و لا اختلاف في هذا القُبح سواء أعتقد الإنسان بمبدأيْن هما «أهورا مزدا» و «أهريمن» و بالتالى الاعتقاد بمَبدأيْن في عالَم الوجود، أم بالقول أن الله هو خالِق الخيرات و الحسنات و أن الإنسان هو خالق الشرور و السيّئات؛ فكِلا القولين يُشيران إلى وجود مَبدأيْن. أن الطريق الأمثل و الأوحد لحلّ مسألة و معضلة الشرور هو ما فصّلناه في بحثنا لهذا الموضوع إلى الآن، و ما أجبنا فيه من بين الطرق الثلاثة التي كان أحدها مسألة عدميّة الشرور.
ثالثاً، قولهم أن الله خلق الإنسان و أن الإنسان هو الموجِد لأفعاله، خَطاٌ كذلك. ما كان الإنسان و لن يكون خالِق أفعاله مطلقاً، قد يكون له دَخل في تعيين عنوان الفعل أو وضع حدود معيّنة له، إلّا أن أصل الإيجاد في الفعل بِيَدِ الله سبحانه. و لو كان الإنسان فاعلًا مستقلًّا (لِفعله) و قادراً على أداء ذلك الفعل فهذا سيعني التفويض و هو أن الله خلق الإنسان ثمّ فَوّضَ أو وكّلَ أمرَ فِعله إليه. و على هذا لن تكون لحياة الله و علمه و قدرته و حكمته و بصيرته و بالتالى ذاته سبحانه أيّ دخل في أفعال الإنسان التي يقوم بأدائها. فما ذا يعني ذلك؟
إن هذا الكلام يشير إلى انعزاليّة الله و عزلته و حبسه حاشا له في زاويّة من زوايا الكون.
لا شكّ أن هذا الكلام مخالف لمذهب التوحيد الذي يقول: إنَّ أيّة ذرّة من ذرّات عالَم الوجود، في أيّة لحظة من اللحظات تكون، و في أيّ مكان من الأمكنة تعيش، ليست منفصلة و بعيدة عن الله؛ لا في أصل خِلقتها
و لا في بقاء و استدامة وجودها؛ لا في الذات و لا في الاسم و الصفة و لا في الفعل. أن أيّ فعل يصدر عن أيّ من الموجودات يكون تحت سيطرة الحقّ تعالى و تقدّس، و هيمنته و معيّته الوجوديّة و الاسميّة في نفس تلك اللحظة التي يصدر فيها ذلك الفعل. أن عِلم ذلك الموجود و قدرته و حياته، كلّ ذلك مُندَكٌّ في عِلم الله و قدرته و حياته. و لن يكون بإمكاننا إيجاد أيّ مكان لأيّة ذرّة، لا في جميع عوالم الوجود و لا في المُلك و الملكوت و لا في السماء أو الأرض و لا في السماوات السبع و الأرضين السبع مستثنى من هذه القاعدة الكلّيّة أو خارجاً عنها.
إن هذا الكلام مخالف، كما قلنا، لمذهب التوحيد و تلك الراية التي رفرفتْ بِيَدِ سيّدنا إبراهيم عليه الصلاة و السلام و اهتزّت بيمينه، و هو ما استند عليه دين سائر الأنبياء خصوصاً الرسول الأعظم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و رسالتهم و عقيدتهم و بُنيَ عليه أساسها، حيث أكّدوا أن لا موجود غير الذات المقدّسة للواحِد الأحد و القاهر الصمد مُؤثّر في عالَم الوجود و الخِلقة بأيّ شكل من الأشكال.
و بناءً على هذا فإنّ مذهب المعتزلة باطل كذلك.
إن مَثَل هذه الفرقة كمثل الأعمى الذي يُغلق عَينَيْه و يقول مع نفسه: إنّنا ندور حول الأرض؛ و قد وهبنا الله القدرة و الفعل الاختياريَّيْنِ؛ فعلينا أن نعمل و لا شأن لنا مع الله. لنا أمرنا و للّه أمره! لاحظوا ذلك و تأمّلوا جيّداً!
و لا تعتقدوا أن هذه المذاهب التي نبحث عقائدها و نُطالع تعاليمها هي مذاهب مُنقَرِضة و بائدة، أو هي مذاهب انفرطَ عِقدها، كما يقال، و صار أمرها فُرُطاً؛ إنّها مذاهب لا تزال تعمل بنشاط و لها مَن يؤمن بها و يسير على طبق منهجها.
إن جُلّ المساعي التي يبذلها حكماء الإسلام و فلاسفته الكبار تنصبّ في مجال استئصال هذه العقائد و قطع شريانها الحيويّ، و هي مساع حميدة يُشكَرون عليها. إلّا أنّنا نرى أن السواد الأعظم من الناس و خصوصاً الحشويّة من العلماء و من الذين لا يفقهون معقولات الامور و القائلين: أن الرجوع إلى العقل في جميع الامور مغلوط، و أن على الناس التمسّك بظواهر الأخبار و آثار التعبُّد؛ ساقطون في هذه الحفرة المُهلِكة و غارقون في و حلها حتى قمّة رأسهم. و هم يقودون الناس نحو هذه العقيدة بصورة عمليّة قائلين: أن هذه هي عقيدة العوامّ و لسنا مُكَلّفون بما هو فوق ذلك.
وقع عدد من علمائنا من أهل الحديث- لا الحكمة- في شِراك
و قال بعض علماء الحديث و الرواية، لا أهلُ الحِكمة و الدراية: إنّنا نمتلك القدرة و نحوز العِلم، و تصدر عنّا أعمال تقع جميعها على عاتقنا و مسؤوليّتنا، دون دخل للحقّ تعالى و تقدّس في ذلك؛ و نحن إذ نقوم بهذه الأعمال لا سبيل لنا للقاء الله؛ أن هذا الاعتقاد هو ما يؤمن به المعتزلة، و إن ادّعى هؤلاء بأنّهم شيعة اثنا عشريّة، فهم يوالون عقائد المعتزلة و يؤمنون بها طبعاً و عملًا، و قد اشرِبوا في قلوبهم تلك العقيدة.
لذلك يتوجّب علينا مهاجرة هذه العقيدة عمليّاً و أن لا نكتفي في فعل ذلك شفهيّاً! أن الواجب يُحتّم علينا الانضمام تحت لواء التوحيد بالعمل لا باللفظ و اللسان و حسب، و السير على هَدى خُطَب مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين، و أقوال الإمام الصادق و كلمات الإمام الرضا عليهما السلام و البحوث التوحيديّة التي كانت له في مجلس المأمون و كانت بحقّ مَوضع فخر و اعتزاز!
علينا أن نتّخذ المنهج الذي انتهجه فخر الفلاسفة المتقدّمين و المتأخّرين الملّا صدرا الشيرازيّ قدوةً في الحوزة العِلميّة و صفوف التدريس حتى يتسنّى لنا تقوية الآصرة الموجودة بين الشرع من جهة
و العقل و الشهود من جهة أخرى، و بالتالى الخَطو نحو مرتبة الكمال بمصاحبة القوى العالية الثلاث و هي العِلم و الوجدان و التعبُّد؛ و إلّا فإنّ رَكبنا- يا عزيزي- سيظلّ متأخِّراً عن الركبان الأخرى إلى يوم الحشر؛ و إنّي لأخشى ممّا هو أكبر من ذلك و أعظم مصيبة؛ و هو أن يبقى رَكبنا هذا متأخّراً حتى بعد الحشر!
علينا أن نخطو في طريق الأدعية و السلوك و المنهاج و الخُطَب و الكلمات التي خطى فيها السابقون في الدين و الأئمّة المعصومون، و نلاحظ كيفيّة معاملتهم مع المذاهب الباطلة المختلفة و قدرتهم على محوها و إزالتها فعملوا جاهدين مخلصين على إخراج الامّة من جميع مراتب الشرك، و سلّموا أنفسهم بِيَدِ الله تعالى و توكّلوا عليه، و لم يكلوا أنفسهم أو يستمدّوا قوّتهم من غير الله سبحانه؛ فلنكن نحن كما كان اولئك!
الاشاعرة قائلون بالجبر في المبدأ و الخلقة و الإنسان
يقول الأشاعرة: أن الله سبحانه و تعالى قد خلقَ العالم حرّاً يفعل ما يشاء. فالله أوّلًا في ذاته مقهور في عمله، فهو غير مُخيّر (لا اختيار له). و ما الاختيار الذي وهبه هو إلى الإنسان إلّا صورة لا واقعيّة لها. فجميع أفراد البشر مجبورون و مضطرّون في أداء أفعالهم و أعمالهم. و على هذا فالجبر عنصر أساس في أعمال البشر، و الله كذلك مجبور في عمله؛ سَواء ما يتعلّق بهذا الخَلق أم عمله في ما يتعلّق بعالَم الخِلقة.
و يقول الأشاعرة أن جميع الأعمال التي يؤدّيها الإنسان على أنّها نابعة من اختياره، من صلاة و صوم و حجّ و عُمرة و جهاد و كسب في جانب الطاعات، و كذلك من زِناً و مُعاقرة الخمر و القمار و السرقة و الاعتداء على النواميس و القوانين و القتل و الإغارة و سائر الجنايات و أعمال الخيانة التي تسمّى بالمعاصي؛ كلّ تلك الأعمال تستند إلى الله و لم يكن الإنسان يوماً حُرّاً أو مختاراً في فعل أيّ من تلك الأعمال. أن الفعل حقّ و أن البشر مجبر
على أدائه و الإتيان به و إن بدا له أثناء ارتكابه ذلك الفعل أنّه حُرّ و مُخيَّر إلّا أن هذا الاختيار أو تلك الحرّيّة ليست إلّا ظنّ و خيال. ذلك أن كلّ شيء هو تحت قوّته القاهرة و سيطرته و هيمنته و يجب أن تتحوّل إلى حركة سواء أ رَضِيَ أم لَم يَرضَ.
و من ناحية أخرى فإنّ الله نفسه غير مُخيّر في بعض الأفعال التي قد تصدر عنه. و هذه الأفعال هي عبارة عن ترشُّحات ذاته و هو أمرٌ مُلازِم لوجوده.
و لهذا يجب القول: أن الله مجبور و مضطرٌ في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما و عالَم المُلك و الملكوت- سواء أ كان ذلك في بِدء الخليقة أم في بقائها و استدامتها-؛ و كذلك جميع الخلائق من ملائكة و جنّ و إنس و حيوانات و سائر الموجودات التي لم نتمكّن من تصوّرها لحدّ الآن؛ كلّ اولئك مجبورون مضطرّون في أعمالهم و تصرّفاتهم، مَثلهم في ذلك كمثل عقرب الساعة الذي يتحرّك و يدور دون اختيار منه في ذلك، أو كمثل حجر الطاحونة التي تعمل الرياح أو الماء على تحريكها و دورانها، أو كسائر الآلات التي تعمل تلقائيّاً في المعامل و المصانع و تُؤدّي الغرض المرسوم لها و المبرمجة على أدائه.
هذه هي إحدى أهمّ النواحي التي يعتقد بها الأشاعرة و هو ما يميّزهم عن الإماميّة.
و أمّا الناحية الأخرى في عقيدتهم فهي مسألة العدل. فهم يعتقدون أن الله و العياذ بالله ليس عادلًا! و لا يمكن للعدل أن يكون صفة من صفاته. فهم يقولون: أن عدالته تتناقض مع صفته الأخرى التي تتمثّل في كونه فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ وَ حَاكِمٌ لِمَا يُرِيدُ، و مع الآية الكريمة: لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ.۱
و يقول الأشاعرة كذلك: أن الله ذاتٌ، و أن جميع الموجودات مرتبطة بذاته، و هو كذلك قائم بذاته. و لا أحد يقف في وجه ما يريد فعله أو القيام به أو منعه من ذلك؛ و من هنا لا يصحّ إضفاء صفة العدل عليه. أن كلّ ما يفعله هو صحيح و إن بدا لنا ظُلماً.
و يجوز ارتكاب القبائح و الشرور من قِبَل الله، لأنّ ذلك صادر عنه و لا إشكال و لا بأس في ذلك.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن آية الله العلّامة الحسن بن يوسف المطهّر الحلّيّ قدّس الله نفسه قد عالج بحوثاً وافية و كافية في مقالات و اعتقادات الأشاعرة في كتابه الموسوم ب- «نهج الحقّ و كشف الصدق»٢ لإبطال عقائد سخيفة كهذه بهمّة عالية. و قد قُمنا بنقل بعض النصوص من الكتاب المذكور في سلسلة دروس «معرفة الإمام»٣، و ندعو القرّاء الكرام إلى مراجعة كتاب «معرفة الإمام» و على الأخصّ الكتاب القيّم لسماحة العلّامة و مطالعة ذلك.
و أخيراً نقدّم المثال البديهيّ التالى بصورة موجزة لإنهاء هذه المسألة:
إن هناك فرقاً بين إنكار الاختيار و وجوده، و عدم فعل القبيح و الشرّ على أساس المصلحة و قاعدة أصل الحِكمة.
و الآن تَصوّروا أنّنا جميعاً جالسون في مجلس بهيّ رائع تسيطر علينا سِمة الأدب و الدماثة فهل تعتقدون أن أيّاً منّا قادر في تلك الحال على القيام و خلع ملابسه جميعاً حتى الملابس الداخليّة، ثمّ و الدوران حول الحضور و هو يُطلق بعض الصفّارات، ثمّ يختمها بالخروج مسرعاً من بين ذلك الجمع إلى الخارج؟! هل يستطيع أيّ واحد منّا القيام بهذا العمل أم لا؟!
طبيعيّ أن ذلك ممكن الحصول! إلّا أنّنا لا نجد أحداً يفعل ذلك أو كان قد فعله من قَبْل أو حتى التفكير للقيام به. و ليس ذلك من باب أنّه لا يملك الحرّيّة أو الاختيار لفعله أو القدرة على ذلك، أو أن عمله مقتصر على الجلوس جانباً في ذلك المجلس و عدم أدائه لذلك الفعل؛ فهو ليس مجبراً على الجلوس و تفادي القيام و اللفّ و الدوران حول الجالسين و الركض و ما إلى ذلك، إلّا أنّنا نرى ذلك محالًا عليه فعله، لأنّه عاقل و حكيم، و أفعاله لا تمت إلى العَبَث أو اللغو أو الباطل. فلو قتلوه و قطّعوه إرباً إرباً ما كان ليقوم بعملٍ كهذا و ما كان لهذا العمل أن يصدر عنه.
لا يعني عدم فعل الله تعالى لكثير من الامور أنّه مسلوب الإرادة
فهناك بَونٌ شاسع بين عدم الاختيار و فقدان القدرة على الإتيان بعمل ما، و بين عدم الإتيان بذلك العمل على أساس المصلحة و التعقّل. و نرى أن الحكيم العاقل لا يؤدي كثيراً من الأفعال و لا يقوم بها في حين أنّه قادر على فعلها و له الحرّيّة الكاملة في أدائها، و ذلك لأنّ قوّة العقل أو حسّ العاطفة و الوجدان يحولان دون قيامه بها، لذا لا نراه يفعلها.
إن الله لا يقوم بكثير من الأفعال، كالظُّلم و الجور و